سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِيَّةِ الْعَتِيقَةِ وَالتُّونِسِيَّةِ وَالْمَشْرِقِيَّةِ «سُورَةَ الْعَادِيَاتِ» بِدُونِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فَهِيَ تَسْمِيَةٌ لِمَا ذُكِرَ فِيهَا دُونَ حِكَايَةِ لَفْظِهِ. وَسَمِّيَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ وَالْعَادِيَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ.
وَعُدَّتِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بن زيد بِنَاء عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَصْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ.
وَآيُهَا إِحْدَى عَشْرَةَ.
ذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنْ مُقَاتِلٍ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ خَيْلًا سَرِيَّةً إِلَى بَنِي كِنَانَةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهَا الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ فَأَسْهَبَتْ أَيْ أَمْعَنَتْ فِي سَهْبٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ شهرا وَتَأَخر خبرهم فَأَرْجَفَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: قُتِلُوا جَمِيعًا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَالْعادِياتِ ضَبْحًا
[العاديات: ١] الْآيَاتِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ خَيْلَهُمْ قَدْ فَعَلَتْ جَمِيعَ مَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَوَى أَبُو بكر الْبَزَّار هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا وَسَاقَ الْحَدِيثَ قَرِيبًا مِمَّا لِلْوَاحِدِيِّ.
وَأَقُولُ غَرَابَةُ الْحَدِيثِ لَا تُنَاكِدُ قَبُولَهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ثِقَاتٍ إِلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ حَفْصَ بْنَ جُمَيْعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَالرَّاجِحُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ.
أَغْرَاضُهَا
ذَمُّ خِصَالٍ تُفْضِي بِأَصْحَابِهَا إِلَى الْخُسْرَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِي خِصَال غَالِيَة عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُرَادُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.
وَوَعْظُ النَّاسِ بِأَنَّ وَرَاءَهُمْ حِسَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَتَذَكَّرَهُ الْمُؤْمِنُ وَيُهَدَّدَ بِهِ الْجَاحِدُ. وَأُكِّدَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِأَنِ افْتُتِحَ بِالْقَسَمِ، وَأُدْمِجَ فِي الْقَسَمِ التَّنْوِيهُ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ أَوْ رواحل الحجيج.
[١- ٨]
[سُورَة العاديات (١٠٠): الْآيَات ١ إِلَى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)
أَقْسَمَ اللَّهُ بِ الْعادِياتِ جَمْعِ الْعَادِيَةِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَدْوِ وَهُوَ السَّيْرُ السَّرِيعُ يُطْلَقُ عَلَى سَيْرِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ خَاصَّةً.
وَقَدْ يُوصَفُ بِهِ سَيْرُ الْإِنْسَانِ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْخَيْلِ وَمِنْه عدّاؤو الْعَرَبِ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ: السُّلَيْكُ بْنُ السُّلَكَةِ، وَالشَّنْفَرَى، وَتَأَبَّطَ شَرًّا، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ.
يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلُ فِي الْعَدْوِ.
وَتَأْنِيثُ هَذَا الْوَصْفِ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ.
وَالضَّبْحُ: اضْطِرَابُ النَّفَسِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْحَنْجَرَةِ دُونَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ وَهُوَ مِنْ أَصْوَاتِ الْخَيْلِ وَالسِّبَاعِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَصِفُ الضَّبْحَ أَحْ أَحْ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ يَضْبَحُ غَيْرَ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي «الْقَامُوسِ» .
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنِ الْعادِياتِ ضَبْحًا فَقُلْتُ لَهُ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ وَيُورُونَ نَارَهُمْ، فَانْفَتَلَ عَنِّي فَذَهَبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ تَحْتَ
سِقَايَةِ زَمْزَمَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي، فَلَمَّا وَقَفْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ. قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ وَاللَّهِ لَكَانَتْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ لَبَدْرٌ وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ فَكَيْفَ تَكُونُ
الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا الْإِبِلُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى (يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْغَزْوِ الَّذِي أَوَّلُهُ غَزْوَةُ بَدْرٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَزَعْتُ عَنْ قَوْلِي وَرَجَعْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ»
. وَلَيْسَ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَا مَدَنِيَّةٌ وَبِمِثْلِ مَا قَالَ عَلِيٌّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ.
وَالضَّبْحُ لَا يُطْلَقُ عَلَى صَوْتِ الْإِبِلِ فِي قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَإِذَا حَمَلَ الْعادِياتِ عَلَى أَنَّهَا الْإِبِلُ، فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَنْ جَعَلَهَا لِلْإِبِلِ جَعَلَ ضَبْحًا بِمَعْنَى ضَبْعًا، يُقَالُ: ضَبَحَتِ النَّاقَةُ فِي سَيْرِهَا وَضَبَعَتْ، إِذَا مَدَّتْ ضَبْعَيْهَا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
ضَبَحَتِ الْخَيْلُ وَضَبَعَتْ، إِذَا عَدَتْ وَهُوَ أَنْ يَمُدَّ الْفَرَسُ ضَبْعَيْهِ إِذَا عَدَا، أَيْ فَالضَّبْحُ لُغَةٌ فِي الضَّبْعِ وَهُوَ مِنْ قَلْبِ الْعَيْنِ حَاءً. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»: «وَلَيْسَ بِثَبْتٍ» . وَلَكِنْ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» اعْتَمَدَهُ. وَعَلَى تَفْسِيرِ الْعادِياتِ بِأَنَّهَا الْإِبِلُ يَكُونُ الضَّبْحُ اسْتُعِيرَ لِصَوْتِ الْإِبِلِ، أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْعَدْوِ قَوِيَتِ الْأَصْوَاتُ الْمُتَرَدِّدَةُ فِي حَنَاجِرِهَا حَتَّى أَشْبَهَتْ ضَبْحَ الْخَيْلِ أَوْ أُرِيدَ بِالضَّبْحِ الضَّبْعُ عَلَى لُغَةِ الْإِبْدَالِ.
وَانْتَصَبَ ضَبْحًا فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْعادِياتِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصَّوْتُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي جَوْفِهَا حِينَ الْعَدْوِ، أَوْ يُجْعَلُ مُبَيِّنًا لِنَوْعِ الْعَدْوِ إِذَا كَانَ أَصْلُهُ: ضَبْحًا.
وَعَلَى وَجْهِ أَنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ رَوَاحِلُ الْحَجِّ فَالْقَسَمُ بِهَا لِتَعْظِيمِهَا بِمَا تُعِينُ بِهِ عَلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَاخْتِيرَ الْقَسَمُ بِهَا لِأَنَّ السَّامِعِينَ يُوقِنُونَ أَنَّ مَا يُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَا مُحَقَّقٌ، فَهِيَ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَالْمُورِيَاتُ: الَّتِي تُورِي، أَيْ تُوقِدُ.
وَالْقَدْحُ: حَكُّ جِسْمٍ عَلَى آخَرَ لِيَقْدَحَ نَارًا، يُقَالُ: قَدَحَ فَأَوْرَى. وَانْتَصَبَ قَدْحًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ. وَكُلٌّ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ وَمَنَاسِمِ الْإِبِلِ تَقْدَحُ إِذَا صَكَّتِ الْحَجَرَ الصَّوَّانَ نَارًا تُسَمَّى نَارَ الْحُبَاحِبِ، قَالَ الشَّنْفَرَى يُشَبِّهُ نَفْسَهُ فِي الْعَدْوِ بِبَعِيرٍ:
إِذَا الْأَمْعَزُ الصَّوَّانُ لَاقَى مَنَاسِمِي ... تَطَايَرَ مِنْهُ قَادِحٌ وَمُفَلَّلُ
وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْإِمْعَانِ فِي الْعَدْوِ وَشِدَّةِ السُّرْعَةِ فِي السَّيْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قَدْحُ النِّيرَانِ بِاللَّيْلِ حِينَ نُزُولِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ وَطَعَامِهِمْ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الموريات قَدْحًا مستعار لِإِثَارَةِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْحَرْبَ تُشَبَّهُ بِالنَّارِ. قَالَ تَعَالَى: كُلَّما
أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
[الْمَائِدَة: ٦٤]، فَيَكُونَ قَدْحًا تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ (الْمُورِيَاتِ) وَمَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ (الْمُورِيَاتِ) وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قَدْحًا بِمَعْنَى اسْتِخْرَاجِ الْمَرَقِ مِنَ الْقِدْرِ فِي الْقِدَاحِ لِإِطْعَامِ الْجَيْشِ أَوِ الرَّكْبِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْقَدَحِ، وَهُوَ الصَّحْفَةُ فَيَكُونَ قَدْحًا مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ.
وَالْمُغِيرَاتِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَغَارَ، وَالْإِغَارَةُ تُطْلَقُ عَلَى غَزْوِ الْجَيْشِ دَارًا وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا فَإِسْنَادُ الْإِغَارَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْعادِياتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَإِنَّ الْمُغِيرِينَ رَاكِبُوهَا وَلَكِنَّ الْخَيْلَ أَوْ إِبِلَ الْغَزْوِ أَسْبَابٌ لِلْإِغَارَةِ وَوَسَائِلُ.
وَتُطْلَقُ الْإِغَارَةُ عَلَى الِانْدِفَاعِ فِي السَّيْرِ.
وصُبْحًا ظَرْفُ زَمَانٍ فَإِذَا فُسِّرَ «الْمُغِيرَاتِ» بِخَيْلِ الْغُزَاةِ فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِوَقْتِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَزَوْا لَا يُغِيرُونَ عَلَى الْقَوْمِ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ مُنْذِرُ الْحَيِّ إِذَا أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِمَجِيءِ الْعَدُوِّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: ١٧٧] .
وَإِذَا فُسِّرَ «الْمُغِيرَاتِ» بِالْإِبِلِ الْمُسْرِعَاتِ فِي السَّيْرِ، فَالْمُرَادُ: دَفْعُهَا مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى صَبَاحَ يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانُوا يدْفَعُونَ بكرَة عِنْد مَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ: «أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ» .
وَ«أَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا»: أَصْعَدْنَ الْغُبَارَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ عَدْوِهِنَّ، وَالْإِثَارَةُ: الْإِهَاجَةُ، وَالنَّقْعُ: الْغُبَارُ.
وَالْبَاءُ فِي بِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الْعَدْوِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْعادِياتِ وَيَجُوزُ كَوْنُ الْبَاءِ ظَرْفِيَّةً وَالضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى صُبْحًا، أَيْ أَثَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ وَقْتُ إِغَارَتِهَا.
وَمَعْنَى: «وَسَطْنَ»: كُنَّ وَسْطَ الْجَمْعِ، يُقَالُ: وَسَطَ الْقَوْمَ، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ.
وجَمْعًا مَفْعُولُ: «وَسَطْنَ» وَهُوَ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ النَّاسِ، أَيْ صِرْنَ فِي وسط الْقَوْم المغزوون. فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِبِلِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْله: جَمْعًا بِمَعْنى الْمَكَان الْمُسَمّى جَمْعًا وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ فَيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى حُلُولِ الْإِبِلِ فِي مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ أَنْ تُغِيرَ صُبْحًا مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ جَمَاعَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَكَانٍ تَصِلُ إِلَيْهِ هَذِهِ الرَّوَاحِلُ.
وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ وَإِعْجَازِهِ إِيثَارُ كَلِمَاتِ «الْعَادِيَاتِ وَضَبْحًا وَالْمُورِيَاتِ وَقَدْحًا، وَالْمُغِيرَاتِ وَصُبْحًا، وَوَسَطْنَ وَجَمْعًا» دُونَ غَيرهَا لِأَنَّهَا برشقاتها تَتَحَمَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ خَيْلَ الْغَزْوِ ورواحل الْحَج.
وعطفت هَذِهِ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى بِالْفَاءِ لِأَنَّ أُسْلُوبَ الْعَرَبِ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ وَعَطْفِ الْأَمْكِنَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ وَهِيَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْقِيبِ الْحُصُولِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّ ... ابَحِ فَالْغَانِمِ فَالْآيِبِ (١)
وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ تَعْقِيبِ الذِّكْرِ كَمَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَالْفَاءُ الْعَاطِفَةُ لِقَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا عَاطِفَةٌ عَلَى وَصْفِ «الْمُغِيرَاتِ» . وَالْمَعْطُوفُ بِهَا مِنْ آثَارِ وَصْفِ الْمُغِيرَاتِ. وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً عَلَى صِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مِثْلَ
(١) يَعْنِي: زيابة أمه. واسْمه سَلمَة بن ذهل التّيمي. والْحَارث هُوَ ابْن همام الشَّيْبَانِيّ الَّذِي هدد ابْن زيابة فَأَجَابَهُ ابْن زيابة متهكما.
الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ إِثَارَةَ النَّقْعِ وَتَوَسُّطَ الْجَمْعِ مِنْ آثَارِ الْإِغَارَةِ صُبْحًا، وَلَيْسَا مُقْسَمًا بِهِمَا أَصَالَةً وَإِنَّمَا الْقَسَمُ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى.
فَلِذَلِكَ غُيِّرَ الْأُسْلُوبُ فِي قَوْلِهِ: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا فَجِيءَ بِهِمَا فِعْلَيْنِ مَاضِيَيْنِ وَلَمْ يَأْتِيَا عَلَى نَسَقِ الْأَوْصَافِ قَبْلَهُمَا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ انْتَقَلَ مِنَ الْقَسَمِ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ حُصُولِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ مَا قصد مِنْهَا من الظفر بالمطلوب الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الْعَدْوُ وَالْإِيرَاءُ وَالْإِغَارَةُ عَقِبَهُ وَهِيَ الْحُلُولُ بِدَارِ الْقَوْمِ الَّذِينَ غَزَوْهُمْ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِ الْعادِياتِ الْخَيْلَ، أَوْ بُلُوغُ تَمَامِ الْحَجِّ بِالدَّفْعِ عَنْ عَرَفَةَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِ الْعادِياتِ رَوَاحِلَ الْحَجِيجِ، فَإِنَّ إِثَارَةَ النَّقْعِ يَشْعُرُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُصُولِ حِينَ تَقِفُ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ دُفْعَةً، فَتُثِيرُ أَرْجُلُهَا نَقْعًا شَدِيدًا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَحِينَئِذٍ تَتَوَسَّطْنَ الْجَمْعَ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَمْعًا اسْمَ الْمُزْدَلِفَةِ حَيْثُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ.
وَمُنَاسَبَةُ الْقَسَمِ بِهَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ دُونَ غَيْرِهَا إِنْ أُرِيدَ رَوَاحِلُ الْحَجِيجِ وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَنْ يُصَدَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِوُقُوعِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِشَعَائِرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بَارًّا حَيْثُ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَيَزْعُمُونَهُ قَوْلَ
النَّبِيءِ ﷺ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِ الْعادِياتِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا خَيْلُ الْغُزَاةِ، فَالْقَسَمُ بِهَا لِأَجْلِ التَّهْوِيلِ وَالتَّرْوِيعِ لِإِشْعَارِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ غَارَةً تَتَرَقَّبُهُمْ وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، مَعَ تَسْكِينِ نَفْسِ النَّبِيءِ ﷺ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي مَصِيرِ السَّرِيَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مَعَ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو إِذَا صَحَّ خَبَرُهَا فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِخُصُوصِ هَذِهِ الْخَيْلِ إِدْمَاجًا لِلِاطْمِئْنَانِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ جَوَابُ الْقَسَمِ.
وَالْكَنُودُ: وَصْفٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنْ كَنَدَ وَلُغَاتُ الْعَرَبِ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ فِي لُغَةِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ: الْكَفُورُ بِالنِّعْمَةِ، وَبِلُغَةِ كِنَانَةَ: الْبَخِيلُ، وَفِي لُغَةِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ:
العَاصِي. وَالْمعْنَى: لشديد الْكُفْرَانِ لِلَّهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ غَالِبًا، أَيْ أَنَّ
فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ الْكُنُودَ لِرَبِّهِ، أَيْ كُفْرَانَ نِعْمَتِهِ، وَهَذَا عَارِضٌ يَعْرِضُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَكُمَّلُ أَهْلِ الصَّلَاحِ لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَنْشَأُ عَنْ إِيثَارِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَهُوَ أَمْرٌ فِي الْجِبِلَّةِ لَا تَدْفَعُهُ إِلَّا الْمُرَاقَبَةُ النَّفْسِيَّةُ وَتَذَكُّرُ حَقِّ غَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ قَدْ يَذْهَلُ أَوْ يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ، وَالْإِنْسَانُ يُحِسُّ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فِي خَطَرَاتِهِ، وَيَتَوَانَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِإِرْضَاءِ دَاعِيَةِ نَفْسِهِ وَالْأَنْفُسُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي تَمَكُّنِ هَذَا الْخُلُقِ مِنْهَا، وَالْعَزَائِمُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي اسْتِطَاعَةِ مُغَالَبَتِهِ.
وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِغْرَاقُ عُرْفِيًّا أَوْ عَامًّا مَخْصُوصًا، فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحْوَالٍ مَآلُهَا إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ، بِالْقَوْلِ وَالْقَصْدِ، أَوْ بِالْفِعْلِ وَالْغَفْلَةِ، فَالْإِشْرَاكُ كُنُودٌ، وَالْعِصْيَانُ كُنُودٌ، وَقِلَّةُ مُلَاحَظَةِ صَرْفِ النِّعْمَةِ فِيمَا أُعْطِيَتْ لِأَجْلِهِ كُنُودٌ، وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ، فَهَذَا خُلُقٌ مُتَأَصِّلٌ فِي الْإِنْسَانِ فَلِذَلِكَ أَيْقَظَ اللَّهُ لَهُ النَّاسَ لِيَرِيضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَمَانَةِ هَذَا الْخُلُقِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: ١٩] وَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ هُنَا بِالْكَافِرِ فَهُوَ مِنَ الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْكَنُودُ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ»
وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِأَدْنَى مَعَانِي الْكُنُودِ فَإِنَّ أَكْلَهُ
وَحْدَهُ، أَيْ عَدَمَ إِطْعَامِهِ أَحَدًا مَعَهُ، أَوْ عَدَمَ إِطْعَامِهِ الْمَحَاوِيجَ إِغْضَاءً عَنْ بَعْضِ مَرَاتِبِ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْعُهُ الرِّفْدَ، وَمِثْلُهُ: ضَرْبُهُ عَبْدَهُ فَإِنَّ فِيهِ نِسْيَانًا لِشُكْرِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ مِلْكًا لَهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْكًا لِلْعَبْدِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِوَصْفِ الْكُنُودِ.
وَقِيلَ التَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ:
قِرَطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ.
وَاللَّامُ فِي لِرَبِّهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ (كَنُودَ) وَصْفٌ لَيْسَ أَصِيلًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْمُولَاتِ لِمُشَابَهَتِهِ الْفِعْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ فَيَكْثُرُ أَنْ يَقْتَرِنَ مَفْعُولُهُ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ، وَمَعَ تَأْخِيرِهِ عَنْ مَعْمُولِهِ.
وَتَقْدِيمُ لِرَبِّهِ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمُتَعَلِّقِ هَذَا الْكُنُودِ لِتَشْنِيعِ هَذَا الكنود بِأَنَّهُ كنُود لِلرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِالشُّكْرِ وَأَعْظَمُ ذَلِكَ شِرْكُ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ الْكَلَامَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةِ عَلَى خَبَرِ (إِنَّ) لِلتَّعْجِيبِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ.
وَتَقْدِيمُ لِرَبِّهِ عَلَى عَامِلِهِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفِ، وَابْنُ هِشَامٍ يَرَى أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ الْوَاقِعَةَ فِي خَبَرِ (إِنَّ) لَيْسَتْ بِذَاتِ صَدَارَةٍ.
وَضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ انْتِسَاقُ الضَّمَائِرِ وَاتِّحَادُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَالشَّهِيدُ: يُطْلَقُ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ الْخَبَرُ بِمَا يُصَدِّقُ دَعْوَى مُدَّعٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَاضِرِ وَمِنْهُ جَاءَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ الْمَعْلُومُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَالشَّهِيدُ هُنَا: إِمَّا بِمَعْنَى الْمُقِرِّ كَمَا فِي «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ مُقِرٌّ بِكُنُودِهِ لِرَبِّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَقْصِدُ الْإِقْرَارَ، وَذَلِكَ فِي فَلَتَاتِ الْأَقْوَالِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَصْنَامِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر:
٣] . فَهَذَا قَوْلٌ يَلْزَمُهُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا مَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَأَشْرَكُوا فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ لِلِانْفِرَادِ بِهَا، أَلَيْسَ هَذَا كُنُودًا لِرَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
[الْأَنْعَام: ١٣٠]، وَفِي فَلَتَاتِ الْأَفْعَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْمعاصِي.
وَالْمَقْصُود من هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْظِيعُ كُنُودِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِصَاحِبِهِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَعَلَى هَذَا فَحَرْفُ عَلى مُتَعَلِّقٌ بِ «شَهِيدٌ» وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْكُنُودِ الْمَأْخُوذِ مِنْ صِفَةِ «كَنُودٌ» .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «شَهِيدٌ» بِمَعْنَى (عَلِيمٍ) كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الْخِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ
وَمُتَعَلِّقُ «شَهِيدٌ» مَحْذُوفا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ عَلِيمٌ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، أَيْ بِدَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلى ذلِكَ بِمَعْنَى: مَعَ ذَلِكَ، أَيْ مَعَ ذَلِكَ الْكُنُودِ هُوَ عَلِيمٌ بِأَنَّهُ رَبُّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ لَا لِلْكُنُودِ، فَحَرْفُ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَان: ٨] وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
فَبَقِينَا على الشّناءة تنم ... نَا حصون وعرة قَعْسَاءُ
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَذَلِكَ زِيَادَة فِي التعجيب مِنْ كُنُودِ الْإِنْسَانِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَسُفْيَانُ: ضَمِيرُ وَإِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «رَبِّهِ»، أَيْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْحِسَابِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُسَوِّغُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَنُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَلَعَلَّهُمَا رَأَيَا جَوَازَ الْمَحْمَلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى.
وَتَقْدِيمُ عَلى ذلِكَ عَلَى «شَهِيد» للاهتمام والتعجيب وَمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ.
وَالشَّدِيدُ: الْبَخِيلُ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ رَاثِيًا:
حَذَرْنَاهُ بِأَثْوَابٍ فِي قَعْرِ هُوَّةٍ ... شَدِيدٍ عَلَى مَا ضَمَّ فِي اللَّحْدِ جُولُهَا
وَالْجَوْلُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: التُّرَابُ، كَمَا يُقَالُ لِلْبَخِيلِ الْمُتَشَدِّدِ أَيْضًا قَالَ طَرَفَةُ:
عَقِيلَةُ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ وَاللَّامُ فِي لِحُبِّ الْخَيْرِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْخَيْرُ: الْمَالُ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [الْبَقَرَة: ١٨] .
وَالْمَعْنَى: إِنَّ فِي خُلُقِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ لِأَجْلِ حُبِّهِ الْمَالَ، أَيِ الِازْدِيَادِ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى:
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] .
وَتَقْدِيمُ لِحُبِّ الْخَيْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِغَرَابَةِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ،
وَتَقْدِيمُهُ عَلَى عَامِلِهِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الصَّدْرِ لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَحُبُّ الْمَالِ يَبْعَثُ عَلَى مَنْعِ الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ الْعَرَبُ يُعَيِّرُونَ بِالْبُخْلِ وَهُمْ مَعَ
ذَلِكَ يَبْخَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَلَكِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي الْإِنْفَاقِ فِي مَظَانِّ السُّمْعَةِ وَمَجَالِسِ الشُّرْبِ وَفِي الْمَيْسِرِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا [الْفجْر: ١٨- ٢٠] .
[٩، ١٠]
[سُورَة العاديات (١٠٠): الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠)
فُرِّعَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِكُنُودِ الْإِنْسَانِ وَشُحِّهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ عَدَمِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوَقْتِ بَعْثَرَةِ مَا فِي الْقُبُورِ وَتَحْصِيلِ مَا فِي الصُّدُورِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ كَيْفَ يَغْفُلُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ.
وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ قُدِّمَتْ على فَاء التَّفْرِيع لِأَن الِاسْتِفْهَام صَدْرَ الْكَلَامِ.
وَانْتَصَبَ إِذا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِمَفْعُولِ يَعْلَمُ الْمَحْذُوفِ اقْتِصَارًا، لِيَذْهَبَ السَّامِعُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ قَصْدًا لِلتَّهْوِيلِ.
وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْلَمُ الْعَذَابَ جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا فِي كُنُودِهِ وَبُخْلِهِ مِنْ جِنَايَةٍ مُتَفَاوِتَةِ الْمِقْدَارِ إِلَى حَدِّ إِيجَابِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولَا يَعْلَمُ وَلَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ تَقْدِيرِهِمَا فَيُوكَلُ إِلَى السَّامِعِ تَقْدِيرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْوِيلِ وَيُسَمَّى هَذَا الْحَذْفُ عِنْدَ النُّحَاةِ الْحَذْفَ الِاقْتِصَارِيَّ، وَحَذْفُ كِلَا الْمَفْعُولَيْنِ اقْتِصَارًا جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ وَهُوَ التَّحْقِيقُ وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ يَمْنَعُهُ.
وبُعْثِرَ: مَعْنَاهُ قُلِبَ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلُوٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِحْيَاءُ مَا فِي الْقُبُورِ مِنَ الْأَمْوَاتِ الْكَامِلَةِ الْأَجْسَادِ أَوْ أَجْزَائِهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [٤] .
وحُصِّلَ: جُمِعَ وَأُحْصِيَ. وَمَا فِي الصُّدُورِ: هُوَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ ضَمَائِرَ وَأَخْلَاقٍ، أَيْ جُمِعَ عَدُّهُ والحساب عَلَيْهِ.
[سُورَة العاديات (١٠٠): آيَة ١١]
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ الْإِنْكَارِ، أَيْ كَانَ شَأْنُهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا اطِّلَاعَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَأَنْ يَذْكُرُوهُ لِأَنَّ وَرَاءَهُمُ الْحِسَابَ الْمُدَقَّقَ، وَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَادَ التَّذْيِيلِ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَخَبِيرٌ، أَيْ عَلِيمٌ.
وَالْخَبِيرُ: مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْمُجَازِي بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، بِقَرِينَةِ تَقْيِيدِهِ بِيَوْمَئِذٍ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِمْ حَاصِلٌ مِنْ وَقْتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ عِلْمِهِ بِهِمْ يَوْمَ بَعْثَرَةِ الْقُبُورِ، فَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
وَتَقْدِيمُ بِهِمْ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ لَخَبِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّ لَهَا الصَّدْرَ سَائِغٌ لِتَوَسُّعِهِمْ فِي الْمَجْرُورَاتِ وَالظَّرْفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: ٦] وَقَوْلِهِ: عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات: ٧] وَقَوْلِهِ: لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨] . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ هِشَامٍ يُنَازِعُ فِي وُجُوبِ صَدَارَةِ لَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي فِي خَبَرِ إِنَّ