recent
آخر المقالات

[تفسير سورة البينة]

 

تَفْسِيرُ سُورَةِ (لَمْ يَكُنْ) وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَمَدَنِيَّةٌ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ. وَهِيَ تِسْعُ آيَاتٍ «٣». وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، رُوِّينَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ نُمَيْرٍ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي الْهَيْثَمِ الْخَشَّابِ، فَاكْتُبْ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَتَبَ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله: (لو يعلم الناس ما في [لَمْ يَكُنِ [الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،، لَعَطَّلُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ، فَتَعَلَّمُوهَا) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ: وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا يَقْرَؤُهَا مُنَافِقٌ أَبَدًا، وَلَا عَبْدٌ فِي قَلْبِهِ شَكٌّ فِي اللَّهِ. وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ المقربين يقرءونها «٤» منذ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ مَا يَفْتُرُونَ مِنْ قِرَاءَتِهَا. وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَقْرَؤُهَا إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَائِكَةً يَحْفَظُونَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ (. قَالَ الْحَضْرَمِيُّ: فَجِئْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُمَيْرٍ، فَأَلْقَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَيْهِ، فقال: هذا


(١). ما بين المربعين زيادة من الموطأ.
(٢). الذي في نسخة تفسير الثعلبي التي بين أيدينا:«من صلى المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر فقد أخذ ...» الحديث. ولم يذكر: (في جماعة).
(٣). في مصاحفنا: (ثمان آيات). وفي تفسير الآلوسي: وآيها تسع في البصري وثمان في غيره.
(٤). في بعض نسخ الأصل: قبل خلق السموات ...

قَدْ كَفَانَا مَئُونَتَهُ، فَلَا تَعُدْ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:» رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ عن مالك ابن أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي [لَمْ يَكُنْ [الَّذِينَ كَفَرُوا لَعَطَّلُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ وَلَتَعَلَّمُوهَا) «١». حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ!؟ قَالَ«نَعَمْ» فَبَكَى). قُلْتُ: خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ قِرَاءَةُ الْعَالِمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُبَيٍّ، لِيُعَلِّمَ النَّاسَ التَّوَاضُعَ، لِئَلَّا يَأْنَفَ أَحَدٌ مِنَ التَّعَلُّمِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ أُبَيًّا كَانَ أَسْرَعَ أَخْذًا لِأَلْفَاظِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ، أَنْ يَأْخُذَ أَلْفَاظَهُ وَيَقْرَأَ كَمَا سَمِعَ مِنْهُ، وَيُعَلِّمَ غَيْرَهُ. وَفِيهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُبَيٍّ، إِذْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، قَالَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ابْنُ آدَمَ لَوْ أُعْطِيَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لَالْتَمَسَ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَالْتَمَسَ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: قَرَأَ عَلَيَّ عَاصِمٌ (لَمْ يَكُنْ) ثَلَاثِينَ آيَةً، هَذَا فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ قِرَاءَتَيِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو مُتَّصِلَتَانِ بِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لَا يُقْرَأُ فِيهِمَا هَذَا الْمَذْكُورُ فِي (لَمْ يَكُنْ) مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ عليه السلام، لَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا رَوَاهُ اثْنَانِ مَعَهُمَا الْإِجْمَاعُ: أَثْبَتُ مِمَّا يَحْكِيهِ وَاحِدٌ مخالف مذهب الجماعة.


(١). في الرواية الاولى للحديث ص ١٣٨: (فتعلموها).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[
سورة البينة (٩٨): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَذَا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَخَطُّ الْمُصْحَفِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:» وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ، فَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ فَطَلِّقُوهُنَّ لِقَبَلِ عِدَّتِهِنَّ وَهُوَ تَفْسِيرٌ، فَإِنَّ التِّلَاوَةَ: هُوَ مَا كَانَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. (وَالْمُشْرِكِينَ) فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى أَهْلِ الْكِتابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَهْلِ الْكِتابِ: الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا بِيَثْرِبَ، وَهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ. وَالْمُشْرِكُونَ: الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَحَوْلَهَا، وَالْمَدِينَةِ وَالَّذِينَ حَوْلَهَا، وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. (مُنْفَكِّينَ) أَيْ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ، مَائِلِينَ عَنْهُ. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) أَيْ أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، أَيْ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقِيلَ: الِانْتِهَاءُ بُلُوغُ الْغَايَةِ أَيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْلُغُوا نِهَايَةَ أَعْمَارِهِمْ فَيَمُوتُوا، حَتَّى تَأْتِيهُمُ الْبَيِّنَةُ. فَالِانْفِكَاكُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ. وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ زَائِلِينَ، أَيْ لَمْ تَكُنْ مُدَّتُهُمْ لِتَزُولَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ رَسُولٌ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا انْفَكَكْتُ أَفْعَلُ كَذَا: أَيْ مَا زِلْتُ. وَمَا انْفَكَّ فُلَانٌ قَائِمًا. أَيْ مَا زَالَ قَائِمًا. وَأَصْلُ الْفَكِّ: الْفَتْحُ، وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ، وَفَكُّ الْخَلْخَالِ، وَفَكُّ السَّالِمِ «١». قَالَ طَرَفَةُ:
فَآلَيْتُ لَا يَنْفَكُّ كَشْحِي بِطَانَةً ... لِعَضْبٍ رَقِيقِ الشفرتين مهند «٢»


(١). كذا في بعض نسخ الأصل. وفي بعضها: (فك السالم وهي قال طرفة). بياض بعد (وهي). وفي تفسير الثعلبي: (وفك السالم وهي حروف الفطن قال طرفة). ولم نهتد لوجه الصواب فيه.
(٢). الكشح: الجنب والعضب: السيف القاطع. ومهند: أي مشحذ والتهنيد: التشحيذ. ويقال: سيف مهند: إذا عمل ببلاد الهند. [.....]

وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
حَرَاجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مناخة ... على الخف أَوْ نَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرًا «١»
يُرِيدُ: مَا تَنْفَكُّ مُنَاخَةً، فَزَادَ (إِلَّا). وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ: بَارِحِينَ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْرَحُوا وَيُفَارِقُوا الدُّنْيَا، حَتَّى تَأْتِيهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي كِتَابِهِمْ، حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وَجَحَدُوهُ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «٢» [البقرة: ٨٩]. وَلِهَذَا قَالَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [البينة: ٤] ... الْآيَةَ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ وَالْمُشْرِكِينَ أَيْ مَا كَانُوا يُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ، حَتَّى بُعِثَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ، حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى لِسَانِهِ، وَبُعِثَ إِلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ عَادُوهُ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: مُنْفَكِّينَ هَالِكِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ صَلَا «٣» الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ، فَلَا يَلْتَئِمَ فَتَهْلِكَ الْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ. وَقَالَ قَوْمٌ فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمِنْ الْيَهُودِ مَنْ قَالَ: عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ. وَمِنْ النَّصَارَى مَنْ قَالَ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَالْمُشْرِكُونَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَكَفَرُوا حِينَ بَلَغُوا. فَلِهَذَا قَالَ: وَالْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: الْمُشْرِكُونَ وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِكِتَابِهِمْ، وَتَرَكُوا التَّوْحِيدَ. فَالنَّصَارَى مُثَلِّثَةٌ، وَعَامَّةُ الْيَهُودِ مُشَبِّهَةٌ، وَالْكُلُّ شِرْكٌ. وَهُوَ كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي الْعُقَلَاءُ وَالظُّرَفَاءُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ، تَصِفُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ. فَالْمَعْنَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكُفْرَ هُنَا هُوَ الْكُفْرُ بِالنَّبِيِّ ﷺ، أَيْ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يكن المشركون، الذين هم عبدة


(١). الحراجيج (جمع حرجوج): وهي الناقة الطويلة الضامرة. والخسف: أن تبيت على غير علف. يقول: ما تنفصل من بلد إلى بلد الا مناخة على الخسف.
(٢). آية ٨٩ سورة البقرة.
(٣). الصلا: وسط الظهر من الإنسان ومن كل ذي أربع. وقيل: هو ما انحدر من الوركين. وقيل: هو ما عن يمين الذنب وشماله.

الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهُمْ- وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ- مُنْفَكِّينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ. فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ مُنْفَكِّينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مُحَمَّدٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآنَ بِمُحَمَّدٍ- وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُعَظِّمِينَ لَهُ، بِمُنْتَهِينَ عَنْ هَذَا الْكُفْرِ، إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ وَيُبَيِّنَ لَهُمُ الْآيَاتِ، فَحِينَئِذٍ يُؤْمِنُ قَوْمٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْمُشْرِكُونَ رَفْعًا، عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَبْيَنُ، لِأَنَّ الرَّفْعَ يَصِيرُ فِيهِ الصِّنْفَانِ كَأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ: فَمَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ مُنْفَكِّينَ. وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) قِيلَ حَتَّى أَتَتْهُمْ. وَالْبَيِّنَةُ: مُحَمَّدٌ ﷺ. (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) أي بعيث مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: رَسُولٌ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ هِيَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ هُوَ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تُذَكَّرُ فَيُقَالُ: بَيِّنَتِي فُلَانٌ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَابْنِ مسعود«رسولا» بالنصب على القطع. (يَتْلُوا) أَيْ يَقْرَأُ. يُقَالُ: تَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً. (صُحُفًا) جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَهِيَ ظَرْفُ الْمَكْتُوبِ. (مُطَهَّرَةً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الزُّورِ، وَالشَّكِّ، وَالنِّفَاقِ، وَالضَّلَالَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكَذِبِ، وَالشُّبُهَاتِ. وَالْكُفْرُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. أَيْ يَقْرَأُ مَا تَتَضَمَّنُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، لَا عَنْ كِتَابٍ، لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا، لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ. ومُطَهَّرَةً: مِنْ نَعْتِ الصُّحُفِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ «١» [عبس: ١٤ - ١٣]، فَالْمُطَهَّرَةُ نَعْتٌ لِلصُّحُفِ فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ نَعْتٌ لِمَا فِي الصُّحُفِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مُطَهَّرَةً أَيْ يَنْبَغِي أَلَّا يَمَسَّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (الْوَاقِعَةِ) حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ «٢». وَقِيلَ: الصُّحُفُ الْمُطَهَّرَةُ: هِيَ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، الَّذِي مِنْهُ نُسِخَ ما أنزل على الأنبياء


(١). آية ١٣ سورة عبس.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٢٥ فما بعدها.

مِنَ الْكُتُبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «١» [البروج: ٢٢ - ٢١]. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الصُّحُفَ الْمُطَهَّرَةَ فِي السَّمَاءِ. (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أَيْ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ مُحْكَمَةٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: قَامَ يَقُومُ: إِذَا اسْتَوَى وَصَحَّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الصُّحُفُ هِيَ الْكُتُبُ، فَكَيْفَ قَالَ فِي صُحُفٍ فِيهَا كُتُبٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُتُبَ هُنَا: بِمَعْنَى الْأَحْكَامِ، قَالَ الله عز وجل: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ «٢» [المجادلة: ٢١] بِمَعْنَى حَكَمَ. وَقَالَ ﷺ: (وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ، وَلَيْسَ ذِكْرُ الرَّجْمِ مَسْطُورًا فِي الْكِتَابِ، فَالْمَعْنَى: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الْوَلَاءُ بِالْبَلَاءِ «٣» فَمِلْتُمُ ... وَمَا ذَاكَ قَالَ اللَّهُ إِذْ هُوَ يَكْتُبُ
وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْقَيِّمَةُ: هِيَ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَهُ كُتُبًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ على أنواع من البيان.

[
سورة البينة (٩٨): آية ٤]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أَيْ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالتَّفْرِيقِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مَجْمُوعِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُمْ مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ فَإِذَا تَفَرَّقُوا كَانَ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَدْخَلُ فِي هَذَا الْوَصْفِ. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أَيْ أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، أَيْ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكِتَابِ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَتَفَرَّقُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ: بَغْيًا وَحَسَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ «٤» [الشورى: ١٤]. وَقِيلَ: الْبَيِّنَةُ: الْبَيَانُ الَّذِي فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلى قوله قَيِّمَةٌ [البينة: ٥]: حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَقَوْلُهُ: وَما تَفَرَّقَ: حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.


(١). آخر سورة البروج.
(٢). آية ٢١ سورة المجادلة.
(٣). كذا في الأصل، ولم نقف على هذا البيت فيما لدينا من المراجع. ولعل صوابه:
ومال الولاة بالبلاء فملتم .. إلخ

(٤). آية ١٤ سورة الشورى.

[سورة البينة (٩٨): آية ٥]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أُمِرُوا) أَيْ وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) أَيْ لِيُوَحِّدُوهُ. وَاللَّامُ فِي لِيَعْبُدُوا بِمَعْنَى (أَنْ)، كقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ «١» لَكُمْ [النساء: ٢٦] أي أن يبين. ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «٢» [الصف: ٨]. وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٣» [الانعام: ٧١]. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيِ الْعِبَادَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ «٤» [الزمر: ١١]. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حُنَفاءَ) أَيْ مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: حُنَفَاءُ: عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. وَقِيلَ: الْحَنِيفُ: مَنِ اخْتَتَنَ وَحَجَّ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَأَصْلُهُ أَنَّهُ تَحَنَّفَ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَيْ مَالَ إِلَيْهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أَيْ بِحُدُودِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أَيْ يُعْطُوهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أَيْ ذَلِكَ الدين الذي أمروا به دين القيمة، أَيِ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَلِكَ دِينُ الْمِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ. والْقَيِّمَةِ: نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. أَوْ يُقَالُ: دِينُ الْأُمَّةِ الْقَيِّمَةِ بِالْحَقِّ، أَيِ الْقَائِمَةِ بِالْحَقِّ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْقَيِّمَةِ جَمْعُ الْقَيِّمِ، وَالْقَيِّمُ وَالْقَائِمُ: وَاحِدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْقَيِّمَةِ وَهُوَ نَعْتُهُ، لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمَدْحِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمِلَّةِ أَوِ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن الأشعث، الطالقاني الْقَيِّمَةِ ها هنا: الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، وَالدِّينُ مُضَافٌ إِلَيْهَا.


(١). آية ٢٦ سورة النساء.
(٢). آية ٨ سورة الصف.
(٣). آية ٧١ سورة الانعام.
(٤). آية ١١ سورة الزمر.

[سورة البينة (٩٨): الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) الْمُشْرِكِينَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ، أَوْ يَكُونُ مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلَى أَهْلِ. (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَهُوَ الْبَارِئُ الْخَالِقُ، وقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «١» [الحديد: ٢٢]. الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَشَدَّ الْيَاءَ عِوَضًا مِنْهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ أُخِذَتِ الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَى، وَهُوَ التُّرَابُ، فَأَصْلُهُ غَيْرُ الْهَمْزِ، تَقُولُ مِنْهُ: براه الله يبرؤه بَرْوًا، أَيْ خَلَقَهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَنْ قَالَ الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَى، وَهُوَ التُّرَابُ، قَالَ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ تَحْتَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَقِيلَ: الْبَرِيَّةُ: مِنْ بَرَيْتُ الْقَلَمَ، أَيْ قَدَّرْتُهُ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ. وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَجِبُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ مَنْ هَمَزَ. وَقَوْلُهُ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أَيْ شَرُّ الْخَلِيقَةِ. فَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّعْمِيمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَيْ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ «٢» [البقرة: ٤٧] أَيْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِكُمْ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي كُفَّارِ الْأُمَمِ قَبْلَ هَذَا مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ، مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَعَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ. وَكَذَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ: إِمَّا عَلَى التَّعْمِيمِ، أَوْ خَيْرُ بَرِيَّةِ عَصْرِهِمْ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقِرَاءَةِ الْهَمْزِ مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَمَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ«الْبَقَرَةِ» الْقَوْلُ فِيهِ «٣». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عز وجل مِنْ بَعْضِ الملائكة الذين عنده.


(١). آية ٢٢ سورة الحديد. [.....]
(٢). آية ٤٧ سورة البقرة.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٨٩ طبعه ثانية أو ثالثة.

[سورة البينة (٩٨): آية ٨]
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَزاؤُهُمْ) أَيْ ثَوَابُهُمْ. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ خَالِقِهِمْ وَمَالِكِهِمْ. (جَنَّاتُ) أَيْ بَسَاتِينُ. (عَدْنٍ) أَيْ إِقَامَةٍ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، أَيْ وَسَطُهَا، تَقُولُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِنُ [عَدْنًا وَعُدُونًا]: أَقَامَ. وَمَعْدِنُ الشَّيْءِ: مَرْكَزُهُ وَمُسْتَقَرُّهُ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِنْ يُسْتَضَافُوا إِلَى حُكْمِهِ ... يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدْنٍ
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا) لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يَمُوتُونَ. رضي الله عنهم أَيْ رَضِيَ أَعْمَالَهُمْ، كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.) (وَرَضُوا عَنْهُ) أَيْ رَضُوا هُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ عز وجل. (ذلِكَ) أَيِ الْجَنَّةُ. (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أَيْ خَافَ ربه، فتناهي عن المعاصي.

[
تفسير سورة الزلزلة]
سُورَةُ«الزَّلْزَلَةِ» مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَمَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَهِيَ تِسْعُ «١» آيَاتٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ السُّورَةُ فَضْلُهَا كَثِيرٌ، وَتَحْتَوِي عَلَى عَظِيمٍ: رَوَى الترمذي عن أنس ابن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ قَرَأَ (إِذَا زُلْزِلَتْ)، عُدِلَتْ لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ. وَمَنْ قَرَأَ (قُلْ يَا أيها الكافرون) [الْكَافِرُونَ: ١] عُدِلَتْ لَهُ بِرُبْعِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ (قل هو الله أحد) [الإخلاص: ١] عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ (. قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ قَرَأَ إِذَا زُلْزِلَتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ). وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (إِذَا زُلْزِلَتْ) بَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: [لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، لَخَلَقَ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ وَيَغْفِرُ لهم، إنه هو الغفور الرحيم [.


(١). في حاشية الشهاب: (آيها تسع أو ثمان).

 


google-playkhamsatmostaqltradent