وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ سُورَةَ أَلَمْ تَرَ. رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ قُرَيْشٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: صَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَلَمْ تَرَ [الْفِيل: ١] ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: ١] . وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ.
وَسُمِّيَتْ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ: سُورَةَ الْفِيلِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَدْ عُدَّتِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: ١] وَقَبْلَ سُورَةِ الْفَلَقِ. وَقِيلَ: قَبْلَ سُورَةِ قُرَيْشٍ لِقَوْلِ الْأَخْفَشِ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: ١] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الْفِيل: ٥]، وَلِأَنَّ أُبِيَّ بْنَ كَعْبٍ جَعَلَهَا وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً فِي مُصْحَفِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْبَسْمَلَةِ وَلِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا رَوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ مَرَّةً فِي الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْفِيلِ وَسُورَةَ قُرَيْشٍ، أَيْ وَلَمْ يكن الصَّحَابَة يقرأون فِي الرَّكْعَةِ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ سُورَتَيْنِ لِأَنَّ السُّنَّةَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُمَا عِنْدَهُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ قُرَيْشٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَلَقِ وَأُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْفِيلِ فَلَا يَتِمُّ الِاحْتِجَاجُ بِمَا فِي مُصْحَفِ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ.
وآيها خمس.
أغراضها
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ التَّذْكِيرَ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ حَمَاهُ مِمَّنْ أَرَادُوا بِهِ سُوءًا أَوْ
أَظْهَرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ فَعَذَّبَهُمْ لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا بِطَمَعِهِمْ فِي هَدْمِ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ،
وَذَلِكَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ كَيْدًا، وَلِيَكُونَ مَا حَلَّ بِهِمْ تَذْكِرَةً لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ رَبُّ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَنْ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ.
وَتَنْبِيهُ قُرَيْشٍ أَوْ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ كَرَامَةِ النَّبِيءِ ﷺ عِنْدَ اللَّهِ إِذْ أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ فِي عَامِ وِلَادَتِهِ.
وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ تَثْبِيتُ النَّبِيءِ ﷺ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْهُ كَيْدَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الَّذِي دَفَعَ كَيْدَ مَنْ يَكِيدُ لِبَيْتِهِ لَأَحَقُّ بِأَنْ يَدْفَعَ كَيْدَ مَنْ يَكِيدُ لِرَسُولِهِ ﷺ وَدِينِهِ وَيُشْعِرُ بِهَذَا قَوْله: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الْفِيل: ٢] .
وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَنْ لَا تَغُرَّ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتُهُمْ وَوَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَلَا يُوهِنُ النَّبِيءَ ﷺ تَأَلَّبُ قَبَائِلِهِمْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا.
وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إِهْلَاكِ أَصْحَابِ الْفِيلِ خِلَافًا لِقِصَصِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن إهلاك أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ غُرُورًا بِمَكَانَةٍ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَغُرُورِهِمْ بِقَوْلِهِمْ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْفَال: ٣٤] .
[١]
[سُورَة الْفِيل (١٠٥): آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١)
اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الِاسْتِفْهَام التقريري كثيرا مَا يَكُونُ عَلَى نَفْيِ الْمُقَرَّرِ بإثباته للثقة بِأَن الْمُقَرَّرَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا إِثْبَاتُ الْمَنْفِيِّ وَانْظُرْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣] . وَالِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ هُنَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ وَهُوَ مَجَازٌ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ فَصَارَ كَالْحَقِيقَةِ لِشُهْرَتِهِ. وَعَلَيْهِ فَالتَّقْرِيرُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّكْرِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إِرْهَاصًا لِلنَّبِيءِ ﷺ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ١، ٢]،
وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِ قُرَيْشٍ نِعْمَةً عَظِيمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: رَبُّكَ فَمَهْيَعُ هَذِهِ الْآيَةِ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى [الضُّحَى: ٦] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ
[الْبَلَدِ: ١، ٢] عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
فَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَجَازِيَّةً مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ الْبَالِغِ مِنَ الْيَقِينِ حَدَّ الْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِتَوَاتُرِ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَقَاءِ بَعْضِ آثَارِ ذَلِكَ يُشَاهِدُونَهُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: رَأَيْتُ فِي بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوًا مِنْ قَفِيزَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ سُودًا مُخَطَّطَةً بِحُمْرَةٍ. وَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أَسْيَدٍ: أَدْرَكْتُ سَائِسَ الْفِيلِ وَقَائِدَهُ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِقَهُ أَعْمَيَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ.
وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَة بصرية بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَجَاوَزَ سِنُّهُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مِمَّنْ شَهِدَ حَادِثَ الْفِيلِ غُلَامًا أَوْ فَتًى مِثْلَ أَبِي قُحَافَةَ وَأَبِي طَالِبٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ.
وكَيْفَ لِلِاسْتِفْهَامِ سدّ مسدّ مفعولي أَوْ مَفْعُولِ تَرَ، أَي لم تَرَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ؟ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَيْفَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مُرَادًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْكَيْفِيَّةِ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ.
وَإِيثَارُ كَيْفَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ الْمَوْصُولِ فَلَمْ يَقُلْ: أَلَمْ تَرَ مَا فَعَلَ رَبُّكَ، أَوِ الَّذِي فَعَلَ رَبُّكَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى حَالَةٍ عَجِيبَةٍ يَسْتَحْضِرُهَا مَنْ يَعْلَمُ تَفْصِيلَ الْقِصَّةِ.
وَأُوثِرَ لَفْظُ فَعَلَ رَبُّكَ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الْفِعْلِ يَعُمُّ أَعْمَالًا كَثِيرَةً لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا غَيْرُهُ.
وَجِيءَ فِي تَعْرِيفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَصْفِ (رَبُّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ ﷺ
إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ تَكْرِيمُ النبيء ﷺ إرهاصا لنبوءته إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَامَ مَوْلِدِهِ.
وَأَصْحَابُ الْفِيلِ: الْحَبَشَةُ الَّذِينَ جَاءُوا مَكَّةَ غَازِينَ مُضْمِرِينَ هَدْمَ الْكَعْبَةِ انْتِقَامًا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَهُ أَحَدُ بَنِي كِنَانَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ النَّسِيءِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَكَانَ خَبَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ أَنَّ الْحَبَشَةَ قَدْ مَلَكُوا الْيَمَنَ بَعْدَ وَاقِعَةِ الْأُخْدُودِ الَّتِي عَذَّبَ فِيهَا الْمَلِكُ ذُو نُوَاسٍ النَّصَارَى، وَصَارَ أَمِيرُ الْحَبَشَةِ عَلَى الْيَمَنِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: (أَبْرَهَةُ) وَأَنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى كَنِيسَةً عَظِيمَةً فِي صَنْعَاءَ دَعَاهَا الْقَلِيسَ (بِفَتْحِ الْقَافِ وَكسر اللَّام بعد مَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ،
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهَا بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ) . وَفِي «الْقَامُوسِ» بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَفْتُوحَةً وَسُكُونِ الْيَاءِ. وَكَتَبَهُ السُّهَيْلِيُّ بِنُونٍ بَعْدَ اللَّامِ وَلَمْ يَضْبُطْهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعَانِي الْقَلْسِ لِلِارْتِفَاعِ. وَمِنْهُ الْقَلَنْسُوَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ أَعْرِفْ أَصْلَ هَذَا اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِلْكَنِيسَةِ وَلَعَلَّ لَفْظَ كَنِيسَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُعْرَّبٌ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا وَضَعُوهُ لِهَذِهِ الْكَنِيسَةِ الْخَاصَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا دُونَ الْكَعْبَةِ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَكَانُوا أَهْلَ النَّسِيءِ لِلْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٧]، قَصَدَ الْكِنَانِيُّ صَنْعَاءَ حَتَّى جَاءَ الْقَلِيسَ فَأَحْدَثَ فِيهَا تَحْقِيرًا لَهَا لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ وَأَزْمَعَ غَزْوَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ خَارِجَ مَكَّةَ لَيْلًا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغَمَّسُ (كَمُعَظَّمٍ مَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ) أَوْ ذُو الْغَمِيسِ (لَمْ أَرَ ضَبْطَهُ) وَأَرْسَلَ إِلَى عَبَدِ الْمُطَّلِبِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْ أَنْ يُحَارِبُوهُ وَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آلَهُ وَجَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى الْجِبَالِ الْمُحِيطَةِ بِهَا خَشْيَةً مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِذَا دَخَلُوا مَكَّةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ هَيَّأَ جَيْشَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَاكِبًا فِيلًا وَجَيْشُهُ مَعَهُ فَبَيْنَا هُوَ يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ إِذْ أَصَابَ جُنْدَهُ دَاءٌ عُضَالٌ هُوَ الْجُدَرِيُّ الْفَتَّاكُ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْأَنَامِلُ، وَرَأَوْا قَبْلَ ذَلِكَ طَيْرًا تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ لَا تُصِيبُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ وَهِيَ طَيْرٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ فَهَلَكَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ وَأَدْبَرَ بَعْضُهُمْ وَمَرِضَ (أَبْرَهَةُ) فَقَفَلَ رَاجِعًا إِلَى صَنْعَاءَ مَرِيضًا، فَهَلَكَ فِي صَنْعَاءَ وَكَفَى اللَّهُ أَهْلَ مَكَّةَ أَمْرَ عَدُوِّهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْمُوَافِقِ لِشَهْرِ شُبَاطَ (فِبْرَايِرَ)
سَنَةَ ٥٧٠ بَعْدَ مِيلَادِ عِيسَى عليه السلام، وَبَعْدَ هَذَا الْحَادِثِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا وُلِدَ النَّبِيءُ ﷺ عَلَى أَصَحِّ الْأَخْبَارِ وَفِيهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْفِيلِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ فِيلُ أَبْرَهَةَ قَائِدِ الْجَيْشِ كَمَا قَالُوا لِلْجَيْشِ الَّذِي خَرَجَ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَصْحَابُ الْجَمَلِ يُرِيدُونَ الْجَمَلَ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ، مَعَ أَنَّ فِي الْجَيْشِ جِمَالًا أُخْرَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جَيْشَ أَبْرَهَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا فِيلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ فِيلُ أَبْرَهَةَ، وَكَانَ اسْمه مَحْمُود. وَقِيلَ: كَانَ فِيهِ فِيَلَةٌ أُخْرَى، قِيلَ ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ.
وَقَالَ بَعْضٌ: أَلْفُ فِيلٍ. وَوَقَعَ فِي رَجَزٍ يُنْسَبُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
أَنْتَ مَنَعَتَ الْحُبْشَ وَالْأَفْيَالَا فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ وَيَكُونُ الْعَهْدُ مُسْتَفَادًا مِنَ الْإِضَافَةِ.
وَالْفِيلُ: حَيَوَانٌ عَظِيمٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ذَوَاتِ الْخُفِّ، مِنْ حَيَوَانِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ ذَاتِ الْأَنْهَارِ مِنَ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْحَبَشَةِ وَالسُّودَانِ، وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَجْلُوبًا، وَهُوَ
ذَكِيٌّ قَابِلٌ لِلتَّأَنُّسِ وَالتَّرْبِيَةِ، ضَخْمُ الْجُثَّةِ أَضْخَمُ مِنَ الْبَعِيرِ، وَأَعْلَى مِنْهُ بِقَلِيلٍ وَأَكْثَرُ لَحْمًا وَأَكْبَرُ بَطْنًا. وَخُفُّ رِجْلِهِ يُشْبِهُ خُفَّ الْبَعِيرِ وَعُنُقُهُ قَصِيرٌ جِدًّا لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ هُوَ أَنْفُهُ يَتَنَاوَلُ بِهِ طَعَامَهُ وَيَنْتَشِقُ بِهِ الْمَاءَ فَيُفْرِغُهُ فِي فِيهِ ويدافع بِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَخْتَطِفُ بِهِ وَيَلْوِيهِ عَلَى مَا يُرِيدُ أَذَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُلْقِيهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَدُوسُهُ بِقَوَائِمِهِ. وَفِي عَيْنَيْهِ خَزَرٌ وَأُذُنَاهُ كَبِيرَتَانِ مُسْتَرْخِيَتَانِ، وَذَنَبُهُ قَصِيرٌ أَقْصَرُ مِنْ ذَنَبِ الْبَعِيرِ وَقَوَائِمُهُ غَلِيظَةٌ. وَمَنَاسِمُهُ كَمَنَاسِمِ الْبَعِيرِ وَلِلذَّكَرِ مِنْهُ نَابَانِ طَوِيلَانِ بَارِزَانِ مِنْ فَمِهِ يَتَّخِذُ النَّاسُ مِنْهَا الْعَاجَ. وَجِلْدُهُ أَجْرَدُ مِثْلَ جِلْدِ الْبَقَرِ، أَصْهَبُ اللَّوْنِ قَاتِمٌ كَلَوْنِ الْفَارِ وَيَكُونُ مِنْهُ الْأَبْيَضُ الْجِلْدِ. وَهُوَ مَرْكُوبٌ وَحَامِلُ أَثْقَالٍ وَأَهْلُ الْهِنْدِ وَالصِّينِ يَجْعَلُونَ الْفِيلَ كَالْحِصْنِ فِي الْحَرْبِ يَجْعَلُونَ مَحَفَّةً عَلَى ظَهْرِهِ تَسَعُ سِتَّةَ جُنُودٍ. وَلَمْ يَكُنِ الْفِيلُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فَلِذَلِكَ قَلَّ أَنَّ يُذْكَرَ فِي كَلَامِهِمْ وَأَوَّلُ فِيلٍ دَخَلَ بِلَادَ الْعَرَبِ هُوَ الْفِيلُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ أَشْعَارٌ لَهُمْ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي السِّيرَةِ. وَلَكِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ الْفِيلِ وَيَتَخَيَّلُونَهُ عَظِيمًا قَوِيًّا، قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَقَامٍ ضَيِّقٍ فَرَّجْتُهُ ... بِبَيَانٍ وَلِسَانٍ وَجَدَلْ
لَوْ يَقُومُ الْفِيلُ أَوْ فَيَّالُهُ ... زَلَّ عَنْ مِثْلِ مَقَامِي وَرَحَلْ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ فِي قَصِيدَتِهِ:
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بَهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلَّ يَرْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ
وَكُنْتُ رَأَيْتُ أَنَّ.... قَالَ إِنَّ أُمَّهُ أَرَتْهُ أَوْ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ رَوَثَ الْفِيلِ بِمَكَّةَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَلَعَلَّهُمْ تَرَكُوا إِزَالَتَهُ لِيَبْقَى تَذْكِرَةً.
وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ: رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ.
وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمِ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، فَهَذَا تَقْرِيرٌ عَلَى إِجْمَالٍ يُفَسِّرُهُ مَا بعده.
[٢- ٥]
[سُورَة الْفِيل (١٠٥): الْآيَات ٢ إِلَى ٥]
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
هَذِهِ الْجُمَلُ بَيَانٌ لِمَا فِي جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الْفِيل: ١] مِنَ الْإِجْمَالِ.
وَسَمَّى حَرْبَهُمْ كَيْدًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ ظَاهِرُهُ الْغَضَبُ مِنْ فِعْلِ الْكِنَانِيِّ الَّذِي قَعَدَ فِي الْقَلِيسِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَعِلَّةٌ تَعَلَّلُوا بِهَا لِإِيجَادِ سَبَبٍ لِحَرْبِ أَهْلِ مَكَّةَ وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ لِيَنْصَرِفَ الْعَرَبُ إِلَى حَجِّ الْقَلِيسِ فِي صَنْعَاءَ فَيَتَنَصَّرُوا.
أَوْ أُرِيدَ بِكَيْدِهِمْ بِنَاؤْهُمُ الْقَلِيسِ مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ بَنَوْا كَنِيسَةً وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا الْحَجَّ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَصْرِفُوا الْعَرَبَ إِلَى صَنْعَاءَ.
وَالْكَيْدُ: الِاحْتِيَالُ عَلَى إِلْحَاقِ ضُرٍّ بِالْغَيْرِ وَمُعَالَجَةِ إِيقَاعِهِ.
وَالتَّضْلِيلُ: جَعْلُ الْغَيْرِ ضَالًّا، أَيْ لَا يَهْتَدِي لِمُرَادِهِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْإِبْطَالِ وَعَدَمِ نَوَالِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ ضَلَالَ الطَّرِيقِ عَدَمُ وُصُولِ السَّائِرِ.
وَظَرْفِيَّةُ الْكَيْدِ فِي التَّضْلِيلِ مَجَازِيَّةٌ، اسْتُعِيرَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ
الشَّدِيدَةِ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ بِتَضْلِيلٍ، أَيْ مُصَاحِبًا لِلتَّضْلِيلِ لَا يُفَارِقُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَبْطَلَهُ إِبْطَالًا شَدِيدًا إِذْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِقُوَّتِهِمْ مَعَ ضَعْفِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غَافِر: ٣٧] أَيْ ضَيَاعٍ وَتَلَفٍ، وَقَدْ شَمِلَ تَضْلِيلُ كَيْدِهِمْ جَمِيعَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْبَةِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبابِيلَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: ١]، أَيْ وَكَيْفَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ صِفَتِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ، فَبَعْدَ أَنْ وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ عُطِفَ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ بِعِلْمِ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى كَيْدِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَصْدِهِمْ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ، فَذَلِكَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِبَيْتِهِ لِإِظْهَارِ تَوْطِئَتِهِ لِبَعْثَةِ رَسُولِهِ ﷺ بِدِينِهِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، إِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَكَمَا كَانَ إِرْسَالُ الطَّيْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْبَابِ تَضْلِيلِ كَيْدِهِمْ، كَانَ فِيهِ جَزَاءٌ لَهُمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَانِعٌ بَيْتَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ فَيَكُونَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّقْرِيرِ الثَّانِي بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَخَصَّ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبْطِلًا لِكَيْدِهِمْ وَكَوْنِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمَجِيئُهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قُلِبَ زَمَانُهُ إِلَى الْمُضِيِّ لِدُخُولِ حَرْفِ
لَمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فِي سُورَةِ الضُّحَى [٦، ٧]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَيْسَ جَعَلَ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ.
وَالطَّيْرُ: اسْمٌ جَمْعُ طَائِرٍ، وَهُوَ الْحَيَوَانُ الَّذِي يرْتَفع فِي الجو بِعَمَلِ جَنَاحَيْهِ. وَتَنْكِيرُهُ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَصَّاصُونَ فِي صِفَتِهِ اخْتِلَافًا خَيَالِيًّا. وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْخَطَاطِيفِ، وَعَنْ غَيْرِهَا أَنَّهَا تُشْبِهُ الْوَطْوَاطَ.
وأَبابِيلَ: جَمَاعَاتٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظَهِ مِثْلَ عَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ وَتَبِعَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ، وَقَالَ الرُّؤَاسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَاحِدُ
أَبَابِيلَ إِبَّالَةٌ مُشَدَّدَةَ الْمُوَحَّدَةِ مَكْسُورَةَ الْهَمْزَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةَ» وَهِيَ الْحُزْمَةُ الْكَبِيرَةُ مِنَ الْحَطَبِ. وَعَلَيْهِ فَوَصْفُ الطَّيْرِ بِأَبَابِيلَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَجُمْلَةُ تَرْمِيهِمْ حَالٌ مِنْ طَيْرًا وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ تُخُيِّلَ لِلسَّامِعِ كَالْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْحَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر: ٩] الْآيَةَ.
وَحِجَارَةٌ: اسْمُ جَمْعِ حَجَرٍ. عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طِينٌ فِي حِجَارَةٍ، وَعَنْهُ أَنَّ سِجِّيلَ مُعَرَّبُ سَنْكِ كِلْ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، أَيْ عَنْ كَلِمَةِ (سَنْكِ) وَضُبِطَ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْكَافِ اسْمُ الْحَجَرِ وَكَلِمَةُ (كِلْ) بِكَسْرِ الْكَافِ اسْم الطين ومجموع الْكَلِمَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ الْآجُرُّ.
وَكِلْتَا الْكَلِمَتَيْنِ بِالْكَافِ الْفَارِسِيَّةِ الْمُعَمَّدَةِ وَهِيَ بَيْنَ مَخْرَجِ الْكَافِ وَمَخْرَجِ الْقَافِ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ مِنْ بَيَانِيَّةً، أَيْ حِجَارَةٌ هِيَ سِجِّيلٌ، وَقَدْ عَدَّ السُّبْكِيُّ كَلِمَةَ سِجِّيلٍ فِي «مَنْظُومَتِهِ فِي الْمُعَرَّبِ الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ» .
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: ٣٣] مَعَ قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَجَرٌ أَصْلُهُ طِينٌ.
وَجَاءَ نَظِيرُهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ فِي سُورَةِ هود [٨٢]: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٧٤]: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ مِنْ جِنْسِ الْحِجَارَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، أَيْ لَيْسَتْ حَجَرًا صَخْرِيًّا وَلَكِنَّهَا طِينٌ مُتَحَجِّرٌ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا
مَخْلُوقَةٌ لِعَذَابِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَجْرُ إِذَا وَقَعَ عَلَى أَحَدِهِمْ نَفِطَ جِلْدُهُ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْجُدَرِيِّ (١) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا أصَاب أحدهم حجر مِنْهَا خَرَجَ بِهِ الْجُدَرِيُّ.
(١) بِضَم الْجِيم وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَيُقَال بفتحهما لُغَتَانِ: قُرُوح إِذا كثرت أهلكت وَإِذا أَصَابَت الْجلد بَقِي أَثَرهَا حفرا وتصيب الْعين فيعمى الْمُصَاب.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجُدَرِيَّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَرَ كَانَ قَدْرَ الْحِمَّصِ. رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَصَى الَّتِي رُمِيَ بِهَا أَصْحَابُ الْفِيلِ حَصًى مِثْلَ الْحِمَّصِ حُمْرًا بحتمة (أَي سَواد) كَأَنَّهَا جِزْعُ ظَفَارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَأَى مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ عِنْد أم هاني نَحْوَ قَفِيزٍ مُخَطَّطَةٍ بِحُمْرَةٍ بِالْجِزْعِ الظَّفَارِيِّ.
وَالْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ وَهُوَ جَمْعُ عَصْفَةٍ. وَالْعَصْفُ إِذَا دَخَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَأَكَلَتْهُ دَاسَتْهُ بِأَرْجُلِهَا وَأَكَلَتْ أَطْرَافَهُ وَطَرَحَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَخْضَرَ يَانِعًا. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ أَصْحَابِ الْفِيلِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْقُوَّةِ كَيْفَ صَارُوا مُتَسَاقِطِينَ عَلَى الْأَرْضِ هَالِكِينَ.