recent
آخر المقالات

١٠١- سُورَةُ الْقَارِعَةِ

 

اتَّفَقَتِ الْمَصَاحِفُ وَكُتُبُ التَّفْسِيرِ وَكُتُبُ السُّنَّةِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ الْقَارِعَةِ» وَلَمْ يُرْوَ شَيْءٌ فِي تَسْمِيَتِهَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ.

وَاتُّفِقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.

وَعُدَّتِ الثَّلَاثِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُرَيْشٍ وَقَبْلَ سُورَةِ الْقِيَامَةِ.

وَآيُهَا عَشْرٌ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَثَمَانٍ فِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ فِي عَدِّ أهل الْكُوفَة.


أغراضها

ذُكِرَ فِيهَا إِثْبَاتُ وُقُوعِ الْبَعْثِ وَمَا يَسْبِقُ ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَالِ.

وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي نَعِيمٍ، وَأَهْلَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي لَا وَزْنَ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ فِي قَعْر الْجَحِيم.

[١- ٣]


[سُورَة القارعة (١٠١): الْآيَات ١ إِلَى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣)

الِافْتِتَاحُ بِلَفْظِ الْقارِعَةُ افْتِتَاحٌ مَهَوِّلٌ، وَفِيهِ تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيُخْبَرُ بِهِ.

وَهُوَ مَرْفُوعٌ إِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ ومَا الْقارِعَةُ خَبره وَيكون هُنَاكَ مُنْتَهَى الْآيَةِ.

فَالْمَعْنَى: الْقَارِعَةُ شَيْءٌ عَظِيمٌ هِيَ. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى تَنْتَهِي بِقَوْلِهِ:

مَا الْقارِعَةُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقارِعَةُ الْأَوَّلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَعُدَّ آيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَيُقَدَّرَ خَبَرٌ

عَنْهُ مَحْذُوفٌ نَحْوَ: الْقَارِعَةُ قَرِيبَةٌ، أَوْ يُقَدَّرَ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ نَحْوَ أَتَتِ الْقَارِعَةُ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ:

مَا الْقارِعَةُ اسْتِئْنَافًا لِلتَّهْوِيلِ، وَجُعِلَ آيَةً ثَانِيَةً عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَعَلَيْهِ فَالسُّورَةُ مُسَمَّطَةٌ مِنْ ثَلَاثِ فَوَاصِلَ فِي أَوَّلِهَا وَثَلَاثٍ فِي آخِرِهَا وَفَاصِلَتَيْنِ وَسَطَهَا.

وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْقارِعَةُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَال: القارعة مَاهِيَّة، لِمَا فِي لَفْظِ الْقَارِعَةِ مِنَ التَّهْوِيلِ وَالتَّرْوِيعِ، وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ أَغْنَتْ عَنِ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَجُمْلَةِ الْخَبَرِ.

وَالْقَارِعَةُ: وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ وَهُوَ ضرب جسم بِآخَرَ بِشِدَّةٍ لَهَا صَوْتٌ. وَأُطْلِقَ الْقَرْعُ مَجَازًا عَلَى الصَّوْتِ الَّذِي يَتَأَثَّرُ بِهِ السَّامِعُ تَأَثُّرَ خَوْفٍ أَوِ اتِّعَاظٍ، يُقَالُ: قَرَعَ فُلَانًا، أَيْ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ بِصَوْتِ غَضَبٍ. وَفِي الْمَقَامَةِ الْأَوْلَى: «وَيَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ» .

وَأُطْلِقَتِ الْقارِعَةُ عَلَى الْحَدَثِ الْعَظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَصْوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرَّعْد: ٣١] وَقِيلَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَرَعَتِ الْقَوْمَ قَارِعَةٌ، إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَظِيعٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ.

وَتَأْنِيثُ الْقارِعَةُ لِتَأْوِيلِهَا بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ.

ومَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ هَوْلَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ تَسَاؤُلَ النَّاسِ عَنْهُ.

فَ الْقارِعَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ هِيَ الْحَشْرُ فَجَعَلُوا الْقَارِعَةَ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْحَشْرِ مِثْلَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهَا صَيْحَةُ النَّفْخَةِ فِي الصُّوَرِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْقَارِعَةُ النَّارُ ذَاتُ الزَّفِيرِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهَا اسْمُ جَهَنَّمَ.

وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١- ٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَمَعْنَى وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ زِيَادَةُ تَهْوِيلِ أَمْرِ الْقَارِعَةِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ صَادِقَةٌ عَلَى شَخْصٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شَخْصٍ أَدْرَاكَ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَعْظِيمِ حَقِيقَتِهَا وَهَوْلِهَا لِأَنَّ هَوْلَ الْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ عَنْ تَعَرُّفِهِ. وَأَدْرَاكَ: بِمَعْنَى أَعْلَمَكَ.

ومَا الْقارِعَةُ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَا أَدْرَاكَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَسَدَّ الِاسْتِفْهَامُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَدْراكَ

وَجُمْلَةُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا الْقارِعَةُ وَالْخِطَابُ فِي أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ وَمَا أَدْرَاكَ أَيُّهَا السَّامِعُ.

وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١- ٣] وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فِي سُورَة الانفطار [١٧] .

[٤، ٥]


[سُورَة القارعة (١٠١): الْآيَات ٤ إِلَى ٥]

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)

يَوْمَ مَفْعُولٌ فِيهِ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْقَارِعَةِ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ:

تَقْرَعُ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كُلُّهُ فَيُقَدَّرُ: تَكُونُ، أَوْ تَحْصُلُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ.

وَجُمْلَةُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا الْمَحْذُوفِ بَيَان للإبهامين اللَّذين فِي قَوْلِهِ:

مَا الْقارِعَةُ [القارعة: ٢] وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: ٣] .

وَلَيْسَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ خَبَرًا عَنِ الْقارِعَةُ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِتَعْيِينِ يَوْمِ وُقُوعِ الْقَارِعَةِ.

وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفِيدَتَيْنِ أَحْوَالًا هَائِلَةً، إِلَّا أَنَّ شَأْنَ التَّوْقِيتِ أَنْ يَكُونَ بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْحَالُ الْمُوَقَّتُ بِزَمَانِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ مَدَاهُ. كَانَ التَّوْقِيتُ لَهُ إِطْمَاعًا فِي تَعْيِينِ وَقْتِ

حُصُولِهِ إِذْ كَانُوا يَسْأَلُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ، ثُمَّ تَوْقِيتُهُ بِمَا هُوَ مَجْهُولٌ لَهُمْ إِبْهَامًا آخَرَ لِلتَّهْوِيلِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُفَاجَأَتِهِ، وَأُبْرِزَ فِي صُورَةِ التَّوْقِيتِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ تَقْدِيرِهِ، فَإِذَا بَاءَ الْبَاحِثُ بِالْعَجْزِ عَنْ أَخْذٍ بِحِيطَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِحُلُولِهِ بِمَا يُنْجِيهِ مِنْ مَصَائِبِهِ الَّتِي قُرِعَتْ بِهِ الْأَسْمَاعُ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ.

فَحَصَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْوِيلٌ شَدِيدٌ بِثَمَانِيَةِ طُرُقٍ: وَهِيَ الِابْتِدَاءُ بِاسْمِ الْقَارِعَةِ، الْمُؤْذِنِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّهْوِيلِ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، والاستفهام عَمَّا ينبىء بِكُنْهِ الْقَارِعَةِ، وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ ثَانِيَ مَرَّةٍ، وَالتَّوْقِيتُ بِزَمَانٍ مَجْهُولٍ حُصُولِهِ وَتَعْرِيفُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَحْوَالٍ مَهُولَةٍ.

وَالْفَرَاشُ: فَرْخُ الْجَرَادِ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْضِهِ مِنَ الْأَرْضِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [الْقَمَر: ٧] . وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَرَاشُ عَلَى مَا يَطِيرُ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَيَتَسَاقَطُ عَلَى النَّارِ لَيْلًا وَهُوَ إِطْلَاقٌ آخَرُ لَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ لَفْظِ

الْآيَةِ هُنَا بِهِ.

والْمَبْثُوثِ: الْمُتَفَرِّقُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.

وَجُمْلَةُ: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَجُمْلَةِ: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [القارعة: ٦] إِلَخْ. وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ.

وَوَجْهُ الشَّبَهِ كَثْرَةُ الِاكْتِظَاظِ عَلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ.

وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالْمَصْبُوغِ الْأَحْمَرِ، أَوْ ذِي الْأَلْوَانِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:

كَأَنَّ فُتَاتَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ

لِأَنَّ الْجِبَالَ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ بِحِجَارَتِهَا وَنَبْتِهَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [فاطر: ٢٧] .

وَالْمَنْفُوشُ: الْمُفَرَّقُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ عَنْ بَعْضٍ لِيُغْزَلَ أَوْ تُحْشَى بِهِ الْحَشَايَا، وَوَجْهُ

الشَّبَهِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ الْجِبَالَ تَنْدَكُّ بِالزَّلَازِلِ وَنَحْوِهَا فَتَتَفَرَّقُ أَجْزَاءً.

وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ تَكُونُ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْكَوْنَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا كَوْنُ إِيجَادٍ، وَالثَّانِيَ كَوْنُ اضْمِحْلَالٍ، وَكِلَاهُمَا عَلَامَةٌ عَلَى زَوَالِ عَالَمٍ وَظُهُورِ عَالَمٍ آخَرَ.

وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ فِي سُورَة المعارج [٩] .

[٦- ١١]


[سُورَة القارعة (١٠١): الْآيَات ٦ إِلَى ١١]

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ (١٠)

نارٌ حامِيَةٌ (١١)

تَفْصِيلٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] مِنْ إِجْمَالِ حَالِ النَّاسِ حِينَئِذٍ، فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ اسْمِ النَّاسِ الشَّامِلِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاءِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَفْصِيلُهُ بِحَالَيْنِ: حَالٍ حَسَنٍ وَحَالٍ فَظِيعٍ.

وَثِقَلُ الْمَوَازِينِ كِنَايَةٌ عَنْ كَونه بِمحل الرضى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ، لِأَنَّ ثِقَلَ الْمِيزَانِ يَسْتَلْزِمُ ثِقْلَ الْمَوْزُونِ وَإِنَّمَا تُوزَنُ الْأَشْيَاءُ الْمَرْغُوبُ فِي اقْتِنَائِهَا، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَرَبِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ بِالْوَزْنِ وَنَحْوِهِ، وَبِضِدِّ ذَلِكَ يَقُولُونَ:

فُلَانٌ لَا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ، قَالَ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا [الْكَهْف: ١٠٥]، وَقَالَ النَّابِغَةُ:

وَمِيزَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَجْدِ مَاتِعٌ أَيْ رَاجِحٌ وَهَذَا مُتَبَادِرٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِذِكْرِ مَا يُثَقِّلُ الْمَوَازِينَ لِظُهُورِ أَنَّهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ»: لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي الْمِيزَانِ. وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ فَوَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِآلَةٍ أَوْ بِعَمَلِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْعِيشَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الْعَيْشِ كَالْخِيفَةِ اسْمٌ لِلْخَوْفِ. أَيْ فِي حَيَاةٍ.

وَوَصْفُ الْحَيَاةِ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّاضِيَ صَاحِبَهَا رَاضٍ بِهَا فَوُصِفَتْ بِهِ الْعِيشَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الرِّضَى أَوْ زَمَانُ الرِّضَى.

وَقَوْلُهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ إِخْبَارٌ عَنْهُ بِالشَّقَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ، فَالْأُمُّ هَنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَهَاوِيَةٌ: هَالِكَةٌ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَئِذٍ بِحَالِ الْهَالِكِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْعَرَبَ يُكَنُّونَ عَنْ حَالِ الْمَرْءِ بِحَالِ أُمِّهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهَا ابْنَهَا فَهِيَ أَشَدُّ سُرُورًا بِسُرُورِهِ وَأَشَدُّ حُزْنًا بِمَا يُحْزِنُهُ. صَلَّى أَعْرَابِيٌّ وَرَاءَ إِمَامٍ فَقَرَأَ الْإِمَامُ:

وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: ١٢٥] فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: «لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ» وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ زَيَّابَةَ حِينَ تَهَدَّدَهُ الْحَارِثُ بْنُ هَمَّامٍ الشَّيْبَانِيُّ:

يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّا ... بَحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ

وَيَقُولُونَ فِي الشَّرِّ: هَوَتْ أُمُّهُ، أَيْ أَصَابَهُ مَا تَهْلَكُ بِهِ أُمُّهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، فِي الدُّعَاءِ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ وَأَصْلُهُ الدُّعَاءُ كَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ فِي رِثَاءِ أَخِيهِ أَبِي الْمِغْوَارِ:

هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا ... وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْل حِين يؤوب

أَيْ مَاذَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ مِنْهُ غَادِيًا وَمَا يَرُدُّ اللَّيْل حِين يؤوب غَانِمًا، وَحُذِفَ مِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ رَفْعِ الصُّبْحِ وَاللَّيْلِ وَذكر: غاديا ويؤوب وَ(مِنَ) الْمُقَدَّرَةُ تَجْرِيدِيَّةٌ فَالْكَلَامُ عَلَى التَّجْرِيدِ مِثْلَ: لَقِيتُ مِنْهُ أَسَدًا.

فَاسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ الَّذِي يُقَالُ عِنْدَ حَالِ الْهَلَاكِ وَسُوءِ الْمصير فِي الْحَالة الْمُشَبَّهَةِ بِحَالِ الْهَلَاكِ، وَرَمَزَ إِلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، كَمَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» مُسْتَعَارًا لِمَقَرِّهِ وَمَآلِهِ لِأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهِ كَمَا يَأْوِي الطِّفْلُ إِلَى أُمِّهِ.

وهاوِيَةٌ الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الَّذِي إِذَا سَقَطَ فِيهِ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ هَلَكَ، يُقَالُ: سَقَطَ فِي الْهَاوِيَةِ.

وَأُرِيدَ بِهَا جَهَنَّمُ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِجَهَنَّمَ، أَيْ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أُمُّهُ» عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أم رَأسه، وَهِي أَعلَى الدِّمَاغ، وهاوِيَةٌ سَاقِطَة من قَوْلهم سقط على أُمُّ رَأْسِهِ، أَيْ هَلَكَ.

وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ: تَهْوِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَضَمِيرُ هِيَهْ عَائِدٌ إِلَى هاوِيَةٌ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، إِذْ مُعَادُ الضَّمِيرِ وَصْفُ هَالِكَةٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْمُ جَهَنَّمَ كَمَا فِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُلَقَّبِ مُعَوِّذَ الْحُكَمَاءِ:

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى (هَاوِيَةٌ) وَفُسِّرَتْ بِأَنَّهَا قَعْرُ جَهَنَّمَ.

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ فِي هِيَهْ اسْتِخْدَامٌ أَيْضًا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

وَالْهَاءُ الَّتِي لَحِقَتْ يَاءَ (هِيَ) هَاءُ السَّكْتِ، وَهِي هَاءٌ تُجْلَبُ لِأَجْلِ تَخْفِيفِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُ تَخْفِيفٌ وَاجِبٌ تُجْلَبُ لَهُ هَاءُ السَّكْتِ لُزُومًا، وَبَعْضُهُ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ أَوْ حَرْفٍ بِآخِرِهِ حَرَكَةُ بِنَاءٍ دَائِمَةٌ مِثْلَ: هُوَ، وَهِيَ، وَكَيْفَ، وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [١٩] .

وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوا النُّطْقَ بِهَذِهِ الْهَاءِ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ.

وَجُمْلَةُ: نارٌ حامِيَةٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ، وَالْمَعْنَى: هِيَ نَارٌ حَامِيَةٌ.

وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي اتُّبِعَ فِي حَذْفِهِ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ.

وَوَصْفُ نارٌ بِ حامِيَةٌ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّ النَّارَ لَا تَخْلُو عَنِ الْحَمْيِ فوصفها بِهِ وصف بِمَا هُوَ من مَعْنَى لَفْظِ نارٌ فَكَانَ كَذِكْرِ الْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الْهمزَة: ٦] .

google-playkhamsatmostaqltradent