سَمَّى النَّبِيءُ ﷺ هَذِهِ السُّورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ رَاكِبٌ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةَ هُودٍ وَسُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ لِأَنَّهُ كَانَ جَوَابا عَن قَوْلِ عُقْبَةَ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ إِلَخْ، وَلِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الْفَلَقِ: ١] قَوْلَهُ: وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: ١] وَلَمْ يُتِمَّ سُورَةَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ»: سُورَةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» بِإِضَافَةِ سُورَةِ إِلَى أَوَّلِ جُمْلَةٍ مِنْهَا.
وَجَاءَ فِي كَلَام بَعْضِ الصَّحَابَةِ تَسْمِيَتُهَا مَعَ سُورَةِ النَّاسِ «الْمُعَوِّذَتَيْنِ» .
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ
(بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ الْمُعَوِّذَاتِ، أَيْ آيَاتِ السُّورَتَيْنِ)
وَفِي رِوَايَةٍ: «بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ»
. وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُمَا تُسَمَّى الْمُعَوِّذَةَ بِالْإِفْرَادِ، وَقَدْ سَمَّاهَا ابْنُ عَطِيَّةَ سُورَةَ الْمُعَوِّذَةِ الْأُولَى، فَإِضَافَةُ «سُورَةٍ» إِلَى «الْمُعَوِّذَةِ» مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ، وَوَصْفُ السُّورَةِ بِذَلِكَ مَجَازٌ يَجْعَلُهَا كَالَّذِي يَدُلُّ الْخَائِفَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَعْصِمُهُ مِنْ مُخِيفِهِ أَوْ كَالَّذِي يُدْخِلُهُ الْمَعَاذَ.
وَسُمِّيَتْ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَمُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْفَلَقِ» .
وَفِي «الْإِتْقَانِ»: أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمَّيَانِ «الْمُشَقْشِقَتَيْنِ» (بِتَقْدِيمِ الشِّينَيْنِ
عَلَى
الْقَافَيْنِ) مِنْ قَوْلِهِمْ خَطِيبٌ مُشَقْشِقٌ اهـ. (أَيْ مُسْتَرْسِلُ الْقَوْلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْفَحْلِ الْكَرِيمِ مِنَ الْإِبِلِ يَهْدِرُ بِشِقْشَقَةٍ وَهِيَ كَاللَّحْمِ يَبْرُزُ مِنْ فِيهِ إِذَا غَضِبَ) وَلَمْ أُحَقِّقْ وَجْهَ وَصْفِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ بِذَلِكَ.
وَفِي «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» و«الْكَشَّاف» أَنَّهَا وَسُورَةَ النَّاسِ تُسَمِّيَانِ «المقشقشتين» (بِتَقْدِيم القافين عَلَى الشِّينَيْنِ) زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ تُبَرِّئَانِ مِنَ النِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ، فَيَكُونُ اسْمُ الْمُقَشْقِشَةِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَرْبَعِ سُوَرٍ هَذِهِ، وَسُورَةِ النَّاسِ، وَسُورَةِ بَرَاءَةَ، وَسُورَةِ الْكَافِرُونَ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَمَكِّيَّةٌ هِيَ أَمْ مَدَنِيَّةٌ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ:
مَكِّيَّةٌ، وَرَوَاهُ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهَا مُتَكَلَّمٌ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ ﷺ، وَلَيْسَ فِي «الصِّحَاحِ» أَنَّهَا نَزَلَتْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَبَنَى صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَيْهِ تَرْجِيحَ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى قِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: ٤] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا وَالسُّورَةِ بَعْدَهَا: أَنَّ قُرَيْشًا نَدَبُوا، أَيْ نَدَبُوا مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ يُصِيبُ النَّبِيءَ ﷺ بِعَيْنِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لِيَتَعَوَّذَ مِنْهُمْ بِهِمَا، ذَكَرَهُ الْفَخْرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَلَمْ يُسْنِدْهُ.
وَعُدَّتِ الْعِشْرِينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفِيلِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّاسِ.
وَعَدَدُ آيَاتِهَا خَمْسٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاشْتُهِرَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ «الْمُعَوِّذَتَانِ» مِنَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا
، أَيْ وَلَمْ يُؤْمَرْ
بِأَنَّهُمَا مِنْ الْقُرْآن. وَقد جمع أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَكُتِبَتَا فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيءَ ﷺ قَرَأَ بِهِمَا فِي صلَاته.
أغراضها
وَالْغَرَضُ مِنْهَا تَعْلِيمُ النَّبِيءِ ﷺ كَلِمَاتٍ لِلتَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا يُتَّقَى شَرُّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الشِّرِّيرَةِ، وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا حُدُوثُ الشَّرِّ، وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يستر أَفعَال الشَّرِّ مِنْ وَرَائِهَا لِئَلَّا يُرْمَى فَاعِلُوهَا بِتَبِعَاتِهَا، فَعَلَّمَ اللَّهُ نَبِيئَهُ هَذِهِ الْمُعَوِّذَةَ لِيَتَعَوَّذَ بِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ ﷺ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَأُخْتِهَا وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالتَّعَوُّذِ بِهِمَا، فَكَانَ التَّعَوُّذُ بِهِمَا مِنْ سنة الْمُسلمين.
[١، ٢]
[سُورَة الفلق (١١٣): الْآيَات ١ إِلَى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)
الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ لِلنَّبِيءِ ﷺ ليَتَعَوَّذ بهَا فإجابتها مَرْجُوَّةٌ، إِذْ لَيْسَ هَذَا الْمَقُولُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَيْءٍ يُكَلَّفُ بِهِ أَوْ يُعْمَلُ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ: قُلْ لَهُمْ كَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: ١]، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْشَاءُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَاصَّةُ.
وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ ﷺ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: «قِيلَ لِي قُلْ فَقُلْتُ لَكُمْ فَقُولُوا»
. يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلتَّعَوُّذِ وَإِذْ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَلْفَاظِهَا مُتَعَيِّنَةٌ وَالتَّعَوُّذُ يَحْصُلُ بِمَعْنَاهَا وَبِأَلْفَاظِهَا حَتَّى كَلِمَةِ قُلْ وَالْخطاب ب قُلْ لِلنَّبِيءِ ﷺ وَإِذَ قَدْ كَانَ قُرْآنًا كَانَ خِطَابُ النَّبِيءِ ﷺ بِهِ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيءُ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِالتَّعَوُّذِ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَلِذَلِكَ أَيْضًا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ»، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُوَجَّهَةُ إِلَى الْمُخَاطَبِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَيَيِ الْخِطَابِ مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمِنْ إِرَادَةِ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ وَهُوَ
طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْخِطَابِ تَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ الْقَرَائِنُ، فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ التَّكَلُّمِ فِي فِعْلِ أَعُوذُ يَتْبَعُ مَا يُرَادُ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ فِي فِعْلِ قُلْ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ التَّعَوُّذَ بِهَا.
وَأَمَّا تَعْوِيذُ قَارِئِهَا غَيْرَهُ بِهَا كَمَا
وَرَدَ أَنَّ النَّبِيءَ ﷺ كَانَ يُعَوِّذُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ،
وَمَا
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيءَ ﷺ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفسه لبركتها»
، فَذَلِك
عَلَى نِيَّةِ النِّيَابَةِ عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُعَوِّذَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ لِعَجْزٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ عَدَمِ حِفْظٍ.
وَالْعَوْذُ: اللَّجْأُ إِلَى شَيْءٍ يَقِي مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مَا يَخَافُهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِفُلَانٍ، وَعَاذَ بِحِصْنٍ، وَيُقَالُ: اسْتَعَاذَ، إِذَا سَأَلَ غَيْرَهُ أَنْ يُعِيذَهُ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْأَعْرَاف: ٢٠٠] . وَعَاذَ مِنْ كَذَا، إِذَا صَارَ إِلَى مَا يُعِيذُهُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨] .
والْفَلَقِ: الصُّبْحُ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ الصَّمَدِ لِأَنَّ اللَّيْلَ شُبِّهَ بِشَيْءٍ مُغْلَقٍ يَنْفَلِقُ عَنِ الصُّبْحِ، وَحَقِيقَةُ الْفَلْقِ: الِانْشِقَاقُ عَنْ بَاطِنِ شَيْءٍ، وَاسْتُعِيرَ لِظُهُورِ الصُّبْحِ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهَذَا مِثْلَ اسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ لِظُهُورِ النُّورِ بَعْدَ الظَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها [النازعات: ٢٩]، وَاسْتِعَارَةِ السَّلْخِ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] .
وَرَبُّ الْفَلَقِ: هُوَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ ظُهُورِ الصُّبْحِ، وَتَخْصِيصُ وَصْفِ اللَّهِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْفَلَقِ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ لِأَنَّ شَرًّا كَثِيرًا يَحْدُثُ فِي اللَّيْلِ مِنْ لُصُوصٍ، وَسِبَاعٍ، وَذَوَاتِ سُمُومٍ، وَتَعَذُّرِ السَّيْرِ، وَعُسْرِ النَّجْدَةِ، وَبُعْدِ الِاسْتِغَاثَةِ وَاشْتِدَادِ آلَامِ الْمَرْضَى، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ اللَّيْلَ إِلَهَ الشَّرِّ.
وَالْمَعْنَى: أَعُوذُ بِفَالِقِ الصُّبْحِ مَنْجَاةً مِنْ شُرُورِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْجِيَنِي فِي اللَّيْلِ مِنَ الشَّرِّ كَمَا أَنْجَى أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ بِأَنْ خَلَقَ لَهُمُ الصُّبْحَ، فَوُصِفَ اللَّهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي فِيهَا تمهيد للإجابة.
[سُورَة الفلق (١١٣): آيَة ٣]
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣)
عَطْفُ أَشْيَاءَ خَاصَّةٍ هِيَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: ٢]، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاع الشرور:
أَحدهَا: وَقْتٌ يَغْلِبُ وُقُوعُ الشَّرِّ فِيهِ وَهُوَ اللَّيْلُ.
وَالثَّانِي: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ أُقِيمَتْ صِنَاعَتُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ الشَّرِّ بِالْغَيْرِ.
وَالثَّالِثُ: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ ذُو خُلُقٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى إِلْحَاقِ الْأَذَى بِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ.
وَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ مِنْ شَرِّ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ الدُّعَاءِ، تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ، وَهَذَا مِنَ الِابْتِهَالِ فَيُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ.
وَالْغَاسِقُ: وَصْفُ اللَّيْلِ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ يَغْسِقُ، إِذَا أَظْلَمَ قَالَ تَعَالَى: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الْإِسْرَاء: ٧٨]، فَالْغَاسِقُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِهِ مِنْ مَعْنَى وَصْفِهِ مِثْلَ الْجَوَارِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ لِلجِّنْسِ لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ اللَّيْلِ.
وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ لِأَنَّ مَقَامَ الدُّعَاءِ يُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَعْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ وُقِيتُمْ كُلَّ ضُرٍّ.
وَإِضَافَةُ الشَّرِّ إِلَى غَاسِقٍ مِنْ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى زَمَانِهِ عَلَى مَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] .
وَاللَّيْل: تَكْثُرُ فِيهِ حَوَادِثُ السُّوءِ مِنَ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِظَرْفِ إِذا وَقَبَ أَيْ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُهُ الشُّطَّارُ وَأَصْحَابُ الدَّعَارَةِ وَالْعَيْثِ، لِتَحَقُّقِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فِيهِ، يُقَالُ: أَغْدَرَ اللَّيْلُ، لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ ظَلَامُهُ كَثُرَ الْغَدْرُ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَغْدَرُ، أَيْ صَارَ ذَا غَدْرٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ وَتَغَلْغَلَ فِي الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْوَقْبَةُ: اسْمُ النُّقْرَةِ فِي الصَّخْرَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَوَقَبَتِ الشَّمْسُ غَابَتْ، وَخص بِالتَّعَوُّذِ أَشَدَّ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ تَوَقُّعًا لحُصُول الْمَكْرُوه.
[٤]
[سُورَة الفلق (١١٣): آيَة ٤]
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)
هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الْخَاصَّةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْعَامِّ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: ٢] . وَعَطْفُ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ عَلَى شَرِّ اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُ فِيهِ السَّحَرَةُ إِجْرَاءَ شَعْوَذَتِهِمْ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ.
وَالنَّفْثُ: نَفْخٌ مَعَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِدُونِ إِخْرَاجِ رِيقٍ فَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التُّفْلِ، يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ
إِذَا وَضَعُوا عِلَاجَ سِحْرِهِمْ فِي شَيْءٍ وَعَقَدُوا عَلَيْهِ عُقَدًا ثُمَّ نَفَثُوا عَلَيْهَا.
فَالْمُرَادُ بِ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ: النِّسَاءُ السَّاحِرَاتُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِصِفَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَتَعَاطَى السِّحْرَ النِّسَاءُ لِأَنَّ نِسَاءَهُمْ لَا شُغْلَ لَهُنَّ بَعْدَ تَهْيِئَةِ لَوَازِمِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ وَالنَّظَافَةِ، فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ انْكِبَابُهُنَّ عَلَى مِثْلِ هَاتِهِ السَّفَاسِفِ مِنَ السِّحْرِ وَالتَّكَهُّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَوْهَامُ الْبَاطِلَةُ تَتَفَشَّى بَيْنَهُنَّ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُولَ سَاحِرَةٌ مِنَ الْجِنِّ. وَوَرَدَ فِي خَبَرِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ أَنَّ عِمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اتُّهِمَ بِزَوْجَةِ النَّجَاشِيِّ وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا لَهُ السَّوَاحِرَ فَنَفَخْنَ فِي إِحْلِيلِهِ فَصَارَ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ وَلَحِقَ بِالْوُحُوشِ.
والْعُقَدِ: جَمْعُ عُقْدَةٍ وَهِيَ رَبْطٌ فِي خَيْطٍ أَوْ وَتَرٍ يَزْعُمُ السَّحَرَةُ أَنَّهُ سِحْرُ الْمَسْحُورِ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَت تِلْكَ العقد مَعْقُودَةً، وَلِذَلِكَ يَخَافُونَ مِنْ حَلِّهَا فَيَدْفِنُونَهَا أَوْ يُخَبِّئُونَهَا فِي مَحَلٍّ لَا يُهْتَدَى إِلَيْهِ. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ السَّحَرَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ شَرُّ السَّحَرَةِ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَكَاذِيبِهِمْ إِنَّهُ مَسْحُورٌ، قَالَ تَعَالَى:
وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الْفرْقَان: ٨] .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ هُنَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَإِنَّ النَّبِيءَ ﷺ مَأْمُونٌ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ شَرُّ النَّفَّاثَاتِ لِأَنَّ اللَّهَ أَعَاذَهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا السِّحْرُ فَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] .
وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ النَّفَّاثَاتِ لَا مِنَ النَّفْثِ، فَلَمْ يَقُلْ: إِذَا نَفَثْنَ فِي الْعُقَدِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نَفْثَهُنَّ فِي الْعُقَدِ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَجْلِبُ ضُرًّا بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يَجْلِبُ الضُّرَّ النَّافِثَاتُ وَهُنَّ مُتَعَاطِيَاتُ السِّحْرِ، لِأَنَّ السَّاحِرَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِمَّا يُحَقِّقُ لَهُ مَا يَعْمَلُهُ لِأَجْلِهِ إِلَّا احْتَالَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا وَضَعَ لَهُ فِي طَعَامِهِ أَوْ شَرَابِهِ عَنَاصِرَ مُفْسِدَةً لِلْعَقْلِ أَوْ مُهْلِكَةً بِقصد أَو بِغَيْر قَصْدٍ، أَوْ قَاذُورَاتٍ يُفْسِدُ اخْتِلَاطُهَا بِالْجَسَدِ بَعْضَ عَنَاصِرِ انْتِظَامِ الْجِسْمِ يختلّ بهَا نشاط أعصابه أَوْ إِرَادَتُهُ، وَرُبَّمَا أَغْرَى بِهِ مَنْ يَغْتَالُهُ أَوْ مَنْ يَتَجَسَّسُ عَلَى أَحْوَالِهِ لِيُرِيَ لِمَنْ يَسْأَلُونَهُ السِّحْرَ أَنَّ سحره لَا يتَخَلَّف وَلَا يخطىء.
وَتَعْرِيفُ النَّفَّاثاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ فِي معنى النكرَة، فَلَا تَفَاوُتَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ [الفلق: ٣] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ [الفلق: ٥] . وَإِنَّمَا
أُوثِرَ لَفْظُ النَّفَّاثاتِ بِالتَّعْرِيفِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي مِثْلِهِ للْإِشَارَة إِلَى أَن حَقِيقَةٌ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ مِثْلَ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِمْ: «أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ» كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢] .
وَتَعْرِيفُ النَّفَّاثاتِ بِاللَّامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُنَّ مَعْهُودَاتٌ بَين الْعَرَب.
[٥]
[سُورَة الفلق (١١٣): آيَة ٥]
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)
عُطِفَ شَرُّ الْحَاسِدِ عَلَى شَرِّ السَّاحِرِ الْمَعْطُوفِ عَلَى شَرِّ اللَّيْلِ، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَتِهِ، فَإِنَّ مِمَّا يَدْعُو الْحَاسِدَ إِلَى أَذَى الْمَحْسُودِ أَنْ يَتَطَلَّبَ حُصُولَ أَذَاهُ لِتَوَهُّمِ أَنَّ السِّحْرَ يُزِيلُ النِّعْمَةَ الَّتِي حَسَدَهُ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ ثَوْرَانَ وِجْدَانِ الْجَسَدِ يَكْثُرُ فِي وَقْتِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ الْخُلْوَةِ وَخُطُورِ الْخَوَاطِرِ النَّفْسِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْأَحْوَالِ الحافة بالحاسد وبالمحسود.
وَالْحَسَدُ: إِحْسَاسٌ نَفْسَانِيٌّ مُرَكَّبٌ مِنِ اسْتِحْسَانِ نِعْمَةٍ فِي الْغَيْرِ مَعَ تَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ لِأَجْلِ غَيْرَةٍ عَلَى اخْتِصَاصِ الْغَيْرِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ عَلَى مُشَارَكَتِهِ الْحَاسِدَ فِيهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْحَسَدِ عَلَى الْغِبْطَةِ مَجَازًا.
وَالْغِبْطَةُ: تَمَنِّي الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلُ مَا لِمَنْ يَرُوقُ حَالُهُ فِي نَظَرِهِ، وَهُوَ مَحْمَلُ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ»
، أَيْ لَا غِبْطَةَ، أَي لَا تحق الْغِبْطَةُ إِلَّا فِي تَيْنِكَ الْخَصْلَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَسَدِ وَالْغِبْطَةِ فِي الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ.
فَقَدْ يَغْلِبُ الْحَسَدُ صَبْرَ الْحَاسِدِ وَأَنَاتَهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى لِلْمَحْسُودِ بِإِتْلَافِ أَسْبَابِ نعْمَته أَو إهلاكه رَأْسًا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَدُ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْجِنَايَاتِ فِي الدُّنْيَا إِذْ حَسَدَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ عَلَى أَنْ قُبِلَ قُرْبَانُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ قُرْبَانُ الْآخَرِ، كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَتَقْيِيدُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ بِوَقْتِ: إِذا حَسَدَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ إِلَى عَمَلِ الشَّرِّ بِالْمَحْسُودِ حِينَ يَجِيشُ الْحَسَدُ فِي نَفْسِهِ فَتَتَحَرَّكُ لَهُ الْحِيَلُ وَالنَّوَايَا لِإِلْحَاقِ الضُّرِّ بِهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَسَدِ فِي قَوْلِهِ: إِذا حَسَدَ حَسَدٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْبَالِغُ أَشَدَّ حَقِيقَتِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي تَقْيِيدِ الْحَسَدِ بِ حَسَدَ وَذَلِكَ كَقَوْل عَمْرو بن معد يكرب:
وَبَدَتْ لَمِيسُ كَأَنَّهَا ... بَدْرُ السَّمَاءِ إِذَا تَبَدَّى
أَيْ تَجَلَّى وَاضِحًا مُنِيرًا.
وَلَمَّا كَانَ الْحَسَدُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمَحْسُودِ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِنَايَةُ عَنِ السَّيِّدِ بِالْمَحْسُودِ، وَبِعَكْسِهِ الْكِنَايَة عَن سيّىء الْحَالِ بِالْحَاسِدِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ:
حَسَدُوا الْفَتَى أَنْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فَالْقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَمَشُومُ
وَقَوْلُ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ:
إِنْ يَحْسُدُونِي فَإِنِّي غَيْرُ لَائِمِهِمْ ... قَبْلِي مِنَ النَّاسِ أَهْلُ الْفَضْلِ قَدْ حُسِدُوا
فَدَامَ لِيَ وَلَهُمْ مَا بِي وَمَا بِهِمُ ... وَمَاتَ أَكْثَرُنَا غَيْظًا بِمَا يَجِدُ