recent
آخر المقالات

٢٨- سُورَةُ الْقَصَصِ

 

سُمِّيَتْ سُورَةَ الْقَصَصِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ وُقُوعُ لَفْظِ الْقَصَصَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ [الْقَصَصَ: ٢٥] . فَالْقَصَصُ الَّذِي أُضِيفَتِ إِلَيْهِ السُّورَةُ هُوَ قَصَصُ مُوسَى الَّذِي قَصَّهُ عَلَى شُعَيْبٍ عليهما السلام فِيمَا لَقِيَهُ فِي مِصْرَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا. فَلَمَّا حُكِيَ فِي السُّورَةِ مَا قَصَّهُ مُوسَى كَانَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ ذَاتَ قَصَصٍ لِحِكَايَةِ قَصَصٍ، فَكَانَ الْقَصَصُ مُتَوَغِّلًا فِيهَا. وَجَاءَ لَفْظُ الْقَصَصِ فِي سُورَةِ [٣] يُوسُفَ وَلَكِنَّ سُورَةَ يُوسُفَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ.


وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ. وَفِيهَا آيَةُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَص: ٨٥] . قِيلَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ ﷺ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ تَسْلِيَةً لَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ. وَهَذَا لَا يُنَاكِدُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلْ قَبْلَ حُلُولِ النَّبِيءِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَدَنِيِّ مَا نَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ بِمَكَّةَ.

وَعَنْ مُقَاتِلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٢- ٥٥] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.

وَهِيَ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّمْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الطَّوَاسِينُ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً فِي النُّزُولِ كَمَا هُوَ تَرْتِيبُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي افْتِتَاحِ ثَلَاثَتِهَا بِذِكْرِ مُوسَى عليه السلام. وَلَعَلَّ ذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ كُتَّابَ الْمُصْحَفِ عَلَى جَعْلِهَا مُتَلَاحِقَةً.

وَهِيَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.

أَغْرَاضُهَا

اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّ بُلَغَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. وَعَلَى تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٨، ١٩] مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا إِلَى قَوْلِهِ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ كَانَتْ تَرْبِيَةُ مُوسَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ.

وَبَيَّنَ فِيهَا سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ.

وَفِيهَا تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٧] مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا فَفَصَّلَتْ سُورَةُ الْقَصَصِ كَيْفَ سَارَ مُوسَى وَأَهْلُهُ وَأَيْنَ آنَسَ النَّارَ وَوَصْفَ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ بِالْوَحْيِ إِلَى أَنْ ذَكَرَتْ دَعْوَةَ مُوسَى فِرْعَوْنَ فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوْعَبَ لِأَحْوَالِ نَشْأَةِ مُوسَى إِلَى وَقْتِ إِبْلَاغِهِ الدَّعْوَةَ ثُمَّ أَجْمَلَتْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَفْصِيلَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْصِيلِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ لِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ سُنَّةَ اللَّهِ فِي بِعْثَةِ الرُّسُلَ وَمُعَامَلَتِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ لِرُسُلِهَا.

وَتَحَدَّى الْمُشْرِكِينَ بِعِلْمِ النَّبِيءِ ﷺ بِذَلِكَ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا خَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ، ذَيَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ الشِّرْكِ وَأَنْذَرَهُمْ إِنْذَارًا بَلِيغًا.

وَفَنَّدَ قَوْلَهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] مِنَ الْخَوَارِقِ كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً ثُمَّ انْتِقَاضِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا مُوسَى أَيْضًا.

وَتَحَدَّاهُمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ مَعَ هَدْيِ التَّوْرَاةِ.

وَأَبْطَلَ مَعَاذِيرَهُمْ ثُمَّ أَنْذَرَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَ اللَّهِ.

وَسَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا كُلُّهَا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ.

وَأَنْحَى عَلَيْهِمْ فِي اعْتِزَازِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ وَمَالِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَتَاعُ الدُّنْيَا وَأَنَّ مَا ادُّخِرَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

وَأَعْقَبَهُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِحَالِ قَارُونَ فِي قَوْمِ مُوسَى. وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّذْكِيرِ

بِأَنَّ أَمْثَالَ أُولَئِكَ لَا يَحْظَوْنَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اقْتِرَابِ مُهَاجَرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص:

٥] الْآيَةَ.

وَخَتَمَ الْكَلَام بتسلية النبيء ﷺ وَتَثْبِيتِهِ وَوَعْدِهِ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ بَلَدَهُ فِي قَبْضَتِهِ وَيُمَكِّنُهُ مِنْ نَوَاصِي الضَّالِّينَ.

وَيَقْرُبُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وَدُّوا أَنْ تُفَصَّلَ لَهُمْ قِصَّةُ رِسَالَةِ مُوسَى عليه السلام فَكَانَ الْمَقْصُودُ انْتِفَاعُهُمْ بِمَا فِي تفاصيلها مِنْ مَعْرِفَةٍ نَافِعَةٍ لَهُمْ تَنْظِيرًا لِحَالِهِمْ وَحَالِ أَعْدَائِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي أَولهَا نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْقَصَص: ٣] أَيْ للْمُؤْمِنين.

[١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١)

تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي فَاتِحَةِ سُورَة الشُّعَرَاء.

[٢، ٣]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٢ إِلَى ٣]

تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)

الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ عَلَى نَحْوِ الْإِشَارَةِ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢] . فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْرُوءٌ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ شَأْنٌ عَظِيم.

وَجُمْلَة نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.

وَمُهِّدَ لِنَبَإِ مُوسَى وَفرْعَوْن بقوله نَتْلُوا عَلَيْكَ لِلتَّشْوِيقِ لِهَذَا النَّبَإِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ بِعَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ.

وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ لِكَلَامٍ مَكْتُوبٍ أَوْ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ [النَّمْل:

٩٢]، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ تَبْلُغُ إِلَيْهِ التِّلَاوَةُ بِحَرْفِ (عَلَى) وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢]، وَقَوْلِهِ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢] .

وَإِسْنَادُ التِّلَاوَةِ إِلَى اللَّهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِتِلَاوَةِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ

وَالَّذِي يَتْلُو حَقِيقَةً هُوَ جِبْرِيلُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٢] .

وَجُعِلَتِ التِّلَاوَةُ عَلَى النَّبِيءِ ﷺ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَلَقَّى ذَلِكَ الْمَتْلُوَّ. وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ بِالنَّبَإِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ ذُو شَأْنٍ وَأَهَمِّيَّةٍ.

وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ نَتْلُو عَلَيْكَ لِأَجْلِ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ تِلَاوَةِ النَّبَإِ عَلَى النَّبِيءِ ﷺ هِيَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ فَالنَّبِيءُ يُبَلِّغُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُوا أَوْ تَشَوَّفُوا إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَاءَ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَسُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالتَّعْلِيلِ وَاضِحٌ وَانْتِفَاعُ النَّبِيءِ ﷺ بِذَلِكَ مَعَهُمْ أَجْدَرُ وَأَقْوَى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالذِّكْرِ اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِفَادَةِ مَنْ سَأَلَ وَغَيْرُهُمْ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُزُولُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ تَشَوُّفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَخْصِيصُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتِّلَاوَةِ لِأَجْلِهِمْ تَنْوِيهٌ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ أَصْبَحُوا مُتَطَلِّبِيَنَ لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُتَشَوِّفِينَ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْقِصَصِ النَّافِعَةِ لِيَزْدَادُوا بِذَلِكَ يَقِينًا.

وَحُصُولُ ازْدِيَادِ الْعِلْمِ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي وَالْمُبَلِّغُ لِيَتَذَكَّرَ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَزْدَادَ عِلْمًا بِمَا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَهُ، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتُ فُؤَادِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا

نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: ١٢٠] .

فَالْمُرَادُ بِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قَوْمٌ الْإِيمَانُ شَأْنُهُمْ وَسَجِيَّتُهُمْ. وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَعْنَى تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْ نُفُوسِهِمْ أُجْرِيَ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَلَى كَلِمَةِ (قَوْمٍ) لِيُفِيدَ أَنَّ كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ هُوَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. فَالْمُرَادُ: الْمُتَلَبِّسُونَ بِالْإِيمَانِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ وَمُسْتَمِرٌّ مُتَجَدِّدٌ.

وَفِي هَذَا إِعْرَاضٌ عَنِ الْعِبْءِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِمَا يُقْصَدُ فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِهَا مَنْ آمَنَ وَمَنْ سَيُؤْمِنُ بَعْدَ سَمَاعِهَا.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهُوَ حَالٌ من ضمير نَتْلُوا، أَوْ صِفَةٌ لِلتِّلَاوَةِ المستفادة من نَتْلُوا.

وَالْحَقُّ: الصِّدْقُ لِأَنَّ الصِّدْقَ حَقٌّ إِذِ الْحَقُّ هُوَ مَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ

السَّلِيمَةِ وَالْأَدْيَانِ القويمة.

ومفعول نَتْلُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ صِفَتُهُ وَهِيَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ فَالتَّقْدِيرُ:

نَتْلُو عَلَيْكَ كَلَامًا مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ.

ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ الْمَتْلُوَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضُ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي الْوَاقِعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى لَمْ تُذْكَرْ هُنَا مِثْلُ ذِكْرِ آيَةِ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ.

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضَ) فَجَعلهَا مفعول نَتْلُوا. وَجَعَلَ الْأَخْفَشُ مِنْ زَائِدَةً لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ مِنْ تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ، فَجَعَلَ نَبَإِ مُوسى هُوَ الْمَفْعُولَ جُرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدَةِ.

وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ المهم الْعَظِيم.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤]

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَان لجملة نَتْلُوا [الْقَصَص: ٣] أَوْ بَيَانٌ لِ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ [الْقَصَص: ٣] فَقُدِّمَ لَهُ الْإِجْمَالُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ نَبَأٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ بِمَا فِيهِ مِنْ شَتَّى الْعِبَرِ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.

وَابْتُدِئَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِ أَسْبَابِهَا لِتَكُونَ عِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْهَا سُنَنًا يَعْلَمُونَ بِهَا عِلَلَ الْأَشْيَاءِ وَمَعْلُولَاتِهَا، ويسيرون فِي شؤونهم عَلَى طَرَائِقِهَا، فَلَوْلَا تَجَبُّرُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مِنْ قَبِيحِ الْخلال من حَلَّ بِهِ وَبِقَوْمِهِ الِاسْتِئْصَالُ، وَلَمَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا مِصْدَاقُ الْمَثَلِ: مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦] .

وَصُوِّرَتْ عَظَمَةُ فِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ عَلا فِي الْأَرْضِ لِتَكُونَ الْعِبْرَةُ بِهَلَاكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعُلُوِّ أَكْبَرَ الْعِبَرِ.

وَمَعْنَى الْعُلُوِّ هُنَا الْكِبْرُ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٨٣] . وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَسْتَشْعِرَ نَفْسَهُ عَالِيًا عَلَى مَوْضِعِ غَيْرِهِ لَيْسَ يُسَاوِيهِ أَحَدٌ، فَالْعُلُوُّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّفَوُّقِ عَلَى غَيْرِهِ، غَيْرُ مَحْقُوقٍ

لِحَقٍّ مِنْ دِينٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أَوْ رَعْيِ حُقُوقِ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَهُ فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ لَمْ يَعْبَأْ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِرَعْيِ صَلَاحٍ وَتَجَنُّبِ فَسَادٍ وَضُرٍّ وَإِنَّمَا يَتْبَعُ مَا تَحْدُوهُ إِلَيْهِ شَهْوَتُهُ وَإِرْضَاءُ هَوَاهُ، وَحَسْبُكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ إِلَهًا وَأَنَّهُ ابْنُ الشَّمْسِ.

فَلَيْسَ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَذْمُومِ رُجْحَانُ أَحَدٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِأَنَّهُ جَدِيرٌ بِالرُّجْحَانِ فِيهِ جَرْيًا عَلَى سَبَبِ رُجْحَانٍ عَقْلِيٍّ كَرُجْحَانِ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَالصَّالِحِ عَلَى الطَّالِحِ وَالذَّكِيِّ عَلَى الْغَبِيِّ، أَوْ سَبَبِ رُجْحَانٍ عَادِيٍّ وَيَشْمَلُ الْقَانُونِيَّ وَهُوَ كُلُّ رُجْحَانٍ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا بِمُرَاعَاتِهِ كَرُجْحَانِ أَمِيرِ الْجَيْشِ عَلَى جُنُودِهِ وَرُجْحَانِ الْقَاضِي عَلَى الْمُتَخَاصِمِينَ.

وَأَعْدَلُ الرُّجْحَانِ مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَرُجْحَانِ الْمُؤْمِنِ عَلَى

الْكَافِرِ، وَالتَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ، قَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠] وَيَتَرَجَّحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ وَالْإِجَادَةِ فِيهِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمُسَاوَاةُ.

وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي وَهُوَ الْمَلِكُ الثَّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُؤَرِّخِينَ لِلْفَرَاعِنَةِ، وَكَانَ فَاتِحًا كَبِيرًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ وَهُوَ الَّذِي وُلِدَ مُوسَى عليه السلام فِي زَمَانِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ.

والْأَرْضِ: هِيَ أَرْضُ مِصْرَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ ذِكْرَ فِرْعَوْنَ يَجْعَلُهَا مَعْهُودَةً عِنْدَ السَّامِعِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ اسْمُ مَلِكِ مِصْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ جَمِيعَ الْأَرْضِ يَعْنِي الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ مِنْهَا، فَإِطْلَاقُ الْأَرْضِ كَإِطْلَاقِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ فَقَدْ كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ (رَعْمَسِيسَ) الثَّانِي مُمْتَدًّا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ مِنْ حُدُودِ نَهْرِ (الْكَنْكِ) فِي الْهِنْدِ إِلَى نَهْرِ (الطونة) فِي أوروبا، فَالْمَعْنَى أَرْضُ مَمْلَكَتِهِ، وَكَانَ عُلُوُّهُ أَقْوَى مِنْ عُلُوِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ وِسَادَةِ الْأَقْوَامِ.

وَالشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ. وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُشَايِعُ غَيْرَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ، أَيْ تُتَابِعُهُ وَتُطِيعُهُ وَتَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَص: ١٥]، وَأُطْلِقَ عَلَى الْفِرْقَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ قَالَ تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم: ٣٢] .

وَمِنَ الْبَلَاغَةِ اخْتِيَارُهُ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ بِلَادِ الْقِبْطِ فِرَقًا ذَاتَ نَزَعَاتٍ تَتَشَيَّعُ

كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَيْهِ وَتُعَادِي الْفُرْقَةَ الْأُخْرَى لِيَتَمَّ لَهُمْ ضَرْبُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَقَدْ أَغْرَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ لِيَأْمَنَ تَأَلُّبَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ «فَرِّقْ تَحْكُمْ» وَهِيَ سِيَاسَةٌ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمَكْرِ بِالضِّدِّ وَالْعَدُوِّ وَلَا تَلِيقُ بِسِيَاسَةِ وَلِيِّ أَمْرِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ.

وَكَانَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي قَسَّمَ بِلَادَ مِصْرَ إِلَى سِتٍّ وَثَلَاثِينَ إِيَالَةً وَأَقَامَ عَلَى كُلِّ إِيَالَةٍ أُمَرَاءَ نُوَّابًا عَنْهُ لِيَتَسَنَّى لَهُ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ جَعَلَ وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا بَدَلَ اشْتِمَالِ جُمْلَةُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا

لِأَنَّهُ عَدَّهُمْ ضُعَفَاءَ، أَيْ أَذِلَّةً فَكَانَ يَسُومُهُمُ الْعَذَابَ وَيُسَخِّرُهُمْ لِضَرْبِ اللَّبِنِ وَلِلْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَالطَّائِفَةُ الْمُسْتَضْعَفَةُ هِيَ طَائِفَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَهْلَها لَا إِلَى شِيَعًا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَبْحِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [٦٧] أَنَّ الْخَبَرَ بِتِلْكَ الصِّيغَةِ أَدَلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِمَّا لَوْ قِيلَ: أَنْ أَكُونَ جَاهِلًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ دَالٌّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ خُلُقِهِ وَلِفِعْلِ الْكَوْنِ إِفَادَةُ تُمَكُّنِ خَبَرِ الْفِعْلِ مِنِ اسْمِهِ.

فَحَصَلَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى تَمَكُّنِ الْإِفْسَادِ مِنْ فِرْعَوْنَ، ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ.

الْمَفْسَدَةُ الْأُولَى: التَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ فَإِنَّهُ مَفْسَدَةٌ نَفْسِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَفَاسِدُ جَمَّةٌ مِنِ احْتِقَارِ النَّاسِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ وَسُوءِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَبَثِّ عَدَاوَتِهِ فِيهِمْ، وَسُوءِ ظَنِّهِ بِهِمْ وَأَنْ لَا يَرْقُبَ فِيهِمْ مُوجِبَاتِ فَضْلٍ سِوَى مَا يُرْضِي شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ وَرَاعِيهِمْ كَانَتْ صِفَةُ الْكِبَرِ مُقْتَضِيَةً سُوءَ رِعَايَتِهِ لَهُمْ وَالِاجْتِرَاءَ عَلَى دَحْضِ حُقُوقِهِمْ، وَأَنْ يَرْمُقَهُمْ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَلَا يَعْبَأَ بِجَلْبِ الصَّالِحِ لَهُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَبْتَزَّ مَنَافِعَهُمْ لِنَفْسِهِ وَيُسَخِّرَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ لِخِدْمَةِ أَغْرَاضِهِ وَأَنْ لَا يَلِينَ لَهُمْ فِي سِيَاسَةٍ فَيُعَامِلَهُمْ بِالْغِلْظَةِ وَفِي ذَلِكَ بَثُّ الرُّعْبِ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ بَطْشِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ أَمُّ الْمَفَاسِدِ وَجِمَاعُهَا وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ عَلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِأَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

الْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ الْمَمْلَكَةِ شِيَعًا وَفَرَّقَهُمْ أَقْسَامًا وَجَعَلَ مِنْهُمْ شِيَعًا مُقَرَّبِينَ مِنْهُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ وَذَلِكَ فَسَادٌ فِي الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ يثير بَينهَا التَّحَاسُدَ

وَالتَّبَاغُضَ، وَيَجْعَلُ بَعْضَهَا يَتَرَبَّصُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ، فَتَكُونُ الْفِرَقُ الْمَحْظُوظَةُ عِنْدَهُ مُتَطَاوِلَةً عَلَى الْفِرَقِ الْأُخْرَى، وَتَكْدَحُ الْفِرَقُ الْأُخْرَى لِتُزَحْزِحَ الْمَحْظُوظِينَ عَنْ حُظْوَتِهِمْ بِإِلْقَاءِ النَّمِيمَةِ وَالْوِشَايَاتِ الْكَاذِبَةِ فَيَحُلُّوا مَحَلَّ الْآخَرِينَ. وَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ فِي مَكَائِدِ بَعضهم لبَعض فَيكون بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً،

وَشَأْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّعِيَّةَ مِنْهُ كُلَّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ مِنَ الْأَبِ يُحِبُّ لَهُمُ الْخَيْرَ وَيُقَوِّمُهُمْ بِالْعَدْلِ وَاللِّينِ، لَا مِيزَةَ لِفِرْقَةٍ عَلَى فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ اقْتِرَابُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ مِنْهُ بِمِقْدَارِ الْمَزَايَا النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ.

الْمَفْسَدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَيَجْعَلُهَا مُحَقَّرَةً مَهْضُومَةَ الْجَانِبِ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ فِرَقٍ أُخْرَى وَلَا عَدْلَ فِي مُعَامَلَتِهَا بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْفِرَقَ الْأُخْرَى، فِي حِينِ أَنَّ لَهَا مِنَ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ مَا لِغَيْرِهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ لِأَهْلِهَا وَسُكَّانِهَا الَّذين استوطنوها ونشأوا فِيهَا.

وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَةِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَدْ كَانُوا قَطَنُوا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِرِضَى مَلِكِهَا فِي زَمَنِ يُوسُفَ وَأُعْطُوا أَرْضَ (جَاسَانَ) وَعَمَرُوهَا وَتَكَاثَرُوا فِيهَا وَمَضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، فَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ فِي أَرْضِ الْمَمْلَكَةِ مَا لِسَائِرِ سُكَّانِهَا فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَدْلِ جَعْلُهُمْ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَنَازِلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى طائِفَةً مِنْهُمْ إِذْ جَعَلَهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ فِرْعَوْنُ شِيَعًا.

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ طائِفَةً إِلَى أَنَّهُ اسْتَضْعَفَ فَرِيقًا كَامِلًا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِضْعَافَ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَشْخَاصٍ معيّنين لأسباب تَقْتَضِي اسْتِضْعَافَهُمْ كَكَوْنِهِمْ سَاعِينَ بِالْفَسَادِ أَوْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاعْتِدَادِ بِهِمْ لِانْحِطَاطٍ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بَلْ جَرَى اسْتِضْعَافُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُنْصُرِيَّةِ وَالْقَبَلِيَّةِ وَذَلِكَ فَسَادٌ لِأَنَّهُ يَقْرِنُ الْفَاضِلَ بِالْمَفْضُولِ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الِاسْتِضْعَافِ الْمَنُوطِ بِالْعُنْصُرِيَّةِ أَجْرَى شِدَّتَهُ عَلَى أَفْرَادِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ دُونَ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مُسْتَحِقٍّ وَغَيْرِهِ وَلم يراع غير النَّوْعِيَّةَ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ وَهِيَ:

الْمَفْسَدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أَيْ يَأْمُرُ بِذَبْحِهِمْ، فَإِسْنَادُ الذَّبْحِ إِلَيْهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمُرَادُ بِالْأَبْنَاءِ: الذُّكُورُ مِنَ الْأَطْفَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قُوَّةٌ مِنْ رِجَالِ قَبِيلَتِهِمْ حَتَّى يَكُونَ النُّفُوذُ فِي الْأَرْضِ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً.

الْمَفْسَدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَسْتَحْيِي النِّسَاءَ، أَيْ يَسْتَبْقِي حَيَاةَ الْإِنَاثِ مِنَ الْأَطْفَال، فَأطلق

عَلَيْهِم اسْمَ النِّسَاءِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحْيِيهِنَّ لِيَصِرْنَ نِسَاءً

فَتَصْلُحْنَ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ النِّسَاءُ وَهُوَ أَنْ يَصِرْنَ بَغَايَا إِذْ لَيْسَ لَهُنَّ أَزوَاج. وَإِذ كَانَ احْتِقَارُهُنَّ بِصَدِّ قَوْمِهِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ فَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ حَظٌّ مِنْ رِجَالِ الْقَوْمِ إِلَّا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَقْصِدِ انْقَلَبَ الِاسْتِحْيَاءُ مَفْسَدَةً بِمَنْزِلَةِ تَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَوْقِعُ جُمْلَةِ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

[٥- ٦]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٥ إِلَى ٦]

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)

عطفت جُمْلَةَ وَنُرِيدُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٤] لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ نَبَإِ تَذْبِيحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، فَذَلِكَ مِنْ عُلُوِّ فِرْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ بَيَانٌ لِنَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ الْخَيْرَ بِالَّذِينَ اسْتَضْعَفَهُمْ فِرْعَوْنُ مِنْ تَمَامِ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَهُوَ مَوْقِعُ عِبْرَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ عِبَرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.

وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي حِكَايَةِ إِرَادَةٍ مَضَتْ لِاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ يَطْغَى عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِبْطَالَ عَمَلِهِ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً عَظِيمَةً، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنُرِيدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يَسْتَضْعِفُ [الْقَصَص: ٤] بِاعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ مُقَارَنَةٌ لِوَقْتِ اسْتِضْعَافِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ. فَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ: وَنَحْنُ حِينَئِذٍ مُرِيدُونَ أَنْ نُنْعِمَ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.

وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ مَضْمُومَ الْعَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

والَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ هُمُ الطَّائِفَةُ الَّتِي اسْتَضْعَفَهَا فِرْعَوْنُ. والْأَرْضِ هِي الْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٤] .

وَنُكْتَةُ إِظْهَارِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا دُونَ إِيرَادِ ضَمِيرِ الطَّائِفَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ لِعِبَادِهِ، وَيَنْصُرُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.

وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْمَنِّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ عُطِفَتْ عَلَى فِعْلِ نَمُنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهِيَ: جَعْلُهُمْ أَيِمَّةً، وَجَعْلُهُمُ الْوَارِثِينَ، وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ يَكُونَ زَوَالُ

مُلْكِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي نِعَمٍ أُخْرَى جَمَّةٍ، ذُكِرَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

فَأَمَّا جَعْلُهُمْ أَيِمَّةً فَذَلِكَ بِأَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حُرَّةً مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا لَهَا شَرِيعَةٌ عَادِلَةٌ وَقَانُونُ مُعَامَلَاتِهَا وَقُوَّةٌ تَدْفَعُ بِهَا أَعْدَاءَهَا وَمَمْلَكَةٌ خَالِصَةٌ لَهَا وَحَضَارَةٌ كَامِلَةٌ تَفُوقُ حَضَارَةَ جِيرَتِهَا بِحَيْثُ تَصِيرُ قُدْوَةً للأمم فِي شؤون الْكَمَالِ وَطَلَبِ الْهَنَاءِ، فَهَذَا مَعْنَى جَعْلِهِمْ أَيِمَّةً، أَيْ يَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْخَيْرِ وَنَاهِيكَ بِمَا بَلَغَهُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ عليه السلام.

وَأَمَّا جَعْلُهُمُ الْوَارِثِينَ فَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ دِيَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ وَيُحَكِّمَهُمْ فِيهِمْ، فَالْإِرْثُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي خِلَافَةِ أُمَمٍ أُخْرَى.

فَالتَّعْرِيفُ فِي الْوارِثِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِرْثِ الْخَاصِّ وَهُوَ إِرْثُ السُّلْطَةِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَنْ أَهْلِ السُّلْطَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْرَثَهُمْ أَرض الكنعانيين والحثيين وَالْأَمُورِيِّينَ وَالْآرَامِيِّينَ، وَأَحَلَّهُمْ مَحَلَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَظَمَةِ حَتَّى كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْجَبَابِرَةِ قَالَ تَعَالَى قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ [الْمَائِدَة: ٢٢] .

وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ تَثْبِيتُ سُلْطَانِهِمْ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْهَا وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَقْوِيَتَهُمْ بَيْنَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِنْ حُمِلَ التَّعْرِيفُ عَلَى جِنْسِ الْأَرْضِ الْمُنْحَصِرِ فِي فَرْدٍ، أَوْ عَلَى الْعَهْدِ، أَيِ الْأَرْضِ الْمَعْهُودَةِ لِلنَّاسِ.

وَأَصْلُ التَّمْكِينِ: الْجَعْلُ فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٨٤]، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اشْتِقَاقِ التَّمْكِينِ وَتَصَارِيفِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦] .

وَمَا كانُوا يَحْذَرُونَ هُوَ زَوَالُ مُلْكِهِمْ بِسَبَبِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَسْبَمَا أَنْذَرَهُ بِذَلِكَ الْكُهَّانُ.

وَمَعْنَى إِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ إِرَاءَتُهُمْ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابَهُ.

وَفِرْعَوْنُ الَّذِي أُرِيَ ذَلِكَ هُوَ مَلِكُ مِصْرَ (مِنْفَتَاحُ) الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ مِصْرَ بَعْدَ (رَعْمَسِيسَ) الثَّانِي الَّذِي كَانَتْ وِلَادَةُ مُوسَى فِي زَمَانِهِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَحْذَرُ ظُهُورَ رَجُلٍ مِنْ إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُ شَأْنٌ. وهامانَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ. وَظَاهِرُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَأَحْسَبُ أَنْ هَامَانَ لَيْسَ بَاسِمِ عَلَمٍ وَلَكِنَّهُ لَقَبُ خِطَّةٍ مِثْلُ

فِرْعَوْنَ وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ وَنَجَاشِيٍّ. فَالظَّاهِرُ أَنْ هَامَانَ لَقَبُ وَزِيرِ الْمَلِكِ فِي مِصْرَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَجَاءَ فِي كِتَابِ «أَسْتِيرَ» مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُلْحَقَةِ بِالتَّوْرَاةِ تَسْمِيَة وَزِير (أحشويروش) مِلْكِ الْفُرْسِ (هَامَانُ) فَظَنُّوهُ عَلَمًا فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ وَزِيرٌ اسْمُهُ هَامَانُ وَاتَّخَذُوا هَذَا الظَّنَّ مَطْعَنًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذَا اشْتِبَاهٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْأَعْلَامَ لَا تَنْحَصِرُ وَكَذَلِكَ أَلْقَابُ الْوِلَايَاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ بَيْنَ أُمَمٍ وَخَاصَّةً الْأُمَمَ الْمُتَجَاوِرَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هامانَ عَلَمًا مِنَ الْأَمَانِ فَإِنَّ الْأَعْلَامَ تَتَكَرَّرُ فِي الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَقَبَ خِطَّةٍ فِي مِصْرَ فَنَقَلَ الْيَهُودُ هَذَا اللَّقَبَ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ فِي مُدَّةِ أَسْرِهِمْ.

وَيُشْبِهُ هَذَا الطَّعْنَ طَعْنُ بَعْضِ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْ نَصَارَى الْعَصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَرْيَمَ حِينَ حَكَى قَوْلَ أَهْلِهَا لَهَا يَا أُخْتَ هارُونَ [مَرْيَم: ٢٨] فَقَالُوا: هَذَا وَهَمٌ انْجَرَّ مِنْ كَوْنِ أَبِي مَرْيَمَ اسْمُهُ عِمْرَانُ فَتَوَهَّمَ أَنَّ عِمْرَانَ هُوَ أَبُو مُوسَى الرَّسُولِ عليه السلام، وَتَبِعَ ذَلِكَ تَوَهُّمُ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ وَهُوَ مُجَازَفَةٌ فَإِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ أَبِي مَرْيَمَ وَهَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى عَلَى اسْمِ أَبِي مُوسَى وَهَارُونَ وَهَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِمَرْيَمَ أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ.

وَالْجُنُودُ جَمْعُ الْجُنْدِ. وَيُطْلِقُ الْجُنْدُ عَلَى الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج: ١٧، ١٨] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُرِيَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ وَنَصْبِ فِرْعَوْنَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَرَى بِيَاءِ الْغَائِبِ مَفْتُوحَةً وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ رَأَى وَرَفْعِ فِرْعَوْنَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَمَآلُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.

وَالْجُنْدُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى أَمْرٍ تَتَّبِعُهُ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَسْكَرِ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ خِدْمَةُ أَمِيرهمْ وطاعته.

[٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٧]

وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الْقَصَص: ٥]، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَجْزَاءِ النَّبَإِ. وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْصِيلًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الذُّلِّ خَلَقَ اللَّهُ الْمُنْقِذَ لَهُمْ.

وَالْوَحْيُ هُنَا وَحْيُ إِلْهَامٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ مِنِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ مَا يُحَقِّقُ عِنْدَهَا أَنَّهُ خَاطِرٌ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. فَإِنَّ الْإِلْهَامَ الصَّادِقَ يَعْرِضُ لِلصَّالِحِينَ فَيُوقِعُ فِي نُفُوسهم يَقِينا ينبعثون بِهِ إِلَى عَمَلِ مَا أُلْهِمُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ بِرُؤْيَا صَادِقَةٍ رَأَتْهَا. وَأَمُّ مُوسَى لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهَا فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لَهَا أَسْمَاءً لَا يُوثَقُ بِصِحَّتِهَا.

وَقَوْلُهُ أَنْ أَرْضِعِيهِ تَفْسِيرٌ لِ أَوْحَيْنا. وَالْأَمْرُ بِإِرْضَاعِهِ يُؤْذِنُ بِجُمَلٍ طُوِيَتْ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مَظْهَرُ مَا أَرَادَهُ هُوَ الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِ أَمِّ مُوسَى وَوَضَعَتْهُ أُمُّهُ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ اعْتِدَاءَ أَنْصَارِ فِرْعَوْنَ عَلَى وَلِيدِهَا وَتَحَيَّرَتْ فِي أَمْرِهَا فَأُلْهِمَتْ أَوْ أُرِيَتْ مَا قَصَّهُ اللَّهُ هُنَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

وَالْإِرْضَاعُ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ: أخفيه مُدَّة ترْضِعه فِيهَا فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْرَفَ خَبَرُهُ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.

وَإِنَّمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِإِرْضَاعِهِ لِتَقْوَى بُنْيَتُهُ بِلِبَانِ أُمِّهِ فَإِنَّهُ أَسْعَدُ بِالطِّفْلِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ مِنْ لِبَانِ غَيْرِهَا، وَلِيَكُونَ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ قُوتٌ يَشُدُّ بُنْيَتَهُ فِيمَا بَيْنَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ وَبَيْنَ الْتِقَاطِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَإِيصَالِهِ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ

وَابْتِغَاءِ الْمَرَاضِعِ وَدَلَالَةِ أُخْتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أُمِّهِ إِلَى أَنْ أُحْضِرَتْ لِإِرْضَاعِهِ فَأُرْجِعَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا بَعْضَ يَوْمٍ.

وَحَكَتْ كُتُبُ الْيَهُودِ أَنَّ أُمَّ مُوسَى خَبَّأَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَافَتْ أَنْ يَفْشُوَ أَمْرُهُ فَوَضَعَتْهُ فِي سَفَطٍ مُقَيَّرٍ وَقَذَفَتْهُ فِي النَّهْرِ. وَقَدْ بَشَّرَهَا اللَّهُ بِمَا يُزِيلُ هَمَّهَا بِأَنَّهُ رَادُّهُ إِلَيْهَا وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَشَّرَهَا بِمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنْ مَقَامٍ كَرِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ إِلَيْهَا كَانَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ وَأَنَّهَا أُمِرَتْ بِأَنْ تُلْقِيَهُ فِي اليم عِنْد مَا ترى دَلَائِل المخافة من جواسيس فِرْعَوْن وَذَلِكَ ليَكُون إلقاؤه فِي الْيَمِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلضُّرِّ الْمُحَقَّقِ بِالضُّرِّ الْمَشْكُوكِ فِيهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي يَقِينِهَا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ.

والْيَمِّ: الْبَحْرُ وَهُوَ هُنَا نَهْرُ النِّيلِ الَّذِي كَانَ يَشُقُّ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ مَنَازِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْيَمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادِفُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِهِمْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ، فَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ يُسَمَّى بَحْرًا قَالَ تَعَالَى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فاطر: ١٢]، فَإِنَّ الْيَمَّ مِنَ الْأَنْهَارِ.

وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا مِنْ أَمْثِلَةِ دَقَائِقِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ فَذَكَرَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» وَالْقُرْطُبِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ» يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ جَارِيَةً أَعْرَابِيَّةً

تُنْشِدُ:

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِأَمْرِي كُلِّهِ ... قَتَلْتُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ


مِثْلَ غَزَالٍ نَاعِمًا فِي دَلِّهِ ... انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ

وَهِيَ تُرِيدُ التَّوْرِيَةَ بِالْقُرْآنِ. فَقَالَ لَهَا: قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أَفْصَحَكِ يُرِيدُ مَا أَبْلَغَكِ (وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْبَلَاغَةَ فَصَاحَةً) فَقَالَت لَهُ: أَو يعد هَذَا فَصَاحَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَجَمَعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ خَبَرَيْنِ، وَأَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ.

فَالْخَبَرَانِ هُمَا وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وَقَوْلُهُ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يشْعر بِأَنَّهَا سَتَخَافُ عَلَيْهِ.

وَالْأَمْرَانِ هُمَا: أَرْضِعِيهِ وَ(أَلْقِيهِ) .

وَالنَّهْيَانِ: وَلا تَخافِي وَلَا تَحْزَنِي.

وَالْبِشَارَتَانِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، وَالْحُزْنُ: حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَنْشَأُ مِنْ حَادِثٍ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ بُعْدِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنَ الْإِلْقَاءِ فِي الْيَمِّ، وَلَا تَحْزَنِي عَلَى فِرَاقِهِ.

وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ وَعَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبَيْهِمَا وَهُمَا تُوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالتَّفَكُّرُ فِي وَحْشَةِ الْفِرَاقِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيَيْنِ لِأَنَّ ضَمَانَ رَدِّهِ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ وَأَنَّهَا لَا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ بِطُولِ الْمَغِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَإِدْخَالٌ للمسرة عَلَيْهَا.

[٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨]

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)

الِالْتِقَاطُ افْتِعَالٌ مِنَ اللَّقْطِ، وَهُوَ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا بِقَصْدٍ أَوْ ذُهُولٍ. أَسْنَدَ الِالْتِقَاطَ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَ تَابُوتِ مُوسَى مِنَ النَّهْرِ كَانَ مِنْ إِحْدَى

النِّسَاءِ الْحَافَّاتِ بِابْنَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ كَانَتْ مَعَ أَتْرَابِهَا وَدَايَاتِهَا عَلَى سَاحِلِ النِّيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.

وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ بِلَامِ كَيْ وَهِيَ لَامٌ جَارَّةٌ مِثْلُ كي، وَهِي هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِ (الْتَقَطَهُ) . وَحَقُّ لَامِ كَيْ أَنْ تَكُونَ جَارَّةً لِمَصْدَرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ (أَنِ) الْمَقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ وَمِنَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا فَذَلِكَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ فَاعِلِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي

الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَارِدًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِظُهُورِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيهِمْ إِلَى الْتِقَاطِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَلَكِنَّهُمُ الْتَقَطُوهُ رَأْفَةً بِهِ وَحُبًّا لَهُ لِمَا أُلْقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ شَفَقَةٍ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ أَنْ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا فِي اللَّهِ وَمُوجِبَ حَزَنٍ لَهُمْ، شُبِّهَتِ الْعَاقِبَةُ بِالْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا نَتِيجَةً لِلْفِعْلِ كشأن الْعلَّة غَالِبا فاستعير لترتب الْعَاقِبَة المشبهة الْحَرْف الَّذِي يدل على تَرْتِيب الْعِلَّةِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ مَعْنَى الْحَرْفِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً، أَيِ اسْتُعِيرَ الْحَرْفُ تَبَعًا لاستعارة مَعْنَاهُ لِأَن الْحُرُوف بمعزل عَن الِاسْتِعَارَة لِأَن الْحَرْف لَا يَقع مَوْصُوفا، فالاستعارة تكون فِي مَعْنَاهُ ثُمَّ تَسْرِي مِنَ الْمَعْنَى إِلَى الْحَرْفِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي خِلَافًا لِلسَّكَّاكِيِّ.

وَضَمِيرُ لَهُمْ يَعُودُ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْعُنْوَانِيِّ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ عَدُوًّا لِفِرْعَوْنٍ آخَرَ بَعْدَ هَذَا، أَيْ لِيَكُونَ لِدَوْلَتِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا فَقَدْ كَانَتْ بَعْثَةُ مُوسَى فِي مُدَّةِ ابْنِ فِرْعَوْنَ هَذَا.

وَوَصْفُهُ بِالْحَزَنِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ حَزَنًا لَهُمْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لَهُمُ السَّابِقِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلِ قَوْلِكَ: فُلَانٌ عَدْلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ وَاقِعًا مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ فَكَانَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ قَائِمًا بِالْمَوْصُوفِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: لِيَكُونَ لَهُمْ حَزَنًا. وَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَزَنِ وَلَيْسَ هُوَ حَزَنًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَحَزَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ إِلَى آخِرِهَا فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.

وَالْخَاطِئُ: اسْمُ فَاعل من خطىء كَفَرِحَ إِذَا فَعَلَ الْخَطِيئَةَ وَهِيَ الْإِثْمُ وَالذَّنْبُ، قَالَ تَعَالَى ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: ١٦] . وَمَصْدَرُهُ الْخِطْءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ.

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا فِي الْإِسْرَاءِ [٣١] . وَأَمَّا

الْخَطَأُ وَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ فَفِعْلُهُ أَخْطَأَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: ٥]، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفُصَحَاءَ فَرَّقُوا الِاسْتِعْمَالَ بَيْنَ مُرْتَكِبِ الْخَطِيئَةِ وَمُرْتَكِبِ الْخَطَإِ، وَعَلَى التَّفْرِقَةِ بَين أَخطَأ وخطىء دَرَجَ نَفْطَوَيْهِ وَتَبِعَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْحَرِيرِيُّ.

وَذَهَبَ أَبُو عَبِيدٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَرَادِفَانِ وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا أَنَّهُ جَارٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ قُتَيْبَةَ فَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَقَالَ فِي «الْأَسَاسِ»: «أَخْطَأَ فِي الرَّأْي وخطىء إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ» .

وَيَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَهُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ أَوْ عَنْ عَمْدٍ، ثُمَّ غَلَبَ الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى تَخْصِيصِ أَخْطَأَ بِفِعْلٍ عَلَى غير عمد وخطىء بِالْإِجْرَامِ وَالذَّنْبِ وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ. وَإِنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَحْسَنِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ.

فَأَمَّا مَحْمَلُ الْآيَةِ هُنَا فَلَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خاطِئِينَ مِنَ الْخَطِيئَةِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ تَعْلِيلًا لِتَكْوِينِ حزنهمْ مِنْهُ بالأخرة. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هامان آنِفا [الْقَصَص: ٦] .

[٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٩]

وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩)

يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ انْتَشَلُوهُ جَعَلُوهُ بَيْنَ أَيْدِي فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ فَرَقَّتْ لَهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَصَرَفَتْ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِهِ بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الطِّفْلَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ بِلَوْنِ جَلْوَتِهِ وَمَلَامِحِ وَجْهِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ النَّيْلُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِظُهُورِهِ أَنَّهُ لَمْ يَطُلْ مَكْثُ تَابُوتِهِ فِي الْمَاءِ وَلَا اضْطِرَابُهُ بِكَثْرَةِ التَّنَقُّلِ، فَعَلِمَ أَنَّ وَقْعَهُ فِي التَّابُوتِ لِقَصْدِ إِنْجَائِهِ مِنَ الذَّبْحِ. وَكَانَ ذَلِكَ وَقْتَ انْتِشَالِهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ التَّابُوتِ. وَكَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ امْرَأَةً مُلْهَمَةً لِلْخَيْرِ وَقَدَّرَ اللَّهُ نَجَاةَ مُوسَى بِسَبَبِهَا. وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْنِهَا وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التَّحْرِيم: ١١]،

وَهِيَ لَمْ تَرَ عَدَاوَةَ مُوسَى لِآلِ فِرْعَوْنَ وَلَا

حَزِنَتْ مِنْهُ لِأَنَّهَا انْقَرَضَتْ قَبْلَ بعثة مُوسَى.

وامْرَأَتُ فِرْعَوْنَ سُمِّيَتْ آسِيَةَ كَمَا

فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَم ابْنة عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ»

وَيُفِيدُ قَوْلُهَا ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ حِينَ رَآهُ اسْتَحْسَنَهُ ثُمَّ خَالَجَهُ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ فَلِذَلِكَ أَنْذَرَتْهُ امْرَأَته بقولِهَا قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ.

وارتفع قُرَّتُ عَيْنٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الطِّفْلُ. وَحَذَفَهُ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ حُضُورُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ هُوَ سَبَبُ قُرَّةِ عَيْنٍ لي وَلَك.

و(قُرَّة الْعَيْنِ) كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ وَهِيَ كِنَايَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ ضِدِّهَا وَهُوَ سُخْنَةُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْبُكَاءِ اللَّازِمِ لِلْأَسَفِ وَالْحُزْنِ، فَلَمَّا كُنِّيَ عَنِ الْحُزْنِ بِسُخْنَةِ الْعَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ فِي الدُّعَاءِ بِالسُّوءِ: أَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ. وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:

أَوْهِ أَدِيمَ عِرْضِهِ وَأَسْخِنِ ... بِعَيْنِهِ بَعْدَ هُجُوعِ الْأَعْيُنِ

أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِأَنْ كَنَّوْا عَنِ السُّرُورِ بِضِدِّ هَذِهِ الْكِنَايَةِ فَقَالُوا: قُرَّةُ عَيْنٍ، وَأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، فَحَكَى الْقُرْآنُ مَا فِي لُغَةِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى مَعْنَى الْمَسَرَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلنَّفْسِ بِبَلِيغِ مَا كَنَّى بِهِ الْعَرَبُ عَنْ ذَلِك وَهُوَ قُرَّتُ عَيْنٍ، وَمِنْ لَطَائِفِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَسَرَّةَ الْمَعْنِيَّةَ هِيَ مَسَرَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ مَرْأَى مَحَاسِنِ الطِّفْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:

٣٩] .

وَيَجُوزُ أَنْ يكون قَوْله قُرَّتُ عَيْنٍ قَسَمًا كَمَا يُقَالُ: أَيْمُنُ اللَّهِ. فَإِنَّ الْعَرَبَ يُقْسِمُونَ بِذَلِكَ، أَيْ أُقْسِمُ بِمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ اسْتَضَافَ نَفَرًا وَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ عَشَائِهِمْ ثُمَّ حَضَرَ، وَفِيهِ قِصَّةٌ إِلَى أَنْ قَالَ الرَّاوِي: فَجَعَلُوا لَا يَأْكُلُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟

فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الْآنَ أَكْثَرُ مِنْ قَبْلُ. فَتَكُونُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَقْسَمْتَ عَلَى فِرْعَوْنَ بِمَا فِيهِ قُرَّةُ عَيْنِهَا، وَقُرَّةُ عَيْنِهِ أَنْ لَا يَقْتُلَ مُوسَى، وَيكون رفع قُرَّتُ عَيْنٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ حَذْفٌ

كَثِيرٌ فِي نَصِّ الْيَمِينِ مِثْلُ: لَعَمْرُكَ. وَابْتَدَأَتْ بِنَفسِهَا فِي قُرَّتُ عَيْنٍ لِي قَبْلَ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ إِدْلَالًا عَلَيْهِ لِمَكَانَتِهَا عِنْدَهُ أَرَادَتْ أَنْ تَبْتَدِرَهُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَصْدُرَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الطِّفْلِ.

وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهَا لَا تَقْتُلُوهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِرْعَوْنُ نَزَّلَتْهُ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ

عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِطَابُ فِرْعَوْنَ دَاخِلًا فِيهِ أَهْلُ دَوْلَتِهِ هَامَانُ وَالْكَهَنَةُ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فَتًى مِنْ إِسْرَائِيلَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ مَمْلَكَتَهُ. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهِ تَمْهِيدًا لِإِجَابَةِ سُؤْلِهَا حِينَ أَسْنَدَتْ مُعْظَمَ الْقَتْلِ لِأَهْلِ الدَّوْلَةِ وَجَعَلَتْ لِفِرْعَوْنَ مِنْهُ حَظَّ الْوَاحِدِ مِنَ الْجَمَاعَةِ فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ رَأْيِهِ فَتُهَوِّنَ عَلَيْهِ عُدُولَهُ فِي هَذَا الطِّفْلِ عَمَّا تَقَرَّرَ مِنْ قَتْلِ الْأَطْفَالِ.

وَقِيلَ لَا تَقْتُلُوهُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ إِلَى خِطَابِ الْمُوَكِّلِينَ بِقَتْلِ أَطْفَالِ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩] .

فموقع جملَة قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ مَوْقِعُ التَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِلْعَرْضِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تَقْتُلُوهُ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَنِ الْمُقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا.

وَأَمَّا جُمْلَةُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَا تَقْتُلُوهُ فَاتِّصَالُهَا بِهَا كاتصال جملَة قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ بِهَا، وَلَكِنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ قَضَى بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْبَلِيغِ بِأَنْ جَعَلَ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ عَنِ الْقَتْلِ وَهُوَ وَازِعُ الْمَحَبَّةِ هُوَ الْمُقَدِّمَةَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِالنَّفْسِ فَهُوَ يُشْبِهُ الْمَعْلُومَ الْبَدِيهِيَّ. وَجُعِلَ الْوَازِعُ الْعَقْلِيُّ بَعْدَ النَّهْيِ عِلَّةً لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْفِكْرِ، فَتَكُونُ مُهْلَةُ التَّفْكِيرِ بَعْدَ سَمَاعِ النَّهْيِ الْمُمَهَّدِ بِالْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ فَلَا يُخْشَى جِمَاحُ السَّامِعِ مِنَ النَّهْيِ وَرَفْضُهُ إِيَّاهُ.

وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهَا عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا إِزَالَةَ مَا خَامَرَ نَفْسَ فِرْعَوْنَ مِنْ خَشْيَةِ فَسَادِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ فَتًى إِسْرَائِيلِيٍّ بِأَنَّ هَذَا الطِّفْلَ لَا يَكُونُ هُوَ الْمَخُوفَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا انْضَمَّ فِي أَهْلِهِمْ وَسَيَكُونُ رَبِيَّهُمْ فَإِنَّهُ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعُهُمْ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَالْوَلَدِ. فَأَقْنَعَتْ فِرْعَوْنَ بِقِيَاسٍ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُجَرَّبَةِ فِي عَلَاقَةِ التَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالتَّبَنِّي وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي بِالشَّرِّ. وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ الِاعْتِرَاضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ خَفِيَّ إِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ

الِانْتِقَامِ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ بِسَبَبِ مُوسَى. وَلَعَلَّ اللَّهَ حَقَّقَ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ رَجَاءَهَا فَكَانَ مُوسَى قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا وَلِزَوْجِهَا، فَلَمَّا هَلَكَا وَجَاءَ فِرْعَوْنٌ آخَرُ بَعْدَهُمَا كَانَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ نَصْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَاخْتِيرَ يَشْعُرُونَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الْخَفِيِّ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا الْأَمر الْخَفي.

[١٠]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٠]

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠)

أَصْبَحَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (صَارَ) فَاقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، أَيْ كَانَ فُؤَادُهَا غَيْرَ فَارِغٍ فَأَصْبَحَ فَارِغًا.

وَالْفُؤَادُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعَقْلِ وَاللُّبِّ.

وَالْفَرَاغُ مَجَازِيٌّ. وَمَعْنَى فَرَاغِ الْعَقْلِ مِنْ أَمْرٍ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ احْتِوَاءِ الْعَقْلِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ احْتِوَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ عَدَمِ جَوَلَانِ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي الْعَقْلِ، أَيْ تَرْكِ التَّفْكِيرِ فِيهِ.

وَإِذْ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ فُؤَادَ أم مُوسَى لماذَا أَصْبَحَ فَارِغًا احْتَمَلَتِ الْآيَةُ مَعَانِيَ تَرْجِعُ إِلَى مُحْتَمَلَاتِ مُتَعَلِّقِ الْفَرَاغِ مَا هُوَ. فَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا، وَمَرْجِعُ أَقْوَالِهِمْ إِلَى نَاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِثَبَاتِ أُمِّ مُوسَى وَرِبَاطَةِ جَاشِهَا، وَنَاحِيَةٍ تُؤْذِنُ بِتَطَرُّقِ الضَّعْفِ وَالشَّكِّ إِلَى نَفْسِهَا.

فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّاحِيَةِ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّهُ فَارِغٌ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَأَصْبَحَتْ وَاثِقَةً بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ تَبَعًا لِمَا أَلْهَمَهَا مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ فَيَرْجِعُ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَسْعَدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّبْطَ مِنْ تَوَابِعِ مَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ مِنْ أَنْ لَا تَخَافَ وَلَا تَحْزَنَ.

فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ كَمَا أَلْهَمَهَا اللَّهُ زَالَ عَنْهَا مَا كَانَتْ تَخَافُهُ عَلَيْهِ مِنَ الظُّهُورِ عَلَيْهِ عِنْدَهَا وَقَتْلِهِ لِأَنَّهَا لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا أَحَدٌ قَدْ

عَلِمَتْ أَنَّهُ نَجَا. وَهَذَا الْمَحْمَلُ يُسَاعِدُهُ أَيْضًا مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ خَلِيُّ الْبَالِ: إِذَا كَانَ لَا هَمَّ بِقَلْبِهِ. وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى الثَّنَاءِ عَلَيْهَا بِثَبَاتِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى أَنَّهُ قَالَ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا ذِكْرَ مُوسَى. وَفِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ رِبَاطَةِ جَاشِهَا إِذْ فَرَغَ لُبُّهَا مِنْ كُلِّ خَاطِرٍ يَخْطُرُ فِي شَأْنِ مُوسَى.

وَأَمَّا زِيَادَةُ مَا أَدَّاهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا ذِكْرَ مُوسَى، فَلَعَلَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهَا بِحُسْنِ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى ضَعْفِ الْأُمُومَةِ بِالتَّشَوُّقِ إِلَى وَلَدِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي أَحْوَالٍ صَالِحَةٍ بِهِ وَبِهَا.

وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الرَّاجِعَةُ إِلَى النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: الْفَرَاغُ هُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إِبْرَاهِيم:

٤٣] أَيْ لَا عُقُولَ فِيهَا. وَفِي «الْكَشَّافِ»: أَيْ لَمَّا سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَدِ فِرْعَوْنَ طَارَ عَقْلُهَا

لِمَا دَهَمَهَا مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ إِسْحَاقَ: أَصْبَحَ فَارِغًا مِنْ تَذَكُّرِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَهَا اللَّهُ إِذْ خَامَرَهَا خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: إِنِّي خِفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ فَأَلْقَيْتُهُ بِيَدِي فِي يَدِ الْعَدُوِّ الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فَارِغًا مِنَ الصَّبْرِ. وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مِنَ الصَّبْرِ عَلَى فَقْدِهِ. وَكُلُّ الْأَقْوَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ تَرْمِي إِلَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمْ تَكُنْ جَلِدَةً عَلَى تَنْفِيذِ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَهَا بِوَضْعِ الْيَقِينِ فِي نَفْسِهَا.

وَجُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها تَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ أَصْبَحَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ حَالَةِ فَرَاغٍ فَبُيِّنَتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ تُقَارِبُ أَنْ تُظْهِرَ أَمْرَ ابْنِهَا مِنْ شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ فَإِنَّ الِاضْطِرَابَ يَنِمُّ بِهَا.

فَالْمَعْنَى: أَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا، وَكَادَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ تُبْدِيَ خَبَرَ مُوسَى فِي مُدَّةِ إِرْضَاعِهِ مِنْ شِدَّةِ الْهَلَعِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَلَ. وَعَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَكُونُ جُمْلَةُ إِنْ كادَتْ بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ عَلَى مَعْنَى فارِغًا. وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ.

فَالتَّقْدِيرُ: فَارِغًا إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى فَكَادَتْ

تُظْهِرُ ذِكْرَ مُوسَى وَتَنْطِقُ بِاسْمِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِهَا.

وَأَمَّا عَلَى الْأَقْوَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ فَجُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا، أَيْ كَادَتْ لَتُبْدِي أَمْرَ مُوسَى مِنْ قِلَّةِ ثَبَاتِ فُؤَادِهَا.

وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَمَّا رَأَتِ الْأَمْوَاجَ حَمَلَتِ التَّابُوتَ كَادَتِ أَنْ تَصِيحَ.

وَالْبَاءُ فِي بِهِ إِمَّا لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ وَالْأَصْلُ: لَتُبْدِيهُ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِ (تُبْدِي) مَعْنَى (تَبُوحُ) وَهُوَ أَحْسَنُ وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَاللَّامُ فِي لَتُبْدِي فَارِقَةٌ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ(إِنِ) النَّافِيَةِ.

وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: تَوْثِيقُهُ عَنْ أَنْ يَضْعُفَ كَمَا يُشَدُّ الْعُضْوُ الْوَهِنُ، أَيْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بِخَلْقِ الصَّبْرِ فِيهِ. وَجَوَابُ لَوْلا هُوَ جُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ ذَكَّرْنَاهَا مَا وَعَدْنَاهَا فَاطْمَأَنَّ فُؤَادُهَا. فَالْإِيمَانُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ كَامِلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِتُحْرِزَ رُتْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَتَطَرَّقُهُمُ الشَّكُّ فِيمَا يَأْتِيهِمْ

مِنَ الواردات الإلهية.

[١١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١١]

وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)

ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا عَلَى وَفْقِ تَرْتِيبِ مَضَامِينِهَا فِي الْحُصُولِ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ مَضْمُونِ وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا [الْقَصَص: ١٠] سَابِقًا عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ، أَيْ قَالَتْ لِأُخْتِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهَا لِمَا أُلْهِمَتْهُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ، أَيْ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ قَالَتْ لِأُخْتِهِ: انْظُرِي أَيْنَ يُلْقِيهِ الْيَمُّ وَمَتَى يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْيَمَّ لَا يُلْقِيهِ بَعِيدًا عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا.

وَأُخْتُ مُوسَى اسْمُهَا مَرْيَمُ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طه.

وَالْقَصُّ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، اسْتُعْمِلَ فِي تَتَبُّعِ الذَّاتِ بِالنَّظَرِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى دُونَ ذِكْرِ الْأَثَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٦٤] عِنْدَ قَوْلِهِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا.

وَبَصُرَ بِالشَّيْءِ صَارَ ذَا بَصَرٍ بِهِ، أَيْ بَاصِرًا لَهُ فَهُوَ يُفِيدُ قُوَّةَ الْإِبْصَارِ، أَيْ قُوَّةَ اسْتِعْمَالِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَهُوَ التَّحْدِيقُ إِلَى الْمُبْصَرِ، فَ (بَصُرَ) أَشَدُّ مِنْ (أَبْصَرَ) . فَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَفْعُولِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَرْئِيِّ حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ بَاصِرًا بِسَبَبِهِ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فَتُفِيدَ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فِي سُورَةِ طه [٩٦] .

وَالْجُنُبُ: بِضَمَّتَيْنِ الْبَعِيدُ. وَهُوَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ يُعْرَفُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ عَنْ مَكَانِ جُنُبٍ.

وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ (بَصُرَتْ) لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ هُنَا مِنْ أَحْوَالِ أُخْتِهِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْمَكَانِ.

وهُمْ أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ حِينَ الْتَقَطُوهُ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ أُخْتَهُ تُرَاقِبُ أَحْوَالَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَذَقِ أُخْتِهِ فِي كَيْفيَّة مراقبته.

[١٢]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٢]

وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢)

الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضمير لِأُخْتِهِ [الْقَصَص: ١١] . وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ قَدَّرْنَا فِي نَفْسِ الطِّفْلِ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْتِقَامِ أَثْدَاءِ الْمَرَاضِعِ وَكَرَاهَتَهَا لِيَضْطَرَّ آلُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ مُرْضِعٍ يَتَقَبَّلُ ثَدْيَهَا لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ حَرِيصَانِ عَلَى حَيَاةِ الطِّفْلِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِرْضَاعَهُ مِنْ أُمِّهِ مُدَّةً تَعَوَّدَ فِيهَا بِثَدْيِهَا.

وَمَعْنَى مِنْ قَبْلُ مِنْ قَبْلِ الْتِقَاطِهِ وَهُوَ إِيذَانٌ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ فِي الْأَزَلِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَقالَتْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ تُؤْذِنُ بِجُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ فَأَظْهَرَتْ أُخْتُهُ نَفْسَهَا كَأَنَّهَا مَرَّتْ بِهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَإِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ فَشَا فِي النَّاسِ طَلَبُ الْمَرَاضِعِ لَهُ وَتَبْدِيلُ مُرْضِعَةٍ عَقِبَ أُخْرَى حَتَّى عُرِضَ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ فِي حِصَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَذَلِكَ بِسُرْعَةِ مَقْدِرَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ تَفْتِيشِهِمْ عَلَى الْمَرَاضِعِ حَتَّى أَلْفَوْا عَدَدًا كَثِيرًا فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، وَأَيْضًا لِعَرْضِ الْمَرَاضِعِ أَنْفُسَهُنَّ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ لَمَّا شَاعَ أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مُرْضِعًا.

وَعَرَضَتْ سَعْيَهَا فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْعَرْضِ تَلَطُّفًا مَعَ آل فِرْعَوْن وإبعادا لِلظِّنَّةِ عَنْ نَفْسِهَا.

وَمَعْنَى يَكْفُلُونَهُ يَتَعَهَّدُونَ بِحِفْظِهِ وَإِرْضَاعِهِ. فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ فِي الْإِرْضَاعِ أَنْ يسلم الطِّفْل الرَّضِيع إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تُرْضِعُهُ يَكُونُ عِنْدَهَا كَمَا كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ لِأَنَّ النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ لَمْ يَكُنَّ يَرْضَيْنَ بِتَرْكِ بُيُوتِهِنَّ وَالِانْتِقَالِ إِلَى بُيُوتِ آلِ الْأَطْفَالِ الرُّضَعَاءِ. كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ إِرْضَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ عِنْدَ حَلِيمَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فِي حَيِّ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»: فَدَفَعَهُ فِرْعَوْنُ إِلَيْهَا وَأَجْرَى لَهَا وَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا.

وَالْعُدُولُ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ أَنَّ النُّصْحَ مِنْ سَجَايَاهُمْ وَمِمَّا ثَبَتَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَيَنْصَحُونَ لَهُ كَمَا قِيلَ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ أَمْرٌ سَهْلٌ بِخِلَافِ النُّصْحِ وَالْعِنَايَةِ.

وَتَعْلِيقُ لَهُ بِ ناصِحُونَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى التَّقْيِيدِ بَلْ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الْوَاقِعِ. فَالْمَعْنَى:

أَنَّ النُّصْحَ مِنْ صِفَاتِهِمْ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُ كَمَا يَحْصُلُ لِأَمْثَالِهِ حَسَبَ سَجِيَّتِهِمْ. وَالنُّصْحُ: الْعَمَلُ الْخَالِصُ الْخَلِيُّ مِنَ التَّقْصِير وَالْفساد.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٣]

فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣)

تَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ فِي سُورَةِ طه [٤٠] . وَقَوْلُهُ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِنَّمَا تَأْكِيدُ حَرْفِ كَيْ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ لِلتَّنْصِيصِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ.

وَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَقَامِ أَوْ إِلَى رَعِيَّةِ فِرْعَوْنَ، وَمِنَ النَّاسِ بَنُو إِسْرَائِيل.

والاستدراك ناشىء عَنْ نَصْبِ الدَّلِيلِ لَهَا عَلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، أَيْ فَعَلِمَتْ ذَلِكَ وَحْدَهَا وَأَكْثَرُ الْقَوْمِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَبَيْنَ مُؤْمِنِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَخَلَتْ أَقْوَامُهُمْ مِنْ عُلَمَاءَ يُلَقِّنُونَهُمْ مَعَانِيَ الدِّينِ فَأَصْبَحَ إِيمَانُهُمْ قَرِيبًا مِنَ الْكُفْرِ.

وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أُمُورًا ذَاتَ شَأْنٍ فِيهَا ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

فَأَوَّلُ ذَلِكَ وَأَعْظَمُهُ: إِظْهَارُ أَنَّ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْله يَحْذَرُونَ [الْقَصَص:

٥، ٦] وَأَنَّ الْحَذَرَ لَا يُنَجِّي مِنَ الْقَدَرِ.

وَثَانِيهِ: إِظْهَارُ أَنَّ الْعُلُوَّ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ عُلُوَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا فِي دَفْعِ عَوَاقِبِ الْجَبَرُوتِ وَالْفَسَادِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِجَبَابِرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَثَالِثُهُ: أَنَّ تَمْهِيدَ الْقِصَّةِ بِعُلُوِّ فِرْعَوْنَ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَالْأَخْذُ بِنَاصِرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ لِيَحْذَرَ الْجَبَابِرَةُ سُوءَ عَاقِبَةِ ظُلْمِهِمْ وَلِيَرْجُوَ الصَّابِرُونَ عَلَى الظُّلْمِ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ.

وَرَابِعُهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى حِكْمَةِ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦] فِي

جَانِبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦] فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ إِذْ كَانُوا فَرِحِينَ بِاسْتِخْدَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَدْبِيرِ قَطْعِ نَسْلِهِمْ.

وَخَامِسُهُ: أَنَّ إِصَابَةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَغْتَةً مِنْ قِبَلِ مَنْ أَمَّلُوا مِنْهُ النَّفْعَ أَشَدُّ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِ وَأَوْقَعُ حَسْرَةً عَلَى الْمُسْتَبْصِرِ، وَأَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَ اللَّهِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنِ انْتِقَامِ الْعَدُوِّ كَمَا قَالَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [الْقَصَص: ٨] مَعَ قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [الْقَصَص: ٩] .

وَسَادِسُهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحُكْمِ التَّعَقُّلِ أَنْ تُسْتَأْصَلَ أُمَّةٌ كَامِلَةٌ لِتَوَقُّعِ مُفْسِدٍ فِيهَا لِعَدَمِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْمَفْسَدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِأَفْرَادِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَذِّرَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمُتَوَقَّعُ فَسَادُهُ إِلَّا فِي الْجَانِبِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ مِنَ الْأَفْرَادِ فَتَحْصُلُ مَفْسَدَتَانِ هُمَا أَخْذُ الْبَرِيءِ وَانْفِلَاتُ الْمُجْرِمِ.

وَسَابِعُهُ: تَعْلِيمُ أَنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ وَلَمَا قَدَّرَ لِإِهْلَاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُرَتَّبَةَ وَلَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْجَاءً أَسْرَعَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ تَنَقُّلَاتِ الْأَحْوَالِ ابْتِدَاءً مِنْ إِلْقَاءِ مُوسَى فِي الْيَمِّ إِلَى أَنْ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ فَتَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَلِيَتَوَسَّمُوا مِنْ بِوَارِقِ ظُهُورِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَانْتِقَالِ أَحْوَالِ دَعْوَتِهِ فِي مَدَارِجِ الْقُوَّةِ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ بِأَخَرَةٍ.

وَثَامِنُهُ: الْعِبْرَةُ بِأَنَّ وُجُودَ الصَّالِحِينَ مِنْ بَيْنِ الْمُفْسِدِينَ يُخَفِّفُ مِنْ لَأْوَاءِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ وُجُودَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ كَانَ سَبَبًا فِي صَدِّ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ الطِّفْلِ مَعَ أَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [الْقَصَص: ٩] كَمَا قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ.

وَتَاسِعُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ نَصْرَهُمْ حَاصِلٌ بَعْدَ حِينٍ، وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ وَعِيدَهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ.

وَعَاشِرُهُ: مَا فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْتَى مِنْ جَهْلِهِ النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ.

وَلِمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ اكْتَفَى مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِطَالِعِهَا عَنِ الْخُطْبَةِ الَّتِي حَقُّهُ أَنْ يَخْطُبَ بِهَا فِي النَّاسِ حِينَ حُلُولِهِ بِالْعِرَاقِ مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مُكْتَفِيًا بِالْإِشَارَةِ مَعَ التِّلَاوَةِ فَقَالَ طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ إِلَى جِهَةِ الشَّامِ يُرِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْحِجَازِ، يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَنْصَارَهُ وَنَجْعَلَهُمْ أَيِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا وَأَشَارَ إِلَى الْعِرَاقِ يَعْنِي الْحَجَّاجَ مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ [الْقَصَص: ١- ٦] .

[١٤]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٤]

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)

هَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى حَسَبِ ظُهُورِهَا فِي الْخَارِجِ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ نَشَأَ عَنْ جُمْلَةِ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الْقَصَص: ١٣] فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَهَا قَدْ حُكِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٧] . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حِكَايَةِ رَدِّهِ إِلَى أُمِّهِ بِقَوْلِهِ فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها [الْقَصَص: ١٣] إِلَى آخِرِهِ كَمَّلَ مَا فِيهِ وَفَاءُ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهَذَا الِاسْتِطْرَادِ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَإِنَّمَا أُوتِيَ الحكم أَعنِي النبوءة بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِ مَدْيَنَ كَمَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٩] . وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، إِلَّا قَوْلَهُ وَاسْتَوى فَقِيلَ: إِنَّ اسْتَوى بِمَعْنَى بَلَغَ أَشُدَّهُ، فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَشُدَّ كَمَالُ الْقُوَّةِ لِأَنَّ أَصْلَهُ جَمْعُ شِدَّةٍ بِكَسْرِ الشِّينِ بِوَزْنِ نِعْمَةٍ وأنعم وَهِي اسْم هَيْئَةٌ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ ثُمَّ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ. وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ: كَمَالُ الْبِنْيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الزَّرْعِ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: ٢٩]، وَلِهَذَا أُرِيدَ لِمُوسَى الْوَصْفُ بِالِاسْتِوَاءِ وَلَمْ يُوصَفْ يُوسُفُ إِلَّا بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ خَاصَّةً لِأَنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا طُوَالًا كَمَا

فِي الْحَدِيثِ «كَأَنَّهُ من رجال شنؤة»

فَكَانَ كَامِلَ الْأَعْضَاءِ وَلِذَلِكَ كَانَ وَكْزُهُ الْقِبْطِيَّ قَاضِيًا عَلَى الْمَوْكُوزِ. وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ، وَالْعِلْمُ: الْمعرفَة بِاللَّه.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٥]

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥)

طُوِيَتْ أَخْبَار كَثِيرَة تنبىء عَنْهَا الْقِصَّةُ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى يَفَعَ وَشَبَّ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: كَانَ يُدْعَى مُوسَى ابْنَ فِرْعَوْنَ.

وَجُمْلَةُ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [الْقَصَص: ٧] عَطَفَ جُزْءَ الْقِصَّةِ عَلَى جُزْءٍ آخَرَ مِنْهَا، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَعَلَّهُ بِأَنَّ أَمَّهُ كَانَتْ تَتَّصِلُ بِهِ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ تَقُصُّ عَلَيْهِ نَبَأَهُ كُلَّهُ. وَالْمَدِينَةُ هِيَ (مَنْفِيسُ) قَاعِدَةُ مِصْرَ الشَّمَالِيَّةُ.

وَيَتَعَلَّقُ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ بِ دَخَلَ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥]، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْ حِينِ غَفْلَةٍ.

وَحِينُ الْغَفْلَةِ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْفُلُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَمَّا يَجْرِي فِيهَا وَهُوَ وَقْتُ اسْتِرَاحَةِ النَّاسِ وَتُفَرِّقِهِمْ وَخُلُوِّ الطَّرِيقِ مِنْهُمْ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ وَكَانَ مُوسَى مُجْتَازًا بِالْمَدِينَةِ وَحْدَهُ، قِيلَ لِيَلْحَقَ بِفِرْعَوْنَ إِذْ كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ مَرَّ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْوَقْتِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ قَتْلَهُ الْقِبْطِيَّ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدُ قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ [الْقَصَص: ١٩] الْآيَاتِ وَمُقَدِّمَةً لِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.

وَالْإِشَارَتَانِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ بُعْدٌ وَلَا قُرْبٌ، فَلِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ الْإِشَارَتَانِ مُتَمَاثِلَتَيْنِ كَمَا هُنَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاء: ١٤٣] . وَيَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا كَقَوْلِ الْمُتَلَمِّسِ:

وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الأذلان غير الْحَيِّ وَالْوَتِدُ


هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ

وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الْمُنْتَمِيَةُ إِلَى أَحَدٍ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعًا [الْقَصَص: ٤] . وَالْعَدُوُّ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُعَادِيهَا مُوسَى، أَيْ يُبْغِضُهَا. فَالْمُرَادُ بِالَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبِالَّذِي مِنْ عَدُّوِهِ رَجُلٌ مِنَ الْقِبْطِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْعَدُوُّ وَصْفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٧٧] .

وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِخْبَارِ قِصَّةِ الْتِقَاطِهِ مِنَ الْيَمِّ وَأَنْ تَكُونَ أُمُّهُ قَدْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ بِخَبَرِهَا وَخَبَرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَشَأَ مُوسَى عَلَى عَدَاوَةِ الْقِبْطِ وَعَلَى إِضْمَارِ الْمَحَبَّةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَأَمَّا وَكْزُهُ الْقِبْطِيَّ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا انْتِصَارًا لِلْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تَكَرَّرَتِ الْخُصُومَة بَين ذَلِك الْإِسْرَائِيلِيِّ وَبَيْنَ قِبْطِيٍّ آخَرَ وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْقِبْطِيُّ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَنْصُرَ قَوْمَكَ وَإِنَّمَا قَالَ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ١٩] .

قِيلَ: كَانَ الْقِبْطِيُّ مِنْ عَمَلَةِ مَخْبِزِ فِرْعَوْنَ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ حَطَبًا إِلَى الْفُرْنِ فَدَعَا إِسْرَائِيلِيًّا لِيَحْمِلَهُ فَأَبَى فَأَرَادَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى حَمْلِهِ وَأَنْ يَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَاخْتَصَمَا وَتَضَارَبَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقَاتُلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ وَهُوَ التَّخْلِيصُ مِنْ شِدَّةٍ أَوِ الْعَوْنُ عَلَى دَفْعِ مَشَقَّةٍ. وَإِنَّمَا يكون هَذَا الطَّلَبُ بِالنِّدَاءِ فَذِكْرُ الِاسْتِغَاثَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ كَانَ مَغْلُوبًا وَأَنَّ الْقِبْطِيَّ اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ ظَالِمًا إِذْ لَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ.

وَالْوَكْزُ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ بِجُمْعِ أَصَابِعِهَا كَصُورَةِ عَقْدِ ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ، وَيُسَمَّى الْجُمْعَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ.

وفَقَضى عَلَيْهِ جُمْلَةٌ تُقَالُ بِمَعْنَى مَاتَ لَا تُغَيَّرُ. فَفَاعِلُ (قَضَى) مَحْذُوفٌ أَبَدًا عَلَى مَعْنَى قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى

الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ لَا يَقْضِي بِالْمَوْتِ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: ١٤] . وَقِيلَ ضَمِيرُ فَقَضى عَائِدٌ إِلَى مُوسَى وَلَيْسَ هَذَا بِالْبَيِّنِ. فَالْمَعْنَى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَمَاتَ الْقِبْطِيُّ. وَكَانَ هَذَا قَتْلَ خَطَأٍ صَادَفَ الْوَكْزُ مَقَاتِلَ الْقِبْطِيِّ وَلَمْ يُرِدْ مُوسَى قَتْلَهُ. وَوَقَعَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي أَنَّ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْمِصْرِيَّ يَضْرِبُ الْعِبْرَانِيَّ الْتَفَتَ هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ.

وَجُمْلَةُ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى حِين فوجىء بِمَوْتِ الْقِبْطِيِّ. وَحِكَايَةُ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ حِينَئِذٍ إِلَّا النَّظَرُ فِي الْعَاقِبَةِ الدِّينِيَّةِ. وَقَوْلُهُ هُوَ كَلَامُهُ فِي نَفْسِهِ.

وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الضَّرْبَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ أَوْ إِلَى الْمَوْتِ الْمُشَاهَدِ مِنْ ضَرْبَتِهِ، أَوْ إِلَى الْغَضَبِ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ مَوْتُ الْقِبْطِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَن الشَّيْطَان أَو قد غَضَبَهُ حَتَّى بَالَغَ فِي شِدَّةِ الْوَكْزِ. وَإِنَّمَا قَالَ مُوسَى ذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُسْتَقْبَحٌ فِي الشَّرَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ مِنْ أُصُولِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَكَانَ مُوسَى يَعْلَمُ دِينَ آبَائِهِ لَعَلَّهُ بِمَا تَلَقَّاهُ مِنْ أُمِّهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ فِي مُدَّةِ رَضَاعِهِ وَفِي مُدَّةِ زِيَارَتِهِ إِيَّاهَا.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ لَوْلَا الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ لاقتصر على زجر الْقِبْطِيِّ أَوْ كَفَّهُ عَنِ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لِلْإِنْسَانِ وَكَانَتْ لَهُ مَسَالِكُ إِلَى النُّفُوسِ اسْتَدَلَّ مُوسَى بِفِعْلِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ نَفْسٍ أَنه

فعل ناشىء عَنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان وَلَو لَاها لَكَانَ عَمَلُهُ جَارِيًا عَلَى الْأَحْوَالِ الْمَأْذُونَةِ.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ هُوَ الْخَيْرُ وَأَنَّهُ الْفِطْرَةُ وَأَنَّ الِانْحِرَافَ عَنْهَا يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ غَيْرِ فِطْرِيٍّ وَهُوَ تَخَلُّلُ نَزْغِ الشَّيْطَانِ فِي النَّفْسِ.

وَمُتَعَلِّقُ عَدُوٌّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ أَيْ عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّةِ آدَمَ.

وَرَتَّبَ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْعَدَاوَةِ وَصْفَهُ بِالْإِضْلَالِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَعْمَلُ لِإِلْحَاقِ الضُّرِّ بِعَدُوِّهِ ومُبِينٌ وَصْفٌ لِ مُضِلٌّ لَا خَبَرٌ ثَانٍ وَلَا ثَالِث.

[١٦]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٦]

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)

بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَص: ١٥] لِأَنَّ الْجَزْمَ بِكَوْنِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَمَلًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرِيرِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ بِالِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ وَيُفَرَّعُ عَلَيْهِ طَلَبُ غُفْرَانِهِ. وَسَمَّى فِعْلَهُ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ فَرْطِ الْغَضَبِ لِأَجْلِ رَجُلٍ مِنْ شِيعَتِهِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ غَضَبِهِ فَكَانَ تَعْجِيلُهُ بِوَكْزِ الْقِبْطِيِّ وَكْزَةً قَاتِلَةً ظُلْمًا جَرَّهُ لِنَفْسِهِ. وَسَمَّاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢٠] ضَلَالًا قالَ فَعَلْتُها إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ.

وَأَرَادَ بِظُلْمِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ تَسَبَّبَ لِنَفْسِهِ فِي مَضَرَّةِ إِضْمَارِ الْقِبْطِ قَتْلَهُ، وَأَنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عِقَابِ الْقِبْطِيِّ عَلَى مُضَارَبَتِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّ. وَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ الظَّالِمَ مِنْهُمَا وَذَلِكَ انْتِصَارٌ جَاهِلِيٌّ كَمَا قَالَ وَدَّاكُ بْنُ ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ يَمْدَحُ قَوْمَهُ:

إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ ... لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ

وَقَدِ اهْتَدَى مُوسَى إِلَى هَذَا كُلِّهِ بِالْإِلْهَامِ إِذْ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ فِي الْقِبْطِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّاهُ مَنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهَا مَنْ تَدَيُّنٍ بِبَقَايَا دِينِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.

وَلَا الْتِفَاتَ فِي هَذَا إِلَى جَوَازِ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ النَّبِيءِ لِأَنَّهُ لَمْ يكن يَوْمئِذٍ نبيئا، وَلَا مَسْأَلَةِ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ النبيء قبل النبوءة، لِأَنَّ تِلْكَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ مِنَ الذُّنُوبِ بِحَسَبِ شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيءِ أَو شرع نبيء هُوَ مُتَّبِعُهُ مِثْلِ عِيسَى عليه السلام قَبْلَ نُبُوءَتِهِ لِوُجُودِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيِ اسْتَجَابَ اسْتِغْفَارَهُ فَعَجَّلَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ.

وَجُمْلَةُ فَغَفَرَ لَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجُمْلَةِ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الْقَصَص: ١٧] كَانَ اعْتِرَاضُهَا إِعْلَامًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ بِكَرَامَةِ مُوسَى عليه السلام عِنْدَ رَبِّهِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَغَفَرَ لَهُ عَلَّلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْغُفْرَانِ وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، مَعَ تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ مِنْ ظُلْمِ نَفْسِهِ وَمَا حَفَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكرنَاهَا.

[١٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ١٧]

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)

إِعَادَةُ قالَ أَفَادَ تَأْكِيدًا لَفِعْلِ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [الْقَصَص: ١٦] . أُعِيدَ الْقَوْلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ كَلَامِ مُوسَى حَيْثُ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ بِجُمْلَتَيْ فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الْقَصَص: ١٦] . وَنَظْمُ الْكَلَامِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مُسْتَأْنَفًا عَنْ قَوْلِهِ فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٦] لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُوحَى إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ.

وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ(مَا) مَوْصُولَةٌ وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِمِثْلِ مَا جُرَّ بِهِ الْمَوْصُولُ، وَالْحَذْفُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: بِالَّذِي أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّة وَمَا صدق الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، هُوَ مَا أُوتِيَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ فَتَمَيَّزَتْ عِنْدَهُ الْحَقَائِقُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَوَائِدِ وَالتَّقَالِيدِ تَأْثِيرٌ عَلَى شُعُورِهِ. فَأَصْبَحَ لَا يَنْظُرُ الْأَشْيَاءَ إِلَّا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ظَهِيرًا وَعَوْنًا للمجرمين.

وَأَرَادَ بالمجرمين مَنْ يُتَوَسَّمُ مِنْهُمُ الْإِجْرَامُ، وَأَرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يَسْتَذِلُّونَ النَّاسَ وَيَظْلِمُونَهُمْ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ أَذَلَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ بِغَصْبِهِ عَلَى تَحْمِيلِهِ الْحَطَبَ دُونَ رِضَاهُ.

وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقَهُ مَسَاقَ الِاعْتِبَارِ عَنْ قَتْلِهِ الْقِبْطِيَّ وُثُوقًا بِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً.

وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَثِيرًا مَا

يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الشَّرْطِ فَيَقْتَرِنُ خَبَرُهُ وَمُتَعَلِّقُهُ بِالْفَاءِ تَشْبِيهًا لَهُ بِجَزَاءِ الشَّرْطِ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْمَوْصُولُ مَجْرُورًا مُقَدَّمًا فَإِنَّ الْمَجْرُورَ الْمُقَدَّمَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ

فِي الْحَدِيثِ (كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ)

بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وَإِعْطَائِهِ جَوَابًا مَجْزُومًا.

وَالظَّهِيرُ: النَّصِيرُ.

وَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّظْمُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَدَمَ مُظَاهَرَتِهِ لِلْمُجْرِمِينَ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنْ جَعَلَ شُكْرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ وَتَغْيِيرَ الْبَاطِلِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُغَيِّرِ الْبَاطِلَ وَالْمُنْكَرَ وَأَقَرَّهُمَا فَقَدْ صَانَعَ فَاعِلَهُمَا، وَالْمُصَانَعَةُ مُظَاهَرَةٌ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ فَوَجَدَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَصْرَخَهُ فِي أَمْسِهِ يَسْتَصْرِخُهُ عَلَى قِبْطِيٍّ آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالْقِبْطِيِّ وَفَاءً بِوَعْدِهِ رَبَّهُ إِذْ قَالَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ لِأَنَّ الْقِبْطِيَّ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّ مُوَحِّدٌ.

وَقَدْ جَعَلَ جُمْهُورٌ مِنَ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى مَنْعِ إِعَانَةِ أَهْلِ الْجَوْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ. وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ حَكَاهَا عَنْ مُوسَى فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ القَوْل الْحق.

[١٨، ١٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)

أَيْ أَصْبَحَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يُطَالب بِدَم القبطي الَّذِي قَتَلَهُ وَهُوَ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يُرَاقِبُ مَا يُقَالُ فِي شَأْنِهِ لِيَكُونَ مُتَحَفِّزًا لِلِاخْتِفَاءِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ خَبَرَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَفْشُ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ تَخْلُو فِيهِ أَزِقَّةُ الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُوسَى يَتَرَقَّبُ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْقِبْطِيِّ الْمَقْتُولِ.

وَ(إِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ، أَيْ فَفَاجَأَهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَنْصِرُهُ الْيَوْمَ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي (الْأَمْسِ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ بِأَمْسِهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ أَمْسًا لِوَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.

وَالِاسْتِصْرَاخُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الصُّرَاخِ، أَيِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقِصَّةِ الْمَاضِيَةِ بِالِاسْتِغَاثَةِ فَخُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ لِلتَّفَنُّنِ. وَقَوْلُ مُوسَى لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ تَذَمُّرٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ إِذْ كَانَ اسْتِصْرَاخُهُ السَّالِفُ سَبَبًا فِي قَتْلِ نَفْسٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ إِجَابَةِ اسْتِصْرَاخِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّشَاؤُمِ وَاللَّوْمِ عَلَيْهِ فِي كَثْرَةِ خُصُومَاتِهِ.

وَالْغَوِيُّ: الشَّدِيدُ الْغَوَايَةِ وَهِيَ الضَّلَالُ وَسُوءُ النَّظَرِ، أَيْ أَنَّكَ تُشَادُّ مَنْ لَا تُطِيقُهُ ثُمَّ تَرُومُ الْغَوْثَ مِنِّي يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ظَالِمٌ أَوْ مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِعَدُوِّهِ.

وَالْبَطْشُ: الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الضَّرْبُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ عَدُوٌّ لَهُما أَنَّهُ قِبْطِيٌّ.

وَرُبَّمَا جُعِلَ عَدُوًّا لَهُمَا لِأَنَّ عَدَاوَتَهُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ مَعْرُوفَةٌ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْقِبْطِ وَأَمَّا عَدَاوَتُهُ لِمُوسَى فَلِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ رَجُلًا وَالظُّلْمُ عَدُوٌّ لِنَفْسِ مُوسَى لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَى زَكَاءِ نَفْسٍ هَيَّأَهَا اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ.

وَالْجَبَّارُ: الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِمَّا يُضِرُّ بِالنَّاسِ وَيُؤَاخِذُ النَّاسَ بِالشِّدَّةِ دُونَ الرِّفْقِ.

وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم [١٥] قَوْلُهُ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٢] قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.

وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مُتَصَرِّفًا بِالِانْتِقَامِ وَبِالشِّدَّةِ وَلَا تُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِأَنْ تَسْعَى فِي التَّرَاضِي بَيْنَهُمَا. وَيَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَ الْقِبْطِيِّ زَجْرٌ لِمُوسَى عَنِ الْبَطْشِ بِهِ وَصَارَ بَيْنَهُمَا حِوَارًا أَعْقَبَهُ مَجِيءُ رَجُلٍ مِنْ أقْصَى الْمَدِينَة.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]

وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفًا يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)

ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ عَلَى حِينِ مُحَاوَرَةِ الْقِبْطِيِّ مَعَ مُوسَى فَلِذَلِكَ انْطَوَى أَمْرُ مُحَاوَرَتِهِمَا إِذْ حَدَثَ فِي خِلَالِهِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ وَأَجْدَى فِي الْقِصَّةِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَقْصَى الْمَدِينَةِ هُوَ نَاحِيَةُ قُصُورِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَإِنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ السُّكْنَى فِي أَطْرَافِ الْمُدُنِ تَوَقِّيًا مِنَ الثَّوْرَاتِ وَالْغَارَاتِ لِتَكُونَ مَسَاكِنُهُمْ أَسْعَدَ بِخُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْخَوْفِ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَطْرَافُ مَنَازِلُ الْأَشْرَافِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:

كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاتَّصَلَتْ ... بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

فَذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ رَاجِعٌ إِلَى انْتِقَاصِ الْعُمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: ١٣] .

وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ ذِكْرِ الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الرَّجُلُ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْرِفُ مُوسَى.

والْمَلَأَ: الْجَمَاعَةُ أُولُو الشَّأْنِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ نُوحٍ فِي الْأَعْرَافِ [٦٠]، وَأَرَادَ بِهِمْ أَهْلَ دَوْلَةِ فِرْعَوْنَ: فَالْمَعْنَى: أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ يَأْتَمِرُونَ بِكَ، أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقَضِيَّةَ رُفِعَتْ إِلَى فِرْعَوْنَ وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي: «فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْأَمْرَ فَطَلَبَ أَنْ يُقْتَلَ مُوسَى» . وَلَمَّا عَلِمَ هَذَا الرَّجُلُ بِذَلِكَ أَسْرَعَ بِالْخَبَرِ لِمُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مُعْجَبًا بِمُوسَى وَاسْتِقَامَتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْقِبْطِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ مَعْرِفَةَ فَسَادِ الشِّرْكِ بِسَلَامَةِ فِطْرَتِهِ وَهَيَّأَهُ لِإِنْقَاذِ مُوسَى مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ.

وَالسَّعْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فِي سُورَةِ طه [٢٠] . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٩] . وَجُمْلَةُ يَسْعى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رَجُلٌ

الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ. ويَأْتَمِرُونَ بِكَ يَتَشَاوَرُونَ. وَضُمِّنَ مَعْنَى (يَهُمُّونَ) فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَأْتَمِرُونَ وَيَهُمُّونَ بِقَتْلِكَ.

وَأَصْلُ الِائْتِمَارِ: قَبُولُ أَمْرِ الْآمِرِ فَهُوَ مُطَاوِعٌ أَمْرَهُ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَيَعْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ أَيْ يَضُرُّهُ مَا يُطِيعُ فِيهِ أَمْرَ نَفْسِهِ. ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ الِائْتِمَارِ عَلَى التَّشَاوُرِ لِأَنَّ الْمُتَشَاوِرِينَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ أَمْرَ بَعْضٍ فَيَأْتَمِرُ بِهِ الْجَمِيعُ، قَالَ تَعَالَى وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: ٦] .

وَجُمْلَةُ قالَ يَا مُوسى بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَ رَجُلٌ لِأَنَّ مَجِيئَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ.

وَمُتَعَلِّقُ الْخُرُوجِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فَاخْرُجْ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَجُمْلَةُ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ صِلَةٌ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ النُّصْحِ مُعَدًّى بِاللَّامِ. يُقَالُ: نَصَحْتُ لَكَ قَالَ تَعَالَى إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي السُّورَة التَّوْبَةِ [٩١] وَوَهَمًا قَالُوا: نَصَحْتُكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.

وَالتَّرَقُّبُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِظَارُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ رَقَبَ إِذَا نَظَرَ أَحْوَالَ شَيْءٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ: مَرْقَبَةً وَمُرْتَقَبًا، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْحَذَرِ.

وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَرَقَّبُ لِأَنَّ تَرَقُّبَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يُنَجِّيَهُ.

وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ. وَوَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَلِأَنَّهُمْ رَامُوا قَتْلَهُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ وَذَلِكَ ظُلْمٌ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْقَتْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَزَاءَ بِالْقَتْلِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْقِبْطِيِّ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ [الْقَصَص: ١٤] إِلَى هُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِشَيْءٍ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ بِقُدْرَتِهِ فَأَبْرَزَهُ عَلَى أَتْقَنِ

تَدْبِيرٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ الْبَصِيرَ فِي آثَارِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ يَقْتَبِسُ مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي دَعْوَتِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: ١٦] . وَإِنَّ أَوْضَحَ تِلْكَ الْمظَاهر هُوَ مظهر اسْتِقَامَةُ السِّيرَةِ وَمَحَبَّةُ الْحَقِّ، وَأَنَّ دَلِيلَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِمَنِ اصْطَفَاهُ لِذَلِكَ هُوَ نَصْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَنَجَاتُهُ مِمَّا لَهُ مَنِ الْمَكَائِدِ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ لَوْ نَظَرُوا فِي حَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي ذَاتِهِ وَفِي حَالِهِمْ مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ الْآيَةَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَسُولَهُ ﷺ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ من ظالميه.

[٢٢]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٢٢]

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)

هَذِهِ هِجْرَةٌ نَبَوِيَّةٌ تُشْبِهُ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِذْ قَالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت: ٢٦] . وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ مُوسَى عليه السلام أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَ مَدْيَنَ إِذْ يَجِدُ فِيهَا نَبِيئًا يبصره بآداب النبوءة وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُ وَلَا مَنْ سَيَجِدُ فِي وُجْهَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ عَطْفٌ عَلَى جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ مَسِيرُهُ فِي طَرِيقٍ يُؤَدِّي إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ حِينَئِذٍ قَالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ مُوسَى وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالطَّرِيقِ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِرَبِّهِ.

وتَوَجَّهَ: وَلَّى وَجْهَهُ، أَيِ اسْتَقْبَلَ بِسَيْرِهِ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ.

وتِلْقاءَ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَسْرِ التَّاءِ

إِلَّا تِمْثَالٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالْمُقَارَبَةِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَصْدَرِ عَلَى جِهَتِهِ فَصَارَ مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ الَّتِي تُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا تَوَجَّهَ جِهَةَ تَلَاقِي مَدْيَنَ، أَيْ جِهَةَ تَلَاقِي بِلَادِ مَدْيَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

ومَدْيَنَ: قَوْمٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٥] .

وَأَرْضُ مَدْيَنَ وَاقِعَةٌ عَلَى الشَّاطِئِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَكَانَ مُوسَى قَدْ سَلَكَ إِلَيْهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِ (رَعْمَسِيسَ) أَوْ (مَنْفِيسَ) طَرِيقًا غَرْبِيَّةً جَنُوبِيَّةً فَسَلَكَ بَرِّيَّةً تَمُرُّ بِهِ عَلَى أَرْضِ الْعَمَالِقَةِ وَأَرْضِ الْأَدُومِيِّينَ ثُمَّ بِلَادِ النَّبَطِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ. تِلْكَ مَسَافَةُ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِيلًا تَقْرِيبًا. وَإِذْ قَدْ كَانَ مُوسَى فِي سَيْرِهِ ذَلِكَ رَاجِلًا فَتِلْكَ الْمَسَافَةُ تَسْتَدْعِي مِنَ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ يَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَلَمْ يَضِلَّ فِي سَيْرِهِ.

وَالسَّوَاءُ: الْمُسْتَقِيمُ النَّهْجِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ. وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الَّتِي فِي طَيِّهَا تَوْفِيقُهُ إِلَى الدَّين الْحق.

[٢٣، ٢٤]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٤]

وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)

يَدُلُّ قَوْلُهُ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أَنَّهُ بَلَغَ أَرْضَ مَدْيَنَ، وَذَلِكَ حِينَ وَرَدَ مَاءَهُمْ.

وَالْوُرُودُ هُنَا مَعْنَاهُ الْوُصُولُ وَالْبُلُوغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: ٧١] .

وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَوْضِعُ الْمَاءِ. وَمَاءُ الْقَوْمِ هُوَ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ دِيَارُهُمْ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ كَانَتْ تَقْطُنُ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَكَانُوا يُكَنُّونَ عَنْ أَرْضِ الْقَبِيلَةِ بِمَاءِ بَنِي فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى: وَلَمَّا ورد، أَي عِنْد مَا بَلَغَ بِلَادَ مَدْيَنَ. وَيُنَاسِبُ الْغَرِيبَ إِذَا جَاءَ دِيَارَ قَوْمٍ أَنْ يَقْصِدَ الْمَاءَ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ فَهُنَالِكَ يَتَعَرَّفُ لِمَنْ يُصَاحِبُهُ وَيُضِيفُهُ.

ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتِ وُجُودِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيره، أَي عِنْد مَا حَلَّ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَجَدَ أُمَّةً.

وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْبَقَرَةِ [٢١٣] . وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْقُونَ لِتَعْمِيمِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْقَى وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالنَّاسُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْمَسْقِيِّ وَلَكِنْ بِمَا بَعْدَهُ مِنِ انْزِوَاءِ الْمَرْأَتَيْنِ عَنِ السَّقْيِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» تَبَعًا «لِدَلَائِلِ الْإِعْجَازِ»، فَيَكُونُ مِنْ تَنْزِيلِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَوِ الْحَذْفُ هُنَا لِلِاخْتِصَارِ كَمَا اخْتَارَهُ السَّكَّاكِيُّ وَأَيَّدَهُ شَارِحَاهُ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ. وَأَمَّا حَذْفُ مَفَاعِيلِ تَذُودانِ- لَا نَسْقِي- فَسَقى لَهُما فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخَانِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» وَشَارِحَاهُ فَشَيْءٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ وَإِنَّمَا اسْتِفَادَةُ كَوْنِهِمَا تَذُودَانِ غَنَمًا مَرْجِعُهَا إِلَى كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ.

وَمَعْنَى مِنْ دُونِهِمُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي حَوْلَ الْمَاءِ، أَيْ فِي جَانِبٍ مُبَاعِدٍ لِلْأُمَّةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ كَلِمَةِ (دُونَ) أَنَّهَا وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الْأَسْفَلِ مِنْ غَيْرِهِ. وَتَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ مُخْتَلِفَةُ الْعَلَاقَاتِ، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَ (دُونَ) بِمَعْنَى جِهَةٍ يَصِلُ إِلَيْهَا الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ السَّاقُونَ. شَبَّهَ الْمَكَانَ الَّذِي يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَ بَعْدَ مَكَانٍ آخَرَ بِالْمَكَانِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْآخَرِ كَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْمَاشِي لِأَنَّ الْمَشْيَ يُشَبَّهُ بِالصُّعُودِ وَبِالْهُبُوطِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.

وَيُحْذَفُ الْمَوْصُوفُ بِ (دُونَ) لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَيَصِيرُ (دُونَ) بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ الِاسْمِ الْمَحْذُوفِ.

وَحَرْفُ مِنَ مَعَ (دُونَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَهُوَ مَعْنًى أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمرَان: ١٠] . وَالْمَعْنَى: وَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ فِي جِهَةٍ مُبْتَعِدَةٍ عَنْ جِهَةِ السَّاقِينَ.

وتَذُودانِ تَطْرُدَانِ. وَحَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ عَنِ الْمَاءِ وَلِذَلِكَ سَمُّوا الْقَطِيعَ مِنَ الْإِبِلِ الذَّوْدَ فَلَا يُقَالُ: ذُدْتُ النَّاسَ، إِلَّا مَجَازًا مُرْسَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ

فِي الْحَدِيثِ «فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي»

الْحَدِيثَ.

وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: تَمْنَعَانِ إِبِلًا عَنِ الْمَاءِ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ صَاحِبَ

غَنَمٍ وَأَنَّ مُوسَى رَعَى غَنَمَهُ. فَيَكُونُ إِطْلَاقُ تَذُودانِ هُنَا مَجَازًا مُرْسَلًا، أَوْ تَكُونُ حَقِيقَةُ الذَّوْدِ طَرْدُ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا عَنْ حَوْضِ الْمَاءِ. وَكَلَامُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ فِي تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّهَا كَانَتْ لَهُمَا غَنَمٌ، وَالذَّوْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَاشِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حُضُورِ

الْمَاءِ بِالْأَنْعَامِ سَقْيُهَا. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الْمَرْأَتَيْنِ تَمْنَعَانِ أَنْعَامَهُمَا مِنَ الشُّرْبِ سَأَلَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ قِصَّتِهِمَا وَشَأْنِهِمَا إِذْ حَضَرَا الْمَاءَ وَلَمْ يَقْتَحِمَا عَلَيْهِ لِسَقْيِ غَنَمِهِمَا.

وَجُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُما بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ.

وَالْخَطْبُ: الشَّأْنُ وَالْحَدَثُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يُوسُف: ٥١]، فَأَجَابَتَا بِأَنَّهُمَا كَرِهَتَا أَنْ تَسْقِيَا فِي حِينِ اكْتِظَاظِ الْمَكَانِ بِالرِّعَاءِ وَأَنَّهُمَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى عَدَمِ السَّقْيِ كَمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ الرِّعَاءُ.

والرِّعاءُ: جَمْعُ رَاعٍ.

وَالْإِصْدَارُ: الْإِرْجَاعُ عَنِ السَّقْيِ، أَيْ حَتَّى يَسْقِيَ الرِّعَاءُ وَيُصْدِرُوا مَوَاشِيَهُمْ، فَالْإِصْدَارُ جَعْلُ الْغَيْرِ صَادِرًا، أَيْ حَتَّى يَذْهَبَ رِعَاءُ الْإِبِلِ بِأَنْعَامِهِمْ فَلَا يَبْقَى الزِّحَامُ.

وَصَدُّهُمَا عَنِ الْمُزَاحمَة عَادَتهمَا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا ذَوَاتَيْ مُرُوءَةٍ وَتَرْبِيَةٍ زَكِيَّةٍ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُصْدِرَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ يُصْدِرَ بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَضَمِّ الدَّالِّ عَلَى إِسْنَادِ الصَّدْرِ إِلَى الرِّعَاءِ، أَيْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنِ الْمَاءِ، أَيْ بِمَوَاشِيهِمْ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّعَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ مَوَاشِيَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمَا كُلَّ يَوْمِ سَقْيٍ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَةٌ.

وَكَانَ قَوْلُهُمَا وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ اعْتِذَارًا عَنْ حُضُورِهِمَا لِلسَّقْيِ مَعَ الرِّجَالِ لِعَدَمِ وِجْدَانِهِمَا رَجُلًا يَسْتَقِي لَهُمَا لِأَنَّ الرَّجُلَ الْوَحِيدَ لَهُمَا هُوَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ وُرُودَ الْمَاءِ لِضَعْفِهِ عَنِ الْمُزَاحَمَةِ.

وَاسْمُ الْمَرْأَتَيْنِ (لَيَّا) وَ(صَفُّورَةُ) . وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّ أَبَاهُمَا كَاهِنُ مَدْيَنَ. وَسَمَّاهُ فِي ذَلِكَ السِّفْرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ رَعْوِيلَ ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ يَثْرُونَ وَوَصَفَهُ بِحَمِيِّ مُوسَى، فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْعِبْرِيِّ فِي «تَارِيخِهِ»: يَثْرُونُ بْنُ رَعْوِيلَ لَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ خَرَجَ لِلسَّقْيِ مِنْهُمَا اثْنَتَانِ، فَيَكُونُ شُعَيْبٌ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيَهُودِ يَثْرُونَ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ النَّبِيءِ بِالْكَاهِنِ اصْطِلَاحٌ. لِأَنَّ الْكَاهِنَ يُخْبِرُ عَنِ الْغَيْبِ وَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَائِمِ بِأُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ الْيَهُودِ. وَلِلْجَزْمِ بِأَنَّهُ شُعَيْبٌ الرَّسُولُ جَعَلَ عُلَمَاؤُنَا مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةَ شَرْعًا سَابِقًا فَفَرَّعُوا عَلَيْهِ مَسَائِلَ مَبْنِيَّةً عَلَى أَصْلِ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الرُّسُلِ الْإِلَهِيِّينَ شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ

يَرِدْ نَاسِخٌ.

وَمِنْهَا مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ الْأَعْمَالَ وَالسَّعْيُ فِي طُرُقِ الْمَعِيشَةِ، وَوُجُوبُ اسْتِحْيَائِهَا، وَوِلَايَةُ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ، وَجَعْلُ الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ مَهْرًا، وَجَمْعُ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْإِجَارَةِ. وَقَدِ اسْتَوْفَى الْكَلَامَ عَلَيْهَا الْقُرْطُبِيُّ. وَفِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ غُنْيَةٌ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يُوجَدُ دَلِيلُهُ فِي الْقُرْآنِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لَهَا مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا.

وَفِي إِذْنه لَا بنتيه بِالسَّقْيِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَالَجَةِ الْمَرْأَةِ أُمُورَ مَالِهَا وَظُهُورِهَا فِي مَجَامِعِ النَّاسِ إِذَا كَانَتْ تَسْتُرُ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ فَإِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا حَكَاهُ شَرْعُنَا وَلَمْ يَأْتِ مِنْ شَرْعِنَا مَا يَنْسَخُهُ. وَأَمَّا تَحَاشِي النَّاسِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الْمُرُوءَةِ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُرُوءَةُ وَالْعَادَاتُ مُتَبَايِنَةٌ فِيهِ وَأَحْوَالُ الْأُمَمِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ وَخَاصَّةً مَا بَيْنَ أَخْلَاقِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ مِنَ الِاخْتِلَافِ.

وَدُخُولُ لِما التَّوْقِيتِيَّةُ يُؤْذِنُ بِاقْتِرَانِ وُصُولِهِ بِوُجُودِ السَّاقِينَ. وَاقْتِرَانُ فِعْلِ (سَقَى) بِالْفَاءِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ بَادَرَ فَسَقَى لَهُنَّ، وَذَلِكَ بِفَوْرِ وُرُودِهِ.

وَمَعْنَى فَسَقى لَهُما أَنَّهُ سَقَى مَا جِئْنَ لِيَسْقِينَهُ لِأَجْلِهِمَا، فَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لَا يَدْفَعُهُ لِذَلِكَ إِلَّا هُمَا، أَيْ رَأْفَةً بِهِمَا وَغَوْثًا لَهُمَا. وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ مُرُوءَتِهِ أَنِ اقْتَحَمَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الشَّاقَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْيَاءِ عِنْدَ الْوُصُولِ.

وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ عَلَى طَرِيقِهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مِنْ قَبْلُ فِي ظِلٍّ فَرَجَعَ إِلَيْهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ تَوَلَّى مُرَادِفُ (وَلَّى) وَلَكِنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَضِيَ

زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَيَكُونُ تَوَلَّى أَشَدَّ مِنْ (وَلَّى)، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَّى مُدْبِرًا فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٠] .

وَقَدْ أَعْقَبَ إِيوَاءَهُ إِلَى الظِّلِّ بِمُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ إِذْ قَالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. لَمَّا اسْتَرَاحَ مِنْ مَشَقَّةِ الْمَتْحِ وَالسَّقْيِ لِمَاشِيَةِ الْمَرْأَتَيْنِ وَالِاقْتِحَامِ بِهَا فِي عَدَدِ الرِّعَاءِ الْعَدِيدِ، وَوَجَدَ بَرْدَ الظِّلِّ تَذَكَّرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ نِعَمًا سَابِقَةً أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ نَجَاتِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ تَبِعَةِ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِلَى أَرْضٍ مَعْمُورَةٍ بِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ فَيَافِيَ وَمُفَازَاتٍ، تَذَكَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي نِعْمَةِ بَرْدِ الظِّلِّ وَالرَّاحَةِ مِنَ التَّعَبِ فَجَاءَ بِجُمْلَةٍ جَامِعَةٍ لِلشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَهِيَ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ

فَقِيرٌ

. وَالْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ فَقَوْلُهُ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ شُكْرٌ عَلَى نِعَمٍ سَلَفَتْ.

وَقَوْلُهُ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ مُعْطِي الْخَيْرِ.

وَالْخَيْرُ: مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِمَنْ يَتَعَلَّقُ هُوَ بِهِ فَمِنْهُ خَيْرُ الدُّنْيَا وَمِنْهُ خَيْرُ الْآخِرَةِ الَّذِي قَدْ يُرَى فِي صُورَةِ مَشَقَّةٍ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَوَاقِبِ، قَالَ تَعَالَى وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: ٨٥] .

وَقَدْ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَرْمُزُ إِلَى ذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَائِهِ الْخَيْرَ بِفِعْلِ أَنْزَلْتَ الْمُشْعِرِ بِرِفْعَةِ الْمُعْطَى. فَأَوَّلُ ذَلِكَ إِيتَاءُ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ.

وَمِنَ الْخَيْرِ إِنْجَاؤُهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَرْبِيَتُهُ الْكَامِلَةُ فِي بِذْخَةِ الْمُلْكِ وَعِزَّتِهِ، وَحِفْظُهُ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْعَائِلَةِ الَّتِي رُبِّيَ فِيهَا فَكَانَ مُنْتَفِعًا بِمَنَافِعِهَا مُجَنَّبًا رَذَائِلَهَا وَأَضْرَارَهَا. وَمِنَ الْخَيْرِ أَنْ جَعَلَ نَصْرَ قَوْمِهِ عَلَى يَدِهِ، وَأَنْ أَنْجَاهُ مِنَ الْقَتْلِ الثَّانِي ظُلْمًا، وَأَنْ هَدَاهُ إِلَى مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ، وَيسر لَهُ التعرف بِبَيْتِ نُبُوءَةٍ، وَأَنْ آوَاهُ إِلَى ظِلٍّ.

وَ(مَا) مِنْ قَوْلِهِ لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مَوْصُولَةٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ أَنْزَلْتَ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيمَا مَضَى صَارَ مَعْرُوفًا غَيْرَ نَكِرَةٍ، فَقَوْلُهُ (مَا

أَنْزَلْتَ إِلَيَّ) بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِتُلَائِمَ قَوْلَهُ فَقِيرٌ أَيْ فَقِيرٌ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ لِأَمْثَالِهِ.

وَأَحْسَنُ خَيْرٍ لِلْغَرِيبِ وُجُودُ مَأْوًى لَهُ يَطْعَمُ فِيهِ وَيَبِيتُ وَزَوْجَةٌ يَأْنَسُ إِلَيْهَا وَيَسْكُنُ.

فَكَانَ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأَنْ أَلْهَمَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَهُ لِيُنْزِلَهُ عِنْدَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، كَمَا أَشْعَرَتْ بِذَلِكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما [الْقَصَص: ٢٥] .

[٢٥]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٢٥]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥)

عَرَفْتَ أَنَّ الْفَاءَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ فَقَيَّضَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَ مُوسَى لِيُضَيِّفَهُ وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، فَذَلِكَ يَضْمَنُ لَهُ أُنْسًا فِي دَارِ غُرْبَةٍ وَمَأْوًى وَعَشِيرًا صَالِحًا. وَتُؤْذِنُ الْفَاءُ أَيْضًا بِأَنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَتَرَيَّثْ فِي الْإِرْسَالِ وَرَاءَهُ فَأَرْسَلَ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا وَهِيَ

(صَفُّورَةُ) فَجَاءَتْهُ وَهُوَ لَمْ يَزَلْ عَنْ مَكَانِهِ فِي الظِّلِّ.

وَذَكَرَ تَمْشِي لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ عَلَى اسْتِحْياءٍ وَإِلَّا فَإِنَّ فِعْلَ (جَاءَتْهُ) مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ تَمْشِي.

وعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُسْتَحْيِيَةٌ فِي مَشْيِهَا، أَيْ تَمْشِي غَيْرَ مُتَبَخْتِرَةٍ وَلَا مُتَثَنِّيَةٍ وَلَا مُظْهِرَةٍ زِينَةً. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهَا كَانَتْ سَاتِرَةً وَجْهَهَا بِثَوْبِهَا، أَيْ لِأَنَّ سَتْرَ الْوَجْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ.

وَالِاسْتِحْيَاءُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاءِ مِثْلُ الِاسْتِجَابَةِ قَالَ تَعَالَى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النُّور: ٣١] .

وَجُمْلَةُ قالَتْ بَدَلٌ مِنْ (جَاءَتْهُ) . وَإِنَّمَا بَيَّنَتْ لَهُ الْغَرَضَ مِنْ دَعْوَتِهِ مُبَادَرَةً بِالْإِكْرَامِ.

وَالْجَزَاءُ: الْمُكَافَأَةُ عَلَى عَمَلٍ حسن أَو سيّىء بِشَيْءٍ مِثْلِهِ فِي الْحُسْنِ أَوِ الْإِسَاءَةِ،

قَالَ تَعَالَى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠] وَقَالَ تَعَالَى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا [سبأ: ١٧] .

وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ حِكَايَةٌ لِمَا فِي كَلَامِهَا مِنْ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ.

وَالْأَجْرُ: التَّعْوِيضُ عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ لِلْمُعَوَّضِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ثَوَابُ الطَّاعَاتِ أَجْرًا، قَالَ تَعَالَى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٦] . وَانْتَصَبَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الْجَزَاءِ أَنَّهُ جَزَاءُ خَيْرٍ، وَهُوَ أَنْ أَرَادَ ضِيَافَتَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى إِجَارَةِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَاوُلٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا عَادَةٍ.

وَالْجَزَاءُ: إِكْرَامٌ، وَالْإِجَارَةُ: تَعَاقُدٌ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [الْقَصَص: ٢٦] فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ عَزْمٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مُوسَى.

وَكَانَ فِعْلُ مُوسَى مَعْرُوفًا مَحْضًا لَا يَطْلَبُ عَلَيْهِ جَزَاءً لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَرْأَتَيْنِ وَلَا بَيْتَهُمَا، وَكَانَ فِعْلُ شُعَيْبٍ كَرَمًا مَحْضًا وَمَحَبَّةً لِقِرَى كُلِّ غَرِيبٍ، وَتَضْيِيفُ الْغَرِيبِ مِنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَا غَرْوَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا رَجُلَانِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

وَمَا فِي قَوْلِهِ مَا سَقَيْتَ لَنا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ سَقْيِكَ، وَلَامُ لَنا لَامُ الْعِلَّةِ.

فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

كَانَتِ الْعَوَائِدُ أَنْ يُفَاتَحَ الضَّيْفُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ وَمَقْدِمِهِ فَلِذَلِكَ قَصَّ مُوسَى قِصَّةَ خُرُوجِهِ وَمَجِيئِهِ عَلَى شُعَيْبٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ شُعَيْبًا سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِ، والْقَصَصَ: الْخَبَرُ. وقَصَّ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَصَصَ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصَصَهُ، أَوْ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَصَصَ الْمَذْكُورَ آنِفًا. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ.

فَطَمْأَنَهُ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُ يُزِيلُ عَنْ نَفْسِهِ الْخَوْفَ لِأَنَّهُ أَصْبَحَ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُ حُكْمُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ بِلَادَ مَدْيَنَ تَابِعَةٌ لِمُلْكِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَهُمْ أَهْلُ بَأْسٍ وَنَجْدَةٍ. وَمَعْنَى نَهْيِهِ عَنِ الْخَوْفِ نَهْيُهُ عَنْ ظَنِّ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ فِرْعَوْنَ.

وَجُمْلَةُ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ. وَوَصْفُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِالظَّالِمِينَ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مُوسَى مِنْ رَوْمِهِمْ قَتْلَهُ قِصَاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ. وَمَا سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِ عَدَاوَتِهِمْ عَلَى بني إِسْرَائِيل.

[٢٦- ٢٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٨]

قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)

حَذَفَ مَا لَقِيَهُ مُوسَى مِنْ شُعَيْبٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِإِضَافَتِهِ وَإِطْعَامِهِ، وَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَرْضِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَبِيهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مَاشِيَتِهِ إِذْ لَمْ يكن لَهُم بَيتهمْ رَجُلٌ يَقُومُ بِذَلِكَ وَقَدْ كَبُرَ أَبُوهُمَا فَلَمَّا رَأَتْ أَمَانَتَهُ وَوَرَعَهُ رَأَتْ أَنَّهُ خَيْرُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِلْعَمَلِ عِنْدَهُمْ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَلِ وَأَمَانَتِهِ.

وَالتَّاءُ فِي أَبَتِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً وَهِيَ يَجُوزُ كَسْرُهَا وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ عِلَّةٌ لِلْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِاسْتِئْجَارِهِ، أَيْ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ. وَجَاءَتْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ مُرْسَلَةٍ مَثَلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ وَمُطَابَقَةِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ. وَالْخِطَابُ فِي

مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُوَجَّهٌ إِلَى شُعَيْبٍ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ لِتَتِمَّ صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنْ يُرْسَلَ مَثَلًا. فَالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَأْجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ. ومَنِ مَوْصُولَةٌ فِي مَعْنَى الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ إِذْ لَا يُرَادُ بِالصِّلَةِ هُنَا وَصْفُ خَاصٍّ بِمُعَيَّنٍ.

وَجَعْلُ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ بِجَعْلِهِ اسْمًا لِأَنَّ جَعْلَ الْقَوِيُّ

الْأَمِينُ خَبَرًا مَعَ صِحَّةِ جَعْلِ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ هُوَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَوْصُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ خَيْرَ، وَفِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ هُنَا الْعُمُومُ فِي كِلَيْهِمَا، فَأُوثِرَ بِالتَّقْدِيمِ فِي جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَوْلَى بِالْعِنَايَةِ وَهُوَ خَيْرُ أَجِيرٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ اسْتَأْجِرْهُ فَوَصْفُ الْأَجِيرِ أَهَمُّ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِهَا وَنَفْسُ السَّامِعِ أَشَدُّ تَرَقُّبًا لِحَالِهِ.

وَمَجِيءُ هَذَا الْعُمُومِ عَقِبَ الْحَدِيثِ عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْعُمُومُ فَكَانَ ذَلِكَ مُصَادِفًا الْمَحَزَّ مِنَ الْبَلَاغَةِ إِذْ صَارَ إِثْبَاتُ الْأَمَانَةِ وَالْقُوَّةِ لِهَذَا الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِدَلِيلٍ. فَتَقْدِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: اسْتَأْجِرْهُ فَهُوَ قَوِيٌّ أَمِينٌ وَإِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرَ مُسْتَأْجِرٌ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى خُصُوصِيَّةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ وَعَلَى إِيجَازِ الْحَذْفِ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْفَتْ غَايَةَ مُقْتَضَى الْحَالِ فَكَانَتْ بَالِغَةً حَدَّ الْإِعْجَازِ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ «أَشْكُو إِلَى اللَّهِ ضَعْفَ الْأَمِينِ وَخِيَانَةَ الْقَوِيِّ» . يُرِيدُ:

أَسْأَلُهُ أَنْ يُؤَيِّدَنِي بِقَوِيٍّ أَمِينٍ أَسْتَعِينُ بِهِ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ هاتَيْنِ إِلَى الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا إِنْ كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ مَعًا دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ بَنَاتِ شُعَيْبٍ لِتَعَلُّقِ الْقَضِيَّةِ بِشَأْنِهِمَا، أَوْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا لِحُضُورِهِمَا فِي ذِهْنِ مُوسَى بِاعْتِبَارِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالسَّقْيِ لَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى غَائِبَةً حِينَئِذٍ.

وَفِيهِ جَوَازُ عَرْضِ الرَّجُلِ مَوْلَاتِهِ عَلَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا رَغْبَةً فِي صَلَاحِهِ. وَجَعَلَ لِمُوسَى اخْتِيَارَ إِحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَهَا وَكَانَتِ الَّتِي اخْتَارَهَا مُوسَى (صَفُّورَةَ) وَهِيَ الصُّغْرَى كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ. وَإِنَّمَا اخْتَارَهَا دُونَ أُخْتِهَا لِأَنَّهَا الَّتِي عَرَفَ أَخْلَاقَهَا بِاسْتِحْيَائِهَا وَكَلَامِهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَهَا عِنْدَهُ.

وَكَانَ هَذَا التَّخْيِيرُ قَبْلَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ فِيهِ جَهْلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا.

وَقَوْلُهُ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ حَرْفُ عَلى مَنْ صِيَغِ الشَّرْطِ فِي الْعُقُودِ.

وتَأْجُرَنِي مُضَارِعُ أَجَرَهُ مِثْلُ نَصَرَهُ إِذَا كَانَ أَجِيرًا لَهُ. وَالْحِجَجُ: اسْمٌ

جَمْعُ حِجَّةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ السَّنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ كُلَّ سَنَةٍ وَمَوْسِمُ الْحَجِّ يَقَعُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَالْتِزَامُ جَعْلِ تَزْوِيجِهِ مَشْرُوطًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُمَا عَرْضٌ مِنْهُ عَلَى مُوسَى وَلَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ وَلَا إِجَارَةٍ حَتَّى يَرْضَى مُوسَى. وَفِي هَذَا الْعَرْضِ دَلِيلٌ لِمَسْأَلَةِ جَمْعِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ أَصْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيءِ ﷺ فَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُصْدِقُهَا فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا إِيَّاهُ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُنَافِي عَقْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنَافِي لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَجْلِهِ وَلَكِنْ يُلْغَى الشَّرْطُ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: تُكْرَهُ الشُّرُوطُ كُلُّهَا ابْتِدَاءً فَإِنْ وَقَعَ مَضَى. وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ لِلْآيَةِ،

وَلِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ عَلَيْهِ الْفُرُوجَ»

. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ جُعِلَتْ مَهْرًا لِلْبِنْتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ الْتِزَامُ الْإِجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَتَابِعٌ لِمَا يُعْتَبَرُ فِي شَرْعِهِمْ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، وَالشَّرَائِعُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي مَعَانِي الْمَاهِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَهْرَ مَنَافِعَ إِجَارَةِ الزَّوْجِ لِشُعَيْبٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا لِأَنَّهَا سَمِعَتْ وَسَكَتَتْ بِنَاءً عَلَى عَوَائِدَ مَرْعِيَّةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ أَبُوهَا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ بِالْأَصَالَةِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمَهْرِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ عَوَائِدَ الْأُمَمِ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَزْوِيجِ وَلَايَاهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ إِجْمَالٌ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ مَنَافِعَ مِنْ إِجَارَةِ زَوْجِهَا فَيَرْجِعُ النَّظَرُ فِي صِحَّةِ جَعْلِ الْمَهْرِ إِجَارَةً إِلَى التَّخْرِيجِ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنَى الْمَهْرِ، فَإِنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ ذَاتُ قِيمَةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَهْرًا.

وَالتَّحْقِيقُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيَمْضِي. وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ

حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَهْرِ مَنَافِعَ حُرٍّ وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مَنَافِعَ عَبْدٍ. وَلَمْ يَرَ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ فَوَقَعَ الْإِجْمَالُ فِيهَا. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.

وَإِذْ قَدْ كَانَ حُكْمُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مُخْتَلِفًا فِي جَعْلِهِ شَرْعًا لَنَا كَانَ حُجَّةً مُخْتَلَفًا فِيهَا بَيْنَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَزَادَهَا ضَعْفًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِجْمَالُ الَّذِي تَطَرَّقَهَا فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَدَلِيلُ الْجَوَازِ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنَى الْمَهْرِ. فَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ الْمَجْعُولَةُ مَهْرًا حَاصِلَةً قَبْلَ الْبِنَاءِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى النِّكَاحِ بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ وَهُوَ مَكْرُوهٌ غَيْرُ بَاطِلٍ. وَإِلَى الْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ غَيْرِ قَابِلٍ لِلتَّبْعِيضِ بِتَبْعِيضِ الْعَمَلِ فَإِذَا لَمْ يُتِمَّ الْأَجِيرُ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ رَجَعَتْ إِلَى مَسْأَلَةِ عَجْزِ الْعَامِلِ عَنِ الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْأَجْرَ.

وَقَدْ

وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ وَفِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيءِ ﷺ فَظَهَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مَا تُصْدِقُهَا؟ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ ﷺ «الْتَمَسَ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» قَالَ: مَا عِنْدِي وَلَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ قَالَ لَهُ: مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. قَالَ لَهُ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ

. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيءَ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا عِشْرِينَ آيَةً مِمَّا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَتَكُونُ امْرَأَتَهُ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَانَ الْحَدِيثُ جَارِيًا عَلَى وَفْقِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَكَانَ حُجَّةً لِصِحَّةِ جَعْلِ الصَّدَاقِ إِجَارَةً عَلَى عَمَلٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ فَالْقِصَّةُ خُصُوصِيَّةٌ يُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهَا.

وَلَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ فِي الْآيَةِ لِلْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ رَعَى غَنَمَ يَثْرُونَ (وَهُوَ شُعَيْبٌ)، وَلَا غَرَضَ لِلْقُرْآنِ فِي بَيَانِ ذَلِكَ. وَلَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ إِلَى الْأَجْرِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنْكَاحُهُ الْبِنْتَ فَإِذَا لَمْ نَأْخُذْ بِهَذَا الظَّاهِرِ كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مُتَعَرِّضَةٍ لِلْأَجْرِ إِذْ لَا غَرَضَ فِيهِ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ فَيَكُونُ جَارِيًا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ فِي أُجُورِ الْأَعْمَالِ وَكَانَتْ لِلْقَبَائِلِ عَوَائِدُ فِي ذَلِكَ.

وَقَدْ أَدْرَكْتُ

مُنْذُ أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ رَاعِيَ الْغَنَمِ لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ قَمِيصٌ وَحِذَاءٌ يُسَمَّى (بَلْغَةً) وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا أَضْبُطُهُ الْآنَ.

وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى تَفَضُّلًا مِنْهُ أَنِ اخْتَارَهُ وَوَكَّلَهُ إِلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي مُنْتَهَى الْحِجَجِ الثَّمَانِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الزِّيَادَةِ.

وَ(مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَ(عِنْدَ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الذَّاتِ وَالنَّفْسِ مَجَازًا، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِتْمَامُ الْعَشْرِ مِنْ نَفْسِكَ، أَيْ لَا مِنِّي، يَعْنِي: أَنَّ الْإِتْمَامَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْعُقْدَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مَفْهُومُ الظَّرْفِ مُعْتَبَرًا هُنَا.

وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ إِنْكَاحَ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِدُونِ إِذْنِهَا وَهُوَ أَخْذٌ بِظَاهِرِهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِاسْتِئْذَانِهَا. وَلِمَنْ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ.

وَقَوْلُهُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يُرِيدُ الصَّالِحِينَ بِالنَّاسِ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ. قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ خُلُقِهِ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ قَائِلُهُ الْفَخْرَ وَالتَّمَدُّحَ، فَأَمَّا مَا كَانَ لغَرَض فِي الدِّينِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ لِدَاعٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ يُوسُفُ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: ٥٥] .

وأَشُقَّ عَلَيْكَ مَعْنَاهُ: أَكُونَ شَاقًّا عَلَيْكَ، أَيْ مُكَلِّفَكَ مَشَقَّةً، وَالْمَشَقَّةُ: الْعُسْرُ وَالتَّعَبُ وَالصُّعُوبَةُ فِي الْعَمَلِ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُوصَفَ بِالشَّاقِّ الْعَمَلُ الْمُتْعِبُ فَإِسْنَادُ أَشُقَّ إِلَى ذَاتِهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ، أَيْ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِطَ عَلَيْكَ مَا فِيهِ مَشَقَّتُكَ. وَهَذَا مِنَ السَّمَاحَةِ الْوَارِدِ فِيهَا حَدِيثُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمَحًا إِذَا اشْتَرَى..» .

وَجُمْلَةُ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِكَايَةٌ لِجَوَابِ مُوسَى عَنْ كَلَامِ شُعَيْبٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ إِلَى آخِرِهِ. وَهَذَا قَبُولُ مُوسَى لِمَا أَوْجَبَهُ شُعَيْبٌ وَبِهِ تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى الْإِجَارَةِ، أَيِ الْأَمْرُ عَلَى مَا شَرَطْتَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ. وَأَطْلَقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ وَالِارْتِبَاطِ، أَيْ كُلٌّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِهِ.

وَ(أَيَّمَا) مَنْصُوبٌ بِ قَضَيْتُ. وَ(أَيَّ) اسْمٌ مَوْصُولٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ (مَا) . وَزِيدَتْ بَعْدَهَا (مَا) لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِيرَ الْمَوْصُولُ شَبِيهًا بِأَسْمَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَأْكِيدَ مَا فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُكْسِبُهُ عُمُومًا فَيُشْبِهُ الشَّرْطَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ لَهُ جَوَابٌ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي مُنْتَهَى الْأَجَلِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ الْمُفَادُ بِجُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.

وَالْعُدْوَانُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ فَلَا تَعْتَدِي عَلَيَّ. فَنَفَى جِنْسَ الْعُدْوَانِ الَّذِي مِنْهُ عُدْوَانُ مُسْتَأْجِرِهِ. وَاسْتَشْهَدَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شُعَيْبٍ بِشَهَادَةِ اللَّهِ.

وَأَصْلُ الْوَكِيلِ: الَّذِي وُكِّلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَرَادَ هُنَا أَنَّهُ وُكِّلَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا أَخَلَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذَهُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ الْوَكِيلُ مَعْنَى الشَّاهِدِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلَيَّ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى) .

وَالْعِبْرَةُ مِنْ سِيَاقَةِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [الْقَصَص: ٢٢- ٢٨] هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْكَمَالِ وَكَيْفَ هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَلَّبَهُ فِي أَطْوَارِ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُهَا مُعَاشَرَةُ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ وَمُصَاهَرَتُهُ، وَمَا تَتَضَمَّنَهُ مِنْ خِصَالِ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ الَّتِي اسْتَكَنَّتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالرَّأْفَةِ بِالضَّعِيفِ، وَالزُّهْدِ، وَالْقَنَاعَةِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا أَسْدَى إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَفَافِ وَالرَّغْبَةِ فِي عِشْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعَمَلِ لَهُمْ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْعَهْدِ حَتَّى كَانَ خَاتِمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ من خِصَال النبوءة الَّتِي أَبْدَاهَا شُعَيْبٌ مِنْ حُبِّ الْقِرَى، وَتَأْمِينِ الْخَائِفِ، وَالرِّفْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لِيَعْتَبِرَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُمُ اعْتِبَارٌ فِي مُقَايَسَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِأَجْنَاسِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيءِ ﷺ فَيَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ مَا عَرَفُوهُ بِهِ مِنْ زَكِيِّ الْخِصَالِ قَبْلَ رِسَالَتِهِ وتقويم سيرته، وزكاء سَرِيرَته، وَإِعَانَتِهِ عَلَى نَوَائِبِ الْحق، وتزوجه بِأَفْضَل امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ، إِنْ هِيَ إِلَّا خِصَالٌ فَاذَّةٌ فِيهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَإِنْ هِيَ إِلَّا

بِوَارِقُ لِانْهِطَالِ سَحَابِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته وَلِيَأْتَسِيَ الْمُسْلِمُونَ بِالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النبوءة وَالصَّلَاح.


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٢٩]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩)

لَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِهِ غَرَضٌ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «قَضَى أَوْفَاهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ»

أَيْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَصْدُرُ مِنْ مِثْلِهِ إِلَّا الْوَفَاءُ التَّامُّ، وَوَرَدَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةِ الْأَسَانِيدِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْأَهْلُ مِنْ إِطْلَاقِهِ الزَّوْجَةُ كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا»

. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ صِهْرَهُ فِي الذَّهَابِ إِلَى مِصْرَ لِافْتِقَادِ أُخْتِهِ وَآلِهِ. وَبَقِيَّةُ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٧] إِلَّا زِيَادَةَ قَوْلِهِ: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا وَذَلِكَ مُسَاوٍ لِقَوْلِهِ هُنَا (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) .

وَالْجِذْوَةُ مثلث الْجِيم، وقرىء بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِضَمِّهَا، وَهِي الْعود الغيظ. قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ الْمُشْتَعِلُ وَهُوَ الَّذِي فِي «الْقَامُوسِ» . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَوَصْفُ الْجِذْوَةِ بِأَنَّهَا مِنَ النَّارِ وَصْفٌ مُخَصَّصٌ، وَإِنْ

كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ، ومِنْ عَلَى الْأَوَّلِ بَيَانِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي تَبْعِيضِيَّةٌ

[٣٠- ٣٢]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٣٠ الى ٣٢]

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ (٣٢)

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا مُخَالَفَةَ أَلْفَاظٍ مِثْلِ أَتاها هُنَا وجاءَها هُنَاكَ [النَّمْل: ٨] وإِنِّي أَنَا اللَّهُ هُنَا، وإِنَّهُ أَنَا اللَّهُ هُنَاكَ [النَّمْل: ٩] بِضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الْجَلَالَةِ هُنَالِكَ، وَضَمِيرِ الشَّأْنِ هُنَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَوْقِعِ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ شَأْنُهُ عَظِيمٌ.

وَقَوْلُهُ هُنَا رَبُّ الْعالَمِينَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النَّمْل: ٩] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ قِيلَتْ لَهُ حِينَئِذٍ.

وَالْقَوْلُ فِي نُكْتَةِ تَقْدِيمِ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ إِصْدَارِ أَمْرِهِ لَهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا كَالْقَوْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ لِأَنَّ وَصْفَ رَبُّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مُسَخَّرَةٌ لَهُ لِيُثَبِّتَ بِذَلِكَ قَلْبَ مُوسَى مِنْ هَوْلِ تَلَقِّي الرِّسَالَةِ.

وأَنْ أَلْقِ هُنَا وأَلْقِ هُنَاكَ [النَّمْل: ١٠]، واسْلُكْ هُنَا وَأَدْخِلْ هُنَاكَ [النَّمْل:

١٢] . وَتِلْكَ الْمُخَالَفَةُ تَفَنُّنٌ فِي تَكْرِيرِ الْقِصَّةِ لِتَجَدُّدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لَهَا، وَإِلَّا زِيَادَةَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَهَذَا وَادٍ فِي سَفْحِ الطُّورِ. وَشَاطِئُهُ:

جَانِبُهُ وَضَفَّتُهُ.

وَوَصْفُ الشَّاطِئِ بِالْأَيْمَنِ إِنْ حُمِلَ الْأَيْمَنُ عَلَى أَنَّهُ ضِدُّ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أَيْمَنُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ هِيَ الْجِهَةَ الْأَصْلِيَّةَ لِضَبْطِ الْوَاقِعِ وَهُمْ يَنْعَتُونَ الْجِهَاتِ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارِ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمُنُ صَوْبِهِ ... وَأَيْسَرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُلِ

وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى اصْطِلَاحُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَحْدِيدِ الْمَوَاقِعِ الْجُغْرَافِيَّةِ وَمَوَاقِعِ الْأَرَضِينَ، فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ يَعْنِي الْغَرْبِيَّ لِلْجَبَلِ، أَيْ جِهَةَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ الطُّورِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْيَمَنَ يَمَنًا لِأَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الْمُسْتَقْبِلِ بَابَ الْكَعْبَةِ وَسَمَّوُا الشَّامَ شَامًا لِأَنَّهُ عَلَى شَامِ الْمُسْتَقْبِلِ لِبَابِهَا، أَيْ عَلَى شَمَالِهِ، فَاعْتَبَرُوا اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ الْآتِي وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: ٤٤] .

وَأَمَّا جَعْلُهُ بِمَعْنَى الْأَيْمَنِ لِمُوسَى فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠] فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرٌ لِمُوسَى هُنَاكَ.

وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَفْضِيلٌ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ فَهُوَ كَوَصْفِهِ بِ الْمُقَدَّسِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [١٦] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً.

والْبُقْعَةِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا.

والْمُبارَكَةِ لِمَا فِيهَا مِنِ اخْتِيَارِهَا لِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى. وَقَوْلُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ نُودِيَ فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ مَصْدَرَ هَذَا النِّدَاءِ وَتَكُونُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ سَمِعَ كَلَامًا خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا نَعْتًا ثَانِيًا لِلْوَادِ أَوْ حَالًا فَتَكُونُ مِنْ اتِّصَالِيَّةً، أَيْ مُتَّصِلًا بِالشَّجَرَةِ، أَيْ عِنْدَهَا، أَيِ الْبُقْعَةِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالشَّجَرَةِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّجَرَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَعَدَلَ عَنِ التَّنْكِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلَيْسَ التَّعْرِيف للْعهد إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ الشَّجَرَةِ، وَالَّذِي فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ كَانَتْ مِنْ شَجَرِ الْعُلَّيْقِ (وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ) وَقِيلَ: هِيَ عَوْسَجَةٌ وَالْعَوْسَجُ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ أَيْضًا. وَزِيَادَةُ أَقْبِلْ وَهِيَ تَصْرِيحٌ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ لَا تَخَفْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٠] لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْبَرَ خَوْفًا مِنَ الْحَيَّةِ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ إِقْبَالِهِ فَكَانَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ إِيجَازًا وَكَانَ هُنَا مُسَاوَاةً تَفَنُّنًا فِي حِكَايَةِ الْقِصَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ هُنَا وَلَمْ يُحْكَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمُفَادِ وَلا تَخَفْ. وَفِيهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقِ أَمْنِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَجَعْلِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْآمِنِينَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ آمِنٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧] .

وَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ خَفِيَ فِيهِ مُحَصَّلُ الْمَعْنَى الْمُنْتَزَعِ مِنْ تَرْكِيبِهِ فَكَانَ مَجَالَ تَرَدُّدِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَبْيِينِهِ، وَاعْتَكَرَتْ مَحَامِلُ كَلِمَاتِهِ فَمَا

اسْتَقَامَ مَحْمَلُ إِحْدَاهَا إِلَّا وَنَاكَدَهُ مَحْمَلُ أُخْرَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ: جَنَاحٍ، وَرَهَبٍ، وَحَرْفِ مِنَ. فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تُوَصِّلُ إِلَى مُسْتَقَرٍّ. وَقَدِ اسْتُوعِبَتْ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ:

إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَإِنَّ قَوْلَهُ مِنَ الرَّهْبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَّى مُدْبِرًا عَلَى أَنَّ مِنَ حَرْفٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَدْبَرَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ مَا زَعَمُوهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ فِعْلِ وَلَّى وَبَيْنَ مِنَ الرَّهْبِ.

وَقِيلَ الْجَنَاحُ: الْيَدُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِمَّا إِلَى تَكْرِيرِ مُفَادِ قَوْلِهِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وَحَرْفُ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ. وَادِّعَاءُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» بَعِيدٌ، أَوْ يُؤَوَّلُ بِأَنْ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الصَّدْرِ يُذْهِبُ الْخَوْفَ كَمَا عُزِيَ إِلَى الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَى مُجَاهِدٍ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَهَذَا مَيْلٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَاحَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَادٌ بِهِ يَدُ الْإِنْسَانِ. وَلِلْجَنَاحِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازَاتٌ بَيْنَ مُرْسَلٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِي تَصَارِيفِ مَعَانِيهِ وَلَيْسَ وُرُودُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنًى بِقَاضٍ بِحَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ.

وَلِذَا فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذا سكن عَن الطيران أَو عَن الدفاع جعل كِنَايَة عَن سُكُون اضْطِرَاب الْخَوْف. وَيكون من هُنَا للبدلية، أَي اسكن سُكُون الطَّائِر بَدَلًا مِنْ أَنْ تَطِيرَ خَوْفًا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ قِيلَ: وَأَصْلُهُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. والرَّهْبِ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ الْخَوْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَدْعُونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا [الْأَنْبِيَاء: ٩٠] .

وَالْمَعْنَى: انْكَفِفْ عَنِ التَّخَوُّفِ مِنْ أَمْرِ الرِّسَالَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الْقَصَص: ٣٣] فَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: ٣٥] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرَّهْبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ.

فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ.

تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَصَا وَبَيَاضِ الْيَدِ. وَالْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، وإِلى لِلِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ حُجَّتَانِ عَلَى أَنْ أُرْسِلَ بِهِمَا إِلَيْهِمْ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لِتَضَمُّنِهَا أَنَّهُمْ بِحَيْثُ يُقْرَعُونَ بِالْبَرَاهِينِ فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَمَكَّنُ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ حَتَّى كَانَ كَالْجِبِلَّةِ فِيهِمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ كانُوا. وَقَوله قَوْمًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] . وَالْفِسْقُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَذانِكَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ (ذَانِكَ) عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ نُونِ فَذانِكَ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ.

وَعَلَّلَهَا النَّحْوِيُّونَ بِأَنَّ تَضْعِيفَ النُّونِ تَعْوِيضٌ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ (ذَا) وَ(تَا) الْمَحْذُوفَةِ لِأَجْلِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ»: أَنَّ التَّشْدِيدَ عِوَضٌ عَنْ لَامِ الْبُعْدِ الَّتِي تَلْحَقُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ «فَالْمُخَفَّفُ مُثَنَّى ذَاكَ وَالْمُشَدَّدُ مُثَنَّى ذَلِكَ» . وَهَذَا أحسن.

[٣٣]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٣]

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣)

جَرَى التَّأْكِيدُ عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَرِيبَةِ لِيَتَحَقَّقَ السَّامِعُ وُقُوعَهَا وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ لَهُ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [الْقَصَص:

٣٢] . وَالْمَعْنَى: فَأَخَافَ أَنْ يَذْكُرُوا قَتْلِيَ الْقِبْطِيَّ فَيَقْتُلُونِي. فَهَذَا كَالِاعْتِذَارِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رِسَالَةَ اللَّهِ لَا يُتَخَلَّصُ مِنْهَا بِعُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْنٍ إِلَهِيٍّ مِنْ أَعْدَائِهِ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةٌ لِطَلَبِ تَأْيِيدِهِ بهَارُون أَخِيه.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٤]

وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)

هَذَا سُؤَالٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى لَا يُرِيدُ بِالْأَوَّلِ التَّنَصُّلَ مِنَ التَّبْلِيغِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ تَأْيِيدَهُ بِأَخِيهِ. وَإِنَّمَا عَيَنَّهُ وَلَمْ يسْأَل مؤيدا مَا لِعِلْمِهِ بِأَمَانَتِهِ وَإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَلِأَخِيهِ وَعِلْمِهِ بفصاحة لِسَانه.

وردى بِالتَّخْفِيفِ مِثْلُ (رِدْءٍ) بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ: الْعَوْنُ. قَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَر ردى مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ رِدْءًا بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ.

ويُصَدِّقُنِي قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مَجْزُومًا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ فَأَرْسِلْهُ مَعِي. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الْهَاء من فَأَرْسِلْهُ.

وَمَعْنَى تَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي تَصْدِيقِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِيَّاهُ بِإِبَانَتِهِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُلْقِيهَا مُوسَى فِي مَقَامِ مُجَادِلَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي. فَإِنَّهُ فَرَّعَ طَلَبَ إِرْسَالِهِ مَعَهُ عَلَى كَوْنِهِ أَفْصَحَ لِسَانًا وَجَعَلَ تَصْدِيقَهُ جَوَابَ ذَلِكَ الطَّلَبِ أَوْ حَالًا مِنَ الْمَطْلُوبِ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَفْرِيعٍ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْمُفَرَّعِ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَفْصَحُ لِسَانًا. وَلَيْسَ لِلْفَصَاحَةِ أَثَرٌ فِي التَّصْدِيقِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى.

وَلَيْسَ التَّصْدِيقُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: صَدَقَ مُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَصِيحُ وَذُو الْفَهَاهَةِ. فَإِسْنَادُ التَّصْدِيقِ إِلَى هَارُونَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَالْمُصَدِّقُونَ حَقِيقَةً هُمُ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّ مُوسَى صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ.

وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ تَأْيِيدِهِ بِهَارُونَ، فَهَذِهِ مَخَافَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالْأُولَى مَخَافَةٌ من الْقَتْل.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٥]

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)

اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَيْهِ وَزَادَهُ تَفَضُّلًا بِمَا لَمْ يَسْأَلْهُ فَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَاسْتِجَابَةُ الْأُولَى بِقَوْلِهِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما، وَالتَّفَضُّلُ بِقَوْلِهِ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا، فَأَعْطَى مُوسَى مَا يُمَاثِلُ مَا لِهَارُونَ مِنَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ إِذْ قَالَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُوسَى عليه السلام مِنْ حُجَجٍ فِي مُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَهُنَا وَمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَارُونَ تَكَلَّمَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَحْلُلَ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ كَمَا فِي سُورَةِ طه، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ.

وَالشَّدُّ: الرَّبْطُ، وَشَأْنُ الْعَامِلِ بِعُضْوٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا مُتْعِبًا لِلْعُضْوِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَفَكَّكَ أَوْ يَعْتَرِيَهُ كَسْرٌ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٤٩] وَقَوْلُهُمْ: فَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَجُعِلَ الْأَخُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الرِّبَاطِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ.

وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِفَصَاحَتِهِ، فَتَعْلِيقُهُ بِالشَّدِّ مُلْحَقٌ بِبَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِيضَاحِ حُجَّتِهِ بِحَالِ تَقْوِيَةِ مَنْ يُرِيدُ عَمَلًا عَظِيمًا أَنْ يُشَدَّ عَلَى يَدِهِ وَهُوَ التَّأْيِيدُ الَّذِي شَاعَ فِي مَعْنَى الْإِعَانَةِ وَالْإِمْدَادِ، وَإِلَّا فَالتَّأْيِيدُ أَيْضًا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ. فَأَصْلُ مَعْنَى (أَيَّدَ) جَعَلَ

يَدًا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِإِيجَادِ الْإِعَانَةِ.

وَالسُّلْطَانُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَلُّطِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ، أَيْ مَهَابَةً فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَرُعْبًا مِنْكُمَا كَمَا أَلْقَى عَلَى مُوسَى مُحِبَّةً حِينَ الْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السُّلْطَانِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣] .

وَفَرَّعَ عَلَى جَعْلِ السُّلْطَانِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أَيْ لَا يُؤْذُونَكُمَا بِسُوءٍ وَهُوَ الْقَتْلُ وَنَحْوُهُ. فَالْوُصُولُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمُرَادُ: الْإِصَابَةُ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.

وَقَوْلُهُ بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآياتِنا مُتَعَلِّقًا

بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الْقَصَص: ٣٢] تَقْدِيرُهُ: إذْهَبَا بِآيَاتِنَا عَلَى نَحْوِ مَا قُدِّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ [النَّمْلِ: ١٢] وَقَوله فِي سُورَة النَّمْل بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ [النَّمْل: ١٢] أَيِ اذْهَبَا فِي تِسْعِ آيَاتٍ. وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٥] قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا، أَيْ سُلْطَانًا عَلَيْهِمْ بِآيَاتِنَا حَتَّى تَكُونَ رَهْبَتُهُمْ مِنْكُمَا آيَةً مِنْ آيَاتِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أَيْ يُصْرَفُونَ عَنْ أَذَاكُمْ بِآيَاتٍ مِنَّا

كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ»

. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ الْغالِبُونَ أَيْ تَغْلِبُونَهُمْ وَتَقْهَرُونَهُمْ بِآيَاتِنَا الَّتِي نُؤَيِّدُكُمَا بِهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِعَظَمَةِ الْآيَاتِ الَّتِي سَيُعْطَيَانِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ حَرْفَ قَسَمٍ تَأْكِيدًا لَهُمَا بِأَنَّهُمَا الْغَالِبُونَ وَتَثْبِيتًا لِقُلُوبِهِمَا.

وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالْآيَاتُ تَشْمَلُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الْمُشَاهَدَةَ مِثْلَ الْآيَاتِ التِّسْعِ، وَتَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ الْخَفِيَّةَ كَصَرْفِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى أَذَاهُمَا مَعَ مَا لَدَيْهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَوْلَا الصَّرَفَةُ مِنَ اللَّهِ لَأَهْلَكُوا مُوسَى وَأَخَاهُ.

وَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ فَيْضٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَرِسَالَةِ مُوسَى جَاءَتْهُ بَغْتَةً فَنُودِيَ مُحَمَّدٌ فِي غَارِ جَبَلِ حِرَاءٍ كَمَا نُودِيَ مُوسَى فِي جَانِبِ جَبَلِ الطُّورِ، وَأَنَّهُ اعْتَرَاهُ مِنَ الْخَوْفِ مِثْلَ مَا اعْتَرَى مُوسَى، وَأَنَّ اللَّهَ ثَبَّتَهُ كَمَا ثَبَّتَ مُوسَى، وَأَنَّ اللَّهَ يَكْفِيهِ أَعْدَاءَهُ كَمَا كَفَى مُوسَى أعداءه.

[٣٦]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٦]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)

طُوِيَ مَا بَيْنَ نِدَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَبَيْنَ حُضُورِهِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأَحْدَاثِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْعِبْرَةِ بِهِ. وَأُسْنِدَ الْمَجِيءُ بِالْآيَاتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام وَحْدَهُ دُونَ هَارُونَ لِأَنَّهُ

الرَّسُولُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي تَأْتِي الْمُعْجِزَاتُ عَلَى يَدَيْهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَاذْهَبا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٥]، وَقَوْلِهِ بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: ٣٥] إِذْ جَعَلَ تَعَلُّقَ الْآيَاتِ بِضَمِيرَيْهَا لِأَنَّ مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ مَعْنًى مُتَّسِعٌ فَالْمُصَاحِبُ لِصَاحِبِ الْآيَاتِ هُوَ مَلَابِسٌ لَهُ.

وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ هِيَ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا، أَيْ جَاءَهُمْ بِهَا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ فِي مَوَاقِعَ مُخْتَلِفَةٍ، قَالُوا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.

وَالْمُفْتَرَى: الْمَكْذُوبُ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا سِحْرًا مَكْذُوبًا أَنَّهُ مَكْذُوبٌ ادِّعَاءُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِخْفَاءُ كَوْنِهِ سِحْرًا.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَما سَمِعْنا بِهذا إِلَى ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُسْمَعُ وَأَمَّا الْآيَاتُ فَلَا تُسْمَعُ. فَمَرْجِعُ اسْمَيِ الْإِشَارَةِ مُخْتَلِفٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا مَنْ يَدْعُو آبَاءَنَا إِلَى مِثْلِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي زَمَنِ آبَائِنَا. وَقَدْ جَعَلُوا انْتِفَاءَ بُلُوغِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى آبَائِهِمْ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِهَا وَذَلِكَ آخِرُ مَلْجَأٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْمَحْجُوجُ الْمَغْلُوبُ حِينَ لَا يَجِدُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَقَّ بِدَلِيلٍ مَقْبُولٍ فَيَفْزَعُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ التلفيقات والمباهتات.

[٣٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٧]

وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)

لَمَّا قَالُوا قولا صَرِيحًا فِي تَكْذِيبِهِ وَاسْتَظْهَرُوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى شَيْء من عَلِمَهُ آبَاؤُهُمْ أَجَابَ مُوسَى كَلَامَهُمْ بِمِثْلِهِ فِي تَأْيِيدِ صِدْقِهِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَمَا عِلْمُ آبَائِهِمْ فِي جَانِبِ عِلْمِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، فَلَمَّا تَمَسَّكُوا بِعِلْمِ آبَائِهِمْ تَمَسَّكَ مُوسَى بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدِ احْتَجَّ مُوسَى بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكِلْ ذَلِكَ إِلَى هَارُونَ.

وَكَانَ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُحْكَى كَلَامُ مُوسَى بِفِعْلِ الْقَوْلِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ شَأْنَ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَخُولِفَ ذَلِكَ هُنَا بِمَجِيءِ حَرْفِ

الْعَطْفِ فِي قِرَاءَةِ

الْجُمْهُورِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّوَازُنَ بَيْنَ حُجَّةِ مَلَإِ فِرْعَوْنَ وَحُجَّةِ مُوسَى، لِيَظْهَرَ لِلسَّامِعِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي مُصَادَفَةِ الْحَقِّ وَيَتَبَصَّرَ فَسَادَ أَحَدِهِمَا وَصِحَّةَ الْآخَرِ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، فَلِهَذَا عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ غَيْرِ الْغَالِبِ للتّنْبِيه على أَن فِيهِ خُصُوصِيَّة غير الْمَعْهُودَة فِي مثله فَتكون معرفَة التَّفَاوُت بَين المحتجين محَالة عَلَى النَّظَرِ فِي مَعْنَاهُمَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ قالَ مُوسى بِدُونِ وَاوٍ وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي مُصْحَفِ أَهِلِ مَكَّةَ بِدُونِ وَاوٍ عَلَى أَصْلِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْقِرَاءَتَيْنِ الْوَفَاءُ بِحَقِّ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ مِنْ مُقْتَضَى حَالَيِ الْحِكَايَةِ. وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا آلِهَتُهُمُ الْمَزْعُومَةُ.

وَيُظْهِرُ أَنَّ الْقِبْطَ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِمُ اسْمٌ عَلَى الرَّبِّ وَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ وَلَكِنْ أَسْمَاءُ آلِهَةٍ مَزْعُومَةً.

وَعَبَّرَ فِي جَانب بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى بِفِعْلِ الْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ بِالْمُضَارِعِ لِأَنَّ الْمَجِيءَ بِالْهُدَى الْمُحَقِّقِ وَالْمَزْعُومِ أَمْرٌ قَدْ تَحَقَّقَ وَمَضَى سَوَاءٌ كَانَ الْجَائِي بِهِ مُوسَى أَمْ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ وَعُلَمَاؤُهُمْ. وَأَمَّا كِيَانُ عَاقِبَةِ الدَّارِ لِمَنْ فَمَرْجُوٌّ لِمَا يَظْهَرُ بَعْدُ. فَفِي قَوْلِهِ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى إِشْهَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَلَامٌ مُنْصِفٌ، أَيْ رَبِّي أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ الْجَائِي بِالْهُدَى أَنْحَنِ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] .

وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ تَفْوِيضٌ إِلَى مَا سَيَظْهَرُ مِنْ نَصْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الآخر وَهُوَ تَعْرِيض بِالْوَعِيدِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ.

وعاقِبَةُ الدَّارِ كَلِمَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي خَاتِمَةِ الْخَيْرِ بَعْدَ الْمَشَقَّةِ تَشْبِيهًا لِعَامِلِ الْعَمَلِ بِالسَّائِرِ الْمُنْتَجِعِ إِذَا صَادَفَ دَارَ خِصْبٍ وَاسْتَقَرَّ بِهَا وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ. فَأَصْلُ عَاقِبَةُ الدَّارِ: الدَّارُ الْعَاقِبَةُ. فَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى مَوْصُوفِهَا.

وَالْعَاقِبَةُ: هِيَ الْحَالَةُ الْعَاقِبَةُ، أَيِ الَّتِي تَعْقُبُ، أَيْ تَجِيءُ عَقِبَ غَيْرِهَا، فَيُؤْذِنُ هَذَا اللَّفْظ بتبدل حَالٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ، فَلِذَلِكَ لَا تطلق إِلَّا عَلَى الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ. وَقَدْ

تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٥] قَوْلُهُ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٢] قَوْلُهُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ وَقَوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: ٤٢] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَكُونُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَصْلِ تَأْنِيثِ لَفْظِ عاقِبَةُ الدَّارِ وَقَرَأَ

حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْخِيَارِ فِي فِعْلِ الْفَاعِلِ الْمَجَازِيِّ التَّأْنِيثِ.

وَأَيَّدَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، دَلَالَةً عَلَى ثِقَتِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ يَفُتُّ مِنْ أَعَضَادِهِمْ، وَيُلْقِي رُعْبَ الشَّكِّ فِي النَّجَاةِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهُ ذَاتُ مَعْنًى لَهُ شَأْن وخطر.

[٣٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٨]

وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨)

كَلَامُ فِرْعَوْنَ الْمَحْكِيُّ هُنَا وَاقِعٌ فِي مَقَامٍ غَيْرِ مُقَامِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ مُوسَى فَهُوَ كَلَام أقبل بِهِ على خطاب أهل مَجْلِسه إِثْر المحاورة مَعَ مُوسَى فَلِذَلِكَ حُكِيَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. فَهَذِهِ قِصَّةُ مُحَاوَرَةٍ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُوسَى فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كَمَا لَا يَخْفَى.

أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِخِطَابِهِ مَعَ مَلَئِهِ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ إِلَهِيَّتِهِ فَقَالَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي إِبْطَالًا لِقَوْلِ مُوسَى الْمَحْكِيِّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢٦] قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وَقَوْلُهُ هُنَاكَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (١) [الشُّعَرَاء:

٢٤] . فَأَظْهَرَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى لَمْ تَرُجْ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا فَقَالَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.

وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ نَفْيُ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ يُرِيهِمْ أَنَّهُ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَقٍّ فَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَعَلِمَهُ.

وَالْمَقْصُودُ بِنَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِهِ نَفْيُ وُجُودِ الْإِلَهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ مُوسَى وَهُوَ خَالِقُ

(١) فِي المطبوعة (إِن كُنْتُم تعقلون) .

الْجَمِيعِ.

وَأَمَّا آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا فَإِنَّهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ إِلَهِيَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَظْهَرُ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِمُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَخُلَاصَةُ سِرِّهِمْ، وَكُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا.

وَحَيْثُ قَالَ مُوسَى إِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ هُوَ رب السَّمَوَات فَقَدْ حَسِبَ فِرْعَوْنُ أَنَّ مَمْلَكَةَ هَذَا الرَّبِّ السَّمَاءُ تَصَوُّرًا مُخْتَلًّا فَفَرَّعَ عَلَى نَفْيِ إِلَهٍ غَيْرِهِ وَعَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الرَّبَّ الْمَزْعُومَ مَقَرُّهُ

السَّمَاءُ أَنْ أَمَرَ هامانُ وَزِيرَهُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ صَرْحًا يَبْلُغُ بِهِ عَنَانَ السَّمَاءِ لِيَرَى الْإِلَهَ الَّذِي زَعَمَهُ مُوسَى حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدْهُ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَثَبْتَ لَهُمْ عَدَمَ إِلَهٍ فِي السَّمَاءِ إِثْبَاتَ مُعَايَنَةٍ، أَرَادَ أَنْ يَظْهَرَ لِقَوْمِهِ فِي مَظْهَرِ الْمُتَطَلِّبِ لِلْحَقِّ الْمُسْتَقْصِي لِلْعَوَالِمِ حَتَّى إِذَا أَخْبَرَ قَوْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ نَتِيجَةَ بَحْثِهِ أَسْفَرَتْ عَنْ كَذِبِ مُوسَى ازْدَادُوا ثِقَةً بِبُطْلَانِ قَوْلِ مُوسَى عليه السلام.

وَفِي هَذَا الضِّغْثِ مِنَ الْجَدَلِ السُّفِسْطَائِيِّ مَبْلَغٌ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى سُوءِ انْتِظَامِ تَفْكِيرِهِ وَتَفْكِيرِ مَلْئِهِ، أَوْ مَبْلَغُ تَحَيُّلِهِ وَضَعْفِ آرَاءِ قَوْمِهِ.

وهامانُ لَقَبٌ أَوِ اسْمٌ لِوَزِيرِ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ أَنْ يَأْمُرَ هامانُ الْعَمَلَةَ أَنْ يَطْبُخُوا الطِّينَ لِيَكُونَ آجُرًّا وَيَبْنُوا بِهِ فَكُنِّيَ عَنِ الْبِنَاءِ بِمُقَدَّمَاتِهِ وَهِيَ إِيقَادُ الْأَفْرَانِ لِتَجْفِيفِ الطِّينِ الْمُتَّخَذِ آجُرًّا. وَالْآجُرُّ كَانُوا يَبْنُونَ بِهِ بُيُوتَهُمْ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ قَوَالِبَ مِنْ طِينٍ يَتَصَلَّبُ إِذَا طُبِخَ وَكَانُوا يَخْلِطُونَهُ بِالتِّبْنِ لِيَتَمَاسَكَ قَبْلَ إِدْخَالِهِ التَّنُّورَ كَمَا وَرَدَ وَصْفُ صُنْعِ الطِّينِ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.

وَابْتَدَأَ بِأَمْرِهِ بِأَوَّلِ أَشْغَالِ الْبِنَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِالشُّرُوعِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْبَنَاءِ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَ إِحْضَارِ مَوَادِّهِ فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ فِي إِحْضَارِ تِلْكَ الْمَوَادِّ الَّتِي أَوَّلُهَا الْإِيقَادُ، أَيْ إِشْعَالُ التَّنَانِيرِ لِطَبْخِ الْآجُرِّ. وَعَبَّرَ عَنِ الْآجُرِّ بِالطِّينِ لِأَنَّهُ قِوَامُ صُنْعِ الْآجُرِّ وَهُوَ طِينٌ مَعْرُوفٌ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِبِنَاءٍ مِنْ حَجَرٍ وَكِلْسٍ قَصْدًا لِلتَّعْجِيلِ بِإِقَامَةِ هَذَا الصَّرْحِ الْمُرْتَفِعِ إِذْ لَيْسَ مَطْلُوبًا طُولُ بَقَائِهِ بِإِحْكَامِ بِنَائِهِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ بَلِ الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْوُصُولِ إِلَى ارْتِفَاعِهِ كَيْ يَشْهَدَهُ النَّاسُ، وَيَحْصُلَ الْيَأْسُ ثُمَّ يُنْقَضُ مِنَ الْأَسَاسِ.

وَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالْآجُرِّ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ»: لِأَنَّ كَلِمَةَ الْآجُرِّ وَنَحْوِهَا كَالْقَرْمَدِ وَالطُّوبِ كَلِمَاتٌ مُبْتَذَلَةٌ فَذُكِرَ بِلَفْظِ الطِّينِ اه. وَأُظْهِرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ:

أَنَّ الْعُدُولَ إِلَى الطِّينِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ وَأَفْصَحُ.

وَإِسْنَادُ الْإِيقَادِ عَلَى الطِّينِ إِلَى هَامَانَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ: بَنَى السُّلْطَانُ قَنْطَرَةً وَبَنَى الْمَنْصُورُ بَغْدَادَ.

وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَامَانَ آنِفًا وَأَنَّهُ وَزِيرُ فِرْعَوْنَ. وَكَانَتْ أَوَامِرُ الْمُلُوكِ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ تُصْدَرُ بِوَاسِطَةِ الْوَزِيرِ فَكَانَ الْوَزِيرُ هُوَ الْمُنَفِّذَ لِأَوَامِرَ الْمَلِكِ بِوَاسِطَةِ أَعْوَانِهِ مِنْ كِتَّابٍ وَأُمَرَاءَ وَوُكَلَاءَ وَنَحْوِهِمْ، كُلٌّ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ.

وَالصَّرْحُ: الْقَصْرُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ

فِي

سُورَةِ النَّمْلِ [٤٤] .

وَرَجَا أَنْ يَصِلَ بِهَذَا الصَّرْحِ إِلَى السَّمَاءِ حَيْثُ مَقَرُّ إِلَهِ مُوسَى. وَهَذَا مِنْ فَسَادِ تَفْكِيرِهِ إِذْ حَسِبَ أَنَّ السَّمَاءَ يُوصَلُ إِلَيْهَا بِمِثْلِ هَذَا الصَّرْحِ مَا طَالَ بِنَاؤُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَقِرٌّ فِي مَكَانٍ مِنَ السَّمَاءِ.

وَالِاطِّلَاعُ: الطُّلُوعُ الْقَوِيُّ الْمُتَكَلَّفُ لِصُعُوبَتِهِ.

وَقَوْلُهُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ فَكَانَتْ مُحَاوَلَتُهُ الْوُصُولَ إِلَى السَّمَاءِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ ظَنِّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقْنِعَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَذَا تَمْوِيهَ الْأَمْرِ عَلَى قَوْمِهِ لِيُلْقِيَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مُوسَى ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ يَبْلُغُ إِلَيْهِ ارْتِفَاعُ صَرْحِهِ. ثُمَّ يَجْعَلَ عَدَمَ الْعُثُورِ عَلَى الْإِلَهِ فِي ذَلِكَ الِارْتِفَاعِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُجُودِ الْإِلَهِ الَّذِي ادَّعَاهُ مُوسَى. وَكَانَتْ عَقَائِدُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ قَائِمَةً عَلَى التَّخَيُّلِ الْفَاسِدِ، وَكَانَتْ دَلَائِلُهَا قَائِمَةً عَلَى تَمْوِيهِ الدَّجَّالِينَ مِنْ زُعَمَائِهِمْ.

وَقَوْلُهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعُدُّهُ مِنَ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ الْكَذِبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: ٦٧] .

وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ هَذَا الصَّرْحَ بُنِيَ، وَلَيْسَ هُوَ أَحَدَ الْأَهْرَامِ لِأَنَّ الْأَهْرَامَ بُنِيَتْ

مِنْ حِجَارَةٍ لَا مِنْ آجُرٍّ، وَلِأَنَّهَا جُعِلَتْ مَدَافِنَ لِلَّذِينَ بَنَوْهَا مِنَ الْفَرَاعِنَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ وَقَعَ بِنَاءُ هَذَا الصَّرْحِ وَتَمَّ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَمَّ وَصَعِدَ فِرْعَوْنُ إِلَى أَعْلَاهُ وَنَزَلَ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَتَلَ رَبَّ مُوسَى. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّرْحَ سَقَطَ قَبْلَ إِتْمَامِ بِنَائِهِ فَأَهْلَكَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ عَمَلَةِ الْبِنَاءِ وَالْجُنْدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي بِنَائِهِ. وَقَدْ لَاحَ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ سَأَذْكُرُهُ فِي سُورَة الْمُؤمن.

[٣٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٣٩]

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)

الِاسْتِكْبَارُ: أَشَدُّ مِنَ الْكِبْرِ، أَيْ تَكَبَّرَ تَكَبُّرًا شَدِيدًا إِذْ طَمِعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ وُصُولَ الْغَالِبِ أَوِ الْقَرِينِ.

وجُنُودُهُ: أَتْبَاعُهُ. فَاسْتِكْبَارُهُ هُوَ الْأَصْلُ وَاسْتِكْبَارُ جُنُودِهِ تَبَعٌ لِاسْتِكْبَارِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَيَتَلَقَّوْنَ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ.

والْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْهُودَةُ، أَيْ أَرْضُ مِصْرَ وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، أَيْ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ أَعْظَمَ أُمَمِ الْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ حَال لَازِمَةٌ لِعَامِلِهَا إِذْ لَا يَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ.

وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ مَعْلُومٌ بِالْفَحْوَى مِنْ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِهِ لِأَهَمِّيَّةِ إِبْطَالِهِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْفَحْوَى، وَلِأَنَّ فِي التَّصْرِيحِ بِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَيِّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتٍ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ يُلَقَّبُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْذًا مِنْ تَعْرِيضَاتِ الْقُرْآنِ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: ظَنُّوا أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا رُجُوعَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ. فَذِكْرُ إِلَيْنا لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ اللَّهِ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْنا عَلَى عَامِلِهِ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا كَمَا

دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢٤، ٢٥] قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ اسْتِعْجَابًا مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ فَقَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: ٣٢] .

قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَا يُرْجَعُونَ بِفَتْحِ يَاءِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ (رَجَعَ) . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا مِنْ (أُرْجِعَ) إِذَا فُعِلَ بِهِ الرُّجُوع.

[٤٠]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٠]

فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)

أَيْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْنَا فَعَجَّلْنَا بِهَلَاكِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى حُكْمِهِ وَعِقَابِهِ، وَيَعْقُبُهُ رُجُوعُ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى عِقَابِهِ، فَلِهَذَا فَرَّعَ عَلَى ظَنِّهِمْ ذَلِكَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ أُخِذَ وَجُنُودُهُ. وَجَعَلَ هَذَا التَّفْرِيعَ كَالِاعْتِرَاضِ بَيْنَ حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ.

وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْفَخْمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ شَأْنِ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ يتَضَمَّن اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً: شُبِّهَ هُوَ وَجُنُودُهُ بِحَصَيَاتٍ أَخَذَهُنَّ فِي كَفِّهِ فَطَرَحَهُنَّ فِي الْبَحْرِ. وَإِذَا حُمِلَ الْأَخْذُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ

تَشْبِيهًا بِقَبْضَةٍ تُؤْخَذُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة:

١٤] وَقَوْلِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: ٦٧] . وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَوْلُهُ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ اعْتِبَارٌ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ بِالِاسْتِكْبَارِ عَن سَماع دَعوته. وَهَذَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ فَيَقِيسُوا حَالَ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِحَالِ دَعْوَةِ مُوسَى عليه السلام وَيَقِيسُوا حَالَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْن وَقَومه، فَيُوقِنُوا بِأَنَّ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْ عِقَابٍ سَيُصِيبُهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَحَلِّ الْعِبْرَةِ بِهَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا

بَيِّناتٍ [الْقَصَص: ٣٦] لِيَعْتَبِرَ النَّاسُ بِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَاحِدٌ فَإِنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ دُعَاةَ الْخَيْرِ بِالْإِعْرَاضِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَاخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ فَكَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] قَالَتْ قُرَيْشٌ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [ص: ٧] أَيِ الَّتِي أَدْرَكْنَاهَا.

وَكَمَا طَمِعَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى اللَّهِ اسْتِكْبَارًا مِنْهُ فِي الْأَرْضِ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الْفرْقَان: ٢١] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ كَمَا ظَنَّ أُولَئِكَ فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا أصَاب أُولَئِكَ.

[٤١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤١]

وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ [الْقَصَص: ٣٩] أَيِ اسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَنْصُرُونَ الضَّلَالَ وَيَبُثُّونَهُ، أَيْ جَعَلْنَاهُ وَجُنُودَهُ أَيِمَّةً لِلضَّلَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ فَكَأَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَكُلٌّ يَدْعُو بِمَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدُهُ فَدَعْوَةُ فِرْعَوْنَ أَمْرُهُ، وَدَعْوَةُ كَهَنَتِهِ بِاخْتِرَاعِ قَوَاعِدِ الضَّلَالَةِ وَأَوْهَامِهَا، وَدَعْوَةُ جُنُودِهِ بِتَنْفِيذِ ذَلِكَ والانتصار لَهُ.

وَالْأَئِمَّة: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي عَمَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ قَالَ تَعَالَى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الْأَنْبِيَاء: ٧٣] . وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ أَيِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ: خَلْقُ نُفُوسِهِمْ مُنْصَرِفَةً إِلَى الشَّرِّ وَمُعْرِضَةً عَنِ الْإِصْغَاءِ لِلرُّشْدِ وَكَانَ وُجُودُهُمْ بَيْنَ نَاسٍ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ. فَالْجَعْلُ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ بِجَعْلِ أَسْبَابِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ لِإِرْشَادِهِمْ فَلَمْ

يَنْفَعْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.

وَالدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُوقِعُ فِي النَّارِ فَهِيَ دَعْوَةٌ إِلَى النَّار بالمئال. وَإِذَا كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالْأَحْرَى فَلِذَلِكَ قَالَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ أَيْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُهُمْ فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ النَّارِ. وَمُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ هِيَ أَنَّ الدُّعَاءَ يَقْتَضِي جُنْدًا وَأَتْبَاعًا يَعْتَزُّونَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجْدُونَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [الْبَقَرَة: ١٦٧] .

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٢]

وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)

إِتْبَاعُهُمْ بِاللَّعْنَةِ فِي الدُّنْيَا جَعْلُ اللَّعْنَةِ مُلَازِمَةً لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدَّرَ لَهُمْ هَلَاكًا لَا رَحْمَةَ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ بِالْإِتْبَاعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ التَّابِعَ لَا يُفَارِقُ مَتْبُوعَهُ، وَكَانَت تِلْكَ عَاقِبَةُ تِلْكَ اللَّعْنَةِ إِلْقَاءَهُمْ فِي الْيَمِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّعْنَةِ لَعْنُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ، يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَلْعَنُونَهُمْ.

وَجَزَاؤُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَالْمَقْبُوحُ الْمَشْتُومُ بِكَلِمَةِ (قُبِّحَ)، أَيْ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَوِ النَّاسُ، أَيْ جَعَلَهُ قَبِيحًا بَيْنَ النَّاسِ فِي أَعْمَالِهِ أَيْ مَذْمُومًا، يُقَالُ: قَبَحَهُ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ فَهُوَ مَقْبُوحٌ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْقَبِيحِ فَهُوَ مُقَبَّحٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ مِمَّا قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: «فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ» أَيْ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلِي قَبِيحًا عِنْدَهُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَى الدُّنْيَا بِ هذِهِ لِتَهْوِينِ أَمْرِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ.

وَالتَّخَالُفُ بَيْنَ صِيغَتَيْ قَوْلِهِ وَأَتْبَعْناهُمْ وَقَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا قَدِ انْتَهَى أَمْرُهَا بِإِغْرَاقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ لَعْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ فِي أَحْيَانِ يَذْكُرُونَهُمْ، فَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَجِيءَ مَعَهُ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَمَّا تَقْبِيحُ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ دَائِمٌ مَعَهُمْ مُلَازِمٌ لَهُمْ فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ الدَّوَامَ وَالثَّبَاتَ.

وَضَمِيرُ هُمْ فِي قَوْلِهِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرُ مُبْتَدَأٍ وَبِهِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً دَالَّةً عَلَى ثَبَاتِ التَّقْبِيحِ لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة.

[٤٣]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٣]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)

الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ [الْقَصَص: ٣٠] إِلَى هُنَا الِاعْتِبَارُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ الْقَائِلِينَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] لِيُقَاسَ النَّظِيرُ

عَلَى النَّظِيرِ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ حَقًّا لَكَانَ أُرْسِلَ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ قَبْلِهِ، وَلَمَا كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ الْأَجْيَالَ الَّتِي قَبْلَهُمْ بِدُونِ رِسَالَةِ رَسُولٍ ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الْجِيلِ الْأَخِيرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِتْمَامًا لِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِرِسَالَةِ مُوسَى عليه السلام فِي أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ لَا رِسَالَةَ فِيهَا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبْقَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ شَيْءٌ وَاقِعٌ بِشَهَادَةِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهُمْ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مُتَعَاقِبِينَ بَلْ كَانُوا يَجِيئُونَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] إِبْطَالَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِعِلَّةِ تَأَخُّرِ زَمَانِهَا سَفْسَطَةً وَوَهَمًا فَإِنَّ دَلِيلَهُمْ مَقْدُوحٌ فِيهِ بِقَادِحِ الْقَلْبِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءُوا إِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ جَاءَ مُوسَى بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا بَهَرَهُمْ أَمْرُ الْإِسْلَامِ لَاذُوا بِالْيَهُودِ يَسْتَرْشِدُونَهُمْ فِي طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ الدِّينِيَّةِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَخْلِطُونَ مَا يُلَقِّنُهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ أَيِمَّةِ الشِّرْكِ فَيَأْتُونَ بِكَلَامٍ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] وَهُوَ مِنْ مُجَادَلَاتِ الْأُمِّيِّينَ، وَمرَّة يَقُولُونَ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وَهُوَ من تلقين الْيَهُود، وَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، فَكَانَ الْقُرْآنُ يَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ بِحُجَّةِ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمْ تَنَاقُضَ مَقَالَاتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ حُجَّةٌ بِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ذِكْرُ الْقُرُونِ الْأُولَى.

وَأَمَّا ذِكْرُ إِهْلَاكِهِمْ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلنِّذَارَةِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى تَخَلُّصٌ مِنْ قِصَّةِ بِعْثَةِ مُوسَى عليه السلام إِلَى تَأْيِيدِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ (مِنْ بَعْدِ الْقُرُونَ الْأُولَى) .

ثُمَّ إِنَّ الْقُرْآنَ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ حِكْمَةِ الْفِتَرِ الَّتِي تَسْبِقُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي الْإِرْسَالِ عَقِبَهَا لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ نَقْضِ حُجَّةِ الْمُبْطِلِينَ

لِلرِّسَالَةِ أَوِ اكْتِفَاءً

بِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْفَصْلِ بِالْفِتَرِ فَشَيْءٌ فَوْقَ مَرَاتِبِ عُقُولِهِمْ. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إِلَى بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِرْسَالِ عَقِبَ الْفَتْرَةِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِتَكْذِيبِهَا رُسُلَ اللَّهِ.

فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُحْتَاجَ مَعَهُمْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ، فَمَوْقِعُ التَّأْكِيدِ هُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.

والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى عليه السلام. وَالْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ. سُمِّيَ بَصِيرَةً اشْتِقَاقًا مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ، وَجُعِلَ الْكِتَابُ بَصَائِرَ بِاعْتِبَارِ عِدَّةِ دَلَائِلِهِ وَكَثْرَةِ بَيِّنَاتِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] .

والْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ، قَالَ تَعَالَى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَام: ٦] .

وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»

. وَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَدْيِهِ مِثْلِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، وهُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَلِمَنْ يَقْتَبِسُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ تَحْذِيرُهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.

وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ فَكَذَلِكَ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ لَكُمْ هُدًى وَرَحْمَةٌ لَعَلَّكُمْ تتذكرون.

[٤٤]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٤]

وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)

لَمَّا بَطَلَتْ شُبْهَتُهُمُ الَّتِي حَاوَلُوا بِهَا إِحَالَةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَذَلِكَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ رِسَالَةِ

مُوسَى مِمَّا لَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهِ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فِي قِصَّةِ مُوسَى إِلَى الصَّرِيحِ من إِثْبَات نبوءة مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَجِيءَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ حَيْثُ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاء كَون النبيء عليه الصلاة والسلام مَوْجُودًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَضَى اللَّهُ فِيهِ أَمْرَ الْوَحْيِ إِلَى مُوسَى، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مِثْلَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُ مَفْقُودٌ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِهِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ بِأَخْبَارِ الرُّسُلِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا انْتَفَى طَرِيقُ الْعِلْمِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِهِ هُوَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِخَبَرِ مُوسَى.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ نَفْيًا لِوُجُودِهِ هُنَاكَ وَحُضُورِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَهْلُ الشَّهَادَةِ، أَيِ الْخَبَرِ الْيَقِينِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِكَتْمِهِمْ بَعْضَ مَا تَتَضَمَّنُهُ التَّوْرَاةُ من الْبشَارَة بالنبيء ﷺ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٤٠] . وَالْمَعْنَى مَا كُنْتَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَلَا مِمَّنْ تَلَقَّى أَخْبَارَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ كُتُبِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِكَ بِذَلِكَ وَحْيُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ: هُوَ أَمْرُ النُّبُوءَةِ لِمُوسَى إِذْ تَلَقَّاهَا مُوسَى.

وَقَوْلُهُ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَأَصْلُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِنْ أَنْكَرَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ وَأَكْثَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْحَقُّ جَوَازُهُ.

وَالْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا بِوَصْفِ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [الْقَصَص: ٣٠] أَيْ عَلَى بَيْتِ الْقِبْلَةِ.

[٤٥]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٥]

وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)

وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ.

خَفِيَ اتِّصَالُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا وَتَعْقِيبًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ.

فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَص:

٤٣] مَسُوقٌ مَسَاقَ إِبْطَالِ تَعْجَبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ حِينَ لَمْ يَسْبِقْهَا رِسَالَةُ رَسُولٍ

إِلَى آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى كَذَلِكَ بَعْدَ فَتْرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى أَثَارُوا مِثْلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] فَكَمَا كَانَتْ رِسَالَةُ مُوسَى عليه السلام بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ كَذَلِكَ كَانَتْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ. فَالْمَعْنَى: فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ حَقِيقِينَ بِأَنْ يُنَظِّرُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْشَأَ قُرُونًا أَيْ أُمَمًا بَيْنَ زَمَنِ مُوسَى وَزَمَنِهِمْ فَتَطَاوَلَ الزَّمَنُ فَنَسِيَ الْمُشْرِكُونَ رِسَالَةَ مُوسَى فَقَالُوا مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ [ص: ٧] . وَحَذْفُ بَقِيَّةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ تَقْدِيرُ: فَنَسُوا، لِلْإِيجَازِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ حِينَ صَارُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [الْمَائِدَة:

١٣]، وَقَالَ عَنِ النَّصَارَى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [الْمَائِدَة: ١٤] وَقَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيد: ١٦]، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا إِلَى الْقُرُونِ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [الْقَصَص: ٤٣] وَأَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَذَا اسْتِطْرَادٌ. وَهَذَا أَحْسَنُ فِي بَيَانِ اتِّصَالِ الِاسْتِدْرَاكِ مِمَّا احْتَفَلَ بِهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» . وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي اسْتِشْعَارِهِ، وَشَكَرَ اللَّهُ مَبْلَغَ جُهْدِهِ. وَهُوَ بِهَذَا مُخَالِفٌ لِمَوْقِعِ الِاسْتِدْرَاكَيْنِ الْآتِيَيْنِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَقَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الْقَصَص: ٤٦] . والْعُمُرُ الْأَمَدُ كَقَوْلِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ [يُونُس: ١٦] .

وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ.

هَذَا تَكْرِيرٌ لِلدَّلِيلِ بِمَثَلٍ آخَرَ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَص: ٤٤] أَيَّ مَا كُنْتَ مَعَ مُوسَى فِي وَقْتِ التَّكْلِيمِ وَلَا كُنْتَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ إِذْ جَاءَهُمْ مُوسَى وَحَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُعَيْبٍ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ.

وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ.

وَضَمِيرُ عَلَيْهِمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لِأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ يَتْلُو آيَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، الْآيَاتُ الْمُتَضَمِّنَةُ قِصَّةَ مُوسَى فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٢- ٢٩] . وَبِمِثْلِ

هَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُقَاتِلٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لَكَانَ أَنْ يُقَالَ: تَشْهَدُ فِيهِمْ آيَاتنَا.

وَجُمْلَة تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كُنْتَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهَا مَعَ زَمَنِ عَامِلِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كَمَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُونَ فَإِذَا قَفَلُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ أَخَذُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا شَاهَدُوا فِي الْبِلَادِ الْأُخْرَى.

وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ظَاهِرٌ، أَيْ مَا كُنْتَ حَاضِرًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَتَعْلَمَ خَبَرَ مُوسَى عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَكَ بِوَحْيِنَا فَعَلَّمْنَاكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا.

وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَا بِذَلِكَ، إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَهَمَّ هُوَ إِثْبَاتُ وُقُوعِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَمْثَالِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] وَتُعْلَمَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ مَعَ مَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا [الْقَصَص: ٤٦] الْآيَةَ فَالِاحْتِجَاجُ وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تَحَدٍّ بِمَا علمه النبيء عليه الصلاة والسلام مِنْ خَبَرِ الْقِصَّة الْمَاضِيَة.

[٤٦]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٦]

وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)

جَانِبُ الطُّورِ: هُوَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ، وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ الْمُتَقَدِّمُ وَصَفَهُ بِذَيْنِكَ

الْوَصْفَيْنِ، فَعُرِّيَ عَنِ الْوَصْفِ هُنَا لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرُوفًا، وَقُيِّدَ الْكَوْنُ الْمَنْفِيُّ بِظَرْفِ نادَيْنا أَيْ بِزَمَنِ نِدَائِنَا.

وَحَذْفُ مَفْعُولِ النِّدَاءِ لِظُهُورِ أَنَّهُ نِدَاءُ مُوسَى مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ النِّدَاءُ لِمِيقَاتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَإِنْزَالُ أَلْوَاحِ التَّوْرَاةِ عَقِبَ تِلْكَ الْمُنَاجَاةِ كَمَا حُكِيَ فِي الْأَعْرَافِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الطُّورِ إِذْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ الطُّورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠] وَهُوَ نَفْسُ الْمَكَانِ الَّذِي نُودِيَ فِيهِ مُوسَى لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فِي رُجُوعِهِ مِنْ دِيَارِ مَدْيَنَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالنِّدَاءُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ هُنَا إِذْ نادَيْنا غَيْرُ النِّدَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [الْقَصَص: ٣٠] الْآيَةَ لِئَلَّا يكون تَكْرَارا مَعَ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ

بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ

[الْقَصَص: ٤٤] . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بِمَا علمه النبيء ﷺ مِنْ خَبَرِ اسْتِدْعَاءِ مُوسَى عليه السلام لِلْمُنَاجَاةِ. وَتِلْكَ الْقِصَّةُ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِثْلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.

وَقَوْلُهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ كَلِمَةُ لكِنْ بِسُكُونِ النُّونِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ فَهِيَ حَرْفٌ لَا عَمَلَ لَهُ فَلَيْسَ حَرْفَ عَطْفٍ لِفِقْدَانِ شَرْطَيْهِ: تَقَدُّمِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ، وَعَدَمِ الْوُقُوعِ بَعْدَ وَاوِ عَطْفٍ. وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ لكِنْ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِدْرَاكِ لَا عَمَلَ لَهُ وَهُوَ مُعْتَرِضٌ.

وَالْوَاوُ الَّتِي قَبْلَ لكِنْ اعْتِرَاضِيَّةٌ.

وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ناشىء عَنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ عَلَى مَعْنَى: مَا كَانَ عِلْمُكَ بِذَلِكَ لِحُضُورِكَ، وَلَكِنْ كَانَ عِلْمُكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.

فَانْتِصَابُ رَحْمَةً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلِ نَصْبٍ مَأْخُوذٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ نَفِيُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ، وَالتَّقْدِيرُ:

وَلَكِنْ كَانَ عَلَمُكَ رَحْمَةً مِنَّا وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ:

وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً بِأَنْ عَلَّمْنَاكَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ رَحْمَةً، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَحْمَةً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَعْمُولًا لِفِعْلِ لِتُنْذِرَ فَيَكُونُ فِعْلُ لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقًا بِكَوْنِ مَحْذُوفٍ هُوَ مَصَبُّ الِاسْتِدْرَاكِ. وَفِي هَذِهِ التَّقَادِيرِ تَوْفِيرُ مَعَانٍ وَذَلِكَ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ. وَعُدِلَ عَنْ: رَحْمَةً مِنَّا، إِلَى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بِالْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مَعْنَى الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْعِنَايَةِ بِهِ عِنَايَةَ الرَّبِّ بِالْمَرْبُوبِ.

وَيَتَعَلَّقُ لِتُنْذِرَ قَوْمًا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَصْدَرُ رَحْمَةً عَلَى الْوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْقَوْمُ: قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ، فَهُمُ الْمُخَاطِبُونَ ابْتِدَاءً بِالدِّينِ وَكُلُّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عليهما السلام فَكَانَا نَذِيرَيْنِ حِينَ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ مَوْجُودَةً يَوْمَئِذَ وَلَا قَبَائِلُ الْعَرَبِ الْعَدْنَانِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَحْطَانِيَّةُ فَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ نَسَبِ قُرَيْشٍ كَانَ مِنْ عَدْنَانَ وَعَدْنَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ.

وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى قُرَيْشٍ أَوْ عَلَى الْعَرَبِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهَا النَّبِيءُ ﷺ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ أَوْفَى إِذْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ شَرِيعَةٌ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ نِظَامُهُمْ مُخْتَلًّا غَيْرَ مَشُوبٍ

بِإِثَارَةٍ مِنْ شَرِيعَةٍ مَعْصُومَةٍ، فَكَانُوا فِي ضَرُورَةٍ إِلَى إِرْسَالِ نَذِيرٍ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِكُفْرَانِهِمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ النِّذَارَةِ بِهِمْ وَلَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ أَنْذَرَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِهِ مِثْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَهْلِ مَدْيَنَ.

وَفِي قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ مَعَ قَوْلِهِ مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا بِالْكُفْرِ حَدًّا لَا يَتَجَاوَزُهُ حِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالتَّذَكُّرُ: هُوَ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي دَعَتْ إِلَى حِكْمَةِ إِنْذَارِهِمْ وَهِيَ تَنَاهِي ضَلَالِهِمْ فَوْقَ جَمِيعِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ جَمَعُوا إِلَى الْإِشْرَاكِ مَفَاسِدَ جَمَّةً مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، وَارْتِزَاقٍ بِالْغَارَاتِ وَبِالْمُقَامَرَةِ، وَاخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَانْتِهَاكِ الْأَعْرَاضِ. فَوَجَبَ تَذْكِيرُهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ حَالِهِمْ.

وَتَقَدَّمَ آنِفًا نَظِيرُ قَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

[٤٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٧]

وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)

هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص:

٤٦]، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ.

ولَوْلا الْأُولَى حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ انْتِفَاءُ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ حَرْفٌ يَلْزَمُ الِابْتِدَاءَ فَالْوَاقِعُ بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الْوَاقِعِ بَعْدَ لَوْلا وَاجِبُ الْحَذْفِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكَوْنٍ عَامٍّ. وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَفِعْلِ تُصِيبَهُمْ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ، وَقَدْ عُقِبَ الْفِعْلُ الْمَسْبُوكُ بِمَصْدَرٍ بِفِعْلٍ آخَرَ وَهُوَ فَيَقُولُوا، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي الِانْسِبَاكِ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. فَهَذَا الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [الْبَقَرَة: ٢٨٢] فَالْمَقْصُودُ هُوَ «أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» .

وَإِنَّمَا حِيكَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا إِلَخْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ إِلَى آخِرِهِ، لِنُكْتَةِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ إِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَإِ دُونَ مَوْضِعِ الظَّرْفِ لِتُسَاوِيَ الْمُبْتَدَأَ الْمَقْصُودَ مِنْ جُمْلَةِ شَرْطِ لَوْلا فَيُصْبِحَ هُوَ

وَظَرْفُهُ عُمْدَتَيْنِ فِي الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: وَلَوْلَا إِصَابَتُهُمْ بِمُصِيبَةٍ يَعْقُبُهَا قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَخْ لَمَا عَبَأْنَا بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ عِنَادٍ وتصميم على الْكفْر.

فَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: ٤٤- ٤٦]، أَيْ وَلَكِنَّا أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِكَ لِنَقْطَعَ مَعْذِرَتَهُمْ. وَجَوَابُ لَوْلا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ لَوْلَا الرَّحْمَةُ بِهِمْ بِتَذْكِيرِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ لَكَانُوا مُسْتَحِقِّينَ حُلُولَ الْمُصِيبَةِ بِهِمْ.

ولَوْلا الثَّانِيَةُ حَرْفُ تحضيض، أَي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَنَا بِعَذَابٍ فَتُصْلِحَ أَحْوَالَنَا وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا. وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ (بِأَنْ) مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا فِي جَوَابِ التَّحْضِيضِ.

وَضَمِيرُ تُصِيبَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا سَلَفَ مِنَ الشِّرْكِ.

وَالْمُصِيبَةُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، أَيْ يَحِلُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَغَلَبَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى.

وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ عُقُوبَةٌ كَانَ سَبَبُهَا مَا سَبَقَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٢] . وَهِي مَا يجترجونه مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاحِشَةِ.

وَ(مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا عَمِلُوهُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ.

وَالْأَيْدِي مُسْتَعَارٌ لِلْعُقُولِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفْرِ. فَشُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْقَلْبِيُّ بِفِعْلِ الْيَدِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا.

وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَا بَيَّنَهُ أَصْحَابُ طَرِيقَتِهِ مِثْلُ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ذَنْبَ الْإِشْرَاكِ لَا عُذْرَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الله قد دعِي إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ عَهْدِ آدَمَ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ عَاقِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ إِذْ أَخَذَ عَهْدَهُ

بِهِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢] .

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَرْأَفُ بِعِبَادِهِ إِذَا طَالَتِ السُّنُونَ وَانْقَرَضَتِ الْقُرُونُ وَصَارَ النَّاسُ مَظِنَّةَ الْغَفْلَةِ فَيَتَعَهَّدُهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ وَلِيُشَرِّعُوا لَهُمْ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ.

فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ انْقَرَضُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُؤَاخَذُونَ بِشِرْكِهِمْ وَمُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ،

وَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ مُسْتَحِقُّونَ عَذَابَ الدُّنْيَا زِيَادَةً عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: ٢١] .

وَأَمَّا الْفِرَقُ الَّذِينَ يُعِدُّونَ دَلِيلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَقْلِيًّا مِثْلَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ بِبَعِيد.

[٤٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٤٨]

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨)

الْفَاءُ فَصِيحَةٌ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:

قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا

وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ مَعْذِرَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِالْحَقِّ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ لَفَّقُوا الْمَعَاذِيرَ وَقَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى.

والْحَقُّ: هُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى.

وَإِثْبَاتُ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَقِّ بِشَخْصٍ وَتَشْبِيهِ سَمَاعِهِ بِمَجِيءِ الشَّخْصِ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا الْجَائِي الرَّسُولُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَقِّ لِإِدْمَاجِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ.

وَلَمَّا بَهَرَتْهُمْ آيَاتُ الرَّسُولِ ﷺ لَمْ يَجِدُوا مِنَ الْمَعَاذِيرِ إِلَّا مَا لَقَّنَهُمُ الْيَهُودُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى، أَيْ بِأَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ مِثْلَ آيَاتِ مُوسَى الَّتِي يَقُصُّهَا عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ وَقَصَّ بَعْضَهَا الْقُرْآنُ.

وَضَمِيرُ يَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا [الْقَصَص: ٤٦] لِتَتَنَاسَقَ الضَّمَائِرُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ [الْقَصَص: ٤٧] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ أَمْثَالُهُ.

فَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى هُوَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ

فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا مِنْ إِلْزَامِ الْمُمَاثِلِ بِفِعْلٍ مَثِيلِهِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ فَتَكُونُ أُصُولُ تَفْكِيرِهِمْ وَاحِدَةً وَيِتَّحِدُ بُهْتَانُهُمْ، فَإِنَّ الْقِبْطَ أَقْدَمُ مِنْهُمْ فِي دِينِ الشِّرْكِ فَهُمْ أُصُولُهُمْ فِيهِ وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَيَقُولُ بُقُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣] أَيْ مُتَمَاثِلُونَ فِي سَبَبِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ فَلَا يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَصِيَّةِ بَعْضٍ بِأُصُولِ الْكُفْرِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرّوم: ٢- ٣ ثُمَّ قَالَ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: ٤- ٥] أَيْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِذْ نَصَرَ الْمُمَاثِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الرُّومُ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ.

فَقَوْلُهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَوْ مِنِ اضْطِرَابِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَمَرَّةً يَكُونُونَ مُعَطِّلِينَ وَمَرَّةً يَكُونُونَ مُشْتَرِطِينَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ قَاطِبَةً. وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا مِنْ قَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا سَمِعُوا قِصَّتَهُمَا أَوْ فِي مُوسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَهُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما [الْقَصَص: ٤٨- ٤٩] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاحِرَانِ تَثْنِيَةَ سَاحِرٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قالُوا سِحْرانِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ قَالُوا: هُمَا ذَوَا سِحْرٍ.

وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ.

وَالتَّنْوِينُ فِي بِكُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِمَّا بِكُلٍّ مِنَ السَّاحِرَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بِكُلِّ مَنِ ادَّعَى رِسَالَةً وَهُوَ أَنْسَبُ بُقُولِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] .

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)

أَيْ أَجِبْ كَلَامَهُمُ الْمَحْكِيَّ مِنْ قَوْلهم ساحران [الْقَصَص: ٤٨] وَقَوْلهمْ إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ [الْقَصَص: ٤٨] .

وَوَصْفُ (كِتَابٍ) بِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِدْمَاجٌ لِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ بِأَنَّهُمَا كِتَابَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْرَاةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَسْفَارُ الْأَرْبَعَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُوسَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى مُوسَى أَوْ مِنْ إِسْنَادِ مُوسَى أَمْرًا إِلَى اللَّهِ لَا كُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسْفَارُ فَإِنَّ فِيهَا قَصَصًا وَحَوَادِثَ مَا هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لِلْمُصْحَفِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِالتَّحْقِيقِ وَلَا يُقَالُ لِأَسْفَارِ الْعَهْدَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ إِلَّا عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمُرْسَلَانِ بِكِتَابَيِ الْعَهْد. وَقد تحداهم الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْهُدَى بِبَلَاغَةِ نَظْمِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقِ هُوَ مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.

فَمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ، أَيْ إِلَى الدِّينِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا التَّحَدِّي، فَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ إِلَّا إِتْبَاعٌ لِلْهَوَى وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ يَقْتَضِي دُعَاءً وَلَا دُعَاءَ فِي قَوْلِهِ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما بَلْ هُوَ تَعْجِيزٌ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ عَجَزُوا وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، أَي لَا غير. وَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ بِزِيَادَةِ السِّينِ وَالتَّاءِ يَتَعَدَّى إِلَى الدُّعَاءِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الدَّاعِي بِاللَّامِ، وَحِينَئِذٍ يُحْذَفُ لَفْظُ الدُّعَاءِ غَالِبًا فَقَلَّمَا قِيلَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَإِذَا قَالُوا: دَعَاهُ فَاسْتَجَابَهُ كَانَ الْمَعْنَى فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِه فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ

وَ(أَنَّما) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تُفِيدُ الْحَصْرَ مِثْلَ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ فَرْعٌ عَنِ الْمَكْسُورَتِهَا لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا محيص من إفادتها مُفَادِهَا، فَالتَّقْدِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا أَهْوَاءَهُمْ. وَجِيءَ بِحَرْفِ (إِنَّ) الْغَالِبِ فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ أَوْ لِأَنَّهَا الْحَرْفُ الْأَصْلِيُّ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ فَاعْلَمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٤] .

وَقَوْلِهِ أَتَّبِعْهُ جَوَابُ فَأْتُوا أَيْ إِنْ تَأْتُوا بِهِ أَتَّبِعْهُ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّعْجِيزِ لِأَنَّهُ إِذَا وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعَ مَا يَأْتُونَ بِهِ فَهُوَ يَتَّبِعُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُوَفِّرُ دَوَاعِيَهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنْ كِتَابِهِ لَوِ اسْتَطَاعُوهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ وَوَجَبَتْ

عَلَيْهِمُ الْمَغْلُوبِيَّةُ فَكَانَ ذَلِكَ أَدُلَّ عَلَى عَجْزِهِمْ وَأَثْبُتَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.

وَهَذَا مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَا تَحَقَّقَ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَالْمُعَلَّقُ حِينَئِذٍ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١] . وَلِكَوْنِهِ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ. وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا وَمِنْ إِقْحَامِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ الْبَتَّةَ وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ.

وَجَاءَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَذْيِيلٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنْ أَحَدٍ اتَّبَعَ هَوَاهُ الْمُنَافِيَ لِهُدَى اللَّهِ.

ومَنْ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ فَأَفَادَ الِانْتِفَاءَ فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ الَّذِي فِيهِ فِي مَعْنَى نَكِرَةٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ فَشَمِلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ صَارَ تَذْيِيلًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٠] .

وَأَطْلَقَ الِاتِّبَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُمْلِيهِ إِرَادَةُ الْمَرْءِ النَّاشِئَةُ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْأَضْرَارِ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِالْمَشْيِ وَرَاءَ السَّائِرِ، وَفِيهِ تَشْبِيهُ الْهَوَى بِسَائِرٍ، وَالْهَوَى مَصْدَرٌ لِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ:

هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ

وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ الْبَاءُ فِيهِ للملابسة وَهُوَ فِي مَوْضِعُ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ اتَّبَعَ هَواهُ وَهُوَ حَالٌ كَاشِفَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْهَوَى لِأَنَّ الْهَوَى لَا يَكُونُ مُلَابِسًا لِلْهُدَى الرَّبَّانِيِّ وَلَا صَاحِبُهُ مُلَابِسًا لَهُ لِأَنَّ الْهُدَى يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى إِصَابَةِ الْمَقْصِدِ الصَّالِحِ.

وَجَعَلَ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْهُدَى لِأَنَّهُ وَارِدٌ مِنَ الْعَالِمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ مَعْصُومًا مِنَ الْخَلَلِ وَالْخَطَإِ.

وَوَجْهُ كَوْنِهِ لَا أَضَلَّ مِنْهُ أَنَّ الضَّلَالَ فِي الْأَصْلِ خَطَأُ الطَّرِيقِ وَأَنَّهُ يَقَعُ فِي أَحْوَالٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي عَوَاقِبِ الْمَشَقَّةِ أَوِ الْخَطَرِ أَوِ الْهَلَاكِ بِالْكُلِّيَّةِ، عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ شِدَّةِ الضَّلَالِ.

وَاتِّبَاعُ الْهَوَى مَعَ إِلْغَاءِ إِعْمَالِ النَّظَرِ وَمُرَاجَعَتِهِ فِي النَّجَاةِ يُلْقِي بِصَاحِبِهِ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الضُّرِّ بِدُونِ تَحْدِيدٍ وَلَا انْحِصَارٍ.

فَلَا جَرَمَ يَكُونُ هَذَا الِاتِّبَاعُ الْمُفَارِقُ لِجِنْسِ الْهُدَى أَشَدَّ الضَّلَالِ فَصَاحِبُهُ أَشَدُّ الضَّالِّينَ

ضَلَالًا.

ثُمَّ ذيل هَذَا التدييل بِمَا هُوَ تَمَامُهُ إِذْ فِيهِ تَعْيِينُ هَذَا الْفَرِيقِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الضَّالِّينَ ضَلَالًا فَإِنَّهُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ كَانُوا قَوْمًا ظَالِمِينَ، أَيْ كَانَ الظُّلْمُ شَأْنَهُمْ وَقِوَامَ قَوْمِيَّتِهِمْ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْقَوْمِ.

وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْكَامِلُونَ فِي الظُّلْمِ، وَهُوَ ظُلْمُ الْأَنْفُسِ وَظُلْمُ النَّاسِ، وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ وَإِتْيَانُ الْفَوَاحِشِ وَالْعُدْوَانُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ فِي نُفُوسِهِمُ الِاهْتِدَاءَ عِقَابًا مِنْهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُمْ بَاقُونَ فِي الضَّلَالِ يَتَخَبَّطُونَ فِيهِ، فَهُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ فِي انْتِفَاءِ هُدَى اللَّهِ عَنْهُمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي التَّصَلُّبِ فِي ظُلْمِهِمْ فَقَدْ يَسْتَمِرُّ أَحَدُهُمْ زَمَانًا عَلَى ضَلَالِهِ ثُمَّ يُقَدِّرُ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى فَيَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ. وَلِأَجْلِ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي قَابِلِيَّةِ الْإِقْلَاعِ عَنِ الضَّلَالِ استمرت دَعْوَة النبيء ﷺ إِيَّاهُمُ لِلْإِيمَانِ فِي عُمُومِ الْمَدْعُوِّينَ إِذْ لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللَّهُ مَدَى تفَاوت النَّاس فِي الاستعداد لِقَبُولِ الْهُدَى، فَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمْ هُنَا هُوَ الْهُدَى التَّكْوِينِيُّ.

وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الدَّعْوَةِ. وَهَذَا معنى قَول الْأَئِمَّة مِنَ

الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ بِالْإِيمَانِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ التَّكْوِينِيَّ غَيْرُ التَّعَلُّقِ التَّشْرِيعِيِّ.

وَبَين هَواهُ وهُدىً جِنَاسٌ مُحَرَّفٌ وجناس خطّ.

[٥١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٥١]

وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الْقَصَص: ٤٧] الْآيَةَ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] .

وَالتَّوْصِيلُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْلِ، وَهُوَ ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضٍ يُقَالُ: وَصَلَ الْحَبْلَ إِذَا ضَمَّ قِطَعَهُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَ حَبْلًا.

وَالْقَوْلُ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣] وَقَالَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: ٤٠]، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَلِلتَّوْصِيلِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ وُصِّلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَبِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ وُصِّلَ أَصْنَافًا

مِنَ الْكَلَامِ: وَعْدًا، وَوَعِيدًا، وَتَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا، وَقَصَصًا وَمَوَاعِظَ وَعِبَرًا، وَنَصَائِحَ يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى نَشَاطِ الذِّهْنِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ.

وَاللَّامُ وَ(قَدْ) كِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ رَدًّا عَلَيْهِ إِذْ جَهِلُوا حِكْمَةَ تَنْجِيمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَذُكِرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ تَنْجِيمِهِ هُنَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى فَائِدَتِهِمْ بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَذُكِرَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٢] حِكْمَةٌ أُخْرَى رَاجِعَةٌ إِلَى فَائِدَةِ الرَّسُول ﷺ بقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا.

وَضَمِيرُ لَهُمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْركين.

[٥٢- ٥٣]

(١) فِي المطبوعة وَقَالُوا لَوْلَا.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٥٢ إِلَى ٥٣]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)

لَمَّا أَفْهَمَ قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الْقَصَص: ٥١] أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَكُونُوا عِنْدَ رَجَاءِ الرَّاجِي عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ هَلْ تَذَكَّرَ غَيْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ أَوِ اسْتَوَى النَّاسُ فِي عَدَمِ التَّذَكُّرِ بِهِ. فَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ بِهِ إِيمَانًا ثَابِتًا.

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ طَائِفَةٌ مَعْهُودَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَهِدَ اللَّهُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَتَدَبَّرُونَهُ وَهُمْ بَعْضُ النَّصَارَى مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِثْلَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبَعْضِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامً وَرِفَاعَةَ بْنِ رَفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ النَّبِيءِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيءُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ أَظْهَرُوا إِسْلَامَهُمْ.

وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ وَفْدٌ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا بَعْثَهُمُ النَّجَاشِيُّ لاستعلام أَمر النبيء ﷺ بِمَكَّةَ فجلسوا إِلَى النبيء ﷺ فَآمَنُوا بِهِ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ إِلَى مَا يَقُولُونَ فَلَمَّا قَامُوا من عِنْد النبيء ﷺ تَبِعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ:

خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ وَقَبَّحَكُمْ مِنْ وَفْدٍ لَمْ تَلْبَثُوا أَنْ صَدَّقْتُمُوهُ، فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا رُشْدًا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْضُ نَصَارَى الْحَبَشَةِ لَمَّا وَفَدَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة وقرأوا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَفْهَمُوهُمُ الدِّينَ.

وَضَمِيرُ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ مِنْ وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ [الْقَصَص: ٥١]، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ لِتُقَوِّيَ الْخَبَرَ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُقَيِّدٌ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ هُمْ يُوقِنُونَ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ.

وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ إِيمَانِهِمْ وَتَجَدُّدِهِ.

وَحِكَايَةُ إِيمَانِهِمْ بِالْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ آمَنَّا بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ: إِمَّا لِأَنَّ الْمُضِيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْإِيمَانِ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي صِيَغِ الْعُقُودِ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ، أَيْ آمَنُوا بِأَنَّهُ سَيَجِيءُ رَسُولٌ بِكِتَابٍ مُصَدِّقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَعْنِي إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا يَعْقُبُهُ إِيمَانٌ تَفْصِيلِيٌّ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِهِ. وَيُنْظَرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَجِيءِ رَسُولِ الْإِسْلَامِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ مُصَدِّقِينَ بِالرُّسُلِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْإِسْلَامُ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] .

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ آمَنَّا بِهِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بَيَانٌ لِمَعْنَى آمَنَّا بِهِ.

[٥٤- ٥٥


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٥]

أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)

التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥] .

عدّ اللَّهُ لَهُمْ سَبْعَ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكَمَالِ:

إِحْدَاهَا: أُخْرَوِيَّةٌ، وَهِيَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَيْ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ أَجْرَيْنِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، أَيْ يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِكِتَابِهِمْ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ، فَعَبَّرَ عَنْ مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ ضِعْفَيْنِ بِالْمَرَّتَيْنِ تَشْبِيهًا لِلْمُضَاعَفَةِ بِتَكْرِيرِ الْإِيتَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ إِيتَاءٌ وَاحِدٌ.

وَفَائِدَةُ هَذَا الْمَجَازِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعْطِي ثُمَّ يُكَرِّرُ عَطَاءَهُ فَفِي يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ تَمْثِيلَةٌ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكتاب آمن بنبيئه وَأَدْرَكَنِي فَآمَنَ بِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أُمَّةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ»

. رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ لِعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: خُذْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْبِرِّ وَأَجْمَعِهَا لِلْمَبَرَّاتِ، وَأَعْوَنِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى قُرَيْشٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي مِثْلِ الْوَفْدِ الْحَبَشِيِّ. وَلَعَلَّهُمُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلِذَلِكَ أتبع بقوله وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَقَوْلِهِ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.

وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: دَرْؤُهُمُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْخَيْرِ وَأَدْعَاهَا إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ قَالَ تَعَالَى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤]، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فَائِدَةُ دَفْعِ مَضَرَّةِ الْمُسِيءِ.

عَنِ النَّفْسِ، وَإِسْدَاءُ الْخَيْرِ إِلَى نَفْسٍ أُخْرَى، فَهُمْ لَمْ يَرُدُّوا جَلَافَةَ أَبِي جَهْلٍ بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِالْإِعْرَاضِ مَعَ كَلِمَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.

وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ وَلَا يَخْفَى مَكَانُهَا مِنَ الْبَرِّ.

وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَبَثُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْخُلُقُ مِنْ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَشْغَلَ سَمْعَهُ وَلُبَّهُ بِمَا لَا جَدْوَى لَهُ وَبِالْأَوْلَى يَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ ذَلِكَ.

وَالْخَصْلَةُ السَّادِسَةُ: الْكَلَامُ الْفَصْلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُجَاب بِهِ السُّفَهَاءُ وَهُوَ أَقْرَبُ لِإِصْلَاحِهِمْ وَأَسْلَمُ مِنْ تَزَايُدِ سَفَهِهِمْ.

وَلَقَدْ أَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِحِكْمَةٍ جَعَلَهَا مُسْتَأْهِلَةً لِأَنْ تُنْظَمَ فِي سِلْكِ الْإِعْجَازِ فَأَلْهَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ شرّفها بِأَن حيكت فِي نَسْجِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَلْهَمَ عُمَرَ قَوْلَهُ عَسى رَبُّهُ إِنْ

طَلَّقَكُنَ

[التَّحْرِيم: ٥] الْآيَةَ.

وَمَعْنَى لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أَنَّ أَعْمَالَنَا مُسْتَحَقَّةٌ لَنَا كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَتِهِمْ إِيَّاهَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فَهُوَ تَتْمِيمٌ عَلَى حَدِّ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: ٦] .

وَالْمَقْصُودُ مِنَ السَّلَامِ أَنَّهُ سَلَامُ الْمُتَارَكَةِ الْمُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمُوَادَعَةِ أَنْ لَا نَعُودَ لِمُخَاطَبَتِكُمْ قَالَ الْحَسَنُ: كَلِمَةُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، تَحِيَّةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَامَةُ الِاحْتِمَالِ مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَلَعَلَّ الْقُرْآنَ غَيَّرَ مَقَالَتَهُمْ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِتَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْإِعْجَازِ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ الْمُتَارَكَةُ إِلَى آخِرِ الِخِطَابِ أَوْلَى لِيَكُونَ فِيهِ بَرَاعَةُ الْمَقْطَعِ.

وَحَذَفَ الْقُرْآنُ قَوْلَهُمْ: لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا رُشْدًا، لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ.

السَّابِعَةُ: مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خُلُقُهُمْ أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ الْعِلْمَ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْمُتَارَكَةِ، أَيْ لِأَنَّا لَا نُحِبُّ مُخَالَطَةَ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِاللَّهِ وَبِدِينِ الْحَقِّ وَأَهْلِ خُلُقِ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحُلْمِ، فَاسْتَعْمَلَ الْجَهْلَ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمُشْتَرَك فِيهَا وَلَعَلَّهُ تَعْرِيضٌ بِكُنْيَةِ أَبِي جَهْلٍ الَّذِي بَذَا عَلَيْهِمْ بِلِسَانِهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُونَهَا بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِهَا لِأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ بِقَرِينَة قَوْله وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَقَوْلِهِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ قَوْلَيْنِ: قَوْلٌ وَجَّهُوهُ لِأَبِي جَهْلٍ وَصَحْبِهِ، وَقَوْلٌ دَارَ بَيْنَ أهل الْوَفْد.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٥٦]

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)

لَمَّا ذَكَرَ مَعَاذِيرَ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَأَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُجَرَّدُونَ عَنْ هُدَى اللَّهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ ذَلِك يحزن النبيء ﷺ أَنْ يُعْرِضَ قُرَيْشٌ وَهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ على خطاب نبيئه ﷺ بِمَا يُسَلِّي نَفْسَهُ وَيُزِيلُ كَمَدَهُ بِأَنْ ذَكَرَّهُ بِأَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّفْوِيضِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ اهْتِمَامٌ باستدعاء إقبال النبيء عليه السلام عَلَى عِلْمِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ

أَهْواءَهُمْ

[الْقَصَص: ٥٠] . وَمَفْعُولُ أَحْبَبْتَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا تَهْدِي.

وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ أَحْبَبْتَ هَدْيَهُ أَو اهتداءه. وَمَا صدق مَنْ الْمَوْصُولَةِ كُلُّ مَنْ دَعَاهُ النَّبِيءُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اهْتِدَاءَهُ.

وَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ الْمُرَادِ بِذَلِكَ أَبَا طَالب عَم النبيء ﷺ إِذْ كَانَ النبيء ﷺ قَدِ اغْتَمَّ لِمَوْتِهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ امْتِنَاعِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّهِ مِنْ إِجَابَتِهِ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٌ.

وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ النَّازِلِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَيَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَوْ كَانَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ.

وَمَعْنَى وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَنْ يَشَاءُ قَابِلًا لِلِاهْتِدَاءِ فِي مَدًى مُعَيَّنٍ وَبَعْدَ دَعَوَاتٍ مَحْدُودَةٍ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ فَإِذَا تَدَبَّرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَدَّدَهُ كَثُرَ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ جَعَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ بِالْفِعْلِ. وَأَمَّا

قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] فَهِيَ الْهِدَايَةُ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ فَاخْتَلَفَ الْإِطْلَاقَانِ.

وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مَنْ يَشَاءُ اهْتِدَاءَهُ، وَالْمَشِيئَةُ تُعْرَفُ بِحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِالْمُهْتَدِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِ اسْتِعْدَادِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا تَهَيَّأَتْ إِلَيْهِ فِطَرُهُمْ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ وَقَبُولِ الْخَيْرِ وَاتِّقَاءِ الْعَاقِبَةِ وَالِانْفِعَالِ لِمَا يُلْقَى إِلَيْهَا مِنَ الدَّعْوَةِ وَدَلَائِلِهَا. وَلِكُلِّ ذَلِكَ حَالٌ وَمَدًى وَلِكِلَيْهِمَا أَسْبَابٌ تَكْوِينِيَّةٌ فِي الشَّخْصِ وَأَسْلَافِهِ وَأَسْبَابُ نَمَائِهِ أَوْ ضَعْفِهِ مِنَ الْكِيَانِ وَالْوَسَطِ وَالْعصر والتعقل.

[٥٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٥٧]

وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)

هَذِهِ بَعْضُ مَعَاذِيرِهِمْ قَالَهَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ غَلَبَهُ الْحَيَاءُ عَلَى أَنْ يُكَابِرَ وَيُجَاهِرَ بِالتَّكْذِيبِ، وَغَلَبَهُ إِلْفُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْكُفْرِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، فَاعْتَذَرُوا بِهَذِهِ

الْمَعْذِرَةِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ جَاءُوا النَّبِيءَ ﷺ فَقَالَ الْحَارِثُ «إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ حَقٌّ وَلَكِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَا الْهُدَى مَعَكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ أَنْ يَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةٌ رَأَسٍ» (أَيْ أَنَّ جَمْعَنَا يُشْبِعُهُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنَ الْإِبِلِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ) فَهَؤُلَاءِ اعْتَرَفُوا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ يَدْعُو إِلَى الْهُدَى.

وَالتَّخَطُّفُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْخَطْفِ، وَهُوَ انْتِزَاعُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٦] . وَالْمُرَادُ: يَأْسِرُنَا الْأَعْدَاءُ مَعَهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قُرَيْشًا مَعَ قِلَّتِهِمْ عَدًّا وَعُدَّةً أَتَاحَ اللَّهُ لَهُمْ بَلَدًا هُوَ حَرَمٌ آمِنٌ يَكُونُونَ فِيهِ آمَنِينَ مِنَ الْعَدُوِّ عَلَى كَثْرَةِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِالْغَارَةِ عَلَى

جِيرَتِهِمْ وَجَبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتٍ كَثِيرَةً قُرُونًا طَوِيلَةً، فَلَوِ اعْتَبَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ مَنَعَةً رَبَّانِيَّةً وَأَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَمَّنَهُمْ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ يُؤَمِّنُهُمْ إِنِ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَالتَّمْكِينُ: الْجَعْلُ فِي مَكَانٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦]، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٦] وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي الْإِعْدَادِ وَالتَّيْسِيرِ.

وَالْجَبْيُ: الْجَمْعُ وَالْجَلْبُ وَمِنْهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَمْ يُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا. وَوَجْهُ الْإِنْكَارِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْفِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَمَ مِنْ تَمْكِينِ اللَّهِ فَاسْتَفْهَمُوا عَلَى هَذَا النَّفْيِ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ.

وَهَذَا الْإِنْكَارُ يَقْتَضِي تَوْبِيخًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي نَزَلُوا لِأَجْلِهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْفِي أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ لَهُمْ حَرَمًا.

وَالْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا. وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ مَكَّنَّا لَهُمْ حَرَمًا.

وكُلِّ شَيْءٍ عَامٌّ فِي كُلِّ ذِي ثَمَرَةٍ وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ ثَمَرِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُثْمِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بِلَادِهِمْ وَالْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ أَوِ اسْتُعْمِلَ كُلِّ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ.

ورِزْقًا حَالٌ مِنْ ثَمَراتُ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ.

وَمَعْنَى مِنْ لَدُنَّا مِنْ عِنْدِنَا، وَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ فِي التَّكْرِيمِ وَالْبَرَكَةِ، أَيْ رِزْقًا قَدَّرْنَاهُ

لَهُمْ إِكْرَامًا فَكَأَنَّهُ رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَكَانٍ شَدِيدِ الِاخْتِصَاصِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ حَصَلَ فِي خِلَالِ الرَّدِّ لِقَوْلِهِمْ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ وَازِعَانِ عَن الْكفْر بالمنعم: وَازِعُ إِبْطَالِ مَعْذِرَتِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَوَازِعُ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ الْمَكْفُورِ بِهِ.

وَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ الْمَسُوقِ مَسَاقَ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّ تِلْكَ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى

كُنْهِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَحَسِبُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ مُفْضٍ إِلَى اعْتِدَاءِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ ظَنًّا بِأَنَّ حُرْمَتَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ مَزِيَّةٌ وَنِعْمَةٌ أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ.

وَفِعْلُ لَا يَعْلَمُونَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ لَيْسُوا ذَوِي عِلْمٍ وَنَظَرٍ بَلْ هُمْ جَهَلَةٌ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْأَحْوَالَ. وَنُفِيَ الْعِلْمُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَصْحَابُ رَأْيٍ فَلَوْ نَظَرُوا وَتَدَبَّرُوا لَمَا قَالُوا مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ.

وَلَوْ قُدِّرَ لِفِعْلِ يَعْلَمُونَ مَفْعُولٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ تَمْكِينَ الْحَرَمِ لَهُمْ وَأَنَّ جَلْبَ الثَّمَرَاتِ إِلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِنَا لَمَا اسْتَقَامَ إِسْنَادُ نَفْيِ الْعِلْمِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ بَلْ كَانَ يُسْنَدُ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِإِطْبَاقِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى مَقَالَةِ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ تُجْبَى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ كُلِّ شَيْءٍ فأكسب الْمُضَاف تأنيثا.

[٥٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٥٨]

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا [الْقَصَص: ٥٧] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعَرُّضَ لِلِانْتِقَامِ شَأْنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ فَهُوَ تَخْوِيفٌ لِقُرَيْشٍ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَقْوَامٍ كَانُوا فِي مِثْلِ حَالِهِمْ مِنَ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ فَغَمِطُوا النِّعْمَةَ وَقَابَلُوهَا بِالْبَطَرِ.

وَالْبَطَرُ: التَّكَبُّرُ. وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ مِنْ بَابِ فَرِحَ، فَانْتِصَابُ مَعِيشَتَها بَعْدَ بَطِرَتْ عَلَى تَضْمِينِ بَطِرَتْ مَعْنَى (كَفَرَتْ) لِأَنَّ الْبَطَرَ وَهُوَ التَّكَبُّرُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاعْتِرَافِ بِمَا

يُسْدَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ.

وَالْمُرَادُ: بَطِرَتْ حَالَةَ مَعِيشَتِهَا، أَيْ نِعْمَةَ عَيْشِهَا.

وَالْمَعِيشَةُ هُنَا اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْعَيْشِ وَالْمُرَادُ حَالَتُهُ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَيُعْلَمُ أَنَّهَا حَالَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: بَطِرَتْ وَهِيَ حَالَةُ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ (تِلْكَ) إِلَى مَساكِنُهُمْ الَّذِي بُيِّنَ بِهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ. وَبِذَلِكَ صَارَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ مُنَزَّلٍ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ بِمَرْأَى السَّامِعِ، وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالتَّقْدِيرُ: فَمَسَاكِنُهُمْ لَمْ تَسْكُنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا.

وَالسُّكْنَى: الْحُلُولُ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِقَصْدِ الِاسْتِمْرَارِ زَمَنًا طَوِيلًا.

وَمَعْنَى لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا فِيهَا خَلَفًا لَهُمْ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِرَاضِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ.

وَقَوْلُهُ إِلَّا قَلِيلًا احْتِرَاسٌ أَيْ إِلَّا إِقَامَةَ الْمَارِّينَ بِهَا الْمُعْتَبِرِينَ بِهَلَاكِ أَهْلِهَا.

وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ أَزْمَانٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالتَّقْدِير: إِلَّا زَمَانا قَلِيلًا، أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ تُسْكَنْ سَكَنًا إِلَّا سَكَنًا قَلِيلًا، وَالسَّكَنُ الْقَلِيلُ: هُوَ مُطْلَقُ الْحُلُولِ بِغَيْرِ نِيَّةِ إِطَالَةٍ فَهِيَ إِلْمَامٌ لَا سُكْنَى. فَإِطْلَاقُ السُّكْنَى عَلَى ذَلِكَ مُشَاكَلَةٌ لِيَتَأَتَّى الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ لَمْ تُسْكَنْ إِلَّا حُلُولَ الْمُسَافِرِينَ أَوْ إِنَاخَةَ الْمُنْتَجَعَيْنِ مِثْلَ نُزُولِ جَيْشِ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِحِجْرِ ثَمُودَ وَاسْتِقَائِهِمْ مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ. وَالْمَعْنَى: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً خَلَاءً لَا يَعْمُرُهَا عَامِرٌ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ بَقَاءَهَا خَالِيَةً لِتَبْقَى عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً بِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.

وَبِهَذِهِ الْآيَةِ يَظْهَرُ تَأْوِيلُ

قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ حِينَ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ بِحِجْرِ ثَمُودَ فَقَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَن يصيبك مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»

أَيْ خَائِفِينَ أَيِ اقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَةِ الْمُرُورِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا إِلَى تَحَقُّقِ حَقِيقَةِ السُّكْنَى الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ انْتِفَاءَهَا بَعْدَ قَوْمِهَا فَرُبَّمَا قُدِّرَ إِهْلَاكُ مَنْ يَسْكُنُهَا تَحْقِيقًا لِقَدَرِهِ.

وَجُمْلَةُ وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهُوَ يُفِيدُ

أَنَّهَا لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ فَلَا يَحِلُّ فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ بَعْدَهُمْ فَعَبَّرَ عَنْ تَدَاوُلِ السُّكْنَى بِالْإِرْثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَقَصْرُ إِرْثِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقِيٌّ، أَيْ لَا يَرِثُهَا غَيْرُنَا. وَهُوَ كِنَايَةٌ

عَنْ حِرْمَانِ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ مِنَ السَّاكِنِ. وَتِلْكَ الْكِنَايَةُ رَمْزٌ إِلَى شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِهَا الْأَوَّلِينَ بِحَيْثُ تَجَاوَزَ غَضَبُهُ السَّاكِنِينَ إِلَى نَفْسِ الْمَسَاكِنِ فَعَاقَبَهَا بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَهْجَةِ الْمَسَاكِنِ لِأَنَّ بَهْجَةَ الْمَسَاكِنِ سُكَّانُهَا، فَإِنَّ كَمَالَ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ بِهِ قوام حقائقها.

[٥٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٥٩]

وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)

أُعْقِبَ الِاعْتِبَارُ بِالْقُرَى الْمُهْلِكَةِ بِبَيَانِ أَشْرَاطِ هَلَاكِهَا وَسَبَبِهِ، اسْتِقْصَاءً لِلْإِعْذَارِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنْ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى الْمُسْتَأْهِلَةَ الْإِهْلَاكَ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فِي الْقَرْيَةِ الْكُبْرَى مِنْهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ الْكُبْرَى هِيَ مَهْبِطُ أَهْلِ الْقُرَى وَالْبَوَادِي الْمُجَاوِرَةِ لَهَا فَلَا تَخْفَى دَعْوَةُ الرَّسُولِ فِيهَا وَلِأَنَّ أَهْلَهَا قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُمْ أَكْثَرُ اسْتِعْدَادًا لِإِدْرَاكِ الْأُمُورِ عَلَى وَجْهِهَا فَهَذَا بَيَانُ أَشْرَاطِ الْإِهْلَاكِ.

والْقُرى: هِيَ الْمَنَازِلُ لِجَمَاعَاتٍ مِنَ النَّاسِ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ الْمَبْنِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فِي الْبَقَرَةِ [٥٨] .

وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَظْهَرُ لِأَنَّهَا إِذَا أُهْلِكَتْ بَقِيَتْ آثَارُهَا وَأَطْلَالُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهَا مِنَ الْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحِلَلَ وَالْخِيَامَ مِثْلُهَا بِحُكْمِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى.

وَإِفْرَاغُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ مَا كَانَ فَاعِلًا وَنَحْوِهِ مِنْ صِيَغِ الْجُحُودِ يُفِيدُ رسوخ هَذِه الْعَادة وَاطِّرَادَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩] وَقَوْلِهِ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٧] .

وَقُرَى بِلَادِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَمِنًى وَالطَّائِفِ وَيَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى وَكَذَلِكَ قُرَى الْيَمَنِ وَقُرَى الْبَحْرَيْنِ. وَأُمُّ الْقُرَى هِيَ الْقَرْيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْهَا وَكَانَتْ مَكَّةُ أَعْظَمَ بِلَادِ الْعَرَبِ شُهْرَةً وَأَذْكَرَهَا بَيْنَهُمْ وَأَكْثَرَهَا مَارَّةً وَزُوَّارًا لِمَكَانِ الْكَعْبَةِ فِيهَا وَالْحَجِّ لَهَا.

وَالْمُرَادُ بِإِهْلَاكِ الْقُرَى إِهْلَاكُ أَهْلِهَا. وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْإِهْلَاكَ بِالْقُرَى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ شِدَّةَ الْإِهْلَاكِ بِحَيْثُ يَأْتِي عَلَى الْأُمَّةِ وَأَهْلِهَا وَهُوَ الْإِهْلَاكُ بِالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ مَعَهَا الدِّيَارُ بِخِلَافِ إِهْلَاكِ الْأُمَّةِ فَقَدْ يَكُونُ بِطَاعُونٍ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتْرُكُ أَثَرًا فِي الْقُرَى.

وَإِسْنَادُ الْخَبَرِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلنَّبِيءِ ﷺ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْإِنْذَارِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ عليه السلام لِهَذَا الْمَقْصِدِ. وَلِهَذَا وَقَعَ الِالْتِفَاتُ عَنْهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ آياتِنا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الدِّينَ دِينُ اللَّهِ.

وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرَى وَهُوَ أَهلهَا كَقَوْلِه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يُوسُف: ٨٢]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: ١٧] .

وَقَدْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفَنَّنٌ فِي الْأَسَالِيبِ إِذْ جَمَعَتِ الِاسْمَ الظَّاهِرَ وَضَمَائِرَ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ وَالتَّكَلُّمِ.

ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ بِقَوْلِهِ وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أَيْ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِنَا فِي عِبَادِنَا أَنْ نُهْلِكَ أَهْلَ الْقُرَى فِي حَالَة إِلَّا فِي حَالَةِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ، فَالْإِشْرَاكُ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ وَإِرْسَالُ رَسُولٍ شَرْطُهُ، فَيَتِمُّ ظُلْمُهُمْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولِ.

وَجُمْلَةُ وَأَهْلُها ظالِمُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ اقْتَضَاهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ، أَيْ مَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ ظلم أَهلهَا.

[٦٠]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦٠]

وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)

لَمَّا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ تَذْكِيرًا أُدْمِجَ فِي خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: ٥٧] بِقَوْلِهِ تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [الْقَصَص: ٥٧] أَعْقَبَهُ بِأَنَّ كُلَّ مَا أُوتُوهُ مِنْ نِعْمَةٍ هُوَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ، وَمِنْ زِينَتِهَا كَاللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْمَالِ، وَأَمَّا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ من ذَلِك وَأبقى لِئَلَّا

يَحْسَبُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ هُوَ الْغَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ فَلَا يَتَطَلَّبُوا مَا بِهِ تَحْصِيلُ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الْأَبَدِيِّ، وَتَحْصِيلُهُ بِالْإِيمَانِ. وَلَا يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُوَازِنًا لِاتِّبَاعِ الْهُدَى وَإِنْ كَانَ فِي اتِّبَاع الْهدى تقويت مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَرْضِهِمْ وَخَيْرَاتِهَا لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ. هَذَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا.

ومِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِ مَا أُوتِيتُمْ وَالْمُرَادُ مِنْ أَشْيَاءِ الْمَنَافِعِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ شَائِعٌ فِي إِعْطَاءِ مَا يَنْفَعُ.

وَقَدِ الْتَفَتَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا [الْقَصَص: ٥٧] إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ أُوتِيتُمْ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ أَوْجَبَ تَوْجِيهَ التَّوْبِيخِ مُوَاجَهَةً إِلَيْهِمْ.

وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا ثُمَّ يَزُولُ.

وَالزِّينَةُ: مَا يُحَسِّنُ الْأَجْسَامَ.

وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، أَنَّ أَجْنَاسَ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا أُوتُوهُ فِي كَمَالِ أَجْنَاسِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَبْقَى فَهُوَ بِمَعْنَى الْخُلُودِ.

وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ وَتَقْرِيرِيٌّ عَلَى عَدَمِ عَقْلِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَفْسَدَ عَقْلَهُ فَسُئِلُوا: أَهُمْ كَذَلِكَ؟.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَعْقِلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ عَنْ خِطَابِهِمْ لِتَعَجُّبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مقَام الْخطاب.

[٦١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦١]

أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)

أَحْسَبُ أَنَّ مَوْقِعَ فَاءِ التَّفْرِيعِ هُنَا أَنَّ مِمَّا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٦٠] مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَبَجَّحُونَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ ونعيم الترف فِي حِينَ كَانَ مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ ضُعَفَاءَ قَالَ تَعَالَى وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى

أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فاكهين [المطففين: ٣١] أَيْ مُنَعَّمِينَ، وَقَالَ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١] فَيَظْهَرُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمُ التَّفَاخُرُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ قَالَ تَعَالَى وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ [هود: ١١٦] وَقَالَ وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ [الْأَنْبِيَاء: ١٣] فَلَمَّا أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّرَفِ إِنْ هُوَ إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، قَابَلَ ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ الْفَائِقِ الْخَالِدِ الَّذِي أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ تُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ زَادَتِ الْأُولَى بَيَانًا بِأَنَّ مَا أُوتُوهُ زَائِلٌ زَوَالًا مُعَوَّضًا بِضِدِّ الْمَتَاعِ وَالزِّينَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ.

فَمَا صدق مِنَ الْأُولَى هُمُ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْوَعْدَ الْحَسَنَ وهم الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا صدق مِنَ الثَّانِيَةِ جَمْعٌ هُمُ الْكَافِرُونَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ الَّتِي أَفَادَهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَيْسُوا سَوَاءً إِذْ لَا يَسْتَوِي أَهْلُ نَعِيمٍ عَاجِلٍ زَائِلٍ وَأَهْلُ نَعِيمٍ آجِلٍ خَالِدٍ.

وَجُمْلَةُ فَهُوَ لاقِيهِ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ وَعْدٌ مُحَقَّقٌ، وَالْفَاءُ لِلتَّسَبُّبِ.

وَجُمْلَةُ ثُمَّ هُوَ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَهِيَ مِنْ تَمَامِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِبَيَانِ أَنَّ رُتْبَةَ مَضْمُونِهَا فِي الْخَسَارَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَضْمُونِ الَّتِي قَبِلَهَا، أَيْ لَمْ تَقْتَصِرْ خَسَارَتُهُمْ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بَلْ تَجَاوَزَتْ إِلَى التَّعْوِيضِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.

وَمَعْنَى مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَنَّهُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّوْبِيخُ فِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْقَصَص: ٦٠] . وَالْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدًا حَسَنًا الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْفَرِيقَ الْمُعَيَّنَ مَوْعُودُونَ بِضِدِّ الْحَسَنِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقَ الْمُحْضَرِينَ اخْتِصَارًا كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات: ٥٧] وَقَوْلِهِ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٢٧، ١٢٨] .

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)

تَخَلُّصٌ مِنْ إِثْبَاتِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدًا حَسَنًا [الْقَصَص: ٦١] مُفِيدَةٌ سَبَبَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَإِذَا هُمْ لَا يَجِدُونَهُمْ يَوْمَ يُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يُنادِيهِمْ فَيَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦١] أَيْ يُحْضَرُونَ ويُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفَ مُفْرَدَاتٍ فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَطْفًا عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦١] فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَيْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْإِبْدَالِ إِلَى الْعَطْفِ لِاخْتِلَافِ حَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِاخْتِلَافِ الْعُنْوَانِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ يَوْمٍ مُغَايِرٍ زِيَادَةً فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى النِّدَاءِ. وَاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مِنْ حُصُول أَمر فضيع، تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يُنَادِيهِمْ يَكُونُ مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الرُّعْبِ.

وَضَمِيرُ يُنادِيهِمْ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: ٥٧] فَالْمُنَادَوْنَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.

وَالِاسْتِفْهَامُ بِكَلِمَةِ أَيْنَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الشُّرَكَاءُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ يَوْمَئِذٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ.

وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِيَ، وَهَذَا الْحَذْفُ اخْتِصَارٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي مَفْعُولَيْ (ظَنَّ) .

وَجُرِّدَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ فَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.

وَالَّذِينَ تَصَدَّوْا لِلْجَوَابِ هُمْ بَعْضُ الْمُنَادَيْنَ بِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ عَلِمُوا أَنَّهُمُ الْأَحْرِيَاءُ بِالْجَوَابِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَيِمَّةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَسَادِنِ الْعُزَّى. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُمْ بِ (قَالُوا) .

وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَثَبَتَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلًا مَعْهُودًا وَهُوَ مَا عُهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (١) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: ١٣] وَقَوْلِهِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الَّذِينَ حَلَّ الْإِبَّانُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَالْمَعْنَى:

أَنَّ اللَّهَ أَلْجَأَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا الضَّالِّينَ وَأَغْوَوْهُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى وَجَبَ وَتَعَيَّنَ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْجَوَابُ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ

إِجَابَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ جِنْسَ الْقَوْلِ، أَيِ الْكَلَامُ الَّذِي يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا ... إِلَخْ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالَ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْرَى بِأَنْ يُجِيبُوا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ تَبِعَةَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِّهَ التَّوْبِيخُ إِلَى جُمْلَتِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ ثَبَّتُوا الْعَامَّةَ عَلَى الشِّرْكِ وأضلوا الدهماء.

وابتدأوا جَوَابَهُمْ بِتَوْجِيهِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، نِدَاءً أُرِيدَ مِنْهُ الِاسْتِعْطَافُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمُ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخْتَرِعِينَ لِدِينِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ

(١) فِي المطبوعة: «حقّت كلمة رَبك لأملان ...» . [.....]

بِ هؤُلاءِ إِلَى بَقِيَّةِ الْمُنَادَيْنَ مَعَهُمْ قَصْدًا لِأَنْ يَتَمَيَّزُوا عَمَّنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِيَزْدَادُوا رُعْبًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي التَّخْلِيصِ. والَّذِينَ أَغْوَيْنا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ.

وَجُمْلَةُ أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَغْوَوْهُمْ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ مُتَعَجِّبٍ كَيْفَ يَعْتَرِفُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ فَأَرَادُوا بَيَانَ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى إِغْوَاءِ إِخْوَانِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ بَثُّوا فِي عَامَّةِ أَتْبَاعِهِمُ الْغَوَايَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي نُفُوسِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ.

وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى جُمْلَةِ أَغْوَيْناهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ هَذَا الْإِغْوَاءِ بِتَأْكِيدِهِ اللَّفْظِيِّ، وَبِإِجْمَالِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَتَفْصِيلِهِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَتْ إِعَادَةُ فِعْلِ أَغْوَيْنا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ «التَّنْبِيهِ» عَلَى إِعْرَابِ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:

فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تَخْشَى بَوَادِرَهُ عَلَى الْأَقْرَانِ

إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ: فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ، لَمَّا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا وَلَوْ قَالَ:

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ، وَالَّتِي أَكْرَمْتُهَا أَكْرَمْتُهَا، وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ كَما غَوَيْنا أَفَادَ الْكَلَامُ كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتُهُ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اه. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَلَامِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧]، وَقَوْلِهِ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٣٠]، وَقَوْلِهِ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٢]، فَإِنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تُطَابِقُ بَيْتَ الْأَحْوَصِ لِاشْتِمَالِهِنَّ عَلَى (إِذَا) .

وكَما غَوَيْنا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ إِغْوَاءً يُوقِعُ فِي نُفُوسِهِمْ غَيًّا مِثْلَ الْغَيِّ الَّذِي فِي قُلُوبِنَا. وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَنَّهُمْ تَلَقَّوُا الْغَوَايَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَفَادَ التَّشْبِيهُ أَنَّ الْمُجِيبِينَ أَغْوَاهُمْ مُغْوُونَ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ هَذَا الْجَوَابَ يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنْهُمْ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ

السَّيْرَ عَلَى قَدَمِ الْغَاوِينَ يُبَرِّرُ الْغَوَايَةَ، وَهَذَا كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٩٦، ٩٩]: قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَغْوَيْنا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِكَثْرَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ عَائِدٍ صِلَةٍ هُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُتَّصِلٌ وَنَاصُبُهُ فِعْلٌ أَوْ وَصْفٌ شَبِيهٌ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ وَدَالٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ حَذْفُ الْعَائِدِ اخْتِصَارًا. وَذَكَرَ مَفْعُولَ فِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِي اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

وَجُمْلَةُ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّبَرُّؤُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ انْتِفَاءُ مَا يَصِمُ، فَالتَّبَرُّؤُ: مُعَالَجَةُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ وَتَحْقِيقُهَا. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ يُحَاوِلُ إِثْبَاتَ الْبَرَاءَةِ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (إِلَى) الدَّالِّ عَلَى الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ يُقَالُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، أَيْ أُوَجِّهُ بَرَاءَتِي إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَصِمُ بِحِرَفِ (مِنِ) الِاتِّصَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ قَالَ تَعَالَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: ٦٩] . وَقَدْ تَدْخُلُ (مِنْ) عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨] أَيْ مِنْ كُفْرِكُمْ.

وَالتَّقْدِيرُ: من أَعمالكُم وشؤونكم إِمَّا مِنْ أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ أَوْ مِنْ عِدَّةِ أَعْمَالٍ.

فَالْمَعْنَى هُنَا تَحَقُّقُ التَّبَرُّؤِ لَدَيْكَ وَالْمُتَبَرَّأُ مِنْهُ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فَهِيَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ التَّبَرُّؤِ.

وَالْمَقْصُود: أَنهم يتبرؤون مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَزْعُومَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ وَإِنَّمَا قُصَارَى

أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ مُضِلُّونَ وَكَانَ هَذَا الْمَقْصِدُ إِلْجَاءً مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِيُعْلِنُوا تَنَصُّلَهُمْ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ شُرَكَاء على رُؤُوس الْمَلَإِ، أَوْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ فَظَاعَةِ عَذَابِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْمُشْرِكُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ بَاطِلًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] . هَذَا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي.

وَتَقْدِيمُ إِيَّانا عَلَى يَعْبُدُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ يَعْبُدُونَنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّبَرُّؤِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦٤]

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤)

هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الَّذِينَ نُودُوا بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص:

٦٢] فَإِنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا شَعَرُوا بِالْمَقْصِدِ مِنْ نِدَائِهِمْ وَتَصَدَّى كُبَرَاؤُهُمْ لِلِاعْتِذَارِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَوْلِ.

وَأَسْنَدَ فِعْلَ الْقَوْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، أَيْ وَقَالَ اللَّهُ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِطْمَاعِ لِتَعَقُّبِ الْإِطْمَاعِ بِالْيَأْسِ.

وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهُمُ الشَّرِكَةَ كَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ [٩٤] الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. وَالدُّعَاءُ دُعَاءُ الِاسْتِغَاثَةِ حَسَبَ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ هُوَ مَحَلُّ التَّأْيِيسِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فَيَحْتَمِلُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً فَرَضَهَا الْمُفَسِّرُونَ: وَجُمَّاعُ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا أَخْذًا وَرَدًّا أَنْ نَجْمَعَهَا فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَالْعَذَابُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ أَحْضَرَ لَهُمْ آلَةَ الْعَذَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا.

وَعَلَى هَذَا تَكُونُ جُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً مُسْتَقِلَّةً عَنْ جُمْلَةِ وَرَأَوُا الْعَذابَ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالرُّؤْيَةُ أَيْضًا بَصَرِيَّةً وَالْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، أَيْ وَقَدْ رَأَوُا الْعَذَابَ فَارْتَبَكُوا فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى سَبِيلِ الْخَلَاصِ فَقِيلَ لَهُمْ: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ

لِخَلَاصِكُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً.

الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةً، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي اخْتِصَارًا، وَالْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَعَلِمُوا الْعَذَابَ حَائِقًا بِهِمْ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ أَوِ الْحَالِ. وَجُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا

صَنَعُوا حِينَ تَحَقَّقُوا أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لَسَلَكُوهُ وَلَكِنَّهُمْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى النَّجَاةِ.

وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ تَكُونُ لَوْ حَرْفَ شَرْطٍ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ حَذْفُ مَفْعُولِ يَهْتَدُونَ أَيْ يَهْتَدُونَ خَلَاصًا أَوْ سَبِيلًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَتَخَلَّصُوا مِنْهُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَفِعْلُ كانُوا مَزِيدٌ فِي الْكَلَامِ لِتَوْكِيدِ خَبَرِ (أَنَّ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ يَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مُتَمَكِّنًا مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا قَرَارَةَ لِنُفُوسِهِمْ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى التَّجَدُّدِ فالاهتداء مُنْقَطع عَنْهُم وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَصْلِهِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ. وَالْمُرَادُ اهْتِدَاؤُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا كَيْلَا يَقَعُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ، وَفِعْلُ كانُوا حِينَئِذٍ فِي مَوْقِعِهِ الدَّالِّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْخَبَرِ فِي الْمَاضِي، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَهْتَدُونَ لِقَصْدِ تَجَدُّدِ الْهُدَى الْمُتَحَسَّرِ عَلَى فَوَاتِهِ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْهُدَى لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَّا إِذَا اسْتَمَرَّ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ.

وَوَجْهٌ خَامِسٌ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: وَرَأَوْا آثَارَ الْعَذَابِ. وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، أَيْ وَهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ فِي حَيَاتِهِمْ أَيْ رَأَوْا آثَارَ عَذَابِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٤٥ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَجُمْلَةُ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أَيْ بِالِاتِّعَاظِ وَبِالِاسْتِدْلَالِ بِحُلُولِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ وَرَاءَهُ عَذَابًا أَعْظَمَ مِنْهُ لَاهْتَدَوْا فَأَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَصَدَّقُوا النَّبِيءَ ﷺ. وَهَذَا لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ. فَهَذِهِ عِدَّةُ مَعَانٍ يُفِيدُهَا لَفْظُ الْآيَةِ، وَكُلُّهَا مَقْصُودَةٌ، فَالْآيَةُ مِنْ جَوَامِع الْكَلم.

[٦٥- ٦٦]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ (٦٦)

هُوَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: ٦٢] . كَرَّرَ

الْحَدِيثَ عَنْهُ

بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا يَقَعُ فِيهِ لِأَنَّ مَقَامَ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فِي تَعْدَادِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّوْبِيخَ. وَكُرِّرَتْ جُمْلَةُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ لِأَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ.

وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.

وَالْمُرَادُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ. وَالْمُرَادُ بِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٌ ﷺ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٥] فَكَذَّبُوا رُسُلِي. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا يُرِيدُ مُحَمَّدًا ﷺ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٠٣] وَقَوْلُهُ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٥]، وَإِنَّمَا كَذَّبَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَسُولًا وَاحِدًا. وَالَّذِي اقْتَضَى صِيغَةَ الْجَمْعِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ إِنَّمَا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ اسْتِحَالَةِ رِسَالَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْبَشَرِ فَهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوا بِجِنْسِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَامُ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى (جَمِيعِ) أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ بِ مَاذَا صُورِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِظْهَارُ بَلْبَلَتِهِمْ. وَ(ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَوْصُولِ، أَيْ مَا الَّذِي أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ مَا جَوَابُكُمْ. والْأَنْباءُ:

جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ إِخْبَارٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ فِي الدُّنْيَا.

وَالْمَعْنَى: عَمِيَتِ الْأَنْبَاءُ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْئُولِينَ فَسَكَتُوا كُلُّهُمْ وَلَمْ يُنْتَدَبْ زُعَمَاؤُهُمْ لِلْجَوَابِ كَفِعْلِهِمْ فِي تَلَقِّي السُّؤَالِ السَّابِقِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص:

٦٢] .

وَمعنى فَعَمِيَتْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ لَا يَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءَ، فَتَصَرَّفَتْ مِنَ الْعَمَى مَعَانٍ كَثِيرَةٌ مُتَشَابِهَةٌ يُبَيِّنُهَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ كَمَا عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُنَاسِبِ لِلْخَفَاءِ. وَيُقَالُ: عَمِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَا يُوَصِّلُ مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:

أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

وَالْمَعْنَى: خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى جَوَابٍ وَذَلِكَ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالْوَهَلِ

فَإِنَّهُمْ لَمَّا نُودُوا أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص: ٦٢] انْبَرَى رُؤَسَاؤُهُمْ فَلَفَّقُوا جَوَابًا عَدَلُوا بِهِ عَنْ جَادَّةِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ سَنُّوا لِقَوْمِهِمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا سُئِلُوا عَنْ جَوَابِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ عَيُوا عَنِ الْجَوَابِ فَلَمْ يَجِدُوا مُغَالَطَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ

يَكُونُوا مَسْبُوقِينَ مِنْ سَلَفِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ.

وَلِهَذَا تفرع على (عميت عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ) قَوْلُهُ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِاسْتِخْرَاجِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْبَهْتِ وَالْبَغْتِ عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُمْ لَا مُتَنَصَّلَ لَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ فَوَجِمُوا.

وَإِذْ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِتَمْهِيدِ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِالْعَذَابِ عُلِمَ مِنْ عَجْزِهِمْ عَنِ الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّهُمْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِم الْعَذَاب.

[٦٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦٧]

فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)

تَخَلَّلَ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ ذِكْرُ حَالِ الْفَرِيقِ الْمُقَابِلِ وَهُوَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ تَزْدَادُ تَمَيُّزًا بِذِكْرِ أَضْدَادِهَا، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [الْقَصَص: ٦٦] مِنْ أَنَّهُمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ.

وَلَمَّا كَانَتْ (أَمَّا) تُفِيدُ التَّفْصِيلَ وَهُوَ التَّفْكِيكُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فِي حُكْمٍ فَهِيَ مُفِيدَةٌ هُنَا أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ خَاسِرُونَ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ مَا وَقَعَ الْإِيمَاءُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ [الْقَصَص: ٦٦] فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِتَفْصِيلِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنْ ذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النِّسَاء: ١٧٥] أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ كفرُوا بِاللَّه فيضد ذَلِكَ.

وَالتَّوْبَةُ هُنَا: الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَالنَّدَمُ عَلَى تَقَلُّدِهِ. وَعَطْفُ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ إِقْلَاعٍ عَنْ عَقَائِدِ الشِّرْكِ وَإِحْلَالِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ مَحَلَّهَا وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَعَمِلَ صالِحًا لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا شَاعِرِينَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ

وَكَانَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقَلُّدِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَسْبَابٌ مُغْرِيَةٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا.

وَ(عَسَى) تَرَجٍّ لِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْفَلَاحُ. وأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الْفَلَاحِ مِنْ: أَنْ يُفْلِحَ، كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة.

[٦٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦٨]

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.

هَذَا مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ وَهِيَ جُمْلَةُ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا [الْقَصَص:

٦٧] وَظَاهِرُ عَطْفِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ مَعْنَاهُ آيِلٌ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ قُلُوبٍ مُنْفَتِحَةٍ لِلِاهْتِدَاءِ وَلَوْ بِمَرَاحِلَ، وَقُلُوبٍ غَيْرِ مُنْفَتِحَةٍ لَهُ فَهِيَ قَاسِيَةٌ صَمَّاءُ، وَأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَ فَرِيقًا عَلَى فَرِيقٍ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَالَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] اه. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَهُمَا الْمُرَادُ بِالْقَرْيَتَيْنِ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ اتِّصَالُ مَعْنَاهَا بِقَوْلِهِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَجَابُوا بِهِ دَعْوَةَ الرَّسُولِ ﷺ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ وَيَخْتَارُ مِنْ بَيْنِ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَصْلُحُ لَهُ جِنْسُ مَا مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ لِلرِّسَالَةِ مَنْ يَشَاءُ إِرْسَالَهُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤]، وَأَنْ لَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَالْوَجْهَانِ لَا يَتَزَاحَمَانِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَيَخْتارُ فَذَكَرَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَخْلُوقَاتِهِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنْ لُوحِظَ سَبَبُ النُّزُولِ أَيْ رَبُّكَ وَحْدُهُ لَا أَنْتُمْ تَخْتَارُونَ مَنْ يُرْسَلُ إِلَيْكُمْ.

وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مَوْصُولَةً مَفْعُولًا لِفِعْلِ

يَخْتارُ وَأَنَّ عَائِدَ الْمَوْصُولِ مَجْرُورٌ بِ (فِي) مَحْذُوفَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَخْتَارُ مَا لَهُمْ فِيهِ الْخَيْرُ، أَيْ يَخْتَارُ لَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَالِحٌ بِهِمْ لَا مَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ رِجَالِهِمْ.

وَجُمْلَةُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ اسْتِئْنَافٌ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْجُمْلَةَ قَبْلَهُ مُفِيدَةُ مُجَرَّدِ التَّقَوِّي. وَصِيغَةُ مَا كانَ تَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ لِلْكَوْنِ يُفِيدُ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُ لَوْ قِيلَ:

مَا لَهُمُ الْخِيَرَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٤] .

وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أَيْ كَمَا أَنَّ الْخَلْقَ مِنْ خَصَائِصِهِ فَكَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ.

والْخِيَرَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ: اسْمٌ لِمَصْدَرِ الِاخْتِيَارِ مِثْلَ الطِّيَرَةِ اسْمٌ لِمَصْدَرِ

التَّطَيُّرِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا. وَفِي «اللِّسَانِ» مَا يُوهِمُ أَنَّ نَظِيرَهُمَا: سَبْيٌ طِيَبَةٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ وَلَا نَقْضُ عَهْدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّنْظِيرَ فِي الزِّنَةِ لَا فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهَا زِنَةٌ نَادِرَةٌ.

وَاللَّامُ فِي لَهُمُ لِلْمِلْكِ، أَيْ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَ اخْتِيَارًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى يَقُولُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] . وَنَفْيُ الْمِلْكِ عَنْهُمْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ مَا يَشاءُ لِأَنَّ مَا يَشاءُ يُفِيدُ مَعْنَى مَلْكِ الِاخْتِيَارِ.

وَفِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبًّا لِلنَّبِيءِ ﷺ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتَارَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ فَهُوَ قَدْ عَلِمَ اسْتِعْدَادَهُ لِقَبُولِ رِسَالَتِهِ.

سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَعُلُوِّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِتَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وسُبْحانَ مَصْدَرٌ نَائِبٌ مَنَابَ فِعْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢] . وَأُضِيفَ سُبْحانَ إِلَى اسْمِهِ الْعَلَمِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَسُبْحَانَهُ، بَعْدَ أَنْ قَالَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ [الْقَصَص: ٦٩] لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّنْزِيهِ بِذَاتِهِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ

جَمِيعِ الْمَحَامِدِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ قَبْلَ نَقْلِهِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ.

وَالْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ. وَوَجْهُ تَقْيِيدِ التَّنْزِيهِ وَالتَّرْفِيعِ بِ (مَا يُشْرِكُونَ) أَنه لم يجترىء أَحَدٌ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الشِّرْكِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ مِثْلَ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَوْ هُوَ مِمَّا أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَاف: ٢٨] . وَزَعَمُوا أَنَّ الْآلِهَةَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالُوا فِي التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْكَمَالِ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥] . وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ سبحانه وتعالى عَن إشراكهم.

[٦٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٦٩]

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩)

عَطْفٌ عَلَى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: ٦٨] أَيْ هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُرَكِّبُهُمْ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَفْعَالُ وَالِاعْتِقَادَاتُ فَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ صُدُورُهُمْ، أَيْ نُفُوسُهُمْ

وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. فَضَمِيرُ صُدُورُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الْقَصَص: ٦٨] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، أَيْ مَا تُكِنُّ صُدُورُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَحَيْثُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبَشَرُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعُمُومِ فِي مَا يَشاءُ [الْقَصَص: ٦٨] فَبِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ يَخْتَارُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ فَحَصَلَ بِهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الِاخْتِيَارِ وَإِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَهَذَا مُنْتَهَى الْإِيجَازِ.

وَفِي إِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ وَرَبُّكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ بُغْضُ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَتَقَدَّمَ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ آخر النَّمْل [٧٤] .

[٧٠]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٧٠]

وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ [الْقَصَص: ٦٨] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ

وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِنَّمَا قَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ مَعَ إِدْمَاجِ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ افْتِقَارَ الْكُلِّ إِلَيْهِ.

وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ لِيَعُودَ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: ٥٨] إِلَى هُنَا، أَيِ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَاعِلُ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْجَلِيلَةِ. وَالْمَذْكُورُ بعنوان رَبُّكَ [الْقَصَص: ٦٩] هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهَ اسْمًا جَامِعًا لِجَمِيعِ مَعَانِي الْكَمَالِ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرُهُ، أَيْ فَلَا تَلْتَبِسُوا فِيهِ وَلَا تُخْطِئُوا بِادِّعَاءِ مَا لَا يَلِيقُ بِاسْمِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْله فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [يُونُس: ٣٢] .

وَقَوْلُهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الثَّانِي زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ اخْتُصَّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِلَهِ الْحَقِّ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَرَّفُوا أَوْ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِلْأَصْنَامِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ دُونَ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مِنْ حَقِّ النَّظَرِ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِلشِّرْكِ بَعْدَ إِبْطَالِهِ بِحِكَايَةِ تَلَاشِيهِ عَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الْقَصَص: ٦٤] .

وَأَخْبَرَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ خَبَرًا ثَانِيًا بِقَوْلِهِ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ لَا يَحْمَدُونَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا

اللَّهَ فَلَا تَسْمَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلْعُزَّى، مَثَلًا.

فَاللَّامُ فِي لَهُ لِلْمِلْكِ، أَيْ لَا يَمْلِكُ الْحَمْدَ غَيْرُهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ اخْتِصَاصٌ حَقِيقِيٌّ.

وَتَعْرِيفُ الْحَمْدُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَهُ كُلُّ حَمْدٍ.

والْأُولى هِيَ الدُّنْيَا وَتَخْصِيصُ الْحَمْدِ بِهِ فِي الدُّنْيَا اخْتِصَاصٌ لِجِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ لِأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ مَجَازٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.

وَأَمَّا الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء:

٥٢] . وَاخْتِصَاصُ الْجِنْسِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ.

وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْحُكْمُ اللَّامُ فِيهِ أَيْضًا لِلْمِلْكِ. وَالتَّقْدِيمُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْضًا.

والْحُكْمُ: الْقَضَاءُ وَهُوَ تَعْيِينُ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ لِلْغَيْرِ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْحُكْمِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ عَلَيْهِ، أَيْ لَهُ الْحُكْمُ فِي الدَّارَيْنِ. وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى الْمَجَازِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْآخِرَة فمقصور عَلَى اللَّهِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِتَصَرُّفِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا وَإِبْطَالٌ لِشَفَاعَتِهَا الَّتِي يَزْعُمُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] أَيْ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مَا زَعَمْتُمْ مِنَ الْبَعْثِ.

وَأَمَّا جُمْلَةُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، فَبَعْدَ أَنْ أُثْبِتَ لِلَّهِ كُلُّ حَمْدٍ وَكُلُّ حُكْمٍ، أَيْ أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَتُمَجِّدُونَهُ وَيُجْرِي عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا إِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ أَيْ إِلَى حكمه.

[٧١- ٧٢]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٢]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)

انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ بِبَدِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ وَلِلتَّعْرِيضِ

بِكُفْرِ الْمُشْرِكِينَ جَلَائِلَ نِعَمِهِ.

وَمِنْ أَبْدَعَ الِاسْتِدْلَالِ أَنِ اخْتِيرَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ الْمُتَكَرِّرُ كَلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ كُلُّ مُمَيِّزٍ، وَالَّذِي هُوَ أَجْلَى مَظَاهِرِ التَّغَيُّرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي التَّكَيُّفِ بِهِ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى الْأَصْنَامَ فَهِيَ تُظْلِمُ وَتَسْوَدُّ أَجْسَامُهَا بِظَلَامِ اللَّيْلِ وَتُشْرِقُ وَتُضِيءُ بِضِيَاءِ النَّهَارِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَعَاقُبِ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ عَلَى

النَّاسِ أَقْوَى وَأَوْضَحَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِتَكْوِينِ أَحَدِهِمَا لَوْ كَانَ دَائِمًا، لِأَنَّ قُدْرَةَ خَالِقِ الضِّدَّيْنِ وَجَاعِلِ أَحَدِهِمَا يَنْسَخُ الْآخَرَ كُلَّ يَوْمٍ أَظْهَرُ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَخْلُقْ إِلَّا أَقْوَاهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا، وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِتَعَاقُبِهِمَا دَوْمًا أَشَدُّ مِنَ الْإِنْعَامِ بِأَفْضَلِهِمَا وَأَنْفَعِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِما لَكَانَ مسؤوما وَلَحَصَلَتْ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَفُقِدَتْ مَنَافِعُ ضِدِّهِ. فَالتَّنَقُّلُ فِي النِّعَمِ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَلَوْ كَانَ تَنَقُّلًا إِلَى مَا هُوَ دُونَ. وَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِأُسْلُوبِ تَلْقِينِ النَّبِيءِ ﷺ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا التَّذْكِيرِ لهَذَا الِاسْتِدْلَال ولاشتماله عَلَى ضِدَّيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ قَاصِرَةً عَنْ إِدْرَاكِ دَلَالَةِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ لَكَانَ فِي الضِّدِّ الْآخَرِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ، وَلَوْ قَصَّرُوا عَنْ حِكْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي تَعَاقُبِهِمَا مَا يَكْفِي لِلِاسْتِدْلَالِ.

وَجِيءَ فِي الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ إِنْ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ فَرْضًا مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبْرَةِ خَلْقِ النُّورِ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ اسْتِمْرَارَ اللَّيْلِ، وَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ.

وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»: مِنَ السَّرْدِ وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. وَالْمِيمُ مَزِيدَةٌ وَوَزْنُهُ فَعْمَلَ، وَنَظِيرُهُ دُلَامِصٌ مِنَ الدِّلَاصِ اه. دُلَامِصٌ (بِضَمِّ الدَّالِّ وَكَسْرِ الْمِيمِ) مِنْ صِفَاتِ الدِّرْعِ وَأَصْلُهَا دِلَاصٌ (بِدَالٍ مَكْسُورَةٍ) أَيْ بَرَّاقَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» وَبَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ مِيمَ سَرْمَدٍ أَصْلِيَّةً وَأَنَّ وَزْنَهُ فَعْلَلْ. وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ اللَّيْلِ سَرْمَدًا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ الشَّمْسَ وَيَكُونَ خَلَقَ الْأَرْضَ فَكَانَتِ الْأَرْضُ مُظْلِمَةً.

وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ إِنْكَارِيٌّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا الِانْتِفَاءِ وَأَنَّ خَالِقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرُهُ.

وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِحَاطَةُ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءُ

جَعْلِهِ سَرْمَدًا.

وَالْإِتْيَانُ بِالضِّيَاءِ وَبِاللَّيْلِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيجَادِ شُبِّهَ إِيجَادُ الشَّيْءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ

مَوْجُودًا بِالْإِجَاءَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْمُثُولُ وَالظُّهُورُ.

وَالضِّيَاءُ: النُّورُ. وَهُوَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٥] . وَعَبَّرَ بِالضِّيَاءِ دُونَ النَّهَارِ لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ قَدْ تَخِفُّ قَلِيلًا بِنُورِ الْقَمَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الضِّيَاءِ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ.

وَفِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ يَأْتِيكُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِيجَادَ الضِّيَاءِ وَإِيجَادَ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِذْ قَدِ اسْتَمَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ سُطُوعِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ الضِّيَاءِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَقَامَتِ الْحُجَّةَ الْوَاضِحَةَ عَلَى فَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، فَفَرَّعَ عَلَى تِلْكَ الْحُجَّةِ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَنِ انْتِفَاءِ سَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ أَفَلا تَسْمَعُونَ أَيْ أَفَلَا تَسْمَعُونَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ اللَّيْلِ وَالضِّيَاءِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَفَلا تَسْمَعُونَ تَذْيِيلًا.

وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ فِي مَقَامِ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ يُنَاسِبُهُ التَّكْرِيرُ مِثْلَ مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَمَقَامِ التَّهْوِيلِ.

وَعُكِسَ الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِفَرْضِ أَنْ يَكُونَ النَّهَارُ وَهُوَ انْتِشَارُ نُورِ الشَّمْسِ، سَرْمَدًا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ كُرَوِيَّةِ الشَّكْلِ بِحَيْثُ يَكُونُ شُعَاعُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جَمِيعِ سَطْحِ الْأَرْضِ دَوْمًا.

وَوَصْفُ اللَّيْلِ بِ تَسْكُنُونَ فِيهِ إِدْمَاجٌ لِلْمِنَّةِ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ لِلتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَتِلْكَ هِيَ نِعْمَةُ السُّكُونِ فِيهِ فَإِنَّهَا تَشْمَلُ لَذَّةَ الرَّاحَةِ، وَلَذَّةَ الْخَلَاصِ مِنَ الْحَرِّ، وَلَذَّةَ اسْتِعَادَةِ نَشَاطِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي بِهِ التَّفْكِيرُ وَالْعَمَلُ، وَلَذَّةَ الْأَمْنِ مِنَ الْعَدُوِّ.

وَلَمْ يُوصَفِ الضِّيَاءُ بِشَيْءٍ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا.

وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا تَنْزِيلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يُبْصِرُونَ الْأَشْيَاءَ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَتَفَرُّدِهِ بِصُنْعِهَا وَهِيَ مِنْهُمْ بِمَرْأَى الْأَعْيُنِ.

وَنَاسَبَ السَّمْعُ دَلِيلَ فَرْضِ سَرْمَدَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَوْ كَانَ دَائِمًا لَمْ تَكُنْ لِلنَّاسِ رُؤْيَةٌ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِشَارِ شَيْءٍ مِنَ النُّورِ عَلَى سَطْحِ الْجِسْمِ الْمَرْئِيِّ، فَالظُّلْمَةُ الْخَالِصَةُ لَا تُرَى فِيهَا الْمَرْئِيَّاتُ. وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ فَرْضِ دَوَامِ اللَّيْلِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى عَدَمِ سَمَاعِهِمْ، وَجِيءَ فِي جَانِبِ فَرْضِ دَوَامِ النَّهَارِ بِالْإِنْكَارِ عَلَى عَدَمِ إِبْصَارِهِمْ.

وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَفَلا تُبْصِرُونَ تذييلا.

[٧٣]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٧٣]

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)

تَصْرِيحٌ بِنِعْمَةِ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى النَّاسِ بِقَوْلِهِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ بِطَرِيقِ الْإِدْمَاجِ بقوله يَأْتِيكُمْ [الْقَصَص: ٧١ وَبِقَوْلِهِ تَسْكُنُونَ فِيهِ [الْقَصَص: ٧٢] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَجُمْلَةُ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا [الْقَصَص: ٧١] .

ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ بِالنَّاسِ حَقِيقَةٌ كُلِّيَّةٌ لَهَا تَحَقُّقٌ فِي وُجُودِ أَنْوَاعِهَا وَآحَادِهَا الْعَدِيدَةِ، وَالْمَجْرُورُ بِ مِنْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ، وَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ لَكُمُ، وَالْمَقْصُودُ إِظْهَارُ أَنَّ هَذَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ لِيَتَذَكَّرُوا بِهِمَا نِعَمًا أُخْرَى.

وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ بِ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمِنَّةِ الرَّحْمَةِ.

وَقَدْ سَلَكَ فِي قَوْلِهِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ طَرِيقَةُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ فَيَعُودُ لِتَسْكُنُوا فِيهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَيَعُودُ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِلَى النَّهَارِ، وَالتَّقْدِيرُ:

وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِيهِ، فَحَذَفَ الضَّمِيرَ وَجَارَّهُ إِيجَازًا اعْتِمَادًا عَلَى الْمُقَابَلَةِ.

وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَمَلِ وَالطَّلَبِ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠] . وَالرِّزْقُ: فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.

وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٨] . وَلَامُ لِتَسْكُنُوا وَلَامُ وَلِتَبْتَغُوا لِلتَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولَاهُمَا عِلَّتَانِ لِلْجَعْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ فِعْلِ جَعَلَ.

وَعُطِفَ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ رَجَاءَ شُكْرِهِمْ عَلَى هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ رَحْمَتِهِ بِالنَّاسِ فَالشَّأْنُ أَنْ يَتَذَكَّرُوا بِذَلِكَ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَجَلَائِلَ النِّعَمِ فَيَشْكُرُوهُ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَمْ يَشْكُرُوا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُور أَرَأَيْتُمْ [الْقَصَص: ٧١] بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ تَخْفِيفًا لِهَمْزَةِ رَأَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ وَهِي لُغَة.

[٧٤- ٧٥]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٥]

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)

كُرِّرَتْ جُمْلَةُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ التَّكْرِيرَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَقَامِ التَّوْبِيخِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَيَوْمَ نَنْزِعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا، فَأُعِيدَ ذِكْرُ أَنَّ اللَّهَ يُنَادِيهِمْ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيعِيِّ وَيَنْزِعُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ يُكَرَّرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِنَّمَا كُرِّرَتْ حِكَايَتُهُ وَأَنَّهُ نِدَاءٌ وَاحِدٌ يَقَعُ عَقِبَهُ جَوَابُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَيَقَعُ نَزْعُ شَهِيدٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَيْهِمْ فَهُوَ شَامِلٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي نَزَعْنا: إِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَهِيَ يَعْقُبُهَا الْمَاضِي بِ (قَدْ) وَبِدُونِ (قَدْ) أَيْ يَوْمَ يَكُونُ ذَلِكَ النِّدَاءُ وَقَدْ أَخْرَجْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ وَأَخْرَجْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ [النَّحْل: ٨٩] .

وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولُهَا.

وَالنَّزْعُ: جَذْبُ شَيْءٍ مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ مُخْتَلِطٌ بِهِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِخْرَاجِ بَعْضٍ مِنْ جَمَاعَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ

عِتِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٩] . وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ تَأْتِي إِلَى الْمَحْشَرِ تَتْبَعُ أَنْبِيَاءَهَا، وَهَذَا الْمَجِيءُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ تَأْتِي الْأَنْبِيَاءُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ آمَنُوا بِهِ كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيث «يَأْتِي النبيء مَعَه الرَّهْط والنبيء وَحْدَهُ مَا مَعَهُ أَحَدٌ» .

وَالْتُفِتَ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي وَنَزَعْنا لإِظْهَار عَظمَة التَّكَلُّم، وَعُطِفَ فَقُلْنا عَلَى وَنَزَعْنا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَالْمُخَاطَبُ بِ هاتُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، أَيْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ عَلَى إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِكُمْ.

وهاتُوا اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ نَاوِلُوا، وهات مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١١]، وَاسْتُعِيرَتِ الْمُنَاوَلَةُ لِلْإِظْهَارِ.

وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَلَمَّا عَلِمُوا عَجْزَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ بُرْهَانٍ لَهُمْ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ أَيْقَنُوا أَنَّ الْحَقَّ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ إِذْ كَانَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ إِذْ نَادَاهُمْ بِأَمْرِ التَّعْجِيزِ فِي قَوْلِهِ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.

وَمَا كانُوا يَفْتَرُونَ يَشْمَلُ مَا كَانُوا يَكْذِبُونَهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ مِنَ الْأَصْنَامِ، كُلُّ ذَلِكَ كَانُوا يَفْتَرُونَهُ.

وَالضَّلَالُ: أَصْلُهُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِعَدَمِ خُطُورِ الشَّيْءِ فِي الْبَالِ وَلِعَدَمِ حُضُورِهِ فِي الْمَحْضَرِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِيهِ.

وعَنْهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ ضَلَّ. وَالْمُرَادُ: ضَلَّ عَنْ عُقُولِهِمْ وَعَنْ مَقَامِهِمْ مُثِّلُوا بِالْمَقْصُودِ لِلسَّائِرِ فِي طَرِيق حِين يخطىء الطَّرِيقَ فَلَا يَبْلُغُ الْمَكَانَ الْمَقْصُودَ. وَعُلِّقَ بِالضَّلَالِ ضَمِيرُ ذَوَاتِهِمْ لِيَشْمَلَ ضَلَالَ الْأَمْرَيْنِ فَيُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً يُرَوِّجُونَ بِهَا زَعْمَهُمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَجِدُوا الْأَصْنَامَ حَاضِرَةً لِلشَّفَاعَةِ فِيهِمْ فَوَجِمُوا عَنِ الْجَوَابِ وَأَيْقَنُوا بِالْمُؤَاخَذَةِ

[٧٦، ٧٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٧٦ الى ٧٧]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.

كَانَ مِنْ صُنُوفِ أَذَى أَيِمَّةِ الْكُفْرِ النَّبِيءَ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ دَوَاعِيَ تَصَلُّبِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ اعْتِزَازُهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ

[الزخرف: ٣١] أَيْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ سَبَبُ الْعَظَمَةِ وَنَبْزِهِمُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا [سبأ: ٣٥] وَقَوْلِهِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١] الْآيَةَ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ بِأَسَانِيدَ: أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَادَتِهِمْ مِنْهُمْ عَتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ. قَالُوا:

«أَيُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَكُونَ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ (يَعْنُونَ خَبَّابًا، وَبِلَالًا، وَعمَّارًا، وصهيبا) فَلَو طَرَدَ مُحَمَّدٌ عَنْهُ مَوَالِيَنَا وَعَبِيدَنَا كَانَ أَعْظَمَ لَهُ فِي صُدُورِنَا وَأَطْمَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَرْجَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إِلَى قَوْله بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: ٥٢، ٥٣] . وَكَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦٠، ٦١] كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بِأَمْثَالِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَضَرَبَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِحَالِ تَعَاظُمِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ مَثَلًا بِحَالِ قَارُونَ مَعَ مُوسَى وَإِنَّ مَثَلَ قَارُونَ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونُ مَثَلًا لِأَبِي لَهَبٍ وَلِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فِي قَرَابَتِهِمَا مِنَ النَّبِيءِ ﷺ وَأَذَاهُمَا إِيَّاهُ، وَلِلْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فِي أَذَاهُ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَغَيْرِهِ، وَلِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ بِمَالِهِ وَذَوِيِهِ. قَالَ تَعَالَى ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا [المدثر: ١١، ١٢] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.

فَقَوْلُهُ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ قِصَّةٍ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِحَالِ بَعْضِ كُفَّارِ مَكَّةَ وَهُمْ سَادَتُهُمْ مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَلَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِجُمْلَةِ وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦٠، ٦١] .

وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ اتِّصَالٌ بِانْتِهَاءِ قِصَّةِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ الْمُنْتَهِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [الْقَصَص: ٤٦] الْآيَةَ.

وقارُونَ اسْمٌ مُعَرَبٌ أَصْلُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (قُورَحُ) بِضَمِّ الْقَافِ مُشْبَعَةً وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِ تَغْيِيرُ بَعْضِ حُرُوفِهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَأُجْرِيَ وَزْنُهُ عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلَ طَالُوتَ، وَجَالُوتَ، فَلَيْسَتْ حُرُوفُهُ حُرُوفُ اشْتِقَاقٍ مِنْ مَادَّةِ قَرَنَ.

وَ(قُورَحُ هَذَا ابْنُ عَمِّ مُوسَى عليه السلام دِنْيَا)، فَهُوَ قُورَحُ بْنُ يَصْهَارَ بْنِ قَهَاتِ بْنِ

لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَمَ الْمُسَمَّى عِمْرَانَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ابْنِ قَاهِتَ فَيَكُونُ يَصَاهَرُ أَخَا عِمْرَمَ، وَوَرَدَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ أَنَّ (قُورَحَ) هَذَا تَأَلَّبَ مَعَ بَعْضِ زُعَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام حِينَ جَعَلَ اللَّهُ الْكِهَانَةَ فِي بَنِي هَارُونَ مِنْ سِبْطِ (لَاوِي) فَحَسَدَهُمْ قُورَحُ إِذْ كَانَ ابْنَ عَمِّهِمْ وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: مَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ إِنَّ الْجَمَاعَةَ مُقَدَّسَةٌ وَالرَّبَّ مَعَهَا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى قُورَحَ وَأَتْبَاعِهِ وَخَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ أَمْوَالُ (قُورَحَ) كُلُّهَا، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى أَبْوَابِ (أَرِيحَا) قَبْلَ فَتْحِهَا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَعْلَ (قُورَحَ) رَئِيسًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ وَأَنَّهُ جَمَعَ ثَرْوَةً عَظِيمَةً.

وَمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ سَبَبَ نُشُوءِ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ لِمُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِالرِّسَالَةِ وَخَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ زَالَ تَأَمُّرُ قارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَحَقَدَ عَلَى مُوسَى. وَقَدْ أَكْثَرَ الْقُصَّاصُ مِنْ وَصْفِ بَذْخَةِ قَارُونَ وَعَظْمَتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ بُرْهَانٍ.

وَتَلَقَّفَهُ الْمُفَسِّرُونَ حَاشَا ابْنَ عَطِيَّةَ.

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ خَبَرِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ وَهُوَ سُوءُ عَاقِبَةِ الَّذِينَ تَغُرُّهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَتَزْدَهِيهِمْ فَلَا يَكْتَرِثُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَيَسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ، وَيَكْفُرُونَ بِشَرَائِعِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ قَارُونَ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يُؤَكَّدَ لَهُ، فَمَصَبُّ التَّأْكِيدِ هُوَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمُنْتَهِيَةِ بِالْخَسْفِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنَّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَمَنَاطِ الِاهْتِمَامِ هُوَ مَجْمُوعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْقِصَّةُ مِنَ الْعِبَرِ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَصَارَ عَدُوًّا لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، فَأَمْرُهُ أَغْرَبُ مِنْ أَمَرِ فِرْعَوْنَ.

وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِمَا فِي إِضَافَةِ قَوْمِ إِلَى مُوسى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَ لِقَارُونَ اتِّصَالًا خَاصًّا بِمُوسَى فَهُوَ اتِّصَالُ الْقَرَابَةِ.

وَجُمْلَةُ فَبَغى عَلَيْهِمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى وَجُمْلَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ، وَالْفَاءُ فِيهَا لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ، أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَطِرَ النِّعْمَةَ وَاجْتَرَأَ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، لِلتَّعْجِيبِ مِنْ بَغْيِ أَحَدٍ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:

وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقَعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

وَالْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأُمَّةِ الِاسْتِخْفَافُ بِحُقُوقِهَا، وَأَوَّلُ ذَلِكَ خَرْقُ شَرِيعَتِهَا. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسى تَمْهِيدٌ لِلْكِنَايَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْ إِرَادَةِ التَّنْظِيرِ بِمَا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ بَغْيِ بَعْضِ قَرَابَتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ.

وَفِي قَوْلِهِ إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ مَا يُسَمَّى النَّثْرُ الْمُتَّزِنُ، أَيِ النَّثْرُ الَّذِي يَجِيءُ بِمِيزَانِ بَعْضِ بُحُورِ الشِّعْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَاءَتْ عَلَى مِيزَانِ مِصْرَاعٍ مِنْ بَحْرِ الْخَفِيفِ، وَوَجْهُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَالَ الْبَلَاغِيَّ يَقْتَضِي التَّعْبِيرَ بِأَلْفَاظٍ وَتَرْكِيبٍ يَكُونُ مَجْمُوعُهُ فِي مِيزَانِ مِصْرَاعٍ مِنْ أَحَدِ بُحُورِ الشِّعْرِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ صِلَةُ مَا الْمَوْصُولَةِ عِنْدَ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ الَّذِينَ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ تَقَعَ إِنَّ فِي افْتِتَاحِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَمَنَعَ الْكُوفِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتُذِرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا مَا هُنَا بِأَنَّهَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ.

وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَهُوَ آلَةُ الْفَتْحِ، وَيُسَمَّى الْمِفْتَاحُ أَيْضًا. وَجَمْعُهُ مَفَاتِيحُ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ

والْكُنُوزِ: جَمْعُ كَنْزٍ وَهُوَ مُخْتَزَنُ الْمَالِ مِنْ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢]، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْمَالِ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ: بَدْرَةُ مَالٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يُجْعَلُ لِذَلِكَ الْمِقْدَارِ خِزَانَةٌ أَوْ صُنْدُوقٌ يَسَعُهُ وَلِكُلِّ صُنْدُوقٍ أَوْ خِزَانَةٍ مِفْتَاحُهُ. وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ «يَكْفِي الْكُوفَةَ مِفْتَاحٌ» أَيْ مِفْتَاحٌ وَاحِدٌ، أَيْ كَنْزٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَالِ لَهُ مِفْتَاحٌ، فَتَكُونُ كَثْرَةُ الْمَفَاتِيحِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْخَزَائِنِ وَتِلْكَ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الْمَالِ فَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِثْلَ:

جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ (وَتَنُوءُ): تَثْقُلُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْعُصْبَةِ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ أَنْ تَثْقُلَ مَعَ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهَا فَهِيَ لِشِدَّةِ ثِقَلِهَا تَثْقُلُ مَعَ أَنَّ حَمَلَتَهَا عُصْبَةٌ أُولُو قُوَّةٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ وَلَا كَمِثَالِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ»: نَاءَ بِهِ الْحِمْلُ، إِذَا أَثْقَلَهُ الْحِمْلُ حَتَّى أَمَالَهُ.

وَأَمَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّ تَرْكِيبَ الْآيَةِ فِيهِ قَلْبٌ، فَلَا يَقْبَلُهُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ.

وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي مِقْدَارِهَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ اكْتَسَبَ الْأَمْوَالَ فِي مِصْرَ وَخَرَجَ بِهَا.

إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ.

إِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ (بَغَى عَلَيْهِمْ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ الْقِصَّةُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ تَوْقِيتَ الْبَغْيِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مُتَعَلِّقًا بِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفًا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقَصَصِ.

وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ بَعْضُهُمْ إِمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَوْعِظَةِ وَإِمَّا مُوسَى عليه السلام أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَوْمِ لِأَنَّ أَقْوَالَهُ قُدْوَةٌ لِلْقَوْمِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا قَوْلَهُ.

وَالْفَرَحُ يُطْلَقُ عَلَى السُّرُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِها فِي يُونُسَ [٢٢] . وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَطَرِ وَالِازْدِهَاءِ، وَهُوَ الْفَرَحُ الْمُفْرِطُ الْمَذْمُومُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦] وَهُوَ التَّمَحُّضُ لِلْفَرَحِ. وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْمُفْرِطُ مِنْهُ، أَيِ الَّذِي تَمْحَضَّ للتعلق بمتاع الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ النَّفْسِ بِهِ لِأَنَّ الِانْكِبَابَ عَلَى ذَلِكَ يُمِيتُ مِنَ النَّفْسِ الِاهْتِمَامَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُنَافَسَةِ لِاكْتِسَابِهَا فَيَنْحَدِرُ بِهِ التَّوَغُّلُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّذَّاتِ إِلَى حَضِيضِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، فَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مُعْرِضًا عَنِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْفَرَحَ إِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِهِ شَيْءٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ سَجِيَّةَ الْمَوْصُوفِ فَصَارَ مُرَادًا بِهِ الْعُجْبُ وَالْبَطَرُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ تَعْضِيدًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، أَيِ الْمُفْرِطِينَ فِي الْفَرَحِ فَإِنَّ صِيغَةَ (فَعِلٍ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَالْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَرَحِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا يُفْرَحُ بِهِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ غَيْرِهِ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ رَمْزًا إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجِدِّ وَالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ.

وَابْتِغَاءُ الدَّارِ الْآخِرَةِ طَلَبُهَا، أَيْ طَلَبُ نَعِيمِهَا وَثَوَابِهَا. وَعَلِقَ بِفِعْلِ الِابْتِغَاءِ قَوْلُهُ فِيما آتاكَ اللَّهُ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ اطْلُبْ بِمُعْظَمِهِ وَأَكْثَرِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَغَلْغُلِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي مَا آتَاهُ اللَّهُ وَمَا آتَاهُ هُوَ كُنُوزُ الْمَالِ، فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي

قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [النِّسَاء: ٥] أَيْ مِنْهَا وَمُعْظَمِهَا، وَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:

نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا ... وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ

أَيِ اطْلُبْ بِكُنُوزِكَ أَسْبَابَ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا أَوْجَبَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقُرْبَانِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ.

وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا.

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَافَّتَيْنِ بِهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.

وَالنَّهْيُ فِي وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ. وَالنِّسْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّرْكِ

كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْخَيْلِ «وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا»

، أَيْ لَا نَلُومُكَ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا أَيِ الَّذِي لَا يَأْتِي عَلَى نَصِيبِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ فِي الْمَوْعِظَةِ خَشْيَةَ نُفُورِ الْمَوْعُوظِ مِنْ مَوْعِظَةِ الْوَاعِظِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِقَارُونَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أَوْهَمُوا أَنْ يَتْرُكَ حُظُوظَ الدُّنْيَا فَلَا يَسْتَعْمِلَ مَالَهُ إِلَّا فِي الْقُرُبَاتِ، فَأُفِيدَ أَنَّ لَهُ اسْتِعْمَالَ بَعْضِهِ فِي مَا هُوَ مُتِمِحِّضٌ لِنَعِيمِ الدُّنْيَا إِذَا آتَى حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِ. فَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.

وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْقِسْطُ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ النَّصْبِ لِأَنَّ مَا يُعْطَى لِأَحَدٍ يُنَصِّبُ لَهُ وَيُمَيِّزُ، وَإِضَافَةُ النَّصِيبِ إِلَى ضَمِيرِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ وَأَنَّ لِلْمَرْءِ الِانْتِفَاعَ بِمَالِهِ فِي مَا يُلَائِمُهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْقُرُبَاتِ وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا. قَالَ مَالِكٌ: فِي رَأْيِي مَعْنَى وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبُ الدُّنْيَا هُوَ الْحَلَالُ كُلُّهُ. وَبِذَلِكَ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثَالًا لِاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ النَّهْيِ لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ.

ومِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا نَعِيمُهَا. فَالْمَعْنَى: نَصِيبَكَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ نَعِيمِ الدُّنْيَا.

وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.

الْإِحْسَانُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ هُنَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.

وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَحْسِنْ أَيْ إِحْسَانًا شَبِيهًا بِإِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَمَعْنَى الشَّبَهِ: أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْكَافِ كَافَ التَّعْلِيلِ، وَمِثْلُهَا

قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨] . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّعْلِيلَ حَاصِلٌ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَلَيْسَ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ مَعَانِي الْكَافِ.

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْإِحْسَانِ لِتَعْمِيمِ مَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ فَيَشْمَلُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ وَدَوَابَّهُ وَمَخْلُوقَاتِ اللَّهِ الدَّاخِلَةَ فِي دَائِرَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ

اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»

فَالْإِحْسَانُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَالْإِحْسَانُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ حَتَّى الْأَذَى الْمَأْذُونُ فِيهِ فَبِقَدَرِهِ وَيَكُونُ بِحُسْنِ الْقَوْلِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ اللِّقَاءِ.

وَعَطْفُ لَا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ خَلْطِ الْإِحْسَانِ بِالْفَسَادِ فَإِنَّ الْفَسَادَ ضِدُّ الْإِحْسَانِ، فَالْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّدَتْ مَوَارِدُ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ فَقَدْ يَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ إِلَى شَيْءٍ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَشْيَاءَ يُعْتَبَرُ غَيْرَ إِحْسَانٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُهُمُ الَّتِي هُمْ حَالُّونَ بِهَا، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَالْإِفْسَادُ فِيهَا إِفْسَادٌ مَظْرُوفٌ فِي عُمُومِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٥] .

وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِعِبَادِهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ كَانَ قارُونَ مُوَحِّدًا عَلَى دِينِ إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي صِدْقِ مَوَاعِيدِ مُوسَى وَفِي تشريعاته.

[٧٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٧٨]

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)

جَوَابٌ عَنْ مَوْعِظَةِ وَاعِظِيهِ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَلَمْ يُعْطَفْ وَهُوَ جَوَابٌ مُتَصَلِّفٌ حَاوَلَ بِهِ إِفْحَامَهُمْ وَأَنْ يَقْطَعُوا مَوْعِظَتَهُمْ لِأَنَّهَا أَمَرَّتْ بَطَرَهُ وَازْدِهَاءَهُ.

وإِنَّما هَذِهِ هِيَ أَدَاةُ الْحَصْرِ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) وَ(مَا) الْكَافَّةِ مُصَيَّرَتَيْنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي حَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَوْصُولَةَ النُّونِ بِمِيمِ (مَا) . وَالْمَعْنَى: مَا أُوتِيتُ هَذَا الْمَالَ إِلَّا عَلَى عِلْمٍ عَلِمْتُهُ.

وَضَمِيرُ أُوتِيتُهُ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِمْ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ

الْآخِرَةَ

[الْقَصَص: ٧٧] . وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ كَلَامِ وَاعِظِيهِ.

وَ(عَلى عِلْمٍ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ.

وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ وَالتَّحَقُّقِ، أَيْ مَا أُوتِيتُ الْمَالَ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ تَمَكُّنِي مِنْ عِلْمٍ رَاسِخٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ عِلْمَ أَحْكَامِ إِنْتَاجِ الْمَالِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا تَعِظُونَنِي بِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ لَهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٧٦، ٧٧] . وَقَدْ كَانَ قَارُونُ مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ بِالتَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ فَأَرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ قَطْعَ مَوْعِظَتَهُمْ نَظِيرَ جَوَابِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَشْدَقِ لِأَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ حِينَ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمِيرًا مِنْ قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ فَجَعَلَ يُجَهِّزُ الْجُيُوشَ وَيَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِقِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ لَهُ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ

قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»

فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمَ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنَ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَرَادَ بِجَوَابِهِ إِنْكَارَ قَوْلِهِمْ: آتَاكَ اللَّهُ صَلَفًا مِنْهُ وَطُغْيَانًا.

وَقَوْلُهُ عِنْدِي صِفَةٌ لِ عِلْمٍ تَأْكِيدًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَشُهْرَتِهِ بِهِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الْآيَةَ، كَمَا سَتَعْرِفُهُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا تُسْفِرُ عَنْ أَشْكَالٍ أُخْرَى مِنْ تَرْكِيبِ نَظْمِ الْآيَةِ فِي مَحْمِلِ مَعْنَى عَلى وَمَحْمِلِ الْمُرَادِ مِنَ (الْعِلْمِ) وَمَحْمِلِ عِنْدِي فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهَا فَهِيَ مِنْكَ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ.

وَقَوْلُهُ أَوَلَمْ يَعْلَمْ الْآيَةَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْهَمْزَةُ فِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ تَعْجِيبًا مِنْ عَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى

مُوجِبِ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ أُمَمًا عَلَى بَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ وَإِعْجَابِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ وَنِسْيَانِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ تَعْجِيبًا مِنْ فَوَاتِ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ بَابِ «حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ» .

وَعُطِفَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى جُمْلَةِ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ.

وَالْقُوَّةُ: مَا بِهِ يُسْتَعَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِقُوَّةِ الْجِسْمِ الَّتِي تُخَوِّلُ صَاحِبَهَا حَمْلَ الْأَثْقَالِ وَنَحْوِهَا قَالَ تَعَالَى وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الْأَنْفَال: ٦٠] .

وَالْجَمْعُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ: كَانَ أَشْيَاعُ قَارُونَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤَسَاءَ جَمَاعَاتٍ.

وَجُمْلَة وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُ. وَالسُّؤَالُ الْمَنْفِيُّ السُّؤَالُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ سُؤَالَ الْآخِرَةِ.

وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَى إِجْرَامِهِمْ فَهِيَ كِنَايَةٌ بِوَسَائِطَ.

وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِيَكُونُوا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يُؤْخَذُوا بَغْتَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ لَا يُسْأَلُ الْمُجْرِمُ عَنْ جُرْمِهِ قَبْلَ عِقَابِهِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ بِحَدَّيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَمْهَلَ الْمُجْرِمَ فَإِذَا أَخَذَهُ أَخَذَهُ بَغْتَةً وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الْأَنْعَام: ٤٤]

وَقَول النبيء ﷺ «إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يفلته»

. [٧٩]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٧٩]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ [الْقَصَص: ٧٦] إِلَى آخِرِهَا مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا، فَدَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مِنْ أَجْلِ

أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَلَمْ يَتَّعِظْ بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ وَلَا زَمَنًا قَصِيرًا بَلْ أَعْقَبَهَا بِخُرُوجِهِ هَذِهِ الْخِرْجَةَ الْمَلِيئَةَ صَلَفًا وَازْدِهَاءً. فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فَخَرَجَ، أَيْ رَفَضَ الْمَوْعِظَةَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَتَعْدِيَةُ (خَرَجَ) بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى النُّزُولِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ خُرُوجٌ مُتَعَالٍ مُتَرَفِّعٌ، وفِي زِينَتِهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (خَرَجَ) .

وَالزِّينَةُ: مَا بِهِ جَمَالُ الشَّيْءِ وَالتَّبَاهِي بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالطِّيبِ وَالْمَرَاكِبِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣١] . وَإِنَّمَا فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الزِّينَةُ مِنْ أَنَّهَا مِمَّا يَتَمَنَّاهُ الرَّاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَعَلَى أَخْصَرِ وَجْهٍ لِأَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهُمْ أَمْيَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَرَغَبَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَكُلٌّ يَتَمَنَّى أُمْنِيَةً مِمَّا تَلَبَّسَ بِهِ قَارُونُ مِنَ الزِّينَةِ، فَحَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِسَامِ قَوْمِهِ إِلَى مُغْتَرِّينَ بِالزَّخَارِفِ الْعَاجِلَةِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَإِلَى عُلَمَاءَ يُؤْثِرُونَ الْآجِلَ عَلَى الْعَاجِلِ، وَلَوْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالْوَاو وبالفاء لَفَاتَتْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ الْبَلِيغَةُ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ إِمَّا خَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، أَوْ جُزْءَ خَبَرٍ مِنْ قِصَّتِهِ.

والَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا لما قوبلوا ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الْقَصَص: ٨٠] كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمْ عَامَّةَ النَّاسِ وَضُعَفَاءَ الْيَقِينِ الَّذِينَ تُلْهِيهِمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا عَمَّا يَكُونُ فِي مَطَاوِيهَا مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَتَقْصُرُ بَصَائِرُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ إِذَا رَأَوْا زِينَةَ الدُّنْيَا فَيَتَلَهَّفُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَمَنَّوْنَ غَيْرَ حُصُولِهَا فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّ إِيمَانَهُمْ ضَعِيفٌ فَلِذَلِكَ عَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ مَا عَلَيْهِ قَارُونُ مِنَ الْبَذَخِ فَقَالُوا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ إنَّهُ لَذُو بَخْتٍ وَسَعَادَةٍ.

وَأَصْلُ الْحَظِّ: الْقِسْمُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمَقْسُومُ لَهُ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا.

وَالتَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَجُّبِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُنْكِرُ حَظَّهُ فَيُؤَكِّدُهُ الْمُتَكَلِّمُ

[٨٠]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٠]

وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)

وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا.

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الْقَصَص: ٧٩] فَهِيَ مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ خِرْجَةُ قَارُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَلَامِحُهُ مِنْ فِتْنَةٍ بِبَهْرَجَتِهِ وَبِزَّتِهِ دَالَّةٌ عَلَى قِلَّةِ اعْتِدَادِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ وَعَلَى تَمَحُّضِهِ لِلْإِقْبَالِ عَلَى لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَمَفَاخِرِهَا الْبَاطِلَةِ فَفِي كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِزَالَةٌ لِمَا تَسْتَجْلِبُهُ حَالَةُ قَارُونَ مِنْ نُفُوسِ الْمُبْتَلِينَ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا.

وَ(وَيْلٌ) اسْمٌ لِلْهَلَاكِ وَسُوءِ الْحَالِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩] . وَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ (وَيْلٌ) فِي التَّعَجُّبِ الْمَشُوبِ بِالزَّجْرِ، فَلَيْسَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَاعِينَ بِالْوَيْلِ عَلَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِمَقَامِ الْمَوْعِظَةِ لِينُ الْخِطَابِ لِيَكُونَ أَعْوَنَ عَلَى الِاتِّعَاظِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ تَعَلُّقِ نُفُوسِ أُولَئِكَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاغْتِبَاطِهِمْ بِحَالِ قَارُونَ دُونَ اهْتِمَامٍ بِثَوَابِ اللَّهِ الَّذِي يَسْتَطِيعُونَ تَحْصِيلَهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ بِالدِّينِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَارُونَ غَيْرُ مُتَخَلِّقٍ بِالْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِيَتَمَكَّنَ الْخَبَرُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ الْمُضَافِ إِلَى أَوْسَعِ الْكُرَمَاءِ كَرَمًا مِمَّا تَسْتَشْرِفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ.

وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا دُونَ: خَيْرٌ لَكُمْ، لِمَا فِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ إِنَّمَا يَنَالُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَوَفْرَةِ الْعَمَلِ، مَعَ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الشُّمُولِ لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَقَامَ.

وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ.

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أَمَرُوا الَّذِينَ فَتَنَهُمْ حَالُ قَارُونَ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِمَّا فِيهِ قَارُونُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَّمَ بِهَا عِبَادَهُ فَضِيلَةَ الصَّبْرِ.

وَضَمِيرُ يُلَقَّاها عَائِدٌ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ، أَيِ الْخَصْلَةَ وَهِيَ ثَوَابُ اللَّهِ أَوِ السِّيرَةُ الْقَوِيمَةُ، وَهِيَ سِيرَةُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَالتَّلْقِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ لَاقِيًا، أَيْ مُجْتَمِعًا مَعَ شَيْءٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٥] . وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، أَيْ لَا يُعْطِي تِلْكَ الْخَصْلَةَ أَوِ السِّيرَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَسِيلَةٌ لِنَوَالِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ لِاحْتِيَاجِ السَّعْيِ لَهَا إِلَى تَجَلُّدٍ لِمَا يَعْرِضُ فِي خِلَالِهِ مِنْ مَصَاعِبَ وَعَقَبَاتٍ كَأْدَاءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْءُ مُتَخَلِّقًا بِالصَّبْرِ خَارَتْ عَزِيمَتُهُ فَتَرَكَ ذَاك لذاك.

[٨١]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨١]

فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١)

دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى تعقيب سَاعَة خُرُوج قَارُونَ فِي ازْدِهَائِهِ وَمَا جَرَى فِيهَا مِنْ تَمَنِّي قَوْمٍ أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ علماؤهم من غفلتهم عَنِ التَّنَافُسِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَرْأًى مِنَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ.

وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ بَعْضِ ظَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى بَاطِنِهَا، وَعَكْسُهُ. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ وَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَانْخَسَفَتْ، فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَسْفُ بِقُوَّةِ الزِّلْزَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ بَاءُ الْمُصَاحِبَةِ، أَيْ خَسَفْنَا الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لَهُ وَلِدَارِهِ، فَهُوَ وَدَارُهُ مَخْسُوفَانِ مَعَ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥] .

وَهَذَا الْخَسْفُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ قَارُونَ وَمَنْ ظَاهَرَهُ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْ سِبْطِ (رُوبِينَ) وَغَيْرَ دَارِ قَارُونَ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عليه السلام.

جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ أَنَّ قُورَحَ (وَهُوَ قَارُونُ) وَمَنْ مَعَهُ لَمَّا آذَوْا مُوسَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مَزِيَّةَ خِدْمَةِ خَيْمَتِهِ وَلَكِنَّهُ أَعْطَى الْكِهَانَةَ بَنِي هَارُونَ وَلَمْ تُجْدِ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ غَضِبَ مُوسَى عَلَيْهِمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِأَنْ يَبْتَعِدُوا مِنْ حَوَالَيْ دَارِ قُورَحَ (قَارُونَ) وَخِيَامِ جَمَاعَتِهِ. وَقَالَ مُوسَى: إِنْ مَاتَ هَؤُلَاءِ كَمَوْتِ عَامَّةِ النَّاسِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْنِي إِلَيْكُمْ وَإِنِ ابْتَدَعَ اللَّهُ بِدْعَةً فَفَتَحَتِ الْأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَكُلَّ مَالَهُمْ فَهَبَطُوا أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ ازْدَرَوْا بِالرَّبِّ.

فَلَمَّا فَرَغَ مُوسَى مِنْ كَلَامِهِ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَا كَانَ لَقُورَحَ مَعَ كُلِّ أَمْوَالِهِ وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنَ الْأَرْضِ أَهْلَكَتِ الْمِائَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا. وَقَدْ كَانَ قَارُونُ مُعْتَزًّا عَلَى مُوسَى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ شَايَعَتْهُ عَلَى مُوسَى وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ رُؤَسَاءِ جَمَاعَةِ اللَّاوِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلنَّصْرِ عَلَى مُوسَى رَسُولِ اللَّهِ فَخُسِفَ بِهِمْ مَعَهُ وَهُوَ يَرَاهُمْ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ كَمَا كَانَ يَحْسَبُ. يُقَالُ: انْتَصَرَ فُلَانٌ، إِذَا حَصَلَ لَهُ النَّصْرُ، أَيْ فَمَا نَصَرَهُ أَنْصَارُهُ وَلَا حَصَلَ لَهُ النَّصْر بِنَفسِهِ.

[٨٢]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٢]

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)

أَصْبَحَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَ.

وَ(الْأَمْسُ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ زَمَنٍ مَضَى قَرِيبًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَ(مَكَانُ) مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَالَةِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا صَاحِبُهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْحَالَةِ أَيْضًا بِالْمَنْزِلَةِ.

وَمَعْنَى يَقُولُونَ أَنَّهُمْ يَجْهَرُونَ بِذَلِكَ نَدَامَةً عَلَى مَا تَمَنَّوْهُ وَرُجُوعًا إِلَى التَّفْوِيضِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَحُكِيَ مَضْمُونُ مَقَالَاتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ الْآيَةَ.

وَكَلِمَةُ وَيْكَأَنَّ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَقُطْرُبٍ مركبة من ثَلَاث كَلِمَاتٍ: (وَيْ) وَكَافُ الْخِطَابِ وَ(أَنَّ) . فَأَمَّا (وَيْ) فَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى: أَعْجَبُ، وَأَمَّا الْكَافُ فَهِيَ لِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ مِثْلَ الْكَافِ اللَّاحِقَةِ لِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، وَأَمَّا (أَنَّ) فَهِيَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ هُوَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَيُقَدَّرُ لَهَا حَرْفُ جَرٍّ مُلْتَزَمٌ حَذْفُهُ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَكَانَ حَذْفُهُ مَعَ (أَنَّ) جَائِزًا فَصَارَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ وَاجِبًا وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ اللَّامُ أَوْ (مِنْ) فَالتَّقْدِيرُ: أَعْجَبُ يَا هَذَا مِنْ بَسْطِ اللَّهِ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ.

وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ تُسْتَعْمَلُ بِدُونِ الْأُخْرَى فَيُقَالُ: وَيْ بِمَعْنَى أَعْجَبُ، وَيُقَالُ (وَيْكَ) بِمَعْنَاهُ أَيْضًا قَالَ عَنْتَرَةُ:

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الْفَوَارِسُ وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ

وَيُقَالُ: وَيْكَأَنَّ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَوْ نَبِيهِ بْنِ الْحَجَّاجِ السَّهْمِيِّ:

وَيْكَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ

فَخَفَّفَ (أَنَّ) وَكَتَبُوهَا مُتَّصِلَةً لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى الْأَلْسُنِ كَذَلِكَ فِي كَثِيرِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَتَحَقَّقُوا أَصْلَ تَرْكِيبِهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ (وَيْكَ) مَفْصُولَةً عَنْ (أَنْ) وَقَدْ وَجَدُوهَا مَكْتُوبَةً مَفْصُولَةً فِي بَيْتِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَيُونُسُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْجَوْهَرِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (وَيْ) وَ(كَأَنَّ) الَّتِي لِلتَّشْبِيهِ.

وَالْمَعْنَى: التَّعَجُّبُ مِنَ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَالتَّشْبِيهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الظَّنِّ وَالْيَقِينِ. وَالْمَعْنَى: أَمَا تَعْجَبُ كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ.

وَذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيُّ وَاللَّيْثُ وَثَعْلَبُ وَنَسَبَهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى الْكُوفِيِّينَ (وَأَبُو عَمْرٍو بَصَرِيٌّ) أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ كَلِمَةِ (وَيْلٌ) وَكَافِ الْخِطَابِ وَفِعْلُ (اعْلَمْ) وَ(أَنَّ) . وَأَصْلُهُ: وَيْلَكَ اعْلَمْ أَنَّهُ كَذَا، فَحَذَفَ لَامَ الْوَيْلِ وَحَذَفَ فِعْلَ (اعْلَمْ) فَصَارَ (وَيْكَأَنَّهُ) . وَكِتَابَتُهَا مُتَّصِلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَمْزًا لِمَجْمُوعِ كَلِمَاتِهِ فَكَانَتْ مِثْلَ النَّحْتِ.

وَلِاخْتِلَافِ هَذِهِ التَّقَادِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْفِ فَالْجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَى وَيْكَأَنَّهُ بِتَمَامِهِ وَالْبَعْضُ يَقِفُ عَلَى (وَيْ) وَالْبَعْضُ يَقِفُ عَلَى (وَيْكَ) .

وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَنْزِلَةَ قَارُونَ نَدِمُوا عَلَى تَمَنِّيهِمْ لَمَّا رَأَوْا سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَامْتَلَكَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ وَمِنْ خَفِيِّ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَعَلِمُوا وُجُوبَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَ لِلنَّاسِ مِنَ الرِّزْقِ فَخَاطَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ وَأَعْلَنُوهُ.

وَالْبَسْطُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي السَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ.

ويَقْدِرُ مُضَارِعُ قَدَرَ الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ بِمَعْنَى: أَعْدَى بِمِقْدَارٍ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْقِلَّةِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَسْتَلْزِمُ قِلَّةَ الْمُقَدَّرِ لِعُسْرِ تَقْدِيرِ الشَّيْءِ الْكَثِيرِ قَالَ تَعَالَى وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتاها [الطَّلَاق: ٧] .

وَفَائِدَةُ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ فِي بَسْطَةِ الْأَرْزَاقِ وَقَدْرِهَا مُتَصَرِّفٌ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ إِذِ الْمَبْسُوطُ لَهُمْ وَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ فَحَقُّهُمُ الرِّضَى بِمَا قَسَمَ لَهُمْ مَوْلَاهُمْ.

وَمَعْنَى لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا فَحَفِظَنَا مِنْ رِزْقٍ كَرِزْقِ قَارُونَ لَخَسَفَ بِنَا، أَيْ لَكُنَّا طَغَيْنَا مِثْلَ طُغْيَانِ قَارُونَ فَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ، أَوْ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِأَنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ شِيعَةِ قَارُونَ لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ وَبِصَاحِبَيْهِ، أَوْ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِثَبَاتِ الْإِيمَانِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَخَسَفَ بِنا عَلَى بِنَاءِ فِعْلِ «خُسِفَ» لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالسِّينِ، أَيْ لَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِنَا.

وَجُمْلَةُ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تَكْرِير للتعجيب، أَيْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ

قَارُونَ هُوَ كُفْرُهُ برَسُول الله.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٣]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)

انتهب قِصَّةُ قَارُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأُعْقِبَتْ بِاسْتِئْنَافِ كَلَامٍ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ وَضِدِّهِ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ وَأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلَّذِينَ حَالُهُمْ بِضِدِّ حَالِ قَارُونَ، مَعَ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْجَنَّةِ بِعُنْوَانِ الدَّارِ لِذِكْرِ الْخَسْفِ بِدَارِ قَارُونَ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ دَارٍ زَائِلَةٍ وَدَارٍ خَالِدَةٍ.

وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِابْتِدَاءٍ مُشَوِّقٍ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مِنْ قَبْلُ لِيَسْتَشْرِفَ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فَيَعْقُبَهُ بَيَانُهُ بِالِاسْمِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ الْوَاقِعِ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا فِي قَول عُبَيْدَة بْنِ الْأَبْرَصِ:

تِلْكَ عِرْسِي غَضْبَى تُرِيدُ زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ تُرِيدُ أَمْ لِدَلَالِ..


الْأَبْيَاتِ.

وَجُمْلَةُ نَجْعَلُها هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَكَافُ الْخِطَابِ الَّذِي فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ مُوَجَّهٌ إِلَى كُلِّ سَامِعٍ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ ﷺ وَالْمَقْصُودُ تَبْلِيغُهُ إِلَى الْأُمَّةِ شَأْنَ جَمِيعِ آيِ الْقُرْآنِ.

والدَّارُ: مَحَلُّ السُّكْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الْأَنْعَامِ [١٢٧] . وَأَمَّا إِطْلَاقُ الدَّارِ عَلَى جَهَنَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم:

٢٨] فَهُوَ تَهَكُّمٌ كَقَوْلِ أَبِي الْغُولِ الطُّهَوِيِّ:

وَلَا يَرْعَوْنَ أَكْنَافَ الْهُوَيْنَا ... إِذَا نَزَلُوا وَلَا رَوْضَ الْهُدُونِ

فَاسْتِعْمَالُ الرَّوْضِ لِلْهُدُونِ تَهَكُّمٌ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْرِيضٍ.

والْآخِرَةُ: مُرَادٌ بِهِ الدَّائِمَةُ، أَيِ الَّتِي لَا دَارَ بَعْدَهَا، فَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِ مَعْنَاهُ وَكِنَايَتِهِ.

وَمَعْنَى جَعْلِهَا لَهُمْ أَنَّهَا مُحْضَرَةٌ لِأَجْلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهَا. وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ فَلَهُمْ أَحْوَالٌ ذَاتُ مَرَاتِبَ أَفْصَحَتْ عَنْهَا آيَاتٌ أُخْرَى وَأَخْبَارٌ نَبَوِيَّةٌ فَإِنَّ أَحْكَامَ الدِّينِ لَا يُقْتَصَرُ فِي اسْتِنْبَاطِهَا عَلَى لَوْكِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَتِ الْأَمَانِيُّ هَاهُنَا، أَيْ أَمَانِيُّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَالَ قَائِلُهُمْ:

كُنْ مُسْلِمًا وَمِنَ الذُّنُوبِ فَلَا تَخَفْ ... حَاشَا الْمُهَيْمِنَ أَنْ يُرِي تَنْكِيدَا


لَوْ شَاءَ أَنْ يُصْلِيَكَ نَارَ جَهَنَّمٍ ... مَا كَانَ أَلْهَمَ قَلْبَكَ التَّوْحِيدَا

وَمَعْنَى لَا يُرِيدُونَ كِنَايَةٌ عَنْ: لَا يَفْعَلُونَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ الْفِعْلَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مُكْرَهًا. وَهَذَا مِنْ بَابِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٥] .

وَالْعُلُوُّ: التَّكَبُّرُ عَنِ الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، وَالطُّغْيَانُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادُ: ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ مَذْمُومٍ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ لَدَى أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ.

وَقَوْلُهُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ تَذْيِيلٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ الدَّارُ وَبِهِ صَارَتْ جُمْلَةُ تِلْكَ الدَّارُ كُلُّهَا تَذْيِيلًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكَمِ لِلْعَامِّ بِالْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ.

والْعاقِبَةُ: وَصْفٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ لِكَثْرَةِ الْوَصْفِ بِهِ وَهِيَ الْحَالَةُ الْآخِرَةُ بَعْدَ حَالَةٍ سَابِقَةٍ وَغَلَبَ إِطْلَاقُهَا عَلَى عَاقِبَةِ الْخَيْرِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي أول الْأَنْعَام [١١] .

[٨٤]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٤]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)

تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣] لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ ذَاتُ أَحْوَالٍ مِنَ الْخَيْرِ وَدَرَجَاتٍ مِنَ النَّعِيمِ وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ بِهِ الْمُتَّقُونَ من الْحَسَنَات فتفاوت دَرَجَاتُهُمْ بِتَفَاوُتِهَا.

وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ جاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ حَضَرَ بِالْحَسَنَةِ

وَمَنْ حَضَرَ بِالسَّيِّئَةِ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى الْحِسَابِ. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخَاتِمَةِ الْأَمْرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ. وَأَمَّا اخْتِيَارُ فِعْلِ عَمِلُوا فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُمْ هُوَ عِلَّةُ جَزَائِهِمْ زِيَادَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمَعْنَى فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ تَحْتَوِي عَلَى خَيْرٍ لَا مَحَالَةَ يَصِلُ إِلَى نَفْسِ الْمُحْسِنِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ فَلِلْجَائِي بِالْحَسَنَةِ خَيْرٌ أَفْضَلُ مِمَّا فِي حَسَنَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَوْ فَلَهُ مِنَ اللَّهِ إِحْسَانٌ عَلَيْهَا خَيْرٌ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي فِي الْحَسَنَةِ قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠] أَيْ فَلَهُ مِنَ الْجَزَاءِ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُهَا وَهُوَ تَقْدِيرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ.

وَلَمَّا ذُكِرَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ أُعْقِبَ بِضِدِّ ذَلِك مَعَ مُقَابَلَةُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُحْسِنِ بِعَدْلِهِ مَعَ الْمُسِيءِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ قَرْنِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ.

ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ مَا صَدَقُهُ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ الثَّانِي هُوَ عَيْنُ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَوْنَ إِلَخْ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ فِي التَّصْرِيحِ بِوَصْفِهِمْ بِ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ تَكْرِيرًا لِإِسْنَادِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ إِلَيْهِمْ لِقَصْدِ تَهْجِينِ هَذَا الْعَمَلِ الذَّمِيمِ وَتَبْغِيضِ السَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَفِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ عَنْ فِعْلِ يُجْزَى الْمَنْفِيِّ الْمُفِيدِ بِالنَّفْيِ عُمُومَ أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ، وَالْمُسْتَثْنَى تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ جَزَاءُ شَبَهِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ.

وَالْمُرَادُ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي عُرْفِ الدِّينِ، أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَجَارِيًا عَلَى مِقْدَارِهِ لَا حَيْفَ فِيهِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى الْعلم الإلهي.

[٨٥]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٥]

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥)

ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَتَثْبِيتِ فُؤَادِهِ وَوَعْدِهِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّ إِنْكَارَ أَهْلِ الضَّلَالِ رِسَالَتَهُ لَا يَضِيرُهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَنَّهُ عَلَى

هُدًى وَأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لِذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ رِسَالَةِ مُوسَى عليه السلام مَا فِيهِ عِبْرَةٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَالَيِ الرَّسُولَيْنِ وَمَا لَقِيَاهُ مِنَ الْمُعْرِضِينِ.

وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ دُونَ اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. وَأَنَّهُ خَبَرُ الْكَرَامَةِ وَالتَّأْيِيدِ أَيْ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاكَ الْقُرْآنَ مَا كَانَ إِلَّا مُقَدِّرًا نَصْرَكَ وَكَرَامَتَكَ لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُعْطَى. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ

وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ ﷺ.

وَمَعْنَى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ اخْتَارَهُ لَكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَضَ لَهُ كَذَا، إِذَا عَيَّنَ لَهُ فَرْضًا، أَيْ نَصِيبًا. وَلَمَّا ضُمِّنَ فَرَضَ مَعْنَى (أَنْزَلَ) لِأَنَّ فَرْضَ الْقُرْآنِ هُوَ إِنْزَالُهُ، عُدِّيَ فَرَضَ بِحَرْفِ (عَلَى) .

وَالرَّدُّ: إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى حَالِهِ أَوْ مَكَانِهِ. وَالْمَعَادُ: اسْمُ مَكَانِ الْعَوْدِ، أَيِ الْأَوْلِ كَمَا يَقْتَضِيهُ حَرْفُ الِانْتِهَاءِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي مَعادٍ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهُ مَقَامُ الْوَعْدِ وَالْبِشَارَةِ، وَمَوْقِعُهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها (١) [الْقَصَص: ٨٤]، أَيْ إِلَى مَعَادٍ أَيِّ مَعَادٍ.

وَالْمَعَادُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى آخِرِ أَحْوَالِ الشَّيْءِ وَقَرَارِهِ الَّذِي لَا انْتِقَالَ مِنْهُ تَشْبِيهًا بِالْمَكَانِ الْعَائِدِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَدَرَ مِنْهُ أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْأَخَارَةِ فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدِ اشْتَهَرَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِالْمَعَادِ لِأَنَّهُ مَعَادُ الْكُلِّ اه. أَيْ فَأَبْشِرْ بِمَا تَلْقَى فِي مَعَادِكَ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا كَرَامَةٌ وَالَّتِي لَا تُعْطَى لِأَحَدٍ غَيْرِكَ. فَتَنْكِيرُ مَعادٍ أَفَادَ أَنَّهُ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَتَرَتُّبُهُ عَلَى الصِّلَةِ أَفَادَ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَى أَحَدٍ مِثْلِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَعَادِ مَعْنَاهُ الْمَشْهُودُ الْقَرِيبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ. وَهُوَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ إِنْ غَابَ عَنْهُ، فيراد بِهِ هُنَا بَلَدُهُ الَّذِي كَانَ بِهِ وَهُوَ مَكَّةُ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُ ثُمَّ عَوْدِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الرَّدَّ يَسْتَلْزِمُ الْمُفَارَقَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ السُّورَةُ

(١) فِي المطبوعة (عشر أَمْثَالهَا) .

مَكِّيَّةً وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَكَّةَ فَالْوَعْدُ بِالرَّدِّ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ ﷺ أُرِيَ فِي النَّوْمِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ ابْن نَوْفَلَ: يَا لَيْتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَمَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِيَغِيبَ عَنْ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْجُحْفَةِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَوُعِدَ بِالرَّدِّ عَلَيْهَا وَهُوَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا فَاتِحًا لَهَا وَمُتَمَكِّنًا مِنْهَا. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْمَعَادِ بِذَلِكَ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ.

ثُمَّ تَكُونُ جُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ التَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، أَيْ رَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ فَمُظْهِرٌ الْمُهْتَدِيَ وَالضَّالِّينَ، فَيَكُونُ عِلْمُ اللَّهِ بِالْمُهْتَدِي وَالضَّالِّ مُكَنًّى بِهِ عَنِ اتِّضَاحِ الْأَمْرِ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْتَرِيهِ تَلْبِيسٌ وَتَكُونُ هَذِهِ الْكِنَايَةُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ الضَّالُّونَ. وَأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ هُوَ الْمُهْتَدِي.

وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الْمُهْتَدِي بِفِعْلِ مَنْ جاءَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهَدْيٍ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا مِنْ قَبْلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ: جَاءَ بِكَذَا. وَعَبَّرَ عَنْ جَانِبِ الضَّالِّينَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ ثَبَاتَ الضَّلَالِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الضَّلَالَ هُوَ أَمْرُهُمُ الْقَدِيمُ الرَّاسِخُ فِيهِمْ مَعَ مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنِ انْغِمَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِمْ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] لِظُهُورِ أَنَّ الْمُبَلِّغَ لِهَذَا الْكَلَامِ لَا يُفْرَضُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشِّقَّ الضَّالَّ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الضَّالَّ مَنْ خَالَفَهُ.

وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ. فَالْمَعْنَى:

عُدْ عَنْ إِثْبَاتِ هُدَاكَ وَضَلَالِهِمْ وَكِلْهُمْ إِلَى يَوْمِ رَدِّكَ إِلَى مَعَادِكَ يَوْمِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَكَ وَخَذَلَهُمْ. وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَجُمْلَةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ.

وَفِي تَقْدِيمِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى إِعْدَادٌ لِصَلَاحِيَةِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ. فَهَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعَانِي الْكَلَامِ بِمَوَاقِعِهِ وَتَرْتِيبِ نِظَامِهِ وَتَقْدِيمِ الْجُمَلِ عَنْ مَوَاضِعِ تَأْخِيرِهَا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي.

[٨٦، ٨٧]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): الْآيَات ٨٦ الى ٨٧]

وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧)

وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: ٨٥] إِلْخَ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ أَوْ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ، أَيْ كَمَا حَمَّلَكَ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ فَكَانَ

ذَلِكَ عَلَّامَةً عَلَى أَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ الْجَزَاءَ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. كَذَلِكَ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاكَ الْكِتَابَ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْكَ بَلْ بِمَحْضِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَيْ هُوَ كَذَلِكَ فِي أَنَّهُ عَلَامَةٌ لَكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ عَلَى أَعْدَائِكَ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَكَ لِذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ أَعَدَّ لَكَ نَصْرًا مُبِينًا وَثَوَابًا جَزِيلًا.

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَالَةِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ بَلْ عَلَى مَعْنًى تَعْرِيضِيٍّ بِدَلَالَةِ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ.

وَإِلْقَاءُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ وَحْيُهُ بِهِ إِلَيْهِ. أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْإِلْقَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٦، ٨٧] .

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمْ يُخَامِرْ نَفْسَهُ رَجَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِهِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَاصْطِفَاءٍ لَهُ.

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [الْقَصَص: ٨٥] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَمَا تَخَلَّلَ

بَيْنَهُمَا مِمَّا اقْتَضَى جَمِيعُهُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَظُهُورِ أَمْرِهِ وَفَوْزِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَاءَ مِنَ اللَّهِ إِلَى قَوْمٍ هُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَأَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ فَآتَاهُ الْكِتَابَ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ مِنْهُ لَا يَجْعَلُ أَمْرَهُ سُدًى فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِ مِنْ أَدْنَى مُظَاهَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ فِعْلَ الْكَوْنِ لَمَّا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَكَانَ سِيَاقُ النَّهْيِ مِثْلَ سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْيِ فِي سَائِرِ تَصَارِيفِ الْكَلَامِ كَانَ وُقُوعُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي سِيَاقِهِ مُفِيدًا تَعْمِيمَ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ كَوْنٍ مِنْ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ، وَهِيَ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا النُّصْرَةُ وَأَدْنَاهَا الْمُصَانَعَةُ وَالتَّسَامُحُ، لِأَنَّ فِي الْمُصَانَعَةِ عَلَى الْمَرْغُوبِ إِعَانَةً لِرَاغِبِهِ. فَلَمَّا شَمِلَ النَّهْيُ جَمِيعَ أَكْوَانِ الْمُظَاهَرَةِ لَهُمُ اقْتَضَى النَّهْيُ عَنْ مُصَانَعَتِهِمْ وَالتَّسَامُحِ مَعَهُمْ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّ الْمُظَاهَرَةِ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرِ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ كَصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة:

٧٣] . وَهَذَا الْمَعْنَى يُنَاسب كَون هَذِه الْآيَاتِ آخَرَ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَ مُتَارَكَتِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمُغَادَرَتِهِ الْبَلَدَ الَّذِي يَعْمُرُونَهُ.

وَقِيلَ النَّهْيُ لِلتَّهْيِيجِ لِإِثَارَةِ غَضَبِ النَّبِيءِ ﷺ عَلَيْهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَاعِي شِدَّتِهِ مَعَهُمْ. وَوَجْهُ تَأْوِيلِ النَّهْيِ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ عَنْ بَعْضِ ظَاهِرِهِ هُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يُفْرَضُ وُقُوعُهُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ حَتَّى يَنْهَى عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً على أَنه مؤوّل.

وَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَيْهِ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ مَا فِيهِ صَدٌّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كَنَّوْا بِهِ عَنْ: أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ. فَيَعْرِفَ الْمُتَكَلِّمُ النَّاهِي فِعْلَهُ. وَالْمَقْصُودُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكَافِرِينَ فِي شَيْء من شؤون الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُحَاوِلُونَ صَرْفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] .

وَقِيلَ هُوَ لِلتَّهْيِيجِ أَيْضًا، وَتَأْوِيلُ هَذَا النَّهْيِ آكَدُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ فِي لَا يَصُدُّنَّكَ نَهْيَ صِرْفَةٍ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ

فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [الْبَقَرَة: ٢٤٣] أَمْرَ تَكْوِينٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِرَسُولِهِ صَرْفَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ إِذْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَيَسَّرَهَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ.

وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَعْدِيَّةِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لتعليل النَّهْي أَيَّامًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ فَإِنَّهُ مَا أَنْزَلَهَا إِلَيْكَ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِهَا وَدَوَامِ تِلَاوَتِهَا، فَلَوْ فُرِضَ أَنْ يَصُدُّوكَ عَنْهَا لَذَهَبَ إِنْزَالُهَا إِلَيْكَ بُطْلًا وَعَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ [الْبَقَرَة: ٢١٣] .

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى إِيجَادِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ، أَيْ لَا يَصْرِفُكَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِعَادَةِ دَعْوَتِهِمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَكْمَلِ مِنْ أَنْوَاعِهِ، أَيْ أَنَّكَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتَ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ تَشْغِيبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ كَانَ يُرَنِّقُ صَفَاءَ تَفَرُّغِهِ لِلدَّعْوَةِ.

وَجَمِيعُ هَذِهِ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَلا تَكُونَنَّ

ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ حُمِلَتْ مِنَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْعِيضِ كَانَ النَّهْي مؤوّلا يُمَثِّلُ مَا أَوَّلُوا بِهِ النَّهْيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَنَّهُ لِلتَّهْيِيجِ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمُسلمُونَ.

[٨٨]


[سُورَة الْقَصَص (٢٨): آيَة ٨٨]

وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)

هَذَا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ ﷺ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِظْهَارُ ضَلَالِ أَهْلِهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِإِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّخَذُوا لَهُ شُرَكَاءَ وَشُفَعَاءَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَقْضِي

بِبُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَوْ أَضْعَفَ إِشْرَاكٍ، فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا.

وَجُمْلَةُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِلنَّهْيِ لِأَنَّ هَلَاكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا الْأَصْنَامُ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مَعَ اللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَنَافِي الْهَلَاكَ وَهُوَ الْعَدَمُ.

وَالْوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَعْنَى: كُلُّ مَوْجُودٍ هَالِكٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.

وَالْهَلَاكُ: الزَّوَالُ وَالِانْعِدَامُ.

وَجُمْلَةُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَذْيِيلٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ مَفْصُولَةً عَمَّا قَبْلَهَا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَالْمَحْصُورُ فِيهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَتَمُّ، أَيِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ.

وَالرُّجُوعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى: آخِرِ الْكَوْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ الِانْصِرَافُ إِلَى مَكَانٍ قَدْ فَارَقَهُ فَاسْتُعْمِلَ فِي مَصِيرِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ شُبِّهَ بِرُجُوعِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالْخُلُودُ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْهُ طُولُ الْإِقَامَةِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِ (إِلَى) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَفَوُا الرُّجُوعَ مِنْ أَصْلِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِالشَّرِكَةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِلتَّخْصِيصِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ تعدد هَذِه الْجُمْلَة إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مَدْلُولُ جُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْقِدَمِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى جِنْسُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ

غَيْرِهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِدْهُ غَيْرُهُ فَثَبَتَ لَهُ الْقِدَمُ الْأَزَلِيُّ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَاقٍ لَا يَعْتَرِيهِ الْعَدَمُ لِاسْتِحَالَةِ عَدَمِ الْقَدِيمِ، وَذَلِكَ مَدْلُولُ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنْفَرِدٌ فِي أَفْعَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. وَفِي كُلِّ هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَوَّزُوا شَرِكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَتَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ بِالشَّفَاعَةِ وَالْغَوْثِ.

ثُمَّ أَبْطَلَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ بِقَوْلِهِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

google-playkhamsatmostaqltradent