recent
آخر المقالات

سُورَةُ النُّورِ

 

قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ زَانِيَةٍ وَكُلَّ زَانٍ يَجِبُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُمَا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، فَالْمَوْصُولَاتُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.


وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا لِلتَّعْرِيفِ لِتَنَاسِي الْوَصْفِيَّةِ، وَأَنَّ مُرْتَكِبَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّانِي، كَإِطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، فَالْعُمُومُ الشَّامِلُ لِكُلِّ زَانِيَةٍ وَكُلِّ زَانٍ، هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ.

وَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ شُمُولُهُ لِلْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، وَالْأَمَةِ، وَالْحُرَّةِ، وَالْبِكْرِ، وَالْمُحْصَنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

وَظَاهِرُهُ أَيْضًا: أَنَّهُ لَا تُغَرَّبُ الزَّانِيَةُ، وَلَا الزَّانِي عَامًا مَعَ الْجَلْدِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ يُخَصَّصُ مَرَّتَيْنِ.

إِحْدَاهُمَا: تَخْصِيصُ حُكْمِ جَلْدِهَا مِائَةً بِكَوْنِهَا حُرَّةً، أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ «النِّسَاءِ» هَذِهِ، وَهُوَ خَمْسُونَ ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى.

وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ فَهُوَ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ، بَاقِيَةِ الْحُكْمِ، تَقْتَضِي أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ هُنَا مُخَصَّصٌ بِكَوْنِهَا بِكْرًا.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، بِمَعْنَى أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ مِنْ قَبْلِ الزِّنَى، وَجَامَعَهَا زَوْجُهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا تُرْجَمُ.

وَالْآيَةُ الَّتِي خَصَصَتْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .

وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ، بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَإِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ بِدُونِ جَلْدٍ.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ، وَإِنَّمَا فِي آيَةِ الرَّجْمِ زِيَادَتُهُ عَلَى الْجَلْدِ، فَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَيْرَ بَعِيدٍ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَمُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ.

أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ، وَأَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْمِائَةَ مِنَ الذُّكُورِ، إِنَّمَا هُوَ الزَّانِي الْبِكْرُ، وَأَمَّا الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الذَّكَرِ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي الْأُنْثَى.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى.

وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ.

وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ: إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُودِ، فَالْمُخَصِّصُ لِعُمُومِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ، هُوَ مَا أَفَادَتْهُ آيَةُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِنْ سَمَّاهُ الْأُصُولِيُّونَ تَخْصِيصًا بِالْقِيَاسِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصُ آيَةٍ بِمَا فُهِمَ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى.

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ رَجْمَ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، إِحْدَاهُمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا، وَالثَّانِيَةُ: بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، أَمَّا الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) إِلَى آخِرِهَا ; كَمَا سَيَأْتِي، وَكَوْنُ الرَّجْمِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَى إِذَا أَحْصَنَتْ:

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.

وَفِيهِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.

وَفِيهِ: أَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَكَوْنُهَا لَمْ تُقْرَأْ فِي الصُّحُفِ، يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهَا، مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا ; كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى، وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ.

قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ: أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»، فِي شَرْحِهِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَقَدْ قَرَأْنَاهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ)، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ قَرَأْنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: الْبَتَّةَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ هُوَ الَّذِي حَذَفَ ذَلِكَ عَمْدًا، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ كَرِوَايَةِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ. . .) غَيْرَ سُفْيَانَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَهِمَ فِي ذَلِكَ.

قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَيُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، وَعَقِيلٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ مِنَ الْحَجِّ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا بِيَدِي: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ)، قَالَ مَالِكٌ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ: الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ.

وَوَقَعَ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ: لَكَتَبْتُهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ.

وَوَقَعَتْ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا: كَتَبَ عُمَرُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، لَكَتَبْتُهُ قَدْ قَرَأْنَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .

وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: وَلَقَدْ كَانَ فِيهَا، أَيْ سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، آيَةُ الرَّجْمِ: (الشَّيْخُ)، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.

وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» مِثْلَهُ، إِلَى قَوْلِهِ: «الْبَتَّةَ» .

وَمِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آيَةَ الرَّجْمِ، فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ: «الْبَتَّةَ»، وَزَادَ «بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» .

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدٍ: أَلَا تَكْتُبْهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: لَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَكْفِيكُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَكْتِبْنِي آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَالَ: «لَا أَسْتَطِيعُ» .

وَرُوِّينَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ حَكِيمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَشُكُّوا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي، وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي، وَقُلْتَ: اسْتَقْرِئْهُ آيَةَ الرَّجْمِ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الْحُمُرِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ.

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ فِي الْمُصْحَفِ، فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ»، فَقَالَ عُمَرُ: لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: أَكْتُبُهَا؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى، وَلَمْ يُحْصِنْ جُلِدَ، وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ.

فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا، انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.

وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ، بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، وَأَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الْجَلْدِ، عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلَكِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ اسْتِفَادَةِ سَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ تَخْصِيصَ عُمُومِهِ، وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِهَا تَكُونُ لَهَا أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالتَّعَبُّدِ بِتِلَاوَتِهَا،

وَكَالْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهَا بِحِكْمَتِهِ فَتَارَةً يَنْسَخُ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا مِنْ تِلَاوَةٍ، وَتَعَبُّدٍ، وَعَمَلٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ كَآيَةِ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، وَتَارَةً يَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِهَا دُونَ بَعْضٍ، كَنَسْخِ حُكْمِ تِلَاوَتِهَا وَالتَّعَبُّدِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَنَسْخِ حُكْمِهَا دُونَ تِلَاوَتِهَا، وَالتَّعَبُّدِ بِهَا كَمَا هُوَ غَالِبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ النَّسْخِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الْآيَةَ [١٦ \ ١٠١]، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ.

فَآيَةُ الرَّجْمِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا، لَا التَّعَبُّدُ بِهَا، وَلَا تِلَاوَتُهَا، فَأُنْزِلَتْ وَقَرَأَهَا النَّاسُ، وَفَهِمُوا مِنْهَا حُكْمَ الرَّجْمِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نَسَخَ اللَّهُ تِلَاوَتَهَا، وَالتَّعَبُّدَ بِهَا، وَأَبْقَى حُكْمَهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ.

فَالرَّجْمُ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ، اهـ مِنْهُ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، عَنْ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، دَلِيلٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ

اللَّهِ، أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَرَأَهَا الصَّحَابَةُ، وَوَعَوْهَا، وَعَقَلُوهَا وَأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فَعَلُوهُ بَعْدَهُ.

فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا شَكَّ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهَا لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [٣ \ ٢٣]، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ ﷺ، وَقِصَّةُ رَجْمِهِ لَهُمَا مَشْهُورَةٌ، ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ، أَيْ: عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، وَذَمُّ الْمُعْرِضِ عَنِ الرَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا، وَهِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ.

وَمَعْنَى الْإِحْصَانِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَامَعَ فِي عُمْرِهِ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ حُرٌّ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ، وَالرَّشِيدُ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَقِصَّةُ رَجْمِهِمَا مَشْهُورَةٌ مَعَ صِحَّتِهَا ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.


الْفَرْعُ الثَّانِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، وَلَمْ نَعْلَمْ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ خَالَفَ فِي رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الْخَوَارِجِ، وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ، وَبُطْلَانُ مَذْهَبِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاضِحٌ مِنَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَهُ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.


الْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ

أَنَّهُمْ رَأَوْهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَنَّهُ يَجِبُ رَجْمُهُ إِذَا كَانَ مُحْصَنًا، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ بَيِّنَةَ الزِّنَى، لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ عُدُولٍ ذُكُورٍ، فَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ عُدُولٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَحُدُّوا ; لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ كَاذِبُونَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [٢٤ \ ٤]، وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ الْآيَةَ [٤ \ ١٥]، وَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الشُّهُودَ فِي الزِّنَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [٢٤ \ ١٣]، وَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَزَادَتْ أَنَّ الْقَاذِفِينَ إِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ هُمُ الْكَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ.

وَمَنْ كَذَبَ فِي دَعْوَاهُ الزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ أَوْ مُحْصَنَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ; كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ شُهُودَ الزِّنَى، إِذَا لَمْ يَكْمُلُوا لَا حَدَّ قَذْفٍ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ لَا قَذَفَةٌ، لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَإِنَّ رَابِعَهُمْ لَمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَى، جَلَدَ عُمَرُ الشُّهُودَ الثَّلَاثَةَ جَلْدَ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْعَبِيدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي الزِّنَى، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ فِي الزِّنَى، إِلَّا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَتْ هِيَ مَذْهَبُهُ وَإِلَّا قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ.

وَيُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الزِّنَى أَنْ يَكُونُوا ذُكُورًا وَلَا تَصِحُّ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، إِلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَحَمَّادٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ

الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ; وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إِلَيْهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [٢ \ ٢٨٢]، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ كَالذِّمِّيِّينَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالزِّنَى.

وَاخْتُلِفَ هَلْ تُقْبَلُ عَلَى كَافِرٍ مِثْلِهِ؟ فَقِيلَ: لَا، وَالنَّبِيُّ ﷺ إِنَّمَا رَجَمَ الْيَهُودِيِّينَ بِاعْتِرَافِهِمَا بِالزِّنَى، لَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ بِالزِّنَى، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ زَعَمُوا أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ مُسْلِمِينَ، يَشْهَدُونَ عَلَى اعْتِرَافِ الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِالزِّنَى، وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا عَلَى كَافِرٍ لَا فِي حَدٍّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي ذَلِكَ، وَقَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ، وَاسْتَثْنَى أَحْمَدُ حَالَةَ السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ.

وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ عَنْ وَاقِعَةِ الْيَهُودِيَّيْنِ بِأَنَّهُ ﷺ نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ، وَأَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ بِهِ ظَاهِرًا لِتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَهُمْ، وَتَغْيِيرِهِمْ حُكْمَهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورَ، كَذَا قَالَ: وَالثَّانِي مَرْدُودٌ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا بِالِاعْتِرَافِ، فَإِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ جَابِرٍ فَلَعَلَّ الشُّهُودَ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلَا عِبْرَةَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالزِّنَى.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ الْيَهُودِ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ كَلَامَهُمْ، وَلَمْ يَحْكُمْ فِيهِمَا إِلَّا مُسْتَنِدًا لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَحَكَمَ بِالْوَحْيِ، وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ بَيْنَهُمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا [١٢ \ ٢٦]، وَأَنَّ شُهُودَهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا عِنْدَ إِخْبَارِهِمْ بِمَا ذَكَرَ، فَلَمَّا رَفَعُوا الْأَمْرَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ اسْتَعْلَمَ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهِهَا فَذَكَرَ كُلُّ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الرُّوَاةِ مَا حَفِظَهُ فِي

ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ، هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْفَاسِقِينَ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٢٤ \ ٤]، وَإِذَا نَصَّ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى بِذَلِكَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي شُهُودِ الزِّنَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [٤ \ ١٥]، فَخَصَّ الْأَرْبَعَةَ بِكَوْنِهِمْ مِنَّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ الْمَانِعَ بِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ فِيهِ مِنْ نِسَائِكُمْ، فَلَا نَتَنَاوَلُ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ كَالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الْآيَةَ [٥ \ ١٠٦] .

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ نَسْخُ حُكْمِهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي زَعَمَ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا ; كَقَوْلِهِ: ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [٦٥ \ ٢]، وَقَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [٤ \ ٢٨٢]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [٢٤ \ ٤] .

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَنْسَخُ الْأَخَصَّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَدِّ الزِّنَى، فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى الْبَلْخِيُّ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ مُجَالِدٌ: أَخْبَرَنَا عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ»، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجْمِهِمَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَظَاهِرُ الْمُتَبَادِرِ مِنْهُ: أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا مِنَ الْيَهُودِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ دَالٌّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي حَدِّ الزِّنَى، إِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَالسَّنَدُ الْمَذْكُورُ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ أَبُو دَاوُدَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ فِيهِ مُجَالِدًا وَهُوَ

مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ بِسِطَامِ بْنِ ذِي مِرَانِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ أَبُو عَمْرٍو، وَيُقَالُ أَبُو سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَالْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، إِنَّمَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، إِنَّهُ صَدُوقٌ، وَلَا بِتَوْثِيقِ النَّسَائِيِّ لَهُ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا بِقَوْلِ ابْنِ عَدِيٍّ: أَنَّ لَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَحَادِيثَ صَالِحَةً ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، أَمَّا غَيْرُ مُجَالِدٍ مِنْ رِجَالِ سَنَدِ أَبِي دَاوُدَ فَهُمْ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ ; لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ مُوسَى الْبَلْخِيَّ ثِقَةٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْقُرَشِيُّ مَوْلَاهُمْ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، رُبَّمَا دَلَّسَ وَكَانَ بِآخِرَةٍ يُحَدِّثُ مِنْ كُتُبِ غَيْرِهِ، وَعَامِرٌ الَّذِي رَوَى عَنْ مُجَالِدٍ هُوَ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ، وَجَلَالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّنَدِ الَّذِي فِيهِ مُجَالِدٌ الْمَذْكُورُ، لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَنْ عُمُومِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الزِّنَا، وَعَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ تَصِحُّ شَهَادَتُهُمْ وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَأَدَّوْا شَهَادَتَهُمْ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ: الشَّافِعِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنَّمَا قَالُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [٢٤ \ ١٣]، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ [٤ \ ١٥]، وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٍ، إِنِ اتَّفَقَتْ تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَلَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ، وَنَافِعًا، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ فَحُدَّ الثَّلَاثَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحِدَّهُمْ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكْمُلُوا بِرَابِعٍ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ فَحَدَّهُمْ، ثُمَّ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَكَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الشَّهَادَاتِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ، وَلِهَذَا لَمْ تُذْكَرِ الْعَدَالَةُ، وَصِفَةُ الزِّنَى ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ [٢٤ \ ٤]، لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ أَوْ مُقَيَّدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ جَلْدِهِمْ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ زَمَنٍ إِلَّا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، أَوْ بِكَمَالِهِمْ إِنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ فَأَوْلَى مَا قُيِّدَ بِهِ الْمَجْلِسُ ; لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَ مَجِيئِهِمْ وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَهُمْ قَذَفَةٌ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مَجِيئِهِمْ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، كَالَّذِينِ لَمْ يَشْهَدُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَنَا قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ الشُّهُودَ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.

وَفِي حَدِيثِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ آخَرُ يَشْهَدُ أَكُنْتَ تَرْجُمَهُ؟ قَالَ عُمَرُ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلِأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءُوا وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا تَفَرَّقُوا فِي مَجَالِسَ فَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ ; لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالزِّنَى، وَلَمْ يُكْمِلِ الشَّهَادَةَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [٢٤ \ ٤]، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ.

وَقَدْ عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِشَهَادَةِ شُهُودِ الزِّنَى، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا هُوَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَى، فَإِبْطَالُهَا مَعَ كَوْنِهِمْ أَرْبَعَةً بِدَعْوَى عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ إِبْطَالٌ لِشَهَادَةِ الْعُدُولِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمَا وَجَّهَ مِنَ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ قَوْلُهُ بِهِ لَا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجَاهِ، فَإِنْ قَالَ: الشُّهُودُ مَعَنَا مَنْ يَشْهَدُ مِثْلَ شَهَادَتِنَا، انْتَظَرَهُ الْإِمَامُ، وَقَبِلَ شَهَادَتَهُ فَإِنْ لَمْ يَدْعُو زِيَادَةَ شُهُودٍ وَلَا عَلِمَ الْحَاكِمُ بِشَاهِدٍ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، لِعَدَمِ كَمَالِ

شَهَادَتِهِمْ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَنَا مِنْ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى أَدَاءِ شُهُودِ الزِّنَى شَهَادَتُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَنْ يَكُونُوا شَاهِدَيْنِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا وَنَظَرَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ; لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْوَطْءِ وَأَنْ يَكُونَ الزَّانِي نَزَعَ فَرْجَهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْأَوَّلِ، وَرَأَى الثَّانِي إِيلَاجًا آخَرَ غَيْرَ الْإِيلَاجِ الَّذِي رَآهُ مَنْ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ، وَمَتَى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا: وُجُوبُ تَفْرِقَتِهِمْ، أَعْنِي شُهُودَ الزِّنَى خَاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الشُّهُودِ.

وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِتْيَانِهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإِذَا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ حَضْرَةِ الْآخَرِينَ، وَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَنَّهُ رَآهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ أَوْلَجَهُ فِيهِ، وَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ زِيَادَةٍ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَنَحْوِهِ، وَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الزَّانِيَيْنِ، لِيُمْكِنَهُمْ أَنْ يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةُ إِقَامَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الزَّانِي إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ ; وَلِأَنَّهُمْ يُجْلَدُونَ حَدَّ الْقَذْفِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَجُوزُ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَاتِ الزُّنَاةِ، وَلَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً، لِمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ اسْتِحْسَانِ السَّتْرِ، وَيُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُؤَالُ الشُّهُودِ فِي الزِّنَى عَمَّا لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، كَأَنْ يَقُولَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ بِانْفِرَادِهِ دُونَ حَضْرَةِ الْآخَرِينَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتَهُمَا وَقْتَ زِنَاهُمَا، وَهَلْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، أَوْ عَلَى بَطْنِهَا، أَوْ عَلَى قَفَاهَا، وَفِي أَيِّ جَوَانِبِ الْبَيْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمْ: كَانَتْ عَلَى قَفَاهَا، وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَتْ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْمَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ ; لِدَلَالَةِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفُوا فِي جَانِبِ الْبَيْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الزِّنَى.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ أَحْوَطُ فِي الدَّفْعِ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا

صَادِقِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ عُلِمَ كَذِبُهُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِتَفْرِقَةِ شُهُودِ الزِّنَى، وَسُؤَالِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَدَاوُدَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي شَهِدَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ، أَنَّهَا زَنَتْ بِكَلْبِهَا فَرَجَمَهَا دَاوُدُ فَجَاءَ سُلَيْمَانُ بِالصِّبْيَانِ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ شُهُودًا، وَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الْكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلَوْنٍ غَيْرِ اللَّوْنِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْآخَرُ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ لِلشُّهُودِ، وَفَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الْكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فَاخْتَلَفُوا فِي لَوْنِهِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ يَثْبُتُ بِهِ الْجَلْدُ فَطَرِيقُ ثُبُوتِهِمَا مُتَّحِدَةٌ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَا يَخْفَى.


الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ صَاحِبَاهُمَا، أَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الزِّنَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا بِالزِّنَى، أَوْ لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنًى وَاحِدٍ، فَكُلُّ زِنًى شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ، وَلَا يَثْبُتُ زِنًى بِاثْنَيْنِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: الْجَمِيعُ قَذَفَةٌ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُمْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً، وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ أَرْبَعَةً عَلَى زِنًى وَاحِدٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ اثْنَانِ وَحْدَهُمَا، فَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَحَكَاهُ قَوْلًا لِأَحْمَدَ، وَهَذَا بِعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنًى وَاحِدٌ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ ; وَلِأَنَّ جَمِيعَ مَا تُعْتَبَرُ لَهُ الْبَيِّنَةُ يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمَالُهَا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، فَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ; وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بَيْضَاءَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِسَوْدَاءَ فَهُمْ قَذَفَةٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ، انْتَهَى مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ أُخْرَى، وَكَانَتِ الزَّاوِيَتَانِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْتَيْنِ وَإِنْ كَانَتَا مُتَقَارِبَتَيْنِ كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكْمُلْ، وَلِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوِ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيْتَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ، سَوَاءٌ تَقَارَبَتِ الزَّاوِيَتَانِ، أَوْ تَبَاعَدَتَا، وَلَنَا أَنَّهُمَا

إِذَا تَقَارَبَتَا أَمْكَنَ صِدْقُ الشُّهُودِ، بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي إِحْدَاهُمَا وَتَمَامُهُ فِي الْأُخْرَى أَوْ يَنْسُبُهُ كُلُّ اثْنَيْنِ إِلَى إِحْدَى الزَّاوِيَتَيْنِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ كَمَا لَوِ اتَّفَقُوا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتَا مُتَبَاعِدَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ فِعْلًا وَاحِدًا.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ فِعْلَيْنِ، فَلِمَ أَوْجَبْتُمُ الْحَدَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ؟

قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِشُبْهَةٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوِ اتَّفَقُوا عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ هَذَا يُحْتَمَلُ فِيهِ وَالْحَدُّ وَاجِبٌ، وَالْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ كَالْقَوْلِ فِي هَذَا، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ مُتَبَاعِدٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِهِ، كَطَرَفَيِ النَّهَارِ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ، وَمَتَى تَقَارَبَا كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأَيْتَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَكْمُلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا إِذَا شَهِدُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانٍ مُتَّحِدٍ وَوَقْتٍ مُتَّحِدٍ ; فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ حُدُّوا ; لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ، وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ بِتَلْفِيقِ شَهَادَتِهِمْ، وَضَمِّ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى شَهَادَةِ بَعْضٍ لَا يَظْهَرُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ زَادُوا أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى إِيلَاجٍ مُتَّحِدٍ، فَلَوْ نَظَرُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مَعَ اتِّحَادِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَنْظُرُوا فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا نَظْرَةً وَاحِدَةً فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ وَجْهٌ.


الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَحْمَرَ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ كَتَّانٍ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ خَزٍّ.

فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ ; لِأَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا تُخَالِفُ شَهَادَتُهُمَا شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمْ قَائِلًا: إِنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ فَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أَحَدَ الْقَمِيصَيْنِ، وَتَرَكَا ذِكْرَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ صَادِقِينَ ; لِأَنَّ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ هَذَانِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ذَانِكَ كَعَكْسِهِ، فَلَا تَنَافِيَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا هِيَ قَمِيصٌ أَحْمَرُ، وَعَلَيْهِ هُوَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ كَعَكْسِهِ، أَوْ عَلَيْهِ هُوَ ثَوْبُ كَتَّانٍ، وَعَلَيْهَا هِيَ ثَوْبُ خَزٍّ كَعَكْسِهِ، فَيُمْكِنُ صِدْقُ الْجَمِيعِ ; وَإِذَا أَمْكَنَ صِدْقُهُمْ فَلَا

وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِمْ، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مُوَجِّهًا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ هُوَ وُجُوبُ اسْتِفْسَارِ الشُّهُودِ، فَإِنْ جَزَمَ اثْنَانِ بِأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَاحِدًا أَحْمَرَ، وَجَزَمَ الْآخَرَانِ أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا وَاحِدًا أَبْيَضَ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ لِتَنَافِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ مَثَلًا أَحَدُهُمَا أَحْمَرُ، وَالثَّانِي أَبْيَضُ، وَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ ; لِاتِّفَاقِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِفْسَارُ الشُّهُودِ لِمَوْتِهِمْ، أَوْ غَيْبَتِهِمْ غَيْبَةً يَتَعَذَّرُ مَعَهَا سُؤَالُهُمْ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ كَمَالِ شَهَادَتِهِمْ ; لِاحْتِمَالِ تَخَالُفِ شَهَادَتِهِمَا، وَمُطْلَقُ احْتِمَالِ اتِّفَاقِهِمَا لَا يَكْفِي فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَا يُقَامُ بِشَهَادَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْبُطْلَانِ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ اخْتِلَافُ الشَّهَادَتَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ لَازِمٌ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. أَمَّا فِي الشَّهَادَةِ الْمُحْتَمَلَةِ فَإِنَّهُ قَبْلَ إِمْكَانِ اسْتِفْسَارِهِمْ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ حَدِّهِمْ وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِفْسَارُهُمْ، فَإِنْ فَسَّرُوا، بِمَا يَقْتَضِي كَمَالَ شَهَادَتِهِمْ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرُوا بِمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ ; كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ السَّابِعُ: إِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ وَالشُّهُودِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَفِي الرَّجُلِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوِعَةِ غَيْرُ فِعْلِ الْمُكْرَهَةِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، أَوْ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ فِعْلَيْنِ تَكُونُ مُطَاوِعَةً فِي أَحَدِهِمَا، مُكْرَهَةً فِي الْآخَرِ، وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهَادَةِ كَامِلَةً عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ شَاهِدَيِ الْمُطَاوَعَةِ قَاذِفَانِ لَهَا، وَلَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى غَيْرِهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الشَّهَادَةَ كَمُلَتْ عَلَى وُجُودِ الزِّنَى مِنْهُ، وَاخْتِلَافُهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِهَا لَا فِي فِعْلِهِ، فَلَا يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الشُّهُودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الرَّجُلِ بِشَهَادَتِهِمْ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِمُ الْحَدُّ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ فَلَزِمَهُمُ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ.

وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَاهِدَيِ الْمُطَاوِعَةِ، لِأَنَّهُمَا قَذَفَا الْمَرْأَةَ بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَى شَاهِدَيِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْذِفَا الْمَرْأَةَ، وَقَدْ كَمُلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأَيْتُ خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدِي فِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ عَلَى الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا نَفْيُ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْهَا شَهَادَةٌ بِالزِّنَى، وَأَمَّا نَفْيُ الْحَدِّ عَنِ الرَّجُلِ ; فَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْمُطَاوَعَةِ يُكَذِّبَانِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْإِكْرَاهِ كَعَكْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْفِعْلُ لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ تَكْمُلْ عَلَى الرَّجُلِ شَهَادَةٌ عَلَى حَالَةِ زِنًى وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالطَّوْعَ أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ، وَإِذَا لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَدَمُ حَدِّهِ هُوَ الْأَظْهَرُ، أَمَّا وَجْهُ حَدِّ الشُّهُودِ، فَلِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِأَنَّهَا زَنَتْ مُطَاوِعَةً لِلرَّجُلِ قَاذِفَانِ لَهَا بِالزِّنَى، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهَا فَحَدُّهُمَا لِقَذْفِهِمَا الْمَرْأَةَ ظَاهِرٌ جِدًّا ; وَلِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً قَاذِفَانِ لِلرَّجُلِ بِأَنَّهُ أَكْرَهَهَا فَزَنَى بِهَا، وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ; لِأَنَّ شَاهِدَيِ الطَّوْعِ مُكَذِّبَانِ لَهُمَا فِي دَعْوَاهُمَا الْإِكْرَاهَ فَحَدُّهُمَا لِقَذْفِهِمَا لِلرَّجُلِ وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، أَمَّا كَوْنُ الْأَرْبَعَةِ قَدِ اتَّفَقَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا، فَيَرُدُّهُ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الزِّنَى، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ يَثْبُتُ بِهِ الْجَلْدُ عَلَى الْبِكْرِ، فَثُبُوتُ الْأَمْرَيْنِ طَرِيقُهُ وَاحِدَةٌ.


الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ وَتَمَّتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، فَقَالَتْ إِنَّهَا عَذْرَاءُ، لَمْ تَزُلْ بَكَارَتُهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ مَعْرُوفَاتٌ بِالْعَدَالَةِ، وَشَهِدْنَ بِأَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُزَلْ بَكَارَتُهَا بِمُزِيلٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ تَدْرَأُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَنْهَا الْحَدَّ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا يُلْتَفَتُ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَعِبَارَةُ الْمُدَوَّنَةِ فِي ذَلِكَ: إِذَا شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَى أَرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَقَالَتْ: إِنَّهَا عَذْرَاءُ وَنَظَرَ إِلَيْهَا النِّسَاءُ، وَصَدَّقْنَهَا لَمْ يُنْظَرْ إِلَى قَوْلِهِنَّ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَبِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ بِبَكَارَتِهَا تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بِأَنَّهَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، هُوَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى زِنَاهَا تَمَّتْ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وَأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ، فَلَا تَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِنَّ شَهَادَةُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا بِالزِّنَى، وَوَجْهُ قَوْلِ الْآخَرَيْنِ بِأَنَّهَا لَا تُحَدُّ هُوَ أَنَّ بَكَارَتَهَا ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَوُجُودُ الْبَكَارَةِ مَانِعٌ مِنَ الزِّنَى ظَاهِرًا ; لِأَنَّ الزِّنَى لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ فِي قُبُلِهَا، وَإِذَا انْتَفَى الزِّنَى لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الزِّنَى مَجْبُوبٌ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَيَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهَا مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، يَعْنِي الْبَكَارَةَ الْمَذْكُورَةَ، انْتَهَى، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِتَمَامِ شَهَادَتِهِمْ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ بِالْبَكَارَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي»: وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لِكَمَالِ عِدَّتِهِمْ، مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِمْ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا، ثُمَّ عَادَتْ عُذْرَتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَأَمَّا إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مَجْبُوبٌ، أَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا رَتْقَاءُ، فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى بَيِّنَةِ الزِّنَى، لِظُهُورِ كَذِبِهَا ; لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ مِنَ الرِّجَالِ وَالرَّتْقَاءَ مِنَ النِّسَاءِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُ الزِّنَى مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى، وَوُجُوبِ الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا بِإِقْرَارِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ الزِّنَى بِإِقْرَارِ الزَّانِي مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لَا يَكْفِي ذَلِكَ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؟ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا إِذَا أَقَرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، وَلَا تَكْفِي عِنْدَهُمَا الْإِقْرَارَاتُ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الزِّنَى يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً.

أَمَّا حُجَجُ مَنْ قَالَ يَكْفِي الْإِقْرَارُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأُنَيْسٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَتْ، قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما ظَاهِرٌ ظُهُورًا وَاضِحًا فِي أَنَّ الزِّنَى يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ فِيهِ: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، ظَاهِرٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالِاعْتِرَافِ مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ لَوْ كَانَ الِاعْتِرَافُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا بُدَّ مِنْهُ لَقَالَ لَهُ ﷺ: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَارْجُمْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالِاعْتِرَافِ بِالزِّنَى مَرَّةً وَاحِدَةً مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ وَلِيَّهَا فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا»، فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى»، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي أَنَّهُ ﷺ، أَمَرَ بِرَجْمِهَا بِإِقْرَارِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِرَجْمِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا إِقْرَارُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ الَّتِي جَاءَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ ﷺ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَأَنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ

قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، فَقَالَ: «أَمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي»، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ»، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِإِقْرَارِ الزَّانِي بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ ﷺ: لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ شَرْطًا فِي لُزُومِ الْحَدِّ لَقَالَ لَهَا إِنَّمَا رَدَدْتُهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعًا.

وَقَدْ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»، بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ: وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْبِيعَ الْإِقْرَارِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّصْرِيحِ فِيهَا، بِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ، وَقَدِ اكْتَفَى فِيهَا بِدُونِ أَرْبَعٍ كَمَا سَيَأْتِي، اهـ مِنْهُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، مَا نَصُّهُ: قَالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ»، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ»؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ «: آنْتِ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا «: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ»، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ «: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ»، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا، اهـ مِنْهُ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَكَرُّرِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا، وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالُوا: يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، أَنْ يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا، فَهِيَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، يُرِيدُ

نَفْسَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ «: أَبِكَ جُنُونٌ»؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ «: أَحْصَنْتَ»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: اذْهَبُوا فَارْجُمُوهُ»، الْحَدِيثَ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ «: أَبِكَ جُنُونٌ»؟ قَالَ: لَا، قَالَ «: فَهَلْ أَحْصَنْتَ»؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» اهـ.

قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّجْمِ عَلَى أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَيْ: أَرْبَعُ إِقْرَارَاتٍ بِصِيغَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ ; لِأَنَّ لَمَّا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَتَرْتِيبُ الْحَدِّ عَلَى الْأَرْبَعِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ، دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ، وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ، وَفِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ، حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ; كَمَا رَأَيْتَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ، وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ هُوَ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا التَّرَاخِي، عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ صُدُورِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً عَلَى مَنْ كَانَ أَمْرُهُ مُلْتَبِسًا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ، وَاخْتِلَالِهِ، وَفِي سُكْرِهِ، وَصَحْوِهِ مِنَ السُّكْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ أَحَادِيثِ إِقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ عُرِفَتْ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَصَحْوُهُ مِنَ السُّكْرِ، وَسَلَامَةُ إِقْرَارِهِ مِنَ الْمُبْطِلَاتِ، وَهَذَا الْجَمْعُ رَجَّحَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» .

وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ كُلِّهَا فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ حَدِيثِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا يَدْرِي أَمْجَنُونٌ هُوَ أَمْ لَا؟ صَاحٍ هُوَ أَوْ سَكْرَانُ؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا «: أَبِكَ جُنُونٌ»؟ وَسُؤَالِهِ ﷺ لِقَوْمِهِ عَنْ عَقْلِهِ، وَسُؤَالِهِ ﷺ «: أَشَرِبَ خَمْرًا»؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، وَكُلُّ

ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاطُ التَّصْرِيحِ بِمُوجِبِ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ الزِّنَى تَصْرِيحًا يَنْفِي كُلَّ احْتِمَالٍ ; لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُطْلِقُ اسْمَ الزِّنَى عَلَى مَا لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ ﷺ لِمَاعِزٍ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ زَنَى، «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ»؟ قَالَ: لَا، قَالَ «: أَفَنِكْتَهَا»؟ - لَا يُكَنِّي -، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ لِلزَّانِي بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فَإِنَّهُ غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.


الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَمَّتْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِالزِّنَى فَصَدَّقَهُمُ الزَّانِي الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى مَرَّةً وَاحِدَةً فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ تَامَّةً، وَالْإِقْرَارُ غَيْرَ تَامٍّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ أَرْبَعًا.

فَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الْحَدَّ يُقَامُ عَلَيْهِ لِكَمَالِ الْبَيِّنَةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَيِّنَةِ الْإِنْكَارُ، وَهَذَا غَيْرُ مُنْكِرٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: إِنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَّتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَلَا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَا حَاجَةَ لِإِقْرَارِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ قَبْلَ إِقْرَارِهِ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ إِلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ اعْتِبَارُ الْإِقْرَارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُهُ، أَوْ لَمْ يَتَقَادَمْ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ، وَلَوْ لَمْ تُشْهَدْ إِلَّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ ; لِأَنَّ عُمُومَ النُّصُوصِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ تَعْجِيلِ الشَّهَادَةِ وَتَأْخِيرِهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِقْرَارَ يُقْبَلُ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ مَعَ التَّأْخِيرِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَجَبَ الْحَدُّ، وَبِهَذَا

قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاسِحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيقَةَ: لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًى قَدِيمٍ وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، اهـ مِنْهُ.

أَمَّا قَبُولُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا الْقَدِيمِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُتَّهَمُ فِي نَفْسِهِ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ بِزِنًا قَدِيمٍ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنًا قَدِيمٍ، هُوَ أَنَّ تَأْخِيرَ الشَّهَادَةِ، يَدُلُّ عَلَى التُّهْمَةِ فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الْحَدَّ.

وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي»: وَمِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ فَهُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ، ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلًا، وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ، اهـ مِنْهُ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَسَمَّاهَا فَكَذَّبَتْهُ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَزْنِ بِهَا.

فَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى بِإِقْرَارِهِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ.

وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي»: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إِنْكَارِهَا فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ خِلَافُهُ لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا إِقْرَارًا صَحِيحًا، وَقَوْلُهُمْ إِنَّنَا صَدَّقْنَاهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُصَدِّقْهَا، وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهَا صَادِقَةٌ، وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ الْحَدِّ عَنْهَا إِنَّمَا وَقَعَ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ ; فَعَدَمُ حَدِّهَا لِانْتِفَاءِ مُقْتَضِيهِ، لَا لِأَنَّهَا صَادِقَةٌ كَمَا تَرَى.

الْأَمْرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ،

ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَفْصٍ، ثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمَّاهَا لَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَرْأَةِ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ فَجَلَدَهُ الْحَدَّ وَتَرَكَهَا، اهـ مِنْهُ، وَعَبْدُ السَّلَامِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَوْثِيقُهُ لَهُ أُولَى مِنْ قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُقِرَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا لَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ يُحَدُّ مَعَ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، الْآيَةَ [٢٤ \ ٤] وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ النُّصُوصِ وَاجِبٌ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ حَدَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ حَدَّ الْقَذْفِ، بَلْ حَدَّ الزِّنَا فَقَطْ لَا يُعَارَضُ بِهِ عُمُومُ النُّصُوصِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: وَحَدُّهُ لِلزِّنَا وَالْقَذْفِ مَعًا هُوَ الظَّاهِرُ، لِوَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَحُدَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لِلْقَذْفِ وَذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى السُّقُوطِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الطَّلَبِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ لِوُجُودِ مُسْقِطٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْقَذْفِ الْعُمُومُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ صَدَقَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنَّهُ قَاذِفٌ، اهـ مِنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ عَيَّنَ الْجَارِيَةَ الَّتِي زَنَا بِهَا، وَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ لِقَذْفِهَا بَلْ حَدَّهُ لِلزِّنَا فَقَطْ، فَإِنَّ تَرْكَ حَدِّهِ لَمْ يُوَجَّهْ بِمَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَنْ قَالَ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَقَاذِفٌ لَهَا هِيَ بِهِ، وَظَاهِرُ النُّصُوصِ مُؤَاخَذَتُهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَدُّهُ أَيْضًا حَدَّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُ قَاذِفٌ بِلَا شَكٍّ، كَمَا تَرَى.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْبَرْدِيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ فَيَّاضٍ الْأَبْنَاوِيِّ،

عَنْ خَلَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَجَلَدَهُ مِائَةً وَكَانَ بِكْرًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ، اهـ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الْقَاسِمَ بْنَ فَيَّاضٍ الْأَبْنَاوِيَّ الصَّنْعَانِيَّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي «الْمِيزَانِ»: ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبَّاسٌ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَاسِمَ الْمَذْكُورَ قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ: ثِقَةٌ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، وَالتَّعْدِيلِ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحُ لَا يُقْبَلُ مُجْمَلًا، كَمَا تَقَدَّمَ.

الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الَّذِي فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِّ الْقَذْفِ، وَحَدِّ الزِّنَا إِنْ قَالَ: أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عَيَّنَهَا فَأَنْكَرَتْ، مُعْتَضِدٌ اعْتِضَادًا قَوِيًّا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى، فَأَنْكَرَتْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ.

فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ الزِّنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُحَدُّ حَدُّ الزِّنَا فَقَطْ، كَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلِمَنْ قَالَ: يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ، فَقَالَتْ لَهُ: زَنَيْتُ بِكَ أَنَّهَا تُحَدُّ لِلْقَذْفِ وَلِلزِّنَا مَعًا، وَلَا يُحَدُّ الرَّجُلُ لَهُمَا لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمُكْرَهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِالضَّرْبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ لِيُقِرَّ بِالزِّنَا فَأَقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْرَارُهُ بِهِ فَلَا يُحَدُّ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الزِّنَا، وَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَا قَدْ قَدَّمْنَا ثُبُوتَ الزِّنَا بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، أَمَّا ظُهُورُ الْحَمْلِ بِامْرَأَةٍ، لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِّ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْحَبَلُ فِي الَّتِي لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ يَثْبُتُ عَلَيْهَا بِهِ الزِّنَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ،

أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رضي الله عنه، بِأَنَّ الْحَبَلَ الَّذِي هُوَ الْحَمْلُ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا كَمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، عُمَرُ رضي الله عنه كَمَا رَأَيْتَ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ عَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِذَا عُرِفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ.

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْحَمْلِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ عُمَرَ بِأَنَّ الْحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، كَالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: إِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ: بِوُجُوبِ الْحَدِّ وَثُبُوتِ الزِّنَا بِالْحَمْلِ، لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَالرَّجْمُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا كَانَ مُحْصَنًا، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أُوتِيَ بِامْرَأَةٍ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ اللَّهُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [٤٦ \ ١٥]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرْجُمُهَا بِحَمْلِهَا وَعَنْ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ: زِنَا سِرٍّ، وَزِنَا عَلَانِيَةٍ، فَزِنَا السِّرِّ: أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ: أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، فَيَكُونُ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي، وَهَذَا قَوْلُ سَادَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَانْظُرْ أَسَانِيدَ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنِ الصَّحَابَةِ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْحَمْلِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْحَمْلَ وَحْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ، فَقَدْ قَالَ فِي «الْمُغْنِي»: حُجَّتُهُمْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ وَطْءِ إِكْرَاهٍ أَوْ شُبْهَةٍ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ بِأَنْ يَدْخُلَ مَاءُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا، إِمَّا بِفِعْلِهَا، أَوْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا تُصُوِّرَ حَمْلُ الْبِكْرِ فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ فَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ،

حَدَّثَنَا هَاشِمٌ: أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، وَقَدْ حَمَلَتْ فَسَأَلَهَا عُمَرُ، فَقَالَتْ: إِنَّنِي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ، وَأَنَا نَائِمَةٌ فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى فَرَغَ، فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ صَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُوتِيَ بِامْرَأَةٍ حَامِلٍ، فَادَّعَتْ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ، فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا، وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، أَلَّا يُقْتَلَ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ لَعَلَّ وَعَسَى فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ - قَالُوا: إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الْحَدُّ فَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْتَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ هُنَا، اهـ بِلَفْظِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَانْظُرْ أَيْضًا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْحَبَلَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ، وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَقَعُ لَا شَكَّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فِي الْفَرَجِ، بَلْ قَدْ يَطَأُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي فَخِذَيْهَا، فَتَتَحَرَّكُ شَهْوَتُهَا فَيَنْزِلُ مَاؤُهَا وَيُنْزِلُ الرَّجُلُ، فَيَسِيلُ مَاؤُهُ فَيَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا، فَيَلْتَقِي مَاؤُهُ بِمَائِهَا فَتَحْمِلُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ وَهَذَا مُشَاهَدٌ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ.

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ يَطَأُ امْرَأَتَهُ فِي الْفَخِذَيْنِ، وَلَمْ يُجَامِعْهَا فِي الْفَرْجِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ ; لِأَنَّ مَاءَهُ قَدْ يَسِيلُ إِلَى فَرْجِهَا، فَتَحْمِلُ مِنْهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: إِذَا كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ رضي الله عنه أَنَّ الْحَمْلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا كَالِاعْتِرَافِ وَالْبَيِّنَةِ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَظْهَرَ لَنَا خِلَافُ قَوْلِهِ رضي الله عنه، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ الْحَمْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ بَلْ قَدْ تَحْبَلُ بِدُونِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْحَبَلُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ فَلَا وَجْهَ لِثُبُوتِ الزِّنَا، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ لِمُوجَبِ الْحَدِّ، كَمَا تَرَى.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِالْحَمْلِ قَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْحَامِلَ إِنْ كَانَتْ طَارِئَةً مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، وَادَّعَتْ أَنَّ حَمْلَهَا مِنْ زَوْجٍ لَهَا تَرَكَتْهُ فِي بَلَدِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا الزِّنَا بِذَلِكَ الْحَمْلِ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَادَّعَتْ أَنَّهَا مُكْرَهَةٌ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْإِكْرَاهَ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الزِّنَا بِالْحَمْلِ إِلَّا إِذَا اعْتَضَدَتْ دَعَوَاهَا بِمَا يُقَوِّيهَا مِنَ الْقَرَائِنِ كَإِتْيَانِهَا صَارِخَةً مُسْتَغِيثَةً مِمَّنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَكَأَنْ تَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِرَجُلٍ تَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْرَهَهَا وَكَأَنْ تَشْتَكِيَ مِنَ الَّذِي فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَمْلِ.

وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ كَانَتْ شَكْوَاهَا مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ مُشْبِهَةً لِكَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ، وَالْعَفَافِ، وَالتَّقْوَى حَدَثَ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا عَلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ لَمْ تُسَمِّ الرَّجُلَ الَّذِي ادَّعَتْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا تُعَزَّرُ، وَلَا تُحَدُّ إِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ.


الْفَرْعُ الثَّالِثُ: قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: أَوْ مُكْرَهَةً، مَا نَصُّهُ: قَالَ فِي الطِّرَازِ أَوْ فِي أَوَاخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ فِي تَرْجَمَةِ تَفْسِيرِ الطَّلَاقِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْ أَلْفَاظِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ: وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى سُئِلَ عَنْ جَارِيَةٍ بِكْرِ زَوَّجَهَا فَابْتَنَى بِهَا زَوْجُهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ نَائِمَةً فَانْتَبَهْتُ لِبَلَلٍ بَيْنَ فَخِذَيَّ، وَذَكَرَ الزَّوْجُ أَنَّهُ وَجَدَهَا عَذْرَاءَ.

فَأَجَابَ فِيهَا: أَنَّهَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْعَفَافِ، وَحُسْنِ الْحَالِ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ، وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتِ الْحَمْلَ، وَغَرَّتْ فَلَهَا قَدْرُ مَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا، انْتَهَى مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ، انْتَهَى كَلَامُ الطِّرَازِ، انْتَهَى مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْحَمْلَ قَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا وَهُوَ مُحْصَنٌ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ أَوَّلًا ثُمَّ يُرْجَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْقَتْلِ يَنْدَرِجُ فِي الْقَتْلِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي

«الْمُغْنِي»: وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمَا وَاخْتَارَهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، الْجُوزَجَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، وَنَصَرَاهُ فِي سُنَنِهِمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»، وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الرَّجْمِ عَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا فَإِنْ كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّجْمِ.

وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ.

مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ تَصْرِيحًا ثَابِتًا عَنْ ثُبُوتٍ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.

قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ ﷺ بِأَنَّ الثَّيِّبَ وَهُوَ الْمُحْصَنُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُرْجَمُ، وَهَذَا اللَّفْظُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «: الثَّيِّبُ جُلِدَ مِائَةً ثُمَّ رُجِمَ بِالْحِجَارَةِ»، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا «: وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ»، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّحِيحِ فِيهَا تَصْرِيحُهُ ﷺ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ،

قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، مَا نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ: أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِامْرَأَةٍ زَنَتْ فَضَرَبَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ، بِأَنَّ عَلِيًّا ضَرَبَهَا وَرَجَمَهَا، وَهِيَ شُرَاحَةُ الْهَمْدَانِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا مَوْلَاةٌ لِسَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤ \ ٢]، وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْبِكْرِ وَالْمُحْصَنِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ وَالتَّغْرِيبِ سَنَةً فِي حَقِّ الْبِكْرِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعًا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، قَالُوا: وَقَدْ شُرِّعَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُحْصَنِ وَالثَّيِّبِ عُقُوبَتَانِ: أَمَّا عُقُوبَتَا الثَّيِّبِ: فَهُمَا الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، وَأَمَّا عَقُوبَتَا الْبِكْرِ: فَهُمَا الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ.

هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يُجْمَعُ لِلْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ.

مِنْهَا: أَنَّهُ ﷺ رَجَمَ مَاعِزًا، وَلَمْ يَجْلِدْهُ مَعَ الرَّجْمِ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ فِي رَجْمِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ جَلَدَهُ مَعَ الرَّجْمِ بَلْ أَلْفَاظُهَا كُلُّهَا مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الرَّجْمِ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَمْ يُنْسَخْ لِأَمَرَ بِجَلْدِ مَاعِزٍ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَوْ أَمَرَ بِهِ لَنَقَلَهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْقِصَّةِ، قَالُوا: وَقِصَّةُ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ مُتَقَدِّمٌ وَأَنَّهُ أَوَّلُ نَصٍّ نَزَلَ فِي حَدِّ الزِّنَا أَنَّ قَوْلَهُ ﷺ فِيهِ «: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ، يُشِيرُ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالْحَدِّ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [٤ \ ١٥]، فَالزَّوَانِي كُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: وَهُمَا الْمَوْتُ، أَوْ جَعْلُ اللَّهِ لَهُنَّ سَبِيلًا فَلَمَّا قَالَ ﷺ «: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»، ثُمَّ فَسَّرَ السَّبِيلَ بِحَدِّ الزِّنَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَأَنَّ قِصَّةَ مَاعِزٍ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهُ رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَلَدَهَا، لَوْ جَلَدَهَا مَعَ الرَّجْمِ لَنَقَلَ ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ: أَنَّهُ قَالَ ﷺ «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَلَمْ يَقُلْ فَاجْلِدْهَا مَعَ الرَّجْمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ الْجَلْدِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَنَقَلَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَهَذِهِ الْوَقَائِعُ كُلُّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ آنِفًا.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي رَجْمِهِ ﷺ لِلْمَرْأَةِ الْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الرَّجْمِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا جَلْدٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ الْغَسَّانِيُّ: جُهَيْنَةُ وَغَامِدُ وَبَارِقُ وَاحِدٌ، انْتَهَى مِنْهُ، وَعَلَيْهِ فَالْجُهَنِيَّةُ هِيَ الْغَامِدِيَّةُ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي رَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ، وَرَجْمِ الْجُهَنِيَّةِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الْجَلْدِ، وَإِنَّمَا فِيهَا كُلِّهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الرَّجْمِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ رَجَمَهُمَا ﷺ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا جَلْدٌ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ خَاصٌّ بِالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ، وَأَمَّا الشَّابُّ فَيُجْلَدُ إِنْ لَمْ يُحْصَنْ وَيُرْجَمُ فَقَطْ إِنْ أَحْصَنَ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِلَفْظِ الْآيَةِ الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا) إِلَى آخِرِهِ، قَالُوا: فَرَجْمُ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا فَحُكْمُهَا بَاقٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»: وَقَالَ عِيَاضٌ: شَذَّتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَقَالَتِ: الْجَمْعُ عَلَى الشَّيْخِ الثَّيِّبِ دُونَ الشَّابِّ، وَلَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ كَذَا قَالَهُ، وَنَفَى أَصْلَهُ، وَوَصَفَهُ بِالْبُطْلَانِ إِنْ أَرَادَ بِهِ طَرِيقَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ دَلِيلَهُ فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ: (الشَّيْخُ) فَفَهِمَ هَؤُلَاءِ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّابَّ أَعْذَرُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعْنًى مُنَاسِبٌ، وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالْبُطْلَانِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «فَتْحِ الْبَارِي» .

وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «فَتْحِ الْبَارِي»: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَزْمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ زَادَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، انْتَهَى.

وَإِذَا عُرِفَتْ أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحُجَجُهُمْ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تُرَجِّحُ قَوْلَهَا عَلَى قَوْلِ الْأُخْرَى.

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ، فَقَدْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، هُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ، فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا يُعَارَضُ بِعَدَمِ ذِكْرِ الْجَلْدِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ ; لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَلْدُ وَقَعَ لِمَاعِزٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الرُّوَاةُ ; لِأَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِ لَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَتْرُكُهُ لِظُهُورِهِ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ جَلْدُ الزَّانِي، قَالُوا: وَالْمُحْصَنُ دَاخِلٌ قَطْعًا فِي عُمُومِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤ \ ٢]، وَهَذَا الْعُمُومُ الْقُرْآنِيُّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَعَدَمُ ذِكْرِ الْجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الصَّرِيحَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، قَالُوا: وَعَمَلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ﷺ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا تَخْفَى قُوَّةُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ فَقَطْ وَلَا يُجْلَدُ، فَقَدْ رَجَّحُوا أَدِلَّتَهُمْ بِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورِ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ «: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُبَادَةَ، هُوَ أَوَّلُ نَصٍّ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [٤ \ ١٥]، قَالُوا: وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْسُوخٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ «: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ»، وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ ﷺ أَنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ «: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ» شَرْطٌ، وَقَوْلَهُ «: فَارْجُمْهَا» جَزَاءُ هَذَا الشَّرْطِ، فَدَلَّ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَجَزَائِهِ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا هُوَ الرَّجْمُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ الصَّرِيحِ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا بِالزِّنَا هُوَ رَجْمُهَا فَقَطْ، فَرَبَطَ هَذَا الْجَزَاءَ بِهَذَا الشَّرْطِ أَقْسَمَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، لِمَا قَدَّمْنَا.

وَهَذَا الدَّلِيلُ أَيْضًا قَوِيٌّ جِدًّا، لِأَنَّ فِيهِ إِقْسَامَهُ ﷺ بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ بِالزِّنَا مِنَ الْمُحْصَنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَلَا يَخْلُو هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ «: فَارْجُمْهَا»، أَوْ يَكُونُ قَالَ مَعَ ذَلِكَ فَاجْلِدْهَا، وَتَرَكَ الرَّاوِي الْجَلْدَ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّجْمِ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْجَلْدِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ الِاعْتِرَافِ الرَّجْمَ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً لَا دَلَالَةَ سُكُوتٍ، وَإِنْ كَانَ قَالَ مَعَ الرَّجْمِ: وَاجْلِدْهَا، وَحَذَفَ الرَّاوِي الْجَلْدَ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحَذْفِ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ حَذْفَ بَعْضِ جَزَاءِ الشَّرْطِ مُخِلٌّ بِالْمَعْنَى مُوهِمٌ غَيْرَ الْمُرَادِ، وَالْحَذْفُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرَّاوِي عَدْلٌ فَلَنْ يَفْعَلَهُ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ الْآيَةَ [٦ \ ١٤٥]، أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ نَصَّيْنِ، مَعَ اخْتِلَافِ زَمَنِهِمَا ; كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ، وَإِنْ وَجَهَّهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا ذَكَرْنَا، لَا يَخْفَى سُقُوطُهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: دَلِيلُ كُلٍّ مِنْهُمَا قَوِيٌّ، وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ يُرْجَمُ فَقَطْ، وَلَا يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ لِأُمُورٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا: أَنَّ رِوَايَاتِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّجْمِ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَالْجُهَنِيَّةِ، وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْيَهُودِيِّيْنِ، كُلَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ بِلَا شَكٍّ عَنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهَا الْجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ مَعَ تَعَدُّدِ طُرُقِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحِ «: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، تَصْرِيحٌ مِنْهُ ﷺ بِأَنَّ جَزَاءَ اعْتِرَافِهَا رَجْمُهَا، وَالَّذِي يُوجَدُ بِالشَّرْطِ هُوَ الْجَزَاءُ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الرَّجْمُ فَقَطْ.

وَمِنْهَا: أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَسْخِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عَلَى أَدْنَى الِاحْتِمَالَاتِ لَا تَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْخَطَأَ فِي تَرْكِ عُقُوبَةٍ لَازِمَةٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأِ فِي عُقُوبَةٍ غَيْرِ لَازِمَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالرَّجْمِ أَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ عُقُوبَةٌ، فَلَا دَاعِيَ لِلْجَلْدِ مَعَهُ ; لِانْدِرَاجِ الْأَصْغَرِ فِي الْأَكْبَرِ.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إِذَا ثَبَتَ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي فَظَنَّ الْإِمَامُ أَنَّهُ بِكْرٌ فَجَلَدَهُ مِائَةً، ثُمَّ ثَبَتَ بَعْدَ جَلْدِهِ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا (ح) وَثَنَا ابْنُ السَّرْحِ الْمَعْنَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَجُلِدَ الْحَدَّ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ، وَرَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِنَحْوِ ابْنِ وَهْبٍ، لَمْ يَذْكُرِ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا زَنَى فَلَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ، فَجُلِدَ ثُمَّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ فَرُجِمَ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَلَمْ يُعْلَمْ بِإِحْصَانِهِ فَجُلِدَ، ثُمَّ عُلِمَ بِإِحْصَانِهِ فَرُجِمَ، اهـ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، مَا نَصُّهُ: حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ مَا سَكَتَا عَنْهُ، فَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ، اهـ مِنْهُ.


الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ الْحَامِلَ مِنَ الزِّنَا لَا تُرْجَمُ، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَتَفْطِمَهُ، أَوْ يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ بِرَضَاعِهِ ; لِأَنَّ رَجْمَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فِيهِ إِهْلَاكُ جَنِينِهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا وَهُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.


الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، هَلْ يُحْفَرُ لَهُ أَوْ لَا يُحْفَرُ لَهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُحْفَرُ لَهُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْفَرُ لِمَنْ زَنَى مُطْلَقًا، وَقِيلَ:

يُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِنْ كَانَ الزِّنَا ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمَرْجُومَ لَا يُحْفَرُ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قِصَّةِ رَجْمِ مَاعِزٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ. . . الْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفِرُوا لَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ:

فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ مَا نَصُّهُ: وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا. أَمَّا قَوْلُهُ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ فَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا الْحَفْرُ لِلْمَرْجُومِ وَالْمَرْجُومَةِ فَفِيهِ مَذَاهِبُ لِلْعُلَمَاءِ.

قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ رضي الله عنهم فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ: لَا يُحْفَرُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَقَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ لَهُمَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُحْفَرُ لِمَنْ يُرْجَمُ بِالْبَيِّنَةِ لَا مَنْ يُرْجَمُ بِالْإِقْرَارِ.

وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: لَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَمْ بِالْإِقْرَارِ.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا:

أَحَدُهَا: يُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا.

وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ، بَلْ هُوَ إِلَى خِيَرَةِ الْإِمَامِ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اسْتُحِبَّ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَلَا، لِيُمْكِنَهَا الْهَرَبُ إِنْ رَجَعَتْ. فَمَنْ قَالَ بِالْحَفْرِ لَهُمَا احْتَجَّ بِأَنَّهُ حُفِرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَكَذَا لِمَاعِزٍ فِي رِوَايَةٍ، وَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي مَاعِزٍ أَنَّهُ لَمْ يُحْفَرْ لَهُ، أَنَّ الْمُرَادَ حَفِيرَةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَفِيرَةِ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا يُحْفَرُ فَاحْتَجَّ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ مُنَابِذٌ لِحَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ وَلِرِوَايَةِ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْحَفْرِ لِمَاعِزٍ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ، وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ تَرَكَ الْحَفْرَ حَدِيثُ

الْيَهُودِيَّيْنِ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ جَعَلَ يَجْنَأُ عَلَيْهَا، وَلَوْ حَفَرَ لَهُمَا لَمْ يَجْنَأْ عَلَيْهَا، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ حُفْرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَّنَ حُجَجَهُمْ، وَنَاقَشَهَا، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كَلَامِهِ، أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الْحَفْرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَفْرُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ الْحَفْرُ لَهُمَا مَعًا فَلَا بَأْسَ، قَالَ صَاحِبُ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: وَيُحْفَرُ لَهَا فِي الرَّجْمِ لَا لَهُ، وَقَالَ شَارِحُهُ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْحَفْرِ لَهُمَا ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ اهـ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» فِي الْفِقْهِ الْحَنْبَلِيِّ: وَإِنْ كَانَ الزَّانِي رَجُلًا أُقِيمَ قَائِمًا، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجْمِ مَاعِزٍ، خَرَجْنَا بِهِ إِلَى الْبَقِيعِ فَوَاللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ، وَلَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ قَامَ لَنَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ; وَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَهُ، وَدَفْنُ بَعْضِهِ عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَلَّا تَثْبُتَ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا يُحْفَرُ لَهَا أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ، وَذَكَرَ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَ لَهَا إِلَى الصَّدْرِ.

قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ، وَبُرَيْدَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلَا حَاجَةَ لِتَمْكِينِهَا مِنَ الْهَرَبِ لِكَوْنِ الْحَدِّ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا بِخِلَافِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ، لَوْ أَرَادَتِ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ ; لِأَنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إِقْرَارِهَا مَقْبُولٌ، وَلَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ وَلَا لِمَاعِزٍ، وَلَا لِلْيَهُودِيَّيْنِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ، فَإِنَّ الَّتِي نُقِلَ عَنْهُ الْحَفْرُ لَهَا ثَبَتَ حَدُّهَا بِإِقْرَارِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِيهَا، فَلَا يَسُوغُ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ ثِيَابَ الْمَرْأَةِ تُشَدُّ عَلَيْهَا كَيْلَا تَنْكَشِفَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، اهـ مِنْ «الْمُغْنِي» .

وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ لِلْمَرْجُومِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْوَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلًا بِحَسَبِ صِنَاعَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعِلْمِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَرْجُومَ يُحْفَرُ لَهُ مُطْلَقًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: فَمَا أَوْثَقْنَاهُ وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، بِلَفْظِ: فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةُ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، اهـ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَاعِزًا حُفِرَ لَهُ.

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ الْحَافِرُ لَهُ، أَيْ بِأَمْرِهِ بِذَلِكَ فَبُرَيْدَةُ مُثْبِتٌ لِلْحَفْرِ، وَأَبُو سَعِيدٍ نَافٍ لَهُ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَتَعْتَضِدُ رِوَايَةُ بُرَيْدَةَ هَذِهِ بِالْحَفْرِ لِمَاعِزٍ بِرِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِنَفْسِ الْإِسْنَادِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِالْحَفْرِ لِلْغَامِدِيَّةِ إِلَى صَدْرِهَا، وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْحَفْرِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا، أَمَّا الْأُنْثَى فَلَمْ يَرِدْ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَفْرِ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَرِوَايَةُ الْحَفْرِ لَهُ الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِعَدَمِ الْحَفْرِ ; لِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.

وَقَوْلُ ابْنِ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، فَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثُبُوتِهِ عَنْهُ ﷺ كَمَا تَرَى، وَبِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: أَنَّهُ ﷺ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ، وَزِنَاهَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهَا، لَا بِبَيِّنَةٍ تُعْلَمُ أَنَّ الَّذِينَ نَفَوُا الْحَفْرَ لِمَنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا مُخَالِفُونَ لِصَرِيحِ النَّصِّ الصَّحِيحِ بِلَا مُسْتَنَدٍ كَمَا تَرَى، وَالْعَلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالرَّجْمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ الزِّنَا ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ بِهِ الْإِمَامُ أَوِ الْحَاكِمُ، إِنْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا لِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ، وَبَدَاءَةِ الْإِمَامِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْفِقْهِ الْحَنْبَلِيِّ، وَصَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ.

قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي»: وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ:

الرَّجْمُ رَجْمَانِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ النَّاسُ ; وَلِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ، اهـ مِنْهُ.

وَحَاصِلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: أَثَرٌ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَكَوْنُ مُبَاشَرَتِهِمُ الرَّمْيَ بِالْفِعْلِ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَقْلِيٌّ لَا نَقْلِيٌّ، اهـ.

وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ صَاحِبِ «كَنْزِ الدَّقَائِقِ»: يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِهِ فَإِنْ أَبَوْا سَقَطَ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ وَلَوْ مُقِرًّا ثُمَّ النَّاسُ.

مَا نَصُّهُ: أَيْ يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُشْتَرَطُ بَدَاءَتُهُمُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ حِينَ رَجَمَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ: إِنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَوْ كَانَ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلُ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدَ يَشْهَدُ، ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَاهَا بِحَجَرٍ، قَالَ الرَّاوِي: ثُمَّ رَمَى النَّاسُ وَأَنَا فِيهِمْ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ رُبَّمَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَأْبَى أَوْ يَرْجِعُ، فَكَانَ فِي بَدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُهُ، فَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ مُهْلِكًا أَوْ مُتْلِفًا لِعُضْوٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ ; لِأَنَّ الْإِتْلَافَ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ.

قَالَ رحمه الله: فَإِنْ أَبَوْا سَقَطَ، أَيْ: إِنْ أَبَى الشُّهُودُ مِنَ الْبَدَاءَةِ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ، وَكَذَلِكَ إِنِ امْتَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، أَوْ جَنَوْا، أَوْ فَسَقُوا، أَوْ قَذَفُوا فَحُدُّوا أَوْ أَحَدُهُمْ، أَوْ عَمِيَ، أَوْ خَرِسَ، أَوِ ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الطَّارِئَ عَلَى الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمَوْجُودِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا إِذَا غَابُوا أَوْ بَعْضُهُمْ، أَوْ مَاتُوا أَوْ بَعْضُهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا، رَجَمَ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مَرْضَى لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْمُوا أَوْ مَقْطُوعِي الْأَيْدِي رُجِمَ بِحَضْرَتِهِمْ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ.

قَالَ رحمه الله: ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ لِمَا رُوِّينَا مِنْ أَثَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ مَقْتَلَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقْصِدُ مَقْتَلَهُ ; لِأَنَّ بِغَيْرِهِ كِفَايَةً.

وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي قَتْلِ أَبِيهِ، وَكَانَ كَافِرًا فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ «: دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ» ; وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.

قَالَ رحمه الله: وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ، وَلَوْ مُقِرًّا ثُمَّ النَّاسُ، أَيْ: يَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ إِنْ كَانَ الزَّانِي مُقِرًّا لِمَا رُوِّينَا مِنْ أَثَرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ; وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغَامِدِيَّةِ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ «: ارْمُوا»، وَكَانَتْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» مَمْزُوجًا بِنَصِّ «كَنْزِ الدَّقَائِقِ» .

هَذَا حَاصِلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ أَوِ الْإِمَامِ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لَا تَعْيِينَ لِمَنْ يَبْدَأُ مِنْ شُهُودٍ وَلَا إِمَامٍ، وَلَا غَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ لِهَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَلْزَمَ بِهِ الْبَيِّنَةَ.

قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: وَلَمْ يَعْرِفْ بَدَاءَةَ الْبَيِّنَةِ، وَلَا الْإِمَامِ، مَا نَصُّهُ: قَالَ مَالِكٌ: مُذْ أَقَامَتِ الْأَئِمَّةُ الْحُدُودَ، فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْهُمْ تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَا أَلْزَمَ ذَلِكَ الْبَيِّنَةَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ: إِنْ ثَبَتَ الزِّنَا بِبَيِّنَةٍ بَدَأَ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، اهـ مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَبْدَأْ بِرَجْمِ مَاعِزٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لِأُنَيْسٍ «: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَلَمْ يَحْضُرْ ﷺ لِيَبْدَأَ بِرَجْمِهَا، وَقَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا تَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا أَلْزَمَ بِهِ الْبَيِّنَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَثَرُ عَلِيٍّ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ وَالْإِمَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ ﷺ رَمَى الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ كَالْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ «: ارْمُوا» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مُبْهَمًا.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ زَكَرِيَّا أَبِي عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ سُلَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ زَادَ:

ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، ثُمَّ قَالَ «: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ زِيَادَةٌ، ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ، هُوَ بِعَيْنِهِ الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهَذَا الشَّيْخُ الَّذِي حَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ هُوَ، فَهُوَ مُبْهَمٌ، وَالْمُبْهَمُ

مَجْهُولُ الْعَيْنِ وَالْعَدَالَةِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَمَا تَرَى. وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي سُقْنَاهَا آنِفًا: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الرَّجْمِ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَكَرِيَّا أَبِي عِمْرَانَ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.

قَالَ الْبَزَّارُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى هَذَا الشَّيْخَ وَتُرَاجَعُ أَلْفَاظُهُمْ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ جِهَةِ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الِانْقِطَاعِ، اهـ مِنْهُ، وَأَيُّ عِلَّةِ أَعْظَمُ مِنَ الِانْقِطَاعِ بِإِبْهَامِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ.

فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ.

أَمَّا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فِي بَابِ مَنِ اعْتَبَرَ حُضُورَ الْإِمَامِ وَالشُّهُودِ، وَبَدَاءَةَ الْإِمَامِ بِالرَّجْمِ، مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، ثَنَا عَمَّارٌ هُوَ ابْنُ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ قَدْ فَجَرَتْ فَرَدَّهَا حَتَّى وَلَدَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَقْرَبِ النِّسَاءِ مِنْهَا، فَأَعْطَاهَا وَلَدَهَا ثُمَّ جَلَدَهَا وَرَجَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُعِيَ عَلَيْهَا وَلَدُهَا أَوْ كَانَ اعْتِرَافٌ، فَالْإِمَامُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ النَّاسُ، فَإِنْ نَعَاهَا الشُّهُودُ فَالشُّهُودُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَ الْأَجْلَحُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جِيءَ بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهَا: وَيْلَكِ لَعَلَّ رَجُلًا وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ لَعَلَّكِ اسْتُكْرِهْتِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: لَعَلَّ زَوْجَكِ مِنْ عَدُوِّنَا هَذَا أَتَاكِ فَأَنْتِ تَكْرَهِينَ أَنْ تَدُلِّي عَلَيْهِ، يُلَقِّنُهَا لَعَلَّهَا تَقُولُ نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَحُبِسَتْ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ فَضَرَبَهَا مِائَةً، وَحَفَرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ فَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا، وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ، فَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا الرَّجْمُ، إِنَّمَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ ; ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ جِيءَ بِهَا وَبِهَا حَبَلٌ، يَعْنِي: أَوِ اعْتَرَفَتْ، فَالْإِمَامُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جِيءَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ زَانٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا

فَالشُّهُودُ أَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ، ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلُوا بِهَا مَا تَفْعَلُونَ بِمَوْتَاكُمْ.

قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جَلْدَ الثَّيِّبِ صَارَ مَنْسُوخًا، وَأَنَّ الْأَمْرَ صَارَ إِلَى الرَّجْمِ فَقَطْ، اهـ، مِنَ السُّنَنِ الْكُبْرَى بِلَفْظِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ يُغْسَلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْجُومِ ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» فِي أَثَرِ عَلِيٍّ هَذَا، مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جِيءَ بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي سُقْنَاهُ بِهِ، وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ نَصْبِ الرَّايَةِ، حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ لِلْأَثَرِ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي سُقْنَاهَا الَّتِي الرَّاوِي فِيهَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَبُو حَصِينٍ فَاقْتِصَارُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَتَرْكُهُ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا لَا وَجْهَ لَهُ.

وَالْأَجْلَحُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، هُوَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُجَيَّةَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ: ابْنُ مُعَاوِيَةَ، يُكَنَّى أَبَا حُجَيَّةَ الْكِنْدِيَّ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ يَحْيَى، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ»: صَدُوقٌ شِيعِيٌّ، وَقَالَ عَنْهُ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ»: قَالَ الْقَطَّانُ: فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَجْلَحُ وَمُجَالِدٌ مُتَقَارِبَانِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى الْأَجْلَحُ غَيْرَ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: مَا أَقْرَبَ الْأَجْلَحَ مِنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ، وَقَالَ مَرَّةً: ثِقَةٌ، وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ لَيْسَ بِذَاكَ، وَكَانَ لَهُ رَأْيُ سُوءٍ، وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: مُفْتَرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ، وَيَرْوِي عَنْهُ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ لَا إِسْنَادًا وَلَا مَتْنًا إِلَّا أَنَّهُ يُعَدُّ فِي شِيعَةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ صَدُوقٌ. وَقَالَ شَرِيكٌ عَنِ الْأَجْلَحِ: سَمِعْنَا أَنَّهُ مَا يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ قَتْلًا أَوْ فَقِيرًا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ صَدُوقٌ.

قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ مَرَّةً: زَكَرِيَّا أَرْفَعُ مِنْهُ بِمِائَةِ دَرَجَةٍ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ضَعِيفًا جِدًّا، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: رَوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ أَحَادِيثَ

مُضْطَرِبَةً لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثِقَةٌ، حَدِيثُهُ لَيِّنٌ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ أَبَا الزُّبَيْرِ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَجْلَحِ الْمَذْكُورِ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ لِهَذَا الْأَثَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ تَعْتَضِدُ بِرِوَايَةِ أَبِي الْحَصِينِ لَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبُو حَصِينٍ الْمَذْكُورُ، هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ حَصِينٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمِيعُ، وَقَالَ فِيهِ فِي «التَّقْرِيبِ»: ثِقَةٌ ثَبْتٌ سُنِّيٌّ وَرُبَّمَا دَلَّسَ، اهـ.

وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَدَاءَةِ الشُّهُودِ وَالْإِمَامِ بِالرَّجْمِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ.

فَاعْلَمْ: أَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِبَدَاءَةِ الشُّهُودِ أَوِ الْإِمَامِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ فَعَلَهُ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَثَرُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الْمَذْكُورُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَعَمِلَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ صَاحِبِ «الْمُغْنِي»، وَصَاحِبِ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي عَلَّلُوا بِهِ الْقَوْلَ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَصْبِ الرَّايَةِ» بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيِّ لِلْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَا نَصُّهُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ سَاقَ مَتْنَ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه، ثُمَّ سَاقَ الْأَثَرَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَاقَ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، اهـ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ بِبَدَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْإِقْرَارِ وَبَدَاءَةِ الشُّهُودِ فِي الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَقْفِ فَهِيَ فَتْوَى وَفِعْلٌ مِنْ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا اسْتَظْهَرْنَا بَدَاءَةَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِمَامِ فِي الرَّجْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْجُومَ إِذَا هَرَبَ فِي أَثْنَاءِ الرَّجْمِ عِنْدَمَا وَجَدَ أَلَمَ الضَّرْبِ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ حَتَّى يُدْرِكُوهُ، فَيَرْجُمُوهُ

لِوُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَابِتًا بِإِقْرَارٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُحْصَنِ: إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا فَشَرَعُوا فِي رَجْمِهِ، ثُمَّ هَرَبَ هَلْ يُتْرَكُ أَمْ يُتْبَعُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا: يُتْرَكُ، وَلَا يُتْبَعُ لِكَيْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ تُرِكَ، وَإِنْ أَعَادَ رُجِمَ.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ يُتْبَعُ وَيُرْجَمُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «: أَلَا تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِي شَأْنِهِ»؟ وَفِي رِوَايَةٍ «: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُلْزِمْهُمْ ذَنْبَهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَقَدْ ثَبَتَ إِقْرَارُهُ فَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يُتْبَعُ فِي هَرَبِهِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ، وَلَمْ نَقُلْ إِنَّهُ سَقَطَ الرَّجْمُ بِمُجَرَّدِ الْهَرَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ هَرَبَ فِي أَثْنَاءِ الرَّجْمِ لَا يُتْبَعُ بَلْ يُمْهَلُ حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ تُرِكَ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى إِقْرَارِهِ رُجِمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا النَّوَوِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبِكْرَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا زَنَا وَجَبَ جَلْدُهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ يُغَرَّبُ سَنَةً مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً أَوْ لَا يُغَرَّبُ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْبِكْرَ يُغَرَّبُ سَنَةً مَعَ الْجَلْدِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَالَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُغَرَّبُ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ عَلَى ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاهِيرُ: يُنْفَى سَنَةً رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوَزْاعِيُّ: لَا نَفْيَ عَلَى النِّسَاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ:

أَحَدُهَا: يُغَرَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَنَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ.

وَالثَّانِي: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِهِ أَوْلَى.

وَالثَّالِثُ: لَا يُغَرَّبُ الْمَمْلُوكُ أَصْلًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ ; لِقَوْلِهِ ﷺ فِي الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ «: فَلْيَجْلِدْهَا»، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّفْيَ، وَلِأَنَّ نَفْيَهُ يَضُرُّ سَيِّدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ حَدِيثِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلنَّفْيِ، وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا، وَحُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى مُوَافَقَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ النَّفْيِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، فَانْظُرْهُ.

وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ: مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ، مُتَّفِقُونَ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي تَغْرِيبِ الْإِنَاثِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ يَقُولُونَ: بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَدِلَّتِهِمْ.

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُغَرَّبُ الْبِكْرُ الزَّانِي سَنَةً، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِيهِمَا وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِرِوَايَةِ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَقْضِيَنَّ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ جَلْدَ ذَلِكَ الزَّانِي الْبِكْرَ مِائَةً وَتَغْرِيبَهُ عَامًا، وَهَذَا أَصَحُّ نَصٍّ وَأَصْرَحُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَفِيهِ «: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ»، وَهُوَ أَيْضًا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا: أَنَّ التَّغْرِيبَ سَنَةً زِيَادَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ فِي الْآيَةِ تُعْتَبَرُ نَسْخًا لِلْآيَةِ فَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَأَحَادِيثُ التَّغْرِيبِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَالْمُتَوَاتِرُ عِنْدَهُمْ لَا يَنْسَخُ بِالْآحَادِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ عَلَى النَّصِّ، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ مُثْبِتَةً شَيْئًا قَدْ نَفَاهُ النَّصُّ أَوْ نَافِيَةً شَيْئًا أَثْبَتَهُ النَّصُّ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ زِيَادَةُ شَيْءٍ سَكَتَ عَنْهُ النَّصُّ السَّابِقُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهِ، وَلَا لِإِثْبَاتِهِ فَالزِّيَادَةُ حِينَئِذٍ إِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْأُصُولِ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ، وَرَفْعُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [٦ \ ١٤٥] .

وَفِي سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي مَبْحَثِ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ; فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، أَنَّهُ غَلَطَ فِيهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ غَلَطًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ جَوَازُ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ ; إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهَا عَنْهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، حَتَّى يُرَجَّحَ الْمُتَوَاتِرُ عَلَى الْآحَادِ، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ مَعَ اخْتِلَافِ زَمَنِ الدَّلِيلَيْنِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ فِي وَقْتِهِ، فَلَوْ قَالَتْ لَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ: إِنَّ أَخَاكَ الْمُسَافِرَ لَمْ يَصِلْ بَيْتَهُ إِلَى الْآنَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ أَخْبَرَكَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ أَنَّ أَخَاكَ وَصَلَ بَيْتَهُ، فَإِنَّ خَبَرَ هَذَا الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِنْ خَبَرِ جَمَاعَةِ الْعُدُولِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ أَخَاكَ وَقْتَ كَوْنِهِمْ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَقْدَمْ، وَبَعْدَ ذَهَابِهِمْ بِزَمَنٍ قَلِيلٍ قَدِمَ أَخُوكَ فَأَخْبَرَكَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِقُدُومِهِ وَهُوَ صَادِقٌ، وَخَبَرُهُ لَمْ يُعَارِضْ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ الْآخَرِينَ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهِمَا كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ ; فَالْمُتَوَاتِرُ فِي وَقْتِهِ قَطْعِيٌّ، وَلَكِنَّ اسْتِمْرَارَ حُكْمِهِ إِلَى الْأَبَدِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ،

فَنَسْخُهُ بِالْآحَادِ إِنَّمَا نَفَى اسْتِمْرَارَ حُكْمِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، كَمَا تَرَى.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ: أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ ﷺ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ سَمَّاهَا فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ، وَتَرَكَهَا، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَ بِكْرًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِائَةً، وَسَأَلَهُ ﷺ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذْ كَذَّبَتْهُ، فَلَمْ يَأْتِ بِهَا ; فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ وَاجِبًا لَمَا أَخَلَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّغْرِيبَ مَعَ الْجَلْدِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَةِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي فِيهَا إِقْسَامُهُ ﷺ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ جَلْدِ الْبِكْرِ، وَنَفْيِهِ سَنَةً قَضَاءٌ مِنْهُ ﷺ بِكِتَابِ اللَّهِ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقْسَمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ بَالِغٌ مِنَ الصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مَا لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ آخَرُ يُعَارَضُ بِهِ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ الْمُبَيِّنُ، وَقَدْ أَقْسَمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: وَخَطَبَ بِذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى رُءُوسِ الْمَنَابِرِ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، اهـ مِنْهُ.

وَذَكَرَ مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى مُتَعَدِّدَةً لِوُجُوبِ التَّغْرِيبِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّغْرِيبِ، وَلَا التَّصْرِيحُ بِعَدَمِهِ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ قَبْلَ حَدِيثِ الْإِقْسَامِ، بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَعَلَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ الْإِقْسَامُ الْمَذْكُورُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْإِقْسَامَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ، فَذَلِكَ التَّصْرِيحُ، بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَ الْإِقْسَامِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ بِمُحْتَمَلٍ ; وَلَوْ تَكَرَّرَتِ الرِّوَايَاتُ بِهِ تَكَرُّرًا كَثِيرًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا كَمَا هُوَ الْحَقُّ، فَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ الَّذِي فِيهِ الْإِقْسَامُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَضَاءٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، لَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. أَمَّا

كَوْنُهُ فِي السَّنَدِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي الْمَتْنِ فَلِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِنَفْيِ التَّغْرِيبِ، وَالصَّرِيحُ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ جَمْعُ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ بِوَجِيهٍ لِاخْتِلَافِ الْأَمَةِ وَالْأَحْرَارِ فِي أَحْكَامِ الْحَدِّ، فَهِيَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَلَوْ مُحْصَنَةً، وَلَا تُرْجَمُ، وَالْأَحْرَارُ بِخِلَافٍ ذَلِكَ، فَأَحْكَامُ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُدُودِ قَدْ تَخْتَلِفُ.

وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» اخْتِلَافَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي حُكْمِ حَدِّ الزِّنَا مِنْ جِهَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، فَعَلَيْهَا الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ عَلَيْهَا نِصْفَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: فَإِذَا أُحْصِنَّ، وَقَوْلَهُ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ، يَظْهَرُ لَكَ مَا ذَكَرْنَا.

وَمِمَّا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ وُجُوبُ تَغْرِيبِ الْبِكْرِ سَنَةً مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً لِصَرَاحَةِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالتَّغْرِيبِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، اخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ سَنَةً لِعُمُومِ أَدِلَّةِ التَّغْرِيبِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا تَغْرِيبَ عَلَى النِّسَاءِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِتَغْرِيبِ النِّسَاءِ فَهِيَ عُمُومُ أَدِلَّةِ التَّغْرِيبِ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ الْأُنْثَى، وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تَغْرِيبَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ، إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ سَفَرُهَا دُونَ مَحْرَمٍ، وَلَا يُكَلَّفُ مَحْرَمُهَا بِالسَّفَرِ مَعَهَا ; لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ يُكَلَّفُ السَّفَرُ بِسَبَبِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ وَفِي تَغْرِيبِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا، وَتَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ إِلَّا

مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، قَالُوا: وَغَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ، أَنَّ عُمُومَ أَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ خَصَّصَتْهُ أَحَادِيثُ نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا إِنْ وُجِدَ لَهَا مَحْرَمٌ مُتَبَرِّعٌ بِالسَّفَرِ مَعَهَا إِلَى مَحَلِّ التَّغْرِيبِ مَعَ كَوْنِ مَحَلِّ التَّغْرِيبِ مَحَلَّ مَأْمَنٍ لَا تَخْشَى فِيهِ فِتْنَةً، مَعَ تَبَرُّعِ الْمَحْرَمِ الْمَذْكُورِ بِالرُّجُوعِ مَعَهَا إِلَى مَحَلِّهَا، بَعْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، فَإِنَّهَا تُغَرَّبُ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا مُتَبَرِّعًا بِالسَّفَرِ مَعَهَا، فَلَا يُجْبَرُ ; لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَا تُكَلَّفُ هِيَ السَّفَرَ بِدُونِ مَحْرَمٍ، لِنَهْيِهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ يُقَدَّمُ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْأَمْرِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ دَرْأَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ.

وَأَظْهَرُ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُغَرَّبُ، لِأَنَّهُ مَالٌ، وَفِي تَغْرِيبِهِ إِضْرَارٌ بِمَالِكِهِ، وَهُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُرْجَمُ، وَلَوْ كَانَ مُحْصَنًا ; لِأَنَّ إِهْلَاكَهُ بِالرَّجْمِ إِضْرَارٌ بِمَالِكِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ﷺ «: إِذَا زَنَتْ أَمَةَ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا» الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَغْرِيبًا، وَقَدْ فَهِمَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله عَدَمَ نَفْيِ الْأَمَةِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِذَا قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ: بَابُ لَا يُثَرَّبُ عَلَى الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَا تُنْفَى.

وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْعَبِيدِ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ نُصُوصِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ، أَوْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لِكَثْرَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ دُخُولُهُمْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُمْ مِنْهُ دَلِيلٌ، وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:

وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرَ ... مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرِ

وَإِخْرَاجُهُمْ هُنَا مِنْ نُصُوصِ التَّغْرِيبِ ; لِأَنَّهُ ﷺ أَمَرَ بِجَلْدِ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ وَبَيْعِهَا، وَلَمْ

يَذْكُرْ تَغْرِيبَهَا، وَلِأَنَّهُمْ مَالٌ، وَفِي تَغْرِيبِهِمْ إِضْرَارٌ بِالْمَالِكِ، وَفِي الْحَدِيثِ «: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّغْرِيبِ مِنْ مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ; لِأَنَّهُ فِيمَا دُونَهَا لَهُ حُكْمُ الْحَاضِرِ بِالْبَلَدِ الَّذِي زَنَى فِيهِ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا عِنْدِي أَنَّ الْمُغَرَّبَ يُسْجَنُ فِي مَحَلِّ تَغْرِيبِهِ ; لِأَنَّ السَّجْنَ عُقُوبَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى التَّغْرِيبِ، فَتَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا زَنَى غُرِّبَ مِنْ مَحَلِّ زِنَاهُ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ غَيْرِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَصَابَ حَدًّا، وَلَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ الْحَدَّ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلَاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ «: أَلَيْسَ صَلَّيْتَ مَعَنَا»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ»، أَوْ قَالَ «: حَدَّكَ»، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ نَحْوُهُ: وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُسَمِّهِ، لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي حُكْمِ رُجُوعِ الزَّانِي الْمُقِرِّ بِالزِّنَى أَوْ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ إِتْمَامِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

أَمَّا الزَّانِي الْمُقِرُّ بِزِنَاهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَوْ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ مِنْ جَلْدٍ أَوْ رَجْمٍ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُدَامَةَ خِلَافَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ ضَعِيفَةٌ.

وَالظَّاهِرُ لَنَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ

الْحَدِّ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُمْ لَمَّا تَبِعُوا مَاعِزًا بَعْدَ هَرَبِهِ «: أَلَا تَرَكْتُمُوهُ؟»، وَفِي رِوَايَةٍ «: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟ فَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ»، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ رُجُوعِهِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ لَهُ حَالَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُمْ، أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِشَهَادَتِهِمْ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُمْ، أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحَدُّ الْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ جَلْدًا، وَقَدْ يَكُونُ رَجْمًا، فَإِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: فَإِنْ رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَعَلَى جَمِيعِهِمُ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ دُونَ الرَّاجِعِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ ; لِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ فَهُوَ كَالتَّائِبِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، فَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلِأَنَّ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ تَمْكِينًا لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي إِيجَابِ الْحَدِّ زَجْرٌ لَهُ عَنِ الرُّجُوعِ خَوْفًا مِنَ الْحَدِّ، فَتَفُوتُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَتَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيَ الْحَدِّ عَنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِرُجُوعِ الرَّاجِعِ، وَمَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا فَلَمْ يُحَدَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَلَنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَدَدُ بِالرُّجُوعِ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَزِمَهُمُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقَوْلُهُمْ: وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ يَبْطُلُ بِمَا إِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ، وَبِالرَّاجِعِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْحَدَّ وَجَبَ، ثُمَّ سَقَطَ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِسُقُوطِهِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مَعَ الْمَصْلَحَةِ فِي رُجُوعِهِ، وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَإِحْيَائِهِ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى التَّلَفِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُمْ إِنْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ حُدُّوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ، فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ.

وَالثَّانِي: يُحَدُّ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ دُونَ مَنْ رَجَعَ.

وَالثَّالِثُ: عَكْسُهُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلَامِهِ.

وَالْأَظْهَرُ: أَنَّهُمْ إِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ أَوِ الْجَلْدِ بِشَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِرُجُوعِ الشُّهُودِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ يُنَفَّذُ عَلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ قَبْلَ التَّنْفِيذِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُفِّذَ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِرُجُوعِهِمْ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ ; لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُعَمِّمُوهُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْقَتْلِ لِعِظَمِ شَأْنِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِشَهَادَةِ بَيِّنَةٍ كَذَّبَتْ أَنْفُسَهَا، فِيمَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ بِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا إِنْ كَانَ رُجُوعُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ لَزِمَتْهُمْ دِيَةُ الْمَرْجُومِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَلْزَمُ الدِّيَةُ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي قَتْلِهِ بِشَهَادَةِ زُورٍ، فَقَتْلُهُمْ بِهِ لَهُ وَجْهٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ أَوْ رُجُوعُ بَعْضِهِمْ بَعْدَ جَلْدِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى بِشَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا سُوءًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَعَمُّدُهُمُ الْكَذِبَ وَجَبَ تَعْزِيرُهُمْ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ رَادِعًا لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعْصِيَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ:

الْأُولَى: تَعَمُّدُهُمْ شَهَادَةَ الزُّورِ.

وَالثَّانِيَةُ: إِضْرَارُهُمْ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ، وَهُوَ أَذًى عَظِيمٌ أَوْقَعُوهُ بِهِ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ: أَنَا قَدَّمَنَا حُكْمَ مَنْ زَنَى بِبَهِيمَةٍ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [١٧ \ ٣٣]، وَقَدَّمْنَا حُكْمَ اللِّوَاطِ وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [١١ \ ٨٣]، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، يَكْفِي لِجَمِيعِ ذَلِكَ حَدٌّ وَاحِدٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ»، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ الْأَمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُحْصَنَةً أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ ; لِأَنَّ

جَلْدُهَا خَمْسِينَ مَعَ الْإِحْصَانِ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَجَلْدُهَا مَعَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا: أَنَّ الْأَمَةَ غَيْرَ الْمُحْصَنَةِ تُجْلَدُ خَمْسِينَ، وَأَلْحَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَبْدَ بِالْأَمَةِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ مُطْلَقًا أُحْصِنَ أَمْ لَا، وَقَدْ تَرَكْنَا الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا لِعَدَمِ اتِّجَاهِهَا عِنْدَنَا مَعَ أَنَّا أَوْضَحْنَاهَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ الْآيَةَ [٤ \ ٢٥]، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا هُنَا مِنْ أَحْكَامِ الزِّنَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا.

وَعَادَتُنَا أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ أَنَّا نَذْكُرُ عُيُونَ مَسَائِلِ ذَلِكَ الْبَابِ وَالْمُهِمَّ مِنْهُ، وَتَبْيِينَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ وَنُنَاقِشُهَا، وَلَا نَسْتَقْصِي جَمِيعَ مَا فِي الْبَابِ ; لِأَنَّ اسْتِقْصَاءَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا هَذَا الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، ذَكَرْنَا هَذَا فِي تَرْجَمَةِ الْكِتَابِ، وَذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الزِّنَى، وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ، قَالُوا: فَلَا يَجُوزُ لِعَفِيفٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَانِيَةً كَعَكْسِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ لَا الْوَطْءُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ هِيَ ذِكْرُ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ مُشْرِكَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [٢ \ ٢٢١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [٦٠ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [٦٠ \ ١٠]، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ لَا يَحِلُّ

لَهَا نِكَاحُ الْمُشْرِكِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [٢ \ ٢٢١]، فَنِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ الزِّنَى، لَا عَقْدُ النِّكَاحِ ; لِعَدَمِ مُلَاءَمَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِذِكْرِ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ نِكَاحَ الزَّانِي لِلْمُشْرِكَةِ، وَالزَّانِيَةِ لِلْمُشْرِكِ مَنْسُوخٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ سُورَةَ «النُّورِ» مَدَنِيَّةٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُحِلَّ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ نُسِخَ، وَالنَّسْخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.


مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ، وَنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ الزَّانِيَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى جَوَازِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤ \ ٢٤] وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ الزَّانِيَةَ وَالْعَفِيفَةَ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ٣٢]، وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ الزَّانِيَةَ أَيْضًا وَالْعَفِيفَةَ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، قَالَ «: غَرِّبْهَا»، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي؟ قَالَ «: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا»، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظٍ قَالَ «: طَلِّقْهَا»، قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ «: فَأَمْسِكْهَا»، اهـ، مِنْ «بُلُوغِ الْمَرَامِ»، وَفِيهِ تَصْرِيحُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَوْضُوعَاتِ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي. . . الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مُرْسَلًا عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ كِلَاهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ عَلَى الْفُجُورِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا ; وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى تَفْرِيطِهَا فِي الْمَالِ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ.

قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، انْتَهَى

مِنْ مَوْضُوعَاتِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَكَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَتَضْعِيفِهِ مَعْرُوفَةٌ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تُكَنِّي بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، عَنْ عَدَمِ الْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَى، يَعْنِي بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلَ الرَّجُلِ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، اهـ، وَمَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ لَفْظَ: لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ أَظْهَرُ فِي عَدَمِ الِامْتِنَاعِ مِمَّنْ أَرَادَ مِنْهَا مَا لَا يَحِلُّ كَمَا لَا يَخْفَى، فَحَمْلُهُ عَلَى تَفْرِيطِهَا فِي الْمَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ اللَّامِسِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، كَمَا تَرَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي ظَهَرَ عَدَمُ عِفَّتِهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ، وَكَلَامُنَا الْآنَ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا فِي الدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقٌ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الْآيَةَ [٢٤ \ ٣] مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي هُوَ الزِّنَى بِعَيْنِهِ، قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَقْبِيحُ الزِّنَى وَشِدَّةُ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُطَاوِعُهُ فِي زِنَاهُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْخِسَّةِ لِكَوْنِهَا مُشْرِكَةً لَا تَرَى حُرْمَةَ الزِّنَى أَوْ زَانِيَةً فَاجِرَةً خَبِيثَةً.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ الزِّنَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، كَعَكْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي ذِكْرِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ٣٢]، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى نَسْخِهَا بِهَا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا نَصُّهُ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا زَانِيَةً، أَوْ مُشْرِكَةً، أَيْ: لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ الزِّنَا إِلَّا زَانِيَةٌ عَاصِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ

لَا تَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ، أَيْ: عَاصٍ بِزِنَاهُ، أَوْ مُشْرِكٌ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ.

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِالنِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالضَّحَّاكِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَتَرَاهُ صَدَّرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ: الْجِمَاعُ، لَا التَّزْوِيجُ، وَذَكَرَ صِحَّتَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ ﷺ اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ، وَعَزَاهُ لِمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَا شَكَّ فِي عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا الْعَقْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ، فَدَعْوَى أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لَا يَصِحُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ، يَرُدُّهُ قَوْلُ الْبَحْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا تَرَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّ النِّكَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْوَطْءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الزَّجَّاجِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَعْنِي الْقَوْلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا الْجِمَاعُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ النِّكَاحَ لَا يُعْرَفُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ النِّكَاحُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [٢ \ ٢٣٠]، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِأَنَّ مَعْنَى نِكَاحِهَا لَهُ مُجَامَعَتُهُ لَهَا، حَيْثُ قَالَ «: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»، وَمُرَادُهُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ: الْجِمَاعُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، يُطْلِقُونَ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ.

والتحقيق: أن النكاح في لغتهم الوطء. قال الجوهري في صحاحه: النكاح الوطء، وقد

وَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ، اهـ، وَإِنَّمَا سَمَّوْا عَقْدَ التَّزْوِيجِ نِكَاحًا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ النِّكَاحِ أَيِ الْوَطْءِ، وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ سَبَبِهِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْقَائِلُونَ بِالْمَجَازِ، الْمَجَازُ الْمُرْسَلُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ

لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ فِي الْبَيْتِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدَ التَّزْوِيجِ، إِذْ لَا يُعْقَدُ عَلَى الْمَسْبِيَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالسَّبْيِ مَعَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ أَيْضًا:

وَبِنْتُ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ ... لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانُ وَعَامِلُهْ

فَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذَا الْبَيْتِ هُوَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا الْعَقْدُ ; كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانُ وَعَامِلُهُ.

وَقَوْلُهُ:

إِذَا سَقَى اللَّهُ قَوْمًا صَوْبَ غَادِيَةٍ ... فَلَا سَقَى اللَّهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ الْمَطَرَا

التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمُ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطَّيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا

وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَ الْبَقَرِ لَيْسَ مَعْنَاهُ التَّزْوِيجَ.

قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّزْوِيجِ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى النِّكَاحِ فِيهَا التَّزْوِيجَ لَوَجَبَ حَدُّ الْمُتَزَوِّجِ بِزَانِيَةٍ ; لَأَنَّهُ زَانٍ، وَالزَّانِي يَجِبُ حَدُّهُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ زَانِيَةً لَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى، وَلَوْ كَانَ زَانِيًا لَحُدَّ حَدَّ الزِّنَى، فَافْهَمْ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَجِ مَنْ قَالُوا إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ الْوَطْءُ، وَأَنَّ تَزْوِيجَ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، كَعَكْسِهِ.


وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الزَّانِي لِعَفِيفَةٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ.

فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [٢٤ \ ٣] قَالُوا: الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّزْوِيجُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى

تَحْرِيمِهِ فِي قَوْلِهِ: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَزْوِيجِ الزَّانِي بِغَيْرِ الزَّانِيَةِ، أَوِ الْمُشْرِكَةِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِي الْعَفِيفَةَ، كَعَكْسِهِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ [٥ \ ٥] قَالُوا: فَقَوْلُهُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أَيْ: أَعِفَّاءَ غَيْرَ زُنَاةٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسَافِحِ الَّذِي هُوَ الزَّانِي لِمُحْصَنَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَلَا مُحْصَنَةٍ عَفِيفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [٤ \ ٢٥]، فَقَوْلُهُ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ، أَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ مُسَافِحَاتٍ غَيْرَ مُحْصَنَاتٍ، لَمَا جَازَ تَزَوُّجُهُنَّ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الْآيَةَ، كُلَّهَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الْوَطْءِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يُؤَيِّدُ صِحَّةَ مَا قَالُوا فِي الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ فِيهَا التَّزْوِيجُ، وَأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إِلَّا زَانِيَةً مِثْلَهُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «: الزَّانِي الْمَجْلُودُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا مِثْلَهُ»، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ:

فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَهْزُولٍ، كَانَتْ تُسَافِحُ، وَتَشْتَرِطُ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ ﷺ أَوْ ذَكَرَ لَهُ أَمْرَهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَقَدْ عَزَاهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى لِأَحْمَدَ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ.

وَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَحْمِلُ الْأُسَارَى بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ صَدِيقَتَهُ، قَالَ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، فَنَزَلَتْ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَدَعَانِي فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، وَقَالَ «: لَا تَنْكِحْهَا»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي كَلَامِهِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى، وَعَزَاهُ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنِّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيَّ: وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسَاقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَا بِأَسَانِيدِهَا، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ سُنَنِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ بِهِ.

قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً أَنَّهُ التَّزْوِيجُ لَا الْوَطْءُ، وَصُورَةُ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ; كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، قَالُوا: وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّزْوِيجُ، فَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي مَنْصُوصٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «زَادِ الْمَعَادِ» مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا نِكَاحُ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بِتَحْرِيمِهِ فِي سُورَةِ «النُّورِ» وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَكَحَهَا فَهُوَ إِمَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ حُكْمَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَعْتَقِدَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنِ الْتَزَمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ، وَخَالَفَهُ فَهُوَ زَانٍ، ثُمَّ صَرَّحَ بِتَحْرِيمِهِ، فَقَالَ: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [٢٤ \ ٣٢] مِنْ أَضْعَفِ مَا يُقَالُ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ حَمْلُ النِّكَاحِ عَلَى الزِّنَى.

إِذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ: الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ بَغِيٍّ مُشْرِكَةٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ لَفْظِهَا وَسِيَاقِهَا، كَيْفَ وَهُوَ سُبْحَانُهُ إِنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ بِشَرْطِ الْإِحْصَانِ، وَهُوَ الْعِفَّةُ، فَقَالَ:

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [٤ \ ٢٥]، فَإِنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَيُقْتَصَرُ فِي إِبَاحَتِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَمَا عَدَاهُ فَعَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ.

وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا هِيَ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِمَنْعِ تَزْوِيجِ الزَّانِي الْعَفِيفَةَ كَعَكْسِهِ، وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي، فَهَذِهِ مُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ.

أَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ: إِنَّ حَمْلَ الزِّنَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ كِتَابُ اللَّهِ، فَيَرُدُّهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبِمَعَانِي الْقُرْآنِ صَحَّ عَنْهُ حَمْلُ الزِّنَى فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ كِتَابُ اللَّهِ لَصَانَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْ مِثْلِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلزِّنَى فِي الْآيَةِ بِالْوَطْءِ: هُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ.

وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ: فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ يُقَالُ فِيهِ: نَعَمْ هُوَ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِكَ جَوَازُ ذَلِكَ، وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَيَبْقَى إِشْكَالُ ذِكْرِ الْمُشْرِكِ وَالْمُشْرِكَةِ وَارِدًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْآيَةِ التَّزْوِيجُ، كَمَا تَرَى.

وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ هَذَا: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّ الْأَبْضَاعَ فِي الْأَصْلِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَيُقْتَصَرُ فِي إِبَاحَتِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَمَا عَدَاهُ فَعَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ تَزْوِيجَ الزَّانِيَةِ وَرَدَتْ نُصُوصٌ عَامَّةٌ تَقْتَضِي جَوَازَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [٤ \ ٢٥] وَهُوَ شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِلزَّانِيَةِ وَالْعَفِيفَةِ وَالزَّانِي وَالْعَفِيفِ، وَقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [٢٤ \ ٣٢] فَهُوَ أَيْضًا شَامِلٌ بِعُمُومِهِ لِجَمِيعِ مَنْ ذُكِرَ، وَلِذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ آيَةَ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى الْآيَةَ، نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ سَعِيدٌ مِنْ نَسْخِهَا بِهَا.

وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَّضِحُ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ

الْبَحْثِ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا ; لِأَنَّ الْعُمُومَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مَنْطُوقًا كَانَ أَوْ مَفْهُومًا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ بِأَنَّ آيَةَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ فَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ هُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، وَأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ نُزُولُهُ عَنْهُ أَوْ تَأَخَّرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَةَ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ آيَةِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً فَالْقَوْلُ بِنَسْخِهَا لَهَا مَمْنُوعٌ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيِّ بِالنَّسْخِ بِأَنَّهُمَا فَهِمَاهُ مِنْ قَرِينَةٍ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الْأَيَامَى الْأَحْرَارَ بِالصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصَّلَاحِ فِي أَيَامَى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَلِذَا قَالَ بَعْدَ الْآيَةِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [٢٤ \ ٣٢] .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَصْعَبِ الْآيَاتِ تَحْقِيقًا; لِأَنَّ حَمْلَ النِّكَاحِ فِيهَا عَلَى التَّزْوِيجِ، لَا يُلَائِمُ ذِكْرَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ، وَحَمْلَ النِّكَاحِ فِيهَا عَلَى الْوَطْءِ لَا يُلَائِمُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا تُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي الْآيَةِ: التَّزْوِيجُ، وَلَا أَعْلَمُ مَخْرَجًا وَاضِحًا مِنَ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَعَ بَعْضِ تَعَسُّفٍ، وَهُوَ أَنَّ أَصَحَّ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا حَرَّرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَعَزَاهُ لِأَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ جَوَازُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: عَدَا اللُّصُوصُ الْبَارِحَةَ عَلَى عَيْنِ زَيْدٍ، وَتَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ عَوَّرُوا عَيْنَهُ الْبَاصِرَةَ وَغَوَّرُوا عَيْنَهُ الْجَارِيَةَ، وَسَرَقُوا عَيْنَهُ الَّتِي هِيَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا، مَجَازٌ فِي الْآخَرِ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا، وَإِذَا جَازَ حَمْلُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، فَيُحْمَلُ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى التَّزْوِيجِ مَعًا، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ عَلَى تَفْسِيرِ النِّكَاحِ بِالْوَطْءِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهَذَا هُوَ نَوْعُ التَّعَسُّفِ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ، وَالْمَانِعُونَ لِذَلِكَ أَقَلُّ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا عَفِيفَةً، ثُمَّ زَنَتْ وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ أَنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ نِكَاحٌ لَا يُفْسَخُ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الدَّوَامُ عَلَى نِكَاحِهَا، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا بَعْضُ مَنْ مَنَعَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ مُفَرِّقًا بَيْنَ الدَّوَامِ عَلَى نِكَاحِهَا، وَبَيْنَ ابْتِدَائِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ، ثُمَّ قَالَ «: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» .

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ هَذَا: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْمَذْكُورِ: وَحَدِيثُهُ فِي الْخُطْبَةِ صَحِيحٌ، اهـ، وَحَدِيثُهُ فِي الْخُطْبَةِ هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ وَوَعَظَ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ وَالْوَعْظُ هُوَ الْخُطْبَةُ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا الَّذِي فِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ «: طَلِّقْهَا»، فَقَالَ: نَفْسِي تَتْبَعُهَا، فَقَالَ «: أَمْسِكْهَا»، وَبَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي سَنَدِهِ، وَأَنَّهُ فِي الدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، لَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ زَنَتْ زَوْجَتُهُ فُسِخَ نِكَاحُهَا وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْفَرْعُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ مِنَ الزِّنَا قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا بَلْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ نِكَاحَ الرَّجُلِ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ سَقْيُ الزَّرْعِ بِمَاءِ الْغَيْرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [٦٥ \ ٤]، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ حَامِلٍ

حَتَّى يَنْتَهِيَ أَجْلُ عِدَّتِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِأَنَّ الْحَوَامِلَ أَجُلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْعُمُومِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي أَنَّ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ إِنْ تَابَا مِنَ الزِّنَا وَنَدِمَا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمَا وَنَوَيَا أَنْ لَا يَعُوَدَا إِلَى الذَّنْبِ، فَإِنَّ نِكَاحَهُمَا جَائِزٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا بَعْدَ تَوْبَتِهِمَا، وَيَجُوزَ نِكَاحُ غَيْرِهِمَا لَهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [٢٥ \ ٦٨ - ٧٠]، فَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِينَ يَزْنُونَ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا، وَعَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الزِّنَا تُذْهِبُ أَثَرَهُ، فَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مَنْ زَنَا بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ مُطْلَقًا، وَلَوْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَقَوْلُهُمْ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ بِجَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِمَنْ زَنَى بِهَا إِنْ تَابَا، وَضَرَبَ لَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مَثَلًا بِرَجُلٍ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ بُسْتَانِ رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَى الْبُسْتَانَ فَالَّذِي سَرَقَهُ مِنْهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَالَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَلَالٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَا نَالَ مِنَ الْمَرْأَةِ حَرَامًا فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَمَا نَالَ مِنْهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالتَّزْوِيجِ حَلَالٌ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ رَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِآيَةِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [٢٥ \ ٦٨]، قَائِلًا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَا فِي الْمُسْلِمِينَ، يَرُدُّ قَوْلَهُ: إِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ، لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُ الزَّانِيَةِ الْعَفِيفُ دَيُّوثًا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُهَا لِيَحْفَظَهَا، وَيَحْرُسَهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنَ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَنْعًا بَاتًّا بِأَنْ يُرَاقِبَهَا دَائِمًا، وَإِذَا خَرَجَ تَرَكَ الْأَبْوَابَ مُقْفَلَةً دُونَهَا، وَأَوْصَى بِهَا مَنْ يَحْرُسُهَا بَعْدَهُ فَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، مَعَ شِدَّةِ الْغَيْرَةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنَ الرِّيبَةِ، وَإِنْ جَرَى مِنْهَا شَيْءٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ فِي صِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ دَيُّوثًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ كَعَكْسِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا بِمَنْعِ ذَلِكَ.

وَالْأَظْهَرُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا عَفِيفَةً صَيِّنَةً، لِلْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالْأَحَادِيثِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَرْمُونَ مَعْنَاهُ: يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا صَرِيحًا أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا كَنَفْيِ نَسَبِ وَلَدِ الْمُحْصَنَةِ عَنْ أَبِيهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ كَانَ مِنْ زِنًى، وَهَذَا الْقَذْفُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ:

الْأَوَّلُ: جَلْدُ الْقَاذِفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

وَالثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ.

وَالثَّالِثُ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَى، أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقَذْفِ يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَّا الزِّنَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى أَجْرَى أَحْكَامَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اللَّائِطِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحْكَامَ اللَّائِطِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «هُودٍ»، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ.

الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ ذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فَذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، يَدُلُّ عَلَى إِحْصَانِهِنَّ، أَيْ: عِفَّتِهِنَّ عَنِ الزِّنَى، وَأَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَهُنَّ إِنَّمَا يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلْنَا لَهَا كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٢٤]، فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي

تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ كَوْنُهُنَّ عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ; كَقَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [٤ \ ٢٤]، أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أَيِ: الْعَفَائِفَ، وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْعَفَائِفِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

فَلَا تَأْمَنَنَّ الْحَيَّ قَيْسًا فَإِنَّهُمْ ... بَنُو مُحْصَنَاتٍ لَمْ تُدَنَّسْ حُجُورُهَا

وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ عَلَى رَمْيِ الشَّخْصِ لِآخَرَ بِلِسَانِهِ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

فَقَوْلُهُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ يَعْنِي: أَنَّهُ رَمَاهُ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَفِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

الْجِهَةُ الْأُولَى: هِيَ الْقَرِينَتَانِ الْقُرْآنِيَّتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى، أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا.

الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي شُمُولِهِ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَى خَارِجٌ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ الشُّهَدَاءُ تَلَاعَنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ٦] .

وَمَضْمُونُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرَ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهَا فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَلْدُ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، تَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ

عَلَيَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ.

الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ عُقُوبَةِ مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [٢٤ \ ٢٣ - ٢٥]، وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ كَوْنَهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ غَافِلَاتٍ لِإِيضَاحِ صِفَاتِهِنَّ الْكَرِيمَةَ.

وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِلْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِنَّ غَافِلَاتٍ ثَنَاءٌ عَلَيْهِنَّ بِأَنَّهُنَّ سَلِيمَاتُ الصُّدُورِ نَقِيَّاتُ الْقُلُوبِ لَا تَخْطُرُ الرِّيبَةُ فِي قُلُوبِهِنَّ لِحُسْنِ سَرَائِرِهِنَّ، لَيْسَ فِيهِنَّ دَهَاءٌ وَلَا مَكْرٌ ; لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُجَرِّبْنَ الْأَمْرَ فَلَا يَفْطُنَّ لِمَا تَفْطُنُ لَهُ الْمُجَرِّبَاتُ ذَوَاتُ الْمَكْرِ وَالدَّهَاءِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سَلَامَةِ الصُّدُورِ وَصَفَائِهَا مِنَ الرِّيبَةِ مِنْ أَحْسَنِ الثَّنَاءِ، وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى الْمُتَّصِفَاتِ بِهِ اسْمَ الْبُلْهِ مَدْحًا لَهَا لَا ذَمًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ رضي الله عنه:

نُفُجُ الْحَقِيبَةِ بُوصُهَا مُتَنَضِّدٌ ... بَلْهَاءُ غَيْرُ وَشِيكَةِ الْأَقْسَامِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ ... بِلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

عَهِدْتُ بِهَا هِنْدًا وَهِنْدٌ غَرِيرَةٌ ... عَنِ الْفُحْشِ بَلْهَاءُ الْعِشَاءِ نَئُومُ

رَدَاحُ الضُّحَى مَيَّالَةٌ بَخْتَرِيَّةٌ ... لَهَا مَنْطِقٌ يُصْبِي الْحَلِيمَ رَخِيمُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٢٤ \ ٢٣ - ٢٤]، مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا، فَإِنْ تَابُوا وَأَصْلَحُوا، لَمْ يَنَلْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ.

وَعُمُومَاتُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا

تَقَبَّلَهَا مِنْهُ، وَكَفَّرَ عَنْهُ ذَنْبَهُ وَلَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آيَةَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا التَّوْبَةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَامَّةٌ، وَأَنَّ آيَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢٣]، خَاصَّةً بِالَّذِينِ رَمَوْا عَائِشَةَ رضي الله عنها أَوْ غَيْرَهَا مِنْ خُصُوصِ أَزْوَاجِهِ ﷺ وَأَنَّ مَنْ رَمَاهُنَّ لَا تَوْبَةَ لَهُ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَصَّتْ عَلَى قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قَذْفَ الذُّكُورِ لِلذُّكُورِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلْإِنَاثِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلذُّكُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، مِنْ قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ ; لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْجَمِيعِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا وَإِبْطَالَ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فِيهِ، مَعَ إِيضَاحِ كَثِيرٍ مِنْ نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ»، فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [٢١ \ ٧٨] .


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَنَّهُ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ يُخَصِّصُهُ بِبَعْضِهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:

وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ ... مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَا فَكُلًّا يَقْفُو

دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ ... وَالْحَقُّ الِافْتِرَاقُ دُونَ الْجَمْعِ

وَلِذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبَنِي زُهْرَةَ، وَبَنِي تَمِيمٍ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَقْفِ الْفَاسِقَ مِنَ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجَمِيعِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِهِ لِلْأَخِيرَةِ، فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاسِقُ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا لِجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ الْفِسْقُ، وَلَا يَقُولُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً

أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لَا تُقْبَلُ أَبَدًا، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَمِمَّنْ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَلَا يَرْجِعُ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِالتَّوْبَةِ.

فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي بَعْدَ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ الْوَقْفُ، وَلَا يُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [٤ \ ٥٩] .

وَإِذَا رَدَدْنَا النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى اللَّهِ وَجَدْنَا الْقُرْآنَ دَالًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأُولَى، وَبَعْضَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأَخِيرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ لِمَا قَبْلَهُ لَيْسَ شَيْئًا مُطَّرِدًا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [٤ \ ٩٢]، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعٌ لِلدِّيَةِ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا تَسْقُطُ

بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّهَا بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحَقِّي الدِّيَةِ بِهَا لَا يُسْقِطُ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ آيَةُ «النُّورِ» هَذِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [٤ \ ٨٩ - ٩٠]، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ إِلَيْهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [٤ \ ٨٩]، إِذْ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلِ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [٤ \ ٨٩]، أَيْ: فَخُذُوهُمْ بِالْأَسْرِ، وَاقْتُلُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُمْ بِأَسْرٍ، وَلَا قَتْلُهُمْ ; لِأَنَّ الْمِيثَاقَ الْكَائِنَ لِمَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ يَمْنَعُ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ كَمَا اشْتَرَطَهُ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ فِي صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَفِي بَنِي جُذَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَقْرَبِ الْجُمَلِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْإِعْجَازِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ رُجُوعُهُ لِلْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِنْ تَجَرَّدَ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ، كَانَ ظَاهِرًا فِي رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ.

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهُ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ إِنْسَانًا بِغَيْرِ الزِّنَى أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا آكِلَ الرِّبَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّبِّ يَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ، وَذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ رَادِعًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ قَدْرَ الْحَدِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرَاهُ رَادِعًا مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ كَحَدِّ الزِّنَى، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، وَقَالَ الْآخَرُونَ: فَهِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَخَفَّ فِيمَنْ قَلَّتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْحَشَ فِيمَنْ عَظُمَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَجَبَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى عَرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَوْ كَانَ يَخْتَلِفُ لَذُكِرَ، كَمَا فِي الزِّنَى.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَبِهِ أَقُولُ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا جُلِدَ ثَمَانِينَ لَا أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا جَلْدَهُ ثَمَانِينَ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَشْطِيرِ الْحَدِّ عَنِ الْأَمَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَأَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِهَا الْعَبْدَ بِجَامِعِ الرِّقِّ، وَالزِّنَى غَيْرُ الْقَذْفِ.

أَمَّا الْقَذْفُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فِي خُصُوصِهِ.

وَأَمَّا قِيَاسُ الْقَذْفِ عَلَى الزِّنَى فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَالرَّدْعُ عَنِ الْأَعْرَاضِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَيُرْدَعُ الْعَبْدُ كَمَا يُرْدَعُ الْحُرُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي الْآيَةَ [٥ \ ٣٢]، أَنَّ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ عَبْدًا لَا يُحَدُّ لَهُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي

الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «: مَنْ قَذَفَ عَبْدَهُ بِالزِّنَى أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» اهـ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ وَاسْتِوَاءِ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَكَافَأَ النَّاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُرْمَةِ، وَاقْتُصَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَظْلُومُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ فِي قَذْفِهِ لَهُ بِالزِّنَى، كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَأَمَّا إِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَكَانَ تَعْرِيضُهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْقَرَائِنِ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَذْفَهُ ; كَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، أَوْ مَا أَنْتَ بِزَانٍ مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ بِالزِّنَى، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَلْزَمُ الْقَذْفُ بِالتَّعْرِيضِ الْمُفْهِمِ لِلْقَذْفِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، أَوْ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْقَذْفِ تَصْرِيحًا وَاضِحًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْقَذْفِ، إِلَّا أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [٢ \ ٢٣٥]، فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ التَّصْرِيحِ لِلْمُعْتَدَّةِ وَالتَّعْرِيضِ، قَالُوا: وَلَمْ يُفَرِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، إِلَّا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَلَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا فِي الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِنَفْيِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا قَذْفًا، وَلَمْ يَدْعُهُمَا لِلِعَانٍ بَلْ قَالَ لِلرَّجُلِ «: أَلَكَ إِبِلٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: فَمَا أَلْوَانُهَا»؟

قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ»؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَهَا ذَلِكَ»؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ»، قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّعْرِيضَ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ الْقَذْفِ، وَكُلُّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالُوا بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالتَّصْرِيحِ بِالْقَذْفِ.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، يَعْنِي الْمُعَرِّضَ بِالْقَذْفِ، قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، اهـ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ: هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، إِنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [١١ \ ٨٧]، أَيِ: السَّفِيهُ الضَّالُّ، فَعَرَضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «هُودٍ»، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [٤٤ \ ٤٩]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الَّذِينَ قَذَفُوا مَرْيَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [١٩ \ ٢٨]، فَمَدَحُوا أَبَاهَا، وَنَفَوْا عَنْ أُمِّهَا الْبِغَاءَ، أَيِ: الزِّنَى وَعَرَّضُوا لِمَرْيَمَ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [٤ \ ١٥٦]، وَكُفْرُهُمْ مَعْرُوفٌ وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ هُوَ التَّعْرِيضُ لَهَا، أَيْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أَيْ: أَنْتِ بِخِلَافِهِمَا وَقَدْ أَتَيْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [٣٤ \ ٢٤]، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْهُدَى، فَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ مَا يُفْهَمُ مِنْ صَرِيحِهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ مَعَ تَصَرُّفٍ قَلِيلٍ لِإِيضَاحِ الْمُرَادِ.

وَحَاصِلُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ: أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ آيَاتٍ قُرْآنِيَّةً، وَبَيَّنَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا رَأَيْتَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَعَرَّةَ اللَّاحِقَةَ

لِلْمَقْذُوفِ صَرِيحًا تَلْحَقُهُ بِالتَّعْرِيضِ لَهُ بِالْقَذْفِ، وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى الْفَهْمِ، وَالتَّعْرِيضُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالصَّرِيحِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بَعْضُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ وَجَلَدَهُ الْحَدَّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ: أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَى أُمِّهِ، وَالْوَذْرُ: غُدَرُ اللَّحْمِ يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ، وَانْظُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَاتِهَا، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إِلَى الْقَذْفِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ، يَعْنِي بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رضي الله عنه الْحُطَيْئَةَ، لَمَّا قَالَ:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَوْنَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ أَوِ النَّجَاشِيِّ:

قُبَيِّلَةٌ لَا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْهِجَاءَ حَمَلَهُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَالَ: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ بَعْدَ ذَلِكَ:

وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً ... إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلِ

قَالَ عُمَرُ أَيْضًا: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، فَظَاهِرُ هَذَا الشِّعْرِ يُشْبِهُ الْمَدْحَ، وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ عُمَرَ تَمَنَّى مَا فِيهِ مِنَ الْهِجَاءِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَدْحٌ وَصَاحِبُهُ يُرِيدُ الذَّمَّ بِلَا

نِزَاعٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ شِعْرِهِ وَآخِرُهُ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَبْيَاتِ قَوْلُهُ:

إِذَا اللَّهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَذِلَّةٍ ... فَعَادَى بَنِي الْعَجْلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ

قُبَيِّلَةٌ لَا يُخْفَرُونَ ... . . . . . . الْبَيْتَ

وَفِي آخِرِ شِعْرِهِ:

وَمَا سُمِّيَ الْعَجْلَانُ إِلَّا لِقَوْلِهِ ... خُذِ الْقَعْبَ وَاحْلِبْ أَيُّهَا الْعَبْدُ وَاعْجَلِ

وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا

يَهْجُو بِهِ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي قَالُوهُ عَلَى مَرْيَمَ: هُوَ تَعْرِيضُهُمْ لَهَا بِقَوْلِهِمْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ الْآيَةَ [١٩ \ ٢٨]، لَا يَتَعَيَّنُ بِانْفِرَادِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْفَاحِشَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [١٩ \ ٢٧]، فَقَوْلُهُمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا فِي وَقْتِ مَجِيئِهَا بِالْوَلَدِ تَحْمِلُهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِرَادَتِهِمْ قَذْفَهَا، كَمَا تَرَى، وَالْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ الْحَدَّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، قَالَ فِيهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَذْرَةُ بِالتَّسْكِينِ الْغَدْرَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ إِذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ قَذْفٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَسَابُّ بِهَا، كَمَا كَانَتْ تَتَسَابُّ بِقَوْلِهِمْ: يَا ابْنَ مُلْقِي أَرْحُلِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ وَذْرٌ مِثْلُ: تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، اهـ مِنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ.

وَالشَّامَّةُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُ فَاعِلِ شَمَّهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ»: وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، فَحَدَّهُ، وَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْعَرَبِ وَذَمِّهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ يَا ابْنَ شَامَّةِ الْمَذَاكِيرِ يَعْنُونَ الزِّنَا، كَأَنَّهَا كَانَتْ تَشُمُّ كَمَرًا مُخْتَلِفَةً فَكَنَّى عَنْهُ، وَالذَّكَرُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَا الْقُلُفَ جَمْعَ قُلْفَةِ الذَّكَرِ ; لِأَنَّهَا تُقْطَعُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «لِسَانِ الْعَرَبِ»، وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ مِنْهُ قَصْدُ الزِّنَا وَلَمْ أَرَ مَنْ

أَوْضَحَ مَعْنَى شَامَّةِ الْوَذْرِ إِيضَاحًا شَافِيًا ; لِأَنَّ شَمَّ كَمَرِ الرِّجَالِ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَعْهُودِ الْوَاضِحِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ قَائِلَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ يُشَبِّهُ مَنْ عَرَّضَ لَهَا بِالزِّنَا بِسِفَادِ الْحَيَوَانَاتِ ; لِأَنَّ الذَّكَرَ مِنْ غَالِبِ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا أَرَادَ سِفَادَ الْأُنْثَى شَمَّ فَرْجَهَا، وَاسْتَنْشَقَ رِيحَهُ اسْتِنْشَاقًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزُو عَلَيْهَا فَيُسَافِدُهَا فَكَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشُمُّ ذَكَرَ الرَّجُلِ كَمَا يَشُمُّ الْفَحْلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فَرْجَ أُنْثَاهُ، وَشَمُّهَا لِمَذَاكِيرِ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْمُوَاقَعَةِ، فَكَنَّوْا عَنِ الْمُوَاقَعَةِ بِشَمِّ الْمَذَاكِيرِ، وَعَبَّرُوا عَنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ بِالْوَذْرَةِ ; لِأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ كَقِطْعَةِ اللَّحْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا كَثْرَةَ مُلَابَسَتِهَا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا تَشُمُّ رِيحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُجَجَهُمْ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، هَلْ يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَلْزَمُ بِهِ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ التَّعْرِيضَ إِذَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى الْقَذْفِ فَهْمًا وَاضِحًا مِنَ الْقَرَائِنِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُحَدُّ ; لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عِرْضِ الْمُسْلِمِ تَتَحَقَّقُ بِكُلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَهْمًا وَاضِحًا، وَلِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بَعْضُ النَّاسِ لِقَذْفِ بَعْضِهِمْ بِأَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيرِ الْمُعَرِّضِ بِالْقَذْفِ لِلْأَذَى الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ جُلِدَ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا، وَلَا لَقِيتُهُ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، انْتَهَى مِنْهُ.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، أَنَّ الْمُصَدِّقَ قَاذِفٌ فَتَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ لِلْقَاذِفِ قَذْفٌ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَلَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي فَلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْتَ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَوْ صَدَّقَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَطَاءٌ، وَنَحْوُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِزِنَاهُ، اهـ مِنْهُ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَلَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ حَكَى عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنْكَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ رَجُلًا وَأَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ قَاذِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَى، وَلَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى زَنَا الْمَقْذُوفُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْ قَاذِفِهِ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِزِنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْحَدِّ لِلْقَاذِفِ; لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ، فَلَا يُحَدُّ لِغَيْرِ عَفِيفٍ؛ اعْتِبَارًا بِالْحَالَةِ الَّتِي يُرَادُ أَنْ يُقَامَ فِيهَا الْحَدُّ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ.

وَهَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحَدُّ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي»: وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَجَبَ وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطِ الْوُجُوبِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَلَا يُحَدُّ لِمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّ عَدَمَ عِفَّتِهِ كَانَ مَسْتُورًا، ثُمَّ ظَهَرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مَنْ وطِئَ بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، وَلَا يُحَدُّ قَائِلُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفِعْلٍ لَا يُعَدَّ زِنًا إِجْمَاعًا، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ زَاعِمًا أَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ زِنَا الْمَقْذُوفِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ شَرْعًا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ بِذَلِكَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، لِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اعْتُبِرَ فِي حَدِّهِ حَدَّ الْقَذْفِ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَوْ طَلَبَ ثُمَّ عَفَا عَنِ الْحَدِّ سَقَطَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ ; لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ بِاسْتِيفَائِهِ فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا الطَّلَبُ بِاسْتِيفَائِهَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَسْرُوقِ لَا بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ، وَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي»، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ فِيهِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُمَا؟

الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

وَالثَّالِثُ: قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَلَغَ الْإِمَامَ أَقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمَقْذُوفُ، وَنَفَعَتِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَشَطَّرُ فِيهِ الْحَدُّ بِالرِّقِّ كَالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَلَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ وَلَمْ تَنْفَعِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ حَتَّى يُحَلِّلَهُ الْمَقْذُوفُ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِعَفْوِ

الْمَقْذُوفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ، فَإِنْ بَلَغَ الْإِمَامَ، فَلَا يُسْقِطُهُ عَفْوُهُ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْعَفْوِ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَذْفَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَكُلُّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ.

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلِدَفْعِ مَعَرَّةِ الْقَذْفِ عَنْهُ، فَإِذَا تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ انْتَهَكَ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ حَقًّا بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ عِرْضِهِ، وَانْتَهَكَ أَيْضًا حُرْمَةَ نَهْيِ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِ فِي عِرْضِ مُسْلِمٍ، فَكَانَ لِلَّهِ حَقٌّ عَلَى الْقَاذِفِ بِانْتِهَاكِهِ حُرْمَةَ نَهْيِهِ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ، فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَتِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، أَوْ بِالتَّحَلُّلِ مِنْهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا عَفَا وَسَقَطَ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرَ الْقَاذِفِ لِحَقِّ اللَّهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ.


الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّانِي بِالزِّنَا وَلَكِنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُعَدَّلُوا، فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ يَرَيَانِ أَلَّا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالنُّعْمَانُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَكَانَ أَحَدُهُمْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا يُجْلَدُونَ جَمِيعًا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي أَرْبَعَةِ عِمْيَانٍ يَشْهَدُونَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى: يُضْرَبُونَ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ، وَقَدْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الزِّنَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُغَرَّمُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ قَالَ عَمَدْتُ لِيُقْتَلَ، فَالْأَوْلِيَاءُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَأَخَذُوا رُبْعَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُقْتَلُ وَعَلَى الْآخَرِينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ أَخْطَأْتُ وَأَرَدْتُ غَيْرَهُ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ قَالَ تَعَمَّدْتُ قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهُ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُدُّوا كُلُّهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِمَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ، كَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُقْتَلَ

يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى شُبْهَةً فِي رُجُوعِهِ يُغَرَّمُ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُغَرَّمُ الدِّيَةَ كَامِلَةً لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَحْسَبُهُ عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ الْوَلَدِ حُدَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، انْتَهَى مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا حَدُّهُ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَعِتْقِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِ مَسْتَوْلِدِهَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ حُرِّيَّتُهَا بِالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ بَيْعَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَاذِفُ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا حُرِّيَّةً كَامِلَةً فِيمَا يَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَظُنُّهُ عَبْدًا، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ قَذْفَ حُرٍّ، وَإِنَّمَا نَوَى قَذْفَ عَبْدٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ تَزُولُ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِقَوْلِ الْقَاذِفِ: مَا قَصَدْتُ قَذْفَكَ وَلَا أَقُولُ: إِنَّكَ زَانٍ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ بِذَلِكَ مَنْ كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ عَبْدًا فَأَنْتَ عَفِيفٌ فِي نَظَرِي، وَلَا أَقُولُ فِيكَ إِلَّا خَيْرًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» ٠

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»، فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إِذَا طَالَبُوا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ: طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لَهُ حَدٌّ كَامِلٌ ; كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ; وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى

الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ.

وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي قَذْفِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفِينَ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ جُمْلَةً حُدَّ لَهُمْ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ أُقِيمَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ بِهِ اسْتَوْفَى، وَسَقَطَ فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ الطَّلَبُ بِهِ كَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلِيَائِهَا فِي تَزْوِيجِهَا، إِذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ فَلِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ; لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ طَلَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقَمْ حَتَّى طَلَبَهُ الْكُلُّ فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ فَأُقِيمَ لَهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ آخَرُ أُقِيمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَلَبِهِ، وَقَعَ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَمِيعِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَاقِينَ بِغَيْرِ اسْتِيفَائِهِمْ (فِي) إِسْقَاطِهِمْ، وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ حَمَّادٌ وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ كَفَى حَدٌّ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ زَنَى بِنِسَاءٍ، أَوْ شَرِبَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُسْكِرِ، وَلَنَا أَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ قَالَا: وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزَنَيْاتٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدًّا ثَانِيًا، وَهَذَا يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ أَعَادَ قَذْفَهُ فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبُرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يُثْبِتْ فَأَمَرَ بِجِلْدِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عِنْدَكَ يَشْهَدُ رَجْمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلَا يُعَادُ فِيهِ فِرْيَةُ جَلْدٍ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، قَالَ: كَأَنَّهُ جَعَلَ

شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنْتُ أَنَا أُفَسِّرُهُ عَلَى هَذَا حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَعْجَبَنِي، ثُمَّ قَالَ يَقُولُ: إِذَا جَلَدْتَهُ ثَانِيَةً فَكَأَنَّكَ جَعَلْتَهُ شَاهِدًا آخَرَ، فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ وَقَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ عُقَيْبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: يُحَدُّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ لِمَرَّةٍ فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي»، وَقَدْ رَأَيْتُ نَقْلَهُ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسَائِلُ لَمْ نَعْلَمْ فِيهَا نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَتَزُولُ بِهِ الْمَعَرَّةُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَيَحْصُلُ شِفَاءُ الْغَيْظِ بِحَدِّهِ لِلْجَمِيعِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ رَمَى جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ أَنَّهُ يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، بِعَدَدِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَذَفَ بِهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُسْتَقِلًّا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَحَدُّهُ لِبَعْضِهِمْ لَا يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الثَّانِي الَّذِي قَذَفَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا تَزُولُ بِهِ عَنْهُ الْمَعَرَّةُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ قَذْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذْفًا مُفْرَدًا لَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُمْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكَرَّرُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِعَدَدِهِمْ، كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِنْ رَمَاهُ بَعْدَ حَدِّهِ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ طُولِ حَدٍّ أَيْضًا، وَإِنْ رَمَاهُ قُرْبَ زَمَنِ حَدِّهِ بِعَيْنِ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ لَهُ لَا يُعَادُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَأَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: زَنَيْتَ بِامْرَأَةٍ

بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي قَالَ: بِامْرَأَةٍ سَوْدَاءَ، فَالظَّاهِرُ تَكَرُّرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَنْ مَالِكٍ رحمه الله فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: إِنْ قَذَفَ رَجُلًا فَلَمَّا ضُرِبَ أَسْوَاطًا قَذَفَهُ ثَانِيًا أَوْ آخَرَ ابْتُدِئَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ثَمَانِينَ مِنْ حِينِ يَقْذِفُهُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ السِّيَاطِ.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا فَلَمْ تَلْحَقِ الْمَعَرَّةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ طَلَبُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ جَمِيعًا لَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَنْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ، نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ الْبَاجِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا حَدَّ فِيهِ، أَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِذَا قَالَ مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ فِي قَذْفِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَقْذِفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ كَثِيرَةٍ بِالزِّنَى كُلَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقِ الْعَارَ بِأَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، انْتَهَى مِنْهُ.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا، وَعَلَيْهِ حَدَّانِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ أَزَنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُفَضَّلِ، وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَفْضَلُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِيهِ، فَمَعْنَى كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ: أَنْتَ وَفُلَانٌ زَانِيَانِ، وَلَكِنَّكَ تَفُوقُهُ فِي الزِّنَى، وَكَوْنُ هَذَا قَذْفًا لَهُمَا وَاضِحٌ، كَمَا تَرَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْمُخَاطَبِ فَقَطْ، دُونَ فُلَانٍ الْمَذْكُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَا لِلثَّانِي إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ قَذْفٌ صَرِيحٌ لَهُمَا بِعِبَارَةٍ وَاضِحَةٍ، لَا إِشْكَالَ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» مُحْتَجًّا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي، مَا نَصُّهُ: وَالثَّانِي يَكُونُ قَذْفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ ; كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى

أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا الْآيَةَ [١٠ \ ٣٥]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [٦ \ ٨١]، وَقَالَ لُوطٌ: بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [١١ \ ٧٨]، أَيْ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهَا لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ هُوَ سَاقَهُ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهِ.

وَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ الْمَذْكُورِ: أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ مُرَادًا بِهَا مُطْلَقُ الْوَصْفِ لَا حُصُولُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمَثَّلَ لَهُ هُوَ بِكَلِمَةِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَكَلِمَةِ: أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَكَلِمَةِ: أَطْهَرُ لَكُمْ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ لَا لِلتَّفْضِيلِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَخْفَى أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْمُغْنِي»، وَلَكِنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ التَّفْضِيلِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ ; لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا نَصِيبَ لَهَا مِنْ أَحَقِّيَّةِ الِاتِّبَاعَ أَصْلًا فِي قَوْلِهِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي وَلِأَنَّ الْكَفَّارَ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْأَحَقِّيَّةِ بِالْأَمْنِ، وَلِأَنَّ أَدْبَارَ الرِّجَالِ لَا نَصِيبَ لَهَا فِي الطَّهَارَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ وُرُودِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [٣٠ \ ٢٧]، أَيْ: هَيِّنٌ سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى:

وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِيِ إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ

أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِالْعَجِلِ مِنْهُمْ، وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

أَيْ: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ

أَيْ: لَوَجِلٌ، وَقَوْلُ الْأَحْوَصِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ:

إِنِّي لِأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي ... قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لَأَمْيَلُ

أَيْ: لَمَائِلٌ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:

تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ.

أَيْ: بِوَاحِدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ:

لَعَمْرُكَ إِنَّ الزِّبْرِقَانَ لَبَاذِلٌ ... لِمَعْرُوفِهِ عِنْدَ السِّنِينَ وَأَفْضَلُ

أَيْ: وَفَاضِلٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، وَلَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَصْفِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، أَوْ قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ لَهُ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، لَيْسَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ، وَلَا دَلِيلٌ صَارِفٌ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَنْ أَصْلِهَا، فَوَجَبَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى أَصْلِهَا، وَحَدُّ الْقَاذِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، يُوَضِّحُ صَرَاحَةً الصِّيغَةَ فِي التَّفْضِيلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْمُلَاعَنَةِ بِالزِّنَى، وَلَا رَمْيُ وَلَدِهَا بِأَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ رَمَى أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا زِنًى، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَإِنَّمَا انْتَفَى نَسَبُهُ عَنِ الزَّوْجِ بِلِعَانِهِ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ. .، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍّ، وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِابْنِ مُلَاعَنَةٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ الَّذِي لَاعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْمُلَاعِنَ يَنْتَفِي عَنْهُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، فَنَفْيُهُ عَنْهُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، وَلِذَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَمَنْ قَالَ كَلَامًا حَقًّا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ بِذَلِكَ ; كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ نَفَاهُ زَوْجُ أُمِّهِ، أَوْ يَا ابْنَ مُلَاعَنَةٍ، أَوْ يَا ابْنَ مَنْ لُوعِنَتْ ; وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ زِنًى وَنَحْوَهَا مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ بِتَاءِ الْفَرْقِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي، بِلَا تَاءٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ: وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ، أَيْ: يَا عَلَّامَةُ فِي الزِّنَا ; كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ: عَلَّامَةٌ، وَلِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ: رَاوِيَةٌ، وَلِكَثِيرِ الْحِفْظِ: حَفِظَةٌ، وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ ; كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خِطَابٌ لَهُمَا وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: يَا شَخْصًا زَانِيًا، وَلِلرَّجُلِ: يَا نَسَمَةً زَانِيَةً، كَانَ قَاذِفًا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّامَةٌ فِي الزِّنَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّمَا كَانَ اسْمًا لِلْفِعْلِ، إِذَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِهِمْ: حَفِظَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الْحِفْظِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الرِّوَايَةِ، وَكَذَلِكَ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ وَصُرَعَةٌ ; وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ وَيُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُرَادًا بِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ لِذَكَرٍ: يَا زَانِيَةُ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ.

وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْعِبَارَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَنِدَاؤُهُ لِلشَّخْصِ بِلَفْظِ الزِّنَى ظَاهِرٌ فِي قَصْدِهِ قَذْفَهُ.

وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، فَاللَّهُ يَكْثُرُ فِيهَا إِطْلَاقُ وَصْفِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا شَخْصًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [١٦ \ ١٤]، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ هُنَاكَ قَوْلُ حَسَّانٍ رضي الله عنه:

مَنَعَ النَّوْمَ بِالْعِشَاءِ الْهُمُومُ ... وَخَيَالٌ إِذَا تَغَارُ النُّجُومُ

مِنْ حَبِيبٍ أَصَابَ قَلْبَكَ مِنْهُ ... سَقَمٌ فَهُوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُ

وَمُرَادُهُ بِالْحَبِيبِ أُنْثَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:

لَمْ تَفُتْهَا شَمْسُ النَّهَارِ بِشَيْءٍ ... غَيْرَ أَنَّ الشَّبَابَ لَيْسَ يَدُومُ

وَقَوْلُ كُثَيِّرٍ:

لَئِنْ كَانَ يَرِدُ الْمَاءَ هَيْمَانَ صَادِيًا ... إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لَحَبِيبُ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَلِيحِ بْنِ الْحَكَمِ الْهُذَلِيِّ:

وَلَكِنَّ لَيْلَى أَهْلَكَتْنِي بِقَوْلِهَا ... نَعَمْ ثُمَّ لَيْلَى الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ

يَعْنِي لَيْلَى الشَّخْصُ الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ.

وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ الْعُذْرِيِّ:

وَعَفْرَاءُ أَرْجَى النَّاسِ عِنْدِي مَوَدَّةً ... وَعَفْرَاءُ عَنِّي الْمُعْرِضُ الْمُتَوَانِي

أَيِ: الشَّخْصُ الْمُعْرِضُ.

وَإِذَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَذْكِيرُ وَصْفِ الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَمَا رَأَيْتَ أَمْثِلَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْنِيثِهِمْ صِفَةَ الذَّكَرِ بِاعْتِبَارِ النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ، وَوُرُودُ ذَلِكَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ مَعَ تَذْكِيرِ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ:

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ


الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى رَجُلًا قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا أَوِ امْرَأَةً، قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهَا الزِّنَى سَابِقًا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَلِأَنَّ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ قَدْ زَالَ بِالزِّنَى، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ مَنْ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ تَعْزِيرُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفَاحِشَةٍ وَلَمْ يُثْبِتْهَا، وَلَا يُتْرَكُ عِرْضُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْمِيَهُ بِالزِّنَى دُونَ عُقُوبَةٍ رَادِعَةٍ، كَمَا تَرَى.


الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَزَنَى فِي شِرْكِهِ، أَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَنَكَحَ أُمَّهُ أَوِ ابْنَتَهُ مَثَلًا فِي حَالِ كَوْنِهِ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَمَاهُ أَحَدٌ بِالزِّنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى فِي أَيَّامِ شِرْكِهِ أَوْ يَا مَنْ نَكَحَ أُمَّهُ مَثَلًا فِي أَيَّامِهِ مَجُوسِيًّا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَدَّ فِيهَا ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَخْبَرَ بِحَقٍّ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوْ نَكَحَ أُمَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَا يَخْفَى.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا زَانِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ زِنَاهُ فِي زَمَنِ شِرْكِهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا التَّفْسِيرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، أَوْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، اهـ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخِرَقِيَّ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَحَدُّ الْقَاذِفِ إِذَا طَالَبَ الْمَقْذُوفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَبْدًا، انْتَهَى.


الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ بِنْتًا غَيْرَ بَالِغَةٍ بِالزِّنَى، أَوْ قَذَفَ بِهِ ذَكَرًا غَيْرَ بَالِغٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: إِذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ بِقَذْفٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى إِذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَيُعَزَّرُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ لَكِنَّ مَالِكًا غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرَهُ رَاعَى حِمَايَةَ ظَهْرِ الْقَاذِفِ، وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجَارِيَةِ بِنْتِ تِسْعٍ، يُحَدُّ قَاذِفُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ قَاذِفُهُ، قَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا قَذَفَ غُلَامًا يَطَأُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْجَارِيَةُ إِذَا جَاوَزَتْ تِسْعًا مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَيُعَزَّرُ عَلَى الْأَذَى، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَهَا عِنْدَنَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ بِذَنْبٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، وَلَوْ جَاءَ قَاذِفُ الصَّبِيِّ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ قَذَفَهُ قَذْفًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَلَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقَامَةِ الْقَاذِفِ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي هَذَا جَمْعٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَالِغَ الرَّادِعَ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ عَنْ قَذْفِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ، أَنَّ الْقَاذِفَ إِنَّ كَانَ عَامِّيًّا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُعْتَلِّ وَالْمَهْمُوزِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِظُهُورِ قَصْدِهِ لِقَذْفِهِ بِالزِّنَى، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي: زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَمَعْنَى زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ: لَجَأْتَ إِلَى شَيْءٍ، أَوْ صَعِدْتَ فِي جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ يُرَقِّصُ ابْنَهُ حَكِيمًا وَهُوَ صَغِيرٌ:

أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ حَمَلْ ... وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ ... وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأً فِي الْجَبَلْ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: زَنَأً فِي الْجَبَلِ أَيْ صُعُودًا فِيهِ، وَالْهِلَّوْفُ الثَّقِيلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ اللِّحْيَةِ، وَالْوَكَلُ الَّذِي يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجَزَ لِأُمِّ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ تُرَقِّصُهُ بِهِ وَهِيَ مَنْفُوسَةُ ابْنَةُ زَيْدِ الْفَوَارِسِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ، وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّهُ تَرُدُّ عَلَى أَبِيهِ:

أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا ... أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا

تَقْصُرُ أَنْ تَنَالَهُ يَدَاكَا

قَالَهُ فِي اللِّسَانِ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ جَدِّهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ أَوْ نَسَبَهُ إِلَى شِعْبٍ غَيْرِ شِعْبِهِ، أَوْ قَبِيلَةٍ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهَا الزِّنَا، وَلَمْ يَنْفِ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِي نِسْبَةِ جِنْسٍ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَبْيَضَ لِأَسْوَدَ، قَالَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: إِنْ قَالَ لِفَارِسِيٍّ: يَا رُومِيُّ أَوْ يَا حَبَشِيُّ، أَوْ نَحْوَ هَذَا لَمْ يُحَدَّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا، وَإِنِّي أَرَى أَلَّا حَدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ أَسْوَدُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ إِلَى حَبَشِيٍّ ; كَأَنْ قَالَ: يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَهُوَ بَرْبَرِيٌّ، فَالْحَبَشِيُّ وَالرُّومِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِذَا كَانَ بَرْبَرِيًّا.

وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَسَوَاءٌ قَالَ: يَا حَبَشِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَالرُّومِيِّ، أَوْ يَا ابْنَ الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَكَذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ: هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِهِ الْفَتْوَى عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ يُونُسَ، فَانْظُرْهُ أَنْتَ، اهـ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ حَدِّ مَنْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ

نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمَحَلُّ هَذَا عِنْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ.

قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: مَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُنْسَبُ إِلَى آبَائِهَا وَهَذَا نَفْيٌ لَهَا عَنْ آبَائِهَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجَاهِ، وَوَجْهُ كَوْنِ مَنْ قَالَ لِرُومِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ مَثَلًا لَا يُحَدُّ، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْحَبَشِيَّ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، اهـ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ ابْنَ جَدِّكَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ إِذْ هُوَ ابْنُ أَبِيهِ لَا جَدِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ ; كَقَوْلِهِ لِعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا نَسَبَهُ لِقَبِيلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ بِتِلْكَ الْقَبِيلَةِ الَّتِي نَسَبُهُ لَهَا فِي الْأَخْلَاقِ أَوِ الْأَفْعَالِ، أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ الْقَذْفِ.

وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ»: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ، فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، اهـ، وَكَذَلِكَ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الْقَائِلِينَ بِحَدِّ مَنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ وَنَحْوِهِ، أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ الَّذِي هُوَ رَبِيبُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كِلَاهُمَا كَالْأَبِّ فِي الشَّفَقَةِ، وَقَدْ يُرِيدُ التَّشْبِيهَ بِالْأَبِّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ، وَقَوْلُهُ: ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، قَالُوا: وَكَانَ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ: يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِكَرَمِهِ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ مَالَهُ فِي الْقَحْطِ مَقَامَ الْمَطَرِ، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ أُمُّ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِمَاءِ السَّمَاءِ، لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَقِيلَ لِأَوْلَادِهَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعِرَاقِ، اهـ، وَإِنْ نَسَبَهُ لِجَدِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى جَدِّهِ ; كَمَا هُوَ وَاقِعٌ بِكَثْرَةٍ عَلَى مَرِّ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، اهـ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.

وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِيمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبَ جِنْسًا لِغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِذَا نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، اهـ.

وَقَدْ عَلِمْتَ الْخِلَافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ

فِي «الْمُغْنِي»: وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَجِبَ الْحَدُّ بِنَفْيِ الرَّجُلِ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِأَعْجَمِيٍّ: إِنَّكَ عَرَبِيٌّ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: أَنْتَ نَبَطِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّكَ نَبَطِيُّ اللِّسَانِ أَوِ الطَّبْعِ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ احْتِمَالًا كَثِيرًا فَلَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَمَتَى فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ فَهُوَ قَاذِفٌ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِيهَا نُصُوصٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ غَيْرَ الْقَذْفِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ صَاحِبُهُ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَاحْتِمَالُ الْكَلَامِ غَيْرَ الْقَذْفِ لَا يَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ قُرَيْشًا لَيْسَتْ مِنْ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ»، اهـ، وَانْظُرْ إِسْنَادَهُ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي أَحْكَامِ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، أَوْ يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، أَوْ يَا قَرْطَبَانُ، أَوْ يَا مَعْفُوجُ، أَوْ يَا قَوَّادُ، أَوْ يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ.

اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: هُوَ أَنْ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، لَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ إِنْ طَلَبَتْهُ ; لِأَنَّ الْقَرْنَانَ عِنْدَ النَّاسِ زَوْجُ الْفَاعِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الزَّانِيَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تُنْزِلُ الرُّكْبَانَ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مُخَنَّثُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ أُدِّبَ، وَلَمْ يُحَدَّ. قَالَهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»، وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا حِمَارُ ابْنَ الْحِمَارِ، أَوْ يَا كَلْبُ، أَوْ يَا ثَوْرُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، يَا كَافِرُ، يَا خَبِيثُ، يَا لِصُّ، يَا فَاجِرُ، يَا مُنَافِقُ، يَا لُوطِيُّ، يَا مَنْ يَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ، يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا دَيُّوثُ، يَا مُخَنَّثُ، يَا خَائِنُ، يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، يَا زِنْدِيقُ، يَا قَرْطَبَانُ، يَا مَأْوَى الزَّوَانِي أَوِ اللُّصُوصِ، يَا حَرَامُ،

أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَآكَدُ التَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، يَا تَيْسُ، يَا حِمَارُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا بَقَرُ، يَا حَيَّةُ، يَا حَجَّامُ، يَا بَبْغَاءُ، يَا مُؤَاجِرُ، يَا وَلَدَ الْحَرَامِ، يَا عَيَّارُ، يَا نَاكِسُ، يَا مَنْكُوسُ، يَا سُخْرَةُ، يَا ضُحَكَةُ، يَا كَشْخَانُ، يَا أَبْلَهُ، يَا مَسُوسُ ; فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يُعَزَّرُ بِهَا، قَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ»: لَا يُعَزَّرُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا ; لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إِطْلَاقَ الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَى الْبَلَادَةِ وَالْحِرْصِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَلٌ ; وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ بِالْقَاذِفِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَلَيْسَ بِكَلْبٍ وَلَا حِمَارٍ وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي زَمَانِنَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الشَّتْمُ فِي عُرْفِنَا.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ ; لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا فِي حَقِّهِ، وَتَلْحَقُهُ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَيَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَيَا ابْنَ الْحَجَّامِ، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، اهـ مِنْ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ فَوُجُوبُ التَّعْزِيرِ بِهَا كَمَا ذَكَرُوا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا لَا تَعْزِيرَ فِيهَا، فَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا يَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ ; لِأَنَّهَا كُلُّهَا شَتْمٌ وَعَيْبٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا بَقَرُ، إِلَى آخِرِهِ، أَنَّ هَذَا شَتْمٌ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ تَشْبِيهُ الْإِنْسَانِ بِالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي الْخِسَّةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَشْبِيهًا بَلِيغًا وَلَا شَكَّ أَنَّ عَاقِلًا قِيلَ لَهُ: يَا كَلْبُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ مَثَلًا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، وَلَا يُشَكُّ أَنَّهُ شَتْمٌ، فَهُوَ أَذًى ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ التَّعْزِيرُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَوْنُهُمْ يُسَمُّونَ الرَّجُلَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بَاسِمٍ قَبِيحٍ لَا يَرْضَى غَيْرُهُ أَنْ يُعَابَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ بِأَسْوَدَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا ابْنَ الْحَجَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ حَجَّامًا فَهُوَ قَذْفٌ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ وَإِلْصَاقٌ لَهُ بِأَسْوَدَ أَوْ حَجَّامٍ لَيْسَ

بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ ; كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ»: وَتَفْسِيرُ الْقَرْطَبَانِ هُوَ الَّذِي يَرَى مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ مَحْرَمِهِ رَجُلًا، فَيَدَعُهُ خَالِيًا بِهَا، وَقِيلَ: هُوَ السَّبَبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَمْدُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ امْرَأَتَهُ مَعَ غُلَامٍ بَالِغٍ أَوْ مَعَ مُزَارِعِهِ إِلَى الضَّيْعَةِ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي غَيْبَتِهِ، اهـ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعَزَّرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الدَّيُّوثُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَرْطَبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ: الْقَرْنَانُ وَالْكَشْخَانُ لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَعَلَى الْقَاذِفِ بِهِ التَّعْزِيرُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الدَّيُّوثِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا قَرْنَانُ إِذَا كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ، أَوْ بَنَاتٌ فِي الْإِسْلَامِ ضُرِبَ الْحَدَّ، يَعْنِي أَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُنَّ، وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ أَبِيهِ: الْقَرْنَانُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْ لَهُ بَنَاتٌ، وَالْكَشْخَانُ: مَنْ لَهُ أَخَوَاتٌ، يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ، وَالْقَوَّادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ: السِّمْسَارُ فِي الزِّنَى، وَالْقَذْفُ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي»، وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ قَالَ: يَا مَعْفُوجُ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ يُرْجَعَ إِلَى تَفْسِيرِهِ، فَإِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِ الْفَاحِشَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ يَا مَفْلُوجُ، أَوْ يَا مُصَابًا دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوَ هَذَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ»: الْقَرْنَانُ: الدَّيُّوثُ الْمُشَارِكُ فِي قَرِينَتِهِ لِزَوْجَتِهِ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» أَيْضًا: الْقَرْطَبَانُ بِالْفَتْحِ الدَّيُّوثُ، وَالَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ أَوِ الْقُوَّادُ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ»: وَالتَّدَيُّثُ الْقِيَادَةُ، وَفِي «الْقَامُوسِ» تَحْتَ الْخَطِّ لَا بَيْنَ قَوْسَيْنِ الْكَشْخَانُ وَيُكْسَرُ: الدَّيُّوثُ، وَكَشَّخَهُ تَكْشِيخًا، وَكَشْخَنَهُ، قَالَ لَهُ: يَا كَشْخَانُ، اهـ مِنْهُ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ»: وَالدَّيُّوثُ الْقُنْذُعُ وَهُوَ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ، اهـ مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَنَّهَا تَتْبَعُ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ،

فَإِنْ كَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الشَّتْمُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَجَبَ التَّعْزِيرُ ; لِأَجْلِ الْأَذَى وَلَا حَدَّ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الشَّتْمُ بِالزِّنَى، أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ عُرْفًا، وَجَبَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُتَّبَعٌ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ وَأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا الْقِيَامُ بِذَلِكَ، وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ عَيْبٌ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ، وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ مَعَ هَؤُلَاءِ قِيَامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَقْذُوفَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِطَلَبِ مَنْ وُجِدَ مِنْ فُرُوعِهِ، وَإِنْ سَفُلُوا أَوْ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ وُجُودِ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ أَحَدٌ، فَلِلْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لِلْمَقْذُوفِ بِطَلَبِهِمْ، هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ أَبًا أَوْ أُمًّا، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَذْفِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ; لِأَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ بِالزِّنَى فِيهِ قَدْحٌ فِي نَسَبِ وَلَدِهَا ; لِأَنَّ ابْنَ الزَّانِيَةِ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ زِنَا أُمِّهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَلَبَ الِابْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسَلِمًا، أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ ; لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْذِفُ أُمَّهُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَلَا يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِيهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمَنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الْمَجْنُونِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ، وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَقْذِفُ مَنْ لَيْسَ مُحْصَنًا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ

يُحَدَّ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلِأَنْ لَا يُحَدَّ بِقَذْفِهِ مَيِّتًا أَوْلَى، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمُلَاعَنَةِ «: وَمَنْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ»، يَعْنِي: مَنْ رَمَاهُ بِأَنَّهُ وَلَدُ زِنًى، وَإِذَا وَجَبَ بِقَذْفِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ بِذَلِكَ، فَبِقَذْفِ غَيْرِهِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِذَا قَالَ لِكَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ، وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدٍ أُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ أَنْ يَحُدَّ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا قَذْفٌ لِأُمِّهِ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهَا دُونَ إِحْصَانِهِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً كَانَ الْقَذْفُ لَهَا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ أُمَّكَ زَنَتْ فَأَتَتْ بِكَ مِنَ الزِّنَى، فَإِذَا كَانَ مِنَ الزِّنَى مَنْسُوبًا إِلَيْهَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْذُوفَةَ دُونَ وَلَدِهَا، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَهَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، لَأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يَرِثُ الْحُرَّ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْحَدَّ لِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، فَيَثْبُتُ أَنَّ الْقَذْفَ لَهُ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهُ دُونَ إِحْصَانِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ بُطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَقَدْ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي رَمْيِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ، إِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ، وَرَمْيِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ الَّتِي لَهَا أَوْلَادٌ، وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ يُوَرَّثُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَطْلُبُهُ إِلَّا الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ، وَيُحَدُّ بِطَلَبِ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ طَالِبِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ يُطَالِبُ بِهِ الْإِخْوَةُ وَالْعَصَبَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَرِثُوا ذَلِكَ الْحَقَّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً بِحَالٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ نَسَبِ وَلَدِهَا فَلَهَا الْقِيَامُ حَيَّةً، وَلِوَلَدِهَا الْقِيَامُ إِذَا لَمْ تُطَالِبْ هِيَ ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ بِقَذْفِهَا، خِلَافًا لِمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي»، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لَهُ الْقَاذِفُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي»: تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ هُوَ دُونَ حَصَانَتِهَا هِيَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَعْنًى; لِأَنَّ نَفْيَ نَسَبِ إِنْسَانٍ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ حَصَانَةُ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ،

لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ زِنًى، فَإِنَّهُ هُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ زَانِيًا، كَمَا تَرَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ قَذْفَ وَلَدِهَا، فَالْأَظْهَرُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ بِطَلَبِ الْأُمِّ، وَبِطَلَبِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ وَأَحْرَى إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ لَا وَلَدَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَلَدٌ لَا يَسْتَلْزِمُ قَذْفُهَا قَذْفَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أَوْ لَا؟ وَقَدْ رَأَيْتَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حُرْمَةَ عِرْضِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حَدَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الطَّلَبُ، فَلَا يُحَدُّ بِدُونِ طَلَبٍ ; وَلِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَتَأَذَّى بِكَلَامِ الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا بَلْ يَفْرَحُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَسَنَاتٌ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَا رَمَاهُ بِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ بِحَدِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ وَحْدَهُ وَهُوَ صَادِقٌ لَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ فِيهِ، اهـ.

وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَّ إِذَا قَذَفَهُ آخَرُ بِالزِّنَا، وَهُوَ يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِحَدِّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ فِيمَا رَمَاهُ بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّمَا قَذَفَهُ بِهِ حَقٌّ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ ; لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي إِيذَائِهِ بِضَرْبِ الْحَدِّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِيمَا قَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ قَذَفَهُ هُوَ ﷺ أَنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ، وَخُرُوجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَأَنَّ حُكْمَهُ الْقَتْلُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا تَابَ هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِنْ تَابَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِكَثْرَةِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، وَلَوْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ قَالَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ ; وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ كَالزِّنَى.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [٢ \ ٨٣]، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [٧ \ ٢٣]، فَلَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَطْلُبَ حَدَّ وَالِدِهِ لِلتَّشَفِّي مِنْهُ، وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَلَدَ يُمَكَّنُ مِنْ حَدِّ وَالِدِهِ الْقَاذِفِ لَهُ وَأَنَّهُ يُعَدُّ بِحَدِّهِ لَهُ فَاسِقًا بِالْعُقُوقِ ; كَمَا قَالَ خَلِيلٌ فِي «مُخْتَصَرِهِ»: وَلَهُ حَدُّ أَبِيهِ وَفُسِّقَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ; كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ ظَاهِرُهَا عَدَمُ الْحَدِّ وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَتَلَ أَوْ أَصَابَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ هَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ فِي الْحَرَمِ، أَوْ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ؟

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ حَدًّا قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَدٌّ وَلَا قِصَاصٌ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا أَوْ غَيْرَهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ إِلَّا الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ فِي حَدٍّ كَالرَّجْمِ، وَلَا فِي قِصَاصٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ قَتْلًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْقَتْلِ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَالْقَصَّاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَوْفَى مِنَ الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ فِيهِ.

وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَوْفَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «: فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ»، وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتُهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي

الْحَرَمِ إِلَّا الْقَتْلَ وَالْعَمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَيُوعَظُ، وَيُذَكَّرُ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلِّ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا فِيهَا ; لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَأَبْطَلَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مُشِيرًا إِلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِتْرَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِالْحَرَمِ دَمًا، وَلَا يُقِيمَ بِهِ حَدًّا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَإِذَا عَرَفْتَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ وَمُنَاقَشَتُهَا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ حَدٍّ فِي الْحَرَمِ إِنْ لَجَأَ إِلَيْهِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَخْصِيصُ مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: وَالْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَاجِبٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَثُرَتْ.

وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ حَقٌّ وَاجِبٌ بِتَشْرِيعِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْحَرَمِ لَيْسَ فِيهِ أَيُّ انْتِهَاكٍ لِحُرْمَةِ

الْحَرَمِ ; لِأَنَّ أَحَقَّ الْبِلَادِ بِأَنْ يُطَاعَ فِيهَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ هِيَ حَرَمُهُ، وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي حَرَمِهِ لَيْسَ فِيهَا انْتِهَاكٌ لَهُ كَمَا تَرَى.

أَمَّا اسْتِدْلَالُ هَؤُلَاءِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخِزْيَةٍ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ; لِأَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَطْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْأَشْدَقِ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ»: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالُ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يُعَارِضُ بِهِ أَبَا شُرَيْحٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ كَلَامَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ الْبَتَّةَ فِي كَلَامِ الْأَشْدَقِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ مُعَارَضَتِهِ بِهِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ لَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو شُرَيْحٍ رضي الله عنه وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله مِثْلُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَائِلَ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، هُوَ الْأَشْدَقُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ ﷺ أَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِقَتْلِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهِ الْحَرَمَ، وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ حُرْمَتَهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلَهُ ﷺ فِي وَقْتِ إِحْلَالِ الْحَرَمِ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا دَلِيلَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ الْإِحْلَالِ وَرُجُوعِ الْحُرْمَةِ، كَمَا تَرَى.

وَأَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوا الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي لَا قَتْلَ فِيهَا وَالْقِصَاصَ

فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ «: فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا» الْحَدِيثَ، قَالُوا: تَصْرِيحُهُ ﷺ بِالنَّهْيِ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَيَبْقَى غَيْرُ الْقَتْلِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَيَخْرُجُ خُصُوصُ الْقَتْلِ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ «: دَمًا» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ إِرَاقَةَ الدَّمِ فِي قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ، قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَرَمَ لَا يُسْتَوْفَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحُدُودِ، وَلَا مِنَ الْقِصَاصِ قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [٣ \ ٩٧]، قَالُوا: وَجُمْلَةُ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ، يَسْتَوْجِبُ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ، وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ بِسُوءٍ، وَبِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَرَمِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِآثَارٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا، ثُمَّ يَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الْمَجْدُ فِي «الْمُنْتَقَى»: حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ أَجْرَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُسْتَوْفَى مِنَ اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ كُلُّ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ شَرْعًا، قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَفِعْلُ ذَلِكَ طَاعَةٌ، وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ حَرَمِهِ، وَأَجْرَاهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَهُوَ أَوْلَاهَا، هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَى الْجَانِي اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَا يُبَاعُ لَهُ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ، وَلَا يُجَالَسُ، وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ، فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ حَقُّ اللَّهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَرَمِ، وَفِي هَذَا خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ،

وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، مَعْنَى: وَيَدْرَأُ: يَدْفَعُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الْحَدُّ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ فَاعِلُ يَدْرَأُ، أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهَا الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْحَدُّ مِنْ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: مِنْهَا سِيَاقُ الْآيَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي تَدْرَؤُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هُوَ الْحَدُّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْعَذَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، عَلَى الْحَدِّ مَعَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِيهَا الْحَدُّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٤ \ ٢]، فَقَوْلُهُ: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا أَيْ: حَدَّهُمَا بِلَا نِزَاعٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ \ ٢٥]، أَيْ: نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَمَى زَوْجَتَهُ وَشَهِدَ شَهَادَاتِهِ الْخَمْسَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ الْمُتَوَجِّهَ إِلَيْهَا بِشَهَادَاتِ الزَّوْجِ تَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هِيَ الْمُوَضَّحَةُ فِي الْآيَةِ.

وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ نَكَلَتْ عَنْ شَهَادَاتِهَا، لَزِمَهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ نُكُولِهَا مَعَ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَشَهَادَاتُ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ تَدْرَأُ عَنْهُ هُوَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهَا هِيَ حَدَّ الزِّنَى، وَتَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا.

وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، فَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ

الْقُرْآنِيَّةِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [٢٤ \ ٤] ; وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ خُرُوجَ الزَّوْجِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِشَهَادَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [٢٤ \ ٦ - ٧]، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ جَلْدِ ثَمَانِينَ، وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُكْمِ بِالْفِسْقِ إِلَّا بِشَهَادَاتِهِ الَّتِي قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الْمُبَرِّئَةِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ شَهَادَاتِهِ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَدْرَأْ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِهِ، وَلَا شَهَادَاتٌ تَنُوبُ عَنِ الشُّهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا نَكَلَتْ عَنْ أَيْمَانِهَا فَعَلَيْهَا الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ هُوَ شَهَادَاتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْآيَةَ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِنْ نَكَلَ عَنِ الشَّهَادَاتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، ومَنْ قَالَ بِأَنَّهَا إِنْ شَهِدَ هُوَ، وَنَكَلَتْ هِيَ أَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ وَنُكُولِهَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِنُكُولِهَا عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَتُحْبَسُ أَيْضًا حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ فَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.

قَالَ فِي «الْمُغْنِي»: وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحُجَجٍ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حَدِّهَا أَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ ; لِأَنَّ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ وَنُكُولَهَا هِيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بِهِمَا مُجْتَمِعِينَ ثُبُوتُ الزِّنَى عَلَيْهَا.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ مَسْأَلَةَ اللِّعَانِ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُعْدَلُ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَلْزَمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِلَّا بِقَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ قَذْفًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ زَوْجَةٍ كَرَمْيِهَا بِالزِّنَى، وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنْهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ قَذْفُهَا بِالزِّنَى مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، أَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اللِّعَانُ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى كَافٍ دُونَ التَّصْرِيحِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ.

وَقَوْلُ الْمَلَاعِنِ فِي زَمَنِهِ ﷺ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي، دُونَ اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَسَمَاعِ الْأُذُنِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [٢٤ \ ٦] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، هَلْ هِيَ شَهَادَاتٌ أَوْ أَيْمَانٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا شَهَادَاتٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي الْآيَةِ شَهَادَاتٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ، إِلَّا مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُلَاعِنِ وَالْمُلَاعِنَةِ الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ صَحَّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَلَوْ كَانَا لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُسْقِطَاتِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ، فَعَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَكُونُ الزَّوْجُ رَابِعَ الشُّهُودِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، وَعَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: لَا يُحَدُّونَ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ وَأَنَّ اللِّعَّانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الزَّوْجِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ رُبَّمَا أُطْلِقُ فِي الْقُرْآنِ، مُرَادًا بِهَا الْيَمِينُ، مَعَ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ لِأُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ

لِأَنَّ لَفْظَةَ بِاللَّهِ يَمِينٌ فَدَلَّ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِلتَّصْرِيحِ بِنَصِّ الْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ فِي مَعْنَى: أُقْسِمُ بِاللَّهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ وَإِرَادَةُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [٥ \ ١٠٧]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [٥ \ ١٠٨]، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الْآيَةَ [٦٣ \ ١] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [٦٣ \ ٢]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَهَادَتِهِمُ الْأَيْمَانُ، هَكَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَالْفَيْصَلُ أَنَّهَا يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنَّ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ، مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ، اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ.

وَحَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ اسْتِقْرَاءً تَامًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَهَادَةُ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَدَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَا يُسَوِّغُ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ ; لِإِطْلَاقِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا.

الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ اللِّعَّانِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ لَمَّا جَاءَتِ الْمُلَاعَنَةُ بِالْوَلَدِ شَبِيهًا بِالَّذِي رُمِيَتْ بِهِ «: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ سَمَّى ﷺ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانًا، وَفِي إِسْنَادِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا شَهَادَاتٍ فِي قَوْلِهِ:

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ «: أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمُ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ»، اهـ، قَالُوا: إِنَّمَا مُنِعَ لِعَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَاتُ اللِّعَانِ أَيْمَانًا لَصَحَّ لِعَانُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تُقْبَلُ يَمِينُهُ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ»، فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ»، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَقَالَ: عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «: أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ»، انْتَهَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْوَقَّاصِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، قَالَ: وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَتَابَعَهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ «: أَلَّا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ» فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ، انْتَهَى، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَعْرِفَةِ»: هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ الرَّمْلِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «: أَرْبَعَةٌ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمُ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَعْرُوفٌ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَابْنُ زَرَيْعٍ ضَعِيفَانِ، وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَاهُ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَوْقُوفًا، وَفِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ رَاوِيَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَمْرُو بْنُ هَارُونَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَحْتَجُّ بِرِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُؤَكِّدُهُ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقًا صَحِيحًا إِلَى عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «نَصْبِ الرَّايَةِ» .

وَقَالَ صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ»: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، وَلَوْ فَرَضْنَا جَوْدَةَ إِسْنَادِهِ كَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ ; لِاحْتِمَالِ كَوْنِ عَدَمِ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ بَيْنِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللِّعَانِ، الِاعْتِمَادُ عَلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَسْوَدَ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ وَزَوْجُهَا أَبْيَضَ ; لِقِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ الْأَسْوَدِ بِاللِّعَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ «: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ»؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: مَا أَلْوَانُهَا»؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ»؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا الْوُرْقَةُ»؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهَا، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ»، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَوَادَ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلرَّجُلِ فِي اللِّعَانِ، كَمَا تَرَى.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّهُ يُجْلَدُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ اللِّعَانُ ; لِأَنَّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ أَجْنَبِيَّةٌ مُحْصَنَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الْآيَةَ [٢٤ \ ٤]، وَالزَّوَاجُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ قَبْلَهُ، فَمَا يُرْوَى عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا مِنْ نَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا، وَلَمْ يَأْتِ

بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْبِنْتُ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إِلَى آخِرِ آيَاتِ اللِّعَانِ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ إِنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ الْبِنْتَ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ، أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ: وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبِنْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ، اهـ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ لَهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَلَا لِعَانَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ لَنَا سُقُوطُ الْحَدِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ.

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُحَدُّ إِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَيُلَاعِنُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَنَّ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ قَدْ وَجَبَا وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِالزِّنَى الطَّارِئِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ سُقُوطُ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ، لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْإِحْصَانِ قَبْلَ الْحَدِّ وَقَبْلَ اللِّعَانِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِكِبَرِ سِنِّهَا أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَهِيَ لِدَرْءِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا إِنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِصِغَرِهَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ: هَلْ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَلَمْ تَبْلُغْ؟ فَعَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي قَذْفِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا فَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ فِي قَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ لِنَفْيِ مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَيَنْتَفِي عَنْهُ حَمْلُهَا بِاللِّعَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ

فِي «الْفَتْحِ»، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَحَادِيثَ اللِّعَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ» إِلَخْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ، يَعْنِي الرَّجُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ «: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا»، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْلَمُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَفْخَةً.

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ، وَدَفْعِ حَدِّ الرَّجْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلِذَلِكَ شُرِعَ اللِّعَانُ مَعَ الْآيِسَةِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغِيرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَهَا فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ دُونَهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْتِعَانَ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ لِقَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي حَدِّ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ لِلْوَطْءِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تُلَاعَنُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَيَقَّنُ وُجُودُهُ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاخًا وَقَدْ يَكُونُ رِيحًا.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ﷺ أَخَّرَ لِعَانَ الْحَامِلِ حَتَّى وَضَعَتْ. فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا نَصُّهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: اللَّهُمَّ بَيِّنْ»، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَتَرْتِيبُهُ فَلَاعَنَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ، إِلَخْ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْفَاءِ، وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إِلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ أَوْضَحَتْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ هِيَ فِي الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَاعَنَ مُعَقِّبَةً لِقَوْلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ جُمْلَةَ «فَلَاعَنَ» مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ

فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعِنُ قَبْلَ الْوَضْعِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَذْفُهُ لَهَا بِنَفْيِ حَمْلٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، وَأَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَى بَعْدَ الطَّلَاقِ حُدَّ، وَلَمْ يُلَاعَنْ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ إِلَى زَمَنٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَالْأَظْهَرُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّ طَلَاقَهُ إِيَّاهَا قَبْلَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللِّعَانَ وَيُجْلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يُلَاعِنُ الرَّجْعِيَّةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ، وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَزَيْدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَائِبًا فَتَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مَغِيبِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيُطَلِّقَهَا فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَقْدَمُ فَيَنْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا هُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا وَنَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَيَرِثُهَا ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، اهـ مِنْهُ، وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نَظَرَتْ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بَلْ هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يُخَافُ تَعَلُّقُهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِلَعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ

الزَّوْجَةِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَفَائِدَةُ لَعَانِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَوْنُ الرَّجْعِيَّةِ كَالزَّوْجَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تُزَوُّجُ أُخْتِهَا، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَزْوِيجُ رَابِعَةٍ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَامِسَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِلِعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا عَالِمًا بِزِنَاهَا فِي زَعْمِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ لِلِّعَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، مَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذِفٌ ; لِأَنَّهُ رَمَاهَا بِزِنًى وَاقِعٍ بَعْدَ الْفِرَاقِ أَوْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ.

أَمَّا إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ; لِأَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَةٌ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ: يُجْلَدُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ هَذَانَ بِزَوْجَيْنِ، وَلَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً.


الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ ظَهَرَ بِامْرَأَتِهِ حَمْلٌ، وَهُوَ قَائِلٌ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ حَتَّى وَضَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مُدَّةَ الْحَمْلِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوِ انْتِفَاخًا فَيَنْفَشُّ أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَيَسْتَرِيحَ بِذَلِكَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ بِلِعَانٍ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي أَبْدَى وَجِيهٌ جَدِيرٌ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ بَادَرَ بِنَفْيهِ فَوْرًا عِنْدَ وَضْعِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ السُّكُوتِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لِأَنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ يُعَدُّ رِضًى مِنْهُ بِالْوَلَدِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ.

لَمْ أَعْلَمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَهُوَ رَاضٍ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى أَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْتَبِرُ مُدَّةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ النِّفَاسِ، قَالَ

ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَاسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَيُفَكِّرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلتَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يُنَزَّلُ السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ»، بِقَوْلِهِ:

وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ ... فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ قَدِ اشْتُهِرَ

فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِيِّ نَمَى ... تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا

وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي ... مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ

فَمَنْ قَالَ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ السَّاكِتَ قَدْ يَسْكُتُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِضَاهُ وَاسْتَأْنَسُوا بِقَوْلِهِ ﷺ فِي الْبِكْرِ «: إِذْنُهَا صِمَاتُهَا»، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَخْصِيصُ الْبِكْرِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ وَأُصُولِهِمْ، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهُمْ وَجَدَهُمْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْعَلُونَ السُّكُوتَ كَالرِّضَى، كَالسُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ زَمَنًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ، وَكَالسُّكُوتِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكْثُرُ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَعْلُ السُّكُوتِ كَالرِّضَى.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي رَجَزِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ:

وَحَاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ ... وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ

الْحُكْمُ مَنْعُهُ الْقِيَامَ بِانْقِضَا ... مَجْلِسِهِ إِذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَى

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ السُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ زَمَنًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ

عَادَةً أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ فِيهِ إِلَّا رَاضٍ عُدَّ رِضًى، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُحَكَّمٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَقَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَى إِنْ كَانَ لِنَفْيِ نَسَبٍ يَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ يُلَاعَنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَكِنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى، وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا وَيَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ مَجْرَى اللِّعَانِ فِيهِ، اهـ مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ، بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي الَّذِي يَقْذِفُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ بِالزِّنَى، ثُمَّ يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ مَعَ الشُّهُودِ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ لَا تُفِيدُ الزَّوْجَ إِلَّا دَرْأَ الْحَدِّ عَنْهُ، أَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ شُهُودِهِ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ كَانَ لَهُ شُهُودٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ الشُّهُودَ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي غَيْرِ دَرْءِ الْحَدِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ اللِّعَانُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ غَيْرَ نَفْسِهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اهـ مِنْهُ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ: يَفْتَقِرُ اللِّعَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَدَدُ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَكَانُ: وَهُوَ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي

بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلَ الْوَثَنِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَالْوَقْتُ: وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَجَمْعُ النَّاسِ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ وَجَمْعُ النَّاسِ مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ، اهـ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ كَافِرِينَ وَبَعْضُ مَا ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ خِلَافٍ.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِلِعَانٍ، إِلَّا بِمُوجِبٍ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ زَنَتْ، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ أَصْلًا، أَوْ زَنَتْ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ، وَلَمْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى زَنَتْ، أَوْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الزِّنَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزِّنَى الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ عَلَى شَبَهِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ وَلَا بِسَوَادِ الْوَلَدِ ; كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا بِعَزْلٍ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ نَزْعَهُ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَلَا بِوَطْءٍ فِي فَخِذَيْنِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ إِلَى الْفَرَجِ فَتَحْمِلُ مِنْهُ، كَمَا قَدَّمْنَا.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا تَوْأَمَانِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ أَحَدِهِمَا، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُ الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالثَّانِي حُدَّ لِقَذْفِهِ ; كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [١٣ \ ٨]، أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُمَا تَوْأَمَانِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ تَوْأَمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَاسْتَحْلَقَ أَحَدَهُمَا، وَنَفَى الْآخَرَ لَحِقَا بِهِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ، وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ ; لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنِ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ لَحِقَهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى

أَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَا نَفَيْتُمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ.

قُلْنَا: لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ لِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتِ الْوَطْءُ وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ، وَيُحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَقَدْ لَاعَنْ لِنَفْيِهِ مَرَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، اهـ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِعَانَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ لَحِقَاهُ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ، فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي ; لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَا يُلَاعِنُ إِلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ كَالْحَيِّ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، اهـ كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُرَادُ نَفْيُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَدٌ كَانَ حُكْمُهُ فِي اللِّعَانِ كَحُكْمِ الْحَيِّ ; لِأَنَّ وَلَدَهُ الْحَيَّ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ أَبِيهِ، فَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ نَسَبِ الْمَيِّتِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُهُ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ هَذِهِ

الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَاشَ عُمْرًا يُولَدُ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِالْغَيْبَةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ إِلْزَامُهُ بِتَكْفِينِ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ بِلِعَانٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ قَاذِفُ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْحَدِّ فَلَهُ اللِّعَانُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ فَلَا لِعَانَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِهِ مُوجِبَانِ لِلَعَّانِ، وَهُمَا إِسْقَاطُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ النَّظَرِ إِلَى الْوَلَدِ الْمَيِّتِ هَلْ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَا؟ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِاللِّعَانِ، هَلْ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ؟ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هُمَا شَقِيقَانِ، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي «التَّوْضِيحِ»، وَهُوَ شَرْحُهُ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: إِنَّ كَوْنَهُمَا شَقِيقَيْنِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، كَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ وَالْمُغْتَصَبَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وَأَنَّهُمَا لَا يُحْكَمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الشَّقِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يُلْحَقَانِ بِأَبٍّ مَعْرُوفٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌّ مَعْرُوفٌ فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِمَا شَقِيقَيْنِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إِنَّمَا يُنْسَبَانِ لِأُمِّهِمَا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ شَقِيقَانِ، فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ حَتَّى يَكُونَ أَبًا لِابْنِهِ مِنَ الزِّنَى، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَحْوِ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ظَاهِرُهَا السُّقُوطُ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» مِنْ أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمَسْبِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْمَنَةِ شَقِيقَانِ، فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ قَائِلًا: إِنَّهَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ لِعَانُهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ

يُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا وَقْتَ الزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًى أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إِلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى نَفْيِهِ، وَهَاهُنَا إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنَ الزِّنَى، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى نَفْيِهِ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَا يُمَكَّنِ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ، وَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ، لِأَنَّهُ قَاذِفُ مُحْصَنَةٍ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَالنِّكَاحُ الطَّارِئُ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الَّذِي تَقَرَّرَ قَبْلَهُ كَمَا تَرَى، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَلْحَقُ بِهِ لَوْ سَكَتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ اسْتِنَادًا إِلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسَوِّغَةِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا لِدَفْعِ الْحَدِّ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ، فَقِيلَ: يُلَاعِنُ، وَقِيلَ: لَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَيْنُونَةِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: نَقَلَ مُهَنَّأٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: يُلَاعِنُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُحَدُّ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، قَالَ: بِئْسَ مَا يَقُولُونَ فَهَذَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ، اهـ مِنْهُ

وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَصَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَى.

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِتَصَادُقِهِمَا بِدُونِ لِعَانٍ، أَوْ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنِ الزَّوْجِ إِلَّا بِلِعَانِهِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِ أُمِّهِ لِلزَّوْجِ ; لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ بِصِدْقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَطَالَبَتْ بِحَدِّهِ لِقَذْفِهَا فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِيرِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، فَمَنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ يَلْزَمُ قَوْلَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُحَدُّ لِقَذْفِهَا ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَى ثَبَتَ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُحَدُّ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا لَمْ يَثْبُتْ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا إِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا أَعْنِي الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِقَذْفِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا صَارَا لَهُ عَدُوَّيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ يَسْتَوْجِبُ الْعَدَاوَةَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ، وَقَذَفَنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا، وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا فَإِنْ أَضَافَا دَعَوَاهُمَا إِلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُلْ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ

وُجُودِ الْمَانِعِ كَظُهُورِ الْفِسْقِ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا فَتَبِينُ وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا.

وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى نَفْسِهِمَا نَفْعًا، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي»، وَكُلُّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا ; لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِجَرِّ النَّفْعِ لِأُمِّهِمَا، لِأَنَّ طَلَاقَ الضَّرَّةِ فِيهِ نَفْعٌ لِضَرَّتِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ أُمَّهُ لَا تَخْلُو مِنْ تُهْمَةٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: فِي اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْقَذْفِ أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ; لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسَ بِقَذْفِهَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ فَلَمْ يُؤَثِّرِ الِاخْتِلَافُ ; كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْآخَرُ: لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَثْبُتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ

وَفَارَقَ الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِهِ وَاحِدًا أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ تُلَفَّقُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَوْ لَا تُلَفَّقُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ تُلَفَّقُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تُلَفَّقُ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَقَوْلُهُمْ: هُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ الْمُخْتَلِفُ وَقْتُهُ أَوْ لِسَانُهُ هُمَا إِقْرَارَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَصَّ فِيهَا وَكُلٌّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَعَدَمُ النَّصِّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِلِعَانٍ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِعَانٌ آخَرُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَوْلَ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الْوَضْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا خِلَافَ التَّحْقِيقِ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»، وَقِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَفَى عَنْهُ حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ لِعَانَهُ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ عَنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِاللِّوَاطِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ اللَّائِطِ وَبَيَّنَّا أَنَّ أَقْوَاهَا دَلِيلًا قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَدَّ بِالْقَذْفِ بِاللِّوَاطِ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُلَاعِنُ الْقَاذِفُ بِاللِّوَاطِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ حُدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً

فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ كَامِلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ»، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَكَوْنِ الزَّوْجِ صَبِيًّا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَادَةً لِصِغَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ، وَبِهِ تَعْل مُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ: إِنَّ الزَّوْجَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَكَذَلِكَ تِسْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِحَدِيثِ «: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشَرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَإِنِ اعْتَمَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مَعَ عِلْمِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

فَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ حَتَّى يَبْلُغَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً، أَوْ عَكْسُهُ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ وَمُدَّةِ الْحَمْلِ أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ لَحِقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ، انْتَهَى مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمُ لُحُوقِ الْوَلَدِ فِيمَا ذُكِرَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ لِنَفْيِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، انْتَهَى.

وَقَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ «: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا»، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي «الْمُنْتَقَى»، وَقَالَ فِيهِ

صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: وَفِي إِسْنَادِهِ عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ فِي «التَّقْرِيبِ»: فِيهِ لِينٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، اهـ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا»، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ أَيْضًا.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِي إِسْنَادِهَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَخْرَجَهُمَا أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ، وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَحُدَّ خِلَافًا لِعَطَاءٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ.

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» .

فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ [٢ \ ٢٢٩]، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ مَسَائِلِ اللِّعَانِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ،


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ وَرَحْمَتُهُ، مَا زَكَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَكِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ تَزْكِيَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ.

وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [٤ \ ٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [٥٣ \ ٣٢] .

وَالزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ الطَّهَارَةُ مِنْ أَنْجَاسِ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي.

وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [٤ \ ٢١] أَيْ يُطَهِّرُهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [٩١ \ ٩] وَلَا قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [٨٧ \ ١٤] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى تَزَكَّى تَطَهَّرَ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ زَكَّاهَا أَنَّهُ لَا يُزَكِّيهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢١]: جَوَابُ لَوْلَا الَّتِي تَلِيهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢٠] وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفُ جَوَابِ لَوْلَا، لِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ،


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِسْطَحٌ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ فَقِيرٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ وَهِجْرَتِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِالْإِفْكِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ١١]، وَهُوَ مَا رَمَوْهَا بِهِ مِنْ أَنَّهَا فَجَرَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه.

وَقِصَّةُ الْإِفْكِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ بَعْدَ مَا رَمَى عَائِشَةَ بِالْإِفْكِ ظُلْمًا وَافْتِرَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَيْ: لَا يَحْلِفْ، فَقَوْلُهُ: «يَأْتَلِ» وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، تَقُولُ الْعَرَبُ آلَى يُؤْلِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [٢ \ ٢٢٦]، أَيْ: يَحْلِفُونَ مُضَارِعُ آلَى يُؤْلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلْ

أَيْ حَلَفَتْ حَلْفَةً، وَقَوْلُ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدٍ الْعَدَوِيَّةِ تَرْثِي زَوْجَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم:

فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً ... عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ أَغْبَرَا

وَالْأَلِيَّةُ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:

قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ

أَيْ: لَا يَحْلِفُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ وَالسِّعَةِ، أَيِ: الْغِنَى كَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتُوا، أَيْ: لَا يَحْلِفُوا عَنْ أَنْ يُؤْتُوا، أَوْ لَا يَحْلِفُوا أَلَّا يُؤْتُوا وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَصْلَتِهِمَا مُطَّرِدٌ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ قَبْلَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُنَا كَوْنُ الْقَسَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَفْعُولُ يُؤْتُوا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى النَّفَقَةَ وَالْإِحْسَانَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: وَلَا يَأْتِلِ، أَيْ: لَا يُقَصِّرُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَالسِّعَةِ كَأَبِي بَكْرٍ فِي إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى كَمِسْطَحٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ يَأْتَلِ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَا يَأْلُو فِي الْأَمْرِ إِذَا قَصَّرَ فِيهِ وَأَبْطَأَ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا

[٣ \ ١١٨]، أَيْ لَا: يُقَصِّرُونَ فِي مَضَرَّتِكُمْ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْجَعْدِيِّ:

وَأَشْمَطَ عُرْيَانًا يَشُدُّ كِتَافَهُ ... يُلَامُ عَلَى جَهْدِ الْقِتَالِ وَمَا ائْتَلَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَإِنَّ كَنَائِنِي لَنِسَاءُ صِدْقٍ ... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلَا أَسَاءُوا

فَقَوْلُهُ: فَمَا آلَى بَنِيَّ: يَعْنِي مَا قَصَّرُوا، وَلَا أَبَطئُوا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ حَلِفَ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ، وَنُزُولَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْحَلِفِ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُهَاجِرِينَ، جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [٢ \ ٢٢٤]، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا قِيلَ لَكُمُ: اتَّقُوا وَبَرُّوا، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قُلْتُمْ: حَلَفْنَا بِاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَتَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَذَكَرْنَا مَا يُوَضِّحُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [٦ \ ٨٩] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْفُوا عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَيَصْفَحُوا وَأَصْلُ الْعَفْوِ: مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا طَمَسَتْهُ.

وَالْمَعْنَى: فَلْيَطْمِسُوا آثَارَ الْإِسَاءَةِ بِحِلْمِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ، وَالصَّفْحُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، أَيْ: أَعْرِضُوا عَنْ مُكَافَأَةِ إِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ تَوَلَّوْنَهَا بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ، مُعْرِضِينَ عَنْهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [٣ \ ١٣٣ - ١٣٤] وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْطِ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [٤ \ ١٤٩] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذَا الْآيَةِ أَنَّ الْعَفْوَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [١٥ \ ٨٥] وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [٤٢ \ ٤٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَلَى الْمُسِيءِ الْمُسْلِمِ مِنْ مُوجِبَاتِ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا، وَرَجَعَ لِلْإِنْفَاقِ فِي مِسْطَحٍ، وَمَفْعُولُ «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ» مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ: أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُولِي الْقُرْبَى أَيْ: أَصْحَابُ الْقَرَابَةِ، وَلَفْظَةُ أُولَى اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ يُعْرَبُ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.


فَائِدَةٌ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ; لِأَنَّ هِجْرَةَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَقَذْفَهُ لِعَائِشَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُبْطِلْ هِجْرَتَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهِ بَعْدَ قَذْفِهِ لَهَا وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هِجْرَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَمْ يُحْبِطْهَا قَذْفُهُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَبَائِرِ، وَلَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [٣٩ \ ٦٥] اهـ.

وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي الْآيَةِ وَصْفَ مِسْطَحٍ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لُطْفِ اللَّهِ بِالْقَذَفَةِ الْعُصَاةِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقِيلَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [٣٣ \ ٤٧] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ

[٤٢ \ ٢٢] فَشَرَحَ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ.

وَمِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الْآيَةَ [٣٩ \ ٥٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [٤٢ \ ١٩] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [٩٣ \ ٥] وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَا يَرْضَى بِبَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل آيَةُ الدَّيْنِ: وَهِيَ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِيهَا الطُّرُقَ الْكَفِيلَةَ بِصِيَانَةِ الدَّيْنِ مِنَ الضَّيَاعِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَقِيرًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ الْآيَةَ [٢ \ ٢٨٢]، قَالُوا: هَذَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ عَلَى صِيَانَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ، وَلَوْ قَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ التَّامَّةِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ لَا يُضَيِّعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ: مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [٣٥ \ ٣٢ - ٣٥] .

فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيرَاثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُ يَعْصِيهِ أَيْضًا فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [٩ \ ١٠٢] .

وَالثَّانِي: الْمُقْتَصِدُ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَا يَعْصِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ مِنَ الطَّاعَاتِ.

وَالثَّالِثُ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِيرَاثَهُمُ الْكِتَابَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَعَدَ الْجَمِيعَ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فِي قَوْلِهِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالْوَاوُ فِي يَدْخُلُونَهَا شَامِلَةٌ لِلظَّالِمِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ، فَوَعْدُهُ الصَّادِقُ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ لِجَمِيعِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَوَّلُهُمُ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَالْوَعْدُ الصَّادِقُ بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [٣٥ \ ٣٦ - ٣٧] .

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ تَقْدِيمِ الظَّالِمِ فِي الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِئَلَّا يَقْنُطَ، وَأَخَّرَ السَّابِقَ بِالْخَيْرِ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ فَيَحْبَطَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [٣٨ \ ٢٤] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْكَافِرِ تَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ اللِّسَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ \ ٦٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ

إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٤١ \ ٢٠ - ٢٣] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: يُوَفِّيهِمْ ; لِأَنَّ التَّوْفِيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [٥٣ \ ٤١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٣ \ ١٨٥] وَقَوْلِهِ، تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [٣ \ ١٦١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ: «دِينَهُمُ»، أَيْ: جَزَاءَهُمُ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دِينَهُمُ الْحَقَّ، أَيْ: جَزَاءَهُمُ الْوَاجِبَ الَّذِي هُمْ أَهْلُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عِبَادَهُ بِإِنْصَافٍ تَامٍّ، وَعَدْلٍ كَامِلٍ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [٤ \ ٤٠] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٠ \ ٤٤] وَقَوْلِهِ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [٢١ \ ٤٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَمِنْ إِتْيَانِ الدِّينِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [١ \ ٤] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ التَّعْبِيرِ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، مَعَ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَادَّةِ وَالْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ: أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ: الِاسْتِئْذَانُ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا يُنَاسِبُ لَفْظَهَا وَجْهَانِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا شَاهِدٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِاسْتِيحَاشِ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْرَعُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْ خَفَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ

اسْتَأْنَسَ وَزَالَ عَنْهُ الِاسْتِيحَاشُ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِئْنَاسُ لَازِمًا لِلْإِذْنِ أُطْلِقَ اللَّازِمُ، وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ الَّذِي هُوَ الْإِذْنُ، وَإِطْلَاقُ اللَّازِمِ، وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَالْقَائِلُونَ بِالْمَجَازِ يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُطْلِقَ فِيهَا اللَّازِمُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْنَاسُ وَأُرِيدَ مَلْزُومُهُ الَّذِي هُوَ الْإِذْنُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [٣٣ \ ٥٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [٢٤ \ ٢٨]، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ: وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِرْدَافِ ; لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ يَرْدِفُ الْإِذْنَ فَوُضِعَ مَوْضِعَ الْإِذْنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْنَاسُ بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ، وَالِاسْتِكْشَافِ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مَنْ آنَسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا أَوْ عَلِمَهُ.

وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَسْتَعْمِلُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ، هَلْ يُؤْذَنُ لَكُمْ أَوْ لَا؟ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، أَيْ: تَعَرَّفْتُ وَاسْتَعْلَمْتُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [٤ \ ٦]، أَيْ: عَلِمْتُمْ رُشْدَهُمْ وَظَهَرَ لَكُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ [٢٠ \ ١٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا الْآيَةَ [٢٨ \ ٢٩] فَمَعْنَى آنَسَ نَارًا: رَآهَا مَكْشُوفَةً، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:

كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ

مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمُصَيْرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ

فَقَوْلُهُ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ، يَعْنِي: حِمَارَ وَحْشٍ شَبَّهَ بِهِ نَاقَتَهُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُسْتَأْنِسًا أَنَّهُ يَسْتَكْشِفُ، وَيَسْتَعْمِلُ الْقَانِصِينَ بِشَمِّهِ رِيحَهُمْ وَحِدَّةِ بَصَرِهِ فِي نَظَرِهِ إِلَيْهِمْ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيِّ يَصِفُ نَعَامَةً شَبَّهَ بِهَا نَاقَتَهُ:

آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّا ... صُ عَصْرًا وَقَدْ دَنَا الْإِمْسَاءُ

فَقَوْلُهُ: آنَسَتْ نَبْأَةً، أَيْ: أَحَسَّتْ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ أَنَّ مَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا تَسْتَكْشِفُوا وَتَسْتَعْلُوا، هَلْ يُؤْذَنُ لَكُمْ، وَذَلِكَ الِاسْتِعْلَامُ وَالِاسْتِكْشَافُ إِنَّمَا يَكُونُ

بِالِاسْتِئْذَانِ أَظْهَرَ عِنْدِي، وَإِنِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَرَكْنَاهُ لِعَدَمِ اتِّجَاهِهِ عِنْدَنَا.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَأَنَّ الْكَاتِبِينَ غَلِطُوا فِي كِتَابَتِهِمْ، فَكَتَبُوا تَسْتَأْنِسُوا غَلَطًا بَدَلَ تَسْتَأْذِنُوا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ صَحَّحَ سَنَدَهُ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّتَهُ فَهُوَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي نُسِخَتْ وَتُرِكَتْ، وَلَعَلَّ الْقَارِئَ بِهَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعُوا عَلَى كِتَابَةِ تَسْتَأْنِسُوا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَعَلَى تِلَاوَتِهَا بِلَفْظِ: تَسْتَأْنِسُوا، وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي مَصَاحِفِهِمْ وَتِلَاوَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى حِفْظَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥ \ ٩] وَقَالَ فِيهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [٤١ \ ٤٢] وَقَالَ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ الْآيَةَ [٧٥ \ ١٦ - ١٧] .


مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ دَلَّتْ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ بِدُونِ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢٧]، نَهْيٌ صَرِيحٌ، وَالنَّهْيُ الْمُتَجَرِّدُ عَنِ الْقَرَائِنِ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، يَقُولُ الْمُسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ عِنْدَ الثَّالِثَةِ، فَلْيَرْجِعْ، وَلَا يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ

رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ رَجَعَ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا وَاللَّهِ يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا أَوْ مَذْعُورًا قُلْنَا: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُ بَابَهُ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا؟ فَقُلْتُ: إِنَّنِي أَتَيْتُكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» فَقَالَ عُمَرُ: أَقِمْ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قُلْتُ: أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهِ. حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُمْتُ مَعَهُ فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ فَشَهِدْتُ، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ هَذَا.

وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا حَفِظْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهَا، وَإِلَّا فَلْأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَتَانَا فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، قَالَ فَقُلْتُ: أَتَاكُمْ أَخُوكُمُ الْمُسْلِمُ قَدْ أُفْزِعَ، تَضْحَكُونَ انْطَلِقْ فَأَنَا شَرِيكُكَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فَأَتَاهُ، فَقَالَ هَذَا أَبُو سَعِيدٍ.

وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا إِلَى قَوْلِهِ: قَالَ لَتُقِيمَنَّ عَلَى هَذَا بَيِّنَةً، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ فَخَرَجَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،

فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى قَالَ عُمَرُ: إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْعَشِيُّ وَجَدُوهُ، قَالَ يَا أَبَا مُوسَى: مَا تَقُولُ أَقَدْ وَجَدْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ عَدْلٌ، يَا أَبَا الطُّفَيْلِ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ ذَلِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ: إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأُبَيٍّ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ آنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَا تَكُنْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ عُمَرَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ.

فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهم تَدُلُّ دَلَالَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ بَيْنَنَا مَعْرُوفٌ لِكِبَارِنَا، وَصِغَارِنَا، حَتَّى إِنَّ أَصْغَرَنَا يَحْفَظُهُ وَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اهـ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ كَمَا قَالَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِئْذَانَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالِاسْتِئْنَاسِ، وَالسَّلَامَ الْمَذْكُورَ فِيهَا لَا يُزَادُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَأَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ، هُوَ الِاسْتِئْذَانُ الْمُكَرَّرُ ثَلَاثًا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الثَّابِتَةُ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِئْنَاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا»: الِاسْتِئْذَانُ بِتَنَحْنُحٍ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذُكِرَ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ وَالتَّسْلِيمِ ثَلَاثًا كَمَا رَأَيْتَ.

وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: الِاسْتِئْنَاسُ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا إِلَى آخِرِهِ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ يُؤَيِّدُهَا أَنَّهُ ﷺ كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ، أَوْ أَبَا

مَسْعُودٍ قَالَ لِعُمَرَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، حَتَّى أَتَاهُ فَسَلَّمَ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّالِثَةَ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: «قَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا»، ثُمَّ رَجَعَ فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ، الْحَدِيثَ، فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ وَمِنْ فِعْلِهِ، وَقِصَّةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مُطَوَّلَةً بِمَعْنَاهُ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا فِيهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ وَمِنْ فِعْلِهِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ اسْتِئْذَانِهِ ﷺ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ:»السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ «، فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيَّ ﷺ حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يَسْمَعْهُ فَرَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا سَلَّمْتَ تَسْيلِمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكَ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا فَأَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ»: أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ «وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ - قَالَ»: زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا فَقَلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: دَعْهُ يُكْثِرْ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ»، فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ»، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ سَلَامَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقِصَّةَ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، فَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي الْآيَةِ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّنَحْنُحَ وَنَحْوُهُ، كَمَا عَزَاهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي لِلْجُمْهُورِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّمُ السَّلَامُ أَوِ الِاسْتِئْذَانُ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَشْرُوعٌ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالسُّنَّةُ: أَنْ يُسَلِّمَ وَيَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّلَامِ

وَالِاسْتِئْذَانِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ السَّلَامِ، ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ تَقْدِيمُ الِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ السَّلَامُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَقَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ، فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ وَالثَّانِي يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثَانِ فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا [٢٤ \ ٢٧] لَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذَانِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ، فَيَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخِيرِ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [٣ \ ٤٣] وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ [٣٣ \ ٧] وَنُوحٌ قَبْلَ نَبِيِّنَا ﷺ وَهَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ رُبَّمَا عُطِفَ بِهَا مُرَادًا بِهَا التَّرْتِيبُ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [٢ \ ١٥٨] وَقَدْ قَالَ ﷺ «: أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَكَقَوْلِ حَسَّانٍ رضي الله عنه:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ فِي هَذَا الْبَيْتِ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِي الْعَطْفِ، كَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَدْءِ بِالصَّفَا، أَوْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ كَالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ جَوَابَ الْهِجَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ، أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ رَاجِحٌ، وَلَا قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا بِالْوَاوِ، اهـ.

وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَكَرَّرَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الِاسْتِئْذَانِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ، بِأَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَانْظُرْهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ

صِيغَةَ الِاسْتِئْذَانِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَأْذِنُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ انْصَرَفَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي الصَّحِيحِ فِي سِيَاقِهَا تَغَايُرٌ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُوسَى بَعْدَ انْصِرَافِهِ، فَرَدَّهُ مِنْ حِينِهِ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَجَمَعَ بَيْنَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَيْنِ السِّيَاقَيْنِ التَّغَايُرُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى عُمَرَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَفِي الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ إِلَى أَنْ قَالَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَذَكَّرَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ الرَّسُولُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَجَاءَ هُوَ إِلَى عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، اهـ. مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


تَنْبِيهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سَمِعُوهُ لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوهُ، وَلَمْ يَأْذَنُوا لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَدْرِ هَلْ سَمِعُوهُ أَوْ لَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ.

التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ، لَمْ يَسْمَعُوا اسْتِئْذَانَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّالِثَةِ، بَلْ يَنْصَرِفُ بَعْدَهَا لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهَا بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَهُ الزِّيَادَةَ، وَمَنْ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَشْهَرُهَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ، وَلَا يُعِيدُ الِاسْتِئْذَانَ. وَالثَّانِي: يَزِيدُ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَظْهَرِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ ﷺ «: فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ عَلِمَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ، فَلَمْ يَأْذَنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.

التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُسْتَأْذِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ وَلَكِنَّهُ يَقِفُ جَاعِلًا الْبَابَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، وَيَسْتَأْذِنُ وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ الْمَنْزِلِ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ يَسَارِهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ فِي آخَرِينَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ قَالَ «: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ» السَّلَامُ عَلَيْكُمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ «وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ، انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، ح، وَثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا حَفْصٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ قَالَ عُثْمَانُ: سَعْدُ [بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ]، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْتَأْذِنُ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، قَالَ عُثْمَانُ: مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ»: هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِهِ انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَقَلْنَاهُمَا مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّ نُسْخَةَ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي عِنْدَنَا فِيهَا تَحْرِيفٌ فِيهِمَا.

وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لَا يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ خَوْفًا أَنْ يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ، فَيَرَى مِنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ مَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَإِنَّهُ وَقْتَ فَتْحِ الْبَابِ لَا يَرَى مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ: مَنْ أَنْتَ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَنَا بَلْ يُفْصِحُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَنَا يُعَبِّرُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْمُسْتَأْذِنِ، وَقَدْ ثَبَتَ مَعْنَى هَذَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ:» أَنَا أَنَا «، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» انْتَهَى مِنْهُ، وَتَكْرِيرُهُ ﷺ لَفْظَةَ أَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا مِنْ جَابِرٍ ; لِأَنَّهَا لَا يُعْرَفُ بِهَا الْمُسْتَأْذِنُ فَهِيَ جَوَابٌ لَهُ ﷺ بِمَا لَا يُطَابِقُ سُؤَالَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ جَوَابَ

الْمُسْتَأْذِنِ بِأَنَا، لَا يَجُوزُ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَدَعَوْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ أَنَا فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَنَا» .

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَنَا أَنَا» .

وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ «ح» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ «ح» وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمْ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلُ جَابِرٍ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى مِنْ تَكْرِيرِهِ ﷺ لَفْظَةَ أَنَا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَهُ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَاقِي الْجَمَاعَةِ.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ الْبَالِغِينَ ; لِأَنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَقَدْ تَقَعُ عَيْنُهُ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا جُعِلُ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» مَا نَصُّهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْرَعُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْمَحَارِمِ ; لِئَلَّا تَكُونَ مُنْكَشِفَةَ الْعَوْرَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ عَنْ نَافِعٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَلَغَ بَعْضُ وَلَدِهِ الْحُلُمَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ مَا عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ بِالنُّونِ مُصَغَّرًا: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أُمِّي فَدَخَلَ، وَاتَّبَعْتُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: تَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟

قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ إِنَّهَا فِي حِجْرِي؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.

وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَيُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ»، فَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ لَا يَحِلُّ، كَمَا تَرَى، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ كُرْدُوسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ. وَقَالَ أَشْعَثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي أَحَدٌ عَلَيْهَا لَا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدَهُنَّ النَّاسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [٤٩ \ ١٣]، قَالَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُكُمْ بَيْتًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْأَدَبُ كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ، قَالَ: قُلْتُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى، فَقَالَ: تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إِلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ، قَالَ: وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيَّ الْأَعْمَى أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَيْكُمُ الْإِذْنَ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ وَلِأَنَّهُ لَا حِشْمَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، وَيَجُوزُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُلَابَسَاتِ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَلَوْ كَانَ أَبًّا أَوْ أُمًّا أَوِ ابْنًا، كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَبِيهِ طَلْحَةَ عَلَى أُمِّهِ فَزَجَرَهُ طَلْحَةُ عَنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أُمِّهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، مَعَ أَنَّ طَلْحَةَ زَوْجَهَا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ»: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ، فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، قَالَ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى إِبَاحَةَ نَظَرِ الزَّوْجِ إِلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِذَا قَالَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ لِلْمُسْتَأْذِنِ: ارْجِعْ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [٢٤ \ ٢٨]، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَمَنَّى إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى بَعْضِ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: ارْجِعْ، لِيَرْجِعَ، فَيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ إِنَّهُ أَزْكَى لَنَا لَا شَكَّ أَنَّ لَنَا فِيهِ خَيْرًا وَأَجْرًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وَأَرْجَحَهَا فِيمَنْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ إِلَى دَاخِلِ مَنْزِلِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِهَا، لِيَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ وَلَا غُرْمِ دِيَةِ الْعَيْنِ وَلَا قِصَاصٍ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَلِذَا لَمْ نَذْكُرْ هُنَا أَقْوَالَ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِسُقُوطِهَا عِنْدَنَا، لِمُعَارَضَتِهَا النَّصَّ الثَّابِتَ عَنْهُ ﷺ قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي «صَحِيحِهِ»: بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَحَادِيثِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ «: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»، اهـ مِنْهُ، وَالْجُنَاحُ الْحَرَجُ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»، لَفْظُ جُنَاحٍ فِيهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ رَفْعَ كُلِّ حَرَجٍ مِنْ إِثْمٍ وَدِيَةٍ وَقِصَاصٍ، كَمَا تَرَى.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي «صَحِيحِهِ»: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ»، اهـ مِنْهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ ﷺ أَنَّهُمْ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ، وَكَوْنُ ذَلِكَ حَلَالًا لَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إِثْمٍ، وَلَا دِيَةٍ، وَلَا قِصَاصٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى فِعْلِهِ الْبَتَّةَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله تَعَالَى فِي «صَحِيحِهِ» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: لَوْ أَنَّ رجلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ»، اهـ مِنْهُ.

وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي عَيْنِ الْمَذْكُورِ، وَثُبُوتُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا رَأَيْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى وَانْتَهَكَ الْحُرْمَةَ، وَنَظَرَ إِلَى بَيْتِ غَيْرِهِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ، أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ فِي أَخْذِ عَيْنِهِ الْخَائِنَةِ، وَأَنَّهَا هَدْرٌ لَا عَقْلَ فِيهَا، وَلَا قَوَدَ، وَلَا إِثْمَ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا تَوْكِيدًا وَإِيضَاحًا مَا جَاءَ عَنْهُ ﷺ مِنْهُ أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، وَهِيَ قَوْلُهُ: بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ جُحَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ.

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحَرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ»، اهـ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ هُنَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ.

وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ: بَابُ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» .

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَنْ أَوَّلَهَا ; لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِشْقَصَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَفَتْحِ ثَالِثِهِ هُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ ﷺ الْجُحْرُ الْأَوَّلُ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كُلُّ ثُقْبٍ مُسْتَدِيرٍ فِي أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ، وَالثَّانِي: بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ: وَهِيَ نَاحِيَةُ الْبَيْتِ.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، وَأَبِي كَامِلٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ»، وَفِي مُسْلِمٍ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدِ اكْتَفَيْنَا مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا.

وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا، وَلَا تَأْوِيلُهَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ يَحِلُّ أَخْذُهَا، وَتَكُونُ هَدْرًا، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَلَا لِتَأْوِيلِهِمْ لِلنُّصُوصِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى شَخْصٍ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِرْسَالُ إِلَيْهِ إِذْنًا ; لِأَنَّهُ طَلَبَ حُضُورَهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا جَاءَ مُنْزِلَ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَلَهُ الدُّخُولُ بِلَا إِذْنٍ جَدِيدٍ اكْتِفَاءً بِالْإِرْسَالِ إِلَيْهِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا أَتَى الْمَنْزِلَ اسْتِئْذَانًا جَدِيدًا، وَلَا يَكْتَفِي بِالْإِرْسَالِ؟ وَكُلٌّ مِنَ

الْقَوْلَيْنِ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ إِذْنٌ يَكْفِي عَنِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ إِتْيَانِ الْمَنْزِلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حَبِيبٍ، وَهُشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ»، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ»، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ: قَتَادَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي رَافِعٍ شَيْئًا، اهـ مِنْ أَبِي دَاوُدَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»: وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ، اهـ.

وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: بَابُ إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ؟ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «: هُوَ إِذْنُهُ» اهـ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، إِلَّا مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»: فِي حَدِيثِ كَوْنِ «رَسُولِ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ»، وَلَهُ مُتَابِعٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِلَفْظِ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ»، وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ «: إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَهُوَ إِذْنُهُ»، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا: بِأَنَّ مَنْ دُعِيَ لَا يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ إِلَى مَنْزِلِ الْمُرْسِلِ، وَلَا يَكْتَفِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ»: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ «: أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ»، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، اهـ مِنْهُ، قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ ﷺ أَرْسَلَ أَبَا هِرٍّ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِرْسَالِ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ وَلَوْ كَانَ يَكْفِي عَنْهُ لَبَيَّنَهُ ﷺ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الْآيَةَ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَشْمَلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي»: وَجَمَعَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ بِتَنْزِيلِ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ طَالَ الْعَهْدُ بَيْنَ الطَّلَبِ وَالْمَجِيءِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ الِاسْتِئْذَانِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطُلْ لَكِنْ كَانَ الْمُسْتَدْعِي فِي مَكَانٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْعَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ الْأَوَّلَ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَسْتَأْذِنُ لِأَجْلِهِ، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ. قَالَ: وَالِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَحْوَطُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ حَضَرَ صُحْبَةَ الرَّسُولِ أَغْنَاهُ اسْتِئْذَانُ الرَّسُولِ، وَيَكْفِيهِ سَلَامُ الْمُلَاقَاةِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الرَّسُولِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ، وَبِهَذَا جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، وَإِلَّا لَقَالَ: فَأَقْبَلْنَا، كَذَا قَالَ، اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْجَمْعُ الْأَخِيرُ، وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمِ: فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ، وَيَدْخُلُ فِي حِفْظِ الْفَرْجِ: حِفْظُهُ مِنَ الزِّنَى، وَاللِّوَاطِ، وَالْمُسَاحَقَةِ، وَحِفْظُهُ مِنَ الْإِبْدَاءِ لِلنَّاسِ وَالِانْكِشَافِ لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ حِفْظَهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَلْزَمُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الزَّوْجَةَ وَالسُّرِّيَّةَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنُونَ» وَ«سَأَلَ سَائِلٌ»، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [٢٣ \ ٥ - ٦] وَ[٧٠ \ ٢٩ - ٣٠] .

فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ حِفْظَ الْفَرْجِ مِنَ الزِّنَى، وَاللِّوَاطِ لَازِمٌ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهُ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِالْمِلْكِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ فَرْجِهِ عَنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الدُّبُرِ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى آيَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ [٢٣ \ ٥]، فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ»، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، إِذَا عَمِلَ مَعَهَا الْخِصَالَ الْمَذْكُورَةَ مَعَهَا فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ إِلَى

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [٣٣ \ ٣٥]، وَأَوْضَحَ تَأْكِيدَ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنِ الزِّنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [١٧ \ ٣٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ الْآيَةَ [٢٥ \ ٦٨ - ٧٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَوْضَحَ لُزُومَ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنِ اللِّوَاطِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عُدْوَانٌ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ; كَقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [٢٦ \ ١٦٥ - ١٦٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [٢٩ \ ٢٨ - ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتَهُمْ فِي عُقُوبَةِ فَاعِلِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ فِي سُورَةِ «هُودٍ»، وَعُقُوبَةَ الزَّانِي فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِحِفْظِ الْفَرْجِ يَتَنَاوَلُ حِفْظَهُ مِنَ انْكِشَافِهِ لِلنَّاسِ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَحِفْظُ الْفَرْجِ تَارَةً يَكُونُ بِمَنْعِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ الْآيَةَ [٢٣ \ ٥]، وَتَارَةً يَكُونُ بِحِفْظِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالسُّنَنِ «: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»، اهـ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمُرَادُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ، وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ، وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ مَزِيدَةً، وَأَبَاهُ سِيبَوَيْهِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ دَخَلَتْ فِي غَضِّ الْبَصَرِ دُونَ حِفْظِ الْفَرْجِ؟ قُلْتُ: دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَوْسَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَحَارِمَ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُعُورِهِنَّ، وَصُدُورِهِنَّ، وَثُدِيِّهِنَّ، وَأَعْضَادِهِنَّ، وَأَسْوُقِهِنَّ، وَأَقْدَامِهِنَّ، وَكَذَلِكَ الْجَوَارِي الْمُسْتَعْرَضَاتُ، وَالْأَجْنَبِيَّةُ يُنْظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَمَّا أَمْرُ الْفَرْجِ فَمُضَيَّقٌ، وَكَفَاكَ فَرْقًا أَنْ أُبِيحَ النَّظَرَ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، وَحُظِرَ الْجِمَاعُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَعَ حِفْظِهَا مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ حِفْظُهَا عَنِ الْإِبْدَاءِ.

وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ عَنِ الزِّنَى إِلَّا هَذَا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِتَارَ، اهـ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.

وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِحِفْظِ الْفَرْجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاسْتِتَارُ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا حِفْظُهُ مِنَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيمُهُ الْأَمْرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَلَى الْأَمْرِ بِحِفْظِ الْفَرْجِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَى، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذُكِرَ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَحَارِمِ لَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ نَظَرٍ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، كَمَا وَعَدْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنَّا نُوَضِّحُ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» .

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ: إِنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ لِلتَّبْعِيضِ، قَالَهُ غَيْرُهُ، وَقَوَّاهُ الْقُرْطُبِيُّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ نَظْرَةَ الْفُجَاءَةِ لَا حَرَجَ فِيهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ بَعْدَهَا، وَلَا يَنْظُرَ نَظَرًا عَمْدًا إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ الْغَضُّ: النُّقْصَانُ، يُقَالُ: غَضَّ فَلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ عَمَلِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ، فَـ مِنْ صِلَةٌ لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، وَلَا لِلزِّيَادَةِ، اهـ مِنْهُ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَادَّةَ الْغَضِّ تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفَسِهَا وَتَتَعَدَّى إِلَيْهِ أَيْضًا بِالْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أُمْثِلَةِ تَعَدِّي الْغَضِّ لِلْمَعْقُولِ بِنَفْسِهِ قَوْلُ جَرِيرٍ:

فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا

وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:

وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَمَا كَانَ غَضُّ الطَّرْفِ مِنَّا سَجِيَّةً ... وَلَكِنَّنَا فِي مُذْحِجٍ غِرْبَانِ

لِأَنَّ قَوْلَهُ: غَضُّ الطَّرْفِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ بِدُونِ حَرْفٍ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ تَعَدِّي الْغَضِّ بِـ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ قَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَهْدِيدُ مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْهُ، وَلَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْحَرَامِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ [٤٠ \ ١٩] .

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صَدْرَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ، قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قَالَ قَتَادَةُ: عَمًّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ النَّظَرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ فِيهِ الْوَعِيدُ لِمَنْ يَخُونُ بِعَيْنِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.

مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ «: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ «: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»، انْتَهَى، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي «صَحِيحِهِ» .

وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْدَفَ النَّبِيُّ ﷺ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا فَوَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ ﷺ وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، الْحَدِيثَ.

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ: أَنَّهُ ﷺ صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَظَرَهُ إِلَيْهَا لَا يَجُوزُ، وَاسْتِدْلَالُ مَنْ يَرَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْكَشْفَ عَنْ وَجْهِهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ بِكَشْفِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَجْهَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي

الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحِجَابِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» .

وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: مِنْ أَنَّ نَظَرَ الْعَيْنِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهَا تَكُونُ بِهِ زَانِيَةً، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنِ: النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ: الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ»، اهـ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هُنَا.

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ «: فَزِنَى الْعَيْنِ النَّظَرُ»، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الزِّنَى عَلَى نَظَرِ الْعَيْنِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّظَرَ سَبَبُ الزِّنَى فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى جَمَالِ امْرَأَةٍ مَثَلًا قَدْ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ تَمَكُّنًا يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَالنَّظَرُ بَرِيدُ الزِّنَى، وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيُّ:

كَسَبَتْ لِقَلْبِي نَظْرَةً لِتَسُرَّهُ ... عَيْنِي فَكَانَتْ شِقْوَةً وَوَبَالًا

مَا مَرَّ بِي شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْهَوَى ... سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْهَوَى وَتَعَالَى

وَقَالَ آخَرُ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَيْنَ لِلْقَلْبِ رَائِدٌ ... فَمَا تَأْلَفُ الْعَيْنَانِ فَالْقَلْبُ آلِفُ

وَقَالَ آخَرُ:

وَأَنْتَ إِذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمُنَاظِرُ

رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ

وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:

وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ ... فَمَنِ الْمُطَالِبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ «ذَمِّ الْهَوَى» فُصُولًا جَيِّدَةً نَافِعَةً أَوْضَحَ فِيهَا الْآفَاتِ الَّتِي يُسَبِّبُهَا النَّظَرُ وَحَذَّرَ فِيهَا مِنْهُ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِ الشُّعَرَاءِ، وَالْحِكَمِ النَّثْرِيَّةِ

فِي ذَلِكَ وَكُلُّهُ مَعْلُومٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَرْجِعُ جَمِيعُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الزِّينَةَ هُنَا نَفْسُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا.

الثَّانِي: أَنَّ الزِّينَةَ هِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ خَارِجًا عَنْ بَدَنِهَا.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْمُلَاءَةِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَالْإِزَارِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ.

فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ الْوَجْهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَالْخِضَابِ وَالْخَاتَمِ، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْيَدِ، وَكَالْقُرْطِ وَالْقِلَادَةِ وَالسِّوَارِ، فَإِنَّ رُؤْيَةَ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ مَحَلِّهِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَمَا لَا يَخْفَى.

وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا يُفْهَمُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ رُجْحَانُهُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَيْ: لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ، إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ، يَعْنِي عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا، وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُهَا إِخْفَاؤُهُ وَنَظِيرُهُ فِي زِيِّ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ مِنْ إِزَارِهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، وَقَالَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَمَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نُهِينَ عَنْ إِبْدَائِهَا ; كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الزِّينَةُ: الْقُرْطُ، وَالدُّمْلُوجُ، وَالْخَلْخَالُ، وَالْقِلَادَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ، فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ الْخَاتَمُ وَالسِّوَارُ، وَزِينَةٌ يَرَاهَا

الْأَجَانِبُ، وَهِيَ الظَّاهِرُ مِنَ الثِّيَابِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَبْدُو لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَخْمِرَةُ وَالْأَقْرِطَةُ مِنْ غَيْرِ حَسْرٍ، وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ، فَلَا يَبْدُو مِنْهَا إِلَّا الْخَوَاتِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا: الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا: بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»:

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِيُّ، وَمُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَقَالَ «: يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا»، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مُرْسَلٌ، خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ، وَزَادَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْوَجْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَعَطَاءٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَابُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ وَالْقِرَطَةُ وَالْفَتَخُ وَنَحْوُ هَذَا، فَمُبَاحٌ أَنْ تُبْدِيَهُ الْمَرْأَةُ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي مَعْنَى نِصْفِ الذِّرَاعِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَذَكَرَ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا عَرَكَتْ أَنْ تُظْهِرَ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا إِلَى هَاهُنَا»، وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ لَا تُبْدِيَ وَأَنْ تَجْتَهِدَ فِي الْإِخْفَاءِ لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَةٌ، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ حَرَكَةٍ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ إِصْلَاحِ شَأْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا ظَهَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي النِّسَاءِ، فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ.

قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورُهُمَا عَادَةً، وَعِبَادَةً وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَ الَّذِي

قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً، وَخِيفَ مِنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَةُ، فَعَلَيْهَا سَتْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ مُقَبَّحَةً جَازَ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الزِّينَةُ مَا تَزَيَّنَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ حُلِيٍّ أَوْ كُحْلٍ أَوْ خِضَابٍ، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْهَا كَالْخَاتَمِ وَالْفَتْخَةِ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا خَفِيَ مِنْهَا كَالسِّوَارِ، وَالْخَلْخَالِ، وَالدُّمْلُجِ، وَالْقِلَادَةِ، وَالْإِكْلِيلِ، وَالْوِشَاحِ، وَالْقُرْطِ، فَلَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَذَكَرَ الزِّينَةَ دُونَ مَوَاقِعِهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالتَّصَوُّنِ وَالتَّسَتُّرِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ وَاقِعَةٌ عَلَى مَوَاضِعَ مِنَ الْجَسَدِ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ الذِّرَاعُ، وَالسَّاقُ، وَالْعَضُدُ، وَالْعُنُقُ، وَالرَّأْسُ، وَالصَّدْرُ، وَالْأُذُنُ، فَنَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ نَفْسِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ النَّظَرَ إِذَا لَمْ يَحِلَّ إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا تِلْكَ الْمَوَاقِعَ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا غَيْرَ مُلَابَسَةٍ لَهَا لَا مَقَالَ فِي حِلِّهِ، كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْمَوَاقِعِ أَنْفُسِهَا مُتَمَكِّنًا فِي الْحَظْرِ، ثَابِتَ الْقَدَمِ فِي الْحُرْمَةِ، شَاهِدًا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ حَقُّهُنَّ أَنْ يَحْتَطْنَ فِي سَتْرِهَا وَيَتَّقِينَ اللَّهَ فِي الْكَشْفِ عَنْهَا، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ»: وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ قَالَ: الزِّينَةُ السِّوَارُ وَالدُّمْلُجُ وَالْخَلْخَالُ، وَالْقُرْطُ، وَالْقِلَادَةُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الثِّيَابُ وَالْجِلْبَابُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ،، زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ. فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ: فَالْكُحْلُ، وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ، وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا الثِّيَابُ، وَمَا يَخْفَى: فَالْخَلْخَالَانِ وَالْقُرْطَانِ وَالسِّوَارَانِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ.

وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ، وَالْخَاتَمُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: وَجْهُهَا، وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ؟ فَقَالَتِ: الْقَلْبُ وَالْفَتَخُ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْوَجْهُ وَثُغْرَةُ النَّحْرِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْوَجْهُ وَالْكَفُّ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْكَفَّانِ وَالْوَجْهُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْمُسْكَتَانِ وَالْخَاتَمُ وَالْكُحْلُ.

قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَّا إِلَى هَاهُنَا» وَيَقْبِضُ نِصْفَ الذِّرَاعِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْقُلْبَيْنِ، يَعْنِي السِّوَارَ وَالْخَاتَمَ وَالْكُحْلَ.

وَأَخْرَجَ سَعِيدٌ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ: الْخَاتَمُ وَالْمَسَكَةُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَتْ عَلَيَّ ابْنَةُ أَخِي لِأُمِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ مُزَيَّنَةً، فَدَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَعْرَضَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي وَجَارِيَةٌ، فَقَالَ «: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ إِلَّا وَجْهَهَا وَإِلَّا مَا دُونَ

هَذَا»، وَقَبَضَ عَلَى ذِرَاعِهِ نَفْسِهِ، فَتَرَكَ بَيْنَ قَبْضَتِهِ وَبَيْنَ الْكَفِّ مِثْلَ قَبْضَةٍ أُخْرَى، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» .

وَقَدْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النُّقُولِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ السَّلَفِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ; كَمَا ذَكَرْنَا:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا ; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّهَا ظَاهِرُ الثِّيَابِ ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، كَمَا تَرَى.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا وَأَحْوَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا أَيْضًا، لَكِنَّ النَّظَرَ إِلَى تِلْكَ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ كَالْخِضَابِ وَالْكُحْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْمَوْضِعِ الْمُلَابِسِ لَهُ مِنَ الْبَدَنِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ بَعْضُ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ إِرَادَةَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ، مَعَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ فِي الْغَالِبِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِدَلَالَةِ غَلَبَةِ إِرَادَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَكَرْنَا لَهُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْجَمَةِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ لِلَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمَثَّلْنَا لَهُمَا بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي مَعْنَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ مَثَلًا، تُوجَدُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ

هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ أَنَّ الزِّينَةَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، هِيَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا: كَالْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ. فَتَفْسِيرُ الزِّينَةِ بِبَعْضِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: الْوَجْهُ، وَالْكَفَّانِ خِلَافُ ظَاهِرِ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا نَوْعُ الْبَيَانِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ، فَإِيضَاحُهُ: أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُرَادًا بِهِ الزِّينَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ أَصْلِ الْمُزَيَّنِ بِهَا، وَلَا يُرَادُ بِهَا بَعْضُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [٧ \ ٣١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [٧ \ ٣٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا [١٨ \ ٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [٢٨ \ ٦٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [٣٧ \ ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [١٦ \ ٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ الْآيَةَ [٢٨ \ ٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [١٨ \ ٤٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الْآيَةَ [٥٧ \ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [٢٠ \ ٥٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُوسَى: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [٢٠ \ ٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [٢٤ \ ٣١]، فَلَفْظُ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا يُرَادُ بِهِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ، كَمَا تَرَى، وَكَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، الَّذِي غَلَبَتْ إِرَادَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عَطَلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَفْسِيرَ الزِّينَةِ فِي الْآيَةِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فِيهِ نَظَرٌ.

وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَسَّرُوهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ كَظَاهِرِ الثِّيَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ

إِلَيْهَا رُؤْيَةَ مَوْضِعِهَا مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ هِيَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ أَحْوَطُ الْأَقْوَالِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ، وَأَطْهَرُهَا لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ هُوَ أَصْلُ جَمَالِهَا وَرُؤْيَتَهُ مِنْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الِافْتِتَانِ بِهَا ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَالْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكَرِيمِ، هُوَ تَمَامُ الْمُحَافَظَةِ، وَالِابْتِعَادُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ وَإِيضَاحَ كَوْنِ الرَّجُلِ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا قَدْ وَعَدْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاضِعِ، بِأَنَّنَا سَنُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْحِجَابِ، وَسَنَفِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَعْدِ فِي ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ لِلْمُنْصِفِ مَا ذَكَرْنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي دُخُولِ أَسْمَاءَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي ثِيَابٍ رِقَاقٍ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا «: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا»، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ، حَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ; كَمَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مُرْسَلٌ، وَخَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ.

وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَسَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانًا شَافِيًا مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْجَمِيعِ فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ»، وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا.


تَنْبِيهٌ.

قَدْ ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ أَسْمَاءَ كَثِيرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لَا يَعْرِفُ مَعْنَى تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الزِّينَةِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَهَا هَاهُنَا تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ.

أَمَّا الْكُحْلُ وَالْخِضَابُ فَمَعْرُوفَانِ، وَأَشْهَرُ أَنْوَاعِ خِضَابِ النِّسَاءِ الْحِنَّاءُ، وَالْقُرْطُ مَا يُعَلَّقُ فِي شَحْمَةِ الْأُذُنِ، وَيُجْمَعُ عَلَى قِرَطَةٍ كَقِرَدَةٍ، وَقِرَاطٍ، وَقُرُوطٍ، وَأَقْرَاطٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكَ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ

وَالْخَاتَمُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَصَابِعِ، وَالْفَتَخُ: جَمْعُ فَتْخَةٍ بِفَتَخَاتٍ وَهِيَ حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لَا فَصَّ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ فِيهَا فَصٌّ، فَهُوَ الْخَاتَمُ، وَقِيلَ: قَدْ يَكُونُ لِلْفَتْخَةِ فَصٌّ، وَعَلَيْهِ فَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْخَوَاتِمِ، وَالْفَتْخَةُ تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ فِي أَصَابِعِ أَيْدِيهِنَّ، وَرُبَّمَا جَعَلَتْهَا الْمَرْأَةُ فِي أَصَابِعِ رِجْلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزَةِ، وَهِيَ الدَّهْنَاءُ بِنْتُ مِسْحَلٍ زَوْجَةُ الْعَجَّاجِ:

وَاللَّهِ لَا تَخْدَعُنِي بِضَمِّ ... وَلَا بِتَقْبِيلٍ وَلَا بِشَمِّ

إِلَّا بِزِعْزَاعٍ يُسَلِّي هَمِّي ... تَسْقُطُ مِنْهُ فَتَخِي فِي كُمِّي

وَالْخَلْخَالُ، وَيُقَالُ لَهُ:

الْخُلْخُلُ حِلْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ تَلْبَسُهَا النِّسَاءُ فِي أَرْجُلِهِنَّ كَالسِّوَارِ فِي الْمِعْصَمِ، وَالْمُخَلْخَلُ: مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ مِنَ السَّاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

إِذَا قُلْتُ هَاتِي نَوَّلِينِي تَمَايَلَتْ ... عَلَيَّ هَضِيمَ الْكَشْحِ رَيَّا الْمُخَلْخَلِ

وَالدُّمْلُجُ: وَيُقَالُ لَهُ الدُّمْلُوجُ: هُوَ الْمُعَضَّدُ، وَهُوَ مَا شُدَّ فِي عَضُدِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْخَرَزِ وَغَيْرِهِ، وَالْعَضُدُ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي ... كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ وَخَلْخَالِ

وَالسِّوَارُ: حِلْيَةٌ مِنَ الذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ مُسْتَدِيرَةٌ كَالْحَلْقَةِ تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فِي مِعْصَمِهَا، وَهُوَ مَا بَيْنَ مَفْصِلِ الْيَدِ وَالْمِرْفَقِ، وَهُوَ الْقُلْبُ بِضَمِّ الْقَافِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْقُلْبَ هُوَ السِّوَارُ الْمَفْتُولُ مِنْ طَاقٍ وَاحِدٍ لَا مِنْ طَاقَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي زَوْجَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه:

تَجُولُ خَلَاخِيلُ النِّسَاءِ وَلَا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خَلْخَالًا يَجُولُ وَلَا قُلْبًا

أُحِبُّ بَنِي الْعَوَّامِّ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبًا.

وَالْمَسَكَةُ بِفَتْحَاتٍ: السِّوَارُ مِنْ عَاجٍ أَوْ ذَبْلٍ، وَالْعَاجُ سِنُّ الْفِيلِ، وَالذَّبْلُ بِالْفَتْحِ شَيْءٌ كَالْعَاجِ، وَهُوَ ظَهْرُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّوَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ يَصِفُ امْرَأَةً:

تَرَى الْعَبَسَ الْحَوْلِيَّ جَوْنًا بِكُوعِهَا ... لَهَا مَسَكًا فِي غَيْرِ عَاجٍ وَلَا ذَبَلْ

قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ»، وَالْمَسَكُ بِفَتْحَتَيْنِ: جَمْعُ مَسَكَةٍ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْمَسَكُ أَسْوِرَةٌ مِنْ عَاجٍ أَوْ قُرُونٍ أَوْ ذَبَلٍ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا الْفِضَّةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْآيَةَ [٩ \ ٣٤]، فِي مَبْحَثِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَمَعَهَا ابْنَتُهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسَكَةَ تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، كَمَا تَكُونُ مِنَ الْعَاجِ، وَالْقُرُونِ، وَالذَّبَلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ خِلَافًا لِكَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسَكَ لَا يَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْقِلَادَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَانَ التَّقْصِيرُ فِي امْتِثَالِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ قَدْ يَحْصُلُ عِلْمُ خَلْقِهِ مَا يَتَدَارَكُونَ بِهِ، مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ.

وَالثَّانِي: النَّدَمُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.

وَالثَّالِثُ: النِّيَّةُ أَلَّا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، وَتَأْخِيرُهَا لَا يَجُوزُ فَتَجِبُ مِنْهُ التَّوْبَةُ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ أَشْهَرَ مَعَانِي لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ اثْنَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّرَجِّي، أَيْ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا، وَعَلَى هَذَا فَالرَّجَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ، أَمَّا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ إِطْلَاقُ الرَّجَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي مُخَاطَبَةِ فِرْعَوْنَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [٢٠ \ ٤٤]

وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - عَالِمٌ بِمَا سَبَقَ فِي الْأَزَلِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى.

مَعْنَاهُ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا رَجَاءً مِنْكُمَا بِحَسَبِ عَدَمِ عِلْمِكُمَا بِالْغَيْبِ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ كُلَّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ لِلتَّعْلِيلِ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ»، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [٢٦ \ ١٢٩]، قَالُوا: فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَعَلَّ لِلتَّعْلِيلِ مَعْلُومٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

أَيْ: كَفُّوا الْحُرُوبَ، لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ ; كَمَا تَقَدَّمَ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمَعْنَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لِأَجْلِ أَنْ تُفْلِحُوا، أَيْ: تَنَالُوا الْفَلَاحَ، وَالْفَلَاحُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ لَبِيَدٍ:

فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ

أَيْ: فَازَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ مِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَقْلَ.

الْمَعْنَى الثَّانِي: هُوَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ فِي النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ، وَقِيلَ: كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... وَالْمِسَا وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ

يَعْنِي: أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَعَاقُبِ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ أَيْضًا:

لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ ... لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ

يَعْنِي: لَوْ كَانَ أَحَدٌ يُدْرِكُ الْبَقَاءَ، وَلَا يَمُوتُ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ، وَهُوَ عَمُّهُ عَامِرُ بْنُ

مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَعْرُوفُ بِمُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ يَمْدَحُهُ، وَيَذُمُّ أَخَاهُ الطُّفَيْلَ وَالِدَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْمَشْهُورِ:

فَرَرْتَ وَأَسْلَمْتَ ابْنَ أُمِّكَ عَامِرًا ... يُلَاعِبُ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُزَعْزَعِ

وَبِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْفَلَاحِ فُسِّرَ حَدِيثُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَمَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ - كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ - نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ، فَإِنَّهُ يَفُوزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ يَنَالُ الْبَقَاءَ الْأَبَدِيَّ فِي النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَمْرِهِ - جَلَّ وَعَلَا - لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّوْبَةِ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى فَلَاحِهِمْ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَ أَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الذُّنُوبَ، وَيُكَفِّرُ بِهَا السَّيِّئَاتِ، أَنَّهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ عز وجل جَوَّادٌ كَرِيمٌ، رَحِيمٌ غَفُورٌ، فَإِذَا أَطْمَعَ عَبْدَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فَضْلِهِ، فَجُودُهُ وَكَرَمُهُ تَعَالَى وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ الَّذِي أَطْمَعَهُ رَبُّهُ فِي ذَلِكَ الْفَضْلِ يَثِقُ بِأَنَّهُ مَا أَطْمَعَهُ فِيهِ إِلَّا لِيَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَتْ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [٦٦ \ ٨]، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» هَذِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ; كَقَوْلِهِ فِي آيَةِ «النُّورِ»: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَنْ كُفِّرَتْ عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ»: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ فِي «النُّورِ»: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا وَنِدَاؤُهُ لَهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فِي الْآيَتَيْنِ فِيهِ تَهْيِيجٌ لَهُمْ، وَحَثٌّ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، يَقْتَضِي الْمُسَارَعَةَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالرَّجَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ عَسَى فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ»، هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظَةِ لَعَلَّ فِي آيَةِ «النُّورِ»، كَمَا لَا يَخْفَى.


تَنْبِيهَاتٌ.

الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: هِيَ التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ.

وَحَاصِلُهَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ

مُلْتَبِسًا بِهِ، وَيَنْدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَيَنْوِي نِيَّةً جَازِمَةً أَلَّا يَعُودَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَبَدًا.

وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَكَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الذَّنْبِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ تَوْبَتَهُ الْأُولَى الْوَاقِعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ لَا يُبْطِلُهَا الرُّجُوعُ إِلَى الذَّنْبِ، بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ جَدِيدٍ لِذَنْبِهِ الْجَدِيدِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ عَوْدَهُ لِلذَّنْبِ نَقْضٌ لِتَوْبَتِهِ الْأُولَى.

الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَوْبَةٌ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا بِالنَّدَمِ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ، إِنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِهِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَإِيضَاحُهُ فِي الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ النَّدَمُ أَنَّ النَّدَمَ لَيْسَ فِعْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ انْفِعَالٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا إِلَّا بِفِعْلٍ يَقَعُ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يُكَلِّفُ أَحَدًا بِشَيْءٍ إِلَّا شَيْئًا هُوَ فِي طَاقَتِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٦]، وَقَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤ \ ١٦] .

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّدَمَ انْفِعَالٌ لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَلَيْسَ بِفِعْلٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ، وَالتَّكْلِيفُ لَا يَقَعُ بِغَيْرِ الْفِعْلِ، وَلَا بِمَا لَا يُطَاقُ، كَمَا بَيَّنَّا، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ»:

وَلَا يُكَلِّفُ بِغَيْرِ الْفِعْلِ ... بَاعِثُ الْأَنْبِيَا وَرَبُّ الْفَضْلِ

وَقَالَ أَيْضًا:

وَالْعِلْمُ وَالْوُسْعُ عَلَى الْمَعْرُوفِ ... شَرْطٌ يَعُمُّ كُلَّ ذِي تَكْلِيفِ

وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَاخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِوَارِ الْعَقْلِيِّ، وَالْمَعْنَى هَلْ يُجِيزُهُ الْعَقْلُ أَوْ يَمْنَعُهُ؟ .

أَمَّا وُقُوعُهُ بِالْفِعْلِ فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِهِ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ هَلْ يَجُوزُ عَقْلًا، أَوْ لَا؟ أَمَّا وُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ عَقْلًا، أَوْ عَادَةً، فَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى مَنْعِهِ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِحَالَةُ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ أَزَلًا، وَمِثَالُ الْمُسْتَحِيلِ عَقْلًا أَنْ يُكَلَّفَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، أَوِ النَّقِيضَيْنِ كَالْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً كَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ

بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْإِنْسَانِ بِالطَّيَرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ لِأَجْلِ عِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَلَا خِلَافَ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ فَإِيمَانُ أَبِي لَهَبٍ مَثَلًا كَانَ اللَّهُ عَالِمًا فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ ; كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [١١ \ ٣]، فَوُقُوعُهُ مُحَالٌ عَقْلًا لِعِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ ; لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَاسْتَحَالَ الْعِلْمُ بِعَدَمِهِ جَهْلًا، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُسْتَحِيلَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ جَائِزٌ عَقْلًا، إِذْ لَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ إِيمَانَ أَبِي لَهَبٍ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِيلًا لَمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ فَالْإِمْكَانُ عَامٌّ، وَالدَّعْوَةُ عَامَّةٌ، وَالتَّوْفِيقُ خَاصٌّ.

وَإِيضَاحُ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّظَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: الْوَاجِبُ عَقْلًا.

الثَّانِي: الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا.

الثَّالِثُ: الْجَائِزُ عَقْلًا، وَبُرْهَانُ الْحَصْرِ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَنَّ الشَّيْءَ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَيْءٌ، لَا يَخْلُو مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْ ثَلَاثِ حَالَاتٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ، وَلَا يَقْبَلُ عَدَمَهُ بِحَالٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقْبَلُ عَدَمَهُ وَلَا يَقْبَلُ وُجُودَهُ بِحَالٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَقْبَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ مَعًا، فَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ دُونَ عَدَمِهِ، فَهُوَ الْوَاجِبُ عَقْلًا، وَذَلِكَ كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ وُجُودُ خَالِقِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ وَأَنَّهَا خُلِقَتْ بِلَا خَالِقٍ، لَمْ يَقْبَلْهُ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَقْبَلُ عَدَمَهُ، دُونَ وُجُودِهِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا ; كَشَرِيكِ اللَّهِ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَلَوْ عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ عَدَمُ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِي مُلْكِهِ، وَعِبَادَتِهِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ وَجُودُهُ لَمْ يَقْبَلْهُ بِحَالٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [٢١ \ ٢٢]، وَقَالَ: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [٢٣ \ ٩١]، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ مَعًا، فَهُوَ الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ الْجَائِزُ الذَّاتِيُّ، وَذَلِكَ كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ لَوْ عُرِضَ وُجُودُهُ عَلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ لَقَبِلَهُ، وَلَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ عَدَمُهُ بَدَلَ وَجُودِهِ لَقَبِلَهُ أَيْضًا، كَمَا لَا يَخْفَى، فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا جَوَازًا ذَاتِيًّا، وَلَا خِلَافَ فِي التَّكْلِيفِ بِهَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ الذَّاتِيُّ.

وَقَالَتْ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: إِنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ قِسْمَانِ فَقَطْ، وَهُمَا: الْوَاجِبُ عَقْلًا، وَالْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا، قَالُوا: وَالْجَائِزُ عَقْلًا لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَزَعَمُوا أَنَّ دَلِيلَ الْحَصْرِ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلَهِ، بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ فَهُوَ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ وُجُودِهِ مَعَ سَبْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ بِوُجُودِهِ، كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ عَقْلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَكَانَ عِلْمُهُ جَهْلًا سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَالِمًا فِي أَزَلِهِ، بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا، إِذْ لَوْ وُجِدَ لَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِيمَانَ أَبِي لَهَبٍ، وَأَبِي بَكْرٍ كِلَاهُمَا يُجِيزُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ، فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ وُجُودَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْجَائِزَيْنِ فَأَوْجَدَهُ، وَشَاءَ عَدَمَ الْآخَرِ، فَلَمْ يُوجِدْهُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ اسْتِحَالَةً ذَاتِيَّةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً، كَمَا لَا يَخْفَى.

أَمَّا الْجَائِزُ الذَّاتِيُّ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ جَائِزٌ، وَوَاقِعٌ إِجْمَاعًا كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَإِنِ اسْتَحَالَ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ هَذَا الْجَائِزَ الذَّاتِيَّ مُسْتَحِيلًا عَرَضِيًّا، وَنَحْنُ نُنَزِّهُ صِفَةَ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الِاسْتِحَالَةَ بِسَبَبِهَا عَرَضِيَّةٌ.

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ مُجْمِعُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ الذَّاتِيِّ، كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُسْتَحِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ.

أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَمَشْيِ الْمُقْعَدِ، وَطَيَرَانِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ آلَةٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَنْعِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٢]، وَقَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤ \ ١٦]، وَقَالَ ﷺ «: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ: فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِالْمُسْتَحِيلِ الذَّاتِيِّ عَادَةً وَعَقْلًا، وَبِالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ عَقْلًا مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ

لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِالْفِعْلِ، وَحُجَّةُ مَنْ يَمْنَعُهُ عَقْلًا أَنَّهُ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، فَتَكْلِيفُهُ بِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مُحَقَّقًا عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، قَالُوا فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ خَبِيرٌ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ أَنَّ فَائِدَتَهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ، هَلْ يَتَأَسَّفُ عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَامْتَثَلَ، وَالِامْتِحَانُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّكْلِيفِ، كَمَا كَلَّفَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَذْبَحُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا التَّكْلِيفِ هِيَ ابْتِلَاءُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ: اخْتِبَارُهُ، هَلْ يَمْتَثِلُ؟ فَلَمَّا شَرَعَ فِي الِامْتِثَالِ فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [٣٧ \ ١٠٣ - ١٠٧] .

وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» إِلَى مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَأَقْوَالِ الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا، وَهِيَ اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَقْلًا، مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مَنْعِهِ إِنْ كَانَتِ الِاسْتِحَالَةُ لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ، بِعَدَمِ الْوُقُوعِ كَالِاسْتِحَالَةِ الذَّاتِيَّةِ، بِقَوْلِهِ:

وَجَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ ... فِي الْكُلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ الْأَحْوَالِ

وَقِيلَ بِالْمَنْعِ لِمَا قَدِ امْتَنَعْ ... لِغَيْرِ عِلْمِ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ يَقَعْ

وَلَيْسَ وَاقِعًا إِذَا اسْتَحَالَا ... لِغَيْرِ عِلْمِ رَبِّنَا تَعَالَى

وَقَوْلُهُ: وَجَوَّزَ التَّكْلِيفَ، يَعْنِي: الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ.

وَقَوْلُهُ: وَقِيلَ بِالْمَنْعِ، أَيْ: عَقْلًا، وَمُرَادُهُ بِالثَّلَاثَةِ الْأَحْوَالِ مَا اسْتَحَالَ عَقْلًا وَعَادَةً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَمَا اسْتَحَالَ عَادَةً كَمَشْيِ الْمُقْعَدِ، وَطَيَرَانِ الْإِنْسَانِ، وَإِبْصَارِ الْأَعْمَى، وَمَا اسْتَحَالَ لِعِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَجِبُ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ الْإِنْسَانُ فَوْرًا، وَأَنَّ النَّدَمَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَرُكْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَالنَّدَمُ لَيْسَ بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ بِاسْتِطَاعَةِ الْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ، وَالِانْفِعَالَاتُ لَيْسَتْ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَا وَجْهُ التَّكْلِيفِ بِالنَّدَمِ، وَهُوَ غَيْرُ فِعْلٍ لِلْمُكَلَّفِ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّكْلِيفِ بِالنَّدَمِ التَّكْلِيفُ بِأَسْبَابِهِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا، وَهِيَ فِي طَوْقِ الْمُكَلَّفِ، فَلَوْ رَاجَعَ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ نَفْسَهُ مُرَاجَعَةً صَحِيحَةً،

وَلَمْ يُحَابِهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَعَلِمَ أَنَّ لَذَّةَ الْمَعَاصِي كَلَذَّةِ الشَّرَابِ الْحُلْوِ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ الْقَاتِلُ، وَالشَّرَابُ الَّذِي فِيهِ السُّمُّ الْقَاتِلُ لَا يَسْتَلِذُّهُ عَاقِلٌ لِمَا يَتْبَعُ لَذَّتَهُ مِنْ عَظِيمِ الضَّرَرِ، وَحَلَاوَةُ الْمَعَاصِي فِيهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ السُّمِّ الْقَاتِلِ، وَهُوَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ سَخَطِهِ عَلَى الْعَاصِي، وَتَعْذِيبِهِ لَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَعِقَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي قَدْ يَأْتِيهِ فِي الدُّنْيَا فَيُهْلِكُهُ، وَيُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْحَيَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ جَعَلَ أَسْبَابَ النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَسِيلَةً إِلَى النَّدَمِ، أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إِلَى حُصُولِ النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْأَسْبَابِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلنَّدَمِ، وَأَنَّهُ إِنِ اسْتَعْمَلَهَا حَصَلَ لَهُ النَّدَمُ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُكَلَّفًا بِالنَّدَمِ، مَعَ أَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النَّدَمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ:

فَلَا تَقْرَبِ الْأَمْرَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ ... حَلَاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا

وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رحمه الله أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا ... مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْإِثْمُ وَالْعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا ... لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ

وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ، مَعَ بَقَاءِ فَسَادِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، أَيْ: أَثَرُهُ السَّيِّئُ هَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ فِي تَوْبَتِهِ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِلْعَجْزِ عَنْ إِزَالَةِ فَسَادِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوَ لَا تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ الْإِقْلَاعَ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ التَّوْبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا مَنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ مِنَ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلْعَذَابِ إِذَا بَثَّ بِدْعَتَهُ، وَانْتَشَرَتْ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَابَ مِنَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ وَنَوَى أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا، مَعَ أَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنْ بِدْعَتِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، لِانْتِشَارِهَا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا ; وَلِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَفَسَادُ بِدْعَتِهِ بَاقٍ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا، ثُمَّ سَكَنَ فِي وَسَطِهَا، ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْغَصْبِ نَادِمًا عَلَيْهِ، نَاوِيًا أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ بِسُرْعَةٍ، وَسَلَكَ أَقْرَبَ طَرِيقٍ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا، فَهَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً، فِي وَقْتِ سَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ فَعَلَ فِي تَوْبَتِهِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الْغَصْبِ، لَمْ يَتِمَّ مَا دَامَ مَوْجُودًا فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَوْ كَانَ يَسِيرُ فِيهَا، لِيَخْرُجَ مِنْهَا.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِسَهْمٍ، ثُمَّ تَابَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَنَوَى أَلَّا يَعُودَ قَبْلَ إِصَابَةِ السَّهْمِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي رَمَاهُ بِهِ بِأَنْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ وَالسَّهْمُ فِي الْهَوَاءِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَرْمِيِّ، هَلْ تَكُونُ تَوْبَتُهُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ; لِأَنَّ إِقْلَاعَهُ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ سَهْمَهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى إِصَابَةِ مُسْلِمٍ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ فِي كُلِّ الْأَمْثِلَةِ صَحِيحَةٌ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مَعْذُورٌ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٦]، إِلَى آخِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا قَرِيبًا.

وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُعْتَزِلَةِ كَابْنِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ: إِنَّ التَّائِبَ الْخَارِجَ مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ آتٍ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْخُرُوجِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَالْمُكْثِ، وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَحَقَّقُ عِنْدَ انْتِهَائِهِ إِذْ لَا إِقْلَاعَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَالْإِقْلَاعُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْخُرُوجُ عِنْدَهُ قَبِيحٌ ; لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْإِقْلَاعِ، فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ الْمَذْكُورَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ عَنِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا بِنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، لَكِنَّهُ أَخَلَّ بِأَصْلٍ لَهُ آخَرَ، وَهُوَ مَنْعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ خَرَجَ عَصَى، وَإِنْ مَكَثَ عَصَى، فَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الضِّدَّيْنِ كِلَيْهِمَا، اهـ، قَالَهُ فِي «نَشْرِ الْبُنُودِ» .

وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» مُقْتَصِرًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، بِقَوْلِهِ:

مَنْ تَابَ بَعْدَ أَنْ تَعَاطَى السَّبَبَا ... فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَجَبَا

وَإِنْ بَقِي فَسَادُهُ كَمَنْ رَجَعَ ... عَنْ بَثِّ بِدْعَةٍ عَلَيْهَا يُتَّبَعْ

أَوْ تَابَ خَارِجًا مَكَانَ الْغَصْبِ ... أَوْ تَابَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الضَّرْبِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْإِنْكَاحُ هُنَا مَعْنَاهُ: التَّزْوِيجُ، وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى أَيْ: زَوِّجُوهُمْ، وَالْأَيَامَى: جَمْعُ أَيِّمٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْأَيِّمُ: هُوَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَيِّمٌ، وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرَارٍ فِي شِعْرِهِ: الْأَيِّمَ الْأُنْثَى بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ فِي حَالَتِهَا الرَّاهِنَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

يُقِرُّ بِعَيْنِي أَنْ أُنَبَّأَ أَنَّهَا ... وَإِنْ لَمْ أَنَلْهَا أَيِّمٌ لَمْ تَزَوَّجِ

فَقَوْلُهُ: «لَمْ تَزَوَّجِ» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهَا أَيِّمٌ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيِّمِ عَلَى الذَّكَرِ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ:

لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ... أَيِّمٌ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ

وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأُنْثَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أُحِبُّ الْأَيَامَى إِذْ بُثَيْنَةُ أَيِّمُ ... وَأَحْبَبْتُ لَمَّا أَنْ غَنِيتُ الْغَوَانِيَا

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آمَ الرَّجُلُ يَئِيمُ، وَآمَتِ الْمَرْأَةُ تَئِيمُ، إِذَا صَارَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا أَيِّمًا، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: تَأَيَّمَ إِذَا كَانَ أَيِّمًا.

وَمِثَالُهُ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبِ ... رَجَاءَ بِسَلْمَى أَنْ تَئِيمَ كَمَا إِمْتُ

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ:

فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُمُ أَتَأَيَّمُ

وَمِنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا، قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ:

كُلُّ امْرِئٍ سَتَئِيمُ مِنْهُ ... الْعُرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

نَجَوْتَ بِقَوْفِ نَفْسِكَ غَيْرَ أَنِّي ... إِخَالُ بِأَنْ سَيَيْتِمُ أَوْ تَئِيمُ

يَعْنِي: يَيْتِمُ ابْنُكَ وَتَئِيمُ امْرَأَتُكَ.

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْكُمْ أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَيْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ أَنَّ الْأَيَامَى مِنْ غَيْرِكُمْ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْكُفَّارُ لَيْسُوا كَذَلِكَ.

وَهَذَا الْمَفْهُومُ الَّذِي فُهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَيَامَى الْكُفَّارِ الذُّكُورِ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [٢ \ ٢٢١]، وَقَوْلُهُ فِي أَيَامَاهُمُ الْإِنَاثِ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [٢ \ ٢٢١]، وَقَوْلُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [٦٠ \ ١٠] .

وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ الصَّرِيحَةِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرَةِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَاتِ خَصَّصَتْهُ آيَةُ «الْمَائِدَةِ»، فَأَبَانَتْ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ خَاصَّةً ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [٥ \ ٥]، فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَاطِفًا عَلَى مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمِ لِلْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّزْوِيجَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، إِلَّا صُورَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تُزَوُّجُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ بِالْمَرْأَةِ الْمُحْصَنَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنِيَّةٌ، كَمَا رَأَيْتَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ تَزْوِيجِ الْأَيَامَى مِنَ الْمَمْلُوكِينَ الصَّالِحِينَ، وَالْإِمَاءِ الْمَمْلُوكَاتِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ; لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَالِيَةَ مِنْ زَوْجٍ إِذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَرَضِيَتْهُ، وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا إِيَّاهُ، وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، مِنْ أَنَّ السَّيِّدَ لَهُ مَنْعُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ مِنَ التَّزْوِيجِ مُطْلَقًا غَيْرُ صَوَابٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِمَائِكُمْ بَيَّنَتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُزَوَّجُ لِلْحُرِّ إِلَّا بِالشُّرُوطِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ، فَآيَةُ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةُ مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِ آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَاءِ، وَآيَةُ «النِّسَاءِ» الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [٤ \ ٢٥]، فَدَلَّتْ آيَةُ «النِّسَاءِ» هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَمْلُوكَةَ الْمُؤْمِنَةَ، إِلَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ تَزْوِيجَ حُرَّةٍ لِعَدَمِ الطَّوْلِ عِنْدَهُ، وَقَدْ خَافَ الزِّنَى فَلَهُ حِينَئِذٍ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ بِإِذْنِ أَهْلِهَا الْمَالِكِينَ لَهَا، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَهْرِهَا، وَهِيَ مُؤْمِنَةٌ عَفِيفَةٌ لَيْسَتْ مِنَ الزَّانِيَاتِ وَلَا مُتَّخِذَاتِ الْأَخْدَانِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَصَبْرُهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا خَيْرٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ تَزْوِيجِهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاضْطِرَارِ خَيْرًا لَهُ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ، إِلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [٤ \ ٢٥]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [٤ \ ٢٥]، أَيِ: الزِّنَى إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُطْلَقًا، إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «النُّورِ» هَذِهِ: وَإِمَائِكُمْ خَصَّصَتْ عُمُومَهُ آيَةُ «النِّسَاءِ» كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلَّةَ مَنْعِ تَزْوِيجِ الْحُرِّ الْأُمَّةَ، أَنَّهَا إِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا ; لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، فَيَلْزَمُهُ أَلَّا يَتَسَبَّبَ فِي رِقِّ أَوْلَادِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فِيهِ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَزَوِّجِ الْفَقِيرِ مِنَ الْأَحْرَارِ، وَالْعَبِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يُغْنِيهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْفُقَرَاءَ بِالْيُسْرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُسْرِ، وَأَنْجَزَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [٦٥ \ ٧]، أَيْ: ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَى قَوْلِهِ

تَعَالَى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [٦٥ \ ٧]، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَعَدَ بِهِ مَنِ اتَّقَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ الْآيَةَ [٦٥ \ ٢ - ٣]، وَوَعَدَ بِالرِّزْقِ أَيْضًا مَنْ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَيَصْطَبِرُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [٢٠ \ ١٣٢]، وَقَدْ وَعَدَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالرِّزْقِ الْكَثِيرِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [٧١ \ ١٠ - ١٢]، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [١١ \ ٥٢]، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَسُلَّمَ -: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [١١ \ ٣] .

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلرِّزْقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٧ \ ٩٦]، وَمِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَمِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الْآيَةَ [٥ \ ٦٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [١٦ \ ٩٧]، أَيْ: فِي الدُّنْيَا ; كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ \ ٩٧]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَعَدَ بِالْغِنَى عِنْدَ التَّزْوِيجِ وَعِنْدَ الطَّلَاقِ.

أَمَّا التَّزْوِيجُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.

وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ الْآيَةَ [٤ \ ١٣٠]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَزَوِّجَ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ بِالْغِنَى، هُوَ الَّذِي يُرِيدُ بِتَزْوِيجِهِ الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ ; كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» الْحَدِيثَ، وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالتَّزْوِيجِ طَاعَةَ اللَّهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ، فَالْوَعْدُ بِالْغِنَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ.

وَقَدْ رَأَيْتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعْدِ اللَّهِ بِالرِّزْقِ مَنْ أَطَاعَهُ سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَكْرَمَهُ، فَإِنَّهُ يَجْزِي بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا قَالَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ مَالَهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَا يُطْلَقُ الْغِنَى إِلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ الَّذِي بِهِ صَارَ غَنِيًّا، وَوَجْهُهُ قَوِيٌّ وَلَا يُنَافِي أَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي مَلَكَ لَهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.

هَذَا الِاسْتِعْفَافُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [٢٤ \ ٣٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [١٧ \ ٣٢]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لَهُنَّ وَلَهُمْ.

وَأَظْهَرُهَا أَنَّ الْمَعْنَى غَفُورٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا أُكْرِهُ عَلَيْهِ، بَلْ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لَهُ لِعُذْرِهِ بِالْإِكْرَاهِ ; كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ الْآيَةَ [١٦ \ ١٠٦]، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم جَمِيعًا -.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ اسْتِشْهَادًا بِهَا لِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ كَمَا هُنَا، فَزِيَادَةُ لَفْظَةِ لَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ذَكَرْنَا اسْتِشْهَادٌ بِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ لِبَيَانٍ بِقِرَاءَةٍ غَيْرِ شَاذَّةٍ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، هُوَ الْمَعْذُورُ بِالْإِكْرَاهِ دُونَ الْمُكْرَهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي فِعْلِهِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ بَيَانُ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [١٦ \ ١٠٦] .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيقِ الْمَغْفِرَةِ بِهِنَّ ; لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَى، بِخِلَافِ الْمُكْرِهِ عَلَيْهِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ آثِمَةٍ.

قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ دُونَ مَا اعْتَبَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ إِكْرَاهٍ بِقَتْلٍ، أَوْ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، أَوْ ذَهَابُ الْعُضْوِ مِنْ ضَرْبٍ عَنِيفٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الْإِثْمِ، وَرُبَّمَا قَصُرَتْ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي تَعَذَّرَ فِيهِ فَتَكُونُ آثِمَةً، انْتَهَى مِنْهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْإِكْرَاهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غُفْرَانٌ وَرَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعَبْدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَا وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، وَيَدْخُلُ فِيهَا دُخُولًا أَوَّلِيًّا الْآيَاتُ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحَتْ فِي مَعَانِي الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [٢٤ \ ١] وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَاتِ الْمُصَرَّحَ بِنُزُولِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ الْآيَةَ.

وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أَيْ: تَتَّعِظُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْمَوَاعِظِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِهَا، أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّاسُ، وَيَتَّعِظُوا بِمَا فِيهَا، وَيَدُلَّ لِذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [٣٨ \ ٢٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [٧ \ ١ - ٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، أَيْ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.

قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَمَثَلًا مَعْطُوفٌ عَلَى آيَاتٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: قِصَّةً غَرِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ فِي بَرَاءَتِهِمَا.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَثَلًا مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً مِنْ قِصَصِهِمْ كَقِصَّةِ يُوسُفَ، وَمَرْيَمَ يَعْنِي قِصَّةَ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ ذِكْرَهُ غَيْرُهُمَا.

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ مَثَلًا، أَيْ: قِصَّةً عَجِيبَةً غَرِيبَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ الْعَجِيبَةُ مِنْ أَمْثَالِ «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ»، أَيْ: مِنْ جِنْسِ قِصَصِهِمُ الْعَجِيبَةِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَالْمُرَادُ بِالْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي أَنْزَلَ إِلَيْنَا، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا هِيَ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِمَّا رَمَاهَا بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [٢٤ \ ١١] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢٦]، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا أَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ رَمَوْا عَائِشَةَ، وَأَنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا فِي كِتَابِهِ مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ، وَعَلَى هَذَا:

فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَمْيِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهَا سُوءًا تَعْنِي الْفَاحِشَةَ قَالَتْ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [١٢ \ ٢٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [١٢ \ ٣٥] ; لِأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ بِضْعَ سِنِينَ، بِدَعْوَى أَنَّهُ كَانَ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْفِرْيَةِ الَّتِي افْتُرِيَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ النِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ نَفْسِهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [١٢ \ ٥٠ - ٥١]، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهَا مَعَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ الْآيَةَ [١٢ \ ٣٢] .

فَقِصَّةُ يُوسُفَ هَذِهِ مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّهُ رَمَى بِإِرَادَةِ الْفَاحِشَةِ وَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ

ذَلِكَ، وَالْمَثَلُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، شَبِيهٌ بِقِصَّةِ يُوسُفَ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَعَائِشَةُ كِلَاهُمَا رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكِلَاهُمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَرَاءَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَزَلَ بِهَا هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَتْ بَرَاءَةُ يُوسُفَ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِإِقْرَارِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالنِّسْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ مِنْ أَهْلِهَا، إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ الْآيَةَ [١٢ \ ٢٦ - ٢٨] .

وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِبَعْضِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا مَا ذَكرَه تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مَرْيَمَ مِنْ أَنَّهُمْ رَمَوْهَا بِالْفَاحِشَةِ، لَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [٤ \ ١٥٦] يَعْنِي فَاحِشَةَ الزِّنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [١٩ \ ٢٧] يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا مِمَّا رَمَوْهَا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [١٩ \ ٢٩ - ٣٣] فَكَلَامُ عِيسَى، وَهُوَ رَضِيعٌ بِبَرَاءَتِهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَرِيئَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا مَعَ بَيَانِ سَبَبِ حَمْلِهَا بِعِيسَى، مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [١٩ \ ١٦ - ٢٢] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهِ فِيهَا بَرَاءَتَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [٢١ \ ٩١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّحْرِيمِ: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [٦٦ \ ١٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ يُوسُفَ وَبَرَاءَتِهِ وَقَذْفِ مَرْيَمَ وَبَرَاءَتِهَا

مِنْ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا فَهِيَ مَا يُبَيِّنُ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.

وَالْآيَاتُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَذْفِ عَائِشَةَ وَبَرَاءَتِهَا بَيَّنَتِ الْمَثَلَ الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْنَا، وَكَوْنُهُ مِنْ نَوْعِ أَمْثَالِ مَنْ قَبْلَنَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ عَائِشَةَ، وَمَرْيَمَ، وَيُوسُفَ رُمِيَ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ بَرَّأَهُ اللَّهُ، وَقِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ عَجِيبَةٌ، وَلِذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَ«مَوْعِظَةً» مَا وُعِظَ بِهِ فِي الْآيَاتِ وَالْمَثَلِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [٢٤ \ ٢]، لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [٢٤ \ ١٢]، وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [٢٤ \ ١٦]، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [٢٤ \ ١٧]، اهـ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ خُصُوصِ الْمَوْعِظَةِ بِالْمُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا.

وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [٣٥ \ ١٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [٧٩ \ ٤٥] فَخَصَّ الْإِنْذَارَ بِمَنْ ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ ﷺ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [٢٥ \ ١] وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [٥٠ \ ٤٥] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَشُعْبَةُ بْنُ عَاصِمٍ: مُبَيَّنَاتٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ: فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا، وَأَوْضَحَهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُبَيِّنَاتٍ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ مَعْرُوفًا.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: اسْمُ فَاعِلِ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مُبَيِّنَاتٍ الْأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مُبَيِّنَاتٍ: وَصْفٌ مِنْ «بَيَّنَ» اللَّازِمَةِ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَعَلَيْهِ

فَالْمَعْنَى آيَاتٌ مُبَيِّنَاتٌ أَيْ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتٌ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا [٢٤ \ ١]، وَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمَا وَمَثَّلُوا لِبَيَّنَ اللَّازِمَةِ بِالْمَثَلِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ بَيَّنَ مُضَعَّفًا، وَأَبَانَ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي مُتَعَدِّيَةً لِلْمَفْعُولِ وَلَازِمَةً، فَتَعَدِّي بَيَّنَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُورٌ وَاضِحٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ [٣ \ ١١٨] وَتَعَدِّي أَبَانَ لِلْمَفْعُولِ مَشْهُودٌ وَاضِحٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِمْ: أَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، أَيْ: بَيَّنَهَا لَهُ، وَأَوْضَحَهَا، وَأَمَّا وُرُودُ بَيَّنَ لَازِمَةً بِمَعْنَى تَبَيَّنَ وَوَضُحَ فَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَذْكُورُ: قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ ... يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ

فَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ بِكَسْرِ الْيَاءِ بِمَعْنَى: يَظْهَرُ، وَيَتَّضِحُ وَقَوْلُ جَرِيرٍ أَيْضًا:

رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا ... وَبَيَّنَتِ الْمِرَاضَ مِنَ الصِّحَاحِ.

وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذُرَيْحٍ:

وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى ... شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الْأَشَاجِعُ

عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بِرَفْعِ «شُحُوبٌ» .

وَالْمَعْنَى: لِلْحُبِّ عَلَامَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْكَسْرِ، أَيْ: تَظْهَرُ وَتَتَّضِحُ بِالْفَتَى، وَهِيَ شُحُوبٌ إِلَخْ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ هَذَا الْبَيْتَ، فَقَالَ: شُحُوبًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ ; لِأَنَّ شُحُوبًا عَلَى هَذَا مَفْعُولُ تُبَيِّنُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ بَيَّنَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَمَّا وُرُودُ أَبَانَ لَازِمَةً بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ، فَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ الْمُقْرَفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ

أَيْ: ظَهَرَتِ الْمُقْرَفَاتُ وَتَبَيَّنَتْ، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:

لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا ... لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودُ

أَيْ: لَظَهَرَ وَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُودٌ، أَيْ: وَرَمٌ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ

فَقَوْلُهُ: مُبِينٌ وَصْفٌ مِنْ أَبَانَتِ اللَّازِمَةِ: أَيْ عِتْقٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، أَيْ كَرَمٌ ظَاهِرٌ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ.

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ وَالْمَعْنَى وَاضِحٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَشُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ قَدْ دَلَّتِ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَهُ: رِجَالٌ فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا، قِيلَ: وَمَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا؟ قَالَ رِجَالٌ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رِجَالٌ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَا لَفْظُهُ، وَقَدِ الْتَزَمْنَا أَنَّا لَا نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ سَبْعِيَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِرَاءَةً أُخْرَى فِي الْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ نَفْسِهَا، أَوْ آيَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ يُبَيِّنُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ فِيهَا مَعْنَى بَعْضٍ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَالْآيَتَيْنِ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ: يُسَبِّحُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَاعِلُهُ رِجَالٌ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمَحْذُوفَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِحَذْفِ الْفَاعِلِ هُوَ رِجَالٌ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ حُذِفَ فِيهَا الْفَاعِلُ لِـ «يُسَبِّحُ»، وَحُذِفَ أَيْضًا الْفِعْلُ الرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ رِجَالٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا

كَمِثْلِ زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَرَا

وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ أَوْ غَيْرَهُ:

لِيُبْكَ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ

وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ

فَقَوْلُهُ: لِيُبْكَ يَزِيدُ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَتْحِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ

يَبْكِيهِ؟ فَقَالَ: يَبْكِيهِ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ إِلَخْ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ هُنَا كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ: كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ بِفَتْحِ الْحَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَقَوْلُهُ: اللَّهُ فَاعِلُ يُوحَى الْمَحْذُوفَةِ، وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، بِكَوْنِهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى سَبِيلِ مَدْحِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا يَنْبَغِي التَّسَاهُلُ فِيهَا بِحَالٍ; لِأَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ عَلَى الْمُتَّصِفِ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الثَّنَاءِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْإِخْلَالِ بِهَا نَهْيًا جَازِمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٦٣ \ ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ الْآيَةَ [٦٢ \ ٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.


مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَشُعْبَةَ: يُسَبَّحُ سُنَّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يُسَبِّحُ بِالْكَسْرِ، فَلَا يَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْآصَالِ ; لِأَنَّ فَاعِلَ يُسَبِّحُ رِجَالٌ، وَالْوَقْفُ دُونَ الْفَاعِلِ لَا يَنْبَغِي كَمَا لَا يَخْفَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُؤَنَّثَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْبُيُوتِ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ، هِيَ الْمَسَاجِدُ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ تَخْصِيصَهُ مَنْ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ يُسَبِّحْنَ لَهُ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ لَفْظِ الرِّجَالِ، مَفْهُومُ لَقَبٍ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِ لَفْظِهِ، وَأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّ مَفْهُومَ الرِّجَالِ هُنَا مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ

لَفْظِ الرِّجَالِ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى مُجَرَّدِهِ اسْمَ جِنْسٍ جَامِدٍ وَهُوَ لَقَبٌ بِلَا نِزَاعٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ مَا هُوَ مُنَاسِبٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا تُخْشَى مِنْهُمُ الْفِتْنَةُ، وَلَيْسُوا بِعَوْرَةٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ الذُّكُورَةِ وَصْفٌ صَالِحٌ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْخُرُوجُ إِلَيْهَا دُونَ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَقَبًا فَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْصَافِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، يَقْتَضِي اعْتِبَارَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي لَفْظِ رِجَالٍ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَفْهُومُ صِفَةٍ لَا مَفْهُومَ لَقَبٍ ; لِأَنَّ لَفْظَ الرِّجَالِ مُسْتَلْزِمٌ لِأَوْصَافٍ صَالِحَةٍ لِإِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِهِ، وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: رِجَالٌ، مَفْهُومُ صِفَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ صِفَاتِ الذُّكُورَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَا مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَأَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ هُنَا: رِجَالٌ فِيهِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْبَيَانَ الْقُرْآنِيَّ إِذَا كَانَ غَيْرَ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ، فَإِنَّا نُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَفْسِيرٌ لِلْمُبَيِّنِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَتْ أَمْثِلَةٌ لِذَلِكَ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ بَيَّنَتْ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رِجَالٌ، فَبَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ مُعْتَبَرٌ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَسْنَ كَالرِّجَالِ فِي حُكْمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَأَوْضَحَتْ أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا فِي الْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَبَيَّنَتْ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِشُرُوطٍ سَيَأْتِي إِيضَاحُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُنَّ إِذَا اسْتَأْذَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُمْ مَأْمُورُونَ شَرْعًا بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الْتِزَامِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ.

أَمَّا أَمْرُ أَزْوَاجِهِنَّ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ " إِذَا اسْتَأْذَنَتِ

امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا «وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: بَابُ اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ»: إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْنَعْهَا «وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ»: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ «تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ سَالِمًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ»: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا «وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا اسْتَأْذَنُوكُمْ»، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَعُومِلْنَ مُعَامَلَةَ الذُّكُورِ لِطَلَبِهِنَّ الْخُرُوجَ إِلَى مَجْلِسِ الذُّكُورِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّيْخَيْنِ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَخْرَجَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمَا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَزْوَاجَ النِّسَاءِ مَأْمُورُونَ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، إِذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ، وَمَنْهِيُّونَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا.

وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَمْرَ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلنَّدْبِ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ ﷺ عَنْ مَنْعِهِنَّ، قَالُوا: هُوَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ ;

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَانْتَفَى مَعْنَى الِاسْتِئْذَانِ ; لَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ أَوِ الرَّدِّ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ: فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» بِأَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ ; لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِفَضِيلَةٍ اهـ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الْفِتْنَةَ مِمَّا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ لَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ مِنْهُ ﷺ عَنْ مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْأَمْرِ الصَّرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهَا وَصِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَصِيغَةُ النَّهْيِ كَذَلِكَ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢٤ \ ٦٣] وَقَالَ ﷺ «: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْذَنُ مُخَيَّرًا فِي الْإِجَابَةِ، وَالرَّدُّ غَيْرَ مُسَلِّمٍ، إِذْ لَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِذْنَ لِامْرَأَتِهِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَإِيجَابُ الْإِذْنِ لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ. وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَلَى إِيجَابِهِ فَلَا وَجْهَ لِرَدِّهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ وَاجِبٌ، فَلَا تَتْرُكُهُ لِلْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنْ يَرِدَ بِهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ مِنْهُ ﷺ فَأَمْرُهُ ﷺ الزَّوْجَ بِالْإِذْنِ لَهَا يُلْزِمُهُ ذَلِكَ، وَيُوجِبُهُ عَلَيْهِ، فَلَا يُعَارَضُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ كَمَا تَرَى. وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ: مِنْ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ قَالَ بِهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ مُسْلّمٍ أَيْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي أَمْرِ الْأَزْوَاجِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ ابْنُهُ: لَا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ، غَضِبَ وَشَتَمَهُ وَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ مُنْكِرًا عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى اعْتِقَادِهِ وُجُوبَ امْتِثَالِ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ.

قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا» فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعْهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُ: لَا نَدَعُهُنَّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَقُّ تَعَدُّدُ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَهُ كُلٌّ مِنْ بِلَالٍ، وَوَاقِدٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، فَكَوْنُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَقْبَلَ عَلَى ابْنِهِ بِلَالٍ وَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ، أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُ: لَنَمْنَعْهُنَّ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى لُزُومَ الْإِذْنِ لَهُنَّ، وَأَنَّ مَنْعَهُنَّ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ جَائِزًا مَا شَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى ابْنَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَوْلُهُ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَزَبَرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، فِيهِ تَعْزِيرُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْمَعَارِضِ لَهَا بِرَأْيِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ هَذَا الَّذِي رَأَيْتَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ جَمِيعَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّعْزِيرِ، مُعْتَرِضُونَ عَلَى السُّنَّةِ، مُعَارِضُونَ لَهَا بِرَأْيِهِمْ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يُقِرُّ بِأَنَّ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَمُعَارَضَتِهِ لَهَا بِرَأْيِهِ، مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ الَّذِي يَنْصُرُهُ وَيَنْقُلُ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الَّذِي صَرَّحَ هُوَ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ، وَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ وَمُعَارَضَةٌ لَهَا بِالرَّأْيِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: فَزَبَرَهُ، أَيْ: نَهَرَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: فَفِي رِوَايَةِ بِلَالٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا شَدِيدًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ السَّبَّ الْمَذْكُورَ بِاللَّعْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ زَائِدَةٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: أُفٍّ لَكَ، وَلَهُ عَنِ ابْنِ

الْأَعْمَشِ: فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ، وَمِثْلُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَزَبَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ: فَسَبَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُخِذَ مِنْ إِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى وَلَدِهِ تَأْدِيبُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مُعْتَرِضٌ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَنِ بِالرَّأْيِ كَمَا تَرَى.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَشْنِيعَهُ عَلَى وَلَدَيْهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُنَّ كُنْ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ اهـ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ النِّسَاءِ كُنَّ يَشْهَدْنَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ ﷺ

تَنْبِيهٌ.

قَدْ عَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا تَقْيِيدَ أَمْرِ الرِّجَالِ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ.

وَقَدْ يَتَبَادَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِالْإِذْنِ لِلنِّسَاءِ إِلَّا فِي خُصُوصِ اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ هَذَا بِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَتُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، فَيَخْتَصُّ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ بِاللَّيْلِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي تَقْدِيمُ رِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُضُورِ النِّسَاءِ الصَّلَاةَ مَعَهُ ﷺ فِي غَيْرِ اللَّيْلِ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا الدَّالِّ عَلَى حُضُورِهِنَّ مَعَهُ ﷺ الصُّبْحَ، وَهِيَ صَلَاةُ نَهَارٍ لَا لَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ صَلَاةِ اللَّيْلِ، بِسَبَبِ كَوْنِهِنَّ يَرْجِعْنَ لِبُيُوتِهِنَّ، لَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مِنَ النَّهَارِ قَطْعًا، لَا مِنَ اللَّيْلِ، وَكَوْنُهُ مِنَ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِاللَّيْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ فَهُوَ:


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:

اعْلَمْ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ شُرُوطٌ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْأَةِ وَقْتَ خُرُوجِهَا لِلْمَسْجِدِ لَيْسَتْ مُتَلَبِّسَةً بِمَا يَدْعُو إِلَى الْفِتْنَةِ مَعَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَسَادِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ ﷺ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» مَا نَصُّهُ: هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ الْمَسْجِدَ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً، وَلَا مُتَزَيِّنَةً، وَلَا ذَاتَ خَلَاخِلَ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَلَا ثِيَابٍ فَاخِرَةٍ، وَلَا مُخْتَلِطَةً بِالرِّجَالِ، وَلَا شَابَّةً وَنَحْوَهَا، مِمَّنْ يُفْتَنُ بِهَا، وَأَلَّا يَكُونَ فِي الطَّرِيقِ مَا يُخَافُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ وَنَحْوُهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَمِنْهَا مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنُّصُوصِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي عِلَّتِهِ، وَإِلْحَاقُ بَعْضِهَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ ; كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِنْ شَاءَ تَعَالَى، أَمَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْهُ ﷺ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ، فَهُوَ عَدَمُ التَّطَيُّبِ، فَشَرْطُ جَوَازِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ أَلَّا تَكُونَ مُتَطَيِّبَةً.

قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ كَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ، فَلَا تَطَيَّبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» .

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ

حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» .

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدَنَّ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» اهـ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، وَهَمَا: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْجَمِيعِ - صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ» اهـ، وَقَوْلُهُ: وَهُنَّ تَفِلَاتٌ، أَيْ: غَيْرُ مُتَطَيِّبَاتٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَتَفِلَاتٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ: تَارِكَاتٌ الطِّيبِ اهـ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ابْتَزَّهَا مِنْ ثِيَابِهَا

تَمِيلُ عَلَيْهِ هَوْنَةَ غَيْرِ مِتْفَالِي

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَيِّبَةَ لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّهَا تُحَرِّكُ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِرِيحِ طِيبِهَا.

فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَلْحَقُوا بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ، وَصَوْتِ الْخَلْخَالِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِجَامِعِ أَنَّ الْجَمِيعَ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِتَحْرِيكِ شَهْوَةِ الرِّجَالِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ الشَّابَّةَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الشَّابَّ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَخَصَّصُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالْعَجَائِزِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّابَّةَ إِذَا خَرَجَتْ مُسْتَتِرَةً غَيْرَ مُتَطَيِّبَةٍ، وَلَا مُتَلَبِّسَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ أَنَّ لَهَا الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ ﷺ «: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» خَاصٌّ بِالرِّجَالِ، أَمَّا النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِهِ هَذَا، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ اهـ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّةِ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، فَقَالَ «: قَدْ عَلِمْتُ، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ» وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهَا فِي الْإِخْفَاءِ أَفْضَلُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.

وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: ثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «: صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، اهـ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْهُ ﷺ «: خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ» .

وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ تَعْلَمُ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ مِنْ صَلَاتِهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي ثِيَابٍ قَصِيرَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ، وَمُزَاحَمَتُهُنَّ لِلرِّجَالِ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى مِنَ النِّسَاءِ مَا رَأَيْنَا، لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ كَمَا مَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَهَا.

وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ الْآيَةَ، مُعْتَبَرٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْمَفْهُومَ الْمَذْكُورَ بِالسُّنَّةِ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ فِي الْمَسَاجِدِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ: أَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عِظَمِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [٧٩ \ ٨ - ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ \ ٤٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ الْآيَةَ [٤٠ \ ١٨]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الْآيَةَ [٧٣ \ ١٧ - ١٨]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [٧٦ \ ٩ - ١٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَفِي مَعْنَى تُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ، ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي: أَنَّ تُقَلُّبَ الْقُلُوبِ هُوَ حَرَكَتُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ وَأَنَّ تُقَلَّبَ الْأَبْصَارِ هُوَ زَيْغُوغَتُهَا وَدَوَرَانُهَا بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى

فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الْآيَةَ [٣٣ \ ١٩]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [٣٣ \ ١٠] فَالدَّوَرَانُ وَالزَّيْغُوغَةُ الْمَذْكُورَانِ يُعْلَمُ بِهِمَا مَعْنَى تُقَلِّبِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ كَانَا مَذْكُورَيْنِ فِي الْخَوْفِ مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي الدُّنْيَا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: «لِيَجْزِيَهُمُ» مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: «يُسِبِّحُ»، أَيْ: يُسَبِّحُونَ لَهُ، وَيَخَافُونَ يَوْمًا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى، هِيَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [٦ \ ١٦٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [٤ \ ٤٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [٢ \ ٢٦١] .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الزِّيَادَةُ هُنَا كَالزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [١٠ \ ٢٦] وَالْأَصَحُّ: أَنَّ الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [٥٠ \ ٣٥] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا» صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ حَسَنًا لَمْ يُجْزَوْهُ وَهُوَ الْمُبَاحُ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:

مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ

وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهَا لَا شَيْءَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي السَّرَابِ الَّذِي مَثَّلَهَا بِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ

الْكَرِيمَةُ مِنْ بُطْلَانِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ الْآيَةَ [١٤ \ ١٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ \ ٢٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [١٦ \ ٩٧] .

وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، دُونَ الْآخِرَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [٤٢ \ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١١ \ ١٥ - ١٦]، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، دُونَ الْآخِرَةِ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّحْلِ» الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَحَدُ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [٢٤ \ ٣٩]، أَيْ:: وَفَّاهُ حِسَابَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [١٧ \ ١٨] .

تَنْبِيهٌ.

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، وَذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِيهِ: لَا يَخْفَى مَا يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مَوْجُودٍ وَاقِعٍ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ ; لِأَنَّ وُقُوعَ الْمَجِيءِ عَلَى الْعَدَمِ لَا يُعْقَلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَةَ الْإِضَافِيَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ إِلَّا بَيْنَ مُتَضايِفَيْنِ، فَلَا تُدْرَكُ إِلَّا بِإِدْرَاكِهِمَا، فَلَا يُعْقَلُ وُقُوعُ الْمَجِيءِ بِالْفِعْلِ، إِلَّا بِإِدْرَاكِ فَاعِلٍ وَاقِعٍ مِنْهُ الْمَجِيءُ، وَمَفْعُولٍ بِهِ

وَاقِعٍ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَاءَهُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا فَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّرَابُ شَيْئًا فَعَلَامَ دَخَلَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ؟ قِيلَ: إِنَّهُ شَيْءٌ يُرَى مِنْ بَعِيدٍ كَالضَّبَابِ الَّذِي يُرَى كَثِيفًا مِنْ بَعِيدٍ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ رَقَّ وَصَارَ كَالْهَوَاءِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْضِعَ السَّرَابِ لَمْ يَجِدِ السَّرَابَ شَيْئًا، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ السَّرَابِ عَنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهِ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَعِنْدَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ، إِلَخْ، انْتَهَى كَلَامُنَا فِي «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، وَقَدْ رَأَيْتَ فِيهِ جَوَابَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِقِيعَةٍ قِيلَ: جَمْعُ قَاعٍ، كَجَارٍ وَجِيرَةٍ، وَقِيلَ: الْقِيعَةُ وَالْقَاعُ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَاعُ وَاحِدُ الْقِيعَانِ، كَجَارٍ وَجِيرَانٍ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

اعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَحْذُوفَ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ عَلِمَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى كُلٌّ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ وَالْمُصَلِّينَ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: كُلٌّ أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ، قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ وَتَسْبِيحَ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [١٦ \ ٩٧]، كَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَنَّ اللَّفْظَ إِنِ احْتَمَلَ التَّوْكِيدَ وَالتَّأْسِيسَ حُمِلَ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَبَيَّنَّا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْأُصُولِيِّينَ، أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ:

كُلٌّ أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمُصَلِّينَ قَدْ عَلِمَ صَلَاةَ نَفْسِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ تَأْسِيسٌ لَا تَأْكِيدٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلَاتَهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ كَالتَّكْرَارِ مَعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّأْسِيسِ أَرْجَحُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى التَّوْكِيدِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ وَتُصَلِّي صَلَاةً وَتَسْبِيحًا يَعْلَمُهُمَا اللَّهُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُمَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [١٧ \ ٤٤] .

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَهَا إِدْرَاكٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحِجَارَةِ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [٢ \ ٧٤]، فَأَثْبَتَ خَشْيَتَهُ لِلْحِجَارَةِ، وَالْخَشْيَةُ تَكُونُ بِإِدْرَاكٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [٥٩ \ ٢١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [٣٣ \ ٧٢]، وَالْإِبَاءُ وَالْإِشْفَاقُ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِإِدْرَاكٍ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَارِدَةٌ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لِلطَّيْرِ صَلَاةً وَتَسْبِيحًا، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سُفْيَانَ: أَنَّ لِلطَّيْرِ صَلَاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، اهـ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ غَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا

يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا

عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَبِطِي

نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مَضْطَجَعَا

فَقَوْلُهُ: مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ، أَيْ: دَعَوْتِ، يَعْنِي قَوْلَهَا: يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا.

وَقَوْلُهُ: صَافَّاتٍ أَيْ: صَافَّاتٍ أَجْنِحَتُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ إِمْسَاكَهُ الطَّيْرَ صَافَّاتٍ أَجْنِحَتُهَا فِي الْهَوَاءِ وَقَابِضَاتٍ لَهَا مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [٦٧ \ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [١٦ \ ٧٩] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَعَدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَيَجْعَلَنَّهُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، الَّذِينَ لَهُمُ السَّيْطَرَةُ فِيهَا، وَنُفُوذُ الْكَلِمَةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعِلْمِ الصَّالِحِ سَبَبٌ لِلْقُوَّةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ الْآيَةَ [٨ \ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [٢٢ \ ٤٠ - ٤١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [٤٧ \ ٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: كَبَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [٢٨ \ ٥ - ٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [٧ \ ١٢٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [٧ \ ١٣٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ، وَأَقْسَمَ فِي وَعْدِهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ هَذَا الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [٥ \ ٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [٣ \ ١٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٣ \ ٨٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمْكِينُهُ هُوَ تَثْبِيتُهُ وَتَوْطِيدُهُ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ ﷺ لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ حَرْفُ تَعْلِيلٍ أَوْ تَرَجٍّ ; لِأَنَّهَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْفُ تَعْلِيلٍ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِرَحْمَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْعِلَلَ أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي، أَيْ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ عَلَى رَجَائِكُمْ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُكُمْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ مَا أَطْمَعَهُمْ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ عِنْدَ عِلْمِهِمْ بِمُوجِبِهَا إِلَّا لِيَرْحَمَهُمْ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَوْنُ لَعَلَّ هُنَا لِلتَّرَجِّي، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ رحمهم الله بِذَلِكَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الْآيَةَ [٩ \ ٧١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ; لِأَنَّ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ دَاخِلَانِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَعَكْسَهُ كِلَاهُمَا مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْبُولِ إِذَا كَانَ فِي الْخَاصِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامَّ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَحْسَبَ، أَيْ: يُظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَفْعُولُ مُعَجِزِينَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَظُنُّهُمْ مُعْجِزِينَ رَبَّهُمْ، بَلْ قَادِرٌ عَلَى عَذَابِهِمْ لَا يَعْجِزُ عَنْ فِعْلِ مَا أَرَادَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [٩ \ ٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٩ \ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [٢٩ \ ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [١٠ \ ٥٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [٢٩ \ ٢١ - ٢٢]، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّورَى»: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [٤٢ \ ٣١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [٢٤ \ ٥٧]، قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَا تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِفَتْحِ السِّينِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَقِرَاءَةَ عَاصِمٍ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَقِرَاءَةَ الْبَاقِينَ مِنَ السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ السِّينِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا ; لِأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: مُعَجِزِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ: تَحْسَبَنَّ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَفِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلِ يَحْسَبَنَّ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: أَنْفُسُهُمْ، وَمُعَجِزِينَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ مُعْجِزِينَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِلزَّجَّاجِ، وَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَفْعُولَا الْفِعْلِ الْقَلْبِيِّ يَجُوزُ حَذْفُهُمَا أَوْ حَذْفُ أَحَدِهِمَا إِنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْخُلَاصَةِ»، بِقَوْلِهِ:

وَلَا تُجِزْ هُنَا بِلَا دَلِيلِ

سُقُوطَ مَفْعُولَيْنِ أَوْ مَفْعُولِ

وَمِثَالُ حَذْفِ الْمَفْعُولَيْنِ مَعًا مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا، قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [٢٨ \ ٦٢] أَيْ: تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِي، وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ:

بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ

تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ

أَيْ: وَتَحْسَبُ حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ، وَمِثَالُ حَذْفِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ

مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ الْمُكْرِمِ

أَيْ: لَا تَظُنِّي غَيْرَهُ وَاقِعًا.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبَنَّ النَّبِيُّ ﷺ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ مُحَمَّدٌ ﷺ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، وَعَلَى هَذَا فَـ: الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ، وَمُعَجِزِينَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِلْفَرَّاءِ، وَأَبِي عَلِيٍّ.

الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الْكَافِرُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَعَزَا هَذَا الْقَوْلَ لِعَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّ الْفَاعِلَ فِي الْأَوَّلِ النَّبِيُّ ﷺ وَفِي الثَّانِي الْكَافِرُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ.

وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَحَدًا يُعْجِزُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَطْمَعُوا هُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنًى قَوِيٌّ جَيِّدٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ الرَّسُولِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ: لَا يَحْسَبَنَّهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَكَأَنَّ الَّذِي سَوَّغَ ذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَيْنِ لَمَّا كَانَتْ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، اقْتُنِعَ بِذِكْرِ اثْنَيْنِ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ، اهـ.

وَمَا ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: لَا يَحْسَبَنَّ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ خَطَأٌ أَوْ لَحْنٌ، كَلَامٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ; لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ سَبْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ ثُبُوتًا لَا يُمْكِنُ الطَّعْنُ فِيهِ، وَقَرَأَ بِهَا مِنَ السَّبْعَةِ: ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ ; كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي: أَنَّ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هُمَا الْمَفْعُولَانِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مُعَجِزِينَ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ مُعْجِزِينَ اللَّهَ مَوْجُودِينَ أَوْ كَائِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ، رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ: دُعَاءَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ ﷺ وَعَلَى هَذَا فَالرَّسُولُ مَدْعُوٌّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ ﷺ وَعَلَى هَذَا: فَالرَّسُولُ دَاعٍ.

وَإِيضَاحُ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَكُمْ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا دَعَوْتُمُوهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَلَا تَقُولُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مُصَرِّحِينَ بِاسْمِهِ، وَلَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ، بَلْ قُولُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَعَ خَفْضِ الصَّوْتِ احْتِرَامًا لَهُ ﷺ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى; كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الْآيَةَ [٤٩ \ ٢ - ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [٤٩ \ ٤ - ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا الْآيَةَ [٢ \ ١٠٤]، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ ; كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الظَّاهِرُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، فَفِي الْمَعْنَى وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» قَالَ: إِذَا احْتَاجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عِنْدَهُ لِأَمْرٍ فَدَعَاكُمْ فَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَقِيسُوا دُعَاءَهُ إِيَّاكُمْ عَلَى دُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، وَرُجُوعِكُمْ عَنِ الْمَجْمَعِ بِغَيْرِ إِذْنِ الدَّاعِي.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ، فَاحْذَرُوا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، فَتَهْلِكُوا.

حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -:

هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَأْبَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ أَرَادَ دُعَاءَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَقَالَ: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مُتَغَايِرَانِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجْعَلُوا مِنْ جَعَلَ الَّتِي بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ آنِفًا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّسُولِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَالَفَ أَمْرَهُ وَخَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُخَالِفُونَ: مُضَمَّنٌ مَعْنَى يَصُدُّونَ، أَيْ: يَصُدُّونَ عَنْ أَمْرِهِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; لِأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - تَوَعَّدَ الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ بِالْفِتْنَةِ أَوِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَوْجِبُ تَرْكُهُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَالتَّحْذِيرَ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْوُجُوبِ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [٧٧ \ ٤٨] فَإِنَّ قَوْلَهُ: ارْكَعُوا أَمْرٌ مُطْلَقٌ، وَذَمُّهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ لَمْ يَمْتَثِلُوهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَرْكَعُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَهُ وَاجِبٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ \ ١٢]، فَإِنْكَارُهُ تَعَالَى عَلَى إِبْلِيسَ مُوَبِّخًا لَهُ بِقَوْلِهِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ وَاجِبًا. وَأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَاجِبٌ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ مُطْلَقٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [٢ \ ٣٤]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [٢٠ \ ٩٣]، فَسَمَّى مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً، وَأَمْرُهُ الْمَذْكُورُ مُطْلَقٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [٧ \ ١٤٢]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [٦٦ \ ٦]، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالِفَهُ عَاصٍ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا إِلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوِ ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ \ ٣٦] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَائِهِ الْوُجُوبَ، كَمَا تَرَى، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَعْصِيَةٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [٣٣ \ ٣٦] .

وَاعْلَمْ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْوُجُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً مَثَلًا، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ فَعَاقَبَهُ السَّيِّدُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ عِقَابُكَ لِي ظُلْمٌ ; لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً لَمْ تُوجِبْ عَلَيَّ الِامْتِثَالَ، فَقَدْ عَاقَبْتَنِي عَلَى تَرْكِ مَا لَا يَلْزَمُنِي، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الصِّيغَةِ أَنَّ الِامْتِثَالَ يَلْزَمُهُ، وَأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، وَالْفِتْنَةُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ قِيلَ: هِيَ الْقَتْلُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: الزَّلَازِلُ وَالْأَهْوَالُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَقِيلَ: السُّلْطَانُ الْجَائِرُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ بِسَبَبِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِتْنَةٌ مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ أُطْلِقَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ بِهَا الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [٥١ \ ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [٨٥ \ ١٠]، أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ.

الثَّانِي وَهُوَ أَشْهَرُهَا: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِاخْتِبَارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً الْآيَةَ [٢١ \ ٣٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [٧٢ \ ١٦ - ١٧] .

وَالثَّالِثُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى نَتِيجَةِ الِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢ \ ١٩٣]، وَفِي «الْأَنْفَالِ»:

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [٨ \ ٣٩]، فَقَوْلُهُ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ: حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ، كَمَا تَرَى. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ «: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالرَّابِعُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْحُجَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ \ ٢٣]، أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ، كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ.

وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَفْتِنَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: يَزِيدَهُمْ ضَلَالًا بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ.

وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٨٣ \ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ \ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [٢ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [٩ \ ١٢٥]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ خَلْقُهُ، أَيْ: مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [١٠ \ ٦١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [١١ \ ٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [١٣ \ ٣٣] أَيْ: هُوَ شَهِيدٌ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هُمْ فَاعِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَوْلِهِ

تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٢٦ \ ٢١٧ - ٢٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [١٣ \ ١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٦٧ \ ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [٦ \ ٥٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [١١ \ ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [٦٧ \ ١٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَحْسَنُ وَعْدٍ لِلْمُطِيعِينَ، وَأَشَدُّ وَعِيدٍ لِلْعُصَاةِ الْمُجْرِمِينَ، وَلَفْظَةُ قَدْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلتَّحْقِيقِ، وَإِتْيَانُ قَدْ لِلتَّحْقِيقِ مَعَ الْمُضَارِعِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [٢٤ \ ٦٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ الْآيَةَ [٣٣ \ ١٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ [٦ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [٢ \ ١٤٤] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَرْفٍ، بَلْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ: وَيَعْلَمُ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَبِّئُ الْخَلَائِقَ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا، أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِهِ ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ - جَلَّ وَعَلَا - يُخْبِرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [٧٥ \ ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ \ ٤٩]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

google-playkhamsatmostaqltradent