recent
آخر المقالات

سورة الفتح

 

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)

قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا الآية.

(١٢٧٥) سبب نزولها أنه لما نزل قوله: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «١»، قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلًا لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال «٢» .

أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ، قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيمًا، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحًا، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله تعالى.

ذكره الواحدي ٧٤٨ في «أسباب النزول» قاله عطاء عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والمتن باطل، فإن الآية المذكورة في الخبر مكية، عند الجمهور وسورة الفتح مدينة.

_________

(١) الأحقاف: ٩.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢١٥: فقوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا أي: بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه حيز جزيل، وأمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلّم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. وهذا اختيار الطبري والشوكاني وغيرهما من المفسرين.

الإشارة إلى قصّة الحديبية

(١٢٧٦) روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله ﷺ رأى في النَّوم كأن قائلًا يقول له: لتدخلن المسجد الحرام إِن شاء الله آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب «١» .

(١٢٧٧) وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر ب «ذي الحُلَيْفة»، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلّدها، وفعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى، فبلغ المشرِكينَ خروجُه، فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب «بَلْدَح»، وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم «٢»، وسار رسولُ الله ﷺ حتى دنا من الحديبية قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته، فقال المسلمون: حَلْ حَلْ «٣»، يزجرونها، فأبَتْ، فقالوا:

خَلأَتْ القصْواءُ- والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس- فقال: «ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها»، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعًا عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد «٤» من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهمًا من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله ﷺ: «لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه» . فرجعَ بديل فأخبر قريشًا، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشًا، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا، ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكّة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله ﷺ عثمانَ بن عفان، قال: «اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّارًا لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبدًا، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله ﷺ أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم» «٥»، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت

لم أره عن عائشة، وهو غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريج «الكشاف» ٤/ ٣٤٥، وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري ٣١٦٠١ و٣١٦٠٢ و٣١٦٠٣ و٣١٦٠٤ وعامة هذه الروايات مراسيل.

خبر الحديبية. صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٣١ و٢٧٣٢ و٤١٧٨ و٤١٧٩ وأبو داود ٢٧٦٥ مختصرا وأحمد ٤/ ٣٢٨ والطبري ٣١٥٦٦ وابن حبان ٤٨٧٢ والبيهقي في «دلائل النبوة» ٤/ ٩٩- ١٠٨.

_________

(١) أخرجه الطبري ٣١٤٨٤ والبيهقي في «الدلائل» ٤/ ١٦٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.

(٢) كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة. [.....]

(٣) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير.

(٤) في «اللسان»: الثّمد: قال أبو مالك: أن يعمد إلى موضع يلزم ماء السماء يجعله صنعا وهو المكان يجتمع فيه الماء، وله مسايل من الماء، ويحفر في نواحيه ركايا فيملأها من ذلك الماء فيشرب الناس الماء الظاهر حتى يجف، وتبقى تلك الركايا، وهي الثماد. والثمد: الماء القليل الذي لا مادّتها له.

(٥) ورد هذا القول «فقال رسول الله ﷺ: لا نبرح حتى ...» عند الطبري ٣١٥١٦ عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر.

الشجرة. وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال:

(١٢٧٨) أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار.

(١٢٧٩) والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضًا، وبه قال قتادة.

(١٢٨٠) والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس.

(١٢٨١) والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى.

(١٢٨٢) قال: وضَرَبَ يومئذ رسول الله ﷺ بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله. وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال فصالحه كما ذكرنا في براءة «١» فأقام بالحديبية بضعة عشر يومًا، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف.

(١٢٨٣) فلمّا كان ب «ضَجَنَان» نزل عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون.

والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة، وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية. والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي، وعن أنس بن مالك كالقولين. والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك.

قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال ثعلب: اللام لام «كي»، والمعنى «٢»: لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى «كي»، وغلط من قال:

أخرجه البخاري ٤١٥٠ و٤١٥١ من حديث البراء بن عازب. وورد أيضا من حديث جابر، أخرجه البخاري ٤١٥٤ ومسلم ١٨٥٦ ح ٧١ و٧٢ و٧٤، ومن حديث سلمة بن الأكوع، أخرجه مسلم ١٨٠٧.

أخرجه الطبري ٣١٥٢٤ عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قيل له «إن جابر بن عبد الله يقول: إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مائة، قال سعيد: نسي جابر، هو قال لي: كانوا ألفا وأربع مائة» .

أخرجه الطبري ٣١٥٢٦ عن ابن عباس بسند واه.

أخرجه البخاري ٤١٥٥ ومسلم ١٨٥٧ عن عبد الله بن أبي أوفى.

لم أره بهذا اللفظ، وخبر البيعة عن عثمان، أخرجه الترمذي ٣٧٠٢ من حديث أنس، وفيه الحكم بن عبد الملك، وهو ضعيف.

لم أره بهذا اللفظ، وذكر جبريل غريب جدا. وانظر الآتي برقم ١٢٨٥.

_________

(١) التوبة: ٧.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢١٧: وقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، هذا من خصائصه ﷺ التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله ﷺ وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه. فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله له: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ.

ليس الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال ابن عباس: والمعنى: «ما تقدَّم» في الجاهلية و«ما تأخَّر» ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه. قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك في الجنة. والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس. والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر، حكاه الماوردي. والرابع:

بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا أي:

ويُثبِّتك عليه وقيل: ويَهدي بك، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على عدوِّك نَصْرًا عَزِيزًا قال الزجاج: أي: نَصْرًا ذا عزّ لا يقع معه ذلّ.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ٤ الى ١٠]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨)

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)

قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي: السُّكون والطمُّأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم، فسلَّموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علامَ نُعطي الدّنيّة في ديننا؟ فقال رسول الله ﷺ:

(١٢٨٤) «أنا عَبْدُ الله ورسوله، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني» .

ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلَّموا وأطاعوا. لِيَزْدادُوا إِيمانًا وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إيمانهم. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له، لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكُروه.

قوله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية.

(١٢٨٥) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ قال أصحابُ رسول الله ﷺ: هنيئا لك يا

صحيح. أخرجه البخاري ٣١٨٢ ومسلم ١٧٨٥ والنسائي في الكبرى ١١٥٠٤ من حديث أبي وائل عن سهل بن حنيف. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٣٠٢.

صحيح. أخرجه البخاري ٤١٧٢ و٤٨٣٤ وأحمد ٣/ ١٧٣ من طريق شعبة. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ وأحمد ٣/ ١٢٢ و١٣٤ والطبري ٣١٤٥٤ من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ والبيهقي ٥/ ٢١٧ من طريق شيبان. وأخرجه أحمد ٣/ ٢٥٢ عن عفان ثنا همام ثنا قتادة ثنا أنس رضي الله عنه. وهو في «شرح السنة» ٣٩١٤ بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٣ وأحمد ٣/ ١٩٧ عن طريق معمر. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ والطبري ٣١٤٥٢ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٣٢- ١٣٣ من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري ٣١٤٥٣ من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان ٣٧١ من طريق سفيان عن الحسن عن أنس به.

رسول الله بما أعطاك الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.

(١٢٨٦) قال مقاتل: فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله ﷺ فقالوا: ما لَنا عند الله؟ فنزلت: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ ... الآية.

قال ابن جرير كُرِّرت اللاّمُ في «لِيُدْخِلَ» على اللام في «لِيَغْفِرَ»، فالمعنى: إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف، والمعنى: لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب.

قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بفتحها.

قوله تعالى: وَكانَ ذلِكَ أي: ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم عِنْدَ اللَّهِ أي في حُكمه فَوْزًا عَظِيمًا لهم والمعنى: أنه حكم لهم بالفَوْز، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة.

قوله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنهم ظنُّوا أن لله شريكًا.

والثاني: أن الله لا ينصُر محمدًا وأصحابه. والثالث: أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أو يهزم ولا يعود ظافرًا. والرابع: أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله ﷺ بمنزلة واحدة عند الله. والخامس: ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى. وقد بيَّنّا معنى «دائرة السّوء» في براءة «١» . وما بعد هذا قد سبق بيانه «٢» إلى قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لِيُؤْمِنوا» بالياء «ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه» كلُّهن بالياء، والباقون: بالتاء، على معنى: قل لهم: إِنّا أرسلناك، لتؤمنوا، وقرأ علي بن أبي طالب وابن السميفع: «ويُعَزٍّزوه» بزاءين. وقد ذكرنا في الأعراف «٣» معنى «ويُعَزِّروه» عند قوله: «وعزَّروه ونصروه» . قوله تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظّموه وتبجّلوه. واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده. قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاةُ له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البُكرة: الفجر، وبصلاة الأصيل: باقي الصلوات الخمس. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان:

(١٢٨٧) أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت.

(١٢٨٨) والثاني: على أن لا يفِرًّوا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تفرّوا ولو متّم.

واه بمرة. مقاتل هو ابن سليمان كذبه غير واحد، والصحيح في هذا ما رواه البخاري ومسلم، وتقدم.

انظر الحديث الآتي.

هو عند مسلم ١٨٥٦ عن جابر قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت» وفي رواية: فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره» فلم يبايع أصلا. وقد نبه على هذا الحافظ في تخريجه ٤/ ٣٣٥. وأما لفظ فبايعوه على

_________

(١) التوبة: ٩٨.

(٢) الفتح: ٤، الأحزاب: ٤٥.

(٣) الأعراف: ١٥٧.

وسمِّيتْ بَيْعة، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنّة، وكان العقد مع رسول الله ﷺ فكأنّهم بايعوا الله عز وجل، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم. والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج. والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير، وابن كيسان.

قوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ أي: نقض ما عقده من هذه البَيْعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي: يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ من البيعة فَسَيُؤْتِيهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر وأبان عن عاصم: «فسنُؤتيه» بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بالياء أَجْرًا عَظِيمًا وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجدّ بن قيس، وكان منافقا.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ١١ الى ١٤]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤)

قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ (١٢٨٩) قال ابن إِسحاق: لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفًا من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ، (١٢٩٠) قال أبو صالح، عن ابن عباس: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم. قال يونس النحوي: الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء. والدُّول من حنيفة ساكن الواو، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي.

فأمّا المخلَّفون، فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أي: خِفْنا عليهم الضّيعة

الموت فقد ورد في خبر مرسل أخرجه الطبري ٣١٥١٦ عن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر وفيه «فكان رسول الله ﷺ بايعهم على الموت، فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعنا على الموت ولكنه بايعنا على ألا نفرّ» . وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم ١٨٥٨ ولفظه «لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي ﷺ يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشر مائة. قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر» فهذا كله يرد ما ذكر من أنهم بايعوه على الموت.

أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٤/ ١٦٥ عن مجاهد بنحوه، وهذا مرسل، وقد أخرجه الطبري ٣١٤٨٤ عن مجاهد أيضا.

عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ساقط الرواية وبخاصة عن ابن عباس.

فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي: ادْعُ اللهَ أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي: ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم. قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا

قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ضُرًا» بضم الضاد والباقون: بالفتح. قال أبو علي: «الضَّرُّ» بالفتح:

خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ. ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئًا، لم يَقْدِر أحد على دفعه عنهم، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي: توهَّمتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي لا يَرْجِعون إِلى المدينة، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وذلك من تزيين الشيطان. قوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا قد ذكرناه في الفرقان «١» .


[سورة الفتح (٤٨): آية ١٥]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (١٥)

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلَّفُوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها، فقال هؤلاء المخلَّفون: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «أن يبدِّلوا كَلِمَ الله» بكسر اللام. وفي المعنى قولان:

أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس. والثاني: أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين، قاله مقاتل. وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله ﷺ ما يخالِف أمْرَ الله، فيكون تبديلًا لأمره.

قوله تعالى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فيه قولان: أحدهما: قال: إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية، وهذا على القول الأول. والثاني: قال: لن تتَّبعونا، وهذا قول مقاتل.

فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي: يمنعُكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ١٦ الى ١٧]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذابًا أَلِيمًا (١٧)

قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعَون إِلى جهاد قوم أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. وفي هؤلاء القوم ستة أقوال «٢»: أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن

(١) الفرقان: ١٨.

(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٣٤٦: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضح لنا الدليل على أن المعني بذلك أعيان بأعيانهم.

- وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٣٥: وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ وهذا يدل على أنهم باليمامة لا بفارس ولا بالروم، لأن الذي تعين عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال والمرتدون. وأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا، بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم، وجاءت الآية معجزة للنبيّ ﷺ وإخبارا بالغيب الآتي.

عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين.

والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيج عن مجاهد. والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد. والرابع: أنهم الروم، قاله كعب. والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة، فعَلِمنا أنهم هُمْ.

وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية. وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم، وإِن أُريدَ بها فارس والروم، فعمر دعا إِلى قتالهم، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم، وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدلّ على صحّة إمامتهما إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقًا للعقاب. قوله تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا قال ابن جريج: فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن طاعتهما كَما تَوَلَّيْتُمْ عن طاعة محمد ﷺ في المسير إِلى الحديبية. وقال الزجاج: المعنى: إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم اللهُ أجْرًا حسنًا، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله ﷺ يعذِّبكم عذابًا أليمًا. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال المفسرون: عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية. قوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ نافع، وابن عامر: «نُدْخِلْه» و«نُعْذِّبْه» بالنون فيهما والباقون: بالياء.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ١٨ الى ٢٤]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (٢٢)

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤)

ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وقد

ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفًا. وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان، لقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال:

(١٢٩١) بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله ﷺ: أيها الناس، البَيْعةَ، البَيْعةَ، نَزَل روح القُدُس، قال: فثرنا إلى رسول الله ﷺ وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايَعْناه.

(١٢٩٢) وقال عبد الله بن مغفّل: كان رسول الله ﷺ تحت الشجرة يبايع الناس، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقُطِعتْ.

قوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من الصِّدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مُخْلِصون فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا وَأَثابَهُمْ أي: عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره فَتْحًا قَرِيبًا وهو خيبر، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها أي: من خيبر، لأنها كانت ذا عَقار وأموال. فأمّا قوله بعد هذا: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فقال المفسرون: هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فيها قولان:

أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد وقتادة والجمهور. والثاني: أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله ﷺ وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس.

قوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فيهم ثلاثة أقوال «١»: أحدها: أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك، قاله قتادة. والثاني: أنهم أسد وغطفان جاءوا لينصروا أهل خيبر، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء:

كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله ﷺ فصالحوه، وخلَّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همَّت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك. والثالث: أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره. ففي قوله: «عنكم» قولان: أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون. والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو مقتضى قول قتادة. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في المشار إليها قولان: أحدهما: أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم. والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين في تصديق رسول الله ﷺ فيما وعدهم به.

ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤/ ٢٢٥ وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف الحديث، والمتن غريب. وانظر «تفسير ابن كثير» ٤/ ٢٢٥ بتخريجنا.

صحيح. أخرجه النسائي ٥٣١ في «التفسير» والطبري ٣١٥٥٤ من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح على شرط مسلم. وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم ١٨٥٨ كما سبق في الحديث ١٢٨٨.

_________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١/ ٣٥٢: والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية، وذلك أن كف الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ غير الكف الذي ذكره الله بعد هذه الآية في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.

قوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا فيه قولان: أحدهما: طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه، وهذا على القول الأول. والثاني: يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمّد ﷺ فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة.

قوله تعالى: وَأُخْرى المعنى: وعدكم الله مَغانمَ أُخرى وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس: «وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها» قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد. والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد. والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضًا، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة. قوله تعالى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها فيه قولان:

أحدهما: أحاط بها عِلْمًا أنها ستكون من فُتوحكم. والثاني: حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها. قوله تعالى: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة والذين كفروا مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى: لو قاتلوكم يومَ الحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لِما في قلوبهم من الرُّعب ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا لأنّ الله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه. و«سُنَّةَ الله» منصوبة على المصدر، لأن قوله: «لولَّوُا الأدبار» معناه: سنّ الله عز وجل خِذلانهم سُنَّةً. وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ «١»، وقوله: صُنْعَ اللَّهِ «٢» . قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.

(١٢٩٣) روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلًا من أهل مكّة هبطوا على رسول الله ﷺ من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة «٣» النبي ﷺ وأصحابِه، فأخذهم سِلْمًا، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية.

(١٢٩٤) وروى عبد الله بن مغفَّل قال: كنّا مع رسول الله ﷺ بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابًّا، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله ﷺ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله ﷺ: «هل جئتم في عهد؟» أو «هل جعل لكم أحد أمانًا؟» قالوا: اللهم لا، فخلَّى سبيلهم، ونزلت هذه الآية.

صحيح. أخرجه مسلم ١٨٠٨ عن عمر بن محمد الناقد ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن أبي سلمة عن ثابت- وهو ابن أسلم البناني- عن أنس بن مالك به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٤٢ من طريق إبراهيم بن محمد بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود ٢٦٨٨ والترمذي ٣٢٦٤ والنسائي في «التفسير» ٥٣٠ والطبري ٣١٥٥٨ وأحمد ٣/ ١٢٤ و٢٩٠ والطحاوي في «المشكل» ٦٠ والبيهقي في «الدلائل» ٤/ ٤١ من طرق عن حمّاد بن سلمة به. وورد بنحوه في أثناء حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم ١٨٠٧ وأحمد ٤/ ٤٩ والطحاوي ٦٢.

صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٥٣١ وأحمد ٤/ ٨٦- ٨٧ والحاكم ٢/ ٤٦٠- والطبري ٣١٥٥٤ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٤٢ والبيهقي ٦/ ٣١٩ من طرق عن الحسين بن واقد عن ثابت عن عبد الله بن المغفل به. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» ٦/ ١٤٥: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وهو كما قالوا. وقال ابن حجر في «فتح الباري» ٥/ ٣٥١: أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح.

_________

(١) النساء: ٢٤.

(٢) النمل: ٨٨.

(٣) في «اللسان» الغرة: الغفلة. [.....]

(١٢٩٥) وذكر قتادة أنّ رسول الله ﷺ بعث خَيْلًا، فأتَوه باثني عشر فارسًا من الكفار، فأرسلهم.

(١٢٩٦) وقال مقاتل: خرجوا يقاتِلون رسولَ الله ﷺ، فهزمهم النبيّ ﷺ بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة.

قال المفسرون: ومعنى الآية: إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم. وفي بطن مكة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس. والثاني: وادي مكة، قاله السدي. والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأمّا «مكة» فقال الزجاج: «مكة» لا تنصرف لأنها مؤنَّثة، وهي معرفة، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق «بكة»، والميم تُبدل من الباء، يُقال:

ضَرْبة لازم، ولازب، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امتكّ الفصيل ما في ضرع النّاقة: إِذا مَصَّ مَصًّا شديدًا حتى لا يُبْقي فيه شيئًا، فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها، قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكلتَه. وقال ابن فارس: تَمَكَّكْتُ العظم: إِذا أخرجتَ مُخَّه والتمكُّكُ: الاستقصاء.

(١٢٩٧) وفي الحديث: «لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم» . وفي تسمية «مكة» أربعة أقوال:

أحدها: لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها، وذلك من قول العرب: امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة. والثاني: أنها سمِّيتْ (مكة) من قولك: بَكَكْتُ الرجُل: إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه، فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها، أي: تُهلكه وتُنْقِصه، وأنشدوا:

يا مَكَّةُ، الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... ولا تَمُكِّي مَذْحِجًا وعَكَّا «١»

والثالث: أنها سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها. والرابع: لِقلَّة الماء بها.

وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في آل عمران «٢» .

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي: بهم يقال: ظَفِرْتُ بفلان، وظَفِرْتُ عليه. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا قرأ أبو عمرو: «يعملون» بالياء والباقون: بالتاء.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ٢٥ الى ٢٦]

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦)

أخرجه الطبري ٣١٥٥٩ عن قتادة مرسلا.

تقدم أن هذا الخبر غير صحيح، ومقاتل متروك متهم بالكذب.

لم أقف عليه، والظاهر أنه لا أصل له لخلوه عن كتب الحديث والأثر.

_________

(١) الرجز غير منسوب في «اللسان» - مكة-

(٢) آل عمران: ٩٦.

قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا به وتحلّوا من عُمرتكم وَالْهَدْيَ قال الزَّجاج: أي: وصدُّوا الهدي مَعْكُوفًا أي: محبوسًا أَنْ يَبْلُغَ أي: عن أن يبلُغَ مَحِلَّهُ قال المفسرون: «مَحِلّه» مَنْحَره، وهو حيث يَحِلُّ نَحْرُه وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ وهم المستَضعفون بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي: لم تعرفوهم أَنْ تَطَؤُهُمْ بالقتل. ومعنى الآية: لولا أن تطئوا رجالًا مؤمنين ونساءٌ مؤمنات بالقتل، وُتوقِعوا بهم ولا تعرفونهم، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ وفيها أربعة أقوال: أحدها: إِثم، قاله ابن زيد. والثاني: غُرم الدِّيَة، قاله ابن إِسحاق. والثالث:

كفّارة قتل الخطأ، قاله ابن السائب. والرابع: عيب بقتل مَنْ هو على دينكم، حكاه جماعة من المفسرين. وفي الآية محذوف، تقديره: لأدخلتُكم من عامكم هذا وإنما حُلْتُ بينكم وبينهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي: في دينه مَنْ يَشاءُ من أهل مكة، وهم الذين أسلموا بعد الصُّلح لَوْ تَزَيَّلُوا قال ابن عباس: لو تفرَّقوا. وقال ابن قتيبة، والزجاج: لو تميَّزوا. قال المفسرون: لو انماز المؤمنون من المشركين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والسَّبْي بأيديكم. وقال قوم: لو تزيَّل المؤمنون من أصلاب الكُفّار لعذَّبْنا الكفار. وقال بعضهم: قوله: «لعذَّبْنا» جواب لكلامين، أحدهما: «لولا رجال»، والثاني:

«لو تزيَّلوا» وقوله: إِذْ جَعَلَ من صلة قوله: لَعَذَّبْنَا. والحميَّة: الأنَفَة والجَبَريَّة.

(١٢٩٨) قال المفسرون: وإنما أخذتهم الحميّة حين أراد رسول الله ﷺ دخول مكة، فقالوا:

يدخلون علينا، وقد قتلوا أبناءنا وإِخواننا فتتحدَّث العربُ بذلك! واللهِ لا يكون ذلك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلم يَدخُلْهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم.

(١٢٩٩) وقيل: الحميَّةُ ما تداخل سهيلَ بن عمرو من الأنَفَة أن يكتُب في كتاب الصُّلح ذِكْر «الرحمن الرحيم» وذكر «رسول الله» ﷺ.

قوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فيه خمسة أقوال:

(١٣٠٠) أحدها: «لا إله إلا الله»، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة

عزاه المصنف للمفسرين. وذكره البغوي ٤/ ٢٠٤ وعزاه لمقاتل، وهو متروك متهم.

أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٤/ ١٣٤ عن عروة أثناء خبر مطول، وهذا مرسل ومرسلات عروة جياد، وأصله في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد تقدم.

المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. أخرجه الترمذي ٣٢٦٥ والطبري ٣١٥٧٩ وعبد الله في «زوائد المسند» ٥/ ١٣٨ والطبراني في «الكبير» ٥٣٦ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٢٠٠ من طريق الحسن بن قزعة عن سفيان بن حبيب عن شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل عن أبيّ عن أبيه، وإسناده ضعيف جدا، ثوير بن أبي فاختة متروك الحديث بل قال الثوري: هو ركن من أركان الكذب. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا، إلا من حديث الحسن بن قزعة. قال الترمذي: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث، فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه اه.

تنبيه: وقد وهم الألباني في هذا الحديث حيث حكم بصحته في «صحيح الترمذي» ٢٦٠٣.

وأخرجه الطبراني في «الدعاء» ١٥٣٠ من حديث سلمة بن الأكوع، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ليس بشيء. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٦/ ٨٠ من حديث أبي هريرة، وابن مردويه يروي الموضوعات، لا يحتج بما ينفرد، وقد تفرد به عن أبي هريرة، فهو لا شيء، وقد ورد موقوفا عن غير واحد من الصحابة والتابعين، وهو الصواب، وقد وهم ثوير وموسى الربذي فروياه مرفوعا.

والضحاك والسدي وابن زيد في آخرين، وقد روي مرفوعا إلى النبيّ ﷺ فعلى هذا يكون معنى:

«ألزَمَهم»: حَكَمَ لهم بها، وهي التي تَنفي الشِّرك.

والثاني: «لا إِله إلا الله والله أكبر»، قاله ابن عمر. وعن علي بن أبي طالب كالقولين.

والثالث: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: «لا ِإله إِلا الله محمد رسول الله»، قاله عطاء الخراساني. والخامس: «بسم الله الرحمن الرحيم»، قاله الزهري. فعلى هذا يكون المعنى أنه لمّا أبى المشركون أن يكتُبوا هذا في كتاب الصُّلح، ألزمه اللهُ المؤمنين وَكانُوا أَحَقَّ بِها

من المشركين وَكانوا أَهْلَها في علم الله تعالى.


[سورة الفتح (٤٨): الآيات ٢٧ الى ٢٨]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨)

قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ.

(١٣٠١) قال المفسرون. سبب نزولها أن رسول الله ﷺ كان أُري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلًا يقول له: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلى قوله: لا تَخافُونَ ورأى كأنه هو وأصحابه يدخُلون مكة وقد حَلَقوا وقصَّروا، فأخبر بذلك أصحابَه ففرِحوا، فلمّا خرجوا إِلى الحديبية حَسِبوا أنهم يدخُلون مكة في عامهم ذلك، فلمّا رجعوا ولم يدخُلوا قال المنافقون: أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية، فدخلوا في العام المقبل.

وفي قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ ستة أقوال «١»: أحدها: أن «إن» بمعنى «إذ»، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه استثناء من الله، وقد عَلِمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يَعْلَمون، قاله ثعلب فعلى هذا يكون المعنى أنه عَلِم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخَلْق به من الاستثناء. والثالث: أن المعنى: لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن أمركم الله به، قال الزجاج. والرابع: أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه عَلِم أن بعضهم يموت، حكاه الماوردي. والخامس: أنه على وجه الحكاية.

لما رآه النبيّ ﷺ في المنام أن قائلًا يقول: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، حكاه القاضي أبو يعلى. والسادس: أنه يعود إِلى الأمن والخوف، فأمّا الدُّخول، فلا شَكَّ فيه، حكاه الثعلبي.

قوله تعالى: آمِنِينَ من العَدُوِّ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ من الشّعر لا تَخافُونَ عدوّا.

غريب هكذا، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريجه ٤/ ٣٤٥ وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري ٣١٦٠١ و٣١٦٠٢ و٣١٦٠٣ و٣١٦٠٤ وعامة هذه الروايات مراسيل.

_________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٣٦: هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء. وقال الزمخشري في «الكشاف» ٤/ ٣٤٧: قلت فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته.

فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عَلِم أن الصَّلاح في الصُّلح. والثاني: أن في تأخير الدُّخول صلاحًا. والثالث: فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك.

قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا فيه قولان «١»: أحدهما: فتح خيبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: صلح الحديبية، قاله مجاهد والزهري وابن إِسحاق. وقد بيَّنّا كيف كان فتحًا في أول السورة. وما بعد هذا مفسر في براءة «٢»: إِلى قوله وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا وفيه قولان: أحدهما: أنه شَهِدَ على نَفْسه أنه يُظْهِره على الدِّين كُلِّه، قاله الحسن. والثاني: كفى به شهيدًا أن محمّدا رسوله، قاله مقاتل.


[سورة الفتح (٤٨): آية ٢٩]

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)

قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقرأ الشعبي، وأبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: «محمدًا رسولُ الله» بالنصب فيهما. قال ابن عباس: شَهِد له بالرِّسالة. قوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني أصحابه، والأشدّاء: جمع شديد. قال الزجاج: والأصل: أَشْدِدَاءُ، نحو نصيب وأنصباء، ولكن الدّالَين تحركتا، فأُدغمت الأولى في الثانية، ومثله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ «٣» . قوله تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الرُّحَماء جمع رحيم، والمعنى أنهم يُغْلِظون على الكفار، وَيتوادُّون بينَهم تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَصِفُ كثرة صَلاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وهو الجنة وَرِضْوانًا وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجُمهور.

(١٣٠٢) وروى مبارك بن فضاله عن الحسن البصري أنه قال: «والذين معه» أبو بكر «أشداء على الكفار» عمر «رحماء بينهم» عثمان «تراهم رُكَّعًا سُجَّدًا» عليّ بن أبي طالب «يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا» طلحة والزّبير وعبد الرّحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة.

قوله تعالى: سِيماهُمْ أي: علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ، وهل هذه العلامة في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان «٤»: أحدهما: في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السّمت الحسن، قاله ابن

لا يصح هذا عن الحسن، مبارك غير قوي، والأثر من بدع التأويل.

_________

(١) انظر كلام على أرجح الأقوال في المراد بالفتح في أول السورة.

(٢) التوبة: ٣٣.

(٣) المائدة: ٥٤.

(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٣٧٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم في وجوههم من أثر السجود، وذلك في كل الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوعه. وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون، وذلك الغرة في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.

عباس في رواية ابن أبي طلحة وقال في رواية مجاهد: أما إِنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإِسلام وسَمْتُه وخُشوعُه، وكذلك قال مجاهد: ليس بِنَدَبِ التراب في الوجه، ولكنه الخُشوع والوَقار والتواضع. والثاني: أنه نَدَى الطّهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية: لأنهم يسجُدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حمَلَتْ جباهُهم من الأرض.

والثالث: أنه السُّهوم، فإذا سهم وجه الرجُل من الليل أصبح مُصفارًّا. قال الحسن البصري: «سيماهم في وجوههم»: الصُّفرة وقال سعيد بن جبير: أثر السهر وقال شمر بن عطية: هو تهيُّج في الوجه من سهر الليل.

والقول الثاني: أنها في الآخرة. ثم فيه قولان: أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم يكون أشدَّ وجوههم بياضًا يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإِلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري. وروى العوفي عن ابن عباس قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. والثاني: أنهم يُبْعَثون غُرًا محجَّلين من أثر الطَّهور، ذكره الزجاج.

قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي: صِفَتُهم، والمعنى أن صفة محمّد ﷺ وأصحابه فِي التَّوْراةِ هذا. فأما قوله: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ففيه ثلاثة أقوال «١»: أحدها: أن هذا المَثَل المذكور أنه في التوراة هو مَثَلُهم في الإِنجيل. قال مجاهد: مَثَلُهم في التوراة والإِنجيل واحد. والثاني: أن المتقدِّم مَثَلُهم في التوراة. فأمّا مَثَلُهم في الإِنجيل فهو قوله: كَزَرْعٍ، وهذا قول الضحاك وابن زيد. والثالث: أن مَثَلَهُم في التوراة والإِنجيل كزرع، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «شَطَأَهُ» بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «شطْأه» بسكون الطاء. وكلهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو العالية، وابن أبي عبلة: «شَطاءَهُ» بفتح الطاء وبالمد والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة: أي: فِراخه، يقال: أشطأ الزَّرعُ فهو مشطئ: إِذا أفرخ فَآزَرَهُ أي: ساواه وصار مثل الأُمّ. وقرأ ابن عامر: «فأَزَرَهُ» مقصورة الهمزة مثل فَعَلَهُ. وقال ابن قتيبة: آزره: أعانه وقوّاه فَاسْتَغْلَظَ أي: غَلُظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وهي جمع «ساق»، وهذا مَثَلٌ ضربه اللهُ عز وجل للنبيّ ﷺ إِذ خرج وحده، فأيَّده بأصحابه، كما قوَّى الطَّاقة من الزَّرع بما نبت منها حتى كَبُرتْ وغَلُظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير: «على سُؤْقه» مهموزة، والباقون:

بلا همزة. وقال قتادة: في الإِنجيل: سيَخْرج قومٌ ينبتون نبات الزَّرع، وفيمن أُريدَ بهذا المثَل قولان «٢»:

أحدهما: أن أصل الزَّرع: عبد المطلب «أخرج شطأه» أخرج محمّدا ﷺ فَآزَرَهُ: بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ: بعمر فَاسْتَوى: بعثمان عَلى سُوقِهِ: عليّ بن أبي طالب، رواه سعيد بن جبير عن

(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٣٧٣: الصواب قول من قال: مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وذلك لو كان القول: أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد، لكان التنزيل، ومثلهم في الإنجيل وكزرع أخرج شطأه، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله: (كزرع) دليل بيّن على صحة ما قلنا.

(٢) لا يصح مثل هذا عن ابن عباس ولا عن سعيد بن جبير، بل هو من بدع التأويل.

ابن عباس. والثاني: أن المراد بالزَّرع: محمد ﷺ «أخرج شطأه»: أبو بكر «فآزره»: بعمر «فاستغلظ»:

بعثمان «فاستوى على سوقه»: بعليّ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ: يعني المؤمنين «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» وهو قول عمر لأهل مكة: لا يُعْبَدُ اللهُ سِرًَا بعد اليوم، رواه الضحاك عن ابن عباس، ومبارك عن الحسن. قوله تعالى:

لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي: إِنَّما كثَّرهم وقوَّاهم لِيَغيظ بهم الكُفّار، وقال مالك بن أنس «١»: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله ﷺ فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إِدريس لا آمَنُ أن يكونوا قد ضارعوا الكُفّار، يعني الرّافضة، لأن الله تعالى يقول: «لِيَغيظَ بهم الكُفّار» . قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا قال الزجاج: في «مِنْ» قولان: أحدهما: أن يكون تخليصًا للجنس من غيره، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «٢»، ومثله أن تقول: أَنْفِقْ من الدَّراهم، أي: اجعل نفقتك من هذا الجنس، قال ابن الأنباري: معنى الآية: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا من هذا الجنس، أي: من جنس الصحابة. والثاني: أن يكون هذا الوعْدُ لِمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصّالح.

(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسير» ٤/ ٢٤١: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ثم قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ من هذه لبيان الجنس مَغْفِرَةً أي لذنوبهم، وَأَجْرًا عَظِيمًا أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حقّ وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مثواهم، وقد فعل.

- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٦/ ٢٥٤: الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، وهذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلائهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم.

وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب قال ﷺ: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه.

(٢) الحج: ٣٠.

google-playkhamsatmostaqltradent