recent
آخر المقالات

٦- سُورَةُ الْأَنْعَامِ

 

لَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا هَذَا الِاسْمُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ.

وَوَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِهِمْ سُورَةَ الْأَنْعَامِ. وَكَذَلِكَ ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ.


وَسُمِّيَتْ سُورَةَ الْأَنْعَامِ لِمَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ الْأَنْعَامِ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْ قَوْلِهِ:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا- إِلَى قَوْلِهِ- إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام:

١٣٦- ١٤٤] .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْعَوْفِيُّ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الْأَنْعَام: ٥٢] الْآيَةَ نَزَلَ فِي مُدَّةِ حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، أَيْ قَبْلَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبِعْثَةِ، فَإِذَا صَحَّ كَانَ ضَابِطًا لِسَنَةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سِتَّ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، ثَلَاثًا مِنْ قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَام: ٩١] إِلَى مُنْتَهَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَثَلَاثًا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

[الْأَنْعَام: ١٥١، ١٥٢] . وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ آيَةَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الْأَنْعَام: ١١١] مَدَنِيَّةٌ.

وَقِيلَ نَزَلَتْ آيَةُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٩٣]

الْآيَةَ بِالْمَدِينَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا الْآتِي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ آيَةُ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْأَنْعَام: ٢٠] الْآيَةَ، وَآيَةُ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت: ٤٧] الْآيَةَ، كِلْتَاهُمَا بِالْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [الْمَائِدَة: ١٤٥] الْآيَةَ أَنَّهَا فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ

نَزَلَتْ يَوْمَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة:

٣] الْآيَةَ، أَيْ سَنَةَ عَشْرٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ مَكِّيَّةِ السُّورَةِ أُلْحِقَتْ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [٩١] . إِنَّ النَّقَّاشَ حَكَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: لَا يَصِحُّ نَقْلٌ فِي شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ فِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ.

وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جُمْلَةً وَهُوَ فِي مَسِيرٍ وَأَنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عِظَامَ النَّاقَةِ. وَلَمْ يُعَيِّنُوا هَذَا الْمَسِيرَ وَلَا زَمَنَهُ غَيْرَ أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ لَا يُعْرَفُ لَهَا مَجِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ هِجْرَتِهِ وَلَا هِيَ مَعْدُودَةٌ فِيمَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا لَقِيَتْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْدُودَةُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ. فَحَالُ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ بَيِّنٍ.

وَلَعَلَّهُ الْتَبَسَ فِيهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ السَّفْرِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ.

قَالُوا: وَلَمْ تَنْزِلْ مِنَ السُّورِ الطُّوَالِ سُورَةٌ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرُهَا. وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، فَلَعَلَّ حِكْمَةَ إِنْزَالِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً قَطْعُ تَعَلُّلِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] . تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ تَنْجِيمَ نُزُولِهِ يُنَاكِدُ كَوْنَهُ كِتَابًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْأَنْعَامِ. وَهِيَ فِي مِقْدَارِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا كَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ حِكْمَةَ تَنْجِيمِ النُّزُولِ أَوْلَى بِالْمُرَاعَاةِ. وَأَيْضًا لِيَحْصُلَ الْإِعْجَازُ بِمُخْتَلِفِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ مِنْ قِصَرٍ وَطُولٍ وَتَوَسُّطٍ، فَإِنَّ طُولَ الْكَلَامِ قَدْ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ خَارِجَةَ يَفْخَرُ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَضَائِلِ: «وَخُطْبَةٌ مِنْ لَدُنْ تَطْلُعُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ إِلَخْ» ...

وَقَالَ أَبُو دُؤَادِ بْنُ جَرِيرٍ الْإِيَادِيُّ يَمْدَحُ خُطَبَاءَ إِيَادٍ:

يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيُ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ

وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ لَا يُنَاكِدُ مَا يُذْكَرُ لِبَعْضِ آيَاتِهَا مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا، لِأَنَّ أَسْبَابَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ إِنْ كَانَ لِحَوَادِثَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ تَتَجَمَّعُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُ تِلْكَ الْآيَاتِ مُسَبَّبًا عَلَى تِلْكَ الْحَوَادِثِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْآيَاتُ مَدَنِيَّةً أُلْحِقَتْ بِسُورَةِ الْأَنْعَامِ لِمُنَاسَبَاتٍ. عَلَى أَنَّ أَسْبَابَ النُّزُولِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِنُزُولِ آيَاتِ أَحْكَامِهَا فَقَدْ يَقَعُ السَّبَبُ وَيَتَأَخَّرُ تَشْرِيعُ حُكْمِهِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْخَامِسَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدِّ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحِجْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الصَّافَّاتِ.

وَعَدَدُ آيَاتِهَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسِتُّونَ فِي الْعَدَدِ الْمَدَنِيِّ وَالْمَكِّيِّ، وَمِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسِتُّونَ فِي الْعَدَدِ الْكُوفِيِّ، وَمِائَةٌ وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فِي الشَّامِيِّ وَالْبَصْرِيِّ.


أَغْرَاَضُ هَذِهِ الْسُورَة

ابْتَدَأَتْ بِإِشْعَارِ النَّاسِ بِأَنَّ حَقَّ الْحَمْدِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ لِأَنَّهُ مُبْدِعُ الْعَوَالِمِ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضًا فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ. وَإِبْطَالِ تَأْثِيرِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْجِنِّ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الْعَالَمِ جَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ، وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنِظَامِ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ بِحِكْمَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَلَا تَمْلِكُ آلِهَتُهُمْ تَصَرُّفًا وَلَا عِلْمًا. وَتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقِ الْإِسْفِرَائِينِيُّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلُّ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ.

وَمَوْعِظَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالْمُكَذِّبِينَ بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَتَهْدِيدِهِمْ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْقُرُونِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْكَافِرِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ مَا يَضُرُّونَ بِالْإِنْكَارِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَوَعِيدِهِمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَ عِنْدَ نَزْعِ أَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ الْبَعْثِ.

وَتَسْفِيهِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَى النَّبِيءِ ﷺ مِنْ طَلَبِ إِظْهَارِ الْخَوَارِقِ تَهَكُّمًا.

وَإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَقَّنَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ قَصْدًا مِنْهُمْ لِإِفْحَامِ الرَّسُولِ ﷺ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ.

وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بَعْدَهُ الْعَذَابَ، وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا، وَسَيَنْدَمُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ عِنْدَ النَّوَائِبِ.

وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ ﷺ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ.

وَبَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ اللَّهِ الرُّسُلَ، وَأَنَّهَا الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ وَلَيْسَتْ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ إِخْبَارَ النَّاسِ بِمَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ.

وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ بِالتَّقْوَى وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينِ اللَّهِ. وَإِبْطَالِ مَا شَرَعَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ شَرَائِعِ الضَّلَالِ.

وَبَيَانِ أَنَّ التَّقْوَى الْحَقَّ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بَلْ هِيَ حِرْمَانُ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَمَالِ وَالتَّزْكِيَةِ.

وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلنَّبِيءِ مَعَ قَوْمِهِ بِمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَثَلِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَأَخَّرَ.

وَالْمِنَّةِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، وَبِأَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ خَاتِمَةَ الْأُمَمِ الصَّالِحَةِ.

وَبَيَانِ فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا مَنَحَ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ.

وَتَخَلَّلَتْ ذَلِكَ قَوَارِعُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَامْتِنَانٌ بِنِعَمٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ، وَذِكْرُ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ.

قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: قَالَ الْأُصُولِيُّونَ (أَيْ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ): السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوءَةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُعَطِّلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.

وَهِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِأَحْوَالِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَشَدُّهَا مُقَارَعَةَ جِدَالٍ لَهُمْ وَاحْتِجَاجٍ عَلَى سَفَاهَةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا [الْأَنْعَام: ١٣٦]، وَفِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٠] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.

وَوَرَدَتْ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفَضْلِ آيَاتٍ مِنْهَا رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ عَنِ

ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ.


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.

جُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُفِيدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّهِ تَعَالَى الْحَمْدَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، فَدَلَّتْ عَلَى انْحِصَارِ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْجِنْسِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.

ثُمَّ إِنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ هُنَا خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى إِذْ لَيْسَ هُنَا مَا يَصْرِفُ إِلَى قَصْدِ إِنْشَاءِ الْحَمْدِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَمَنْ جَوَّزَ فِي هَذِهِ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ مَعْنًى لَمْ يَجِدِ التَّأَمُّلَ.

فَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا الْأَصْنَامَ عَلَى مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ إِسْدَائِهَا إِلَيْهِمْ نِعَمًا وَنَصْرًا وَتَفْرِيجَ كُرُبَاتٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ انْتَصَرَ هُوَ وَفَرِيقُهُ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلُ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنْعِمِينَ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاسِطَةٌ صُورِيَّةٌ لِجَرَيَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ هُوَ، وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ الصُّورِيَّ بَلْهَ الْحَقِيقِيَّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام «لم نعْبد مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا» . وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ عَلَى عَظِيمِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُمْلَةِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

وَالْمَوْصُولُ، فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، أَفَادَ مَعَ صِلَتِهِ التَّذْكِيرَ بِعَظِيمِ صِفَةِ الْخَلْقِ الَّذِي عَمَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ. وَذَلِكَ أَوْجَزُ لَفْظٍ فِي اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ هُنَا إِيذَانٌ بِتَعْلِيلِ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ، إِذْ لَيْسَتِ الْجُمْلَةُ إِنْشَائِيَّةً كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ لَا تُعَلَّلُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ حِكَايَةُ مَا فِي الْوَاقِعِ فَلَا حَاجَةَ لِتَعْلِيلِهِ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَوْصَافِ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

وَجَمَعَ: السَّماواتِ لِأَنَّهَا عَوَالِمُ كَثِيرَةٌ، إِذْ كُلُّ كَوْكَبٍ مِنْهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِيمَا نَرَى. وَأَفْرَدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ، وَلذَلِك لم يَجِيء لَفْظُ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ جَمْعًا.

وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ فَيُقَارِبُ مُرَادِفَةَ مَعْنَى (خَلَقَ) . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (خَلَقَ) فَإِنَّ فِي الْخَلْقِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مُلَاحَظَةَ مَعْنَى الِانْتِسَابِ، يَعْنِي كَوْنَ الْمَجْعُولِ مَخْلُوقًا لِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ مُنْتَسِبًا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُعْرَفُ الْمُنْتَسِبُ إِلَيْهِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ.

فَالظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ لَمَّا كَانَا عَرَضَيْنِ كَانَ خَلْقُهُمَا تَكْوِينًا لِتَكَيُّفِ مَوْجُودَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهِمَا. وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عَقِبَ ذِكْرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَبِاخْتِيَارِ لَفْظِ الْخَلْقِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظِ الْجَعْلِ لِلظُّلُمَاتِ

وَالنُّورِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الْأَعْرَاف: ١٨٩] فَإِنَّ الزَّوْجَ وَهُوَ الْأُنْثَى مُرَاعًى فِي إِيجَادِهِ أَنْ يَكُونَ تَكْمِلَةً لِخَلْقِ الذِّكْرِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: ١٨٩] وَالْخَلْقُ أَعَمُّ فِي الْإِطْلَاقِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: ١] لِأَنَّ كُلَّ تَكْوِينٍ لَا يَخْلُو مِنْ تَقْدِيرٍ وَنِظَامٍ.

وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ عَرَضَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَهُمَا: الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فَقَالَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِهِمَا وَالشُّعُورِ بِهِمَا. وَبِذِكْرِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ حَصَلَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسَيِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضٍ. فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ فِعْلِ (خَلَقَ) وَفِعْلِ (جَعَلَ) هُنَا مَعْدُودٌ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ. وَإِنَّ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعَ صَاحِبَتِهَا مَقَامًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأُدَبَاءِ بِرَشَاقَةِ الْكَلِمَةِ فَفِعْلُ (خَلَقَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَفِعْلُ (جَعَلَ) أَلْيَقُ بِإِيجَادِ أَعْرَاضِ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا وَنِظَامِهَا.

وَالِاقْتِصَارُ فِي ذِكْرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ عَقَائِدِ كُفَّارِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ مُشْرِكِينَ وَصَابِئَةٍ وَمَجُوسٍ وَنَصَارَى، وَكُلُّهُمْ قَدْ أَثْبَتُوا آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ فَالْمُشْرِكُونَ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَالصَّابِئَةُ أَثْبَتُوا آلِهَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالنَّصَارَى أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى أَوْ عِيسَى وَمَرْيَمَ وَهُمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، وَالْمَجُوسُ وَهُمُ الْمَانَوِيَّةُ أَلَّهُوا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، فَالنُّورُ إِلَهُ الْخَيْرِ وَالظُّلْمَةُ إِلَهُ الشَّرِّ عِنْدَهُمْ. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَي بِمَا فيهم، وَخَالِقُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ.

ثُمَّ إِنَّ فِي إِيثَارِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْرَاضِ إِيمَاءً وَتَعْرِيضًا بِحَالَيِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مِنْ كُفْرِ فَرِيقٍ وَإِيمَانِ فَرِيقٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ لِأَنَّهُ انْغِمَاسٌ فِي جَهَالَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَالْإِيمَانُ يُشْبِهُ النُّورَ لِأَنَّهُ اسْتِبَانَةُ الْهُدَى وَالْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧] . وَقَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ مُرَاعَاةً لِلتَّرَتُّبِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ سَابِقَةٌ النُّورَ، فَإِنَّ النُّورَ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الذَّوَاتِ الْمُضِيئَةِ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ عَامَّةً.

وَإِنَّمَا جَمَعَ الظُّلُماتِ وَأَفْرَدَ النُّورَ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ لَفْظَ (الظُّلُمَاتِ) بِالْجَمْعِ أَخَفُّ، وَلَفْظَ (النُّورِ) بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الظُّلُمَاتِ) فِي الْقُرْآنِ إِلَّا جَمْعًا

وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ (النُّورِ) إِلَّا مُفْرَدًا. وَهُمَا مَعًا دَالَّانِ عَلَى الْجِنْسِ، وَالتَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ فَلَمْ يَبْقَ لِلِاخْتِلَافِ سَبَبٌ لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ» .

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

عُطِفَتْ جُمْلَةُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَلَى جُمْلَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ. فَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَهَمُّ فِي بَابِهِ. وَذَلِكَ شَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا وَرَدَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى، فَإِنَّ عُدُولَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ أَمْرٌ غَرِيبٌ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ.

وَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَدَا الْمَانَوِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمُدَبِّرُ لِلْكَوْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] .

وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِقَرِينَةِ مَوْقِعِ ثُمَّ وَدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَانَوِيَّةُ فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْخَالِقِ وَعَبَدُوا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِي ذَلِكَ مَنْ جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالصَّابِئَةِ وَمَنْ خَصَّ غَيْرَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَالْمَانَوِيَّةِ. وَهَذَا الْمُرَادُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَ غَالِبَ عُرْفِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُسَوُّونَ. وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ. تَقُولُ: عَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ، إِذَا سَوَّيْتَهُ

بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا [الْمَائِدَة: ٩٥]، فَقَوْلُهُ بِرَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْدِلُونَ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَعْدِلُونَ، أَيْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ فَرِيقٍ مَاذَا عَدَلَ بِاللَّهِ. وَالْمُرَادُ يَعْدِلُونَهُ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ كَمَا كَانَ

مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَمَا قَالَتِ الصَّابِئَةُ فِي الْأَرْوَاحِ، وَالنَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدس.

وَمعنى العجيب عَامٌّ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِيهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُمْ وَيَخْلُقُ مَعْبُودَاتِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ بَلْ وَيَخْتَلِقُونَ إِلَهِيَّةَ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ كفرهم وضلالهم.

[٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)

اسْتِئْنَافٌ لِغَرَضٍ آخَرَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ ابْتِدَاءً بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ فِي تَسْوِيَتِهِمْ مَا لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَلَا الْأَرْضَ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُهُمُ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ يَمْتَرُونَ فِي الْخَلْقِ الثَّانِي.

وَأُتِيَ بِضَمِيرِ (هُوَ) فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعًا، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ الْقَصْرَ فِي رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ وَفِي مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ هُوَ خَالِقُكُمْ لَا غَيْرُهُ، مَنْ طِينٍ لَا مَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى فَيَنْسَحِبُ حُكْمُ الْقَصْرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَقْصُورِ. وَالْحَالُ الَّذِي اقْتَضَى الْقَصْرَ هُوَ حَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوهُ وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَنْكَرَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ بَلِ الْإِعَادَةُ فِي مُتَعَارَفِ الصَّانِعِينَ أَيْسَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧] وَقَالَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:

١٥] . وَالْقَصْرُ أَفَادَ نَفْيَ جَمِيعِ هَذِهِ التَّكْوِينَاتِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: ٤٠] .

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ.

وَذَكَرَ مَادَّةَ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ لِإِظْهَارِ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعَادَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ صَارَ تُرَابًا. وَتَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى تُرَابٍ يُقَرِّبُ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى مَادَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ هُنَا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَقَالَ فِي آيَاتِ الِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ تَكْوِينِهِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان:

٢]، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.

وَهَذَا الْقَدْحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْجَدَلِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، وَالْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ.

وَمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَ النَّاسِ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ مِنْ طِينٍ، فَكَانَ كُلُّ الْبَشَرِ رَاجِعًا إِلَى الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ، فَلِذَلِكَ قَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: ٢] أَيِ الْإِنْسَانَ الْمُتَنَاسِلَ مِنْ أَصْلِ الْبَشَرِ.

وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَضى عَلَى فِعْلِ خَلَقَ فَهُوَ عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَالْمُهْلَةُ هُنَا بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَضَى لَهُ أَجَلَهُ، أَيِ اسْتَوْفَاهُ لَهُ، فَ قَضى هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى (قَدَّرَ) لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ مُقَارِنٌ لِلْخَلْقِ أَوْ سَابِقٌ لَهُ وَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَضى هُنَا بِمَعْنَى (أَوْفَى) أَجَلَ كُلِّ مَخْلُوقٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: ١٤]، أَيْ أَمَتْنَاهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.

وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْهِيَةِ أَجَلِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَى أَجَلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ تَنْهِيَةِ الْأَجَلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَعْثُ، أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ تَقْدِيرِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ خَفِيٌّ وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ هُوَ انْتِهَاءُ أَجَلِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ أَجَلِ الْحَيَاةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.

وَجُمْلَةُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ قَضى أَجَلًا. وَجُمْلَةِ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ إِعْلَامُ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ آجَالَ النَّاسِ رَدًّا عَلَى

قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ مَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤] .

وَقَدْ خُولِفَتْ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ الظَّرْفِ عَلَى كُلِّ مُبْتَدَأٍ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ [ص: ٢٣]، حَتَّى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»: إِنَّهُ الْكَلَامُ السَّائِرُ، فَلَمْ يُقَدِّمِ الظَّرْفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِإِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَيْثُ خُولِفَ الِاسْتِعْمَالُ الْغَالِبُ مِنْ تَأْخِيرِهِ فَصَارَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ تَنْكِيرُهُ مُفِيدًا لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، أَيْ وَأَجَلٌ عَظِيمٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.

وَمَعْنَى: مُسَمًّى مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَصْلَ السِّمَةِ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَعَيَّنُ بِهَا الْمُعَلَّمُ. وَالتَّعْيِينُ هُنَا تَعْيِينُ الْحَدِّ وَالْوَقْتِ.

وَالْعِنْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَهُ عِنْدِيَّةُ الْعِلْمِ، أَيْ مَعْلُومٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:

وَأَجَلٌ مُسَمًّى أَجَلُ بَعْثِ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ، فَإِنَّ إِعَادَةَ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَكِرَةٍ يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى، فَصَارَ: الْمَعْنَى ثُمَّ قَضَى لَكُمْ أَجَلَيْنِ: أَجَلًا تَعْرِفُونَ مُدَّتَهُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، وَأَجَلًا مُعَيَّنَ الْمُدَّةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ.

فَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْأَوَّلِ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُهُ النَّاسُ عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُونَ: عَاشَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَائِهِ فَمَا هُوَ إِلَّا عِلْمٌ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَايَسَةِ. وَالْأَجَلُ الْمَعْلُومُ وَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَجَلٌ مُمْتَدٌّ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الثَّانِي مَا بَيْنَ مَوْتِ كُلِّ أَحَدٍ وَبَيْنَ يَوْمِ الْبَعْثِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ وَلَا يَعْلَمُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يُونُس: ٤٥]، وَقَالَ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: ٥٥] .

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَغَالِبِ وُقُوعِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لِانْتِقَالٍ مِنْ خَبَرٍ إِلَى أَعْجَبَ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]، أَيْ فَالتَّعْجِيبُ حَقِيقٌ مِمَّنْ يَمْتَرُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَبِالْمَوْتِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ:

أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ ضَمِيرًا بَارِزًا لِلتَّوْبِيخِ.

وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْمِرْيَةِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- اسْمٌ لِلشَّكِّ، وَلَمْ يَرِدْ فِعْلُهُ إِلَّا بِزِيَادَةِ التَّاءِ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ.

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمْتَرُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ تَمْتَرُونَ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْخَلْقِ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُمَارِي فِيهِ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ إِذْ لَوْلَا قَصْدُ التَّذْكِيرِ بِدَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ وَذِكْرِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَالْأَجْلِ الثَّانِي مُرَجِّحٌ للتخصيص بِالذكر.

[٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣]

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَام: ٢] أَيْ، خَلَقَكُمْ وَلَمْ يُهْمِلْ مُرَاقَبَتَكُمْ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَحْوَالَكُمْ كُلَّهَا.

فَالضَّمِيرُ مُبْتَدَأٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ إِذْ لَا يَقَعُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَإِذْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي خَلَقَ وَقَضَى هُوَ اللَّهُ إِذْ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُعَادِ الضَّمَائِرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ مَعْنًى يُفِيدُهُ الْمَقَامُ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ [الْأَنْعَام: ١] فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَحَمِدُوا آلِهَتَهُمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَكْوَانِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَمُعِيدُهُ، ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ إِذْ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَرَّرَ آنِفًا، وَإِذْ هُوَ عَالِمُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَغَيْرُهُ لَا إِحْسَاسَ لَهُ فَضْلًا عَنِ الْعَقْلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا. وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ صَارَ قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ لَا غَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، أَوْ بِمَا

فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١] مِنْ مَعْنَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ جَوَّادًا ثُمَّ يَقُولُ: هُوَ حَاتِمٌ فِي الْعَرَبِ، وَهَذَا لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا.

وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى جُمْلَةِ وَهُوَ اللَّهُ وَلِذَلِكَ

فُصِلَتْ، لأنّها تتنزّل منا منزلَة التوكي لِأَنَّ انْفِرَادَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ مِمَّا يَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.

وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ لِأَنَّ سِرَّ النَّاسِ وَجَهْرَهُمْ وَكَسْبَهُمْ حَاصِلٌ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً دُونَ السَّمَاوَاتِ، فَمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً خَفِيًّا.

وَذَكَرَ السِّرَّ لِأَنَّ عِلْمَ السِّرِّ دَلِيلُ عُمُومِ الْعِلْمِ، وَذَكَرَ الْجَهْرَ لِاسْتِيعَابِ نَوْعَيِ الْأَقْوَالِ.

وَالْمُرَادُ بِ تَكْسِبُونَ جَمِيعُ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ فَدَخَلَ فِيهِ الْكَافِرُونَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَإِيقَاظٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤمنِينَ.

[٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٤]

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)

هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِبُطْلَانِ كُفْرِهِمْ فِي أَمْرِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ عُطِفَ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ وَلِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ هُوَ دَعْوَتُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمِنْ أَجْلِهِ نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَكَذَّبُوهُ وَسَأَلُوهُ الْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ.

وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ مُرَادٌ مِنْهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ هُمْ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمِ الْتِفَاتٌ أَوْجَبَهُ تَشْهِيرُهُمْ بِهَذَا الْحَالِ الذَّمِيمِ، تَنْصِيصًا عَلَى ذَلِكَ، وَإِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِمْ،

وَتَمْحِيضًا لِلْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ يُحَسِّنُهُ أَنْ يكون لَهُ مُقْتَض زَائِدٌ عَلَى نَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ الْمُرَادُ مِنْهُ تَجْدِيدُ نَشَاطِ السَّامِعِ. وَتَكُونُ الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً وَمَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا ابْتِدَائِيًّا.

وَاسْتَعْمَلَ الْمُضَارِعَ فِي قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِتْيَانُ مَاضِيًا أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا.

وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهَا بُلُوغُهَا إِلَيْهِمْ وَتَحَدِّيهِمْ بِهَا، فَشَبَّهَ الْبُلُوغَ بِمَجِيءِ الْجَائِي، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَحَذَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَانِبِ الْمَأْتِيِّ مِنْهُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ، أَيْ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ.

ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِقَصْدِ عُمُومِ الْآيَاتِ الَّتِي أَتَتْ وَتَأْتِي.

ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ كُلُّ دَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. مِنْ ذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي لإعجازها لم كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام مِثْلُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] .

وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ هُمْ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوقِ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى مَنْ يَأْتِيهِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي مُرْسَلٌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ وَيَنْظُرَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَعَلَّهُ يُعْرِضُ عَمَّا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ.

وَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَاخْتِيرَ الْإِتْيَانُ فِي خَبَرِ كَانَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ مُتَحَقِّقٌ مِنْ دَلَالَةِ فِعْلِ الْكَوْنِ، وَمُتَجَدِّدٌ مِنْ دَلَالَةِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُشْتَقَّاتِ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالٌ إِلَّا الْإِعْرَاضُ.

وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الْإِعْرَاضُ عَنِ اعْتِقَادِ عَدَمِ جَدْوَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ مُكَذِّبٌ لِلْمُخْبِرِ الْمُعْرِضِ عَنْ سَمَاعِهِ.

وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ صَرْفُ الْوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِبَاءِ الْمَعْرِفَةِ، فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَاتِ الْمُبْصَرَاتِ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَيَشْمَلُ تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ، وَيَشْمَلُ الْمُكَابَرَةَ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِإِعْجَازِهِ وَكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَيُكَابِرُونَهُ، كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.

[٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥]

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)

الْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَلَى الْأَظْهَرِ أَفْصَحَتْ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ، أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْإِعْرَاضُ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَلَامَةٌ عَلَى التَّكْذِيبِ، كَمَا قَدَّمْتُهُ آنِفًا، فَمَا بَعْدَ فَاءِ الْفَصِيحَةِ هُوَ الْجَزَاءُ.

وَمَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ سُوءَ عَوَاقِبِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْآتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا آيَاتِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تَأْكِيدًا لِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ على الدَّين كلّ وإنذار لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ مِمَّنْ عَرَفُوا مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ.

وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى جَعْلِ الْفَاءِ تَفْرِيعًا مَحْضًا وَجَعْلِ مَا بَعْدَهَا عِلَّةً لِجَزَاءٍ مَحْذُوفٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِعِلَّتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ «الْكَشَّافِ»، وَهِيَ مَضْمُونُ فَقَدْ كَذَّبُوا بِأَنْ يُقَدَّرَ: فَلَا تَعْجَبْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ أَوْهَمَهُ أَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الْمُرَادَ هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا مَا عَدَا آيَةَ الْقُرْآنِ. وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ بِلَا مُخَصِّصٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ بَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ فَقَدْ كَذَّبُوا هُوَ الْجَزَاءُ وَأَنَّ لَهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ يَقْتَضِي

أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مَا عَدَا الْقُرْآنَ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَهَا.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ فَاءُ التَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِصَابَتُهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ اللَّهُ.

وَحَرْفُ التَّسْوِيفِ هُنَا لِتَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاسْتَعْمَلَ الْإِتْيَانَ هُنَا فِي الْإِصَابَةِ وَالْحُصُولِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْأَنْبَاءُ جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ أَهَمِّيَّةٌ.

وَأَطْلَقَ النَّبَأَ هُنَا عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، أَيْ تَحَقُّقَ نَبَئِهِ، لِأَنَّ النَّبَأَ نَفْسَهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلُ.

وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَتِلْكَ أَنْبَاءٌ أَنْبَأَهُمْ بهَا فكذبّوه واستهزؤا بِهِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ سَيُصِيبُهُمْ مَضْمُونُهَا. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلِمُوا أَنَّهَا أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ

وَعَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.

[٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٦]

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. جَاءَ بَيَانُهَا بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ الَّذِينَ أَهْلَكَتْهُمْ حَوَادِثُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ حَالُهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ.

وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ الْقُرُونِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَيَجُوزُ أَن تكون بصربة بِتَقْدِيرِ: أَلَمْ يَرَوْا آثَارَ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا كَدِيَارِ عَادٍ وَحِجْرِ ثَمُودَ، وَقَدْ رَآهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي رِحْلَاتِهِمْ، وَحَدَّثُوا عَنْهَا النَّاسَ حَتَّى تَوَاتَرَتْ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ وَتَحَقَّقَتْهَا نُفُوسُهُمْ.

وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَفِعْلُ يَرَوْا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ أَوِ الْمَفْعُولِ، بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ كَمْ.

وَ(كَمِ) اسْمٌ لِلسُّؤَالِ عَنْ عَدَدٍ مُبْهَمٍ فَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ تَفْسِيرٍ، وَهُوَ تَمْيِيزُهُ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً فَتَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ كَبِيرٍ مُبْهَمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ مُفَسِّرٍ هُوَ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ. فَأَمَّا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فَمُفَسِّرُهَا مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيَّةً فَمُفَسِّرُهَا مَجْرُورٌ لَا غَيْرَ، وَلَمَّا كَانَ (كَمِ) اسْمًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَانَ لَهُ مَوْقِعُ الْأَسْمَاءِ بِحَسَبِ الْعَوَامِلِ رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَجَرٌّ، فَهِيَ هُنَا فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ أَوْ مَفْعُولَيْنِ لِـ يَرَوْا. وَ(مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ. وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَرْنٍ فَزَائِدَةٌ جَارَّةٌ لِمُمَيِّزِ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُمَيِّزِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ جَرَّهُ بِ (مِنْ)، كَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالْقَرْنُ أَصْلُهُ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي دَامَتْ طَوِيلًا. قَالَ تَعَالَى:

مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى. وَفَسَّرَ الْقَرْنَ بِالْأُمَّةِ الْبَائِدَةِ. وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الْجِيلِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. وَيُطْلَقُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَنِ قَدْرُهُ مِائَةُ سَنَةٍ عَلَى الْأَشْهَرِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.

وَجُمْلَةُ: مَكَّنَّاهُمْ صِفَةٌ لِ قَرْنٍ وَرُوعِيَ فِي الضَّمِيرِ مَعْنَى الْقَرْنِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى جَمْعٍ.

وَمَعْنَى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ثَبَّتْنَاهُمْ وَمَلَّكْنَاهُمْ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَضَعَ لَهُ مَكَانًا. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ:

أَرْضٌ لَهُ. وَيُكَنَّى بِالتَّمْكِينِ عَنِ الْإِقْدَارِ وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَكَانِ يَتَصَرَّفُ فِي مَكَانِهِ وَبَيْتِهِ

ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْأَمْرِ. وَيُقَالُ: هُوَ مَكِينٌ بِمَعْنَى مُمَكَّنٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا بِمَرْتَبَةٍ ثَانِيَةٍ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ. وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ تَقْوِيَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ الأَرْض والاستظهار بأساباب الدُّنْيَا، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَنَعَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَفِي سِعَةٍ فِي الرِّزْقِ وَفِي حُسْنِ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا وَمَعْنَى مَكَّنَ لَهُ:

جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا لِأَجْلِهِ، أَيْ رَعْيًا لَهُ، مِثْلَ حَمِدَهُ وَحَمِدَ لَهُ، فَلَمْ تزِدْه اللَّام ومجروورها إِلَّا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فَعَلَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَفْعِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ أَزَالَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَصَيَّرَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَانَتِ اللَّامُ زَائِدَةً كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَا مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلَيْنِ هُنَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لِتَعَيُّنِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مُسْتَوِيًا، لِيَظْهَرَ وَجْهُ فَوْتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي التَّمْكِينِ عَلَى تَمْكِينِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذِ التَّفَاوُتُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَقْوَى تَمَكُّنًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُقْتَرِنُ بِلَامِ الْأَجَلِ فِي جَانِبِهِمْ لَا فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقَدْ عُكِسَ هُنَا. وَبِهَذَا الْبَيَانِ نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الرَّاغِبِ بِاسْتِوَاءِ فِعْلِ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ بِأَنَّ: مَكَّنَ لَهُ بِمَعْنَى جَعَلَ لَهُ مَكَانًا، وَمَكَّنَهُ بِمَعْنَى أَثْبَتَهُ. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ أَمْكَنُ عَرَبِيَّةً. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ كُتُبُ اللُّغَةِ.

وَاسْتِعْمَالُ التَّمْكِينِ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ كِنَايَة أَو مجَاز مُرْسل لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّقْوِيَةَ. وَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ كَالصَّرِيحِ أَوْ كَالْحَقِيقَةِ.

وَمَا مَوْصُولَةٌ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، فَتَنْتَصِبُ (مَا) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ. وَالْمَقْصُودُ مَكَّنَّاهُمْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، أَيْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَمْكِينِكُمْ فِي الْأَرْضِ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ الْتِفَاتٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمُ الْمُمَكَّنُونَ فِي

الْأَرْضِ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ تَمْكِينٌ. وَالِالْتِفَاتُ هُنَا عَكْسُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنَ

الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ آثَارَ حَضَارَةٍ وَسَطْوَةٍ. وَحَسْبُكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ لِلْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ بِأَنَّهَا عَادِيَّةٌ أَوْ ثَمُودِيَّةٌ أَوْ سَبَئِيَّةٌ قَالَ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أَيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَرْضَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا أَهْلُ الْعَصْرِ.

وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ، أَيْ عَقِبَ مَطَرٍ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ:

أَرْسَلْنَا بِخِلَافِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً. وَالْمِدْرَارُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ مِنْحَارٍ لِكَثِيرِ النَّحْرِ لِلْأَضْيَافِ، وَمِذْكَارٍ لِمَنْ يُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ، مِنْ دَرَّتِ النَّاقَةُ وَدَرَّ الضَّرْعُ إِذَا سَمَحَ ضَرْعُهَا بِاللَّبَنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ اللَّبَنُ الدَّرَّ. وَوَصْفُ الْمَطَرِ بِالْمِدْرَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا الْمِدْرَارُ سَحَابَةٌ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ.

وَالْمُرَادُ إِرْسَالُ الْمَطَرِ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ لَا يُخَلِّفُهُمْ فِي مَوَاسِمِ نُزُولِهِ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ بِكَثْرَةِ انْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنْ سِعَةِ رِيِّ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ حَالَةُ مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْخِصْبِ وَالسِّعَةِ، كَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصَانِعِهِمْ وَسُدُودِهِمْ وَنَسَلَانُ الْأُمَمِ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ بِحَوَادِثَ سَمَاوِيَّةٍ كَالْجَدْبِ الَّذِي حَلَّ سِنِينَ بِبِلَادِ عَادٍ، أَوْ أَرْضِيَّةٍ، فَصَارَ مُعْظَمُهَا قَاحِلًا فَهَلَكَتْ أُمَمُهَا وَتَفَرَّقُوا أَيَادِيَ سَبَا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْأَنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] .

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفٌ عَلَى مَكَّنَّاهُمْ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَمَّا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَعْقِيبَ التَّمْكِينِ وَمَا مَعَهُ بِالْإِهْلَاكِ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَذْنَبُوا. فَالتَّقْدِيرُ: فَأَذْنَبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَوْ فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَفِيهِ إِيجَازُ حَذْفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ الْآيَةَ، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ لِلتَّفْصِيلِ تَفْصِيلًا لِ أَهْلَكْنا الْأَوَّلِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ

[] .

وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ، وَهُوَ عِقَابٌ لِلْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ فَنَاءَ الْأُمَمِ لَا

يَكُونُ إِلَّا بِمَا تَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهَا مِنْ سُوءِ فِعْلِهَا، بِخِلَافِ فَنَاءِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّهُ نِهَايَةٌ مُحَتَّمَةٌ وَلَوِ اسْتَقَامَ الْمَرْءُ طُولَ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْحَيَوَانِ مُقْتَضٍ لِلِانْتِهَاءِ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ عَجْزِ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ عَنْ إِمْدَادِ الْبَدَنِ بِمَوَادِّ الْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ عِقَابًا إِلَّا فِيمَا يَحُفُّ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْخِزْيِ لِلْهَالِكِ.

وَالذُّنُوبُ هُنَا هِيَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْظِيرُ بِحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ هُنَا: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ الْآيَةَ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ: الْإِنْشَاءُ الْإِيجَادُ الْمُبْتَكَرُ، قَالَ تَعَالَى:

إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. وَالْمُرَادُ بِهِ إِنْشَاؤُهُمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَ الْقَرْنُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَالْإِسْعَافِ بِالْخِصْبِ، فَخَلَّفُوا الْقَرْنَ الْمُنْقَرِضِينَ سَوَاءٌ كَانَ إِنْشَاؤُهُمْ فِي دِيَارِ الْقَوْمِ الَّذِينَ هَلَكُوا، كَمَا أَنْشَأَ قُرَيْشًا فِي دِيَارِ جُرْهُمٍ، أَمْ فِي دِيَارٍ أُخْرَى كَمَا أَنْشَأَ اللَّهُ ثَمُودًا بَعْدَ عَادٍ فِي مَنَازِلَ أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الله مهلكهم ومنشىء مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ. فَفِيهِ نِذَارَةٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَسَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْشَاءِ الْوِلَادَةُ وَالْخَلْقُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْبَشَرِ لَا يَنْتَهِي، وَلَيْسَ فِيهِ عِظَةٌ وَلَا تهديد للجبايرة الْمُشْرِكِينَ. وَأَفْرَدَ قَرْنًا مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ النَّاصِبَ لَهُ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ بَعْدِ جَمْعِ الْقُرُونِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِ كُلِّ قَرْنٍ مِنَ الْمُهْلِكِينَ قرنا آخَرين.

[٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٧]

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَخْ، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلًا تَعَلَّقَتْ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ

فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ذَكَرَ هُنَا فَرْضَ آيَةٍ تَكُونُ أَوْضَحَ الْآيَاتِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهِيَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ عَلَى صُورَةِ الْكُتُبِ الْمُتَعَارَفَةِ، فَرَأَوْهُ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَمَا آمَنُوا وَلَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ سِحْرٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كَذَّبُوا فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا

جاءَهُمْ

أَيْ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَوْنَهُ آيَةً على صدق الرول، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ فِي صُورَةِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَقَالُوا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ فَكَانَ قَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ مُشْتَمِلًا بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فَصَحَّ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ أَيْضًا.

وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالْكِتَابُ الشَّيْءُ الْمَكْتُوبُ سَوَاءً كَانَ سِفْرًا أَمْ رِسَالَةً، وَعَلَى الثَّانِي فَالْمُرَادُ بِكِتَابٍ سِفْرٌ أَيْ مِثْلَ التَّوْرَاةِ.

وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ كُلَّ يَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ، فَانْتِقَالُ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحَدِيثِ عَنْ ذَوِي ضَمَائِرَ أُخْرَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُنَاسَبَةٍ فِي الِانْتِقَالِ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابًا فِيهِ تَصْدِيقُهُ بَلْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: فِي قِرْطاسٍ صفة لكتاب، وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مِنْ ظَرْفِيَّةِ اسْمِ الشَّيْءِ فِي اسْمِ جُزْئِهِ. وَالْقِرْطَاسُ- بِكَسْرِ الْقَافِ- عَلَى الْفَصِيحِ، وَنُقِلَ- ضَمُّ الْقَافِ- وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَهُوَ اسْمٌ لِلصَّحِيفَةِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا وَيَكُونُ مِنْ رِقٍّ وَمِنْ بَرْدِيٍّ وَمِنْ كَاغِدٍ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا كَانَ من كاغذ بَلْ يُسَمَّى قِرْطَاسًا مَا كَانَ مِنْ رِقٍّ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ قِرْطَاسٌ إِلَّا لِمَا كَانَ مَكْتُوبًا وَإِلَّا سُمِّيَ طِرْسًا، وَلَمْ يَصِحَّ. وَسَمَّى الْعَرَبُ الْأَدِيمَ الَّذِي يُجْعَلُ غَرَضًا لِمُتَعَلِّمِ الرَّمْيِ قِرْطَاسًا فَقَالُوا: سَدَّدَ الْقِرْطَاسَ، أَيْ سَدَّدَ رَمْيَهُ. قَالَ الْجَوَالِيقِيُّ: الْقِرْطَاسُ تَكَلَّمُوا بِهِ قَدِيمًا وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الرَّاغِبُ وَلَا لِسَانُ الْعَرَبِ وَلَا الْقَامُوسُ، وَأَثْبَتَهُ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ. وَقَالَ: هُوَ الْفَرَسُ الْأَبْيَضُ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: أَصْلُهُ كُرَّاسَةٌ. وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُعَرَّبٌ عَنْ أَيِّ لُغَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَرَّبًا فَلَعَلَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْمُ الْوَرَقَةِ فِي لُغَةِ بَعْضِهِمُ الْيَوْمَ (كَارْتَا) .

وَقَوْلُهُ: فَلَمَسُوهُ عَطْفٌ عَلَى نَزَّلْنا. وَاللَّمْسُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ لِمَعْرِفَةِ وُجُودِهِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ وَصْفِ ظَاهِرِهِ مِنْ لِينٍ أَوْ خُشُونَةٍ، وَمِنْ بُرُودَةٍ أَوْ حَرَارَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

فَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّمْسِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّأَمُّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَلِلْإِفْصَاحِ عَنْ مُنْتَهَى مَا اعْتِيدَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ السِّحْرِيَّةَ تَخَيُّلَاتٌ لَا تُلْمَسُ.

وَجَاءَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَقَالُوا، كَمَا قَالَ: فَلَمَسُوهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَسْجِيلِ أَنَّ دَافِعَهُمْ إِلَى هَذَا التَّعَنُّتِ هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ

بِالتَّعْلِيلِ.

وَمَعْنَى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ قَوْمَهُمْ لِسَتْرِ مُكَابَرَتِهِمْ وَلِدَفْعِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْلُوبِ الْمَحْجُوجِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ.

وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، مُشْتَقٌّ مِنْ (أَبَانَ) مُرَادِفُ (بَانَ) . وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [] .

[٨، ٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٨ إِلَى ٩]

وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَمَا قَبْلَهُ بَيَانٌ لِعَدَمِ جَدْوَى مُحَاوَلَةِ مَا يُقْلِعُ عِنَادَهُمْ، فَذَلِكَ فَرْضٌ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ تَصْدِيقُ النَّبِيءِ ﷺ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ آيَةً يُصَدِّقُونَهُ بِهَا. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ هَذَا زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَعَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ وَأُبَيَّ

ابْن خَلَفٍ، وَالْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَمَنْ مَعَهُمْ، أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ ﷺ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ.

فَقَوْلُهُ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أَيْ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نُشَاهِدُهُ وَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُهُ الْمُعَانِدُ. أَمَّا نُزُولُ الْمَلَكِ الَّذِي لَا يَرَوْنَهُ فَهُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ، وَفَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [] .

وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَائِلُونَ بِقَوْلِهِ:

وَمُوَافِقُونَ عَلَيْهِ.

ولَوْلا لِلتَّحْضِيضِ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَالتَّحْضِيضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ. وَضَمِيرُ عَلَيْهِ لِلنَّبِيءِ ﷺ، وَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مُعَادٌ وَكَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مَنْ هُوَ صَاحِبُ خَبَرٍ أَوْ قِصَّةٍ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ

اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» . يُرِيد من مائر الْغَيْبَةِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى الدَّجَّالَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ.

وَمِثْلُ الضَّمِيرِ اسْمُ الْإِشَارَةِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ يُشَارُ إِلَيْهِ. كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ عِنْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: «اذْهَبْ فَاسْتَعْلِمْ لَنَا عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ» . وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ «فَيُقَالُ لَهُ (أَيْ لِلْمَقْبُورِ): مَا عَلَّمَكَ بِهَذَا الرَّجُلِ» يَعْنِي أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّبِيءِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ ملكا. وَقد افهوه بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فِيمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَإِنَّ (لَوْمَا) أُخْتُ (لَوْلَا) فِي إِفَادَةِ التَّحْضِيضِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ مَعْنَاهُ: لَوْ أَنْزَلَنَا مَلَكًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا يُكَلِّمُهُمْ لَقُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ أَمْرُهُمْ فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، أَيْ لَقُضِيَ أَمْرُ عَذَابِهِمُ الَّذِي يَتَهَدَّدُهُمْ بِهِ.

وَمَعْنَى: لَقُضِيَ تُمِّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنْزِلُ مَلَائِكَةٌ غَيْرُ الَّذِينَ سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِلْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ مِثْلَ الْحَفَظَةِ، وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَالْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَحْيِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ تَنْزِلُ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّصْرِ عَلَى مَنْ يُكَذِّبُهُمْ، مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي نَزَلَتْ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ. وَلَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إِلَّا لِإِنْزَالِ الْعَذَابِ بِهِمْ، كَمَا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْمِ لُوطٍ. فَمُشْرِكُو مَكَّةَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيءَ أَنْ يُرِيَهُمْ مَلَكًا مَعَهُ ظَنُّوا مُقْتَرَحَهُمْ تَعْجِيزًا، فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا أَمْرًا لَوْ أُجِيبُوا إِلَيْهِ لَكَانَ سَبَبًا فِي مُنَاجَزَةِ هَلَاكِهِمُ الَّذِي أَمْهَلَهُمْ إِلَيْهِ فِيهِ رَحْمَةً مِنْهُ.

وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الصَّلَابَةِ وَالْغَضَبِ لِلْحَقِّ بِدُونِ هَوَادَةٍ، وَجَعَلَ الْفِطْرَةَ الْمَلَكِيَّةَ سَرِيعَةً لِتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعَمَلِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، فَلِذَلِكَ حَجَزَهُمُ اللَّهُ عَنِ الِاتِّصَالِ بِغَيْرِ الْعِبَادِ المكرّمين الَّذين شابهن نُفُوسُهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ النُّفُوسَ الْمَلَكِيَّةَ، وَلِذَلِكَ حَجَبَهُمُ اللَّهُ عَنِ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وَكَمَا قَالَ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مَلَائِكَةً فِي الْوَسَطِ الْبَشَرِيِّ لَمَا أَمْهَلُوا أَهْلَ الضلال وَالْفساد وَلنَا جزوهم جَزَاءَ الْعَذَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا لَقُوا لُوطًا قَالُوا: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَمَّا جَادَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فِي قَوْمِ لُوطٍ بَعْدَ أَنْ بَشَّرُوهُ وَاسْتَأْنَسَ بِهِمْ قَالُوا يَا إِبْراهِيمُ

أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ

وَهُوَ نُزُولُ الْمَلَائِكَة فَلَيْسَ للْمَلَائكَة تُصْرَفُ فِي غَيْرِ مَا وُجِّهُوا إِلَيْهِ.

فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا اقْتَرَحُوهُ لَوْ وَقع لَكَانَ سيء الْمَغَبَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَبَبَ عَدَمِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ رَحْمَةً بِهِمْ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ مَا كَانَ لِيُظْهِرَ آيَاتِهِ عَنِ اقْتِرَاحِ الضَّالِّينَ، إِذْ لَيْسَ الرَّسُولُ ﷺ بِصَدَدِ التَّصَدِّي لِرَغَبَاتِ النَّاسِ مِثْلَ مَا يَتَصَدَّى الصَّانِعُ أَوِ التَّاجِرُ، وَلَوْ أُجِيبَتْ رَغَبَاتُ بَعْضِ الْمُقْتَرِحِينَ لَرَامَ كُلُّ مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدَّعْوَةُ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ آيَةٌ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِ فَيَصِيرُ الرَّسُولُ ﷺ مُضَيِّعًا مُدَّةَ الْإِرْشَادِ وَتَلْتَفُّ عَلَيْهِ النَّاسُ الْتِفَافَهُمْ عَلَى الْمُشَعْوِذِينَ، وَذَلِكَ يُنَافِي حُرْمَةَ

النُّبُوءَةِ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ تَأْتِي عَنْ مَحْضِ اخْتِيَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَسْأَلَةٍ. وَإِنَّمَا أَجَابَ اللَّهُ اقْتِرَاحَ الْحَوَارِيِّينَ إِنْزَالَ الْمَائِدَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، وَمَا أَرَادُوا إِلَّا خَيْرًا. وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ إِجَابَتَهُمْ لِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَسْتَتْبِعُ نَفْعًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُوَفَّقِينَ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا.

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من فسّر لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِمَعْنَى هَلَاكِهِمْ مِنْ هَوْلِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ. وَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ مَلَكِيَّتِهِ عِنْدَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ صُورَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَرَوْهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا حَتَّى يُصَاحِبَ النَّبِيءَ ﷺ حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَهُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ، فِيهِ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَرَحَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ مَلَكٌ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا كَمَا قَالُوهُ وَحُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ صَارَ مَجِيءُ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ إِلَيْهِمْ غَيْرَ مُجْدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمَلَكِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذَا اللَّازِمِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَجَاءَ هَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي صَالِحًا لَرَدَّ الِاقْتِرَاحَيْنِ، وَلَكِنَّهُ رُوعِيَ فِي تَرْكِيبِ أَلْفَاظِهِ مَا يُنَاسب الْمَعْنى الثَّانِي لِكَلَامِهِمْ فَجِيءَ بِفعل جعلنَا المقتي تَصْيِيرَ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ تَعْوِيضَهُ بِهِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ وَلَوِ اكْتَفَيْنَا عَنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ وَجَعَلْنَا الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا

لَتَعَيَّنَ أَنْ نُصَوِّرَ ذَلِكَ الْمَلَكَ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ تَشَكُّلِهِ بِشَكْلٍ لِتَمَكُّنِ إِحَاطَةِ أَبْصَارِهِمْ بِهِ وَتَحَيُّزِهِ فَإِذَا تَشَكَّلَ فَإِنَّمَا يَتَشَكَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُطِيقُوا رُؤْيَتَهُ وَخِطَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَجُمْلَةُ وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْمَلَكِ.

وَاللَّبْسُ: خَلْطٌ يَعْرِضُ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [] . وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْمُرَادَ لَبْسٌ فِيهِ غَلَبَةٌ لِعُقُولِهِمْ.

وَالْمَعْنَى: وَلَلَبَسْنَا عَلَى عُقُولِهِمْ، فَشَكُّوا فِي كَوْنِهِ مَلَكًا فَكَذَّبُوهُ، إِذْ كَانَ دَأْبُ عُقُولِهِمْ تَطَلُّبَ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ اسْتِدْلَالًا بِهَا عَلَى الصِّدْقِ، وَتَرْكَ إِعْمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُ الصَّادِقِ.

وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يَلْبِسُونَ مَصْدَرِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ لَبْسَهُمُ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ حِينَ قَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ مِثْلَ لَبْسِهِمُ السَّابِقِ الَّذِي عَرَضَ لَهُمْ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.

وَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّ كِلَا اللَّبْسَيْنِ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ.

فَالتَّقْدِيرُ: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ الْمَلَكِ فَيَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ كَمَا لَبَسْنَا عَلَيْهِمْ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذْ يَلْبِسُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَمْلِ اقْتِرَاحِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ مِنْ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِدْلَالَ، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا عَنْ كَلَامِهِمْ إِرْخَاءً لِلْعِنَانِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِكَلَامِهِمْ إِلَّا التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَة.

[١٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠]

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ لِبَيَانِ تَفَنُّنِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ تَصَلُّبًا فِي شِرْكِهِمْ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، فَلَا يَتْرُكُونَ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ التَّنْفِيرِ مِنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا تَوَسَّلُوا بِهَا. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ

مَلَكٌ

أَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَاصِدِينَ التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مَعًا، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يكون، فابتدئ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ. ثُمَّ ثَنَّى بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَحِيقُ بِهِمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ اسْتَهْزَأَتْ بِرَسُولٍ لَهُ.

فَقَوْلُهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَطْوِيَّةٍ إيجازا، تقديرها:

واستهزأوا بِكَ وَلَقَدِ اسْتَهْزَأَ أُمَمٌ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ من قَبْلِكَ، لأنّ قَوْله مِنْ قَبْلِكَ يُؤْذِنُ بأنّه قد استهزىء بِهِ هُوَ أَيْضًا وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي وَصْفِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَحَذَفَ فَاعِلَ الِاسْتِهْزَاءِ فَبَنَى الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تُرَتُّبُ أَثَرِ الِاسْتِهْزَاءِ لَا تَعْيِينُ الْمُسْتَهْزِئِينَ.

وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَقد لِلتَّحْقِيقِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُهُ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا إِلَخْ، لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ حَالُ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالرُّسُلِ، إِذْ لَوْلَا تَرَدُّدُهُمْ فِي ذَلِكَ لَأَخَذُوا الْحَيْطَةَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، الَّذِي جَاءَهُمْ فَنَظَرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ وَمَا أَعْرَضُوا، لِيَسْتَبْرِئُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَذَابٍ مُتَوَقَّعٍ، أَوْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ لَهُ أَفَانِينُ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.

وَمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسُّخْرِيَةِ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَذَكَرَ اسْتُهْزِئَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَلَمَّا أُعِيد عبّر ب سَخِرُوا، وَلَمَّا أُعِيدَ ثَالِثَ مَرَّةٍ رَجَعَ إِلَى فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ (يَسْخَرُونَ) . وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ.

وسَخِرُوا بِمَعْنى هزأوا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِ مِنْ، قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِهَا.

وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَعْدِيَةِ هَزَأَ وَاسْتَهْزَأَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) وَالْبَاءِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي (هَزَأَ) أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَفِي سَخِرَ أَن يتعدّى بِمن. وَأَصْلُ مَادَّةِ سَخِرَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْفَاعِلَ اتَّخَذَ الْمَفْعُولَ مُسَخَّرًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ بِدُونِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ قُرْبِ مَادَّةِ سَخِرَ الْمُخَفَّفِ مِنْ مَادَّةِ التَّسْخِيرِ، أَيِ التَّطْوِيعِ فَكَأَنَّهُ حَوَّلَهُ عَنْ حَقِّ الْحُرْمَةِ الذَّاتِيَّةِ فَاتَّخَذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ سُخْرِيَةً.

وَفِعْلُ فَحاقَ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ بِمَعْنَى أَحَاطَ، وَتَبِعَهُ

الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى عَادَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُهُ حَقَّ، أَيْ بِمَعْنَى وَجَبَ، فَأَبْدَلَ أَحَدَ حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ حَرْفَ عِلَّةٍ تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا تَظَنَّى فِي تَظَنَّنَ، أَيْ وَكَمَا قَالُوا:

تَقَضَّى الْبَازِي، بِمَعْنَى تَقَضَّضَ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ.

وَاخْتِيرَ فِعْلُ الْإِحَاطَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَعَدَمِ إِفْلَاتِهِ أَحَدًا مِنْهُمْ.

وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: بِالَّذِينَ سَخِرُوا وَلَمْ يَقُلْ بِالسَّاخِرِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَحاقَ.

ومِنْهُمْ يَتَعَلَّقُ بِ سَخِرُوا، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى الرُّسُلِ، لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ كَوْنِ الْعِقَابِ لِأَجْلِهِمْ تَرْفِيعًا لِشَأْنِهِمْ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مَوْصُولَةٌ.

وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَوُجُودُ الْبَاءِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِ مَا غَيْرَ مَوْصُولَةٍ.

وَهُوَ مَا أَطَالَ التَّرَدُّدَ فِيهِ الْكَاتِبُونَ.

وَالْمُرَادُ بِ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ مَا أَنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَحُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَحَصَلَ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِالرُّسُلِ وَخَاصَّةً بِمَا يُنْذِرُونَهُمْ بِهِ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءُوا بِهِ.

فَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ جَعَلَ مَا أُنْذِرُوا بِهِ كَالشَّخْصِ الْمَهْزُوءِ بِهِ إِذَا جَعَلْنَا الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَوِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ بِسَبَبِ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إِذَا جُعِلَتِ الْبَاء للسَّبَبِيَّة.

[١١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ وِزَانَهَا وِزَانُ الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا تُخْبِرُ بأنّ الَّذين استهزأوا بِالرُّسُلِ قَدْ حَاقَ بِهِمْ عَوَاقِبُ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَهَذِهِ تَحْدُوهُمْ إِلَى مُشَاهَدَةِ دِيَارِ أُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَلَيْسَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِخِطَابِ

النَّبِيءِ ﷺ مُنَافِيًا لِكَوْنِهَا بَيَانًا لِأَنَّهُ خُوطِبَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْبَيَانَ. فَالْمَقْصُودُ مَا بَعْدَ الْقَوْلِ.

وَافْتِتَاحُهَا بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهَا وَارِدَةٌ مَوْرِدَ الْمُحَاوِرَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ١] .

وَهَذِهِ سِلْسِلَةُ رُدُودٍ وَأَجْوِبَةٍ عَلَى مَقَالَتِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ آنِفًا لِتَضَمُّنِهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرِّسَالَةِ، فَكَانَتْ مُنْحَلَّةً إِلَى شُبَهٍ كَثِيرَةٍ أُرِيدَ رَدُّهَا وَتَفْنِيدُهَا فَكَانَتْ هَاتِهِ الرُّدُودُ كُلُّهَا مُفْتَتَحَةً بِكَلِمَةِ قُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ.

وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي عَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنَ السَّيْرِ، فَهُوَ مِمَّا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسَّيْرِ، وَلِأَنَّ هَذَا النَّظَرَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَأَمُّلٍ وَتَرَسُّمٍ فَهُوَ أَهَمُّ مِنَ السَّيْرِ.

وَالنَّظَرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَصَرِيًّا وَأَنْ يَكُونَ قَلْبِيًّا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَلَّقَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ نَصْبِ مَفْعُولِهِ أَوْ مَفْعُولَيْهِ. وكَيْفَ خَبَرٌ لِ كانَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا وُجُوبًا.

وَالْعَاقِبَةُ آخِرُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ مُسَبَّبَاتِهِ. وَيُقَالُ: عَاقِبَةٌ وَعُقْبَى، وَهِيَ اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالْخَاتِمَةِ.

وإنّما وصفوا ب الْمُكَذِّبِينَ دُونَ الْمُسْتَهْزِئِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ كَانَا خُلُقَيْنِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَذَيْنِ الْخُلُقَيْنِ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْعَاقِبَةِ، إِذْ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: ١٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

وَهَذَا رَدٌّ جَامِعٌ لِدَحْضِ ضَلَالَاتِهِمُ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ ضَلَالَاتِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السالفة المكذّبين.

[١٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢]

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

(١٢)

جُمْلَةُ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَكْرِيرٌ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ تَضَمَّنَ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا، والتقرير من مقتضيان التَّكْرِيرِ، لِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَهُ مَقْصُودًا بِهِ الِاهْتِمَامُ بِمَا بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٠] . وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّقْرِيرِ.

وَالتَّقْرِيرُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ تَبْكِيتُ الْمُشْرِكِينَ وَإِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْإِقْرَار بِمَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمُ الشِّرْكَ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ مَعَ مَعْنَاهُ الصَّرِيحِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ.

وَلِكَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ الْإِلْجَاءُ إِلَى الْإِقْرَارِ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا يُرِيدُهُ السَّائِلُ مِنْ إِقْرَارِ الْمَسْئُولِ مُحَقَّقًا لَا مَحِيصَ عَنْهُ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْجَحْدِ فِيهِ أَوِ الْمُغَالَطَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْتَظِرِ

السَّائِلُ جَوَابَهُمْ وَبَادَرَهُمُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: لِلَّهِ تَبْكِيتًا لَهُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ إِبْلَاغِ الْحُجَّةِ مُقَدَّرَةً فِيهِ مُحَاوَرَةٌ وَلَيْسَ هُوَ مُحَاوَرَةً حَقِيقِيَّةً. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الْمُقَدَّرُ إِلْجَاؤُهُمْ إِلَى الْجَوَابِ سَوَاءً أَنْصَفُوا فَأَقَرُّوا حَقِّيَّةَ الْجَوَابِ أَمْ أَنْكَرُوا وَكَابَرُوا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ دَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْقُرْآنِ، فَتَارَةً لَا يُذْكَرُ جَوَابٌ مِنْهُمْ كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرَّعْد: ١٦]، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى - إِلَى قَوْلِهِ- قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَتَارَةً يَذْكُرُ مَا سَيُجِيبُونَ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْبِيخٍ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤- ٨٩] .

وَابْتُدِئَ بِإِبْطَالِ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ. وَهُوَ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ. وَأُدْمِجَ مَعَهُ ضَلَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ الْمُبْتَدَأَ بِهِ السُّورَةُ بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِنْذَارِ النَّاشِئِ عَنْ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ، وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ دَلِيلُ الْوَحْدَانِيَّةِ السَّالِفُ دَالًّا عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَحْوَالِهَا بِالصَّرَاحَةِ، وَعَلَى عُبُودِيَّةِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَشْمَلُهَا بِالِالْتِزَامِ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الْعُبُودِيَّةَ بِالصَّرَاحَةِ فَقَالَ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ.

وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي السَّماواتِ. إِلَخْ. وَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ مُؤَخَّرًا عَنِ الْخَبَرِ عَلَى وِزَانِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِفَادَةُ الْحَصْرِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لِلْمِلْكِ دَلَّتْ عَلَى عُبُودِيَّةِ النَّاسِ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْعَبْدَ صَائِرٌ إِلَى مَالِكِهِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِدَلِيلِ الْبَعْثِ السَّابِقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ بِحَقِّ الْخَلْقِ. وَلَا سَبَبَ لِلْعُبُودِيَّةِ أَحَقُّ وَأَعْظَمُ مِنَ الْخَالِقِيَّةِ، وَيَسْتَتْبِعُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْإِنْذَارُ بِغَضَبِهِ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ.

وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيْسَ أَهْلًا لِلْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِذْ مُلْكُ ذَلِكَ لِخَالِقِ ذَلِكَ. وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لِأَنَّ مَالِكَ الْأَشْيَاءِ لَا يُهْمِلُ مُحَاسَبَتَهَا.

وَجُمْلَةُ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْمَقُولِ الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَفِي هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَعَانٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ مَا بَعْدَهُ لَمَّا كَانَ مُشْعِرًا بِإِنْذَارٍ بِوَعِيدٍ قَدَّمَ لَهُ التَّذْكِيرَ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبِيدِهِ عَسَاهُمْ يَتُوبُونَ وَيُقْلِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْأَنْعَام: ٥٤]، وَالشِّرْكُ بِاللَّه أعظم سوء وَأَشَدُّ تَلَبُّسًا بِجَهَالَةٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ بِمَنْ هُمْ مِلْكُهُ. فَالْكَافِرُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مَا تَقُولُونَ صِدْقًا لَعَجَّلَ لَنَا الْعَذَاب، وَالْمُؤمن يستبطىء تَأْخِيرَ عِقَابِهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جَوَابًا لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُ تَفَضُّلٌ بِالرَّحْمَةِ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ كَامِلَةٌ: وَهَذِهِ رَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِنْهَا رَحْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ وَهِيَ رَحْمَةُ الْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لِلْعُصَاةِ وَالضَّالِّينَ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ مِنَ التَّمْهِيدِ لِمَا فِي جُمْلَةِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ.

ذُكِرَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعْرِيضًا بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ.

الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَجَّى أُمَّةَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ رُسُلَهَا مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذْ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء:

١٠٧]، وَإِذْ أَرَادَ تَكْثِيرَ تَابِعِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْضِ عَلَى مُكَذِّبِيهِ قَضَاءً عَاجِلًا بَلْ أَمْهَلَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ لِيَخْرُجَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، كَمَا رَجَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣] . وَقَدْ حَصَلَ مَا رَجَاهُ رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ يَلْبَثْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَأَيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ دِينَهُ وَرَسُولَهُ وَنَشَرُوا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فِي آفَاقِ الْأَرْضِ. وَإِذْ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الدِّينُ خَاتِمَةَ الْأَدْيَانِ كَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ إِمْهَالُ الْمُعَانِدِينَ لَهُ وَالْجَاحِدِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَوِ اسْتَأْصَلَهُمْ فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الدِّينِ لَأَتَى عَلَى مَنْ حَوَتْهُ مَكَّةُ مِنْ مُشْرِكٍ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ، كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .

فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَارْتَفَعَ بِذَلِكَ هَذَا الدِّينُ فَلَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنْ جَعْلِهِ خَاتِمَةَ الْأَدْيَانِ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ

يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ

فَقَالَ: أَعُوذُ بِسُبُحَاتِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ.

وَمَعْنَى كَتَبَ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ، بِأَنْ جَعَلَ رَحْمَتَهُ الْمَوْصُوفَ بِهَا بِالذَّاتِ مُتَعَلِّقَةً تَعَلُّقًا عَامًّا مُطَّرِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزْمَانِ وَالْجِهَاتِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُطَّرِدًا شُبِّهَتْ إِرَادَتُهُ بِالْإِلْزَامِ، فَاسْتُعِيرَ لَهَا فِعْلُ (كَتَبَ) الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَقَامُ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ إِلَّا اخْتِيَارًا وَإِلَّا فَإِنَّ غَيْرَهُ يَلْزَمُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَخَلَّفُ كَالْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمَكْتُوبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَأْكِيدَ وَعْدٍ أَوْ عَهْدٍ كَتَبُوهُ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا قُدِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُِ

فَالرَّحْمَةُ هُنَا مَصْدَرٌ، أَيْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْحَمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصِّفَةَ، أَيْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الِاتِّصَافَ بِالرَّحْمَةِ، أَيْ بِكَوْنِهِ رَحِيمًا، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ لَهُ، وَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ، إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا كَتَبَ مُسْتَعْمَلًا فِي تَمَجُّزٍ آخَرَ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ بِالْأَمْرِ الْمُحَتَّمِ الْمَفْرُوضِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ هِيَ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الِامْتِنَانِ، وَفِي الْمَقْصُودِ مِنْ شُمُولِ الرَّحْمَةِ لِلْعَبِيدِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ حَقِّ شُكْرِهِ وَالْمُشْرِكِينَ لَهُ فِي مُلْكِهِ غَيْرَهُ.

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» .

وَجُمْلَةُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْمُسَبَّبِ مِنَ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُبْطِلَتْ أَهْلِيَّةُ أَصْنَامِهِمْ لِلْإِلَهِيَّةِ وَمُحِّضَتْ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بَطَلَتْ إِحَالَتُهُمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ تَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْأَجْسَادِ أَوِ انْعِدَامِهَا.

وَلَامُ الْقَسَمِ وَنُونُ التَّوْكِيدِ أَفَادَا تَحْقِيقَ الْوَعِيدِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ اسْتِقْصَاءُ مُتَفَرَّقِ جَمِيعِ النَّاس أفرادا وأجزاءا مُتَفَرِّقَةً. وَتَعْدِيَتُهُ بِ إِلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى السُّوقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٧] .

وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ مُرَادٌ بِهِ خُصُوصُ الْمَحْجُوجِينَ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَكُونُ نِذَارَةً لَهُمْ وَتَهْدِيدًا وَجَوَابًا عَنْ أَقَلِّ مَا يُحْتَمَلُ مِنْ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَجُمْلَةُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَأَنَّ الْفَاءَ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِلتَّفْرِيعِ وَالسَّبَبِيَّةِ.

وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: فَأَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ لِأَنَّكُمْ خَسِرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِإِفَادَةِ الصِّلَةِ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

وَجَعَلَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَدْعَى لِإِسْمَاعِهِمْ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يُسْتَغْنَى عَنْ سُؤَالِ «الْكَشَّافِ» عَنْ صِحَّةِ تَرَتُّبِ عَدَمِ الْإِيمَانِ عَلَى خُسْرَانِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ.

وَقِيلَ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَقَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النِّسَاء: ١٥] . وأشرب الْمَوْصُول مَعْنَى الشَّرْطِ لِيُفِيدَ شُمُولُهُ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ، وَيُفِيدُ تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْخَبَرِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَيُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرُّ الِارْتِبَاطِ وَالتَّعْلِيلِ فِي جَمِيعِ أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى الصِّلَةِ.

فَقَدْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْبَلَاغِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ.

وَمَعْنَى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أَضَاعُوهَا كَمَا يُضِيعُ التَّاجِرُ رَأْسَ مَالِهِ، فَالْخُسْرَانُ مُسْتَعَارٌ لِإِضَاعَةِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَفْعٍ. فَمَعْنَى خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ عَدِمُوا فَائِدَةَ الِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالتَّفْكِيرُ، فَإِنَّهُ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ لِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي صِدْقِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام فَقَدْ أَضَاعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْفَعَ سَبَبٍ لِلْفَوْزِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَعَدَمُ الْإِيمَانِ مُسَبَّبٌ عَنْ حِرْمَانِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِأَفْضَلِ نَافِع. ويتسبّب عَن عَدَمِ الْإِيمَانِ خُسْرَانٌ آخَرُ، وَهُوَ خُسْرَانُ الْفَوْزِ فِي الدُّنْيَا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ خُسْرَانٌ وَلَا يُقَالُ لَهُ خُسْرَانُ الْأَنْفُسِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْخَسْرَانَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ

[هود: ٢١، ٢٢] .

[١٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣]

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)

جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لِلَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢] الَّذِي هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْجُمْلَةِ، أَيْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ، وَلَهُ مَا سَكَنَ.

وَالسُّكُونُ اسْتِقْرَارُ الْجِسْمِ فِي مَكَانٍ، أَيْ حَيِّزٍ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ مُدَّةً، فَهُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الِاخْتِفَاءِ، لِأَنَّ الْمُخْتَفِيَ يَسْكُنُ وَلَا يَنْتَشِرُ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْخَفَاءِ مَعَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ. وَوَجْهُ كَوْنِهِ كِنَايَةً أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَمُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى - إِلَى أَنْ قَالَ- وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ [الرَّعْد: ٨- ١٠] . فَالَّذِي سكن بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارَ بَعْضُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَا سَكَنَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يُغْفِلُ عَنْ شُمُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا أَخْبَرُوا عَنْ أَشْيَاءَ بِحُكْمِ أَنْ يُرِيدُوا الْأَشْيَاءَ الْمَعْرُوفَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ. فَهَذَا مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِتَقْرِيرِ عُمُومِ الْمُلْكِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ مُلْكَهُ شَمِلَ الظَّاهِرَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ، فَفِي هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِيُوَجِّهُوا النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْخَفِيَّةِ وَمَا فِي إِخْفَائِهَا مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ وَتَصَرُّفَاتِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ.

وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، لِأَنَّ فِعْلَ السُّكُونِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الزَّمَانِ تَعْدِيَةَ الظَّرْفِ اللَّغْوِ كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكَانِ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى حَلَّ وَاسْتَقَرَّ وَهُوَ مَا لَا يُنَاسِبُ حَمْلَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ. وَالْكَلَامُ تَمْهِيدٌ لِسَعَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَالِكِ أَنْ يَعْلَمَ مَمْلُوكَاتِهِ.

وَتَخْصِيصُ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السَّاكِنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَزْدَادُ خَفَاءً، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٥٩] . وَعَطَفَ النَّهَارَ عَلَيْهِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ الشُّمُولِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا كَانَ مَظِنَّةَ الِاخْتِفَاءِ فِيهِ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ الْعَالِمَ يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ عَلَى السَّاكِنَاتِ فِيهِ بِأَهَمِّيَّةٍ وَلَا يَقْصِدُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى السَّاكِنَاتِ فِي النَّهَارِ، فَذَكَرَ النَّهَارَ لِتَحْقِيقِ تَمَامِ الْإِحَاطَةِ بِالْمَعْلُومَاتِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ، وَهُوَ حَصْرُ السَّاكِنَاتِ فِي كَوْنِهَا لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، أَيْ فِي كَوْنِ مِلْكِهَا التَّامِّ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢] .

وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كَالنَّتِيجَةِ لِلْمُقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُ السَّاكِنَاتِ التَّمْهِيدُ لِإِثْبَاتِ عُمُومِ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ مِلْكَ الْمُتَحَرِّكَاتِ الْمُتَصَرِّفَاتِ

أَقْوَى مِنْ مِلْكِ السَّاكِنَاتِ الَّتِي لَا تُبْدِي حَرَاكًا، فَظَهَرَ حُسْنُ وَقْعِ قَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَقِبَ هَذَا.

والسميع: الْعَالِمُ الْعَظِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ أَوْ بِالْمَحْسُوسَاتِ. والعليم: الشَّديد الْعلم بِكُلِّ مَعْلُومٍ.

[١٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤]

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.

اسْتِئْنَاف آخر ناشىء عَن جملَة: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢] .

وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، لِأَنَّهُ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ بِالْقَوْلِ، السَّابِقِ عُبُودِيَّةُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ وَأَنَّ مَصِيرَ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيرِ وُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةٌ لَازَمَةٌ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ إِذْ أَمَرَ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام بالتبري مِنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ بِمَحْضَرِ الْمُجَادِلِ الْمُكَابِرِ (لَا أَجْحَدُ الْحَقَّ) لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ بَعْثَتِهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُمِرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِيُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، أَيْ هُوَ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤]، وَهُوَ لَعَمْرِي مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ وَإِنْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَتَضَمَّنُهُ كَيْفَ وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِئْنَافِ مِنْ نُكْتَةٍ.

وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِ أَتَّخِذُ عَلَى الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ لِيَكُونَ مُوَالِيًا لِلِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ لَا مُطْلَقُ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ. وَشَأْنُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ

بِجَمِيعِ

اسْتِعْمَالَاتِهِ أَنْ يَلِيَهَا جُزْءُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَالْمُنْكَرِ هُنَا، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِنَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الْعِنَايَةِ، وَلَيْسَ مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ فِي مِثْلِ هَذَا لِظُهُورِ أَنَّ دَاعِيَ التَّقْدِيمِ هُوَ تَعْيِينُ الْمُرَادِ بِالِاسْتِفْهَامِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ غَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ جَعَلَ التَّقْدِيمَ هُنَا مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ انْحِصَارِ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ فِي غَيْرِ اللَّهِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا يَشْهَدُ الِاسْتِعْمَالُ وَالذَّوْقُ بِخِلَافِهِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» بَرِيءٌ مِنْهُ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْمُقَدَّمِ- لِيَلِيَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا مِثْلَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: ٤٠] هُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ الْمُضَافَةُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا عَدَا اللَّهَ، فَكَانَ اللَّهُ مَلْحُوظًا مِنْ لَفْظِ الْمَفْعُولِ فَكَانَ إِنْكَارُ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا مُسْتَلْزِمًا عَدَمَ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا، لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَبْقَى مَعَهُ إِلَّا اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلِيًّا فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا مَعْنَى الْقَصْرِ وَآئِلًا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَالٍّ عَلَى الْقَصْرِ مُطَابَقَةً، وَلَا مُفِيدًا لِمَا يُفِيدُهُ الْقصر الإضافي مقن قَلْبِ اعْتِقَادٍ أَوْ إِفْرَادٍ أَوْ تَعْيِينٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ خِلَافَ كَلِمَةِ (غَيْرَ) لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقَصْرِ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَزَيْدًا أَتَتَّخِذُ صَدِيقًا، لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا إِلَّا إِنْكَارَ اتِّخَاذِ زَيْدٍ صَدِيقًا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى اتِّخَاذِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَرَاهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلصَّدَاقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: أَتَتَّخِذُ زَيْدًا صَدِيقًا، إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ تَوَجُّهَ الْإِنْكَارِ لِلْمُتَّخِذِ لَا لِلِاتِّخَاذِ اهْتِمَامًا بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ فَأَجِدَّ فِيهِ نَظَرَكَ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ سَأَلُوا مِنَ النَّبِيءِ ﷺ أَنْ يَتَّخِذَ أَصْنَامَهُمْ أَوْلِيَاءَ كَانَ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ نُكْتَةُ اهْتِمَامٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ كَوْنُهُ جَوَابًا لِكَلَامٍ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] وَقَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا [الْأَعْرَاف: ١٢] . وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا الْآتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى أَبْغِي لِكَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ نِدَائِهِمْ لَهُ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ. قَالَ الطَّيْبِيُّ: لِأَنَّ كُلَّ تَقْدِيمٍ إِمَّا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِجَوَابِ إِنْكَارٍ.

وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ الْمُدَبِّرُ، فَفِيهِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ. يُقَالُ: تَوَلَّى فَلَانًا، أَيِ اتَّخَذَهُ نَاصِرًا. وَسُمِّيَ الْحَلِيفُ وَلِيًّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحِلْفِ النُّصْرَةُ. وَلَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي

يَرْجِعُ إِلَيْهِ عَابِدُهُ سُمِّيَ وَلِيًّا لِذَلِكَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَلِيُّ.

وَالْفَاطِرُ: الْمُبْدِعُ وَالْخَالِقُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الشَّقُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَرَفْتُ مَعْنَى الْفَاطِرِ حَتَّى اخْتصم إليّ أعرابيات فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا. وَإِجْرَاءُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ وَصْفٍ آخَرَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَدَمِ جَدَارَةِ غَيْرِهِ لِأَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١] . وَلَيْسَ يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ قَبْلَهُ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢] لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي أَسْبَابِ بَقَائِهِمْ إِلَى أَجَلٍ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يُعْطِي النَّاسَ مَا يَأْكُلُونَهُ مِمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ: مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ وَكَلَأٍ وَصَيْدٍ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْآلِهَةَ الْأُخْرَى شُرَكَاءَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ كَثُرَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٣، ٦٤] .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا يُطْعَمُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ- فَتَكْمِيلٌ دَالٌّ عَلَى الْغِنَى الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٧] . وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِذْ لَيْسَ فِي آلِهَةِ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يُطْعِمُونَهُ الطَّعَامَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ التَّعْرِيضُ بِهِمْ فِيمَا يُقَدِّمُونَهُ إِلَى أَصْنَامِهِمْ مِنَ الْقَرَابِينِ وَمَا يُهْرِقُونَ عَلَيْهَا مِنَ الدِّمَاءِ، إِذْ لَا يَخْلُو فِعْلُهُمْ مِنِ اعْتِقَادِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَنْعَمُ بِذَلِكَ.

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

اسْتِئْنَافٌ مُكَرَّرٌ لِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَثَارُ الِاسْتِئْنَافَيْنِ وَاحِدٌ وَلَكِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَحُومُ حَوْلَ الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَهَذَا

اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ الْوَحْيِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ صَرْفِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠]، فَهَذَا إِبْطَالٌ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، وَشِعَارُهُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الْمُبْطِلَةُ لِلْإِشْرَاكِ.

وَبُنِيَ فِعْلُ أُمِرْتُ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فَاعِلَ هَذَا الْأَمْرِ مَعْلُومٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ إِسْنَادِ الْوَحْيِ إِلَى اللَّهِ.

وَمَعْنَى أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ الْإِسْلَامُ الْخَاصُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا آمَنَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، بِمَا فِيهِ مِنْ وُضُوحِ الْبَيَانِ وَالسَّمَاحَةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢] .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِمَّنْ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كِنَايَةً عَنِ الْأَقْوَى وَالْأَمْكَنِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ هُوَ الْأَحْرَصُ عَلَيْهِ وَالْأَعْلَقُ بِهِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْقُوَّةَ فِي الْعَمَلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى قَوْلَهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٣] . فَإِنَّ كَوْنَهُ أَوَّلَهُمْ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنِّي الْآنَ بَعْدَ الصَّعْقَةِ أَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١] .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى دِينِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا إِذَا رَأَوْا مِنْهُ رَحْمَةً بِهِمْ وَلِينًا فِي الْقَوْلِ طَمِعُوا فِي رُجُوعِهِ إِلَى دِينِهِمْ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ لِيَيْأَسُوا. وَالْكَلَامُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ

يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، فَذِكْرُ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ بَعْدَ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَهَذَا التَّأْكِيدُ لِتُقْطَعَ جُرْثُومَةُ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الدِّينِ.

ومَنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، فَمَعْنَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ هُوَ أَمْرٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ فَتَكُونُ مَنْ اتِّصَالِيَّةً وَيَكُونُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَعْنَى اللقبي، أَي الَّذِي اشْتَهَرُوا بِهَذَا الِاسْمِ، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ شَيْءٌ فِيهِ صِلَةٌ بِالْمُشْرِكِينَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَالتَّأْيِيسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَدُّ وَأَقْوَى.

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِدْلَالٌ لِلْمَأْثُورِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ بَلْ تَتَوَقَّفُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ عَلَى بَعْثَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللَّهِ وَلِيًّا لِأَنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَمَرَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ رَحِمَهُ [الْأَنْعَام: ١٥، ١٦] .

[١٥، ١٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)

هَذَا اسْتِئْنَافٌ مُكَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ تَدَرُّجٌ فِي الْغَرَضِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا مِنْ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ مُتَوَعَّدٌ صَاحِبُهُ بِالْعَذَابِ وَمَوْعُودٌ تَارِكُهُ بِالرَّحْمَةِ. فَقَوْلُهُ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: ١٤] الْآيَةَ رَفْضٌ لِلشِّرْكِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَام: ١٤] الْآيَةَ، رَفْضٌ لِلشِّرْكِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ.

وَقَوْلُهُ هُنَا: قُلْ إِنِّي أَخافُ الْآيَةَ تَجَنُّبٌ لِلشِّرْكِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِي الرَّحْمَةِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَالنَّاهِيَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الْعُدُولِ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى قَوْلِهِ: رَبِّي إِيمَاءً إِلَى أَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ رَبُّهُ فَكَيْفَ يَعْصِيهِ.

وَأُضِيفُ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمٍ عَظِيمٍ تَهْوِيلًا لَهُ لِأَنَّ فِي مُعْتَادِ الْعَرَبِ أَنْ يُطْلَقَ الْيَوْمُ عَلَى يَوْمِ نَصْرِ فَرِيقٍ وَانْهِزَامِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ، فَيَكُونَ الْيَوْمُ نَكَالًا عَلَى الْمُنْهَزِمِينَ، إِذْ يَكْثُرُ فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَيُسَامُ الْمَغْلُوبُ سُوءَ الْعَذَابِ، فَذِكْرُ يَوْمٍ يُثِيرُ مِنَ الْخَيَالِ مَخَاوِفَ مَأْلُوفَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشُّعَرَاء: ١٨٩] وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابًا عَظِيمًا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [٩]، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَسُنَ جَعْلُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى الْيَوْمِ الْعَظِيمِ كِنَايَةً عَنْ عِظَمِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ عَظَمَةَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ تَسْتَلْزِمُ عِظَمَ مَا يَقَعُ فِيهِ عُرْفًا.

وَقَوْلُهُ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ جُمْلَةٌ مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الصِّفَةِ لِ عَذابَ.

ويُصْرَفْ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْعَذَابِ أَوْ لِضَمِيرِ مَنْ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ «عَنْ» عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَيْ يُصْرَفِ الْعَذَابُ عَنْهُ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ مِنْ يُصْرَفْ هُوَ عَنِ الْعَذَابِ، وَعَلَى عَكْسِ هَذَا الْعَوْدِ يَكُونُ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يُصْرَفْ.

وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ يُصْرَفْ- بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ- عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ رَبِّي عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.

أَمَّا الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي رَحِمَهُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ.

وَمَعْنَى وَصْفِ الْعَذَابِ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَجَنُّبِ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فَهُوَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الرَّحْمَةَ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهَا.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ مُقَابِلِ قَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو إِنْ أَطَعْتُهُ أَنْ يَرْحَمَنِي رَبِّي، لِأَنَّ مَنْ صُرِفَ عَنْهُ الْعَذَابُ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحْمَةُ. فَجَاءَ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِطَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ. وَهُوَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ لِيُعْلَمَ الْمَدْلُولُ. وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْكِنَايَةِ وَأُسْلُوبٌ بَدِيعٌ بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمَحْكُومُ لَهُ فِي الْحُكْمِ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ الَّذِينَ ثَبَتَ لَهُمُ الْحُكْمُ.

وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَالْإِشَارَةُ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الصَّرْفِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ. وَإِنَّمَا كَانَ الصَّرْفُ عَنِ الْعَذَابِ فَوْزًا لِأَنَّهُ إِذَا صُرِفَ عَنِ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: ١٨٥] . والْمُبِينُ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ أَبَانَ بِمَعْنى بَان.

[١٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٧]

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)

عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمُفْتَتَحَةِ بِفعل قُلْ [الْأَنْعَام: ١٥] فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ.

وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَوَّفُوا النَّبِيءَ ﷺ أَوْ عَرَّضُوا لَهُ بِعَزْمِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِ بِشَرٍّ وَأَذًى فَخَاطَبَهُ اللَّهُ بِمَا يُثَبِّتُ نَفْسَهُ وَمَا يُؤَيِّسُ أَعْدَاءَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَزِلُّوهُ. وَهَذَا كَمَا حُكِيَ عَنْ

إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا [الْأَنْعَام: ٨١]، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِثْبَاتُ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ الْمُطْلَقَ فِي أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ بِالْجُمَلِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ مُحْدِثُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي أُسْلُوبِ تَثْبِيتٍ لِلرَّسُولِ ﷺ عَلَى عَدَمِ الْخَشْيَةِ مِنْ بَأْسِ الْمُشْرِكِينَ وَتَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ، وَوَعْدِهِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لَهُ مِنْ أَثَرِ رِضَى رَبِّهِ وَحْدَهُ عَنْهُ، وَتَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِضْرَارَهُ وَلَا يَجْلِبُونَ نَفْعَهُ. وَيَحْصُلُ مِنْهُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا ذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّهَا تَجْلِبُ الْخَيْرَ وَتَدْفَعُ

الشَّرَّ، فَلَمَّا أَبْطَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَامِ الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا، وَأَوْجَبَتْ عِبَادَةَ الْمُسْتَحِقِّ الْإِلَهِيَّةَ بِحَقٍّ، أَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [الْمَائِدَة: ٧٦] وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشُّعَرَاء:

٧٣] .

وَقَدْ هَيَّأَتِ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ مَوْقِعًا لَهَاتِهِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خَالِقَ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مُقَدِّرٌ أَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ فِي دَائِرَةِ قُدْرَتِهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ بَعْدَ كَوْنِ مَعْرُوضَاتِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ مَخْلُوقَةً لَهُ. فَالْمَعْرُوضَاتُ الْعَارِضَةُ لِلْمَوْجُودَاتِ حَاصِلَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُقَدِّرُ أَسْبَابِهَا، وَاضِعُ نِظَامِ حُصُولِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَخَالِقُ وَسَائِلِ الدَّوَاعِي النَّفْسَانِيَّةِ إِلَيْهَا أَوِ الصَّوَارِفِ عَنْهَا.

وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ. وَقَدْ يَكُونُ مُبَاشَرَةً وَقَدْ يَكُونُ بِآلَةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي إِيصَالِ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فَيُسْتَعَارُ إِلَى مَعْنَى الْإِيصَالِ فَيَكْثُرُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ مَا هُوَ مستعار للآقلة. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْآلَةِ وَهُوَ الْبَاءُ كَمَا هُنَا، فَتَكُونُ فِيهِ اسْتِعَارَتَانِ تَبَعِيَّتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْفِعْلِ وَالْأُخْرَى فِي مَعْنَى الْحَرْفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الْأَعْرَاف: ٧٣] . فَالْمَعْنَى: وَإِنْ يُصِبْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ، أَوْ وَإِنْ يَنَلْكَ مِنَ اللَّهِ ضُرٌّ.

وَالضُّرُّ- بِضَمِّ الضَّادِ- هُوَ الْحَالُ الَّذِي يُؤْلِمُ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ مِنَ الشَّرِّ، وَهُوَ الْمُنَافِرُ لِلْإِنْسَانِ. وَيُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ. وَالْمعْنَى إِن قدّر اللَّهُ لَك الضرّ فهلّا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَشْفَهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ إِنْ شَاءَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مُقَدَّرَاتِهِ مَرْبُوطَةٌ وَمَحُوطَةٌ بِنَوَامِيسَ وَنُظُمٍ لَا تَصِلُ إِلَى تَحْوِيلِهَا إِلَّا قُدْرَةُ خَالِقِهَا.

وَقَابَلَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ مُقَابَلَةً بِالْأَعَمِّ، لِأَنَّ الْخَيْرَ يَشْمَلُ النَّفْعَ وَهُوَ الْمُلَائِمُ وَيَشْمَلُ السَّلَامَةَ مِنَ الْمُنَافِرِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضُّرِّ مَا هُوَ أَعَمُّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَمْسَسْكَ بِضُرٍّ وَشَرٍّ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِنَفْعٍ وَخَيْرٍ، فَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نَابَ الضُّرُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنَابَ الشَّرِّ وَالشَّرُّ أَعَمُّ وَهُوَ مُقَابِلُ الْخَيْرِ. وَهُوَ مِنَ الْفَصَاحَةِ عُدُولٌ عَنْ قَانُونِ التَّكَلُّفِ وَالصَّنْعَةِ، فَإِنَّ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ

أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ وَنَظَرَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى

[طه: ١١٨، ١١٩] . اهـ.

وَقَوْلُهُ: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جُعِلَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَلَا مَانِعَ لَهُ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْعُمُومَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الْأَنْعَام: ١٨] .

[١٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٨]

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الْأَنْعَام: ١٧] الْآيَةَ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَيْهِمَا يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَامِ الْعِبَادَةَ. فَالْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ تَصَرُّفٌ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْطَلَتْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ قَاهِرًا عَلَى أَحَدٍ أَوْ خَبِيرًا أَوْ عَالِمًا بِإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْإِلَهَ تَجِبُ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ، وَهُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَمَا تَجِبُ لَهُ صِفَاتُ الْأَفْعَالِ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَهِيَ تَعَلُّقَاتٌ لِلْقُدْرَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الصِّفَاتِ عِنْدَ غَيْرِ الْأَشْعَرِيِّ نَظَرًا لِلْعُرْفِ، وَأَدْخَلَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا تَعَلُّقَاتٌ لَهَا، وَهُوَ التَّحْقِيقُ.

وَلِذَلِكَ تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا ذكرت كَمَا تَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَجَاءَتْ بِهِ فِي قَالَبِ تَثْبِيتِ الرَّسُولِ ﷺ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْعَتْ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَمِيعِ الْفِعْلِ وَالصُّنْعِ.

وَالْقَاهِرُ الْغَالِبُ الْمُكْرِهُ الَّذِي لَا يَنْفَلِتُ مِنْ قُدْرَتِهِ مِنْ عُدِّيَ إِلَيْهِ فِعْلُ الْقَهْرِ.

وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيف الجزأين الْقَصْرَ، أَيْ لَا قَاهِرَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ قَهْرَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْقَهْرُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَقْهُورُ مِنْهُ مَلَاذًا، لِأَنَّهُ قَهْرٌ بِأَسْبَابٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ خَلْقَ مَا

يُدَافِعُهَا. وَمِمَّا يُشَاهَدُ مِنْهَا دَوْمًا النَّوْمُ وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ. سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ.

وَ(فَوْقَ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ الْقاهِرُ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِحَالَةِ الْقَاهِرِ بِأَنَّهُ كَالَّذِي يَأْخُذُ الْمَغْلُوبَ مِنْ أَعْلَاهُ فَلَا يَجِدُ مُعَالَجَةً وَلَا حَرَاكًا. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٧] .

وَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ جِهَةٌ هِيَ فِي عُلُوٍّ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، فَلَا تُعَدُّ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ.

والعباد: هُمُ الْمَخْلُوقُونَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلدَّوَابِّ عِبَادُ اللَّهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَمْعُ عَبْدٍ لَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَخَصَّ الْعَبِيدَ بِجَمْعِ عَبْدٍ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ.

وَمَعْنَى الْقَهْرِ فَوْقَ الْعِبَادِ أَنَّهُ خَالِقُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدَرِهِمْ بِحَيْثُ يُوجِدُ مَا لَا يُرِيدُونَ وُجُودَهُ كَالْمَوْتِ، وَيَمْنَعُ مَا يُرِيدُونَ تَحْصِيلَهُ كَالْوَلَدِ لِلْعَقِيمِ وَالْجَهْلِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أُمُورًا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا لَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا وَأُمُورًا يَفْعَلُهَا تَارَةً وَلَا يَسْتَطِيعُ فِعْلَهَا تَارَةً، كَالْمَشْيِ لِمَنْ خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْقُدَرِ وَالِاسْتِطَاعَاتِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ يَقِيسُ الْعَقْلُ عَوَالِمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْعَنَاصِرَ وَالْقُوَى وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بعض فَلَا يَسْتَطِيع الْمُدَافَعَةَ إِلَّا مَا خَوَّلَهَا اللَّهُ.

والحكيم: الْمُحْكِمُ الْمُتْقِنُ لِلْمَصْنُوعَاتِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:

فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩] وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.

وَالْخَبِيرُ: مُبَالَغَةٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ (خَبَرَ) الْمُتَعَدِّي، بِمَعْنَى (عَلِمَ)، يُقَالُ: خَبَرَ الْأَمْرَ، إِذَا عَلِمَهُ وَجَرَّبَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عُلِمَ أَمْكَنَ الْإِخْبَارُ بِهِ.

[١٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٩]

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.

انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ، إِلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَإِلَى جَعْلِ اللَّهِ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيهِ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابتدائي، ومناسبة

الِانْتِقَال ظَاهِرَةٌ.

رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى أَحَدًا مُصَدِّقَكَ بِمَا تَقُولُ، وَقَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُكَ وَلَا صِفَتُكَ فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَقَدِ ابْتُدِئَتِ الْمُحَاوَرَةُ بِأُسْلُوبِ إِلْقَاءِ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ١٢] وَمِثْلُ هَذَا الْأُسْلُوبِ لِإِعْدَادِ السَّامِعِينَ لِتَلَقِّي مَا يَرِدُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ.

وَ(أَيُّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ بَيَانُ أَحَدِ الْمُشْتَرَكَاتِ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُنَا هُوَ شَيْءٍ الْمُفَسَّرُ بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ.

وشَيْءٍ اسْمٌ عَامٌّ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْعَالِيَةِ ذَاتِ الْعُمُومِ الْكَثِيرِ، قِيلَ: هُوَ الْمَوْجُودُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُعْلَمُ وَيَصِحُّ وُجُودُهُ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُعْلَمُ. وَيَجْرِي عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ صِفَةَ مَوْجُودٍ أَوْ مَعْنًى يُتَعَقَّلُ وَيُتَحَاوَرَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٢، ٣] .

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاقِعِ حُسْنِ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَمَوَاقِعِ ضَعْفِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٥] .

وأَكْبَرُ هُنَا بِمَعْنَى أَقْوَى وَأَعْدَلُ فِي جِنْسِ الشَّهَادَاتِ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ مَا مَدْلُولُهُ عِظَمُ الذَّاتِ عَلَى عِظَمِ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢] وَقَوْلِهِ:

قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧] .

وَقُوَّةُ الشَّهَادَةِ بِقُوَّةِ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَتَصْدِيقِ مَضْمُونِهَا.

وَقَوْلُهُ: شَهادَةً تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الْأَكْبَرِيَّةِ إِلَى الشَّيْء فَصَارَ مَا صدق الشَّيْءِ بِهَذَا التَّمْيِيزِ هُوَ الشَّهَادَةُ. فَالْمَعْنَى: أَيَّةُ شَهَادَةٍ هِيَ أَصْدَقُ الشَّهَادَاتِ، فَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ بِ أَيُّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الشَّهَادَاتِ يُطْلَبُ عِلْمُ أَنَّهُ أَصْدَقُ أَفْرَادِ جِنْسِهِ.

وَالشَّهَادَةُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٦] .

وَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْمُخَاطَبِينَ الْمُكَذَّبِينَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَارَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا

الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ

[النُّور: ٨] أَيْ أَنْ تُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى كَذِبِ الزَّوْجِ، أَيْ أَنْ تَحْلِفَ على ذَلِك بِسم اللَّهِ، فَإِنَّ لَفْظَ (أُشْهِدُ اللَّهَ) مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ يَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ كَمَا هُنَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ مُرَادٌ مِنْهُ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أَيْ أُشْهِدُهُ عَلَيْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ هُودٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤] .

وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَتُهُ الْمُصَدَّرَةُ بِ قُلْ. وَهَذَا جَوَابٌ أُمِرَ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَسْأَلَ ثُمَّ يُبَادِرُ هُوَ بِالْجَوَابِ لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّؤَالِ التَّقْرِيرَ وَكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمُقَرِّرَ إِنْكَارُهُ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢] .

وَوَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابًا عَلَى لِسَانِهِمْ لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى السُّؤَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَالتَّقْدِيرُ: قُلْ شَهَادَةُ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، فَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَحَذَفَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُرَتَّبِ إِيجَازًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى جَزَالَةِ أُسْلُوبِ الْإِلْجَاءِ وَالْجَدَلِ.

وَالْمَعْنَى: أَنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ الَّذِي شَهَادَتُهُ أَعْظَمُ شَهَادَةً أَنَّنِي أَبْلَغْتُكُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ تُشْرِكُوا بِهِ وَأَنْذَرْتُكُمْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ إِطْلَاقِ اسْمِ (شَيْءٍ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: أَيُّ شَيْءٍ فَاقْتَضَى إِطْلَاقَ اسْمِ (شَيْءٍ) خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ صَرِيحًا. وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَطْلَقَهُ الْمُؤْمِنُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ فِي إِطْلَاقِهِ تَجَاوُزٌ لِلْأَدَبِ وَلَا إِثْمٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافًا لِجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَصْحَابِهِ.

وَمَعْنَى: شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ فَيَرْجِعُوا عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُكَابَرَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: إِنْذَارُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي

الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَوَجْهُ ذِكْرِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ لَهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى السِّيَاقِ.

فَمَعْنَى الْبَيْنِ أَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ لِلرَّسُولِ ﷺ بِالصِّدْقِ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الشَّاهِدِ فِي الْخُصُومَاتِ.

وَقَوْلُهُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْأَهَمُّ فِيمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ. وَيَنْطَوِي فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا أَبْلَغَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ وَمَا أَقَامَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ. فَعَطْفُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ،

وَحُذِفَ فَاعِلُ الْوَحْيِ وَبُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْإِشَارَةُ بِ هذَا الْقُرْآنُ إِلَى مَا هُوَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ. وَعَطْفُ الْبَيَانِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَيَّنَ الْمَقْصُودَ بِالْإِشَارَةِ.

وَاقْتَصَرَ عَلَى جَعْلِ عِلَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِلنِّذَارَةِ دُونَ ذِكْرِ الْبِشَارَةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي حَالِ مُكَابَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ مَقَامُ الْكَلَامِ لَا يُنَاسِبُهُمْ إِلَّا الْإِنْذَارُ، فَغَايَةُ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِمْ هِيَ الْإِنْذَارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ مُصَرِّحًا بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَلَمْ يَقُلْ: لِأُنْذِرَ بِهِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى ضَمِيرِهِمْ يُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ. عَلَى أَنَّ لَامَ الْعِلَّةِ لَا تُؤْذِنُ بِانْحِصَارِ الْعِلَّةِ فِي مَدْخُولِهَا إِذْ قَدْ تَكُونُ لِلْفِعْلِ الْمُعَدَّى بِهَا عِلَلٌ كَثِيرَةٌ.

وَمَنْ بَلَغَ عَطْفٌ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ وَلِأُنْذِرَ بِهِ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَسَمِعَهُ وَلَوْ لَمْ أُشَافِهْهُ بِالدَّعْوَةِ، فَحَذَفَ ضَمِيرَ النَّصْبِ الرَّابِطَ لِلصِّلَةِ لِأَنَّ حَذْفَهُ كَثِيرٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَعُمُومُ مَنْ وَصِلَتِهَا يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ فِي جَمِيع العصور.

أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ.

فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ جُمْلَةِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً. خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفْيَ الشَّرِيكِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ هُوَ أَصْلُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَبَعْدَ أَنْ قَرَّرَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً وَأَشْهَدَ اللَّهَ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا بَلَّغَ، وَعَلَيْهِمْ فِيمَا أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا اسْتَأْنَفَ اسْتِفْهَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ اسْتِقْصَاءً فِي الْإِعْذَارِ لَهُمْ فَقَالَ: أَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ عَلَى مَا أَصْرَرْتُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا شَهِدْتُ أَنَا عَلَى مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُنَا أَمْرٌ يُنْكِرُونَهُ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.

وَإِنَّمَا جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْإِنْكَارِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُوَكَّدِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيُفِيدَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ هَذِهِ مِمَّا لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ السَّامِعُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَهَا لِاسْتِبْعَادِ صُدُورِهَا مِنْ عُقَلَاءَ، فَيَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ عَنْهُمْ بِهَا إِلَى تَأْكِيدِ خَبَرِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَيَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَهُنَالِكَ يَحْتَاجُ مُخَاطِبُهُمْ بِالْإِنْكَارِ إِلَى إِدْخَالِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُحْكَى بِهَا خَبَرُهُمْ، فَيُفِيدُ مِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنْكَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا صَرِيحٌ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ، وَالْآخَرُ كَنَائِيٌّ بِلَازِمِ تَأْكِيدِ الْإِخْبَارِ لِغَرَابَةِ هَذَا الزَّعْمِ بِحَيْثُ يَشُكُّ السَّامِعُ فِي صُدُورِهِ مِنْهُمْ.

وَمعنى لَتَشْهَدُونَ لتدّعونا دَعْوَى تُحَقِّقُونَهَا تَحْقِيقًا يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوع، فإطلاق لَتَشْهَدُونَ مُشَاكَلَةٌ لِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

وَالْآلِهَةُ جَمْعُ إِلَهٍ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِالتَّأْنِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ فَإِنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يَكُونُ وَصْفُهُ كَوَصْفِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ.

وَقَوْلُهُ: قُلْ لَا أَشْهَدُ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي قَوْله: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ: قُلْ أَإِنَّكُمْ، وَوَقَعَتِ الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ بتبرّي الْمُتَكَلِّمِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ الْمُخَاطَبِينَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: دَعْنَا مِنْ شَهَادَتِكُمْ وَخُذُوا شَهَادَتِي فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥] .

وَجُمْلَةُ: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لَا أَشْهَدُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى لَا أَشْهَدُ بِأَنَّ مَعَهُ آلِهَةً هُوَ مَعْنَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِتَأْكِيدِ التَّبْلِيغِ.

وَكَلِمَةُ إِنَّما أَفَادَتِ الْحَصْرَ، أَيْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ: ثُمَّ بَالَغَ فِي إِثْبَات ذَلِك بالتبري مِنْ ضِدِّهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. وَفِيهِ قَطْعٌ لِلْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَارَكَةِ.

وَ(مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُشْرِكُونَ يَجُوزُ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مَوْصُولَةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ مِنْ أَصْنَامِكُمُ الَّتِي تُشْرِكُونَ بِهَا، وَفِيهِ حَذْفُ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ الْمَحْذُوفَ مَعَ الْعَائِدِ مُتَعَيِّنٌ تَقْدِيرُهُ بِلَا لَبْسٍ، وَذَلِكَ هُوَ ضَابِطُ جَوَازِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا [الْفرْقَان: ٦٠] أَيْ بِتَعْظِيمِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أَيْ بِالْجَهْرِ بِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ «التَّسْهِيلِ» أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْ مُؤَلِّفِهِ اغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ شرّاح كتبه.

[٢٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢٠]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ انْتَقَلَ بِهَا أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى إِخْبَارٍ عَامٍّ كَسَائِرِ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ. أَظْهَرَ اللَّهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا

جَاءَ بِهِ بَعْدَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي فِي قَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ١٩]، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ هُنَالِكَ وَقَعَ هَذَا الِانْتِقَالُ لِلِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنِ صِدْقَ مَنْ جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ الْعَامَّةُ الدَّائِمَةُ. وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الْوَاحِدِيَّ ذَكَرَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ ﷺ قَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُكَ وَلَا صِفَتُكُ إِلَى آخِرِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعَرُّضُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا إِبْطَالًا لِمَا قَالُوهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُ النَّبِيءِ وَلَا صِفَتُهُ، أَيْ فَهُمْ

وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي جَحْدِ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْآيَةَ مُشِيرَةً إِلَى مَا ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ تَعَيَّنَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُنْصِفُونَ مِنْهُمْ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقَدِّرُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَثِقُونَ بِعِلْمِهِمْ وَرُبَّمَا اتَّبَعَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ مِثْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الدِّينِ مَوْثُوقًا بِهَا عِنْدَهُمْ إِذَا أَدَّوْهَا وَلَمْ يَكْتُمُوهَا. وَفِيهِ تَسْجِيلٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِوُجُوبِ أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَى النَّاسِ.

فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ [الْأَنْعَام: ١٩] . وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَعْرِفُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ رِسَالَةُ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: ٤٣] .

وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ تَشْبِيهُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَعْرِفَةِ. فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّحَقُّقُ وَالْجَزْمُ بِأَنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْمَعْرِفَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا هِيَ مَعْرِفَةَ أَبْنَائِهِمْ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَضِلُّ عَنْ مَعْرِفَةِ شَخْصِ ابْنِهِ وَذَاتِهِ إِذَا لَقِيَهُ وَأَنَّهُ هُوَ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَةِ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ عُرْفًا.

وَقِيلَ: إِنَّ ضَمِيرَ يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الْأَنْعَام: ١٩] وَهَذَا بِعِيدٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ ﷺ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا تَقَدَّمَ صَرِيحًا وَلَا تَأْوِيلًا. وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ الرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ عَلَى أَنَّ فِي عَوْدِهِ إِلَى الْقُرْآنِ غُنْيَةً عَنْ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ إِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ.

وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ تَصَلُّبِ الْمُشْرِكِينَ وَإِصْرَارِهِمْ، فَهُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا أُرِيدُوا بِنَظِيرِهِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ

بَعْدَ قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [النِّسَاء: ٨٧] . فَهَذَا مِنَ التَّكْرِيرِ لِلتَّسْجِيلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ، وَأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى وَلَوْ شَهِدَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ

أَهْلُ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: ١٠] . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَيِ الَّذِينَ كَتَمُوا الشَّهَادَةَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ خَسِرُوا بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ.

[٢١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢١]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: ٢٠] . فَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٤] . وَالْمُرَادُ بِافْتِرَائِهِمْ عَقِيدَةُ الشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَكَاذِيبَ، وَبِتَكْذِيبِهِمُ الْآيَاتِ تَكْذِيبُهُمُ الْقُرْآنَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. وَقَدْ جَعَلَ الْآتِيَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ أَظْلَمَ النَّاسِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا.

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِحِينَ، لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فَكَيْفَ بِمَنْ بَلَغَ ظُلْمُهُ النِّهَايَةَ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعِلَّةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَعْلُولِ.

وَمُوقِعُ (إِنَّ) فِي هَذَا الْمَقَامِ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ. وَمَوْقِعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ مَعَهَا أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِهَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامَ تَحْقِيقٍ لِتَقَعَ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ تَفْسِيرًا لَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مَوْقِعَ الرُّسُوخِ.

وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الْمُتَعَمَّدُ. وَقَوْلُهُ: كَذِبًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِافْتِرَاءِ.

وَالتَّأْكِيدُ يَحْصُلُ بِالْأَعَمِّ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٣]، وَقَدْ نَفَى فَلَاحَهُمْ فَعَمَّ كُلَّ فَلَاحٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْفَلَاحَ الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي نَظَرِ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَهُوَ سَبَبُ فلاح الْآخِرَة.

[٢٢- ٢٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٤]

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الْأَنْعَام: ٢١]، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: ٢١]، فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ وَمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ آثَارِ الظُّلْمِ وَآثَارِ عَدَمِ الْفَلَاحِ، وَلِأَنَّ مَضْمُونَ الْآيَةِ جَامِعٌ لِلتَّهْدِيدِ عَلَى الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ وَلِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَلِإِبْطَالِ الشِّرْكِ.

وَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَعَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفَاتُ وَهِيَ: نَقُولُ، أَوْ قَالُوا، أَوْ كَذَّبُوا، أَوْ ضَلَّ، وَكُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ مُتَعَلِّقًا بِهَا الظَّرْفُ بَلْ هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّقِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَهْوِيلُ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِرَابِ النَّاشِئَيْنِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ، وتصوير تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَهُولَةِ.

وَقُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْجَوَابُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْحِكَايَةِ. وَتَقْدِيرُهُ: كَانَ مَا كَانَ، وَأَنَّ حَذْفَهُ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِبْهَامُ الَّذِي هُوَ دَاخِلٌ فِي التَّخْوِيفِ. وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا مَا اعْتَادَهُ أَئِمَّةُ الْبَلَاغَةِ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفَاتِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَالْمُتَعَلِّقَاتِ. وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ التَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ بِالتَّفْصِيلِ أَشَدَّ مِنْهُ بِالْإِبْهَامِ إِذَا كَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ حَاصِلًا بِهِ تَخْوِيفٌ.

وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. وَلَا نُكْتَةَ فِيهِ. وَهُنَالِكَ تَقْدِيرَاتٌ أُخْرَى لِبَعْضِهِمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّجَ عَلَيْهَا.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي نَحْشُرُهُمْ يَعُودُ إِلَى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الْأَنْعَام: ٢١] أَوْ إِلَى الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: ٢١] إِذِ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ، فَيُؤْذِنُ بِمُشْرِكِينَ وَمُشْرَكٍ بِهِمْ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ جِيءَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعًا لِيَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الشُّمُولِ، فَإِنَّ

شُمُولَ الضَّمِيرِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِاسْمِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ جَمِيعًا قُصِدَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ. عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْنَامِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ [يُونُس: ٢٨] وَقَوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْفرْقَان: ١٧] وَانْتَصَبَ جَمِيعًا هُنَا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَشْرِ أَصْنَامِهِمْ مَعَهُمْ أَنْ تَظْهَرَ مَذَلَّةُ الْأَصْنَامِ وَعَدَمُ جَدْوَاهَا كَمَا يَحْشُرُ الْغَالِبُ أَسْرَى قَبِيلَةٍ وَمَعَهُمْ مَنْ كَانُوا يَنْتَصِرُونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا غَائِبِينَ لَظَنُّوا أنّهم لَو حصروا لَشَفَعُوا، أَوْ أَنَّهُمْ شُغِلُوا عَنْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَلَالَةِ وَالنَّعِيمِ، فَإِنَّ الْأَسْرَى كَانُوا قَدْ يأملون حُضُور شفائعهم أَوْ مَنْ يُفَادِيهِمْ. قَالَ النَّابِغَةُ:

يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ نَصْرٍ وَابْنِ سَيَّارِ وَعَطَفَ نَقُولُ بِ ثُمَّ لِأَنَّ الْقَوْلَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ حَشْرِهِمْ بِمُهْلَةٍ لِأَنَّ حِصَّةَ انْتِظَارِ الْمُجْرِمِ مَا سَيَحُلُّ بِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي إِهْمَالِ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ. وَتُفِيدُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ.

وَصَرَّحَ بِ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا لِأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ الضَّمِيرُ، أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ الْجَمْعِ.

وَأَصْلُ السُّؤَالِ بِ أَيْنَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يَحُلُّ فِيهِ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، نَحْوَ:

أَيْنَ بَيْتُكَ، وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. وَقَدْ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا مَكَانَ لَهُ، فَيُرَادُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ سَبَبِ عَدَمِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَصَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْنَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ. وَقد يسْأَل بأين عَنْ عَمَلِ أَحَدٍ كَانَ مَرْجُوًّا مِنْهُ، فَإِذَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ يسْأَل عَنهُ بأين، كَأَنَّ السَّائِلَ يَبْحَثُ عَنْ مَكَانِهِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الْمَجْهُولِ مَكَانَهُ فالسؤال بأين هُنَا عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ وَهُمْ حَاضِرُونَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الصافات: ٢٢] .

وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ عَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا لَا غَنَاءَ لَهَا قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ، أَيْ أَيْنَ عَمَلُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ غُيِّبَ عَنْهُمْ.

وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الشِّرْكَةَ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ إِلَّا فِي اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ شُرَكاؤُكُمُ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَحَدِ أَبْطَالِ الْعَرَبِ لعَمْرو بن معد يكرب لَمَّا حَدَّثَ عَمْرٌو فِي جَمْعٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَكَانَ هُوَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَقَالَ لَهُ: «مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكَ يَسْمَعُ»، أَيِ الْمَزْعُومُ أَنَّهُ قَتِيلُكَ.

وَوُصِفُوا بِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ تَزْعُمُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ أَمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فَحُذِفَ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ عَائِدِ الصِّلَةِ الْمَنْصُوبِ.

وَالزَّعْمُ: ظَنٌّ يَمِيلُ إِلَى الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ أَوْ لِغَرَابَتِهِ يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ، فَيُقَالُ: زَعَمَ، بِمَعْنَى أَنَّ عُهْدَةَ الْخَبَرِ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّاقِلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٠] . وَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الزَّعْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [٧] .

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ نَقُولُ وَ(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ.

وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا الِاخْتِبَارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنَ الذَّهَبَ إِذَا اخْتَبَرَ خُلُوصَهُ مِنَ الْغَلَثِ.

وَتُطْلَقُ عَلَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ مِنْ حُصُولِ خَوْفٍ لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ ثَبَاتِ مَنْ يَنَالُهُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَيْشِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْبُغْضِ وَالْحُبِّ وَقَدْ يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّفْكِيرِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] .

وفِتْنَتُهُمْ هُنَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ الْقَوْلُ إِمَّا أَنْ

يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا اسْتُثْنِيَ هُوَ مِنْهُ الْمَحْذُوفِ فِي تَفْرِيغِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَوْصُوفَةِ بِأَنَّهَا فِتْنَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْلٌ هُوَ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمُسْتَثْنَى دَالًّا عَلَى فِتْنَتِهِمْ، أَيْ عَلَى أَنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ حِينَ قَالُوهُ.

وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ مُتَضَمِّنٌ أَنَّهُمْ مَفْتُونُونَ حِينَئِذٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ تَحْتَمِلُ الْفِتْنَةُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ وَالْحَيْرَةِ فِي الْأَمْرِ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَافْتَتَنُوا فِي مَاذَا يُجِيبُونَ، فَكَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَعَدَلَ عَنِ الْمُقَدَّرِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ جَوَابَهُمْ ذَلِكَ هُوَ فِتْنَتُهُمْ لِأَنَّهُ أَثَرُهَا وَمَظْهَرُهَا.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْفِتْنَةِ جَوَابُهُمُ الْكَاذِبُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ صَاحِبِهِ، أَيْ تَجْرِيبِ حَالَةِ نَفْسِهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ. وَالْمُرَادُ بِهِ السُّؤَالُ لِأَنَّ السُّؤَالَ اخْتِبَارٌ عَمَّا عِنْدَ الْمَسْئُولِ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الصِّدْقِ وَضِدِّهِ، وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ جَوَابُ فِتْنَتِهِمْ، أَيْ سُؤَالُهُمْ عَنْ حَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمْ تَكُنْ- بِتَاءِ تَأْنِيثِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْغَائِبَةِ- بِاعْتِبَارِ أَنْ قالُوا هُوَ اسْمُ (كَانَ) . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِتْنَتُهُمْ- بِالنَّصْبِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (كَانَ)، فَتَكُونُ (كَانَ) نَاقِصَةً وَاسْمُهَا إِلَّا أَنْ قالُوا وَإِنَّمَا أُخِّرَ عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ.

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّهُ اسْمُ (كَانَ) وأَنْ قالُوا خَبَرُ (كَانَ)، فَتُجْعَلُ (كَانَ) تَامَّةً. وَالْمَعْنَى لَمْ تُوجَدْ فِتْنَةٌ لَهُمْ إِلَّا قَوْلُهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، أَيْ لَمْ تَقَعْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ نَفَوْا أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا.

وَوَجْهُ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِعَلَامَةٍ مُضَارِعَةٍ لِلْمُؤَنَّثِ عَلَى قِرَاءَةِ نَصْبِ فِتْنَتُهُمْ هُوَ أَنَّ

فَاعِلَهُ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْفِتْنَةِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَذَلِكَ نَظِيرُ التَّأْنِيثِ فِي اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠]، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ لَمَّا كَانَتْ فِي مَعْنَى الْحَسَنَاتِ أُنِّثَ اسْمُ عَدَدِهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَبِّنا- بِالْجَرِّ- عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِالنَّصْبِ- عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِهِ.

وَذِكْرُهُمُ الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنَصُّلِ مِنَ الشِّرْكِ، أَيْ لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُهُ. وَقَدْ كَذَبُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْكَذِبِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُحْشَرُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْرَةَ وَالدَّهْشَ الَّذِي أَصَابَهُمْ خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَا مَانِعَ مِنْ صُدُورِ الْكَذِبِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِيقَةِ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَقَائِقَ تَظْهَرُ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا تَظْهَرُ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا عَنْ أُمُورِهِمْ فِي الدُّنْيَا.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، فَذَكَرَ مِنْهَا قَوْلَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النِّسَاء: ٤٢] وَقَوْلَهُ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا

كُنَّا مُشْرِكِينَ

. فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا.

وَقَوْلُهُ: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جَعَلَ حَالَهُمُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ بِمَنْزِلَة الْمشَاهد، لصدور عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ سَامِعَهُ أَوْ أَمَرَ الرَّسُولَ ﷺ بِمَا يَدُلُّ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ حَاضِرٌ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَيْفَ لِمُجَرَّدِ الْحَالِ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَالَةِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى أَصْحَابِهَا حِينَ تَكَيُّفِهِمْ بِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ نَظَائِرُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٠] . وَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّظَرَ هُنَا نَظَرًا

قَلْبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَمَا يَجِيءُ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ تَأَمَّلْ جَوَابَ قَوْلِ الْقَائِلِ: «كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» تَجِدُهُ جَوَابًا وَاضِحًا بَيِّنًا.

وَلِأَجْلِ هَذَا التَّحَقُّقِ مِنْ خَبَرِ حَشْرِهِمْ عَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمُ الَّذِي يَحْصُلُ يَوْمَ الْحَشْرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ.

وَفِعْلُ (كَذَبَ) يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) إِلَى مَنْ يُخْبِرُ عَنْهُ الْكَاذِبُ كَذِبًا مِثْلَ تَعْدِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،

وَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُعْتَمِدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ

، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ الْكَاذِبُ خَبَرًا كَذِبًا فَبِنَفْسِهِ، يُقَالُ: كَذَبَكَ، إِذَا أَخْبَرَكَ بِكَذِبٍ.

وَضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَة: ١٠]، أَيْ غُيِّبْنَا فِيهَا بِالدَّفْنِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ ويَفْتَرُونَ صِلَتُهَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ وَمَا صَدَّقَ ذَلِكَ هُوَ شُرَكَاؤُهُمْ. وَالْمُرَادُ: غَيْبَةُ شَفَاعَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُولُ مِنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَزَّلَ حُضُورَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَيْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: أُخِذْتَ وَغَابَ نَصِيرُكَ، وَهُوَ حَاضر.

[٢٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢٥]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)

عَطَفَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً عَلَى الْجُمَلِ الِابْتِدَائِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا

أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

[الْأَنْعَام: ٢٠] .

وَالضَّمِير الْمَجْرُور بِمن التَّبْعِيضِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ وَعَنْهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]، أَيْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَقَدِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أَحْوَالِ خَاصَّةِ عقلائهم الَّذين يربأون بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَابِلُوا دَعْوَةَ

الرَّسُولِ ﷺ بِمِثْلِ مَا يُقَابِلُهُ بِهِ سُفَهَاؤُهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالْإِنْصَافِ وَيُخَيِّلُونَ لِلدَّهْمَاءِ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ ثُمَّ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ. رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمَّى مِنْ هَؤُلَاءِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ وَأُبَيًّا ابْنَيْ خَلَفٍ، اجْتَمَعُوا إِلَى النَّبِيءِ ﷺ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَالُوا لِلنَّضْرِ: مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: وَالَّذِي جَعَلَهَا بَيْتَهُ (يَعْنِي الْكَعْبَةَ) مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَرَى تَحَرُّكَ شَفَتَيْهِ فَمَا يَقُولُ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. يَعْنِي أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مُكَابَرَةً مِنْهُ لِلْحَقِّ وَحَسَدًا لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام. وَكَانَ النَّضْرُ كَثِيرَ الْحَدِيثِ عَن الْقُرُون الأولى. وَكَانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا عَنْ أَقَاصِيصِ الْعَجَمِ، مِثْلَ قِصَّةِ (رُسْتُمَ) وَ(إِسْفِنْدِيَارَ) فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ أَسْفَارٍ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ، وَكَانَ النَّضْرُ شَدِيدَ الْبَغْضَاءِ لِلرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ الَّذِي أَهْدَرَ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام دَمَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَأَرَاهُ حَقًّا. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: كَلَّا. فَوَصَفَ اللَّهُ حَالَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِكَلِمَتِهِ هَذِهِ، فَأَسْلَمَ هُوَ دُونَهُمْ لَيْلَةَ فَتْحِ مَكَّةَ وَثَبَتَتْ لَهُ فَضِيلَةُ الصُّحْبَةِ وَصِهْرُ النَّبِيءِ ﷺ وَلِزَوْجِهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.

والأكنة جَمْعُ كِنَانٍ- بِكَسْرِ الْكَافِ- وَ(أَفْعِلَةٌ) يَتَعَيَّنُ فِي (فِعَالٍ) الْمَكْسُورِ الْفَاءِ إِذَا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِثْلَيْنِ. وَالْكِنَانُ: الْغِطَاءُ، لِأَنَّهُ يَكُنُّ الشَّيْءَ، أَيْ يَسْتُرُهُ. وَهِيَ هُنَا تَخْيِيلٌ لِأَنَّهُ شُبِّهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي عَدَمِ خُلُوصِ الْحَقِّ إِلَيْهَا بِأَشْيَاءَ مَحْجُوبَةٍ عَنْ شَيْءٍ. وَأُثْبِتَتْ لَهَا الْأَكِنَّةُ تَخْيِيلًا، وَلَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْكِنَانَ.

وَأُسْنِدَ جَعْلُ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ وَالتَّعَقُّلِ الْمُنْحَرِفُ، فَهُمْ لَهُمْ عُقُولٌ وَإِدْرَاكٌ لِأَنَّهُمْ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَكِنَّ أَهْوَاءَهُمْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الْمَنْعَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَلِذَلِكَ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ

لَا

يُؤْمِنُونَ إِذْ كَانُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، عَلَى أَنَّ خِطَابَ التَّكْلِيفِ عَامٌّ لَا تَعْيِينَ فِيهِ لِأُنَاسٍ وَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ لِأُنَاسٍ. فَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَلَيْسَ لِلتَّحْوِيلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَدْ مَاتَ الْمُسَمَّوْنَ كُلُّهُمْ عَلَى الشِّرْكِ عَدَا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّهُ شَهِدَ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَا سَمِعَهُ حَقٌّ، فَدَلَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى سَلَامَةِ قَلْبِهِ مِنَ الْكِنَانِ.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْ يَفْقَهُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِ أَكِنَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ، أَيْ أَكِنَّةً تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ.

وَالْوَقْرُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- الصَّمَمُ الشَّدِيدُ وَفِعْلُهُ كَوَعَدَ وَوَجَدَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا، يُقَالُ:

وَقَرَتْ أُذُنُهُ، وَمُتَعَدِّيًا يُقَالُ: وَقَرَ اللَّهُ أُذُنَهُ فَوَقَرَتْ. وَالْوَقْرُ مَصْدَرٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لِ (وَقَرَتْ) أُذُنُهُ، لِأَنَّ قِيَاسَ مَصْدَرِهِ تَحْرِيكُ الْقَافِ، وَهُوَ قِيَاسِيٌّ لِ (وَقَرَ) الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمَسْمُوعَاتِ. جَعَلَ عَدَمَ الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الصَّمَمِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلْوَقْرِ مُتَعَلِّقٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَمْنُوعِ بِوَقْرِ آذَانِهِمْ لِظُهُورِ أَنَّهُ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، لِأَنَّ الْوَقْرَ مُؤْذِنٌ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ السَّمْعُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَسْمُوعُ.

وَقَوْلُهُ: عَلى قُلُوبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فِي آذانِهِمْ يَتَعَلَّقَانِ بِ جَعَلْنا. وَقُدِّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَفْعُولِ جَعَلْنا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ.

فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ تَكُونُ هَاتِهِ الْآيَةُ حُجَّةً لِلَّذِينَ قَالُوا مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ بِالصِّرْفَةِ، أَيْ أَعْجَزَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنْ صَرَفَهُمْ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْمُعَارَضَةِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ الصِّرْفَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَكِنَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

قُلْتُ: لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَصْحَابُ تِلْكَ الْمَقَالَةِ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَكِنَّةَ تَخْيِيلٌ وَأَنَّ الْوَقْرَ اسْتِعَارَةٌ وَأَنَّ قَوْلَ النَّضْرِ (مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ)، بُهْتَانٌ وَمُكَابَرَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها.

وَكَلِمَةُ كُلَّ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ كَانَ التَّعَذُّرُ عَقْلًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النِّسَاء: ١٢٩]، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهَا

لِأَنَّهَا أَفْرَادٌ مُقَدَّرَةٌ تَظْهَرُ عِنْدَ تَكْوِينِهَا إِذْ هِيَ مَنْ جِنْسٍ عَامٍّ أَمْ كَانَ الْتَعَذُّرُ عَادَةً كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ

فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اجْتِمَاعَ جَمِيعِ بَقَرِ الْوَحْشِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَيَتَعَذَّرُ أَنْ يَرَى الْقَوْمُ كُلَّ أَفْرَادِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آيَةً، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ مَعْنَى الْكَثْرَةِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥] .

وحَتَّى حَرْفٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْغَايَةِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا. وَأَصْلُ حَتَّى أَنْ يَكُونَ حَرْفَ جَرٍّ مِثْلَ (إِلَى) فَيَقَعَ بَعْدَهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ مَدْلُولُهُ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَ (حَتَّى) .

وَقَدْ يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقَعُ بَعْدَ (حَتَّى) جُمْلَةٌ فَتَكُونُ (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ تُؤْذِنُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مَضْمُونُهُ غَايَةٌ لِكَلَامٍ قَبْلَ (حَتَّى) . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْكَافِيَةِ»: إِنَّهَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقت تجيئهم وَلَا أَنَّ جَعْلَ الْأَكِنَّةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَالْوَقْرِ فِي آذَانِهِمْ يَمْتَدُّ إِلَى وَقْتِ مَجِيئِهِمْ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْ يَتَسَبَّبَ عَلَى اسْتِمَاعِهِمْ بِدُونِ فَهْمٍ. وَجَعَلَ الْوَقْرَ عَلَى آذَانِهِمْ وَالْأَكِنَّةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءُوكَ جَادَلُوكَ.

وَسُمِّيَتْ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةً لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.

وَيَأْتِي قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣١]، وَزِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا إِلَخْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧] .

وإِذا شَرْطِيَّة ظرفية. وجاؤُكَ شَرْطُهَا، وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهَا. وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ من ضمير جاؤُكَ أَيْ جَاءُوكَ مُجَادِلِينَ، أَيْ مُقَدِّرِينَ الْمُجَادَلَةَ مَعَكَ يُظْهِرُونَ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْفَاءٌ لِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ.

وَجُمْلَةُ يَقُولُ جَوَابُ إِذا، وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا

لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، وَأَنَّهُمْ مَا جَاءُوا طَالِبِينَ الْحَقَّ كَمَا يَدَّعُونَ وَلَكِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَخَرَجُوا بِهِ فَيَقُولُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَهُمْ قَدْ عَدَلُوا عَنِ الْجَدَلِ إِلَى الْمُبَاهَتَةِ وَالْمُكَابَرَةِ.

وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ- وَهِيَ الْقِصَّةُ وَالْخَبَرُ عَنِ الْمَاضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأُسْطُورَةَ لَفْظٌ مُعَرَّبٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ: أَصْلُهُ إِسْطُورْيَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- وَهُوَ الْقِصَّةُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ اخْتِلَافُ الْعَرَبِ فِيهِ، فَقَالُوا: أُسْطُورَةٌ وَأُسْطِيرَةٌ وَأُسْطُورٌ وَأُسْطِيرٌ،

كُلُّهَا- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- وَإِسْطَارَةٌ وَإِسْطَارٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-. وَالِاخْتِلَافُ فِي حَرَكَاتِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَمَارَاتِ التَّعْرِيبِ. وَمِنْ أَقْوَالِهِمْ: «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ» . وَأَحْسَنُ الْأَلْفَاظِ لَهَا أُسْطُورَةٌ لِأَنَّهَا تُصَادِفُ صِيغَةً تُفِيدُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْقِصَّةَ الْمَسْطُورَةَ. وَتُفِيدُ الشُّهْرَةَ فِي مَدْلُولِ مَادَّتِهَا مِثْلَ الْأُعْجُوبَةِ وَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأُكْرُومَةِ. وَقِيلَ: الْأَسَاطِيرُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلَ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ وَشَمَاطِيطَ. وَكَانَ الْعَرَبُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا مِنْ صِدْقٍ وَكَذِبٍ. وَقَدْ كَانُوا لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ التَّوَارِيخِ وَالْقِصَصِ وَالْخُرَافَاتِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَرْمِيٌّ بِالْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ. فَقَوْلُهُمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا نِسْبَةَ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ إِلَى الْكَذِبِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي الأساطير. ويشتمل أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَجْمُوعَ قِصَصٍ وَأَسَاطِيرَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ أَوْ لِتَجَاهُلِهِمْ يُعْرِضُونَ عَنِ الِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْقِصَصِ وَيَأْخُذُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَسَامَرُ النَّاسُ بِهَا لِتَقْصِيرِ الْوَقْتِ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِك النَّضر لَا الْحَارِثِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُمَثِّلُ الْقُرْآنَ بِأَخْبَارِ (رُسْتُمَ) و(إسفنديار) .

[٢٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢٦]

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَالضَّمِيرَانِ الْمَجْرُورَانِ عَائِدَانِ إِلَى الْقُرْآنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] .

وَمَعْنَى النَّهْيُ عَنْهُ النَّهْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ. وَالْمُرَادُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعَيِّنُهَا

الْمَقَامُ. وَكَذَلِكَ النَّأْيُ عَنْهُ مَعْنَاهُ النَّأْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، أَيْ هُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:

لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ ... وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ أَصْفَارِ

يَعْنِي نَهَيْتُهُمْ عَنِ الرَّعْيِ فِي ذِي أُقُرٍ، وَهُوَ حِمَى الْمَلِكِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ.

وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَنْهَوْنَ- ويَنْأَوْنَ الْجِنَاسُ الْقَرِيبُ مِنَ التَّمَامِ.

وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ يُفِيدُ قَلْبَ اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِالنَّهْيِ وَالنَّأْيِ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ النَّبِيءَ ﷺ لِئَلَّا يَتَّبِعُوهُ وَلَا يَتَّبِعَهُ النَّاسُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِدَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَبِتَضْلِيلِ النَّاسِ، فَيَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ النَّاسِ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام وَأَنَّ مَا أَرَادُوا بِهِ نِكَايَتَهُ

إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ.

وَأَصْلُ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَضَرَّةِ الشَّدِيدَةِ لِأَنَّ الشَّائِعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ الضُّرِّ. فَالْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ هُنَا مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَذَلَّةِ عِنْدَ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ.

وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ. وَهُوَ قَاصِرٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ إِلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ، وَمَا وَرَدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ فِي الضَّرُورَةِ.

وَعَقَّبَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ الْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ قَادَةً لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ لِلْعَطْفِ لَا لِلْحَالِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ كَوْنَ مَا بَعْدَهَا مَقْصُودًا بِهِ الْإِخْبَارُ الْمُسْتَقِلُّ لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُمْ أعظم عقلائهم.

[٢٧، ٢٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]

وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ

(٢٨)

الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الْوَاقِعِ بَعْدَهُ تَسْلِيَةً لَهُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الْأَنْعَام: ٢٦] فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ فَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْأَنْعَام: ٢٦] ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَشْتَرِكُ مَعَ الرَّسُولِ فِي هَذَا الْخِطَابِ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْخَبَرَ.

ولَوْ شَرْطِيَّةٌ، أَيْ لَوْ تَرَى الْآنَ، وإِذْ ظَرْفِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ وُقِفُوا، أَيْ لَوْ تَرَاهُمْ، ووُقِفُوا مَاضٍ لَفْظًا وَالْمَعْنَى بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، أَيْ إِذْ يُوقَفُونَ. وَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي خَبَرِهِ.

وَمَعْنَى: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أُبْلِغُوا إِلَيْهَا بَعْدَ سَيْرٍ إِلَيْهَا، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِ عَلَى.

وَالِاسْتِعْلَاءُ الْمُسْتَفَادُ بِ عَلَى مَجَازِيٌّ مَعْنَاهُ قُوَّةُ الِاتِّصَالِ بِالْمَكَانِ، فَلَا تَدُلُّ (عَلَى) عَلَى أَنَّ وُقُوفَهُمْ عَلَى النَّارِ كَانَ مِنْ أَعْلَى النَّارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٣٠]، وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: وَقَفْتُ رَاحِلَتِي عَلَى زَيْدٍ، أَيْ بَلَغْتُ إِلَيْهِ

فَحَبَسْتُ نَاقَتِي عَنِ السَّيْرِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ


فَحَذَفُوا مَفْعُولَ (وَقَفْتُ) لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَيُقَالُ: وَقَفَهُ فَوَقَفَ، وَلَا يُقَالُ: أَوْقَفَهُ بِالْهَمْزَةِ.

وَعَطَفَ عَلَيْهِ فَقالُوا بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ، لِأَنَّ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْهَوْلِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ جَزَاءُ تَكْذِيبِهِمْ بِإِلْهَامٍ أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَوْ بِإِخْبَارِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَعَجِلُوا فَتَمَنَّوْا أَنْ يَرْجِعُوا.

وَحَرْفُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحَسُّرِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَقْتَضِي بُعْدَ الْمُنَادَى، فَاسْتُعْمِلَ فِي التَّحَسُّرِ لِأَنَّ الْمُتَمَنَّى صَارَ بَعِيدًا عَنْهُمْ، أَيْ غَيْرَ مُفِيدٍ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] .

وَمَعْنَى نُرَدُّ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَطْفًا عَلَى نُرَدُّ، فَيَكُونُ

مِنْ جُمْلَةِ مَا تَمَنَّوْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْجَزَاءَ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجَزَاءِ مَعَ الْوَاوِ غَيْرُ مَشْهُورٍ، بِخِلَافِهِ مَعَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي السَّبَبِيَّةِ. وَالرَّدُّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا تَمَنَّوْهُ لِمَا يَقَعُ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ التَّكْذِيبِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الذِّكْرِ تَرْكَ التَّكْذِيبِ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ الْمُتَمَنَّى عَلَى اعْتِبَارِ الْوَاوِ لِلْمَعِيَّةِ وَاقِعَةً مَوْقِعَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي.

وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَلا نُكَذِّبَ- ونَكُونَ- بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ-، عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلا نُكَذِّبَ- بِالرَّفْعِ- كَالْجُمْهُورِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّكْذِيبِ حَاصِلٌ فِي حِينِ كَلَامِهِمْ، فَلَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ حَتَّى يَكُونَ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) الْمُفِيدَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَرَأَ وَنَكُونَ- بِالنَّصْبِ- عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، أَيْ نَكُونَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ.

وَقَوْلُهُ: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى بَلْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي الْخَلَاصِ.

وَبَدَا الشَّيْءُ ظَهَرَ. وَيُقَالُ: بَدَا لَهُ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ عِيَانًا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي زَوَالِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:

بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مضى ... وَلَا سَابق شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا

وَلَمَّا قُوبِلَ بَدا لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يُخْفُونَ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَدَاءَ هُوَ ظُهُورُ أَمْرٍ فِي أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يُخْفُونَهُ فِي الدُّنْيَا، أَيْ خَطَرَ لَهُمْ حِينَئِذٍ ذَلِكَ الْخَاطِرُ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ، أَيِ الَّذِي كَانَ يَبْدُو لَهُمْ، أَيْ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ وُقُوعُهُ فَلَا يُعْلِنُونَ بِهِ فَبَدَا لَهُمُ الْآنَ فَأَعْلَنُوا بِهِ وَصَرَّحُوا مُعْتَرِفِينَ بِهِ. فَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ، وَتَقْدِيره: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ يَبْدُو لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَظْهَرُوهُ الْآنَ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْطُرُ لَهُمُ الْإِيمَانُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ دَلَائِلِهِ أَوْ مِنْ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَصُدُّهُمْ عَنْهُ الْعِنَادُ وَالْحِرْصُ عَلَى اسْتِبْقَاءِ السِّيَادَةِ وَالْأَنَفَةِ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِفَضْلِ الرَّسُولِ وَبِسَبْقِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَبْلَهُمْ، وَفِيهِمْ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَعَبِيدُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٢]، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢] . وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُغْنِي عَنِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ وَهِيَ لَا تُلَائِمُ نَظْمَ الْآيَةِ، فَبَعْضُهَا يُسَاعِدُهُ صَدْرُهَا وَبَعْضُهَا يُسَاعِدُهُ عَجُزُهَا وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُسَاعِدُهُ جَمِيعُهَا.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، أَيْ لَوْ أُجِيبَتْ أُمْنِيَّتُهُمْ وَرُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نُفُوسَهُمُ الَّتِي كَذَّبَتْ فِيمَا مَضَى تَكْذِيبَ مُكَابَرَةٍ بَعْدَ إِتْيَانِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، هِيَ النُّفُوسُ الَّتِي أُرْجِعَتْ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ فَالْعَقْلُ الْعَقْلُ وَالتَّفْكِيرُ التَّفْكِيرُ، وَإِنَّمَا تَمَنَّوْا مَا تَمَنَّوْا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَتَوَهَّمُوا التَّخَلُّصَ مِنْهُ بِهَذَا التَّمَنِّي فَلَوْ تَحَقَّقَ تَمَنِّيهِمْ وَرُدُّوا وَاسْتَرَاحُوا مِنْ ذَلِكَ الْهَوْلِ لَغَلَبَتْ أَهْوَاؤُهُمْ رُشْدَهُمْ فَنَسُوا مَا حَلَّ بِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى مَا أَلِفُوا مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمُكَابَرَةِ.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَاطِرَ النَّاشِئَةَ عَنْ عَوَامِلِ الْحِسِّ دُونَ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ لَا قَرَارَ لَهَا فِي النَّفْسِ وَلَا تَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَاهَا إِلَّا رَيْثَمَا يَدُومُ ذَلِكَ الْإِحْسَاسُ فَإِذَا زَالَ زَالَ أَثَرُهُ، فَالِانْفِعَالُ بِهِ يُشْبِهُ انْفِعَالَ الْعَجْمَاوَاتِ مِنَ الزَّجْرِ وَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِمَا. وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ حَتَّى يُعَاوِدَهُ مِثْلُهُ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ. جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ سَجِيَّةٌ لَهُمْ قَدْ تَطَبَّعُوا عَلَيْهَا مِنَ الدُّنْيَا فَلَا عَجَبَ أَنْ يَتَمَنَّوُا الرُّجُوعَ لِيُؤْمِنُوا فَلَوْ رَجَعُوا لَعَادُوا لَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَذِبَ سَجِيَّتُهُمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ تَمَنِّيهِمْ وَعْدًا،

فَلِذَلِكَ صَحَّ إِدْخَالُهُ فِي حُكْمِ كَذِبِهِمْ دُخُولَ الْخَاصِّ فِي الْعَامِّ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يُؤْذِنُ بِشُمُولِ مَا ذُيِّلَ بِهِ وَزِيَادَةٌ. فَلَيْسَ وَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ بِعَائِدٍ إِلَى التَّمَنِّي بَلْ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْوَعْدِ بِالْإِيمَانِ وَعَدَمِ التَّكْذِيبِ بآيَات الله.

[٢٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٢٩]

وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَام: ٢٨] فَيَكُونَ جَوَابَ لَوْ، أَيْ

لَوْ رُدُّوا لَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَيْضًا، وَلَكَذَّبُوا بِالْبَعْثِ كَمَا كَانُوا مُدَّةَ الْحَيَاةِ الْأُولَى.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥]، وَيَكُونَ مَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ اعْتِرَاضًا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْذِيبِ لِلْقُرْآنِ.

وَقَوْلُهُ إِنْ هِيَ (إِنْ) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، وَالضَّمِيرُ بَعْدَهَا مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. قَصَدَ مِنْ إِبْهَامِهِ الْإِيجَازَ اعْتِمَادًا عَلَى مُفَسِّرِهِ، وَالضَّمِيرُ لَمَّا كَانَ مُفَسَّرًا بِنَكِرَةٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، وَلَيْسَ هُوَ ضَمِيرَ قِصَّةٍ وَشَأْنٍ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى إِنِ الْحَيَاةُ لَنَا إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، أَيِ انْحَصَرَ جِنْسُ حَيَاتِنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا فَلَا حَيَاةَ لَنَا غَيْرُهَا فَبَطَلَتْ حَيَاةُ بَعْدِ الْمَوْتِ، فَالِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَ إِلَّا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ.

وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ نَفْيٌ لِلْبَعْثِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَأْكِيدَ نَفْيِ الْحَيَاةِ غَيْرِ حَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْبَعْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ حَيَاةٍ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تفصل فَتكون موكّدة لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ قَصْدَهُمْ إِبْطَالُ قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ إِنَّهُمْ يَحْيَوْنَ حَيَاةً ثَانِيَةً، وَقَوْلِهِ تَارَةً إِنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَصَدُوا إِبْطَالَ كلّ باستقلاله.

[٣٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٠]

وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)

لَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ أَعْقَبَهُ بِوَصْفِ حَالِهِمْ حِينَ يُحْشَرُونَ إِلَى الله، وَهن حَالُ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ.

وَالْقَوْلُ فِي الْخِطَابِ وَفِي مَعْنَى وُقِفُوا وَفِي جَوَابِ لَوْ تَقَدَّمَ فِي نَظَرِيَّتِهَا آنِفًا.

وَتَعْلِيقُ عَلى رَبِّهِمْ بِ وُقِفُوا تَمْثِيلٌ لِحُضُورِهِمُ الْمَحْشَرَ عِنْدَ الْبَعْثِ. شُبِّهَتْ حَالُهُمْ فِي الْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِحَالِ عَبْدٍ جَنَى فَقُبِضَ عَلَيْهِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ. وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مَزِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ رَبِّهِمْ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ.

وَجُمْلَةُ: قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا

قَدْ آذَنَ بِمَشْهَدٍ عَظِيمٍ مَهُولٍ فَكَانَ مِنْ حَقِّ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: مَاذَا لَقُوا مِنْ رَبِّهِمْ، فَيُجَابُ:

قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ الْآيَةَ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي عَايَنُوهُ وَشَاهَدُوهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ دَخَلَ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ الْمُقَرَّرِ بِهِ لِاخْتِبَارِ مِقْدَارِ إِقْرَارِ الْمَسْئُولِ، فَلِذَلِكَ يَسْأَلُ عَنْ نَفْيِ مَا هُوَ وَاقِعٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَطْمَعٌ فِي الْإِنْكَارِ تَذَرَّعَ إِلَيْهِ بِالنَّفْيِ الْوَاقِعِ فِي سُؤَالِ الْمُقَرَّرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَهُ بَاطِلًا. وَلِذَلِكَ أَجَابُوا بِالْحَرْفِ الْمَوْضُوعِ لِإِبْطَالِ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ بَلى فَهُوَ يُبْطِلُ النَّفْيَ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِوُقُوعِ الْمُنَى، أَيْ بَلَى هُوَ حَقٌّ، وَأَكَّدُوا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقًا لِاعْتِرَافِهِمْ لِلْمُعْتَرِفِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ نُقِرُّ وَلَا نَشُكُّ فِيهِ فَلِذَلِكَ نُقْسِمُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ لَازِمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ.

وَفَصَلَ قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَلَامِهِمْ، أَوَ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِذْ كَانَ هَذَا الْحَقَّ فَذُوقُوا الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِكُمْ، أَيْ بِالْبَعْثِ.

وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، أَيْ بِهَذَا. وَذَوْقُ الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ لِإِحْسَاسِهِ، لِأَنَّ الذَّوْقَ أَقْوَى الْحَوَاسِّ الْمُبَاشِرَةِ لِلْجِسْمِ، فَشَبَّهَ بِهِ إحساس الْجلد.

[٣١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣١]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)

اسْتِئْنَافٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ حِينَ يَقَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ عَلَى مَا اسْتَدَامُوهُ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى اسْتَدَامَتِهِ اعْتِقَادُهُمْ نَفْيَ الْبَعْثِ فَذَاقُوا الْعَذَابَ لِذَلِكَ، فَتِلْكَ حَالَةٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: قَدْ خَسِرُوا وَخَابُوا.

وَالْخُسْرَانُ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالْخَسَارَةُ هُنَا حِرْمَانُ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ لَا الدُّنْيَا.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَام: ٢٧] وَمَا بَعْدَهُ، بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ خَسِرُوا، لَكِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنْ تَفْصِيلٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً إِلَخْ.

وَلِقَاءُ اللَّهِ هُوَ ظُهُورُ آثَارِ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ وَلَا إِمْهَالٍ وَلَا وِقَايَةٍ بِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا كَانَ الْعَالَمُ الْأُخْرَوِيُّ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبَعْثِ عَالَمَ ظُهُورِ الْحَقَائِقِ بِآثَارِهَا دُونَ مَوَانِعَ، وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ هِيَ مُرَادُ اللَّهِ الْأَعْلَى الَّذِي جَعَلَهُ عَالَمَ كَمَالِ الْحَقَائِقِ، جَعَلَ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ مُمَاثِلًا لِلِقَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ بَعْدَ الْغَيْبَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ عَنْهُ زَمَانًا طَوِيلًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْبَعْثُ مُلَاقَاةَ اللَّهِ، وَلِقَاءَ اللَّهِ وَمَصِيرًا إِلَى اللَّهِ، وَمَجِيئًا إِلَيْهِ، فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا هُمْ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ لَوْ شَاءَ لَقَبَضَهُمْ إِلَيْهِ وَلَعَجَّلَ إِلَيْهِمْ جَزَاءَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يُونُس: ١١] . وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَمْهَلَهُمْ وَاسْتَدْرَجَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ وَوَعَدَ وَتَوَعَّدَ كَانَ حَالُ النَّاسِ فِيهِ كَحَالِ الْعَبِيدِ يَأْتِيهِمُ الْأَمْرُ مِنْ مَوْلَاهُمُ الْغَائِبِ عَنْهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَثِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْصِي، وَهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حِينَئِذٍ جَزَاءً عَنْ طَاعَةٍ وَلَا عِقَابًا عَنْ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ، فَإِذَا طُوِيَ هَذَا الْعَالَمُ وَجَاءَتِ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ صَارَ النَّاسُ فِي نِظَامٍ آخَرَ، وَهُوَ نِظَامُ ظُهُورِ الْآثَارِ دُونَ رَيْثٍ، قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِرًا [الْكَهْف: ٤٩]، فَكَانُوا كَعَبِيدٍ لَقُوا رَبَّهُمْ بَعْدَ أَنْ غَابُوا وَأُمْهِلُوا. فَاللِّقَاءُ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَتْ حَالَةَ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَصِيرِ إِلَى تَنْفِيذِ وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ بِحَالَةِ الْعَبِيدِ عِنْدَ حُضُورِ سَيِّدِهِمْ بَعْدَ غَيْبَةٍ لِيَجْزِيَهُمْ على مَا فعلوا فِي مُدَّةِ الْمَغِيبِ.

وَشَاعَ هَذَا التَّمْثِيلُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ، كَمَا

قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ»

، وَفِي الْقُرْآنِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غَافِر: ١٥] .

وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً (حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْغَايَةَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، أَيْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ

مَجِيءَ السَّاعَةِ غَايَةً لِلْخُسْرَانِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْسَرْ شَيْئًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ عَلَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٥] . وَسَيَجِيءُ لِمَعْنَى (حَتَّى) زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٧] .

وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.

وَالْبَغْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بَغَتَهُ الْأَمْرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَلَا

إِعْلَامٍ وَلَا ظُهُورِ شَبَحٍ أَوْ نَحْوِهِ. فَفِي الْبَغْتِ مَعْنَى الْمَجِيءِ عَنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ. وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ حَالًا إِذَا كَانَ ظَاهِرًا تَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ.

وَقَوْلُهُ: قالُوا جَوَابُ (إِذَا) . وَيَا حَسْرَتَنا نِدَاءٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعَجُّبُ وَالتَّنَدُّمُ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ نِدَاءٌ لِلْحَسْرَةِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ شَخْصٍ يَسْمَعُ وَيُنَادَى لِيَحْضُرَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا حَسْرَةً احْضُرِي فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ كَذَا، وَيَا أَسَفِي أَوْ يَا أَسَفَا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَأَضَافُوا الْحَسْرَةَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَكُونَ تَحَسُّرُهُمْ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمُ الْمُتَحَسِّرُونَ وَالْمُتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ: يَا حَسْرَةً، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ تَحَسَّرَ لِأَجْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ يَتَحَسَّرُ لِحَالِ غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ تَجِيءُ مَعَهُ (عَلَى) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْ أَجْلِهِ دَاخِلَةً عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ التَّحَسُّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فَأَمَّا مَعَ (يَا حَسْرَتِي، أَوْ يَا حَسْرَتَا) فَإِنَّمَا تَجِيءُ (عَلَى) دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي التَّحَسُّرِ كَمَا هُنَا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: يَا وَيْلِي وَيَا وَيْلَتِي، قَالَ تَعَالَى:

وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا [الْكَهْف: ٤٩]، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّ الْوَيْلَ لِغَيْرِهِ قَالَ: وَيْلَكَ، قَالَ تَعَالَى: وَيْلَكَ آمِنْ [الْأَحْقَاف: ١٧] وَيَقُولُونَ: وَيْلٌ لَكَ.

وَالْحَسْرَةُ: النَّدَمُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ التَّلَهُّفُ، وَهِيَ فَعْلَةٌ مِنْ حَسِرَ يَحْسَرُ حَسَرًا، مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَيُقَالُ: تَحَسَّرَ تَحَسُّرًا. وَالْعَرَبُ يُعَامِلُونَ اسْمَ الْمَرَّةِ مُعَامَلَةَ مُطْلَقِ الْمَصْدَرِ غَيْرَ مُلَاحَظِينَ فِيهِ مَعْنَى الْمَرَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُلَاحِظُونَ الْمَصْدَرَ فِي ضِمْنِ فَرْدٍ، كَمَدْلُولِ لَامِ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي مَقَامِ النِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ اسْمٌ لِلْحَاصِلِ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ اسْمِ الْمَرَّةِ فَهُوَ اسْمٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَصْدَرِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمَاهِيَّةِ.

وفَرَّطْنا أَضَعْنَا. يُقَالُ: فَرَّطَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَهَاوَنَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَحْفَظْهُ، أَوْ فِي اكْتِسَابِهِ حَتَّى فَاتَهُ وَأَفْلَتَ مِنْهُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٣٨] . وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (فِي) فَيُقَالُ فَرَّطَ فِي مَالِهِ، إِذَا أَضَاعَهُ.

وَمَا مَوْصُولَة مَا صدقهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. وَمَفْعُولُ فَرَّطْنا مَحْذُوفٌ يَعُودُ إِلَى مَا. تَقْدِيرُهُ: مَا فَرَّطْنَاهُ وَهُمْ عَامٌّ مِثْلَ مُعَادِهِ، أَيْ نَدِمْنَا عَلَى إِضَاعَةِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْفَعَنَا فَفَرَطْنَاهُ، وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ. وَ«فِي» تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مَا فَوَّتْنَاهُ مِنَ

الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لِأَجْلِ نَفْعِ هَذِهِ السَّاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي لِلتَّعْدِيَةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى الضَّمِيرِ، أَيْ فِي خَيْرَاتِهَا. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ، يَعْنُونَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ نَجَاةِ وَنَعِيمِ أَهْلِ الْفَلَّاحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونَ «فِي» لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ قالُوا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ فَهُمْ بَيْنَ تَلَهُّفٍ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْإِيمَانِ وَبَيْنَ مُقَاسَاةِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَوْزَارِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنْ خَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَسْبُ بَلْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُتْعَبِينَ مُثْقَلِينَ بِالْعَذَابِ.

وَالْأَوْزَارُ جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-، وَهُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَفِعْلُهُ وَزَرَ يَزِرُ إِذَا حَمَلَ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ. وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَام: ١٦٤] .

وَأُطْلِقَ الْوِزْرُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْجِنَايَةِ لِثِقَلِ عَاقِبَتِهَا عَلَى جَانِيهَا.

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ عَنَتِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ

بِحَالِ مَنْ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا. وَذَكَرَ عَلى ظُهُورِهِمْ هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَمْثِيلِ الْحَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] . فَذَكَرَ الْأَيْدِي لِأَنَّ الْكَسْبَ يَكُونُ بِالْيَدِ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَخْيِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّخْيِيلُ فِي التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ مَا يُذْكَرُ فِيهَا صَالِحٌ لِاعْتِبَارِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْهَيْئَةِ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الظَّهْرِ مُؤْذِنٌ بِنِهَايَةِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْحَامِلِ.

وَمِنْ لَطَائِفِ التَّوْجِيهِ وَضْعُ لَفْظِ الْأَوْزَارِ فِي هَذَا التَّمْثِيلِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ، وَهُمْ إِنَّمَا وَقَعُوا فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ مِنْ جَرَّاءِ ذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَهَا لِأَنَّهُمْ يُعَانُونَ شِدَّةَ آلَامِهَا.

وَجُمْلَةُ: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ تَذْيِيلٌ. وَ(أَلَا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ لِلْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ. وساءَ مَا يَزِرُونَ إِنْشَاءُ ذَمٍّ. ويَزِرُونَ بِمَعْنَى يَحْمِلُونَ، أَيْ سَاءَ مَا يُمَثَّلُ مِنْ حَالِهِمْ بِالْحَمْلِ. وَمَا يَزِرُونَ فَاعِلُ ساءَ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيره:

حملهمْ.

[٣٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٢]

وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)

لَمَّا جَرَى ذِكْرُ السَّاعَةِ وَمَا يَلْحَقُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا مِنَ الْحَسْرَةِ عَلَى مَا فَرَّطُوا نَاسَبَ أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام: ٢٩] .

فَتَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ تَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَلَوْ نَظَرْتُمْ حَقَّ النَّظَرِ لَوَجَدْتُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ بَاقٍ، فَلَعَلِمْتُمْ أَنَّ وَرَاءَهَا حَيَاةً أُخْرَى فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا يَنَالُهُ الْمُتَّقُونَ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ، فَتَكُونَ الْآيَة إِعَادَة لدعوتهم إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ الْتِفَاتًا مِنَ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ بِالْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِهِمْ بِالدَّعْوَةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ بِالتَّذْيِيلِ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١] عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ الِانْهِمَاكِ فِي زَخَارِفِ الدُّنْيَا، فَذَيَّلَ ذَلِكَ بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيفًا بِقِيمَةِ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ الْبِشَارَةِ عَلَى حِكَايَةِ النِّذَارَةِ. وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ التَّضَادُّ. وَأَيْضًا فِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ إِذْ غَرَّتْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَسُوِّلَ لَهُمُ الِاسْتِخْفَافُ بِدَعْوَةِ اللَّهِ إِلَى الْحَقِّ. فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ:

أَفَلا تَعْقِلُونَ خِطَابًا مُسْتَأْنَفًا لِلْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ تَغُرَّهُمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا فَتُلْهِيَهِمْ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ عَلَى جِنْسِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيَاةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا كُلُّ أَحَدٍ الْمَعْرُوفَةُ بِالدُّنْيَا، أَيِ الْأُولَى وَالْقَرِيبَةُ مِنَ النَّاسِ، وَأُطْلِقَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَلَى أَحْوَالِهَا، أَوْ عَلَى مُدَّتِهَا.

وَاللَّعِبُ: عَمَلٌ أَوْ قَوْلٌ فِي خِفَّةٍ وَسُرْعَةٍ وَطَيْشٍ لَيْسَتْ لَهُ غَايَةٌ مُفِيدَةٌ بَلْ غَايَتُهُ إِرَاحَةُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ الْوَقْتِ وَاسْتِجْلَابُ الْعُقُولِ فِي حَالَةِ ضَعْفِهَا كَعَقْلِ الصَّغِيرِ وَعَقْلِ الْمُتْعَبِ، وَأَكْثَرُهُ أَعْمَالُ الصِّبْيَانِ. قَالُوا وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّعَابِ، وَهُوَ رِيقُ الصَّبِيِّ السَّائِلُ.

وَضِدَّ اللَّعِبِ الْجِدُّ.

وَاللَّهْوُ: مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا تَرْتَاحُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَا يَتْعَبُ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ عَقْلُهُ.

فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ اسْتِمْتَاعٌ وَلَذَّةٌ وَمُلَائِمَةٌ لِلشَّهْوَةِ.

وَبَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ. فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ مُلَاءَمَةٌ وَيُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالطَّيْشِ كَالطَّرَبِ وَاللَّهْوِ بِالنِّسَاءِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّعِبُ فِي لَعِبِ

الصِّبْيَانِ. وَيَنْفَرِدُ اللَّهْوُ فِي نَحْوِ الْمَيْسِرِ وَالصَّيْدِ.

وَقَدْ أَفَادَتْ صِيغَةُ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قَصْرَ الْحَيَاةِ عَلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الَّتِي يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهَا، لِأَنَّ الْحَيَاةَ مُدَّةٌ وَزَمَنٌ لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِغَيْرِ أَوْصَافِ الْأَزْمَانِ مِنْ طُولٍ أَوْ قِصَرٍ،

وَتَحْدِيدٍ أَوْ ضِدِّهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الْأَعْمَالُ الْمَظْرُوفَةُ فِيهَا. وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، لِأَنَّهُمَا مُصْدَرَانِ أُرِيدَ بِهِمَا الْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْخَنْسَاءِ:

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ وَهَذَا الْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَاصِلَةَ فِي الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، وَمِنْهَا غَيْرُهُمَا، قَالَ تَعَالَى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الْحَدِيد: ٢٠] . فَالْحَيَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْمُلَائِمُ كَالْأَكْلِ وَاللَّذَّاتِ، وَمِنْهَا الْمُؤْلِمُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَحْزَانِ، فَأَمَّا الْمُؤْلِمَاتُ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا هُنَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْحَيَاةِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِمَّا يُحِبُّهَا النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمُلَائِمَاتُ.

وَأَمَّا الْمُلَائِمَاتُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، كالطعام وَالشرَاب والتدفّي فِي الشِّتَاءِ وَالتَّبَرُّدِ فِي الصَّيْفِ وَجَمْعِ الْمَالِ عِنْدَ الْمُولِعِ بِهِ وَقَرْيِ الضَّيْفِ وَنِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلْمُحْتَاجِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَ مُعْظَمُهَا يَسْتَدْعِي صَرْفَ هِمَّةٍ وَعَمَلٍ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّعَبِ وَهُوَ مُنَافِرٌ. فَكَانَ مُعْظَمُ مَا يُحِبُّ النَّاسُ الْحَيَاةَ لِأَجْلِهِ هُوَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَمِنَ اللَّعِبِ الْمُزَاحُ وَمُغَازَلَةُ النِّسَاءِ، وَمِنَ اللَّهْوِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْمَغَانِي وَالْأَسْمَارُ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ وَالصَّيْدُ.

فَأَمَّا أَعْمَالُهُمْ فِي الْقُرُبَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالنَّذْرِ وَالطَّوَافِ بِالْأَصْنَامِ وَالْعَتِيرَةِ وَنَحْوِهَا فَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ لَا اعْتِدَادَ بِهَا بِدُونِ الْإِيمَانِ كَانَتْ مُلْحَقَةً بِاللَّعِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: ٣٥]، وَقَالَ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الْأَعْرَاف: ٥١] .

فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقَصْرُ الِادِّعَائِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.

وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُتَّقِينَ فِي

الدُّنْيَا هِيَ ضِدُّ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، لِأَنَّهُمْ جُعِلَتْ لَهُمْ دَارٌ أُخْرَى هِيَ خَيْرٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْفَوْزَ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ فِي الدُّنْيَا فَأَنْتَجَ أَنَّ عَمَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَأَنَّ حَيَاةَ غَيْرِهِمْ هِيَ الْمَقْصُورَةُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.

وَالدَّارُ مَحَلُّ إِقَامَةِ النَّاسِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا بُيُوتُ النَّاسِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ خِيَامٍ أَوْ قِبَابٍ. وَالْآخِرَةُ مُؤَنَّثُ وَصْفِ الْآخِرِ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهُوَ ضِدُّ الْأَوَّلِ، أَيْ مَقَرُّ النَّاسِ الْأَخِيرِ الَّذِي لَا تَحَوُّلَ بَعْدَهُ.

وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ وَلَلدَّارُ- بِلَامَيْنِ- لَامِ الِابْتِدَاءِ وَلَام التَّعْرِيف، وقرأوا الْآخِرَةُ- بِالرَّفْعِ-. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ- بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فَقَطْ وَبِإِضَافَةِ دَارُ مُنَكَّرَةً إِلَى الْآخِرَةِ- فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، أَوْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَكُونُ الْآخِرَةُ وَصْفًا لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: دَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.

وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ عَلَى الدُّنْيَا بِاعْتِبَارِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ نَعِيمٍ عَاجِلٍ زَائِلٍ يَلْحَقُ مُعْظَمَهُ مُؤَاخَذَةٌ وَعَذَابٌ.

وَقَوْلُهُ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْآخِرَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِخَيْرٍ مِمَّا كَانُوا فِي الدُّنْيَا. وَالْمرَاد ب الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ التَّابِعُونَ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢]، فَإِنَّ الْآخِرَةَ لِهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا مَنْ تَلْحَقُهُمْ مُؤَاخَذَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا كَانَ مَصِيرُهُمْ بَعْدُ إِلَى الْجَنَّةِ كَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

وَقَوْلُهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ عَطْفٌ بِالْفَاءِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَى آخِرِهَا لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ عَدَمِ عَقْلِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ فِي التَّحْذِيرِ إِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ صَحَّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْأَمْرَانِ بِاعْتِبَارِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّ الْمَدْلُولَاتِ الْكِنَائِيَّةَ تَتَعَدَّدُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِهَا الِاشْتِرَاكُ، لِأَنَّ دَلَالَتَهَا الْتِزَامِيَّةٌ، عَلَى أَنَّنَا نَلْتَزِمُ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، أَفَلا تَعْقِلُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ-، فَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَائِدٌ

لِمَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ قَبْلَهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ.

وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تأييس للْمُشْرِكين.

[٣٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٣]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ قُصِدَتْ بِهِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ﷺ وَأَمْرُهُ بِالصَّبْرِ، وَوَعْدُهُ بِالنَّصْرِ، وَتَأْيِيسُهُ مِنْ إِيمَانِ الْمُتَغَالِينَ فِي الْكُفْرِ، وَوَعْدُهُ بِإِيمَانِ فِرَقٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى - إِلَى قَوْلِهِ- يَسْمَعُونَ. وَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِهَذَا الْغَرَضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَإِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالْفَرَاغِ مِنْ وَعِيدِهِمْ وَفَضِيحَةِ مُكَابَرَتِهِمِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٤] إِلَى هُنَا.

وَقد تَحْقِيقٌ لِلْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَهُوَ فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ (إِنَّ) فِي تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. فَحَرْفُ قَدْ مُخْتَصٌّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَصَرِّفَةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُثْبَتَةِ الْمُجَرَّدَةِ مَنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ وَحَرْفِ تَنْفِيسٍ، وَمَعْنَى التَّحْقِيقِ مُلَازِمٌ لَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولُهَا مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا، وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَى قَدْ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلَيْنِ. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ قَدْ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُضَارِعِ أَفَادَ تَقْلِيلَ حُصُولِ الْفِعْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَمِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ لَكِنْ بِالْقَرِينَةِ وَلَيْسَتْ بِدَلَالَةٍ أَصْلِيَّةٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدِي.

وَلِذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِ قَدْ عَلَى فِعْلِ الْمُضِيِّ وَدُخُولِهِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي إِفَادَةِ تَحْقِيقِ الْحُصُولِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦٤] . فَالتَّحْقِيقُ يُعْتَبَرُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي إِنْ

كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ قَدْ فِعْلَ مُضِيٍّ، وَفِي زَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ (قَدْ) فِعْلًا مُضَارِعًا مَعَ مَا يُضَمُّ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلَ تَقْرِيبِ زَمَنِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ فِي نَحْوِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ. وَهُوَ كِنَايَةٌ تَنْشَأُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِتَحْقِيقِ فِعْلٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشُكَّ السَّامِعُ فِي أَنَّهُ يَقَعُ، وَمِثْلَ إِفَادَةِ التَّكْثِيرِ مَعَ الْمُضَارِعِ تَبَعًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي نَسَبَهُ سِيبَوَيْهِ لِلْهُذَلِيِّ، وَحَقَّقَ ابْنُ بَرِّيٍّ أَنَّهُ لِعَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ، وَهُوَ:

قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ

وَبَيْتُ زُهَيْرٍ:

أَخَا ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهُ

وَإِفَادَةُ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ، كَقَوْلِ كَعْبٍ:

لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ


لَظَلَّ يُرْعَدُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنَ الرَّسُولِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَنْوِيلُ


أَرَادَ تَحْقِيقَ حُضُورِهِ لَدَى الرَّسُولِ ﷺ مَعَ اسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ مِنَ الْوَجَلِ الْمَشُوبِ بِالرَّجَاءِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ بَرِيءٌ مِمَّا حَمَّلُوهُ، وَمَا نَشَأَ اضْطِرَابُ كَلَامِ النُّحَاةِ فِيهِ إِلَّا مِنْ فَهْمِ ابْنِ مَالِكٍ لِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ رَدًّا وَجِيهًا.

فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلِمْنَا بِأَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ يُحْزِنُكَ مُحَقَّقًا فَتَصْبِرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِي كَلَامٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٤]، فَكَانَ فِيهِ إِجْمَالٌ وَأَحَلْتُ عَلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي.

وَفِعْلُ نَعْلَمُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُجُودِ اللَّامِ.

وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي يَقُولُونَ أَقْوَالَهُمُ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [الْأَنْعَام: ٣٤]، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ التَّكْذِيبِ وَنَحْوِهِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَنْزِيهًا لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام عَنْ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ الشَّنِيعِ فِي جَانِبِهِ تَلَطُّفًا مَعَهُ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيَحْزُنُكَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- يُقَالُ: أَحْزَنْتَ الرَّجُلَ- بِهَمْزَةِ تَعْدِيَةٍ لِفِعْلِ حَزَنَ، وَيُقَالُ: حَزَنْتُهُ أَيْضًا.

وَعَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ حَزَنْتُهُ، مَعْنَاهُ جَعَلْتُ فِيهِ حُزْنًا كَمَا يُقَالُ: دَهَنْتُهُ. وَأَمَّا التَّعْدِيَةُ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْهَمْزَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَزَنْتُ الرَّجُلَ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَأَحْزَنْتُهُ، أَقْيَسُ. والَّذِي يَقُولُونَ هُوَ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، كَاذِبٌ، شَاعِرٌ. فَعَدَلَ عَنْ تَفْصِيلِ قَوْلِهِمْ إِلَى إِجْمَالِهِ إِيجَازًا أَوْ تَحَاشِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي جَانِبِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ.

وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَفعل لَيَحْزُنُكَ

فعل الْقَسَمِ، والَّذِي يَقُولُونَ فَاعِلُهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْزُنُكَ لَامُ الِابْتِدَاء، وَجُمْلَة لَيَحْزُنُكَ خَبَرُ إِنَّ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ يُحْزِنُكَ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، فَاللَّهُ قَدْ سَلَّى رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُكَذِّبُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ جُحُودٍ وَمُكَابَرَةٍ. وَكَفَى بِذَلِكَ تَسْلِيَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَعِلْمُنَا بِذَلِكَ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّا نُثَبِّتُ فُؤَادَكَ وَنَشْرَحُ صَدْرَكَ بِإِعْلَامِكَ أَنَّهُمْ لَا يكذبُونَك، وَإِن نُذَكِّرَكَ بِسُنَّةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَنُذَكِّرَكَ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ هِيَ نَصْرُكَ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَا يُكَذِّبُونَكَ،- بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ-. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ-. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إِنَّ أَكْذَبَ وَكَذَّبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْذَبَهُ، وَجَدَهُ كَاذِبًا،

كَمَا يُقَالُ: أَحْمَدَهُ، وَجَدَهُ مَحْمُودًا. وَأَمَّا كَذَّبَ- بِالتَّشْدِيدِ- فَهُوَ لِنِسْبَةِ الْمَفْعُولِ إِلَى الْكَذِبِ. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: أَنَّ أَكْذَبَهُ هُوَ بِمَعْنَى كَذَّبَ مَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَنْسِبِ الْمَفْعُولَ إِلَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ كَذَّبَهُ هُوَ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ مَعْنَى كَذَّبْتُهُ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَمَعْنَى أَكْذَبْتُهُ، أَرَيْتُهُ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ كَذِبٌ.

وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اسْتِدْرَاكٌ لِدَفْعِ أَنْ يَتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:

لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ لَا يُكَذِّبُونَكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ أَصْلُ التَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْسُبُ الْآتِيَ بِالْآيَاتِ إِلَى الْكَذِبِ وَمَا هُمْ بِمُكَذِّبِينَ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَالْجَحْدُ وَالْجُحُودُ، الْإِنْكَارُ لِلْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، أَيِ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مَا يُنْكَرُ، فَهُوَ نَفْيُ مَا يَعْلَمُ النَّافِي ثُبُوتَهُ، فَهُوَ إِنْكَارُ مُكَابَرَةٍ.

وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ذَمًّا لَهُمْ وَإِعْلَامًا بِأَنَّ شَأْنَ الظَّالِمِ الْجَحْدُ بِالْحُجَّةِ، وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ سَجِيَّتُهُمْ.

وَعَدَّى يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النَّحْل: ١٤] لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ الْجَحْدِ بِالْمَجْحُودِ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]، وَفِي قَوْلِهِ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء:

٥٩]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعُ عَاثِرَا

ثُمَّ إِنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ الْجَحْدُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْآيَاتِ.

وَجَحْدُهَا إِنْكَارُ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَكْذِيبُ الْآتِي بِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَآلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام فَكَيْفَ يُجْمَعُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّكَ كَاذِبٌ لِأَنَّ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بَيْنَهُمْ بِالْأَمِينِ. وَقَدْ قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَمَّا تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ فِي شَأْنِ الرَّسُولِ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا أَرْضَاكُمْ

فِيكُمْ وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْبَ فِي صُدْغَيْهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ وقلتم مَجْنُون وو الله مَا هُوَ بِأُولَئِكُمْ» . وَلِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَمْتَرِي أَحَدٌ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ دَلَائِلَ صِدْقِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّكُمْ ظَالِمُونَ.

وَالظَّالِمُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ بِدُونِ شُبْهَةٍ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ هُوَ الْجُحُودُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِهِمْ.

وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النَّمْل: ١٤] فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَا يُكَذِّبُونَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ وَيَجْحَدُونَ بِصِدْقِكَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ.

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ التَّابِعِيِّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيءِ ﷺ: لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الِاسْتِهْزَاءَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ»: ذَلِكَ أَنَّهُ التَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُهُ: لَا نُكَذِّبُكَ، اسْتِهْزَاءٌ بإطماع التَّصْدِيق.

[٣٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٤]

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: ٣٣] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ، أَوْ إِنْ أَحْزَنَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَالْحَالُ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَسْلِيَةٌ وَتَهْوِينٌ وَتَكْرِيمٌ بِأَنَّ إِسَاءَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمُحَمَّدٍ- عليه الصلاة والسلام هِيَ دُونَ مَا أَسَاءَ الْأَقْوَامُ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَأَمَّا قَوْمُهُ فَكَذَّبُوا بِالْقَوْلِ فَقَطْ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَأَسٍّ لِلرَّسُولِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.

وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ ﷺ مَنْزِلَةَ مَنْ ذُهِلَ طَوِيلًا عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْزَنَهُ قَوْلُ قَوْمِهِ فِيهِ كَانَ كَمَنْ بَعُدَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ. ومِنْ قَبْلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِ رُسُلٌ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى التَّأَسِّي بِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ.

وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا إِيمَاءٌ لِرَجَاحَةِ عُقُولِ الْعَرَبِ عَلَى عُقُولِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتْ رُسُلَهَا بِاعْتِقَادِ وَنُطْقِ أَلْسِنَتِهَا، وَالْعَرَبُ كَذَّبُوا بِاللِّسَانِ وَأَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام بِعُقُولِهِمُ الَّتِي لَا يَرُوجُ عِنْدَهَا الزَّيْفُ.

وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأُوذُوا عَطْفًا عَلَى كُذِّبُوا وَتَكُونَ جُمْلَةُ فَصَبَرُوا مُعْتَرِضَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ وَأُوذِيَتْ رُسُلٌ فَصَبَرُوا. فَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلى مَا كُذِّبُوا بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِ نَصْرُنا، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى كُذِّبَتْ رُسُلٌ، أَيْ كُذِّبَتْ وَأُوذُوا. وَيُفْهَمُ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ أَذًى فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَلى مَا كُذِّبُوا.

وَقَرَنَ فِعْلَ كُذِّبَتْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ يُرَجَّحُ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِعْلَا فَصَبَرُوا وكُذِّبُوا مُقْتَرِنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ فَاعِلَيْهِمَا ضَمِيرَانِ مُسْتَتِرَانِ فَرَجَّحَ اعْتِبَارَ التَّذْكِيرِ.

وَعَطَفَ وَأُوذُوا عَلَى كُذِّبَتْ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْأَذَى أَعَمُّ مِنَ التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ الْأَذَى هُوَ مَا يَسُوءُ وَلَوْ إِسَاءَةً مَا، قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١] وَيُطلق على الشَّديد مِنْهُ. فَالْأَذَى اسْمٌ اشْتُقَّ مِنْهُ أَذًى إِذَا جُعِلَ لَهُ أَذًى وَأَلْحَقَهُ

بِهِ. فَالْهَمْزَةُ بِهِ لِلْجَعْلِ أَوْ لِلتَّصْيِيرِ. وَمَصَادِرُ هَذَا الْفِعْلِ أَذًى وَأَذَاةٌ وَأَذِيَّةٌ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءُ مَصَادِرَ وَلَيْسَتْ مُصَادَرَ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْإِيذَاءُ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ»: لَا يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَلَعَلَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقِيَاسِيَّ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ

عَلَى سَمَاعِ نَوْعِهِ مِنْ مَادَّتِهِ. وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى صَاحِبِ «الْقَامُوسِ» فَقَدْ ظَلَمَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِيذَاءُ لَفْظٌ غَيْرُ فَصِيحٍ لِغَرَابَتِهِ. وَلَقَدْ يُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» اسْتِعْمَالُهُ هُنَا وَهُوَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ.

وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ أَفَادَتْ غَايَةَ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالْأَذَى وَالصَّبْرُ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّصْرَ كَانَ بِإِهْلَاكِ الْمُكَذِّبِينَ الْمُؤْذِينَ، فَكَانَ غَايَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَكَانَ غَايَةً لِلصَّبْرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالْأَذَى، وَبَقِيَ صَبْرُ الرُّسُلِ عَلَى أَشْيَاءَ مِمَّا أُمِرَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ.

وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا مَجَازٌ فِي وُقُوعِ النَّصْرِ بَعْدَ انْتِظَارِهِ، فَشَبَّهَ وُقُوعَهُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَمَا يَجِيءُ الْمُنَادَى الْمُنْتَظَرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤] .

وَجُمْلَةُ وَلا مُبَدِّلَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَتاهُمْ نَصْرُنا.

وَكَلِمَاتُ اللَّهِ وَحْيُهُ لِلرُّسُلِ الدَّالُّ عَلَى وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِضَافَةُ النَّصْرِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ. فَالْمُرَادُ كَلِمَاتٌ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ بَعْضَ كَلِمَاتِ اللَّهِ فِي التَّشْرِيعِ قَدْ تُبَدَّلُ بِالنَّسْخِ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ الْمَنْفِيَّ مَجَازٌ فِي النَّقْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨١] . وَسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١١٥] .

وَهَذَا تَطْمِينٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَا كَتَبَهُ فِي أَزَلِهِ وَقَدَّرَهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، أَيْ أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ يَقَعُ كَمَا وَقَعَ إِهْلَاكُ مَنْ قَبْلَهُمْ.

وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ، أَيْ لَا تَبْدِيلَ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مُبَدِّلٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يُبَدِّلَ مُرَادَ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ لَا يُبَدِّلَ كَلِمَاتِهِ

فِي هَذَا الشَّأْنِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ،

وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَفَاصِيلِ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَبِكَيْفَ كَانَ نَصْرُ اللَّهِ رُسُلَهُ. وَذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ فِي جاءَكَ كَالْقَوْلِ فِي أَتاهُمْ نَصْرُنا، فَهُوَ مَجَازٌ فِي بُلُوغِ ذَلِكَ وَإِعْلَامِ النَّبِيءِ ﷺ بِهِ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبَإِ إِمَّا اسْمٌ بِمَعْنَى (بَعْضٍ) فَتَكُونُ فَاعِلًا مُضَافَة إِلَى النبأ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر:

٧٨] . وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ.

وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأ: ١، ٢]، وَقَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٧، ٦٨]، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٧] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

[٣٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٥]

وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣]، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُحْزِنُهُ مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ حُزْنًا عَلَى جَهْلِ قَوْمِهِ بِقَدْرِ النَّصِيحَةِ وَإِنْكَارِهِمْ فَضِيلَةَ صَاحِبِهَا، وَحُزْنًا مِنْ جَرَّاءِ الْأَسَفِ عَلَيْهِمْ مِنْ دَوَامِ ضَلَالِهِمْ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: ٣٣] وَسَلَّاهُ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الْآيَةَ.

وكَبُرَ كَكَرُمَ، كِبَرًا كَعِنَبٍ: عَظُمَتْ جُثَّتُهُ. وَمَعْنَى كَبُرَ هُنَا شَقَّ عَلَيْكَ. وَأَصْلُهُ عِظَمُ الْجُثَّةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ عِظَمَ الْجُثَّةِ يَسْتَلْزِمُ الثِّقَلَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي مَعْنَى (شَقَّ) لِأَنَّ الثقيل يشق جمله. فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِلُزُومَيْنِ.

وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي يَكْثُرُ وُرُودُهُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُظَنُّ

حُصُولُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام لَيْسَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ.

وَزِيدَتْ (كَانَ) بَعْدَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى لِيَبْقَى فِعْلُ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى الْمُضِيِّ فَلَا تُخَلِّصُهُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَفْعَالِ الشُّرُوطِ بَعْدَ (إِنْ)، فَإِنْ (كَانَ) لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُضِيّ لَا تقلبه أَدَاةُ الشَّرْطِ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ.

وَالْإِعْرَاضُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ هُوَ الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الْأَنْعَام: ٤] . وَهُوَ حَالَةٌ أُخْرَى غَيْرُ حَالَةِ التَّكْذِيبِ، وَكِلْتَاهُمَا مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ جَوَابُ إِنْ كانَ كَبُرَ، وَهُوَ شَرْطٌ ثَانٍ وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ. وَالِاسْتِطَاعَةُ: الْقُدْرَةُ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي طَاعَ، أَيِ انْقَادَ.

وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣]، أَيْ أَنْ تَطْلُبَ نَفَقًا أَوْ سُلَّمًا لِتَبْلُغَ إِلَى خَبَايَا الْأَرْضِ وَعَجَائِبِهَا وَإِلَى خَبَايَا السَّمَاءِ. وَمَعْنَى الطَّلَبِ هُنَا: الْبَحْثُ.

وَانْتَصَبَ نَفَقًا وسُلَّمًا عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ لِ تَبْتَغِيَ.

وَالنَّفَقُ: سِرْبٌ فِي الْأَرْضِ عَمِيقٌ.

وَالسُّلَّمُ- بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَعَ تَشْدِيدِ اللَّامِ- آلَةٌ لِلِارْتِقَاءِ تُتَّخَذُ مِنْ حَبْلَيْنِ غَلِيظَيْنِ مُتَوَازِيَيْنِ تَصِلُ بَيْنَهُمَا أَعْوَادٌ أَوْ حِبَالٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ فِي عَرْضِ الْفَضَاءِ الَّذِي بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ مِنْ مِسَاحَةِ مَا بَيْنَ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَعْوَادِ بِمِقْدَارِ مَا يَرْفَعُ الْمُرْتَقِي إِحْدَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْعُودِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْأَعْوَادُ دَرَجَاتٌ. وَيُجْعَلُ طُولُ الْحَبْلَيْنِ بِمِقْدَارِ الِارْتِفَاعِ الَّذِي يُرَادُ الِارْتِقَاءُ إِلَيْهِ. وَيُسَمَّى السُّلَّمُ مِرْقَاةً وَمِدْرَجَةً. وَقَدْ سَمَّوُا الْغَرْزَ الَّذِي يَرْتَقِي بِهِ الرَّاكِبُ عَلَى رَحْلِ نَاقَتِهِ سُلَّمًا. وَكَانُوا يَرْتَقُونَ

بِالسُّلَّمِ إِلَى النَّخِيلِ لِلْجِذَاذِ. وَرُبَّمَا كَانَتِ السَّلَالِيمُ فِي الدُّورِ تُتَّخَذُ مِنَ الْعُودِ فَتُسَمَّى الْمِرْقَاةَ. فَأَمَّا الدُّرُجُ الْمَبْنِيَّةُ فِي الْعَلَالِيِّ فَإِنَّهَا تُسَمَّى سُلَّمًا وَتُسَمَّى الدَّرَجَةُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ «حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى أَتَيْتُ السُّلَّمِ أُرِيدُ أَنْ أَنْزِلَ فَأَسْقُطُ مِنْهُ» .

وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ صِفَةُ نَفَقًا أَيْ مُتَغَلْغِلًا، أَيْ عَمِيقًا. فَذَكَرَ هَذَا الْمَجْرُورَ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْعُمْقِ مَعَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ وَتَصْوِيرِ حَالَةِ الِاسْتِطَاعَةِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّفَقَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي السَّماءِ فَوَصَفَ بِهِ سُلَّمًا، أَيْ كَائِنًا فِي السَّمَاءِ، أَيْ وَاصِلًا إِلَى السَّمَاءِ. وَالْمَعْنَى تَبْلُغُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

وَرُقِّيتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمٍ وَالْمَعْنَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَطْلُبَ آيَةً مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لِلْكَائِنَاتِ. وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الِابْتِغَاءِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ وَالصَّلَاة وَالسَّلَامُ- آيَاتٍ مَنْ جِنْسِ مَا فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِمْ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الْإِسْرَاء: ٩٠]، وَمِنْ جِنْسِ مَا فِي السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: ٩٣] .

وَقَوْلُهُ: بِآيَةٍ أَيْ بِآيَةٍ يُسَلِّمُونَ بِهَا، فَهُنَالِكَ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

إِعْراضُهُمْ، أَيْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي جِئْتَهُمْ بِهَا.

وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ، وَهُوَ اسْتَطَعْتَ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي التَّأْيِيسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَإِقْنَاعِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا.

وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ جَوَابِ الشَّرْطِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ فَأْتِهِمْ بِآيَةٍ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلرَّاغِبِ فِي إِرْضَاءِ مُلِحٍّ. إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْلِبَ مَا فِي بَيْتِكَ، أَيْ فَهُوَ لَا يَرْضَى بِمَا تَقْصُرُ عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةُ بَلْهَ مَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ. وَهُوَ

اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّوْمِ وَلَا مِنَ التَّوْبِيخِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى شَرْطٌ امْتِنَاعِيٌّ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ فَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لَقَصْدِ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ إِذَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِمَفْعُولِهِ غَيْرَ غَرِيبٍ وَكَانَ شَرْطًا لِإِحْدَى أَدَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا هُنَا، وَكَقَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النِّسَاء:

١٣٣] .

وَمَعْنَى: لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى لَهَدَاهُمْ أَجْمَعِينَ. فَوَقَعَ تَفَنُّنٌ فِي أُسْلُوبِ التَّعْبِيرِ فَصَارَ تَرْكِيبًا خَاصِّيًّا عدل بِهِ على التَّرْكِيبِ الْمَشْهُورِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٩] لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَمْيِيزِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَنْ بَقِيَ فِيهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَوْ شَاءَ لِجَمَعَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا هَدَى إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ.

وَالْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ بِعُقُولٍ قَابِلَةٍ لِلْحَقِّ لِخَلَقَهُمْ بِهَا فَلَقَبِلُوا الْهُدَى،

وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى مَا وَصَفَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا [الْأَنْعَام: ٢٥] الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً [هود: ١١٨]، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ مَشِيئَةٌ كُلِّيَّةٌ تَكْوِينِيَّةٌ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ [١٤٨] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا الْآيَةَ. فَهَذَا مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ لَا مِنَ الْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ. وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ، سَقَطَ فِي مِهْوَاتِهِ مَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ صَوْنٌ.

وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ تَذْيِيلٌ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَالْمُرَادُ بِ الْجاهِلِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدَّ الْعِلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنُوحٍ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: ٤٦]، وَهُوَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَهْلِ ضِدَّ الْحِلْمِ، أَيْ لَا تَضِقْ صَدْرًا بِإِعْرَاضِهِمْ.

وَهُوَ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ. وَإِرَادَةُ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَنْتَظِمُ مَعَ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ وَجُمْلَةِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى. وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَذْيِيلًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فَالْمَعْنَى: فَلَا يَكْبُرْ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ

وَلَا تَضِقْ بِهِ صَدْرًا، وَأَيْضًا فَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى. وَهَذَا إِنْبَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ بِأَمْرٍ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ يَخْتَصُّ بِحَالَةٍ خَاصَّةٍ فَلَا يُطْرَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ التَّشْرِيعِ.

وإنّما عدل على الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَهْلِ يَتَضَمَّنُهُ فَيَتَقَرَّرُ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ تَحْرِيضًا عَلَى اسْتِحْضَارِ الْعِلْمِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ للمتعلّم: لَا تنسى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ تَلَبَّسَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ لَا تستبين.

[٣٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٦]

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)

تَعْلِيلٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: ٣٥] مِنَ تَأْيِيسٍ مِنْ وُلُوجِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ دُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَفَهْمِ الْمَسْمُوعِ.

وَمَفْهُومُ الْحَصْرِ مُؤْذِنٌ بِإِعْمَالِ منطوقه الَّذِي يؤمىء إِلَى إِرْجَاءٍ بَعْدَ تَأْيِيسٍ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ قُلُوبًا يَفْقَهُونَ بِهَا وَآذَانًا يَسْمَعُونَ بِهَا فَأُولَئِكَ يَسْتَجِيبُونَ.

وَقَوْلُهُ: يَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٥] .

وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ يَسْتَجِيبُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ.

وَمَعْنَى يَسْمَعُونَ، أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِرْشَادِ لِأَنَّ الضَّالِّينَ كَمَنْ لَا يَسْمَعُ. فَالْمَقْصُودُ سَمْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ سَمْعُ الِاعْتِبَارِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ:

وَأَمَّا الْمُعْرِضُونَ

عَنْكَ فَهُمْ مِثْلَ الْمَوْتَى فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] . فَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ قَدْ يَكُونُ فُقْدَانُ سَمْعِهِ مِنْ عِلَّةٍ كَالصَّمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ عبد الرحمان بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ:

لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

فَتَضَمَّنَ عَطْفُ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَالْأَمْوَاتِ لَا تُرْجَى مِنْهُمُ اسْتِجَابَةٌ. وَتَخَلَّصَ إِلَى وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَيْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ رُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا، وَحِينَئِذٍ يُلَاقُونَ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ. وَالْمَوْتى اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ وَمَوَاهِبِهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. ويَبْعَثُهُمُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْبَعْثَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ لَا يَذْكُرُ الْبَعْثَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَبْعُوثِ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ اسْتِعَارَةً أَيْضًا لِلْهِدَايَةِ بَعْدَ الضَّلَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي التَّرْشِيحِ- فِي فَنِّ الْبَيَانِ- مِنْ كَوْنِهِ تَارَةً يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةَ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَارَةً يُسْتَعَارُ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى شِبْهِهِ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمرَان: ١٠٣] . فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْكَلَامِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ ﷺ بِأَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ سَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ فِي عِلْمِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ.

فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زِيَادَةً فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لِيَلْقَوْا جَزَاءَهُ حِينَ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَتَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَالِكَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ اسْتِطْرَادًا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى قرع أسماعهم بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَكُونُ الْبَعْثُ فِي قَوْلِهِ: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٧]

وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ [الْأَنْعَام: ٣٥] الْآيَاتِ، وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [٤] مِنْ ذِكْرِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَفَنَّنُوا بِهِ مِنَ الْمَعَاذِيرِ مِنْ قَوْلِهِمْ:

لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها [الْأَنْعَام: ٢٥] أَيْ وَقَالُوا: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ، أَيْ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا آيَاتٍ مُخْتَلِفَةً فِي مُجَادَلَاتٍ عَدِيدَةٍ. وَلِذَلِكَ أَجْمَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهَا عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

فَجُمْلَةُ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَقَعَ عَطْفُهَا مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الْأَنْعَام: ٣٦] وَجُمْلَةِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] إِلَخْ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ النُّزُولِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمَسْئُولَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] وَقَوْلِهِمْ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] وَشَبَّهَ ذَلِكَ.

وَجَرَّدَ نُزِّلَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ الْمُؤَنَّثَ الَّذِي تَأْنِيثُهُ لَفْظِيٌّ بَحْتٌ يَجُوزُ تَجْرِيدُ فِعْلِهِ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَإِذَا وَقَعَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ فَاصِلٌ اجْتَمَعَ مُسَوِّغَانِ لِتَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، فَإِنَّ الْفَصْلَ بِوَحْدِهِ مُسَوِّغٌ لِتَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ الْعَلَامَةِ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ تَجْرِيدَ الْفِعْلِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ حِينَئِذٍ حَسَنٌ.

ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا) . وَالتَّحْضِيضُ هُنَا لِقَطْعِ الْخَصْمِ وَتَعْجِيزِهِ،

كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] .

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اشْتِقَاقِ آيَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَفُصِلَ فِعْلُ قُلْ فَلَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ فَجَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَصْلِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] .

وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ آيَةً عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ، وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام لَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ إِلَّا إِذَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ. فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ انْتِفَاءُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى إِجَابَةَ مُقْتَرَحِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَوْ شَاءَ لَزَادَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ.

فَفِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْجَوَابِ إِثْبَاتٌ لِلرَّدِّ بِالدَّلِيلِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ،- أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَفَعَلَهُ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ عَدَمَ الْإِجَابَةِ إِلَى مقترحهم يدلّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام وَذَلِكَ مِنْ ظُلْمَةِ عُقُولِهِمْ، فَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ.

فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ هَذَا الرَّدُّ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: ٨] فَإِنَّ ذَلِكَ نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَتِهِمْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِبْقَاؤُهُمْ، وَهَذَا نُبِّهُوا فِيهِ عَلَى سُوءِ نَظَرِهِمْ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ الْآيَاتِ دَلَائِلَ مُنَاسِبَةً لِلْغَرَضِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُ الْمَنْطِقِيُّونَ: إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتِيجَةَ تَدُلُّ عَقْلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ النَّتِيجَةَ هِيَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَاقِعِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهُ فِي الِاعْتِبَارِ فَلِذَلِكَ نَجِدُ الْقُرْآنَ يَذْكُرُ الْحُجَجَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، كَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَإِخْرَاجِ

الْمَيِّتِ

مِنَ الْحَيِّ فِي سِيَاقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَيُسَمِّي تِلْكَ الْحجَج آيَات كَقَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الْأَنْعَام: ٩٨]، وَكَمَا سَيَجِيءُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٢] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها. وَذَكَرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُرابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرَّعْد: ٥] . وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِالْخَلْقِ، كَقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ [الْأَنْعَام: ١٠١- ١٠٥] إِلَخْ، وَكَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِأَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام حُجَّةً عَلَى صِدْقِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَتَفَاصِيلِ الْمَوَاعِظِ وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَشَرْعِ الْأَحْكَامِ مَعَ كَوْنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مَعْلُومَ الْأُمِّيَّةِ بَيْنَهُمْ قَدْ قَضَى شَبَابَهُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، جَعَلَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَمَّاهُ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: ٧٢] فَلَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ مَا يُنَاسِبُهَا.

أَمَّا الْجَهَلَةُ وَالضَّالُّونَ فَهُمْ يَرُومُونَ آيَاتٍ مِنْ عَجَائِبِ التَّصَارِيفِ الْخَارِقَةِ لِنِظَامِ الْعَالَمِ، يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَلَامَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ اقتراحهم بِأَن يحييهم إِلَيْهَا إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ صَدَقَ الرَّسُولُ فِيمَا بَلَّغَ عَنْهُ، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَاطَرَةِ لِيَزْعُمُوا أَنَّ عَدَمُ إِجَابَتِهِمْ لِمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُصَدِّقِ الرَّسُولَ ﷺ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ. وَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِالنُّزُولِ مَعَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَجَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ مَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَمَدْلُولِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٧] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ فَهُمْ جَعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. وَهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ تَنْزِيلَ آيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَقَدْ قَالُوا:

لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] وَقَالُوا:

وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] . فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرَّعْد: ٧]، أَيْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِنْذَارِ فِي كِتَابٍ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ حَاصِلٌ بِكَوْنِهِ إِنْذَارًا مُفَصَّلًا بَلِيغًا دَالًّا عَلَى أَنَّ الْمُنْذِرَ بِهِ مَا اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ

عَلَيْهِمْ بِمَا يُبَيِّنُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: ٤٨- ٥١]، أَيْ فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ يَنْزِلُ فِي قِرْطَاسٍ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ.

وَقَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٣] . نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ يُقِيمُ آيَاتٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ تِلْقَاءِ اخْتِيَارِهِ بِدُونِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُعْجِزَةِ مِثْلَ مَا سَمَّى بَعْضَ ذَلِكَ بِالْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: ١٢]، فَذَلِكَ أَمْرٌ أُنُفٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَقْتَرِحْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. وَقَدْ أَعْطَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَقَامِ اقْتِرَاحٍ مِنَ الْمُعْرِضِينَ، مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَرْضِ بِسَهْمٍ رَشَقَهُ فِي الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي وَعَدَتْ بِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٨] .

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَةِ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ يَعْقُبُهَا الِاسْتِئْصَالُ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهُمْ لِعِنَادِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

إِلَّا أَنَّ مَا فَسَّرْتُهَا بِهِ أَوْلَى لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَاهَا إِعَادَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي سَبَقَتْهَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ التَّوَقُّفُ فِي وَجْهِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِمُقْتَضَى السُّؤَالِ حَسْبَمَا توقّف فِيهِ التفتازانيّ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» .

وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يُكَابِرُ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ عِنْدَهُ الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا اقْتَرَحُوهُ.

وَإِعَادَةُ لَفْظِ آيَةٌ بِالتَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ

الْأُولَى. وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بَيْنَ الْمُعَرَّبِينَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ فِي الْكَلَامِ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ وَنَقَضَهَا. وَمِمَّا مَثَّلَ بِهِ لِإِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى لَا غَيْرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الرّوم: ٥٤] . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي سُورَة النِّسَاء [١٢٨] .

[٣٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٨]

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)

مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ غَامِضٌ بَدْءًا. وَنِهَايَتُهَا أَشَدُّ غُمُوضًا، وَمَوْقِعُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ خَفِيُّ الْمُنَاسِبَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أَنَّ لَهَا خَصَائِصَ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا كَمَا لِأُمَمِ الْبَشَرِ خَصَائِصُهَا، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ نَوْعٍ مَا بِهِ قِوَامُهُ وَأَلْهَمَهُ اتِّبَاعَ نِظَامِهِ وَأَنَّ لَهَا حَيَاةً مُؤَجَّلَةً لَا مَحَالَةَ.

فَمَعْنَى أَمْثالُكُمْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَفِي اخْتِصَاصِهَا بِنِظَامِهَا.

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْمَوْتِ. وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا، أَيْ فَالْحَشْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازٍ قَرِيبٍ إِلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: ١٧] . فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٣٧]، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الْأَنْعَام: ٣٧] عَلَى أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ [الْأَنْعَام: ٣٧] عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. أَيْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَنْوَاعَ الْأَحْيَاءِ كُلَّهَا وَجَعَلَهَا كَالْأُمَمِ ذَاتَ خَصَائِصَ جَامِعَةٍ لِأَفْرَادِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَكَانَ خَلْقُهَا

آيَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِكُمْ وَلَكِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ إِجَابَتِكُمْ لِمَا سَأَلْتُمْ. وَيَكُونُ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ [الْأَنْعَام: ٣٩] الْآيَةَ وَاضِحَ الْمُنَاسِبَةِ، أَيْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا فِي عَوَالِمِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فَإِنْ نَظرنَا إِلَيْهِ مُسْتقِلّا بِنَصِّهِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَى مَا نِيطَ بِهِ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيَّةٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَأَوَّلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ أَنَّ ضَمِيرَيْ رَبِّهِمْ ويُحْشَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى دَابَّةٍ وطائِرٍ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى جَمَاعَاتِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ لِوُقُوعِهِمَا فِي حَيِّزِ حَرْفِ (مِنْ) الْمُفِيدَةِ لِلْعُمُومِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَتَسَاءَلُ النَّاظِرُ عَنْ ذَلِكَ وَهُمَا ضَمِيرَانِ مَوْضُوعَانِ لِلْعُقَلَاءِ. وَقَدْ تَأَوَّلُوا لِوُقُوعِ الضَّمِيرَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ جَاءَ بَعْدَهُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُمَا عَائِدَانِ إِلَى أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَمَ كُلَّهَا مَحْشُورَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي آخِرُهَا ضَمِيرٌ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُ جُمْلَةِ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ وَالِاسْتِطْرَادِ مُجَابَهَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.

فَإِذَا وَقَعَ الِالْتِفَاتُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنَ الْآثَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآيَةِ كَانَ الْأَمْرُ مُشْكِلًا. فَقَدْ

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ (الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: الْجَمَّاءِ) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» .

وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَأَبُو دَاوُود الطَّيَالِسِيُّ فِي «مُسْنَدَيْهِمَا» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَطَحَتْ شَاتَانِ أَوْ عَنْزَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي فِيمَ انْتَطَحَتَا، قُلْتُ: لَا، قَالَ:

لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَهَذَا مُقْتَضٍ إِثْبَاتَ حَشْرِ الدَّوَابِّ لِيَوْمِ الْحِسَابِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ خَفِيَّ الْحِكْمَةِ إِذْ مِنَ الْمُحَقَّقِ انْتِفَاءُ تَكْلِيفِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ تَبَعًا لِانْتِفَاءِ الْعَقْلِ عَنْهَا. وَكَانَ مَوْقِعُهَا جَلِيَّ الْمُنَاسِبَةِ بِمَا قَالَهُ

الْفَخْرُ نَقْلًا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَيُحْشَرُونَ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ الدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ أُمَمٌ أَمْثَالُهُمْ فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي النَّاسِ حَاصِلٌ فِي الْبَهَائِمِ. وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُحْشَرُونَ لِأَنَّ غَالِبَ إِطْلَاقِ الْحَشْرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْحَشْرِ لِلْحِسَابِ، فَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ:

وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَيَجْعَلُونَ إِخْبَارَ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تُهْمَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، فَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمْ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زَادَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَهْلَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا أَنْكَرُوهُ، وَهُوَ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ الْحَشْرَ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالْبَشَرِ بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ.

فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَيْ فَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ تُبْعَثُ مِثْلَ الْبَشَرِ وَتَحْضُرُ أَفْرَادُهَا كُلُّهَا يَوْمَ الْحَشْرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ أَنْ يُقْتَصَّ لَهَا، فَقَدْ تَكُونُ حِكْمَةُ حَشْرِهَا تَابِعَةً لِإِلْقَاءِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا وَإِعَادَةِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ.

وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ظَاهِرَهُمَا فَإِنَّ هَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَقِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِصْلَاحِ مَا فَرَطَ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ مِنْ رَوَاجِ الْبَاطِلِ وَحُكْمِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَدَالَةِ، وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِتَمْكِينِ الْمَظْلُومِ مِنَ الدَّوَابِّ مِنْ رَدِّ فِعْلِ ظَالِمِهِ كَيْلا يستقرّ بِالْبَاطِلِ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ

تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا شَبِيهٌ بِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ لِانْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ ثُمَّ تَصِيرُ الدَّوَابُّ يَوْمَئِذٍ تُرَابًا، كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا

[النبأ: ٤٠] . قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي الْمُعَلِّمِ: وَاضْطَرَبَ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْثِ الْبَهَائِمِ. وَأَقْوَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِبَعْثِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ تَمْثِيلٌ لِلْعَدْلِ. وَنَسَبَهُ الْمَازِرِيُّ إِلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ قَالَ: هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ إِعْلَامًا لِلْخَلْقِ بِأَنْ لَا يَبْقَى حَقٌّ عِنْدَ أَحَدٍ.

وَالدَّابَّةُ مُشْتَقَّةٌ مَنْ دَبَّ إِذَا مَشَى عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ صِفَةٌ قُصِدَ مِنْهَا إِفَادَةُ التَّعْمِيمِ وَالشُّمُولِ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي جَمِيعَ الدَّوَابِّ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ طائِرٍ بِقَوْلِهِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ

قَصَدَ بِهِ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ آيِلٌ إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مُفَادَ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أَنَّهُ طَائِرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا طَائِرٌ وَلَا طَائِرٌ. وَالتَّوْكِيدُ هُنَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الشُّمُولِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ (مِنَ) الزَّائِدَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَقْرِيرُ مَعْنَى الشُّمُولِ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْيِ اسْمَيِ الْجِنْسَيْنِ. وَنُكْتَةُ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْخَبَرَ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَهُمْ وَكَوْنِهِ مَظِنَّةَ إِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤَكَّدَ.

وَوَقَعَ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ إِتْبَاعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ اللَّفْظَيْنِ الْجِنْسُ لَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَهُوَ غَيْرُ مَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَوُجُودُ (مِنْ) فِي النَّفْيِ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ دُونَ الْوَحْدَةِ.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَصْفُ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وَارِدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي طائِرٍ كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَإِنْ كَانَ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ مِنْ جُمْلَةِ نُكَتِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ تَأْكِيدِ الْعُمُومِ أَوْلَى، بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِمْ:

نَظَرْتُهُ بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُهُ بِأُذُنَيَّ. وَقَول صَخْر:

شَرّ وَاتَّخَذَتْ مِنْ شَعَرٍ صِدَارَهَا إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّدَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ شَعَرٍ.

وأُمَمٌ جَمْعُ أُمَّةٍ. وَالْأُمَّةُ أَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَاثِلَةُ فِي صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عَادَةٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ أُمَّةً لِأَنَّ أَفْرَادَهَا تَؤُمُّ أُمَمًا وَاحِدًا وَهُوَ

مَا يَجْمَعُ مُقَوِّمَاتِهَا.

وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ أُمَّةٍ خَاصٌّ بِالْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أُمَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أُمَّةُ السِّبَاعِ. فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأُمَمِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ، أَيْ مِثْلُ الْأُمَمِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا تَجْتَمِعُ أَفْرَادُهُ فِي صِفَاتٍ مُتَّحِدَةٍ بَيْنَهَا أُمَمًا وَاحِدَةً، وَهُوَ مَا يَجْمَعُهَا وَأَحْسَبُ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْبَشَرِ.

ودَابَّةٍ وطائِرٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعُ أَفْرَادِ النَّوْعَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِغْرَاقِ، فَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ أُمَمٌ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجَمَاعَاتِهَا، أَيْ إِلَّا جَمَاعَاتُهَا أُمَمٌ، أَوْ إِلَّا أَفْرَادُ أُمَمٍ.

وَتَشْمَلُ الْأَرْضُ الْبَحْرَ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الدَّابَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَرِيَّةِ سَيْفِ الْبَحْرِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ.

وَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ التَّشَابُهُ فِي فُصُولِ الْحَقَائِقِ وَالْخَاصَّاتِ الَّتِي تُمَيِّزُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ النُّظُمُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ. فَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ تُمَاثِلُ الْأَنَاسِيَّ فِي أَنَّهَا خُلِقَتْ عَلَى طَبِيعَةٍ تَشْتَرِكُ فِيهَا أَفْرَادُ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مُعْطَاةٌ حَيَاةً مُقَدَّرَةً مَعَ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهَا وَوِلَادَتِهَا وَشَبَابِهَا وَهِرَمِهَا، وَلَهَا نُظُمٌ لَا تَسْتَطِيعُ تَبْدِيلَهَا.

وَلَيْسَتِ الْمُمَاثَلَةُ بِرَاجِعَةٍ إِلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْإِنْسَانَ فِي التَّفْكِيرِ وَالْحَضَارَةِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَ الْفِكْرِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ. وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ نِظَامُ دَوْلَةٍ وَلَا شَرَائِعُ وَلَا رُسُلٌ تُرْسَلُ إِلَيْهِنَّ لِانْعِدَامِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء: ٤٤] فَذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ حِينَ نَرَاهَا بَهِجَةً عِنْدَ حُصُولِ مَا يُلَائِمُهَا فَنَرَاهَا مَرِحَةً فَرِحَةً. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَا سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَهِيَ لَا تَفْقَهُ أَصْلَهَا وَلَكِنَّهَا تُحِسُّ بِأَثَرِهَا فَتَبْتَهِجُ، وَلِأَنَّ فِي كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا خَصَائِصَ لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ مِنْ جِنْسِهِ وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا صَرْفُ الْأَفْهَامِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ الْخَلْقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَجُمْلَةُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ الْمُرَادِ بِهِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى، وَفْقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

[الْأَنْعَام: ١٢] .

وَقِيلَ الْكِتَابُ الْقُرْآن. وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بِالْغَرَضِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَقَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ بَسَطَ فَخْرُ الدِّينِ بَيَانَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» .

وَالتَّفْرِيطُ: التَّرْكُ وَالْإِهْمَالُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانَهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١] .

وَالشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَحْوَالُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَشَمِلَ أَحْوَالَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُقَدَّرَةٌ عِنْدِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ آنِفًا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ وَصِفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ كُلِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إِلْقَاءً لِلْحَذَرِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ مِنْ تَعْذِيبِهَا وَإِذَا كَانَ يُقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَالِاقْتِصَاصُ مِنَ الْإِنْسَانِ لَهَا أَوْلَى بِالْعَدْلِ. وَقَدْ

ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ شَكَرَ لِلَّذِي سَقَى الْكَلْبَ الْعَطْشَانَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ امْرَأَةً النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَمَاتَتْ جوعا.

[٣٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٣٩]

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلَمْ يَسْتَمِعُوا لَهَا، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يَهْتَدُونَ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةً، أَيْ عَاطِفَةً كَلَامًا مُبْتَدَأً لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِق ولكنّه ناشيء عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَرِّفَ النَّاسَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَيَدُلَّهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عَنِ الِاهْتِدَاءِ لِذَلِكَ، وَعَنِ التَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ

فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُنَاسِبَةُ وُقُوعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ جُمْلَةِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٣٨] الْآيَةَ قَدْ تَعَرَّضْنَا إِلَيْهَا آنِفًا.

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى أَحْوَالِهِمْ عُمُومًا وَخُصُوصًا.

وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي ضَلَالِ عَقَائِدِهِمْ وَالِابْتِعَادِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِحَالِ قَوْمٍ صُمٍّ وَبُكْمٍ فِي ظَلَامٍ. فَالصَّمَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَلَقِّي هُدَى مَنْ يَهْدِيهِمْ،

وَالْبَكَمُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاسْتِرْشَادِ مِمَّنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَالظَّلَامُ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّبَصُّرِ فِي الطَّرِيقِ أَوِ الْمَنْفَذِ الْمُخْرِجِ لَهُمْ مِنْ مَأْزِقِهِمْ.

وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الظُّلُماتِ وَلَمْ يُوصَفُوا بِأَنَّهُمْ عُمْيٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الْإِسْرَاء: ٩٧] لِيَكُونَ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا مَا يَصْلُحُ لِشَبَهِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالَّذِي أَصَارَهُمْ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضَّلَالِ يُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الدَّاخِلِ فِيهِ وَبَيْنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

. فَهَذَا التَّمْثِيلُ جَاءَ عَلَى أَتَمِّ شُرُوطِ التَّمْثِيلِ. وَهُوَ قَبُولُهُ لِتَفْكِيكِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَتَيْنِ إِلَى تَشْبِيهَاتٍ مُفْرَدَةٍ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:

كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهادى كَوَاكِبُهْ

وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ جَارٍ عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِ الظُّلْمَةِ مُفْرَدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَظُلْمَةِ الْجَهْلِ، وَظُلْمَةِ الْعِنَادِ.

وَقَوْلُهُ: صُمٌّ وَبُكْمٌ خَبَرٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ خَبَرٌ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَا يَجُوزُ فِي النُّعُوتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ الْعَطْفِ وَتَرْكِهِ.

وَقَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمُ الْعَجِيبَةَ تُثِيرُ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا بَالُهُمْ لَا يَهْتَدُونَ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ فَلَا يَهْتَدُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ هُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ بِالْحَذْفِ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ، وَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الْأَنْعَام: ٣٥] .

وَمَعْنَى إِضْلَالِ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ الضَّلَالَ بِأَنْ يَخْلُقَ الضَّالَّ بِعَقْلٍ قَابِلٍ لِلضَّلَالِ مُصِرٍّ عَلَى ضَلَالِهِ عَنِيدٍ عَلَيْهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي مَبَادِئِ الضَّلَالِ كَمَا يَعْرِضُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَوَعَظَهُ وَاعِظٌ أَوْ

خَطَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ خَاطِرٌ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ مَنَعَهُ إِصْرَارُهُ مِنَ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ فَلَا يَزَالُ يَهْوِي بِهِ فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى غَايَةِ التَّخَلُّقِ بِالضَّلَالِ فَلَا يَنْكَفُّ عَنْهُ. وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ

إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: ٤، ٥]، وَدَلَّ عَلَيْهِ

قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

. وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَهُوَ تَصَرُّفُ الْقَدَرِ.

وَلَهُ اتِّصَالٌ بِنَامُوسِ التَّسَلْسُلِ فِي تَطَوُّرِ أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي تَصَرُّفَاتٍ بِعُقُولِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَهِيَ سِلْسِلَةٌ بَعِيدَةُ الْمَدَى اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ هَذَا الْإِضْلَالُ بِالْأَمْرِ بِالضَّلَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا بِتَلْقِينِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَمَ مَنْ أَرَادَ إِضْلَالَهُ مِنِ انْتِشَالِهِ وَاللُّطْفِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِأَهْلِهِ. وَمَفْعُولُ يَشَأِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الشَّائِعُ فِي مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا.

وَالصِّرَاطُ هُوَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنُ. وَمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، لِأَنَّ السَّيْرَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْسَرُ عَلَى السَّائِرِ وَأَقْرَبُ وُصُولًا إِلَى الْمَقْصُودِ.

وَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءُ السَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فَمَنَّ عَلَيْهِ بِعَقْلٍ يَرْعَوِي مِنْ غَيِّهِ وَيُصْغِي إِلَى النَّصِيحَةِ فَلَا يَقَعُ فِي الْفَسَادِ فَاتَّبَعَ الدِّينَ الْحَقَّ، بِحَالِ السَّائِرِ فِي طَرِيقٍ وَاضِحَةٍ لَا يتحيّر وَلَا يخطىء الْقَصْدَ، وَمُسْتَقِيمَةٌ لَا تُطَوِّحُ بِهِ فِي طُولِ السَّيْرِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ أَيْضًا صَالِحٌ لِتَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦] . فَالدِّينُ يُشْبِهُ الصِّرَاطَ الْمُوَصِّلَ بِغَيْرِ عَنَاءٍ، وَالْهَدْيُ إِلَيْهِ شَبِيهُ الْجَعْلِ على الصِّرَاط.

[٤٠، ٤١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٤٠ إِلَى ٤١]

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ

(٤١)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَهْدِيدًا بِالْوَعِيدِ طَرْدًا لِلْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ، وَتَخَلَّلَهُ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى خَلْعِ الشِّرْكِ إِذْ لَيْسَ لِشُرَكَائِهِمْ نَفْعٌ بِأَيْدِيهِمْ، فَذُكِّرُوا بِأَحْوَالٍ قَدْ تعرض لَهُم يلجأون فِيهَا إِلَى اللَّهِ. وَأُلْقِي عَلَيْهِم سَأَلَ أَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهَلْ

يَسْتَمِرُّونَ مِنَ الْآنَ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أَوْ تَأْتِيَهُمُ الْقِيَامَة حِين يلجأون إِلَى الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَلَاتَ حِينَ إِيمَانٍ.

وَافْتَتَحَ هَذَا التَّهْدِيدَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ مُعْظَمَ مَا فِي الْقُرْآنِ مَأْمُورٌ الرَّسُولُ ﷺ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَدْ تَتَابَعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ بَعْدَ هَذِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَوَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ.

وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ تَرْكِيبٌ شَهِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، يُفْتَتَحُ بِمِثْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ.

وَ(رَأَى) فِيهِ بِمَعْنَى الظَّنِّ. يُسْنَدُ إِلَى تَاءِ خِطَابٍ تُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً مُلَازِمَةً حَرَكَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْفُتْحَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَدَدِ الْمُخَاطَبِ وَصِنْفِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ غَيْرَهُ، مُذَكَّرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيُجْعَلُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ غَالِبًا ضَمِيرَ خِطَابٍ عَائِدًا إِلَى فَاعِلِ الرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَمُسْتَغْنًى بِهِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ نَفْسَهُ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، فَالْمُخَاطَبُ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ بَابِ الظَّنِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا وَمَفْعُولُهَا وَاحِدًا (وَأُلْحِقَ بِأَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلَانِ: فَقَدَ، وَعَدِمَ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ فَقَدْتُنِي)، وَتَقَعُ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي، وَقَدْ يَجِيءُ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مَا يُعَلِّقُ فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ.

هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَحْلِيلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَجْعَلُ تِلْكَ الْجُمْلَةَ سَادَّةً مسدّ المفعولين تفصّيا مِنْ جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ مَفَاعِيلَ إِذْ يَجْعَلُونَهَا مُجَرَّدَ عَلَامَاتِ خِطَابٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى مُتَعَارَفِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْأَصْلِيِّ الْمُتَعَارَفِ مَعَ أَنَّ لِغَرَائِبَ الِاسْتِعْمَالِ أَحْوَالًا خَاصَّةً لَا يَنْبَغِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْهَا إِلَّا إِذَا قُصِدَ بَيَانُ أَصْلِ الْكَلَامِ أَوْ عَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هُوَ أَشَدُّ

غَرَابَةً وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الصُّورَةِ وَمَرْجِعُهُمَا مُتَّحِدٌ. وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي هَذَا التَّرْكِيبِ هُوَ جُمْلَةُ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.

وَإِنَّمَا تُرِكَتِ التَّاءُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَتْ ذَاتُ الْفَاعِلِ ذَاتَ الْمَفْعُولِ إِعْرَابًا وَرَامُوا أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا التَّرْكِيبَ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَوْنِهِ قَلِيلَ الْأَلْفَاظِ وَافِرَ الْمَعْنَى تَجَنَّبُوا مَا يُحْدِثُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ ضَمِيرَيْ خِطَابٍ مَرْفُوعٍ وَمَنْصُوبٍ مِنَ الثِّقَلِ فِي نَحْو أرأيتما كَمَا، وأ رأيتكم وَأَرَيْتُنَّكُنَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الغريبة فاستغنوا بالاختلاف

حَالَةِ الضَّمِيرِ الثَّانِي عَنِ اخْتِلَافِ حَالَةِ الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ اخْتِصَارًا وَتَخْفِيفًا، وَبِذَلِكَ تَأَتَّى أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّرْكِيبُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَثَلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ تَسْهِيلًا لِشُيُوعِ اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا لَا يُغَيَّرُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ لَا تُكْسَرُ تِلْكَ التَّاءُ فِي خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ وَلَا تُضَمُّ فِي خِطَابِ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ.

وَعَنِ الْأَخْفَشِ: أَخْرَجَتِ الْعَرَبُ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَلْزَمَتْهُ الْخِطَابَ، وَأَخْرَجَتْهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إِلَى مَعْنَى (أَمَّا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَجَعَلَتِ الْفَاءَ بَعْدَهُ فِي بَعْضِ اسْتِعْمَالَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الْكَهْف: ٦٣] فَمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ إِلَّا وَقَدْ أَخْرَجَتْ (أَرَأَيْتَ) لِمَعْنَى (أَمَّا) وَأَخْرَجَتْهُ أَيْضًا إِلَى مَعْنَى (أَخْبَرَنِي) فَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنَ اسْمِ الْمُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَتَلْزَمُ الْجُمْلَةَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ يَخْرُجُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَبَعْدَهُ الشَّرْطُ وَظَرْفُ الزَّمَانِ. اهـ.

فِي «الْكَشَّافِ»: مُتَعَلِّقُ الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَنْ تَدْعُونَ، ثُمَّ بَكَّتْهُمْ بِقَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ، أَيْ أَتَخُصُّونَ آلِهَتَكُمْ بِالدَّعْوَةِ أَمْ تَدْعُونَ اللَّهَ دُونَهَا بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ اهـ. وَجُمْلَةُ: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ هِيَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتَكُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بِهَذَا التَّرْكِيبِ الْخَاصِّ الْجَارِي مَجْرَى الْمَثَلِ، فَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ جَرَيَانُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى أَصْلِ بَابِهِ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ

إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولَيْهِ. فَمَنْ قَالَ لَكَ: رَأَيْتُنِي عَالِمًا بِفُلَانٍ. فَأَرَدْتَ التَّحَقُّقَ فِيهِ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ عَالِمًا بِفُلَانٍ. وَتَقُولُ لِلْمُثَنَّى: أَرَأَيْتُمَاكُمَا عَالِمَيْنِ بِفُلَانٍ، وَلِلْجَمْعِ أَرَأَيْتُمُوكُمْ وَلِلْمُؤَنَّثَةِ أَرَأَيْتِكِ- بِكَسْرِ التَّاءِ-.

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ فِي الْمَشْهُورِ- بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا- وَعَنْهُ رِوَايَةٌ بِجَعْلِهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلِفِ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ- الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، فَيَقُولُ: أَرَيْتَ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ-.

وَجُمْلَةُ: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ إِلَخ مُعْتَرضَة بني مَفْعُولَيْ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوَابُهَا لِدَلَالَةِ جُمْلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَيْهِ.

وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ: حُلُولُهُ وَحُصُولُهُ، فَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْيَانِ الْمَجِيءُ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِيهِ مَفْعُولُ الْإِتْيَانِ، فَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى

حُصُولِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِتْيَانِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ.

وَوَجْهُ إِعَادَةِ فِعْلِ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ مَعَ كَوْنِ حَرْفِ الْعَطْفِ مُغْنِيًا عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوِ السَّاعَةُ، هُوَ مَا يُوَجَّهُ بِهِ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ إِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُظْهَرِ بِحَيْثُ يُعَادُ لَفْظُهُ الصَّرِيحُ لِأَنَّهُ أَقْوَى اسْتِقْرَارًا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.

وَالِاهْتِمَامُ هُنَا دَعَا إِلَيْهِ التَّهْوِيلُ وَإِدْخَالُ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِأَنْ يُصَرَّحَ بِإِسْنَادِ هَذَا الْإِتْيَانِ لِاسْمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الدَّالِّ عَلَى أَمْرٍ مَهُولٍ لِيَدُلَّ تَعَلُّقُ هَذَا الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ عَلَى تَهْوِيلِهِ وَإِرَاعَتِهِ.

وَقَدِ اسْتَشْعَرَ الِاحْتِيَاجَ إِلَى تَوْجِيهِ إِعَادَةِ الْفِعْلِ هُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ وَجَّهَهُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَامِلَانِ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِكَوْنِ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ يُعَادُ الْعَامِلُ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارًا بِالتَّفَاوُتِ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ إِتْيَانِ السَّاعَةِ (أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَذَابِ اللَّهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ) أَوْ كَانَ الْعَامِلَانِ مُتَبَاعِدَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ وَبِعَذَابِ اللَّهِ الْمَحْقُ وَالرَّزَايَا فِي الدُّنْيَا فَيَعْقُبُهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ تَامَّةٍ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالسَّاعَةِ الْمُدَّةِ فَالْمَحْقُ الدُّنْيَوِيُّ كَثِيرٌ، مِنْهُ مُتَقَدِّمٌ وَمِنْهُ مُتَأَخِّرٌ إِلَى الْمَوْتِ، فَالتَّقَدُّمُ ظَاهِرٌ اهـ.

وَفِي تَوْجِيهِهِ نَظَرٌ إِذْ لَا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ.

وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَهْوِيلِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَقْدَرِ الْقَادِرِينَ. وَالْمُرَادُ عَذَابٌ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا يَضَّرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ بِطَلَبِ رَفْعِ عَذَابِ الْجَزَاءِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَإِنْذَارٌ.

وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا، أَيْ إِنْ أَدْرَكَتْكُمُ السَّاعَةُ.

وَتَقْدِيمُ أَغَيْرَ اللَّهِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ تَدْعُونَ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا جُمْلَةَ قَصْرٍ، أَيْ أَتُعْرِضُونَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ فَتَدْعُونَ غَيْرَهُ دُونَهُ كَمَا هُوَ دَأْبُكُمُ الْآنَ، فَالْقَصْرُ لِحِكَايَةِ حَالِهِمْ لَا لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْغَيْرِ. وَقَدْ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعَجُّبِ، أَيْ تَسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَالْكَلَامُ زِيَادَةٌ فِي الْإِنْذَار.

وجمل: ة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ. فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ. ذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى النَّظَرِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ إِذَا أَرَادُ اللَّهُ عَذَابَهُمْ لَا تَسْتَطِيعُ آلِهَتُهُمْ دَفْعَهُ عَنْهُمْ، فَهُمْ إِنْ تَوَخَّوُا الصِّدْقَ فِي الْخَبَرِ عَنْ هَذَا الْمُسْتَقْبِلِ أَعَادُوا

التَّأَمُّلَ فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ شَيْئًا لَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ إِنَّمَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِذَا صدقُوا وَقَالُوا: أندعو اللَّهَ، فَقَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآنَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُغْنِي فِي بَعْضِ الشَّدَائِدِ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي بَعْضٍ آخَرَ.

وَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ عَقِبَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مُوقِعَ النَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ.

فَحَرْفُ (بَلْ) لِإِبْطَالِ دَعْوَةِ غَيْرِ اللَّهِ. أَيْ فَأَنَا أُجِيبُ عَنْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَوَجْهُ تَوَلِّي الْجَوَابِ عَنْهُمْ مِنَ السَّائِلِ نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَمَّا كَانَ لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ إِلَّا إِقْرَارُهُ صَحَّ أَنْ يَتَوَلَّى السَّائِلُ الْجَوَابَ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢] .

وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى تَدْعُونَ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَعُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ أَصْنَامَهُمْ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَزْعُمُوا ذَلِكَ فِي حَالِ

مَا إِذَا أَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْهُمُ السَّاعَةُ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوْهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَسْتَصْحِبُ هَذَا الزَّعْمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: فَيَكْشِفُ عَطْفٌ عَلَى تَدْعُونَ، وَهَذَا إِطْمَاعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلِأَجْلِ التَّعْجِيلِ بِهِ قَدَّمَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَكَانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ. فَهُوَ شَبِيهٌ بِتَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ. وَمَفْعُولُ: تَدْعُونَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مَا تَدْعُونَهُ.

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِ (إِلَى) عَائِدٌ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَدْعُونَ أَيْ يَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَهُ إِلَى كَشْفِهِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إِطْمَاعٌ لَا وَعْدٌ.

وَعُدِّيَ فِعْلُ تَدْعُونَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ نِدَاءٌ فَكَأَنَّ الْمَدْعُوَّ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ إِلَى مَكَانِ الْيَأْسِ.

وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الْوَاقِعِ شَرْطًا، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ إِشَارَةً إِلَى مُقَابِلِهِ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْشِفْ، وَذَلِكَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا إِتْيَانُ السَّاعَةِ فَلَا يُكْشَفُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِتْيَانِهَا مَا يَحْصُلُ مَعَهَا مِنَ الْقَوَارِعِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ خَسْفٍ وَشِبْهِهِ فَيَجُوزُ كَشْفُهُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ. وَمِمَّا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا عَذَابُ الْجُوعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ

- إِلَى قَوْله- إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٠- ١٦] فُسِّرَتِ الْبَطْشَةُ بِيَوْمِ بَدْرٍ.

وَجُمْلَةُ: فَيَكْشِفُ إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ عَطْفٌ عَلَى إِيَّاهُ تَدْعُونَ، أَيْ فَإِنَّكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْنَامُ.

وَقَوْلُهُ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَذْهَلُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ لِمَا تَرَوْنَ مِنْ هَوْلِ الْعَذَابِ وَمَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ فَتَنْشَغِلُ أَذْهَانُهُمْ بِالَّذِي أَرْسَلَ الْعَذَابَ وَيَنْسَوْنَ الْأَصْنَامَ الَّتِي اعْتَادُوا أَنْ يَسْتَشْفِعُوا بِهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ، أَيْ وَتُعْرِضُونَ عَنِ الْأَصْنَامِ، إِذْ لَعَلَّهُمْ يُلْهمُون أَن يَسْتَدِلُّونَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَكْشِفُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ شَيْئًا، وَإِطْلَاقُ النِّسْيَانِ عَلَى التَّرْكِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: ٣٤]، أَيْ نُهْمِلُكُمْ كَمَا أَنْكَرْتُمْ لِقَاءَ اللَّهِ هَذَا الْيَوْمَ. وَمِنْ قَبِيلِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: ٥] .

وَفِي قَوْلِهِ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا تَبَعًا لِإِجْرَاءِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ. وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ آئِلٌ إِلَى الِاخْتِلَاف اللَّفْظِيّ.

[٤٢- ٤٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٥]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)

لَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِتَوَقُّعِ الْعَذَابِ أَعْقَبَهُ بِالِاسْتِشْهَادِ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ بِأُمَمٍ مِنْ قَبْلُ، لِيَعْلَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بِالشِّرْكِ.

وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْذَارِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٠]، وَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافِيَّةً إِذْ كَانَتِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافًا. وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِلَامِ الْقَسَمِ

وَ(قَدْ) لِتَوْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. نَزَلَ السَّامِعُونَ الْمُعَرَّضُ بِإِنْذَارِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعْرَاضِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُمْ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلْنا بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ مُعَامَلَةِ أُمَمِهِمْ إِيَّاهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلَكَ بِهِ قَوْمُكَ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:

فَكَذَّبُوهُمْ.

وَلَمَّا كَانَ أَخْذُهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مُقَارِنًا لِزَمَنِ وُجُودِ رُسُلِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ كَانَ الْمَوْقِعُ لِفَاءِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَرْأَى رُسُلِهِمْ وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَيَّدَ رُسُلَهُ وَنَصَرَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ لِأَنَّ أَخْذَ الْأُمَمِ بِالْعِقَابِ فِيهِ حِكْمَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: زَجْرُهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَالثَّانِيَةُ: إِكْرَامُ الرُّسُلِ بِالتَّأْيِيدِ بِمَرْأًى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِيهِ تَكْرِمَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِإِيذَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ عَلَى مكذّبيه.

وَمعنى فَأَخَذْناهُمْ أَصَبْنَاهُمْ إِصَابَةَ تَمَكُّنٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَخْذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٦] .

وَقَدْ ذُكِرَ مُتَعَلِّقُ الْأَخْذِ هُنَا لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِشَيْءٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ الْآتِي بُعَيْدَ هَذَا.

وَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧] . وَقَدْ فُسِّرَ الْبَأْسَاءُ بِالْجُوعِ وَالضَّرَّاءُ بِالْمَرَضِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنَ الْعَذَابِ كَانَ أَصْنَافًا كَثِيرَةً. وَلَعَلَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ اعْتَبَرَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا بِدَعْوَةِ النَّبِيءِ ﷺ.

وَ(لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي. جُعِلَ عِلَّةً لِابْتِدَاءِ أَخْذِهِمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ.

وَمَعْنَى يَتَضَرَّعُونَ يَتَذَلَّلُونَ لِأَنَّ الضَّرَاعَةَ التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ.

وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ لَهُمْ عَذَابًا هَيِّنًا قَبْلَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، كَمَا قَالَ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ

الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السَّجْدَة: ٢١] وَهَذَا مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِهِ الْمُمَازِجَةِ لِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ سَيُصِيبُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ قَبْلَ

الِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ اسْتِئْصَالُ السَّيْفِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ إِظْهَارًا لِكَوْنِ نَصْرِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِمْ كَانَ بِيَدِهِ وَيَدِ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ. وَذَلِكَ أَوْقَعُ عَلَى الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ رُوعِيَ حَالُ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَهُمْ حَاضِرُونَ. فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، فَإِنَّ (لَوْلَا) هُنَا حَرْفُ تَوْبِيخٍ لِدُخُولِهَا عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضَوِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَتْ (لَوْلَا) حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ.

وَالتَّوْبِيخُ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحَاضِرِينَ دُونَ الْمُنْقَرِضِينَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. فَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ إِيمَاءٌ إِلَى مُسَاوَاةِ الْحَالَيْنِ وَتَوْبِيخٌ لِلْحَاضِرِينَ بِالْمُهِمِّ مِنَ الْعِبْرَةِ لِبَقَاءِ زَمَنِ التَّدَارُكِ قَطْعًا لِمَعْذَرِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ (لَوْلَا) هُنَا لِلتَّمَنِّي عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَيَكُونَ التَّمَنِّي كِنَايَةً عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْأَمْرَ الْمُتَمَنَّى فَيَكُونَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ، فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْفَرَحِ

فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ»

الْحَدِيثَ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ الْمُضَافِ مَعَ جُمْلَتِهِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ جُمْلَتِهِ، وَأَنَّهُ زَمَنٌ يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْإِسْرَاعِ بِالتَّضَرُّعِ مِمَّا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْبَأْسِ.

وَالْبَأْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّدَّةُ عَلَى الْعَدُوِّ وَغَلَبَتُهُ. وَمَجِيءُ الْبَأْسِ: مَجِيءُ أَثَرِهِ، فَإِنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَلَبِهِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْحُدُوثِ وَالْحُصُولِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُدُوثِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ بِتَنَقُّلِ الْخُطُوَاتِ.

وَلَمَّا دَلَّ التَّوْبِيخُ أَوِ التَّمَنِّي عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَطَفَ عَلَيْهِ بِ (لَكِنْ) عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ التَّضَرُّعَ يَنْشَأُ عَنْ لِينِ الْقَلْبِ فَكَانَ نَفْيُهُ الْمُفَادُ بِحَرْفِ التَّوْبِيخِ نَاشِئًا عَنْ ضِدِّ اللِّينِ وَهُوَ الْقَسَاوَةُ، فَعَطَفَ بِ لكِنْ.

وَالْمَعْنَى: وَلَكِنِ اعْتَرَاهُمْ مَا فِي خِلْقَتِهِمْ مِنَ الْمُكَابَرَةِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنِ الْبَاطِلِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَتَأَثَّرُ فَشُبِّهَتْ بِالشَّيْءِ الْقَاسِي. وَالْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ.

وَقَدْ وَجَدَ الشَّيْطَانُ مِنْ طِبَاعِهِمْ عَوْنًا عَلَى نَفْثِ مُرَادِهِ فِيهِمْ فَحَسُنَ لَهُمْ تِلْكَ الْقَسَاوَةُ وَأَغْرَاهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى آثَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الضَّلَالَ يَنْشَأُ عَنِ اسْتِعْدَادِ اللَّهِ فِي خِلْقَةِ النَّفْسِ.

وَالتَّزْيِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَيْنًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤] .

وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ. وَالنِّسْيَانُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ٤١] . وَظَاهِرُ تَفَرُّعِ التَّرْكِ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ. وَ(مَا) مَوْصُولَةٌ مَاصِدْقُهَا الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، أَيْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ الْفِطْنَةِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ. وَمَعْنَى ذُكِّرُوا بِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ عِقَابَهُ الْعَظِيمَ بِمَا قَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَ(لَمَّا) حَرْفُ شَرْطٍ يَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ وُجُودِ جَوَابِهِ بِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ مِثْلَ بَقِيَّةِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ.

وَقَوْلُهُ: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ جَوَاب فَلَمَّا وَالْفَتْحُ ضِدَّ الْغَلْقِ، فَالْغَلْقُ:

سَدُّ الْفُرْجَةِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاجْتِيَازُ مِنْهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا بِبَابٍ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الْحَائِطِ فَلَا تُسَمَّى غَلْقًا.

وَالْفَتْحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ الْحَاجِزِ غَيْرَ حَاجِزٍ وَقَابِلًا لِلْحَجْزِ، كَالْبَابِ حِينَ يُفْتَحُ. وَلِكَوْنِ مَعْنَى الْفَتْحِ وَالْغَلْقِ نِسْبِيَّيْنِ بَعْضُهُمَا مِنَ الْآخَرِ قِيلَ لِلْآلَةِ الَّتِي يُمْسَكُ بِهَا الْحَاجِزُ وَيُفْتَحُ بِهَا مِفْتَاحًا وَمِغْلَاقًا، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ الْفَتْحُ بَعْدَ تَعَقُّلِ الْغَلْقِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَضِيًا أَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُرَادَ هَاهُنَا كَانَتْ مُغْلَقَةً وَقْتَ أَنْ أُخِذُوا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا أَبْوَابُ الْخَيْرِ لِأَنَّهَا الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.

فَالْفَتْحُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِإِزَالَةِ مَا يُؤْلِمُ وَيَغُمُّ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ٩٦] . وَمِنْهُ تَسْمِيَة النَّصْر فتحنا لِأَنَّهُ إِزَالَةُ غَمِّ الْقَهْرِ.

وَقَدْ جَعَلَ الْإِعْرَاضَ عَمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَقْتًا لِفَتْحِ أَبْوَابِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الِاتِّعَاظِ بِنُذُرِ الْعَذَابِ رَفَعْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٤، ٩٥] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَتَحْنا- بِتَخْفِيفِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ

وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِتَشْدِيدِهَا- لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفَتْحِ بِكَثْرَتِهِ كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ.

وَلَفْظُ (كُلِّ) هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:

بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَخَنْسَاءَ تَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ رَجَّافٍ مِنَ الرَّمْلِ فَارِدِ

أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ يَبْتَغُونَهُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ شَيْءٍ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْخَيْرِ خَاصَّةً بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا وَبِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: ٧٩]، فَهُنَالِكَ وَصْفٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ كُلَّ شَيْءٍ صَالِحٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الْكَهْف:

٧٩] أَيْ صَالِحَةٍ.

وحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْفَرَحِ هُنَا هُوَ الِازْدِهَاءُ وَالْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ وَنِسْيَانُ الْمُنْعِمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: ٧٦] . قَالَ الرَّاغِبُ: وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي الْفَرَحِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: ٥٨] . وَ(إِذَا) ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي.

وَمُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا هُوَ الْإِمْهَالُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اللَّهَ وَيُوَحِّدُونَهُ فَتُطَهَّرُ

نُفُوسُهُمْ، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالضَّرِّ وَالْخَيْرِ لِيَسْتَقْصِيَ لَهُمْ سَبَبَيِ التَّذَكُّرِ وَالْخَوْفِ، لِأَنَّ مِنَ النُّفُوسِ نُفُوسًا تَقُودُهَا الشِّدَّةُ وَنُفُوسًا يَقُودُهَا اللِّينُ.

وَمَعْنَى الْأَخْذِ هُنَا الْإِهْلَاكُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَخْذٌ لَا هَوَادَةَ فِيهِ.

وَالْبَغْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الْبَغْتِ وَهُوَ الْفَجْأَةُ، أَيْ حُصُولُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ عِنْدَ مَنْ حَصَلَ لَهُ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْخَفَاءَ. فَلِذَلِكَ قُوبِلَتْ بِالْجَهْرَةِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَهُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، أَيْ مُبَاغِتِينَ لَهُمْ، أَوْ مُؤَوَّلًا بَاسِمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ مَبْغُوتِينَ، وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: ١٠٢] .

وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (إِذَا) فُجَائِيَّةٌ. وَهِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَحَرْفٌ عِنْدَ نُحَاةِ الْكُوفَةِ.

وَالْمُبْلِسُونَ الْيَائِسُونَ مِنَ الْخَيْرِ الْمُتَحَيِّرُونَ، وَهُوَ مِنَ الْإِبْلَاسِ، وَهُوَ الْوُجُومُ

وَالسُّكُوتُ عِنْدَ طَلَبِ الْعَفْوِ يَأْسًا مِنَ الِاسْتِجَابَةِ.

وَجُمْلَةُ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَخَذْناهُمْ، أَيْ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ الِاسْتِئْصَالِ. فَلَمْ يُبْقِ فِيهِمْ أَحَدًا.

وَالدَّابِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ دَبَرَهُ مِنْ بَابِ كَتَبَ، إِذَا مَشَى مِنْ وَرَائِهِ. وَالْمَصْدَرُ الدُّبُورُ- بِضَمِّ الدَّالِّ-، وَدَابِرُ النَّاسِ آخِرُهُمْ، وَذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ الدُّبُرِ، وَهُوَ الْوَرَاءُ، قَالَ تَعَالَى:

وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ [الْحجر: ٦٥] . وَقَطْعُ الدَّابِرِ كِنَايَةٌ عَنْ ذَهَابِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْصِلَ يَبْدَأُ بِمَا يَلِيهِ وَيَذْهَبُ يَسْتَأْصِلُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ آخِرَهُ وَهُوَ دَابِرُهُ، وَهَذَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحجر: ٦٦] .

وَالْمرَاد بالذين ظَلَمُوا الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي أَنْ يَعْتَرِفُوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الشِّرْكَ يَسْتَتْبِعُ مَظَالِمَ عِدَّةً لِأَنَّ أَصْحَابَ الشِّرْكِ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَرْعٍ يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ.

وَجُمْلَةُ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ بِمَا اتَّصَلَ بِهَا. عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اعْتِرَاضًا تَذْيِيلِيًّا فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً. وَأَيًّا مَا كَانَ مَوْقِعُهَا فَفِي الْمُرَادِ مِنْهَا اعْتِبَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ تَلْقِينًا لِلرَّسُولِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِ رُسُلَهُ وَأَوْلِيَاءَهُمْ وَإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصْرَ نِعْمَةٌ بِإِزَالَةِ فَسَادٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ فِي تَذْكِيرِ اللَّهِ النَّاسَ بِهِ إِيمَاءً إِلَى تَرَقُّبِ الْأُسْوَةِ بِمَا حَصَلَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ أَنْ يَتَرَقَّبُوا نَصْرَ اللَّهِ كَمَا نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَصْدَرًا بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، عُدِلَ عَنْ نَصْبِهِ وَتَنْكِيرِهِ إِلَى رَفْعِهِ وَتَعْرِيفِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢] .

ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحَمْدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى نِعْمَةٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا.

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَقْتَضِي حَمْدَهُ.

ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءُ حَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ قِبَلِ جَلَالِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ وَتَدْرِيجِهِمْ فِي دَرَجَاتِ الْإِمْهَالِ إِلَى أَنْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءُ اللَّهِ تَعَالَى ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ، تَعْرِيضًا بِالِامْتِنَانِ عَلَى الرَّسُولِ وَالْمُسْلِمِينَ.

وَاللَّامُ فِي الْحَمْدُ لِلْجِنْسِ، أَيْ وَجِنْسُ الْحَمْدِ كُلُّهُ الَّذِي مِنْهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعْمَةِ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ.

وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ عِنْدَ هَلَاكِ الظَّلَمَةِ، لِأَنَّ هَلَاكَهُمْ صَلَاحٌ لِلنَّاسِ، وَالصَّلَاحُ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ. وَهَذَا الْحَمْدُ شُكْرٌ لِأَنَّهُ مُقَابِلُ نِعْمَةٍ.

وَإِنَّمَا كَانَ هَلَاكُهُمْ صَلَاحًا لِأَنَّ الظُّلْمَ تَغْيِيرٌ لِلْحُقُوقِ وَإِبْطَالٌ لِلْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ، فَإِذَا تَغَيَّرَ الْحَقُّ وَالصَّلَاحُ جَاءَ الدَّمَارُ وَالْفَوْضَى وَافْتُتِنَ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمْ فَإِذَا هَلَكَ الظَّالِمُونَ عَادَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مِيزَانُ قِوَامِ الْعَالَمِ.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

[٤٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٤٦]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ إِلَى الْجِدَالِ مَعَهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ الْكَلَامُ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الْأَنْعَام: ١٩] وَمَا تَفَنَّنَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ وَذِكْرِ الْقَوَارِعِ وَالْوَعِيدِ إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَاتِ. وَتَكْرِيرُ الْأَمر بالْقَوْل للْوَجْه الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ.

وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ.

وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي أَرَأَيْتُمْ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مِثْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ.

وَالْأَخْذُ: انْتِزَاعُ الشَّيْءِ وَتَنَاوُلُهُ مِنْ مَقَرِّهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي السَّلْبِ وَالْإِعْدَامِ، لِأَنَّ السَّلْبَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَخْذِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ تَمْثِيلًا لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعْطِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِذَا أَزَالَهَا كَانَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ كَحَالَةِ أَخْذِ مَا كَانَ

أَعْطَاهُ، فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِعْدَامِ الْخَالِقِ بَعْضَ مَوَاهِبِ مَخْلُوقِهِ بِهَيْئَةِ انْتِزَاعِ الْآخِذِ شَيْئًا مِنْ مقرّه. فالهيئة المشبّه هُنَا عَقْلِيَّةٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ وَالْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهَا مَحْسُوسَةٌ. وَالْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ الْعُقُولُ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْمَعْقُولَاتِ.

وَالسَّمْعُ مَصْدَرٌ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ فَكَانَ فِي قُوَّةِ الْجَمْعِ، فَعَمَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَمْعِهِ.

وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْعَيْنُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: يُطْلَقُ الْبَصَرُ عَلَى حَاسَّةِ الْإِبْصَارِ وَلِذَلِكَ جُمِعَ لِيَعُمَّ بِالْإِضَافَةِ جَمِيعَ أَبْصَارِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَعَلَّ إِفْرَادَ السَّمْعِ وَجَمْعَ الْأَبْصَارِ جَرَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ تَمَامُ الْفَصَاحَةِ مِنْ خِفَّةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مُفْرَدًا وَالْآخَرُ مَجْمُوعًا عِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا، فَإِنَّ فِي انْتِظَامِ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فِي تَنَقُّلِ اللِّسَانِ سِرًّا عَجِيبًا مِنْ فَصَاحَةِ كَلَامِ الْقُرْآنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالنَّظْمِ. وَكَذَلِكَ نَرَى مَوَاقِعَهَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٢٦] .

وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ سَبَبُ إِمْدَادِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ.

وَقَوْلُهُ: مَنْ إِلهٌ مُعَلِّقٌ لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ أَعَلِمْتُمْ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَمْ أَنْتُمْ فِي شَكٍّ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْجَاءُ السَّامِعِينَ إِلَى النَّظَرِ فِي جَوَابِهِ فَيُوقِنُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْعُقُولِ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَخْلُقُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْقُرْآنُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] .

ومَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وإِلهٌ خَبَرُ مَنْ، وغَيْرُ اللَّهِ صِفَةُ إِلهٌ، ويَأْتِيكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ أَيْضًا، وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ هُوَ إِلَهٌ، أَيْ لَيْسَ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِي بِذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَمَعْنَى يَأْتِيكُمْ بِهِ يُرْجِعُهُ، فَإِنَّ أَصْلَ أَتَى بِهِ، جَاءَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَسْلُوبُ إِذَا اسْتَنْقَذَهُ مُنْقِذٌ يَأْتِي بِهِ إِلَى مَقَرِّهِ أَطْلَقَ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ عَلَى

إِرْجَاعِهِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً.

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ، عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهَا. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ قَلِيلٌ فِي الضَّمِيرِ، وَلَكِنَّهُ فَصِيحٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣٦]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤]، وَإِيثَارُهُ هُنَا عَلَى أَنْ يُقَالَ: يَأْتِيكُمْ بِهَا، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى خُصُوصِ الْقُلُوبِ.

وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، اخْتِيرَ فِيهِ التَّهْدِيدُ بِانْتِزَاعِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَسَلْبِ الْإِدْرَاكِ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ هَذِهِ الْمَوَاهِبِ بَلْ عَدِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها [الْأَنْعَام: ٢٥] . فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ إِجْدَاءِ هَذِهِ الْمَوَاهِبِ عَلَيْهِمْ مَعَ صَلَاحِيَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ، وَنَاسَبَ هُنَا أَنْ يُهَدَّدُوا بِزَوَالِهَا بِالْكُلِّيَّةِ إِنْ دَامُوا عَلَى تَعْطِيلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا أَمَرَ بِهِ خَالِقُهَا.

وَقَوْلُهُ انْظُرْ تَنْزِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الْآيَاتِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا حَتَّى إِنَّ النَّاظِرَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَاهَا، فَأَمَّا الْأَمْرُ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ إِعْرَاضِهِمْ.

وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا غَمَرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَبْطَلَ شُبَهَهُمْ عَقَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ قُوَّةِ الْأَدِلَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْإِعْرَاضِ وَالْمُكَابَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٠] . وَهَذَا تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْبَابِهِمْ فَمَا كَانَ غَيْرُهُ جَدِيرًا بِأَن يعْبدُونَ.

وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا بِأَنْ تَأْتِيَ مَرَّةً بِحُجَجٍ مِنْ مُشَاهَدَاتٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأُخْرَى بِحُجَجٍ مِنْ دَلَائِلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمَرَّةً بِحُجَجٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا اللَّهُ، فَالْآيَاتُ هُنَا هِيَ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهِيَ مُتَّحِدَةٌ فِي الْغَايَةِ مُخْتَلِفَةُ

الْأَسَالِيبِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الِاقْتِرَابِ مِنْ تَنَاوُلِ الْأَفْهَامِ عَامِّهَا وَخَاصِّهَا، وَهِيَ أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ فِي تَرْكِيبِ دَلَائِلِهَا مِنْ جِهَتَيِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جِهَتَيِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَمِنَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، بِحَيْثُ تَسْتَوْعِبُ الْإِحَاطَةَ بِالْأَفْهَامِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلْعَهْدِ، وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَام: ١] .

وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، فَهِيَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَةَ أَدْخَلُ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، وَهُوَ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ قُوَّةِ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْإِعْرَاضِ وَالْمُكَابَرَةِ مَعَ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِالتَّعْجِيبِ بِهِ.

وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِي جُمْلَةِ هُمْ يَصْدِفُونَ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِعْرَاضِ مِنْهُمْ. وَتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقَوِّي الْحُكْمِ.

ويَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا شَدِيدًا. يُقَالُ: صَدَفَ صَدْفًا وَصُدُوفًا، إِذَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ وَأَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ. وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ أَنْ يَكُونَ قَاصِرًا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولِهِ بِ (عَنْ) .

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْقَامُوسِ» . وَقَلَّ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها

[الْأَنْعَام: ١٥٧] قَدَّرَ: وَصَدَفَ النَّاسَ عَنْهَا، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْأَسَاسِ وَلَا عَلَّقَ عَلَى تَقْدِيرِهِ شَارِحُوهُ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآيَاتِ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَصْدِفُونَ لِظُهُورِهِ، أَيْ صَدَفَ عَن الْآيَات.

[٤٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٤٧]

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)

اسْتِئْنَافٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّوَعُّدِ وَإِعْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لَا يَرْجِعُ بِالسُّوءِ إِلَّا عَلَيْهِمْ وَلَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ [الْأَنْعَام: ٢٦] .

وَالْقَوْلُ فِي قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً الْآيَةَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَيْهِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

وَجِيءَ فِي هَذَا وَفِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِكَافِ الْخِطَابِ مَعَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ دُونَ قَوْلِهِ:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٦] الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا وَنَظِيرَهُ أَبْلَغُ فِي التَّوْبِيخِ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُكْنَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ أَمْكَنُ وُقُوعًا مِنْ سَلْبِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْعُقُولِ لِنُدْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ، فَكَانَ

التَّوْبِيخُ عَلَى إِهْمَالِ الْحَذَرِ مِنْ إِتْيَانِ عَذَابِ اللَّهِ، أَقْوَى مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى الِاطْمِئْنَانِ مِنْ أَخْذِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَاجْتَلَبَ كَافَ الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ التَّنْبِيهُ دُونَ أَعْيَانِ الْمُخَاطَبِينَ.

وَالْبَغْتَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا.

وَالْجَهْرَةُ: الْجَهْرُ، ضِدَّ الْخُفْيَةِ، وَضِدَّ السِّرِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥] .

وَقَدْ أَوْقَعَ الْجَهْرَةَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبَغْتَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تُقَابَلَ الْبَغْتَةُ بِالنَّظْرَةِ أَوْ أَنْ تُقَابَلَ الْجَهْرَةُ بِالْخُفْيَةِ، إِلَّا أَنَّ الْبَغْتَةَ لَمَّا كَانَتْ وُقُوعَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ كَانَ حُصُولُهَا خَفِيًّا فَحَسُنَ مُقَابَلَتُهُ بِالْجَهْرَةِ، فَالْعَذَابُ الَّذِي يَجِيءُ بَغْتَةً هُوَ الَّذِي لَا تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ وَلَا إِعْلَامٌ بِهِ. وَالَّذِي يَجِيءُ جَهْرَةً هُوَ الَّذِي تَسْبِقُهُ عَلَامَةٌ مِثْلَ الْكَسْفِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: ٢٤] أَوْ يَسْبِقُهُ إِعْلَامٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: ٦٥] . فَإِطْلَاقُ الْجَهْرَةِ عَلَى سَبْقِ مَا يَشْعُرُ بِحُصُولِ الشَّيْءِ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَغْتَةِ الْحَاصِلُ لَيْلًا وَمِنَ الْجَهْرَةِ الْحَاصِلُ نَهَارًا.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يُهْلَكُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ فَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَالْمَعْنَى لَا يُهْلَكُ بِذَلِكَ الْعَذَابِ إِلَّا الْكَافِرُونَ.

وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الْمُخَاطَبُونَ أَنْفُسُهُمْ فَأُظْهِرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، أَيْ مُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ وَظَالِمُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ.

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُهُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَحُلَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ تَكْرِمَةً لَهُمْ كَمَا أَكْرَمَ لُوطًا وَأَهْلَهُ، وَكَمَا أَكْرَمَ نُوحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٣٤] .

[٤٨، ٤٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٤٨ إِلَى ٤٩]

وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: ٤٦] .

وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ صُدُوفَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّلُونَ لَهُ بِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ آيَاتٍ عَلَى وَفْقِ مُقْتَرَحِهِمْ

وَأَنَّهُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِآيَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الْإِسْرَاء: ٩٠] إِلَى آخِرِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ لِلتَّبْلِيغِ وَالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لَا لِلتَّلَهِّي بِهِمْ بِاقْتِرَاحِ الْآيَاتِ.

وَعَبَّرَ بِ نُرْسِلُ دُونَ أَرْسَلْنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِرْسَالِ مُقَارِنًا لِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا وَمَا نُرْسِلُ، فَقَوْلُهُ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ حَالَانِ مُقَدَّرَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ وَمُحَقَّقَتَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي.

وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَّا فِي حَالَةِ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.

وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِهِمْ بِآيَةٍ كَمَا اقْتَرَحُوا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَمْ نُرْسِلِ الرَّسُولَ لِلْإِعْجَابِ بِإِظْهَارِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ.

وَكَنَّى بِالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ عَنِ التَّبْلِيغِ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ، فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْكِنَايَةِ إِيجَازٌ إِذِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ اللَّازِمِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلْزُومِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ آمَنَ لِلتَّفْرِيعِ، أَيْ فَمَنْ آمَنَ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فَلَا خَوْفٌ إِلَخْ.

وَ(مَنْ) الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ كَمَا يُرَجِّحُهُ عَطْفُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً لَا سِيَّمَا وَهِيَ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ لِقَوْلِهِ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. فَإِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً فَاقْتِرَانُ فَلا خَوْفٌ بِالْفَاءِ بَيِّنٌ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَوْصُولَةً فَالْفَاءُ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَاملَة الشَّرْط، والاستعمالات مُتَقَارِبَانِ.

وَمَعْنَى أَصْلَحَ فَعَلَ الصَّلَاحَ، وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، لِأَنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ بِشَرْعِهِ إِلَّا إِصْلَاحَ النَّاسِ كَمَا حَكَى عَنْ شُعَيْبٍ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:

٨٨] .

وَالْمَسُّ حَقِيقَتُهُ مُبَاشَرَةُ الْجِسْمِ بِالْيَدِ وَهُوَ مُرَادِفُ اللَّمْسِ وَالْجَسِّ، وَيُسْتَعَارُ لِإِصَابَةِ جِسْمٍ جِسْمًا آخَرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٧٣] . وَيُسْتَعَارُ أَيْضًا لِلتَّكَيُّفِ بِالْأَحْوَالِ كَمَا يُقَالُ: بِهِ مَسٌّ مِنَ الْجُنُونِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَاف: ٢٠١] .

وَجَمَعَ الضَّمَائِرَ الْعَائِدَةَ إِلَى (مِنْ) مُرَاعَاةً لِمَعْنَاهَا، وَأَمَّا إِفْرَادُ فِعْلِ آمَنَ وأَصْلَحَ

فَلِرَعْيِ لَفْظِهَا.

وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ. وَالْفِسْقُ حَقِيقَتُهُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الْخَيْرِ. وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ وَتَجَاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] .

وَجِيءَ بِخَبَرِ (كَانَ) جملَة مضارعية لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ فِسْقَهُمْ كَانَ مُتَجَدِّدًا مُتَكَرِّرًا، عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِ (كَانَ) أَيْضًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ لِأَنَّ (كَانَ) إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا انْقِضَاءُ خَبَرِهَا فِيمَا مَضَى دَلَّتْ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَبَرِ بِالْقَرِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النِّسَاء: ٩٦] .

[٥٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٠]

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ.

لَمَّا تَقَضَّتِ الْمُجَادَلَةُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ وَدَحْضِ تَعَالِيلِ إِنْكَارِهِمْ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنُبُوءَتِهِ إِلَّا إِذَا جَاءَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ هَوَاهُمْ، وَأُبْطِلَتْ شُبْهَتُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْأَنْعَام: ٤٨] وَكَانَ مُحَمَّدٌ ﷺ مِمَّنْ شَمِلَهُ لَفْظُ الْمُرْسَلِينَ، نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى إِبْطَالِ مَعَاذِيرِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ وَاقْتِرَانِهَا بِالْآيَاتِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يَتَحَدَّى الْأُمَّةَ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ مُرَادِهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَيْسَتِ الْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَتَحَدَّى الرَّسُولَ، فَآيَةُ صِدْقِ الرَّسُولِ تَجِيءُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ، فَلَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَلَكٌ أَوْ أَنَّهُ بُعِثَ لِإِنْقَاذِ النَّاسِ مِنْ أَرْزَاءِ الدُّنْيَا وَلِإِدْنَاءِ خَيْرَاتِهَا إِلَيْهِمْ لَكَانَ مِنْ عُذْرِهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ آيَاتٍ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَأَمَّا وَالرَّسُولُ مَبْعُوثٌ لِلْهُدَى فَآيَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْهُدَى وَأَنْ تَكُونَ مُعْجِزَتُهُ هُوَ مَا قَارَنَ دَعْوَتَهُ مِمَّا يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي زَمَنِهِمْ.

فَقَوْلُهُ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِإِبْلَاغِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] .

وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ مِنْ هُنَا إِلَى قَوْلِهِ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً.

وَالِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْيِ ادِّعَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ نَاظِرٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] وَقَوْلِهِ:

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ [الْأَنْعَام: ٧] وَقَوْلِهِ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٣٥] الْآيَةَ.

وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِنَفْيِ الْقَوْلِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى الرِّسَالَةِ فَلَا وَجْهَ لِاقْتِرَاحِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمَنْفِيِّ قَوْلُهَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجِيءَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ.

وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ تَقْوِيَةَ فعل القَوْل عِنْد مَا لَا تَكُونُ حَاجَةٌ

لِذِكْرِ الْمُوَاجَهِ بِالْقَوْلِ كَمَا هُنَا لِظُهُورِ أَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْقَوْلِ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: ٣١] مُجَرَّدًا عَنْ لَامِ التَّبْلِيغِ. فَإِذَا كَانَ الْغَرَضُ ذِكْرَ الْمُوَاجَهِ بِالْقَوْلِ فَاللَّامُ حِينَئِذٍ تُسَمَّى لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ فَالَّذِي اقْتَضَى اجْتِلَابَ هَذِهِ اللَّامِ هُنَا هُوَ هَذَا الْقَوْلُ بِحَيْثُ لَوْ قَالَهُ قَائِلٌ لَكَانَ جَدِيرًا بِلَامِ التَّبْلِيغِ.

وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهِيَ الْبَيْتُ أَوِ الصُّنْدُوقُ الَّذِي يَحْتَوِي مَا تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَمَا يَنْفَعُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ. وَالْمَعْنَى أَنِّي لَيْسَ لِي تَصَرُّفٌ مَعَ اللَّهِ وَلَا أَدَّعِي أَنِّي خَازِنُ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ وَأَرْزَاقِهِ.

وخَزائِنُ اللَّهِ مُسْتَعَارَةٌ لِتَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ وَإِعْطَاءِ الْخَيْرَاتِ النَّافِعَةِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا. شُبِّهَتْ تِلْكَ التَّعَلُّقَاتُ الصُّلُوحِيَّةُ وَالتَّنْجِيزِيَّةُ فِي حَجْبِهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ وَتَنَاوُلِهِمْ مَعَ نَفْعِهَا إِيَّاهُمْ، بِخَزَائِنِ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالثَّرْوَةِ الَّتِي تجمع الْأَمْوَال والأحبية وَالْخِلَعَ وَالطَّعَامَ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [المُنَافِقُونَ: ٧]، أَيْ مَا هُوَ مُودَعٌ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الْحجر: ٢١] .

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ قَوْلُهُ عِنْدِي لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُخْبَرِينَ بِهِ لَوْ كَانَ يَقُولُهُ.

وَقَوْلُهُ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عَطْفٌ عَلَى عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فَهُوَ فِي حَيِّزِ الْقَوْلِ الْمَنْفِيِّ. وَأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ عَطْفِ الْمَنْفِيَّاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُعَادَ مَعَهَا حَرْفُ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُتَعَاطِفَاتِ جَمِيعَهَا مَقْصُودَةٌ بِالنَّفْيِ بِآحَادِهَا

لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ. وَالْمَعْنَى لَا أَقُولُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ، أَيْ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا مُلَازِمًا لِصِفَةِ الرِّسَالَةِ. فَأَمَّا إِخْبَارُهُ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فَذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ اللَّهِ إِطْلَاعَهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ خَاصٍّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧] وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ.

وَعَطْفُ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ عَلَى لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ

بِإِظْهَارِ فِعْلِ الْقَوْلِ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْلِهِ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَعَلَّهُ لِدَفْعِ ثِقَلِ الْتِقَاءِ حَرْفَيْنِ: (لَا) وَحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي اقْتَضَاهُ مَقَامُ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّ ادِّعَاءَ مِثْلِهِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُؤَكَّدَ، أَيْ لَمْ أَدَّعِ أَنِّي مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨]، فَنَفْيُ كَوْنِهِ مَلَكًا جَوَابٌ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعَه ملك نذيرا. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَكُونَ مُقَارِنًا لِمَلَكٍ آخَرَ مُقَارَنَةَ تَلَازُمٍ كَشَأْنِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَشَرِ فَلذَلِك قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧] . فَالْمَعْنَى نَفْيُ مَاهِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ عَنْهُ لِأَنَّ لِجِنْسِ الْمَلَكِ خَصَائِصَ أُخْرَى مُغَايِرَةً لِخَصَائِصِ الْبَشَرِ. وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُكَلِّفُهُ عَنَتًا: إِنِّي لَسْتُ مِنْ حَدِيدٍ.

وَمِنْ تَلْفِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يَسْتَدِلَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَأْيِيدِ قَوْلِ أَصْحَابِهِ الْمُعْتَزِلَةِ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَعَ بُعْدِ ذَلِكَ عَنْ مَهْيَعِ الْآيَةِ. وَقَدْ تَابَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكَذَلِكَ دَأْبُهُ كَثِيرًا مَا يُرْغِمُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى مسايرة مذْهبه فتنزو عَصَبِيَّتُهُ وَتَنْزَوِي عَبْقَرِيَّتُهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي مَظِنَّتِهَا.

وَجُمْلَةُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَمَاذَا تَدَّعِي بِالرِّسَالَةِ وَمَا هُوَ حَاصِلُهَا لِأَنَّ الْجَهَلَةَ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَعْنَى النُّبُوءَةِ هُوَ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ الْمُتَبَرَّأُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ إِلَخْ، فَيُجَابُ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ، أَيْ لَيْسَتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا التَّبْلِيغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ.

فَمَعْنَى أَتَّبِعُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الشَّيْءِ وَمُلَازَمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمَشْيُ خَلْفَ الْمُتَّبَعِ- بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ-، أَيْ لَا أَحِيدُ عَنْ تَبْلِيغِ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَى إِجَابَةِ الْمُقْتَرَحَاتِ مِنْ إِظْهَارِ الْخَوَارِقِ أَوْ لِإِضَافَةِ الْأَرْزَاقِ أَوْ إِخْبَارٍ بِالْغَيْبِ، فَالتَّلَقِّي وَالتَّبْلِيغُ هُوَ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ كُنْهُ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْقَصْرُ

الْمُسْتَفَادُ هُنَا إِضَافِيٌّ، أَيْ دُونَ الِاشْتِغَالِ بِإِظْهَارِ مَا تَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْخَوَارِقِ لِلْعَادَةِ. وَالْغَرَضُ مِنَ الْقَصْرِ قَلْبُ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ رَسُولًا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِالْعَجَائِبِ

الْمَسْئُولَةِ.

وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي ضَلَّ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْمُعَانِدُونَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْأَنْعَام: ٤٨] .

وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا كَانَ لَا مَحَالَةَ نَاظِرًا إِلَى قَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَطَالِبِهِمْ بِاتِّبَاعِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ، أَيْ لَا أَتَّبِعُ فِي التَّبْلِيغِ إِلَيْكُمْ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي قَصْرَ تَصَرُّفِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام عَلَى الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ يَنْفِي مِنْ عُلَمَائِنَا جَوَازَ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ ﷺ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِأَنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَهَا أَدِلَّةٌ لِلْجَانِبَيْنِ، وَلَا مِسَاسَ لَهَا بِهَذَا الْقَصْرِ. وَمَنْ تَوَهَّمَهُ فَقَدْ أَسَاءَ التَّأْوِيلَ.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ.

هَذَا خِتَامٌ لِلْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، أَيْ قُلْ لَهُمْ هَذَا التَّذْيِيلَ عَقِبَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ.

وَشُبِّهَتْ حَالَةُ مَنْ لَا يَفْقَهُ الْأَدِلَّةَ وَلَا يُفَكِّكُ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ بِحَالَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَيْنَ يَقْصِدُ وَلَا أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ. وَشُبِّهَتْ حَالَةُ مَنْ يُمَيِّزُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بِحَالَةِ الْقَوِيِّ الْبَصَرِ حَيْثُ لَا تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْأَشْبَاحُ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَدِلَّتِهِمْ وَعُقْمِ أَقْيِسَتِهِمْ، وَلِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَوَضَعُوا الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، أَوْ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا وَالْحَالِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُمُ الَّتِي نَفَرُوا مِنْهَا لِيَعْلَمُوا أَيُّ الْحَالَيْنِ أَوْلَى بِالتَّخَلُّقِ.

وَقَوْلُهُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْفَاءِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَدَمَ اسْتِوَاءِ الْأَعْمَى والبصير بديهي لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ إِنْكَارُ عَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي أَنَّهُمْ بِأَيِّهِمَا أَشْبَهُ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] .

وَالتَّفَكُّرُ: جَوَلَانُ الْعَقْلِ فِي طَرِيقِ اسْتِفَادَةِ علم صَحِيح.

[٥١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥١]

وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)

الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [الْأَنْعَام: ٥٠] لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ لِذِكْرِ مَنْ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِ الْبَصِيرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.

وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠] وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَا يُوحَى بِهِ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الْإِعْجَازُ.

والَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُمَثَّلُونَ بِحَالِ الْبَصِيرِ.

وَعُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ الْمَدْحِ، وَمِنَ التَّعْلِيلِ بِتَوْجِيهِ إِنْذَارِهِ إِلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِنْذَارٌ نَافِعٌ، خِلَافًا لِحَالِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ، فَلَا يَخَافُونَهُ فَضْلًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى شُفَعَاءَ.

وأَنْ يُحْشَرُوا مَفْعُولُ يَخافُونَ، أَيْ يَخَافُونَ الْحَشْرَ إِلَى رَبِّهِمْ فَهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ خِيفَةَ أَنْ يَلْقَوُا اللَّهَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُمْ. وَخَوْفُ الْحَشْرِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِوُقُوعِهِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْركين لَا ينجع فِيهِمُ الْإِنْذَارُ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحَشْرِ فَكَيْفَ يَخَافُونَهُ.. وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٦] .

وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَنْ يُحْشَرُوا، أَيْ يُحْشَرُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذِهِ الْحَالُ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْخَوْفِ. فَمَضْمُونُ الْحَالِ مُعْتَقَدٌ لَهُمْ، أَيْ لَيْسُوا مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ لَا تُرَدُّ شَفَاعَتُهُمْ، فَهُمْ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ مِنْ دُونِهِ حَالٌ مِنْ وَلِيٌّ وشَفِيعٌ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ فِعْلُ يَخافُونَ،

أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌ دُونَ اللَّهِ وَلَا شَفِيعٌ دُونَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا.

وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا شُفَعَاءَ وَأَوْلِيَاءَ غَيْرَ اللَّهِ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] . وَلِصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا تَكَلُّفَاتٌ فِي مَعْنَى يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا وَفِي جَعْلِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُحْشَرُوا حَالًا لَازِمَةً، وَلَعَلَّهُ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِ فِي إِنْكَارِ الشَّفَاعَةِ.

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رَجَاءٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِإِنْذَارِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُرْجَى تَقْوَاهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ.

[٥٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٢]

وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٥١] لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى أَنْذَرَهُمْ وَلَازَمَهُمْ وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مُتَكَبِّرُو الْمُشْرِكِينَ. فَقَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هُنَا صِلَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنْسَبُ بِهَذَا الْحُكْمِ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَمَا أَنَّ تِلْكَ أَنْسَبُ بِالْحُكْمِ الَّذِي اقْتَرَنَتْ مَعَهُ مِنْهَا بِهَذَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الْإِضْمَارِ، فَيُقَالُ: وَلَا تَطْرُدْهُمْ، فَإِنَّ النَّبِيءَ ﷺ جَاءَ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ فَأَوْلَى النَّاسِ بِمُلَازَمَتِهِ الَّذِينَ هِجِّيرَاهُمْ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصٍ فَكَيْفَ يَطْرُدُهُمْ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمرَان: ٦٨] .

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيءِ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيءِ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ، لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ آهـ. وَسَمَّى الْوَاحِدِيُّ بَقِيَّةَ السِّتَّةِ: وَهُمْ صُهَيْبٌ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَالْمِقْدَادُ

بْنُ الْأَسْوَدِ، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ «فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ» إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ (جَمْعُ جُبَّةٍ) جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالُوا:

فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا فَإِذَا قُمْنَا فَأَقْعِدْهُمْ مَعَكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: نعم، طعما فِي إِيمَانِهِمْ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَوَقَعَ فِي «سُنَنِ» ابْنِ مَاجَهْ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ ﷺ الْأَقْرَعُ بن حَابِس وعبينة بْنُ حِصْنٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ. وَعُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ إِنَّمَا وَفَدَا مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ الْوُفُودِ. اهـ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي نَظِيرِ اقْتِرَاحِهِمَا.

وَفِي سَنَدِهِ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ أَوْ نَضْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْقَوِيِّ، وَفِيهِ السُّدِّيُّ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ سَنَدُهُ. وَسَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ، يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ

أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَصُهَيْبٌ وَأَشْبَاهُهُمْ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: ٥٣] .

وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ»: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ. فَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مَوَالِينَا وَعَبِيدَنَا وَعُتَقَاءَنَا كَانَ أعظم من صُدُورِنَا وَأَطْمَعَ لَهُ عِنْدَنَا وَأَرْجَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ وَتَصْدِيقِنَا لَهُ.

فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيءِ ﷺ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ وَإِلَامَ يَصِيرُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ الله هَذِه الْآيَة. فَلَمَّا نَزَلَتْ أَقْبَلَ عُمَرُ يَعْتَذِرُ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِقَوْمِهِمْ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَحْرِصُونَ حِرْصَهُ وَلَا يُوحِشُهُمْ أَنْ يُقَامُوا مِنَ الْمَجْلِسِ إِذَا حَضَرَهُ عُظَمَاءُ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَسَمَّاهُ طَرْدًا تَأْكِيدًا لِمَعْنَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ: وَهِيَ كَانَتْ أَرْجَحَ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِ أُولَئِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى

سَرَائِرِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ اسْتِغْنَاءَ دِينِهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الِاعْتِزَازِ بِأُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْقُسَاةِ، وَلِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْحِرْصَ عَلَى قُرْبِهِمْ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ أَوْلَى مِنَ الْحِرْصِ عَلَى قُرْبِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ الدِّينَ يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ يَرْغَبُ فِي النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات:

١٧] .

وَمَعْنَى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ بِهِ دُونَ الْأَصْنَامِ إِعْلَانًا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ الْقَائِلِ بِمَا يَقُولُهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ نِفَاقٌ وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ.

وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ الْيَوْمَ كُلَّهُ. فَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ قُصِدَ بِهِمَا اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ وَالْأَيَّامِ كَمَا يُقْصَدُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ. وَكَمَا يُقَالُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ. وَبِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ عُمُومُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَالْمَعْنَى وَلَا تَطْرُدِ الْمُصَلِّينَ، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَداةِ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِّ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّ

الْغَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَبِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الدَّالِّ- وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْغَدَاةِ.

وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَ مُخْلِصِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، أَيْ لَا يُرِيدُونَ حَظًّا دُنْيَوِيًّا.

وَالْوَجْهُ حَقِيقَةُ الْجُزْءِ مِنَ الرَّأْسِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ. وَيُطْلَقُ الْوَجْهُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا مَجَازًا مُرْسَلًا.

وَالْوَجْهُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلذَّاتِ عَلَى اعْتِبَارِ مُضَافٍ، أَيْ يُرِيدُونَ رِضَى اللَّهِ، أَي لَا يُرِيدُونَ إِرْضَاءَ غَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا [الْإِنْسَان: ٩]، وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٥] . فَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَدَعَوُا اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا طَعَنُوا فِي إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى النِّفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ صَحِيحٌ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ، وَشَهَادَةٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُجَرَّدُونَ عَنِ الْغَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَجُمْلَةُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ طَرْدِهِمْ، أَوْ إِبْطَالٌ لِعِلَّةِ الْهَمِّ بِطَرْدِهِمْ، أَوْ لِعِلَّةِ طَلَبِ طَرْدِهِمْ. فَإِنَّ إِبْطَالَ عِلَّةِ فِعْلِ الْمنْهِي عَنهُ يؤول إِلَى كَوْنِهِ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، وَلِذَا فُصِّلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ.

وَالْحِسَابُ: عَدُّ أَفْرَادِ الشَّيْءِ ذِي الْأَفْرَادِ وَيُطْلَقُ عَلَى إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي تَمْيِيزِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ بَعْضٍ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ تَتَبُّعِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْأَفْرَادِ.

وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى الْحِسْبَةِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-، وَهِيَ النَّظَرُ فِي تَمْيِيزِ أَحْوَالِ أَهْلِ السُّوقِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَضِدِّهَا. وَيُقَالُ: حَاسَبَ فُلَانًا عَلَى أَعْمَالِهِ إِذَا اسْتَقْرَاهَا وَتَتَبَّعَهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:

يُحَاسِبُ نَفْسَهُ بِكَمِ اشْتَرَاهَا فَالْحِسَابُ هُنَا مَصْدَرُ حَاسَبَ. وَالْمُرَادُ بِهِ تَتَبُّعُ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالنَّظَرُ فِيمَا تُقَابَلُ بِهِ مِنْ جَزَاءٍ.

وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حِسابِهِمْ وَقَوْلِهِ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَائِدِينَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وَهُوَ مُعَادٌ مَذْكُورٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ مَعَ قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِي مَجْلِسِكَ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَلَا يُطْرَدُونَ عَنْهُ وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَحْسِبَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لَهُمْ بِزَعْمِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ حُضُورَ

أُولَئِكَ فِي مَجْلِسِكَ يَصُدُّ كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ تُجَاهَ حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَجْلِسِ رَسُولِهِمْ وَسَمَاعِ هَدْيِهِ.

وَقِيلَ مَعْنَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَعَنُوا فِي إِخْلَاصِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا اجْتَمَعُوا عِنْدَكَ وَقَبِلُوا دِينَكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَأْكُولًا وَمَلْبُوسًا عِنْدَكَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ ظَاهِرِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ يُخَالِفُهُ فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، أَيْ إِحْصَاءُ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهُمْ عَلَيْهَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِ نُوحٍ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشُّعَرَاء: ١١٣] . فَمَعْنَى حِسَابِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَمْحِيصُ

نِيَّاتِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ.

وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا تَبْكِيتُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اسْتِضْعَافَ يَقِينِ الْمُؤْمِنِينَ. وحِسابِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرَانِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَجْلِسِ النَّبِيءِ ﷺ فَيَكُونُ ضَمِيرُ فَتَطْرُدَهُمْ عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَخْتَلِفُ مَعَادُ الضَّمِيرَيْنِ اعْتِمَادًا على مَا يعيّنه سِيَاقُ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: ٩]، وَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا

أَيْ أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ.

وَالْمَعْنَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ أَوْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ شَيْءٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَيَّ فَلَا تَظْلِمِ الْمُؤْمِنِينَ بِحِرْمَانِهِمْ حَقًّا لِأَجْلِ تَحْصِيلِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا [النِّسَاء: ١٣٥] .

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ كَوْنُ إِضَافَةِ حِسابِهِمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ مُحَاسَبَتُكَ إِيَّاهُمْ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَقْرَهُمْ وَضَعْفَهُمْ.

وعَلَيْكَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَ(عَلَى) فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ لِأَنَّ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام هَمَّ أَوْ كَانَ بِحَيْثُ يَهُمُّ بِإِجَابَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ لَمَّا سَأَلُوهُ، فَيَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ مَدْحُوضَةٌ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الشُّمُولِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي بِتَقْدِيرِهِ بُنِيَ اسْمُ (لَا) عَلَى الْفَتْحِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدَيْنِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَقْدِيمٌ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَتَيْنِ هُنَا مُسَوِّغًا، وَهُوَ وُقُوعُهُمَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ هُنَا اخْتِيَارِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَرَضٍ.

وَالْغَرَضُ يَحْتَمِلُ مُجَرَّدَ الِاهْتِمَامِ وَيَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ. وَحَيْثُ تَأَتَّى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا فَاعْتِبَارُهُ أَلْيَقُ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» . وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ قَصْرُ نَفْيِ حِسَابِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ ﷺ لِيُفِيدَ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَلِكَ هُوَ مُفَادُ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ بِالتَّقْدِيمِ إِذَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ مُفَادٌ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ لِقِلَّةِ وُقُوعِ الْقَصْرِ بِوَاسِطَةِ التَّقْدِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. وَمِثَالُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات: ٤٧] فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ عَدَمَ الْغَوْلِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِفِي خُمُورِ الْجَنَّةِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ.

وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْكَلَامِ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ. وَهِيَ (مِنَ) الْبَيَانِيَّةُ، وَ(مِنَ) الزَّائِدَةُ، وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، وَصِيغَةُ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَالتَّأْكِيدُ بِالتَّتْمِيمُ بِنَفْيِ الْمُقَابِلِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مُنْتَهَى التَّبْرِئَةِ مِنْ مُحَاوَلَةِ إِجَابَتِهِمْ لِاقْتِرَاحِهِمْ.

وَيُفِيدُ هَذَا الْكَلَامُ التَّعْرِيضَ بِرُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ سَأَلُوا إِبْعَادَ الْفُقَرَاءِ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام حِينَ مَا يَحْضُرُونَ وَأَوْهَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَائِلُ لَهُمْ دُونَ حُضُورِ مَجْلِسِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام وَالْإِيمَانِ بِهِ وَالْكَوْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَاطَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الْمَسْئُول أَن يقْضِي أَصْحَابَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ لِيَعْلَمَ السَّائِلُونَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَا لَا يَقَعُ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ ﷺ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ لَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَلَاشْتَغَلُوا بِإِصْلَاحِ خُوَيْصِّتِهِمْ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:

٦٥] . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَنْعَام: ٥٥] . وَإِذْ كَانَ الْقَصْرُ يَنْحَلُّ عَلَى نِسْبَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَالنِّسْبَةُ الْمُقَدَّرَةُ مَعَ الْقَصْرِ وَهِيَ نِسْبَةُ الْإِثْبَاتِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَضَمِيرِ الْغَائِبِينَ، أَيْ عَدَمُ حِسَابِهِمْ مَقْصُورٌ عَلَيْكَ، فَحِسَابُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ ذُكِرَ

لِاسْتِكْمَالِ التَّعْلِيلِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّ مَجْمُوعَ مَدْلُولِ الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ الْعِلَّةُ، أَيْ حِسَابُهُمْ لَيْسَ عَلَيْكَ كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ بَلْ عَلَى نَفْسِكَ، إِذْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. فَكَمَا أَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَّا إِلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَهُمْ كَذَلِكَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ التَّفْرِيطُ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسْدِيدِ رَغْبَةٍ مِنْكَ فِي شَيْءٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ أَوْ لِتَحْصِيلِ رَغْبَةِ غَيْرِهِمْ فِي إِيمَانِهِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا كَتَقْدِيمِهِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ.

وَفِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِطَرْدِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ ﷺ النُّصْحَ لَهُ لِيَكْتَسِبَ إِقْبَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ وَالْإِطْمَاعَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ فَيَكْثُرُ مُتَّبِعُوهُ.

ثُمَّ بِهَذَا يَظْهَرُ أَنْ لَيْسَ الْمَعْنَى: بَلْ حِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَحِسَابُكَ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِسِيَاقِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ قَوْلُهُ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ مُسْتَدْرَكًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ نَظِيرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١١٣] لِأَنَّ ذَلِكَ حُكِيَ بِهِ مَا صَدَرَ مِنْ نُوحٍ وَمَا هُنَا حُكِيَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، فَتَنَبَّهْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْآيَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (عَلَى) فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا سِيَّمَا وَاعْتِبَارُ مَعْنَى الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ غَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّنَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام شِبْهُ اعْتِقَادِ لُزُومِ تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ فَقُلِبَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِالْقَصْرِ، لَا نَجِدُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِذْ لَا اعْتِقَادَ لَهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ.

وَقَدَّمَ الْبَيَانَ عَلَى الْمُبَيَّنِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَهَمَّ فِي الْمَقَامَيْنِ هُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالْمُخَاطَبِ الْمُعَرِّضِ فِيهِ بِالَّذِينَ سَأَلُوهُ الطَّرْدَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِاسْتِكْمَالِ التَّعْلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ: فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الطَّرْدِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ،

لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِوُقُوعِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. فَحَصَلَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ فَتَطْرُدَهُمْ غَرَضَانِ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. عَلَى أَنَّهُ

يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ لَا تَطْرُدْهُمْ إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَعْدَائِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عُطِفَ عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَيْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِطَرْدِهِمْ، أَيْ فَكَوْنُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَفٍ تَبَعًا لِانْتِفَاءٍ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ.

وَإِنَّمَا جَعَلَ طَرْدَهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُحَاسِبَهُمْ صَارَ طَرْدُهُمْ لِأَجْلٍ إِرْضَاءِ غَيْرِهِمْ ظُلْمًا لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَهُمْ لِإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِمْ بأنّهم ظَالِمُونَ مفطرون عَلَى الظُّلْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جِيءَ بِهِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِتَجْدِيدِ رَبْطِ الْكَلَامِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ بِالظَّرْفِ وَالْحَالِ وَالتَّعْلِيلِ فَكَانَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ مَقْصُود بِالذَّاتِ لِلْجَوَابِيَّةِ فَالتَّقْدِيرُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمين بطردهم.

[٥٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٣]

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)

الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا هِيَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا شَعَرَ بِقِصَّةٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: ٥٢] الْآيَةَ يَأْخُذُهُ الْعَجَبُ مِنْ كِبْرِيَاءِ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَيْفَ يَرْضَوْنَ الْبَقَاءَ فِي ضَلَالَةٍ تَكَبُّرًا عَنْ غِشْيَانِ مَجْلِسٍ فِيهِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْعَجِيبَ فِتْنَةٌ لَهُمْ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِسُوءِ خُلُقِهِمْ.

وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تَعْجِيلًا لِلْبَيَانِ، وَقُرِنَتْ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَهِيَ الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ، وَتُسَمَّى الِاسْتِئْنَافِيَّةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ دَاعِيَهُمْ

إِلَى طَلَبِ طَرْدِهِمْ هُوَ احْتِقَارٌ فِي حَسَدٍ وَالْحَسَدُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْحَاسِدُ يَرَى نَفْسَهُ أَوْلَى بِالنِّعْمَةِ الْمَحْسُودِ عَلَيْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ الدَّاعِي فِتْنَةً عَظِيمَةً فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ جَمَعَتْ كِبْرًا وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ إِلَى احْتِقَارٍ لِلْأَفَاضِلِ وَحَسَدٍ لَهُمْ، وَظُلْمٍ لِأَصْحَابِ الْحَقِّ، وَإِذْ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ ﷺ.

وَالتَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِأَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعُجْبِ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى الْفُتُونِ الْمَأْخُوذِ مِنْ «فَتَنَّا» كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، أَيْ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فُتُونًا يُرَغِّبُ السَّامِعَ فِي تَشْبِيهِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِتَقْرِيبِ كُنْهِهِ فَإِذَا رَامَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لَهُ بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لَمْ يَجِدْ لَهُ شَبِيهًا فِي غَرَائِبِهِ وَفَظَاعَتِهِ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا أَعْجَبَ مِنْهُ، عَلَى حدّ قَوْلهم: والسفاعة كَاسْمِهَا.

وَلَيْسَ ثَمَّةَ إِشَارَةٍ إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ مُغَايِرٍ لِلْمُشَبَّهِ. وَجِيءَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] .

وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْمَنْصُوبِ الْمُشْرِكُونَ فَهُمُ الْمَفْتُونُونَ، وَبِالْبَعْضِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ فَتَنَّا عُظَمَاءَ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ وَشِرْكِ مُقَلِّدِيهِمْ بِحَالِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام:

٥٣] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَذْيِيلِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

وَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ كَلَامًا قَالُوهُ فِي مَلَئِهِمْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ لَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَقَدِ اعْتَقَدُوا مَضْمُونَهُ، فَالْقَائِلُونَ أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقُولُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَمَدْخُولُهَا هُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ دَالٌّ عَلَيْهَا بَعْدَ طَيِّهَا

عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَنَّاهُمْ لِيَرَوْا لِأَنْفُسِهِمْ شُفُوفًا وَاسْتِحْقَاقًا لِلتَّقَدُّمِ فِي الْفَضَائِلِ اغْتِرَارًا بِحَالِ التَّرَفُّهِ فَيَعْجَبُوا كَيْفَ يُدَّعَى أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ بِالْهُدَى وَالْفَضْلِ عَلَى نَاسٍ يَرَوْنَهُمْ أَحَطَّ مِنْهُم، وَكَيف يعدّونهم دُونَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الْكَاذِبِ. وَنَظِيرُهُ فِي طَيِّ الْعِلَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ أَثَرِهَا قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:

وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا

أَيْ لِيَظْهَرَ الْجَبَانُ وَالشُّجَاعُ فَأَعْلَمَهُمَا.

وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَر: ٢٥] . وَالْإِشَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ أَوِ التَّعْجِيبِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦] .

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ.

وَقَوْلُهُمْ: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَمُجَارَاةِ الْخَصْمِ، أَيْ حَيْثُ اعْتَقَدَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَحَرَمَ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ، أَيْ كَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى فُقَرَاءٍ وَعَبِيدٍ وَيَتْرُكُ سَادَةَ أَهْلِ الْوَادِي.

وَهَذَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] . وَهَذِهِ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالطُّغَاةِ. وَقَدْ حَدَثَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلُ هَذَا.

رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَخَابُوا وَخَسِرُوا (أَيْ أَخَابَ بَنُو تَمِيمٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ) فَقَالَ: نعم قَالَ: فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لِخَيْرٌ مِنْهُمْ.

وَفِي الْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ، وَضَمِيرُ لِيَقُولُوا عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْبَعْضَ الْمَفْتُونِينَ، وَيَكُونُ الْبَعْضُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ صَادِقًا

عَلَى أَهْلِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكُونُ إِشَارَةُ هؤُلاءِ رَاجِعَةً إِلَى عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَنِّ إِعْطَاءَ الْمَالِ وَحُسْنَ حَالِ الْعَيْشِ، وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحَيُّرِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا مَا عُرِفُوا بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ الْفُتُونُ الْوَاقِعُ لِعُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فُتُونُ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِيَاءِ حِينَ تَرَفَّعُوا عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَبِيدُ مِنْ تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَصُحْبَتِهِ اسْتِكْبَارًا عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ، كَذَلِكَ كَانَ فُتُونُ بَعْضٍ آخَرَ وَهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُشَاهِدُونَ طِيبَ عَيْشِ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا مَعَ إِشْرَاكِهِمْ بِرَبِّهِمْ فَيَعْجَبُونَ كَيْفَ مَنَّ اللَّهُ بِالرِّزْقِ الْوَاسِعِ عَلَى مَنْ يَكْفُرُونَ بِهِ وَلَمْ يَمُنَّ بِذَلِكَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ أَوْلَى بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ. وَقَدْ أَعْرَضَ الْقُرْآنُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِفَسَادِ هَذَا الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ سَمَّاهُ فِتْنَةً، فَعُلِمَ أَنَّهُ خَاطِرٌ غَيْرُ حَقٍّ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ مُشِيرٌ إِلَى إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ. ذَلِكَ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ خَلَطَتْ أَمْرَ شَيْئَيْنِ مُتَفَارِقَيْنِ فِي الْأَسْبَابِ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ فِي الْآخِرَةِ، الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرَتُّبَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ الْمَجْعُولِ عَنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ كَالتِّجَارَةِ وَالْغَزْوِ وَالْإِرْثِ وَالْهِبَاتِ. فَالرِّزْقُ الدُّنْيَوِيُّ لَا تَسَبُّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ مُسَبِّبَاتِ الْأَحْوَالِ الْمَادِّيَّةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَزَاءَ شُكْرِهِمْ، وَأَعْلَمُ بِأَسْبَابِ رِزْقِ الْمَرْزُوقِينَ الْمَحْظُوظِينَ. فَالتَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ مِنْ ضَعْفِ الْفِكْرِ الْعَارِضِ لِلْخَوَاطِرِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنَّاشِئِ عَنْ سُوءِ النَّظَرِ وَتَرْكِ التَّأَمُّلِ فِي الْحَقَائِقِ

وَفِي الْعِلَلِ وَمَعْلُولَاتِهَا. وَكَثِيرًا مَا عَرَضَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ شُبَهٌ وَأَغْلَاطٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَرَفَتْهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَظَانِّهَا وَقَعَدَتْ بِهِمْ عَنْ رَفْوِ أَخَلَّالِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ غَرَّتْهُمْ بِالتَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَبَيْنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا عَرَضَ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مِنْ حَيْرَةِ الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ:

كَمْ عَالِمٍ عَالِمٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا


هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا

وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِمَّنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﷺ قَدِ اهْتَدَوْا وَاسْتَفَاقُوا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَأَهَّلُوا لِامْتِلَاكِ الْعَالِمِ وَلَاقَوْا.

ومَنَّ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِنا ابتدائية. و(بَين) ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّطِ، أَيْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُخْتَارًا لَهُمْ مِنْ وَسَطِنَا، أَيْ مَنَّ عَلَيْهِم وَتَركنَا، فيؤول إِلَى مَعْنَى مِنْ دُونِنَا.

وَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ كُلِّهَا، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَلِذَلِكَ فُصِّلَ. وَالِاسْتِفْهَامُ تقريري. وعديّ بِأَعْلَمَ بِالْبَاءِ لِأَنَّهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ صَارَ قَاصِرًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَلِذَلِكَ مَنَّ عَلَى الَّذِينَ أَشَارُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمِنَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ.

وَمَعْنَى عِلْمُهُ تَعَالَى بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ جَاءُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ بِقَرِيحَةٍ طَالِبِينَ النَّجَاةَ مِنَ الْكُفْرِ رَاغِبِينَ فِي حُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ يَلْطُفُ بِهِمْ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِمْ وَيُزَيِّنُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا تَمَكُّنًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا وَصَلَاحًا، فَهُوَ أَعْلَمُ بِقُلُوبِهِمْ وَصِدْقِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ رَثَاثَةَ حَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ تُطَابِقُ حَالَةَ قُلُوبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فَيَأْخُذُونَ النَّاسَ بِبَزَّاتِهِمْ دُونَ نِيَّاتِهِمْ. فَهَذَا التَّذْيِيلُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ:

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الْأَنْعَام: ٣٦] .

وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أَنَّهُ أَيْضًا أَعْلَمُ بِأَضْدَادِهِمْ. ضِدُّ الشُّكْرِ هُوَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إِبْرَاهِيم: ٧] فَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام مُسْتَهْزِئِينَ مُتَكَبِّرِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا تَحْقِيرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ وَلُبَّهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَتَضْلِيلِ الدَّهْمَاءِ فِي حَقِيقَةِ الدِّينِ. فَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيض بالمشركين.

[٥٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٤]

وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: ٥٢] وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي إِكْرَامِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. فَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا.

وَمَعْنَى يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَاتٍ جَمَّةً. فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ وَبِخَاصَّةٍ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ، قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: ٥١] .

وَقَوْلُهُ: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ حَيِّهِمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَلِمَةُ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، وَقِيلَ: أَبْلِغْهُمُ السَّلَامَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَكْرِمَةً لَهُمْ لِمُضَادَّةِ طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ طَرْدَهُمْ.

وَقَدْ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ كَرَامَتَيْنِ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَهُمُ النَّبِيءُ ﷺ بِالسَّلَامِ حِينَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ وَهِيَ مَزِيَّةٌ لَهُمْ، لِأَنَّ شَأْنَ السَّلَامِ أَنَّ يَبْتَدِئَهُ الدَّاخِلُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ مَعَهُمْ كُلَّمَا أُدْخِلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْمَرَّةِ الَّتِي يُبَلِّغُهُمْ فِيهَا هَذِهِ الْبِشَارَةَ، فَنَزَلَ هُوَ مَنْزِلَةَ الْقَادِمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ زَفَّ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْبُشْرَى.

وَالْكَرَامَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ بِشَارَتُهُمْ بِرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ بِأَنْ غَفَرَ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ سُوءٍ إِذَا تَابُوا مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحُوا. وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا، فَكَانَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ تَكْرِمَةً لَهُمْ لِيَكُونُوا مَيْمُونِيَ النَّقِيبَةِ عَلَى بَقِيَّةِ إِخْوَانِهِمْ وَالَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ.

وَالسَّلَامُ: الْأَمَانُ، كَلِمَةٌ قَالَتْهَا الْعَرَبُ عِنْدَ لِقَاءِ الْمَرْءِ بِغَيْرِهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مُسَالِمٌ لَا مُحَارِبٌ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ دِمَاءٌ وَتِرَاتٌ وَكَانُوا يَثْأَرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَوْ بِغَيْرِ الْمُعْتَدِي مِنْ قَبِيلَتِهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا لَقِيَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبِيلَتِهِ إِحَنٌ وَحَفَائِظُ فَيُؤَمِّنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَوْ سَلَامٌ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام ثُمَّ شَاعَ هَذَا اللَّفْظُ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّكْرِمَةِ. وَمَصْدَرُ سَلَّمَ التَّسْلِيمُ. وَالسَّلَامُ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ يَأْتِي فِي الِاسْتِعْمَالِ مُنَكَّرًا مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا وَمُعَرَّفًا بِاللَّامِ مَرْفُوعًا لَا غَيْرَ. فَأَمَّا تَنْكِيرُهُ مَعَ الرَّفْعِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ عَلَى اعْتِبَارِهِ اسْمًا بِمَعْنَى الْأَمَانِ، وَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّوْعِيَّةُ لَا فَرْدٌ مُعَيَّنٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمِ الْخَبَرُ لِاهْتِمَامِ الْقَادِمِ بِإِدْخَالِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي نَفْسِ الْمَقْدُومِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ طَارِقُ خَيْرٍ لَا طَارِقُ شَرٍّ. فَهُوَ

مِنَ التَّقْدِيمِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّفَاؤُلِ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ مَعَ الرَّفْعِ فَلِدُخُولِ لَامِ تَعْرِيفِ الْجِنْسِ عَلَيْهِ.

وَكَلِمَةُ (عَلَى) فِي الْحَالَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ بِالْأَمَانِ، أَيِ الْأَمَانُ مُسْتَقَرٌّ مِنْكُمْ مُتَلَبِّسٌ بِكُمْ، أَيْ لَا تَخَفْ.

وَأَمَّا إِنْ نَصَبُوا مَعَ التَّنْكِيرِ فَعَلَى اعْتِبَارِهِ كَمَصْدَرِ سَلَّمَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَتَى بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْتُ سَلَامًا، فَلِذَلِكَ لَا يُؤْتَى مَعَهُ بِ (عَلَى) . ثُمَّ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَهُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا يَأْتُونَ مَعَهُ بِ (عَلَى) لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَنْهُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِيَّةِ عَنِ الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، عَلَى حَدِّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨] . وَالرَّفْعُ أَقْوَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَدَّ تَحِيَّةً أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩] . وَقَدْ وَرَدَ فِي رَدِّ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ كَلِمَةِ السَّلَامِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الْوَاقِعَة: ٢٦] وَوَرَدَ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فَيَنْبَغِي جَعْلُ الرَّدِّ أَحْسَنَ دَلَالَةً. فَأَمَّا التَّعْرِيفُ وَالتَّنْكِيرُ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ عِيسَى وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ

[مَرْيَم: ١٥] وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مَرْيَم: ٣٣] .

وَجُمْلَةُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَقُولِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَمُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا ثَانِيًا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢] . فَقَوْلُهُ هُنَا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ إِلَخ.

وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى غُفْرَانِ ذَنْبِ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُتَوَقَّعٍ عَنْ مَبْلَغِ الرَّحْمَةِ

(وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ مِنَ الْمَوْصُولَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِجَهالَةٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِجَهَالَةٍ.

وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَمِلَ.

وَالْجَهَالَةُ تُطْلَقُ عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مَا. وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْحِلْمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧] . وَالْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ مَنْ عَمِلَ سُوءًا عَنْ حَمَاقَةٍ مِنْ نَفْسِهِ وَسَفَاهَةٍ،

لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَأْتِي السَّيِّئَاتِ إِلَّا عَنْ غَلَبَةِ هَوَاهُ رُشْدَهُ وَنُهَاهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا حَمْلُ الْجَهَالَةِ عَلَى مَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ بِالذَّنْبِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، فَلَا قُوَّةَ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ عَلَيْهِ، إِلَّا إِذَا أُرِيدَ ثُمَّ تَفَطَّنَ إِلَى أَنَّهُ عَمِلَ سُوءًا.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ إِلَى سُوءًا أَيْ بَعْدَ السُّوءِ، أَيْ بَعْدَ عَمَلِهِ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَائِدًا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَضْمُونِ فِي (عَمَلِ) مِثْلِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨] .

وَمَعْنَى أَصْلَحَ صَيَّرَ نَفْسَهُ صَالِحَةً، أَوْ أَصْلَحَ عَمَلَهُ بَعْدَ أَنْ أَسَاءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣٩] . وَعِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٠] .

وَجُمْلَةُ: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ هُوَ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.

وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لِهَذَا التَّائِبِ الْمُصْلِحِ.

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ- فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى أنّ الْجُمْلَة موكّدة بإن فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِمَنْ تَابَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ فَأَنَّهُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهَا (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ أُخْتُ (إِنَّ)، فَيَكُونُ مَا بعْدهَا مؤوّلا بِمَصْدَرٍ. وَالتَّقْدِيرُ:

فَغُفْرَانُهُ وَرَحْمَتُهُ. وَهَذَا جُزْءُ جُمْلَةٍ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُ خَبَرٍ، أَيْ لَهُ، أَيْ ثَابِتٌ لِمَنْ عَمِلَ سُوءًا ثمَّ تَابَ.

[٥٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٥]

وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

(٥٥)

الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام: ٥٣] .

وَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي مَضَى مُبْتَدَئًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ٥١] .

وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّوْضِيحُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ، وَهُوَ تُفَرُّقُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلِطَةُ إِذَا فُصِّلَتْ يَتَبَيَّنُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ أُطْلِقَ التَّفْصِيلُ عَلَى التَّبْيِينِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا تَسْمِيَةُ الْإِيضَاحِ تَبْيِينًا وَإِبَانَةً، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِبَانَةِ الْقَطْعُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّفْصِيلِ الْإِيضَاحُ، أَيِ الْإِتْيَانُ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَة الدّلَالَة

عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا.

وَالْآيَاتُ: آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَنُبَيِّنُهَا تَفْصِيلًا مِثْلَ هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي لَا فَوْقَهُ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمُ الْمُرَادِ مِنْهَا بَيِّنًا.

وَقَوْلُهُ: وَلِتَسْتَبِينَ عَطْفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ التَّفْصِيلُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْبَيَانِ، فَيُعْلَمُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ اتِّضَاحُ الْعِلْمِ لِلرَّسُولِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِشَيْءٍ يُنَاسِبُهُ وَهُوَ تَبَيُّنُ الرَّسُولِ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ، فَصَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى مِنْ عِلْمِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهِيَ اسْتِبَانَتُهُ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ. فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: وَكَذَلِكَ التَّفْصِيلُ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِتَعْلَمَ بِتَفْصِيلِهَا كُنْهَهَا، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ الْحَذْفِ.

وَهَكَذَا كُلَّمَا كَانَ اسْتِعْمَالُ (كَذَلِكَ) نَفْعَلُ بَعْدَ ذِكْرِ أَفْعَالٍ عَظِيمَةٍ صَالِحًا الْفِعْلُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ لِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَمْرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَلَّلَ بِمِثْلِهِ صَحَّ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ أُخْرَى كَمَا هُنَا، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥] بِخِلَافِ مَا لَا يَصْلُحُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ عِلَّةٍ بَعْدَهُ ذُكِرَتْ بِدُونِ عَطْفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٤٣] .

وسَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ وَالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ.

وَالْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ وَلِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ. وَخَصَّ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا لِإِيضَاحِ خَفِيِّ أَحْوَالِهِمْ لِلنَّبِيءِ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ- عَلَى أَنَّهَا تَاءُ خِطَابٍ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ.

وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ الْغَائِبِ-، ثُمَّ إِنَّ نَافِعًا، وَأَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ سَبِيلَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- عَلَى أنّه مفعول لِتَسْتَبِينَ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِرَفْعِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ «يَسْتَبِينَ» أَوْ «تَسْتَبِينَ» . فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لَيْسَا لِلطَّلَبِ بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْص، على عَاصِمٍ- بِرَفْعٍ- سَبِيلُ عَلَى أَنَّ تَاءَ الْمُضَارَعَةِ تَاءُ الْمُؤَنَّثَةِ. لِأَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ عَرَبِ الْحِجَازِ، وَعَلَى أَنَّهُ مِنِ اسْتَبَانَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى بَانَ فَ سَبِيلُ فَاعل لِتَسْتَبِينَ، أَيْ لِتَتَّضِحَ سَبِيلُهُمْ لَك وَلِلْمُؤْمنِينَ.

[٥٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٦]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى إبِْطَال الشّرك بالتبري مِنْ عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الْأَنْعَام: ١٤] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٦] الْآيَةَ. جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لِإِبْطَالِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام عَنْ عِبَادَتِهَا وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءٍ عَبَدَتِهَا.

وَبُنِيَ نُهِيتُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ، أَيْ نَهَانِي اللَّهُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَن) فَحذف الْحَرْف حَذْفًا مُطَّرِدًا مَعَ (أَنْ) .

وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ اسْمُ الْمَوْصُولِ الْمَوْضُوعُ لِلْعُقَلَاءِ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ فَأَتَى لَهُمْ بِمَا يَحْكِي اعْتِقَادَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا الْجِنَّ وَبَعْضَ الْبَشَرِ فَغُلِّبَ الْعُقَلَاءُ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ.

وَمَعْنَى تَدْعُونَ تَعْبُدُونَ وَتَلْجَئُونَ إِلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ، أَيْ تَدْعُونَهُمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، فَعَامِلُهُ تَدْعُونَ. وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا غَلَبَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَدُعَائِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ دُونَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا إِنَّمَا أَشْرَكُوهُمْ بِالْعِبَادَةِ مَعَ اللَّهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِاضْطِرَابِ عَقِيدَتِهِمْ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا مَعَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ الْأَصْنَامِ وَجَاعِلُهَا شُفَعَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ كَالْعَدَمِ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَوَجَّهُوا بِهَا إِلَى الْأَصْنَامِ قَدِ اعْتَدَوْا بِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ فِي أَنْ يَصْرِفُوهَا إِلَيْهِ.

وَجُمْلَةُ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ اسْتِئْنَافٌ آخَرُ ابْتِدَائِيٌّ، وَقَدْ عُدِلَ عَنِ الْعَطْفِ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ لِيَكُونَ غَرَضًا مُسْتَقِلًّا. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ زِيَادَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالِاسْتِئْنَافِ وَاسْتِقْلَالِهِ لِيَكُونَ هَذَا النَّفْيُ شَامِلًا لِلِاتِّبَاعِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ

كَطَلَبِ طَرْدِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مَجْلِسِهِ.

وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، وَهُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٠] . وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ دُونَ لَا أَتْبَعُكُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي دِينِهِمْ تَابِعُونَ لِلْهَوَى نَابِذُونَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ. وَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ مَتِينٍ.

وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا جَوَابٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ إِنِ اتّبعت أهواءكم إِذن قَدْ ضَلَلْتُ. وَكَذَلِكَ موقع (إِذن) حِينَ تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ مَشْرُوطٍ بِ (إِنَّ) أَوْ (لَوْ) مُصَرَّحٍ بِهِ تَارَةً، كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:

لَئِنْ عَادَ لِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بِمِثْلِهَا ... وَأَمْكَنَنِي مِنْهَا إِذَنْ لَا أُقِيلُهَا

وَمُقَدَّرٍ أُخْرَى كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] .

وَتَقْدِيم جَوَاب (إِذن) على (إِذن) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ. وَلِذَلِكَ الِاهْتِمَامُ أُكِّدَ بِ قَدْ مَعَ كَوْنِهِ مَفْرُوضًا وَلَيْسَ بِوَاقِعٍ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ مُحَقَّقٌ لَوْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي دلّت عَلَيْهِ (إِذن) .

وَقَوْلُهُ: وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عُطِفَ عَلَى قَدْ ضَلَلْتُ، عُطِفَ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ جَزَاءٌ آخَرُ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ حَالِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآنَ مِنْ كَوْنِهِ فِي عِدَادِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى الْكَوْنِ فِي حَالَةِ الضَّلَالِ، وَأَفَادَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ قَدْ ضَلَلْتُ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ ضِدَّ الضَّلَالِ فَتَقَرَّرَتْ حَقِيقَةُ الضَّلَالِ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ.

وَتَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَيْهَا وَنَبَّهْتُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤٠] . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩] .

وَقَدْ أُتِيَ بِالْخَبَرِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فَقِيلَ: مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَمْ يَقُلْ: وَمَا أَنَا مُهْتَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْجُمْلَةِ الَّتِي خَبَرُهَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمُهْتَدِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَإِخْبَارُ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفِئَةِ الَّتِي تُعْرَفُ عِنْدَ النَّاسِ بِفِئَةِ الْمُهْتَدِينَ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ إِفَادَةً بِطَرِيقَةٍ تُشْبِهُ طَرِيقَةَ الِاسْتِدْلَالِ. فَهُوَ

مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ الَّتِي هِيَ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِإِثْبَاتِ مَلْزُومِهِ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [الشُّعَرَاء: ١٦٨]: قَوْلُكَ فُلَانٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: فُلَانٌ عَالِمٌ، لِأَنَّكَ تَشْهَدُ لَهُ بِكَوْنِهِ مَعْدُودًا فِي زُمْرَتِهِمْ وَمَعْرُوفَةً مُسَاهَمَتُهُ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ. وَقَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٣٦] . فَإِن قلت لوقيل: أَوَعَظْتَ أَوْ لَمْ تَعِظْ، كَانَ أَخْصَرَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قُلْتُ:

لَيْسَ الْمَعْنَى بِوَاحِدٍ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْوَعْظُ أَمْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا مِنْ أَهْلِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي قِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِوَعْظِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ تَعِظْ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ إِنَّ أَصْلَ هَذَا لِابْنِ جِنِّي.

وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ هَذَا الْخَبَرِ مُفِيدًا نَفْيَ هَذِهِ النِّسْبَةَ الْكِنَائِيَّةَ فَكَانَتْ أَبْلَغِيَّتُهُ فِي النَّفْيِ كَأَبْلَغِيَّتِهِ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ الْمُفَادَ الْكِنَائِيَّ هُوَ هُوَ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَمَا أَنَا مِنَ الْهُدَى فِي شَيْءٍ» . وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ بَعْضُ النَّاظِرِينَ نَقَلَهُ عَنْهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُكَ: هُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، مُفِيدًا فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ حُظُوظًا عَظِيمَةً فِي الْهُدَى فَهُوَ فِي النَّفْيِ يُوجِبُ أَنْ تُنْفَى عَنْهُ الْحُظُوظُ الْكَثِيرَةُ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِأَنْ يَبْقَى لَهُ حظّ قَلِيل. وَهَذَا سَفْسَطَةٌ خَفِيَتْ عَنْ قَائِلِهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِفَادَةُ النَّفْيِ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْمُثْبَتِ بِوَاسِطَةِ الْقُيُودِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأَمَّا وَهِيَ بِطَرِيقِ التَّكْنِيَةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلَّفْظِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ. وَلذَا قَالَ التفتازانيّ: «هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ لَا نَفْيِ التَّأْكِيدِ» فَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهُ قَدِ انْسَلَخَ عَنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ الَّتِي كَانَ مَعْدُودًا مِنْهَا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الْهُدَى لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْمَرْءِ فِئَتَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْهَا أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنِ اتِّصَافِهِ بِمَا يُخَالِفُ صِفَاتِهِمْ قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِهِمْ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]، وَأَحَلْنَا بَسْطَهُ عَلَى هَذَا الْموضع.

[٥٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٧]

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِدَلِيلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ الْمُؤَيِّدِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرِّسَالَةِ بِدَلِيلٍ مِنَ اللَّهِ مُؤَيِّدٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، لِيَيْأَسُوا مِنْ مُحَاوَلَةِ إِرْجَاعِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَشْكِيكِهِ فِي وَحْيِهِ

بِقَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، شَاعِرٌ، أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلِيَيْأَسُوا

أَيْضًا مِنْ إِدْخَالِ الشَّكِّ عَلَيْهِ فِي صِدْقِ إِيمَانِ أَصْحَابِهِ، وَإِلْقَاءِ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِمَا حَاوَلُوا مِنْ طَرْدِهِ أَصْحَابَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ حُضُورِ خُصُومِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ لَا يَتَزَعْزَعُ.

وَعُطِفَ عَلَى ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ الْوَعِيدِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَعُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَيَقُولُونَ:

رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦]، فَقَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ﷺ: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٥٨]، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ.

وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِتَكْرِيرِ الِاهْتِمَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] .

وَالْبَيِّنَةُ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مُؤَنَّثُ بَيِّنٍ، أَيِ الْوَاضِحَةُ، فَهِيَ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي الْكَلَامِ، أَيْ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ أَوْ حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ. ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا الْوَصْفِ فَصَارَ اسْمًا لِلْحُجَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْحَقِّ الَّتِي لَا يَعْتَرِيهَا شَكٌّ، وَلِلدَّلَالَةِ الْوَاضِحَةِ، وَلِلْمُعْجِزَةِ أَيْضًا، فَهِيَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ الْبَيِّنَةِ، أَيِ الْيَقِينِ. وَهُوَ أَنْسَبُ بِ عَلى الدَّالَّةِ عَلَى التَّمَكُّنِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ عَلَى بَصِيرَةٍ، أَيْ أَنِّي مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْيَقِينِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ، وَتَكُونَ (عَلَى) مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمُلَازَمَةِ مَجَازًا مُرْسَلًا لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْمُلَازَمَةَ، أَيْ أَنِّي لَا أُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ.

ومِنْ رَبِّي صِفَةٌ لِ بَيِّنَةٍ يُفِيدُ تعظيمها وكمالها. و(من) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ بَيِّنَةٍ جَائِيَةٍ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي أَوْحَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِ وَجَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنَ) اتِّصَالِيَّةً، أَيْ عَلَى يَقِينٍ مُتَّصِلٍ بِرَبِّي، أَيْ بِمَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدَهُ، أَيْ فَلَا أَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ فَلَا تَطْمَعُوا فِي صَرْفِي عَنْ ذَلِكَ، أَيْ أَنِّي آمَنْتُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ دَلَائِلُ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَأَنَا مُوقِنٌ بِمَا آمَنْتُ بِهِ لَا يَتَطَرَّقُنِي شَكٌّ. وَهَذَا حِينَئِذٍ

مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ أَمْرِ آلِهَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ.

وَجُمْلَةُ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ بَيِّنَةٍ. وَهِيَ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ مِنْهُمْ أَنْ كَذَّبُوا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَيْ أَنَا عَلَى بَيِّنَةٍ وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ فَشَتَّانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ يَعُودُ إِلَى الْبَيِّنَةِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهَا بِالْبَيَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا صَدَّقَهَا الْيَقِينُ أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ وَكَذَّبْتُمْ بِالْيَقِينِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا، وَيَعُودُ إِلَى رَبِّي عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنِ) اتِّصَالِيَّةً، أَيْ كُنْتُ أَنَا عَلَى يَقِينٍ فِي شَأْنِ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَعَ أَنَّ دَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ. وَيَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِشُهْرَةِ التَّدَاوُلِ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِهِ فَإِذَا أُطْلِقَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ انْصَرَفَ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ.

وَالْبَاءُ الَّتِي عُدِّيَ بِهَا فِعْلُ كَذَّبْتُمْ هِيَ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ مَعْنَى الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] . فَلِذَلِكَ يَدُلُّ فِعْلُ التَّكْذِيبِ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيِ التَّكْذِيبِ الْقَوِيِّ. وَلَعَلَّ الِاسْتِعْمَالَ أَنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ فِعْلَ التَّكْذِيبِ بِالْبَاءِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ تَكْذِيبُ حُجَّةٍ أَوْ بُرْهَانٍ مِمَّا يُحْسَبُ سَبَبَ تَصْدِيقٍ، فَلَا يُقَالُ: كَذَّبْتُ بِفُلَانٍ، بَلْ يُقَالُ: كَذَّبْتُ فُلَانًا قَالَ تَعَالَى: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الْفرْقَان: ٣٧] وَقَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: ٢٣] .

وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ بِهِمْ فِي شَأْنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ بَاقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

وَقَوْلُهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عِنَادًا عِنْدَ سَمَاعِ تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَتَنَقُّصِ عَقَائِدِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكَ حَقًّا فَأَيْنَ الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدْتَنَا. فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] وَقَالُوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] فَأُمِرَ بِأَنْ يُجِيبَ أَنْ يَقُولَ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.

وَالِاسْتِعْجَالُ طَلَبُ التَّعْجِيلِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَعْجِيلُ شَيْءٍ. فَإِذَا أُرِيدَ ذِكْرُ الْأَمْرِ الْمُعَجَّلِ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْبَاءِ. وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعَدِّيَةِ. وَالْمَفْعُولُ هُنَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا عِنْدِي. وَالتَّقْدِيرُ: تَسْتَعْجِلُونَنِي بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] فَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.

وَمَعْنَى مَا عِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدِرَتِي، كَمَا يُقَالُ: مَا بِيَدِي كَذَا. فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالْعِلْمِ وَالْمَقْدِرَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي لَسْتُ الْعَلِيمَ الْقَدِيرَ، أَيْ لَسْتُ إِلَهًا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ مُرْسَلٌ أَقِفُ عِنْدَ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ.

وَحَقِيقَةُ (عِنْدَ) أَنَّهَا ظَرْفُ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ. وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ لِشَيْءٍ وَمِلْكِهِ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: ٥٩] . وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الِاحْتِفَاظِ بِالشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: ٨٥] وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إِبْرَاهِيم: ٤٦] وَلَا يَحْسُنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ (١) .

وَالْمُرَادُ بِ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ. عُبِّرَ بِطَرِيقِ الموصولية لما تنبىء بِهِ الصِّلَةُ

(١) أردْت بِهَذَا أنّ اسْتِعْمَال (عِنْد) مجَازًا فِي غير مَا ذكرنَا مَشْكُوك فِي صحّة اسْتِعْمَاله فِي كَلَام الْعَرَب، فَقَوْل أبي فراس:

بلَى أَنا مشتاق وَعِنْدِي لوعة ... لَيْسَ بجار على الِاسْتِعْمَال

وأمّا قَول المعرّي:

أعندي وَقد مارست كلّ خفيّة ... يصدّق واش أَو يخيّب آمل

فَهُوَ أقرب للاستعمال بِأَن يكون (عِنْد) حَقِيقَة فِي الْمَكَان، أَي الْمَكَان الْقَرِيب منّي يُرِيد مَجْلِسه، أَي لَا يَقع تَصْدِيق ذَلِك فِي مقَامي. وَأما قَول الشَّاعِر:

عِنْدِي اصطبار وأمّا أنّني جزع ... يَوْم النَّوَى فلبعد كَاد يبريني

فَلَا يعرف قَائِله، وَيظْهر أنّه مولّد وَهُوَ من شَوَاهِد الْمسَائِل النحوية.

مِنْ كَوْنِهِ مُؤَخَّرًا مُدَّخَرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَهُ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ حَالَانِ لِلْأَمْرِ الْوَاقِعِ فَكَانَ قَوْلُهُ: تَسْتَعْجِلُونَ فِي نَفْسِهِ وَعِيدًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ وَقْتَهُ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ فِيهِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُسْنَدِ الظَّرْفِ أَفَادَ قَصْرَ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ تَوَعُّدِ النَّبِيءِ ﷺ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِعِقَابٍ فِي مَقْدِرَتِهِ.

فَجَعَلُوا تَأَخُّرَهُ إِخْلَافًا لِتَوَعُّدِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ بِيَدِ اللَّهِ، كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ:

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَوْلُهُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ.

وَعَلَى وَجْهِ كَوْنِ ضَمِيرِ بِهِ لِلْقُرْآنِ، فَالْمَعْنى كذّبتهم بِالْقُرْآنِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَسَأَلْتُمْ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ تَعْجِيزًا لِي وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِي.

وَجُمْلَةُ يَقُصُّ الْحَقَّ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ فِي التَّأْخِيرِ أَوِ التَّعْجِيلِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَقُصُّ- بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ- فَهُوَ مِنَ الِاقْتِصَاصِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، أَيْ يُجْرِي قَدَرَهُ عَلَى أَثَرِ الْحَقِّ، أَيْ عَلَى وَفْقِهِ أَوْ هُوَ مِنَ الْقَصَصِ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ أَيْ يَحْكِي بِالْحَقِّ، أَيْ أَنَّ وَعْدَهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ

فَهُوَ لَا يُخْبِرُ إِلَّا بِالْحَقِّ. والْحَقَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ- بِسُكُونِ الْقَافِ وَبِضَادٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ (قَضَى)، وَهُوَ فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ. فَاعْتُذِرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْيَاءَ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ تَبَعًا لِحَذْفِهَا فِي اللَّفْظِ فِي حَالِ الْوَصْلِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَحَلِّ وَقْفٍ، وَذَلِكَ مِمَّا أُجْرِيَ فِيهِ الرَّسْمُ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْلِ عَلَى النَّادِرِ كَمَا كُتِبَ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] . قَالَ مَكِّيٌّ قِرَاءَةُ الصَّادِ (أَيِ الْمُهْمَلَةِ) أَحَبُّ إِلَيَّ لِاتِّفَاقِ الْحَرَمِيَّيْنِ (أَيْ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ) عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْقَضَاءِ لَلَزِمَتِ الْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ فِيهِ، يَعْنِي أَنْ يُقَالَ: يَقُصُّ بِالْحَقِّ. وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ نَادِرٌ. وَأَجَابَ الزُّجَاجُ بِأَنَّ الْحَقَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيِ الْقَضَاءُ الْحَقُّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُضْطَرَّ الْوَاقِفُ إِلَى إِظْهَارِ الْيَاءِ فَيُخَالِفُ الرَّسْمَ الْمُصْحَفِيَّ.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيْ يَقُصُّ وَيُخْبِرُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَفْصِلُ الْقَضَاءَ.

وَالْفَصْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ عُمَرُ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى «فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ» . وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: ٢٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣] . فَمَعْنَى خَيْرُ الْفاصِلِينَ يَشْمَلُ الْقَوْلَ الْحَقَّ وَالْقَضَاء الْعدْل.

[٥٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٨]

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٥٧] يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَلَوْ كَانَ بِيَدِكَ إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِهِمْ مَاذَا تَصْنَعُ، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي إِلَخ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَهُ فِي قُوَّةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا بُنِيَ كُلُّهُ عَلَى تَلْقِينِ الرَّسُولِ مَا يَقُولُهُ لَهُمْ فَالسَّائِلُ يَتَطَلَّبُ مِنَ الْمُلَقِّنِ مَاذَا سَيُلَقَّنُ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ. وَمَعْنَى عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لَوْ كَانَ فِي عِلْمِي حِكْمَتُهُ وَفِي قُدْرَتِي فِعْلُهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى لَسْتُ إِلَهًا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ.

وَقَوْلُهُ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابُ لَوْ. فَمَعْنَى لَقُضِيَ تَمَّ وَانْتَهَى.

وَالْأَمْرُ مُرَادٌ بِهِ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ للْعهد، وَبني لَقُضِيَ الْأَمْرُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ قَاضِيَهُ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.

وَتَرْكِيبُ (قُضِيَ الْأَمْرُ) شَاعَ فَجَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِيَصْلُحَ التَّمَثُّلُ بِهِ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ [يُوسُف: ٤١] وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الشورى: ٢١] وَقَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ [مَرْيَم:

٣٩] وَلِذَلِكَ إِذَا جَاءَ فِي غَيْرِ طَرِيقَةِ الْمَثَلِ يُصَرَّحُ بِفَاعِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الْحجر: ٦٦] .

وَذَلِكَ الْقَضَاءُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَيُؤْمِنُوا، أَوْ أَنْ يَغْضَبَ فَيُهْلِكَهُمْ، أَوْ أَنْ يَصْرِفَ قُلُوبَهُمْ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يُجِيبُهُمْ إِلَيْهِ فَيَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا.

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِحِكْمَةِ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ وَبِوَقْتِ نُزُولِهِ، لِأَنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي عِنْدَهُ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالظَّالِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي شِرْكِهِمْ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَظَالِمُونَ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَظَالِمُونَ فِي معاملتهم الرَّسُول ﷺ.

[٥٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٥٩]

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)

عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الْأَنْعَام: ٥٨] عَلَى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ.

وَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا التَّخَلُّصِ هِيَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِحَالَةِ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهَا غَائِبَةٌ عَنْ عَيَانِ النَّاسِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ مِنْ تَعْجِيلِ الْوَعِيدِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ لِبَيَانِ اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ ثُمَّ سَعَةِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَاسْتِئْثَارٍ وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ مَكَانٍ.

وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا الْمُغْلَقُ، وَتُسَمَّى الْمِفْتَاحُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِفْتَحَ أَفْصَحُ مِنْ مِفْتَاحٍ، قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الْقَصَص: ٧٦] .

وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَلَى عِلْمِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَل الْأَعْيَان لمغيّبة كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ، وَالْأَعْرَاضَ الْخَفِيَّةَ، وَمَوَاقِيتَ الْأَشْيَاءِ.

ومَفاتِحُ الْغَيْبِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ تَنْبَنِي عَلَى مَكْنِيَّةٍ بِأَنْ شُبِّهَتِ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ النَّاسِ بِالْمَتَاعِ النَّفِيسِ الَّذِي يُدَّخَرُ بِالْمَخَازِنِ وَالْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ عَلَيْهَا بِأَقْفَالٍ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا إِلَّا الَّذِي بِيَدِهِ مَفَاتِحُهَا. وَأُثْبِتَتْ لَهَا الْمَفَاتِحُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيلِيَّةِ. وَالْقَرِينَةُ

هِيَ إِضَافَةُ الْمَفَاتِحِ إِلَى الْغَيْبِ، فَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: عِنْدَهُ عَلِمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ.

وَمَفَاتِحُ الْغَيْبِ جَمْعٌ مُضَافٌ يَعُمُّ كُلَّ الْمُغَيَّبَاتِ، لِأَنَّ عِلْمَهَا كُلَّهَا خَاصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي لَهَا أَمَارَاتٌ مِثْلُ أَمَارَاتِ الْأَنْوَاءِ وَعَلَامَاتِ الْأَمْرَاضِ عِنْدَ الطَّبِيبِ فَتِلْكَ لَيْسَتْ مِنَ الْغَيْبِ بَلْ مِنْ أُمُورِ الشَّهَادَةِ الْغَامِضَةِ. وَغُمُوضُهَا مُتَفَاوِتٌ وَالنَّاسُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا مُتَفَاوِتُونَ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهَا مِنْ قَبِيلِ الظَّنِّ لَا مِنْ قَبِيلِ الْيَقِينِ فَلَا تُسَمَّى عِلْمًا، وَقِيلَ: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مَفْتَحٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- وَهُوَ الْبَيْتُ أَوِ الْمَخْزَنُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنَّ يُغْلَقَ عَلَى مَا فِيهِ ثُمَّ يُفْتَحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَا فِيهِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ، فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً وَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْغَيْبِ شُبِّهَ فِي إِحَاطَتِهِ وَحَجْبِهِ المغيّبات بِبَيْت الخزم تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.

وَجُمْلَةُ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنًى عِنْدَهُ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمُفِيدَةٌ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْضًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ فَأُعِيدَ مَا فِيهِ طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ كَوْنُهُ لِلْقَصْرِ. وَضَمِيرُ يَعْلَمُها عَائِدٌ إِلَى مَفاتِحُ الْغَيْبِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. تَقْدِيرُهُ: لَا يَعْلَمُ مَكَانَهَا إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ الْمَفَاتِحِ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ لِلْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَنَفْيُ عِلْمِ غَيْرِهِ لَهَا كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا تُغْلَقُ عَلَيْهِ الْمَفَاتِحُ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ.

وَمَعْنَى: لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أَيْ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا بِهِ، فَأَمَّا مَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦] فَذَلِكَ عِلْمٌ يَحْصُلُ لِمَنْ أَطْلَعَهُ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ فَكَانَ رَاجِعًا إِلَى عِلْمِهِ هُوَ.

وَالْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِكَيْفِيَّةِ الْيَقِينِ.

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنّ رَسُول يَا لله ﷺ قَالَ: مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ:

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ، لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمٍ لِلَّهِ وَنَفْيِ عِلْمٍ عَنْ غَيْرِهِ، فَعُطِفَتْ عَلَيْهِمَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى إِثْبَات علم لله تَعَالَى، دُونَ نَفْيِ عِلْمِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عِلْمُ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي قَدْ يَتَوَصَّلُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِ بَعْضِهَا، فَعَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لِإِفَادَةِ تَعْمِيمِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي الظُّهُورِ بَعْدَ إِفَادَةِ عِلْمِهِ بِمَا لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ.

وَظُهُورُ مَا فِي الْبَرِّ لِلنَّاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَقْوَى مِنْ ظُهُورِ مَا فِي الْبَحْرِ. وَذَكَرَ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ الْكُرَةُ، لِأَنَّ الْبَرَّ هُوَ سَطْحُ الْأَرْضِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ الْحَيَوَانُ غَيْرَ سَابِحٍ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَغْمُرُ جُزْءًا مِنَ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ مِلْحًا أَمْ عَذْبًا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي النَّهْرَ بَحْرًا كَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. وَالْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِيَ كُلَّهَا.

وَجُمْلَةُ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّعْمِيمِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ. فَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْخَفَايَا مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَضْعَفَ الْجُزْئِيَّاتِ مُؤْذِنٌ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ أَوْلَى بِهِ. وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلِمَ أَنْ سَيَقُولَ بِقَوْلِهِمْ مَنْ لَا رُسُوخَ لَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أَتْبَاعِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتْرُكْ لِلتَّأْوِيلِ فِي حَقِيقَةِ عِلْمِهِ مَجَالًا، إِذْ قَالَ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ كَمَا سَنُبَيِّنُ الِاخْتِيَارَ فِي وَجْهِ إِعْرَابِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْوَرَقَةِ وَرَقَةٌ مِنَ الشَّجَرِ. وَحَرْفُ (مِنْ) زَائِدٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ نَصًّا.

وَجُمْلَةُ يَعْلَمُها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَرَقَةٍ الْوَاقِعَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ الْمُسْتَغْنِيَةِ بِالْعُمُومِ عَنِ الصِّفَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفْرَغٌ مِنْ أَحْوَالٍ، وَهَذِهِ الْحَالُ حَالٌ لَازِمَةٌ بَعْدَ النَّفْيِ حَصَلَ بِهَا مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ الْفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي حَالَةٍ إِلَّا حَالَةً يَعْلَمُهَا.

وَالْأَظْهَرُ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ أَنْ يَكُونَ وَرَقَةٍ فِي مَحَلِّ الْمُبْتَدَأِ مَجْرُورٌ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ، وَجُمْلَةُ تَسْقُطُ صِفَةٌ لِ وَرَقَةٍ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ حَالًا،

وَجُمْلَةُ إِلَّا يَعْلَمُها خَبَرٌ مُفْرَغٌ لَهُ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلا حَبَّةٍ عُطِفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صِفَةٌ لِ حَبَّةٍ، أَيْ وَلَا حَبَّةٍ مِنْ بُذُورِ النَّبْتِ مَظْرُوفَةٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ إِلَى أَبْعَدِ عُمْقٍ يُمْكِنُ، فَلَا يَكُونُ حَبَّةٍ مَعْمُولًا لِفِعْلِ تَسْقُطُ لِأَنَّ

الْحَبَّةَ الَّتِي تَسْقُطُ لَا تَبْلُغُ بِسُقُوطِهَا إِلَى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ مَعْطُوفَانِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ. وَالْخَبَرُ عَن هَذِه المبتدءات الثَّلَاثَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِوُرُودِهِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرُ وُقُوعِ الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ وَرَقَةٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ الْعِلْمُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى كُنْهِهَا.

وَقِيلَ: جَرُّ حَبَّةٍ عَطْفٌ عَلَى وَرَقَةٍ مَعَ إِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ، وفِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَصْفٌ لِ حَبَّةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى حَبَّةٍ ووَرَقَةٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِفِعْلِ تَسْقُطُ، أَيْ مَا يَسْقُطُ رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ، وَمُقَيَّدَةٌ بِالْحَالِ فِي وَقَوله: إِلَّا يَعْلَمُها.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: إِلَّا يَعْلَمُها لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ الْكِتَابُ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا عَنِ الضَّبْطِ وَعَدَمِ التَّبْدِيلِ. وَحَسَّنَ هَذَا التَّأْكِيدَ تَجْدِيدُ الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْأَوَّلِ بِالْمَعْطُوفَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَأُعِيدَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى تَفَنُّنًا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَجْهِ جَمْعِ ظُلُماتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١] . ومُبِينٍ إِمَّا مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ مُبَيِّنٌ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يُرِيدُهُ كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ بَيِّنٌ، أَيْ فُصِّلَ بِمَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ.

وَقَدْ عُلِمَ مَنْ هَاتِهِ الْآيَاتِ عُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ دُونَ تَصْرِيحٍ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَمَا أَعْلَنَهُ إِلَّا الْقُرْآنُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٩] . وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ خَاصَّةً وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، زَعْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ الْعِلْمَ الْأَعْلَى عَنِ التَّجَزِّي فَهُمْ أَثْبَتُوا صِفَةَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرُوا تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِجُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُمْ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ وَنُصَيْرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي «الْمَبَاحِثِ الْمَشْرِقِيَّةِ (١)»: وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ اللَّائِقَ

بِأُصُولِهِمْ أَنْ يُقَالَ: الْأُمُورُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فَإِنَّهَا إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً غَيْرَ مُتَغَيِّرَةٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَغَيِّرَةً غَيْرَ مُتَشَكِّلَةٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَشَكِّلَةً وَمُتَغَيِّرَةً مَعًا. فَأَمَّا مَا لَا تَكُونُ مُتَشَكِّلَةً وَلَا مُتَغَيِّرَةً فَإِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا. وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْهَا مَعَ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَبِالْعُقُولِ.

وَأَمَّا الْمُتَشَكِّلَةُ غَيْرُ الْمُتَغَيِّرَةِ وَهِيَ الْأَجْرَامُ الْعُلْوِيَّةُ فَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ تَعَالَى بِأَشْخَاصِهَا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْجُسْمَانِيَّاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآلَاتٍّ جُسْمَانِيَّةٍ.

وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرَةُ غَيْرُ الْمُتَشَكِّلَةِ فَذَلِكَ مِثْلُ الصُّوَرِ وَالْأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَالنُّفُوسِ النَّاطِقَةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَهُ لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا يُحْوِجُ إِلَى آلَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ بَلْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مُتَغَيِّرَةً يَلْزَمُ مِنْ تَغَيُّرِهَا الْعِلْمُ.

وَأَمَّا مَا يَكُونُ مُتَشَكِّلًا وَمُتَغَيِّرًا فَهُوَ الْأَجْسَامُ الْكَائِنَةُ الْفَاسِدَةُ (٢) . وَهِيَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُدْرَكَةً لَهُ تَعَالَى لِلْوَجْهَيْنِ (أَيِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْقِسْمَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ) اهـ.

وَقَدْ عُدَّ إِنْكَارُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ لَهُمْ خَالَفَتِ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَهِيَ: إِنْكَارُ عِلْمِ اللَّهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْكَارُ حَشْرِ الْأَجْسَادِ، وَالْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْغَزَّالِيُّ فِي «تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ» فَمَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي

(١) كَذَا نسب إِلَيْهِ عبد الْحَكِيم السلكوتي فِي «الرسَالَة الْمَعْرُوفَة بالخاقانية» . رِسَالَة مخطوطة فِي مكتبتنا. [.....]

(٢) يَعْنِي الَّتِي يعتريها الْكَوْن وَالْفساد.

ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ كُفْرًا، لَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكُفْرِ بِاللَّازِمِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَائِلُهُ مُرْتَدًّا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَأْبَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا حكم بردّته.

[٦٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٦٠]

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)

عَطَفَ جُمْلَةَ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عَلَى جُمْلَةِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الْأَنْعَام: ٥٩] انْتِقَالًا مِنْ بَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ إِلَى بَيَانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ تَعْلِيمًا لِأَوْلِيَائِهِ وَنَعْيًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَقِبَ ذِكْرِ دَلَائِلِهَا فِي الْآفَاقِ فَجُمِعَ ذَلِكَ هُنَا عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ مُؤْذِنٍ بِتَعْلِيمِ

صِفَاتِهِ فِي ضِمْنِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَفِي هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ لِتَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ دُونَ الْأَصْنَامِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً.

وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ السَّابِقُ مِنْ قَوْلِهِ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٥٨] وَاللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ٦٤] وَيَقْتَضِيهِ طَرِيقُ الْقَصْرِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَالُ غَيْرَ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ.

وَالتَّوَفِّي حَقِيقَتُهُ الْإِمَاتَةُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ مُسْتَوْفًى. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى النَّوْمِ مُجَازٌ لِشَبَهِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ فِي انْقِضَاء الْإِدْرَاكِ وَالْعَمَلِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: ٤٢] . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَتَوَفَّاكُمْ يُنِيمُكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ، فَأَرَادَ بِالْوَفَاةِ هُنَا النَّوْمَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَا اسْتُعِيرَ الْبَعْثُ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِيَتِمَّ التَّقْرِيبُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ.

وَمَعْنَى جَرَحْتُمْ كَسَبْتُمْ، وَأَصْلُ الْجَرْحِ تَمْزِيقُ جِلْدِ الْحَيِّ بِشَيْءٍ مُحَدَّدٍ مِثْلَ السِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَالظُّفُرِ وَالنَّابِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤٥] .

وَأُطْلِقَ عَلَى كِلَابِ الصَّيْدِ وَبُزَاتِهِ وَنَحْوِهَا اسْمُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ الصَّيْدَ لِيُمْسِكَهُ الصَّائِدُ.

قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤] . كَمَا سَمَّوْهَا كَوَاسِبَ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:

غُضْفًا كَوَاسِبَ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا فَصَارَ لَفْظُ الْجَوَارِحِ مُرَادِفًا لِلْكَوَاسِبِ وَشَاعَ ذَلِكَ فَأُطْلِقَ عَلَى الْكَسْبِ اسْمُ الْجَرْحِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

[الجاثية: ٢١] .

وَجُمْلَةُ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الْإِمْهَالِ، أَيْ وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَمَا بَعَثَكُمْ فِي النَّهَارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّكُمْ تَكْتَسِبُونَ فِي النَّهَارِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَيَكْتَسِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ كَالْمُؤْمِنِينَ.

وَوَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ تَعَالَى مَا يَكْسِبُ النَّاسُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ وَقْتُ أَكْثَرِ الْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَفِي الْإِخْبَارِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَقَعُ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنِ اكْتِسَابِ مَا لَا يَرْضَى اللَّهُ بِاكْتِسَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَجُمْلَةُ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَتَكُونُ (ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ فَتَعْطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَكْتَسِبُونَ مِنَ الْمَنَاهِي ثُمَّ يَرُدُّكُمْ وَيُمْهِلُكُمْ. وَهَذَا بِفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ أَنْسَبُ.

وَ(فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ لِلنَّهَارِ. وَالْبَعْثُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِفَاقَةِ مِنَ النَّوْمِ لِأَنَّ الْبَعْثَ شَاعَ

فِي إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَخَاصَّةً فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآن قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٢] وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ كَوْنُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى اسْتِعَارَةِ التَّوَفِّي لِلنَّوْمِ تَقْرِيبًا لِكَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ الَّتِي حَارَتْ فِيهَا عُقُولُهُمْ، فَكُلٌّ مِنَ الِاسْتِعَارَتَيْنِ مُرَشِّحٌ لِلْأُخْرَى.

وَاللَّامُ فِي لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى لَامُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ مِنَ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا نِظَامَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَجْزِئَةً لِعُمُرِ الْحَيِّ، وَهُوَ أَجَلُهُ الَّذِي أُجِّلَتْ إِلَيْهِ حَيَاتُهُ يَوْمَ خَلْقِهِ، كَمَا جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ «يُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ» .

فَالْأَجْلُ مَعْدُودٌ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَهِيَ زَمَانُ النُّوَّمِ وَالْيَقَظَةِ. وَالْعِلَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ لَا يُلْزَمُ اتِّحَادُهَا فَقَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ اللَّهِ حِكَمٌ عَدِيدَةٌ. فَلَا إِشْكَالَ فِي جَعْلِ اللَّامِ لِلتَّعْلِيلِ.

وَقَضَاءُ الْأَجَلِ انْتِهَاؤُهُ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُسَمًّى أَنَّهُ مُعَيَّنٌ مُحَدَّدٌ. وَالْمَرْجِعُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الرُّجُوعَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَصِيرُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ وَيُبْطِلُ مَا كَانَ لَهَا مِنَ التَّصَرُّفِ بِإِرَادَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الْحَشْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَظْهَرُ.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ يُحَاسِبُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْمُهْلَةُ فِي (ثُمَّ) ظَاهِرَةٌ، أَوْ بَعْدَ الْحَشْرِ، فَالْمُهْلَةُ لِأَنَّ بَيْنَ الْحَشْرِ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ الْحِسَابِ زَمَنًا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ.

[٦١، ٦٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٦١ الى ٦٢]

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ.

عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ [الْأَنْعَام: ٦٠]، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ آنِفًا.

وَالْمُنَاسَبَةُ هُنَا أَنَّ النَّوْمَ وَالْمَوْتَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ فَغَلَبَا شِدَّةَ الْإِنْسَانِ كَيْفَمَا بَلَغَتْ فَبَيَّنَ عَقِبَ ذِكْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ الْغَالِبُ دُونَ الْأَصْنَامِ. فَالنَّوْمُ قَهْرٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرِيدُ أَنْ لَا يَنَامَ فَيَغْلِبُهُ النَّوْمُ، وَالْمَوْتُ قَهْرٌ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَمِنَ الْكَلِمِ الْحَقِّ: سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ.

وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ.

وَيُرْسِلُ عَطْفٌ عَلَى الْقاهِرُ، فَيُعْتَبَرُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَيَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ أَيْضًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً دُونَ غَيْرِهِ. وَالْقَصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ، فَلَا يَسْتَدْعِي رَدَّ اعْتِقَادٍ مُخَالِفٍ. وَالْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْحَقِّ لِيَحْذَرَ السَّامِعُونَ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي.

وَمَعْنَى (عَلَى) فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَيْ إِرْسَالُ قَهْرٍ وَإِلْزَامٍ، كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا [الْإِسْرَاء: ٥]، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الإنفطار: ٩، ١٠] .

وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يُرْسِلُ فَعُلِمَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِحِفْظِ الْحَفَظَةِ الْإِحْصَاءُ وَالضَّبْطُ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَفِظْتُ عَلَيْهِ فِعْلَهُ كَذَا. وَهُوَ ضِدُّ نَسِيَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق: ٤] . وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حِفْظِ الرِّعَايَةِ وَالتَّعَهُّدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ [النِّسَاء: ٣٤] .

فَالْحَفَظَةُ مَلَائِكَةٌ وَظِيفَتُهُمْ إِحْصَاءُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ»

الْحَدِيثَ.

وَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غَايَةٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَفَظَةِ مِنْ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ، أَيْ فَيَنْتَهِي الْإِحْصَاءُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَجْلُ الْحَيَاةِ تَوَفَّاهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ.

فَقَوْلُهُ: رُسُلُنا فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمُضَافَ مُشْتَقٌّ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فَلَا تُفِيدُهُ الْإِضَافَةُ تَعْرِيفًا، وَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ مِنَ الرُّسُلِ الَّتِي تَتَوَفَّى رُسُلٌ غَيْرُ الْحَفَظَةِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْعِبَادِ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي مَجِيءِ نَكِرَةٍ عَقِبَ نَكِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. وَظَاهِرُ

قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أَنَّ عَدَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَلَّى تَوَفِّيَ الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ.

وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَة: ١١]، وَسُمِّيَ فِي الْآثَارِ عِزْرَائِيلُ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتَ أَعْوَانًا. فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ ظَاهِرٌ.

وَعُلِّقَ فِعْلُ التَّوَفِّي بِضَمِيرِ أَحَدَكُمُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الذَّاتِ. وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَحَدِكُمُ الْمُنَاسِبِ لِلتَّوَفِّي، وَهُوَ الْحَيَاةُ، أَيْ تَوَفَّتْ حَيَّاتُهُ وَخَتْمَتْهَا، وَذَلِكَ بِقَبْضِ رُوحِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَوَفَّتْهُ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ الْفَاءِ-. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ تَوَفَّاهُ رُسُلُنَا وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ مَرْسُومَةٌ- بِنُتْأَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ- فَتَصْلُحُ لِأَنَّ تَكُونُ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مُثَنَّاةً تَحْتِيَّةً عَلَى لُغَةِ الْإِمَالَةِ. وَهِيَ الَّتِي يُرْسَمُ بِهَا الْأَلِفَاتُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءَاتِ. وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى جَمْعِ التَّكْسِيرِ.

وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ حَالٌ. وَالتَّفْرِيطُ: التَّقْصِيرُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِضَاعَةُ فِي الذَّوَاتِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا قَدْ تَمَّ أَجْلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُونَ تَوَفِّيَهُ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُدُّوا عَائِدٌ إِلَى أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ تَنْكِيرِهِ الصَّادِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ، أَيْ ثُمَّ يُرَدُّ الْمُتَوَفَّوْنَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ رُدُّوا إِلَى حُكْمِهِ مِنْ نَعِيمٍ وَعَذَابٍ، فَلَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْتِفَاتٌ.

وَالْمَوْلَى هُنَا بِمَعْنَى السَّيِّدِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ وَعَلَى الْعَبْدِ.

والْحَقِّ- بِالْجَرِّ- صِفَةٌ لِ مَوْلاهُمُ، لِمَا فِي مَوْلاهُمُ مِنْ مَعْنَى مَالِكِهِمْ، أَيْ مَالِكِهِمُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَشُوبُ مُلْكَهُ بَاطِلٌ يُوهِنُ مُلْكَهُ. وَأَصْلُ الْحَقِّ أَنَّهُ الْأَمْرُ الثَّابِتُ فَإِنَّ كُلَّ مُلْكٍ غَيْرَ مُلْكِ الْخَالِقِيَّةِ فَهُوَ مَشُوبٌ باستقلال مَمْلُوكه عِنْد اسْتِقْلَالا تَفَاوتا، وَذَلِكَ يُوهِنُ الْمُلْكَ وَيُضْعِفُ حَقِّيَّتَهُ.

وَجُمْلَةُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ تَذْيِيلٌ وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ. وَالْعَرَبُ يَجْعَلُونَ التَّذْيِيلَاتِ مُشْتَمِلَةً عَلَى اهْتِمَامٍ أَوْ عُمُومٍ أَوْ كَلَامٍ جَامِعٍ.

وَقَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْحُكْمُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ جِنْسَ الْحُكْمِ فَقَصْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِمَّا حَقِيقِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَإِمَّا إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ لَيْسَ لِأَصْنَامِكُمْ حُكْمٌ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ

الْحُكْمِ الْحِسَابَ، أَيِ الْحُكْمُ الْمَعْهُودُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ أَيْ أَلَا لَهُ الْحِسَابُ، وَهُوَ أَسْرَعُ مَنْ يُحَاسِبُ فَلَا يَتَأَخَّرُ جَزَاؤُهُ.

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ وَعْدًا وَوَعِيدًا لِأَنَّهُ لَمَّا أُتِيَ بِحَرْفِ الْمُهْلَةِ فِي الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ صَالِحٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ طَمَاعِيَةٍ وَمُخَالَفَةٍ فَالصَّالِحُونَ لَا يُحِبُّونَ الْمُهْلَةَ وَالْكَافِرُونَ بِعَكْسِ حَالِهِمْ، فَعُجِّلَتِ الْمَسَرَّةُ لِلصَّالِحِينَ وَالْمُسَاءَةُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلُهُ: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.

[٦٣، ٦٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ تَهْدِيدًا وَافْتُتِحَ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ الْمُشْرِكُونَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ.

وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُنَازَعُونَ فِيهِ بِحَسْبِ عَقَائِدِ الشِّرْكِ.

وَالظُّلُمَاتُ قِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ إِضْرَارِ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَظُلُمَاتُ الْبَرِّ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ الَّتِي يَلْتَبِسُ فِيهَا الطَّرِيقُ لِلسَّائِرِ وَالَّتِي يُخْشَى فِيهَا الْعَدُوُّ

لِلسَّائِرِ وَلِلْقَاطِنِ، أَيْ مَا يَحْصُلُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ مِنَ الْآفَاتِ. وَظُلُمَاتُ الْبَحْرِ يُخْشَى فِيهَا الْغَرَقُ وَالضَّلَالَ وَالْعَدُوُّ. وَقِيلَ: أُطْلِقَتِ الظُّلُمَاتُ مَجَازًا عَلَى الْمَخَاوِفِ الْحَاصِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مُظْلِمٌ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ شَدَائِدُ. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ (رَأَى الْكَوَاكِبَ مُظْهِرًا)، أَيْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ يَوْمه إضلاما فِي عَيْنَيْهِ لِمَا لَاقَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ لَيْلٌ يُرَى فِيهِ الْكَوَاكِبُ. وَالْجَمْعُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ رُوعِيَ فِيهِ تَعَدُّدُ أَنْوَاعِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الظُّلُمَاتِ، عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْجَمْعَ فِي لَفْظِ الظُّلُمَاتِ جَرَى عَلَى قَانُونِ الْفَصَاحَةِ.

وَجُمْلَةُ: تَدْعُونَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُنَجِّيكُمْ.

وقرىء مَنْ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- لِنَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَخَلَفٍ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِالتَّخْفِيفِ-.

وَالتَّضَرُّعُ: التَّذَلُّلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٢] .

وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْخُفْيَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا- ضِدُّ الْجَهْرِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ- الْخَاءِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ مِثْلُ أُسْوَةٍ وَإِسْوَةٍ. وَعَطَفَ خُفْيَةً عَلَى تَضَرُّعًا إِمَّا عَطْفَ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ كَمَا تُعْطَفُ الْأَوْصَافُ فَيَكُونُ مَصْدَرًا مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَطْفَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الدُّعَاءِ، أَيْ تَدْعُونَهُ فِي الظُّلُمَاتِ مُخْفِينَ أَصْوَاتَكُمْ خَشْيَةَ انْتِبَاهِ الْعَدُوِّ مِنَ النَّاسِ أَوِ الْوُحُوشِ.

وَجُمْلَةُ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا فِي مَحَلٍّ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْكَلَامِ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقِسْمِ، وَاللَّام فِي لَنَكُونَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقِسْمِ. وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ إِمَّا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِكَايَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ بِحَيْثُ يَدْعُو كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رِفَاقِهِ. وَإِمَّا أُرِيدَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ مِثْلَ: رَكِبَ الْقَوْمُ خَيْلَهُمْ، وَإِنَّمَا رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ فَرَسًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْجَيْتَنَا- بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْجِيمِ وَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ أَنْجانا- بِأَلْفٍ بَعْدَ الْجِيمِ- وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ.

وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى الظُّلْمَةِ الْمُشَاهَدَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الشِّدَّةُ، أَوْ إِلَى حَالَةٍ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ مِثْلَ الشِّدَّةِ أَوِ الْوَرْطَةِ أَوِ الرِّبْقَةِ.

وَالشَّاكِرُ هُوَ الَّذِي يُرَاعِي نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ فَيُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُ كُلَّمَا وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَرَوْنَ الشُّكْرَ حَقًّا عَظِيمًا وَيُعَيِّرُونَ مَنْ يَكْفُرُ النِّعْمَةَ.

وَقَوْلُهُمْ: مِنَ الشَّاكِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لِنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: ٥٦] .

وَجُمْلَةُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها تَلْقِينٌ لِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْمَسْئُولِينَ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قُلِ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَوَلَّى الْجَوَابَ عَنْهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِهِ.

وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ لَا غَيْرُهُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ بِالْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. وَلَوْلَا هَذَا لَاقْتَصَرَ عَلَى قُلِ اللَّهُ. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها لِلظُّلُمَاتِ أَوْ لِلْحَادِثَةِ. وَزَادَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِالْمَعْنَيَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْمِثَالِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ يُنَجِّيكُمْ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَنْجَاهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ.

وَهَذَا مِنَ التَّفَنُّنِ لِتَجَنُّبِ الْإِعَادَةِ. وَنَظِيرُهُ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [الطارق: ١٧] .

وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ يُنَجِّيكُمْ- بِالتَّشْدِيدِ- مِثْلَ الْأُولَى.

وثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ إِشْرَاكَهُمْ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَلْجَأُونَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْمُهْلَةَ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِخَبَرِ إِسْنَادِ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِرَافِكُمْ تُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، مِنْ بَابِ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ

[الْبَقَرَة: ٨٥]، وَمِنْ بَابِ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا، وَلَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي.

وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ شِرْكِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ التَّجَدُّدَ وَالدَّوَامَ عَلَيْهِ أَعْجَبُ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاكُمْ فَوَعَدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ فَإِذَا أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. وَبَيْنَ الشَّاكِرِينَ وتُشْرِكُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.

[٦٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٦٥]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَقَّبَ بِهِ ذِكْرَ النِّعْمَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، تَخْوِيفًا لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ مِثْلَ إِعَادَتِهِ فِي نَظَائِرِهِ لِلِاهْتِمَامِ الْمُبَيَّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ [الْأَنْعَام: ٤٠] .

وَالْمَعْنَى قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، فَالْمُخَاطَبُ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ لَيْسَ الْإِعْلَامَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّهْدِيدُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْقَادِرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُخَافَ بَأْسُهُ فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ مَجَازًا مُرْسَلًا مُرَكَّبًا، أَوْ كِنَايَةً تَرْكِيبِيَّةً.

وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، لِقَوْلِهِمْ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: ٢٠] .

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَفَادَ الْقَصْرَ، فَأَفَادَ اخْتِصَاصَهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَعْثِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخْشَوُا الْأَصْنَامَ، وَلَوْ أَرَادُوا الْخَيْرَ لِأَنْفُسِهِمْ لَخَافُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَرْضَاتِهِ، فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ إِضَافِيٌّ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقادِرُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَذَابِ.

وَالْعَذَابُ الَّذِي مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الصَّوَاعِقِ وَالرِّيحِ، وَالَّذِي مِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ مِثْلُ الزَّلَازِلِ وَالْخَسْفِ وَالطُّوفَانِ.

ويَلْبِسَكُمْ مُضَارِعُ لَبَسَهُ- بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ خَلَطَهُ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَلْبِسَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأَشْخَاصِ بِتَقْدِيرِ اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ وَاضْطِرَابِهِ وَمَرْجِهِ، أَيِ اضْطِرَابُ شُؤُونِهِمْ، فَإِنَّ اسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ تُشْبِهُ انْتِظَامَ السِّلْكِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ النَّاسِ نِظَامًا. وَبِعَكْسِ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَالْفَوْضَى تُشْبِهُ اخْتِلَاطَ الْأَشْيَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَرْجًا وَلَبْسًا. وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْأَمْنِ وَدُخُولِ الْفَسَادِ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِالْمَرْجِ، وَهُوَ الْخَلْطُ فَيُقَالُ:

هُمْ فِي هَرْجٍ وَمَرْجٍ، فَسُكُونُ الرَّاءِ فِي الثَّانِي لِلْمُزَاوَجَةِ.

وَانْتَصَبَ شِيَعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْبِسَكُمْ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُتَّحِدَةُ فِي غَرَضٍ أَوْ عَقِيدَةٍ أَوْ هَوًى فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ١٥٩] .

وَشِيعَةُ الرَّجُلِ أَتْبَاعُهُ وَالْمُقْتَدُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ [الصافات: ٨٣] أَيْ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ.

وَتَشَتُّتُ الشِّيَعِ وَتَعَدُّدُ الْآرَاءِ أَشَدُّ فِي اللَّبْسِ وَالْخَلْطِ، لِأَنَّ اللَّبْسَ الْوَاقِعَ كَذَلِكَ لَبْسٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ انْتِظَامٌ.

وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لِأَنَّ مِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ اللَّبْسِ التَّقَاتُلَ.

فَالْبَأْسُ هُوَ الْقَتْلُ وَالشَّرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: ٨١] . وَالْإِذَاقَةُ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَلَمِ.

وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ. وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ ذَاقُوا بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَزَوَاتٍ كَثِيرَةٍ.

فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قَالَ رَسُولُ ﷺ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ. قَالَ: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ» .

اهـ. وَاسْتِعَاذَةُ النَّبِيءِ ﷺ مِنْ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَعُمَّ الْعَذَابُ إِذَا نَزَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَنْ هُوَ بِجِوَارِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]

وَفِي الْحَدِيثِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: هَذِهِ أَهْوَنُ، أَنَّ الْقَتْلَ إِذَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ فَهُوَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ أَذًى عَظِيمٌ لَكِنَّهُ أَهْوَنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اسْتِئْصَالُ وَانْقِطَاعُ كَلِمَةِ الدِّينِ، فَهُوَ عَذَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَشَهَادَةٌ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ» .

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ اسْتَعَاذَ أَنْ يَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَن يُقَال: لماذَا لَمْ يَسْتَعِذِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَعَدَهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِ أَنْفُسِهِمْ.

وَلَيْسَتِ اسْتِعَاذَتُهُ بِدَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُرَادٌ بِهَا خِطَابُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَا أَنَّهَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّ مُفَادَهَا غَيْرُ الصَّرِيحِ صَالِحٌ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ صَالِحَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى التَّهْدِيدِيَّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمُسْلِمِينَ هُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي أَصْلِ الْإِخْبَارِ وَفِي لَازِمِهِ فَيَكُونُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً وَلَا يُنَاسِبُ الْمَجَازَ الْمُرَكَّبَ الْمُتَقَدِّمَ بَيَانُهُ.

انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.

اسْتِئْنَافٌ وَرَدَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ تَنْزِيلٌ لِلْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ، وَقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ تَنْوِيعُهَا بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى. فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى التَّصْرِيفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ

يَصْدِفُونَ

فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦] .

ولَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالِ سَائِلٍ عَنْ فَائِدَةِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ رَجَاءَ حُصُولِ فَهْمِهِمْ لِأَنَّهُمْ لِعِنَادِهِمْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى إِحَاطَةِ الْبَيَانِ بِأَفْهَامِهِمْ لَعَلَّهَا تَتَذَكَّرُ وَتَرْعَوِي.

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى (لَعَلَّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١] .

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْفِقْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا فِي سُورَة النِّسَاء [٧٨] .

[٦٦، ٦٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٦٦ إِلَى ٦٧]

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)

عَطْفٌ عَلَى انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ [الْأَنْعَام: ٦٥]، أَيْ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فَلَمْ يَفْقَهُوا وَكَذَّبُوا. وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا [الْأَنْعَام:

٦٥]، وَتَكْذِيبُهُمْ بِهِ مَعْنَاهُ تَكْذِيبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ.

وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِ قَوْمُكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]، وَقَالَ طَرْفَةُ:

وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ (كَذَّبَ) بِالْبَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٧] .

وَجُمْلَةُ وَهُوَ الْحَقُّ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِلَخ.

وَقَدْ تَحَقَّقَ بَعْضُ ذَلِكَ بِعَذَابٍ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ الْقَحْطِ، وَبِإِذَاقَتِهِمْ بَأْسَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ بِهِ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ بِهِ رُجُوعًا بِالْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الْأَنْعَام: ٥٧]، أَيْ كَذَبْتُمْ بِالْقُرْآنِ، عَلَى وَجْهٍ جَعَلَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي [الْأَنْعَام: ٥٧] ابْتِدَائِيَّةً كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ كَذَّبْتُمْ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَسَأَلْتُمْ نُزُولَ الْعَذَابِ تَصْدِيقًا لِرِسَالَتِي وَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِي. ثُمَّ اعْتَرَضَ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ.

أُولَاهَا: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: ٥٩]، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.

وَقَوْلُهُ: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ إِرْغَامٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَتِهِ قَدْ أَغَاظُوهُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُغِيظُهُ ذَلِكَ وَأَنَّ عَلَيْهِ الدعْوَة فَإِذا كَانُوا يَغِيظُونَ فَلَا يَغِيظُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.

وَالْوَكِيلُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُدَافِعِ النَّاصِرِ، وَهُوَ الْحَفِيظُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٧٣] .

وَتَعْدِيَتُهُ بِ (عَلَى) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَةِ، أَيْ لَسْتُ بِقَيِّمٍ عَلَيْكُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] . وَجُمْلَةُ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ الْحَقُّ يُثِيرُ سُؤَالَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: فَمَتَى يَنْزِلُ الْعَذَابُ. فَأُجِيبُوا بِقَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ.

وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ الْمُهِمُّ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ لِكُلِّ خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ لِكُلِّ مُخْبَرٍ بِهِ، أَيْ مَا أُخْبَرُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الْأَنْعَام: ٦٥] الْآيَةَ.

وَالْمُسْتَقَرُّ وَقْتُ الِاسْتِقْرَارِ، فَهُوَ اسْمُ زَمَانِهِ، وَلِذَلِكَ صِيغَ بِوَزْنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا هُوَ قِيَاسُ صَوْغِ اسْمِ الزَّمَانِ الْمُشْتَقِّ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ. وَالِاسْتِقْرَارُ بِمَعْنَى الْحُصُولِ، أَيْ لِكُلِّ مَوْعُودٍ بِهِ وَقْتٌ يَحْصُلُ فِيهِ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ وَتَفْوِيضُ زَمَانِهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ الْمُسْتَقَرُّ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي الِانْتِهَاءِ وَالْغَايَةِ مَجَازًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨]، وَهُوَ شَامِلٌ لِوَعِيدِ الْآخِرَةِ وَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَلِكُلٍّ مُسْتَقَرٌّ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ.

وَعَطْفُ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى جُمْلَةِ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أَيْ تَعْلَمُونَهُ، أَيْ هُوَ الْآنَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَتَعْلَمُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ حُلُولِهِ بِكُمْ. وَهَذَا أَظْهَرُ فِي وَعِيدِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا.

[٦٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٦٨]

وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: ٦٦] . وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالضَّمِيرِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ، فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، يَدُلُّ على أنّ الَّذِي يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَرِيقٌ خَاصٌّ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْعَذَابِ.

فَعُمُومُ الْقَوْمِ أَنْكَرُوا وَكَذَّبُوا دُونَ خَوْضٍ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَأُولَئِكَ قِسْمٌ، وَالَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ قِسْمٌ كَانَ أَبْذَى وَأَقْذَعَ، وَأَشَدَّ كُفْرًا وَأَشْنَعَ، وَهُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ.

وَهَؤُلَاءِ أُمِرَ الرَّسُولُ ﷺ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَرْكِ مُجَالِسِهِمْ حَتَّى يَرْعَوُوا عَنْ ذَلِكَ.

وَلَوْ أُمِرَ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ لَتَعَطَّلَتِ الدَّعْوَةُ وَالتَّبْلِيغُ.

وَمَعْنَى إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي حَالِ خَوْضِهِمْ. وَجَاءَ تَعْرِيفُ هَؤُلَاءِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أَنْ يُقَالَ الْخَائِضِينَ أَوْ قَوْمًا خَائِضِينَ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ غَرِيبٌ، إِذْ شَأْنُ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام أَنْ يُمَارِسَ النَّاسَ لِعَرْضِ دَعْوَةِ الدِّينِ، فَأَمْرُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَاسْتِئْنَاسٍ. وَذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي أَفَادَهُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ، أَيْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا.

وَهَذِهِ الْآيَةُ أَحْسَنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، لِمَجِيءِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِفَادَةِ تَعْلِيلِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ إِنْشَاءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ حُدِّدَ بِغَايَةِ حُصُولِ ضِدِّ الصِّلَةِ. وَهِيَ أَيْضًا أَعْدَلُ شَاهِدٍ لِصِحَّةِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ (أَو أَن توميء بِذَلِكَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ) بِأَنَّ وَجْهَ بِنَاءِ الْخَبَرِ هُوَ عِلَّتُهُ وَسَبَبُهُ، وَإِن أَبى التفتازانيّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ.

وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ مَشْيًا بِالرِّجْلَيْنِ دُونَ سِبَاحَةٍ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ عَنَتٌ، كَمَا اسْتُعِيرَ التَّعَسُّفُ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الرَّمْلِ لِذَلِكَ. وَاسْتُعِيرَ الْخَوْضُ أَيْضًا لِلْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ تُكَلُّفُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لَهُ قَائِلُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ:

وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: ٦٥]، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَة: ٦٩]، ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: ٩١] . فَمَعْنَى يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.

وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ﷺ مُبَاشَرَةً وَحُكْمُ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَحُكْمِهِ، كَمَا قَالَ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠] فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.

وَالْإِعْرَاضُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] . وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ تَرْكُ الْجُلُوسِ إِلَى مَجَالِسِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ الْحَقِيقِيُّ غَالِبًا، فَإِنْ هُمْ غَشَوْا مَجْلِسَ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَأُوا قَامَ فَحُذِّرُوا وَقَالُوا لَا تستهزءوا فَيَقُومَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِعْرَاضِ زَجْرُهُمْ وَقَطْعُ الْجِدَالِ مَعَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ.

وحَتَّى غَايَةٌ لِلْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضُ فِيهِ تَوْقِيفُ دَعْوَتِهِمْ زَمَانًا أَوْجَبَهُ رَعْيُ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى هِيَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَضُرُّ تَوْقِيفُ الدَّعْوَةِ زَمَانًا، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَادَتْ مُحَاوَلَةُ هديهم إِلَى أصلهم لِأَنَّهَا تَمَحَّضَتْ لِلْمَصْلَحَةِ.

وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ انْتِقَالِهِمْ إِلَى حَدِيثٍ آخَرَ بِالْخَوْضِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ إِلَّا فِيمَا لَا جَدْوَى لَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشِّرْكِ وَأُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وغَيْرِهِ صِفَةٌ لِ حَدِيثٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْخَوْضِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَدِيثًا حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وَصْفُ حَدِيثٍ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ عَطْفُ حَالَةِ النِّسْيَانِ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. وَأَسْنَدَ الْإِنْسَاءَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ آثَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حظّا الْعلم الشَّيْطَانِ. كَمَا وَرَدَ أَنَّ التَّثَاؤُبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ، فَالنِّسْيَانُ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ تَبْلِيغِ مَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ»: إِنَّ كِبَارَ الرَّافِضَةِ هُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ ﷺ مِنَ النِّسْيَانِ اهـ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعُزِيَ إِلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ فِيمَا حَكَاهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحٍ لِلْقَصِيدَةِ النُّونِيَّةِ» لِشَيْخِهِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ. وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ نَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَنَسِيَ آيَاتٍ مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ تَذَكَّرَهَا لَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»

فَذَلِكَ نِسْيَانُ اسْتِحْضَارِهَا بَعْدَ أَنْ بُلِّغَهَا. وَلَيْسَ نَظَرُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَظَرُنَا فِي إِسْنَادِ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا لَهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ

الرَّسُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ طُرُوُّهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَعْرَاضِ مَوْكُولَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَيَكُونُ النِّسْيَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ كَمَا تَكَرَّرَ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا. وَهَذَا مِثْلُ كَوْنِ التَّثَاؤُبِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْجَنْبِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: ٤١]، وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ أَنَّ الْأَعْرَاضَ الْبَشَرِيَّةَ الْجَائِزَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِتَبْلِيغٍ وَلَا تُوقِعُ فِي الْمَعْصِيَةِ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا مِنْ أَثَرِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنْ لَا سُلْطَةَ لِعَمَلٍ شَيْطَانِيٍّ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْجَائِزَةِ عَلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْرَاضِ مَا لَا أَثَرَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ. وَقَدْ يَدُلُّ لِهَذَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ شَقِّ الصَّدْرِ: أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ الْعَلَقَةَ قَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، يَعْنِيَ مَرْكَزُ تَصَرُّفَاتِهِ، فَيَكُونُ الشَّيْطَانُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى شَيْءٍ يَقَعُ فِي نَفْسِ نَبِيِّنَا ﷺ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَدْبِيرِ شَيْءٍ يَشْغَلُ النَّبِيءَ حَتَّى يَنْسَى مِثْلَ مَا

وَرَدَ فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» حِينَ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَوَكَّلَ بِلَالًا بِأَنْ يَكْلَأَ لَهُمُ الْفَجْرَ، فَنَامَ بِلَالٌ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ النَّبِيءَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ» .

فَأَمَّا نَوْمُ النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ عَدَا بِلَالًا فَكَانَ نَوْمًا مُعْتَادًا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَخَرَجَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ. فَإِنَّ التَّلَاحِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ رَفْعَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِنَفْسِهِ فَوَسْوَسَ بِالتَّلَاحِي.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَعْصُومٌ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، وَأَمَّا مَا دُونَهَا مِثْلَ الْإِنْسَاءِ وَالنَّزْغِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُعْصَمَ مِنْهُ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ الْوَسْوَسَةَ آثَارُهَا وُجُودِيَّةٌ وَالْإِنْسَاءَ وَالنَّزْغَ آثَارُهُمَا عَدَمِيَّةٌ، وَهِيَ الذُّهُولُ وَالشَّغْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

فَالْمَعْنَى إِنْ أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَإِنْ تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ مَعَهُمْ، فَهَذَا النِّسْيَانُ يَنْتَقِلُ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمِنْ أُسْلُوبٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ، فَلَيْسَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِيقَاعًا فِي مَعْصِيَةٍ إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضٌ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ فِي الضَّلَالِ، وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِالنِّسْيَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَتَذَكَّرَ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ. فَالذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذَكُّرِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، فَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ إِذَا أَغْفَلْتَ بَعْدَ هَذَا فَقَعَدْتَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا

تَذَكَّرْتَ فَلَا تَقْعُدْ، وَهُوَ ضِدُّ فَأَعْرِضْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُنْسِيَنَّكَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ- مِنَ التَّنْسِيَةِ، وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي أَنْسَاهُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ

هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّهَا مِمَّا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إِذَا عَذَرْنَا أَصْحَابَنَا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ.

وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ هُمُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَهَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ فَائِدَةِ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ خَوْضَهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ ظُلْمٌ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَوْضُ إِنْكَارٍ لِلْحَقِّ ومكابرة للمشاهدة.

[٦٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٦٩]

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

لَمَّا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مَجَالِسِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ بِالطَّعْنِ فِي الْآيَاتِ قَدْ لَا يَحُولُ دُونَ بُلُوغِ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ إِلَى أَسْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَتْبَعَ اللَّهُ النَّهْيَ السَّابِقَ بِالْعَفْوِ عَمَّا تَتَلَقَّفُهُ أَسْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ عَفْوًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ عُذْرًا لِمَا يَطْرُقُ أَسْمَاعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قُعُودِهِمْ مَعَ الطَّاعِنِينَ.

وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ، وَالنَّبِيءُ ﷺ هُوَ أَوَّلُ الْمُتَّقِينَ، فَالْمَوْصُولُ كَتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] حُكْمُهُ شَامِلًا لِبَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ التَّبَعِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَتْ آيَةُ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] خَاصَّةً بِالنَّبِيءِ ﷺ وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ رُخْصَةً لِغَيْرِ النَّبِيءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُضُورِ فِي تِلْكَ الْمَجَالِسِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يُغْضِبُهُمْ قِيَامُ النَّبِيءِ مِنْ مَجَالِسِهِمْ. وَنُسِبَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، فَيَكُونُ عُمُومُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ مَخْصُوصًا بِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] قَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَيْفَ نَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ

وَهُمْ يَخُوضُونَ أَبَدًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ

يَعْنِي إِذَا قُمْتُمْ عَنْهُمْ فَمَا عَلَيْكُمْ تَبِعَةُ مَا يَقُولُونَ فِي حَالِ مُجَانَبَتِكُمْ إِيَّاهُمْ إِذْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَرَى ذَلِكَ وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ.

وَقَوْلُهُ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ آنِفًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٦٨] .

ثُمَّ الْحِسَابُ هُنَا مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ. فَهَذَا الْمَصْدَرُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ الَّذِينَ يَتَّقُونَ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٥٢]، أَيْ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنْ يُحَاسِبُوا الْخَائِضِينَ، أَيْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخَوْضِ إِذْ لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ زَجْرَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية: ٢٦] أَيْ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ تَبِعَةُ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مَا عَلَيْهِمْ نَصِيبٌ مِنْ إِثْمِ ذَلِكَ الْخَوْضِ إِذَا سَمِعُوهُ.

وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ ذِكْرى عَطَفَتِ الْوَاوُ الِاسْتِدْرَاكَ عَلَى النَّفْيِ، أَيْ مَا عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ حِسَابِهِمْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَى. وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَّرَ- بِالتَّشْدِيدِ- بِمَعْنَى وَعَظَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق: ٨]، أَيْ عَلَيْهِمْ إِنْ سَمِعُوهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ أَنْ يَعِظُوهُمْ وَيُخَوِّفُوهُمْ غَضَبَ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرى مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يَذْكُرُونَهُمْ ذِكْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَى مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ ذِكْرَى.

وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ حِسابِهِمْ أَيْ لَعَلَّ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ يَتَّقُونَ، أَيْ يَتْرُكُونَ الْخَوْضَ. وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْوَى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَيْ وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الذِّكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ بِتَحْصِيلِ وَاجِبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى تَقْوَاهُمْ.

وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَذِهِ ذِكْرَى، أَيْ قَوْلُهُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْأَنْعَام: ٦٨] تَذْكِرَةً لَكَ وَلَيْسَتْ مُؤَاخَذَةً بِالنِّسْيَانِ، إِذْ لَيْسَ عَلَى الْمُتَّقِينَ تَبِعَةُ سَمَاعِ اسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَكِنَّا ذَكَّرْنَاهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ سَمَاعَهُمْ.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِه الْآيَة لَيْسَ بِمَنْسُوخَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْقُعُودَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا عَلَى النَّبِيءِ ﷺ بِقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] كَمَا تقدّم آنِفا.

[٧٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٧٠]

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٦٩] . وَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ حُكْمِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ. وَأُتِيَ بِمَوْصُولٍ وَصِلَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ ذَلِكَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.

وذَرِ فِعْلُ أَمْرٍ. قِيلَ: لَمْ يَرِدْ لَهُ مَاضٍ وَلَا مَصْدَرٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا اسْمُ مَفْعُولٍ.

فتصاريفه هَذِه مماتة فِي الِاسْتِعْمَالِ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِأَمْثَالِهَا مِنْ مَادَّةِ تَرَكَ تَجَنُّبًا لِلثِّقَلِ وَاسْتَعْمَلُوا مُضَارِعَهُ وَالْأَمْرَ مِنْهُ. وَجَعَلَهُ عُلَمَاءُ التَّصْرِيفِ مِثَالًا وَاوِيًّا لِأَنَّهُمْ

وَجَدُوهُ مَحْذُوفَ أَحَدِ الْأُصُولِ، وَوَجَدُوهُ جَارِيًا عَلَى نَحْوِ يَعِدُ وَيَرِثُ فَجَزَمُوا بِأَنَّ الْمَحْذُوفَ مِنْهُ الْفَاءُ وَأَنَّهَا وَاوٌ. وَإِنَّمَا حُذِفَتْ فِي نَحْوِ ذَرْ وَدَعْ مَعَ أَنَّهَا مَفْتُوحَةُ الْعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَذْفُ تَخْفِيفٍ لَا حَذْفُ دَفْعِ ثِقَلٍ، بِخِلَافِ حَذْفِ يَعِدُ وَيَرِثُ.

وَمَعْنَى: (ذَرِ) اتْرُكْ، أَيْ لَا تُخَالِطْ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِاسْتِهْزَائِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: ١١]، وَقَوْلِهِ:

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلِ طَرَفَةَ:

فَذَرْنِي وَخُلْقِي إِنَّنِي لَكَ شَاكِرٌ ... وَلَوْ حَلَّ بَيْتِي نَائِيًا عِنْدَ ضَرْغَدِ

أَيْ لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِضَلَالِهِمُ الْمُسْتَمِرِّ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ فَالتَّذْكِيرُ بِالْقُرْآنِ شَامِلٌ لَهُمْ، أَوْ لَا تَعْبَأْ بِهِمْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَصُدَّكَ سُوءُ اسْتِجَابَتِهِمْ عَنْ إِعَادَةِ تَذْكِيرِهِمْ.

وَالدِّينُ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةَ، أَيْ مَا يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَيَنْتَحِلُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ

أَيِ اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا، أَيْ جَعَلُوا الدِّينَ مَجْمُوعَ أُمُورٍ هِيَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، أَيِ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ عِنْدَ الْأَصْنَامِ فِي مَوَاسِمِهَا، وَالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال: ٣٥] .

وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِمَكَانِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ مَا هُوَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ دِينًا لَهُمْ بَلْ عَمَدُوا إِلَى أَنْ يَنْتَحِلُوا دِينًا فَجَمَعُوا لَهُ أَشْيَاءَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَسَمَّوْهَا دِينًا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدَّيْنِ الْعَادَةَ، كَقَوْلِ الْمُثَقَّبِ الْعَبْدِيِّ:

تَقُولُ وَقَدْ درأت لَهَا وظيني ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي


أَيِ الَّذِينَ دَأْبُهُمُ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي مُعَامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ.

وَاللَّعِبُ وَاللَّهْوُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٢] .

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَرِيقٌ عُرِفُوا بِحَالِ هَذِهِ الصِّلَةِ وَاخْتُصَّتْ بِهِمْ، فَهُمْ غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ بَلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الْآيَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكِينَ كُلَّهُمْ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِالْمِلَّةِ وَالنِّحْلَةِ فَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فَبَيْنَهُمُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ. وَهَذَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرَ ذَرِ بِمَعْنَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِدِينِهِمْ لِقَصْدِ عَدَمِ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَوْ لِزِيَادَةِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ، أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمْ فَرِيقًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سُفَهَاءَ اتَّخَذُوا دَأْبَهُمُ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الدِّينِ بِمَعْنَى الْعَادَةِ فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ.

وَغَرَّتْهُمُ أَيْ خَدَعَتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَظَنُّوا أَنَّهَا لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَأَنَّ نَعِيمَهَا دَائِمٌ لَهُمْ بَطَرًا مِنْهُمْ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُرُورِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] .

وَذِكْرُ الْحَيَاةِ هُنَا لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ وَهُوَ أَنَّ هَمَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الْحَيَاةُ فِيهَا لَا مَا يتكسب فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا سَعَادَةُ الْحَيَاةِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَأَوْهَمَتْهُمْ أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْأَنْعَام:

٢٩] .

وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي وَذَكِّرْ بِهِ عَائِد إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ التَّذْكِيرُ بِاللَّهِ وَبِالْبَعْثِ وَبِالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقُرْآنِ فَيَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ مِنَ الْمَقَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥] . وَحَذَفَ مَفْعُولَ ذَكِّرْ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا أَيْ وَذَكِّرْهُمْ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ ذَكِّرْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ،

أَيْ ذَكِّرْهُمْ بِهِ إِبْسَالَ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلَهُ الْمُجَرَّدِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ فَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ هُمَا «هُمْ» وأَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. وَخُصَّ هَذَا الْمَصْدَرُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْدَاثِ الْمُذَكَّرِ بِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ تُبْسَلَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْجَرِّ تَعْلِيلًا لِلتَّذْكِيرِ، فَهُوَ كَالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تُبْسَلَ نَفْسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧٦] . وَجُوِّزَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ مِنْهُ عَلَى ثَلَجٍ.

وَوَقَعَ لَفْظُ (نَفْسٌ) وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَقُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الإنفطار: ٥]- أَيْ كُلُّ نَفْسٍ- عَلِمَتْ نَفْسَ مَا أَحْضَرَتْ، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ.

وَالْإِبْسَالُ: الْإِسْلَامُ إِلَى الْعَذَابِ، وَقِيلَ: السَّجْنُ وَالِارْتِهَانُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا صَالِحَانِ هُنَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَسْلِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْحَرَامُ. قَالَ ضَمْرَةُ النَّهْشَلِيُّ:

بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى ... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلَامَتِي وَعِتَابِي

وَأَمَّا الْإِبْسَالُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْكِلَابِيِّ:

وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ وَلَا بِدَمٍ مُرَاقِ

وَمَعْنَى: بِما كَسَبَتْ بِمَا جَنَتْ. فَهُوَ كَسْبُ الشَّرِّ بِقَرِينَةِ تُبْسَلَ.

وَجُمْلَةُ: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَفْسٌ لِعُمُومِ نَفْسٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ نَظَرًا لِكَوْنِ لَفْظِهِ مُفْرَدًا.

وَالْوَلِيُّ: النَّاصِرُ. وَالشَّفِيعُ: الطَّالِبُ لِلْعَفْوِ عَنِ الْجَانِي لِمَكَانَةٍ لَهُ عِنْدَ مَنْ بِيَدِهِ الْعِقَابُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَلِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤]، وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨] .

وَجُمْلَةُ: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ.

وتَعْدِلْ مُضَارِعُ عَدَلَ إِذَا فَدَى شَيْئًا بِشَيْءٍ وَقَدَّرَهُ بِهِ. فَالْفِدَاءُ يُسَمَّى الْعَدْلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨] .

وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِ أَنْ الْمُفِيدَةِ عَدَمَ تَحَقُّقِ حُصُولِ الشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَفْرُوضٌ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ.

وَالْعَدْلُ فِي قَوْلِهِ: كُلَّ عَدْلٍ مَصْدَرُ عَدَلَ الْمُتَقَدِّمِ. وَهُوَ مَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ فَيَكُونُ كُلَّ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ»، أَيْ وَإِنْ تُعْطَ كُلَّ عَطَاءٍ لِلْفِدَاءِ لَا يُقْبَلُ عَطَاؤُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِ تَعْدِلْ لِأَنَّ فِعْلَ (عَدَلَ) يَتَعَدَّى لِلْعِوَضِ بِالْبَاءِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِلْمُعَوَّضِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. فَلِذَلِكَ مَنَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ كُلَّ عَدْلٍ مَفْعُولًا بِهِ، وَهُوَ تَدْقِيقٌ. وكُلَّ هُنَا مُجَازٌ فِي الْكَثْرَةِ إِذْ لَيْسَ لِلْعَدْلِ، أَيْ لِلْفِدَاءِ حَصْرٌ حَتَّى يُحَاطَ بِهِ كُلِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ (كُلَّ) بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥] .

وَقَوْلُهُ: لَا يُؤْخَذْ مِنْها أَيْ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا مَا تَعْدِلُ بِهِ. فَقَوْلُهُ: مِنْها هُوَ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِ يُؤْخَذْ. وَلَيْسَ فِي يُؤْخَذْ ضَمِيرُ الْعَدْلِ لِأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْعَدْلَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، فَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ»، فَقَدْ نَزَلَ فِعْلُ الْأَخْذِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا أَخْذٌ. وَالْمَعْنَى لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ جَمِيعَ مَا تَعَارَفَ النَّاسُ التَّخَلُّصَ بِهِ مِنَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبِ، وَهُوَ النَّاصِرُ وَالشَّفِيعُ وَالْفِدْيَةُ.

فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨] .

وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْكَلَامَ يُثِيرُ

سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: فَمَا حَالُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ حَالِ النُّفُوسِ الَّتِي تُبْسَلُ بِمَا كَسَبَتْ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَوْصُولِ بِمَا لَهُ مِنَ الصِّلَةِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْجُزْأَيْنِ أَفَادَ الْقَصْرَ، أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُبْسَلُونَ لَا غَيْرُهُمْ.

وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِأَنَّ إِبْسَالَهُمْ هُوَ أَشَدُّ إِبْسَالٍ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ فَجَعَلَ مَا عَدَاهُ كَالْمَعْدُومِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ النَّكِرَةِ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ الْعَادِمُونَ وَلِيًّا وَشَفِيعًا وَقَبُولَ فِدْيَتِهِمْ هُمُ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الْإِبْسَالُ الْحَقُّ لَا مَا تَعْرِفُونَهُ فِي جَرَائِرِكُمْ وَحُرُوبِكُمْ مِنَ الْإِبْسَالِ، كَإِبْسَالِ أَبْنَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي شِعْرِهِ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩] .

وَجُمْلَةُ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْإِبْسَالِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَعْنَى الْإِبْسَالِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.

وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَمِنْهُ الْحَمَّةُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُسْتَشْفَى بِهِ مِنْ أَوْجَاعِ الْأَعْضَاءِ وَالدُّمَّلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ الْحَمَّةِ يَأْتِيهَا الْبُعَدَاءُ وَيَتْرُكُهَا الْقُرَبَاءُ» .

وَخُصَّ الشَّرَابُ مِنَ الْحَمِيمِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ بُعْدٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَعْطَشُونَ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً يَزِيدُهُمْ حَرَارَةً عَلَى حَرَارَةِ الْعَطَشِ.

وَالْبَاءُ فِي بِما كانُوا يَكْفُرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ.

وَزِيدَ فِعْلُ (كَانَ) لِيَدُلَّ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ مَادَّةِ الْكَوْنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ شَيْءٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَوْصُوفٍ بِغَيْرِهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْأَوْصَافِ سِوَى أَنَّهُ أَفَادَ الْوُجُودَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ.

[٧١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٧١]

قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)

قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ.

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنِ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ كَانَ

الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ ارْتِدَادَ بَعْضِ قَرَابَتِهِمْ أَوْ مَنْ لَهُمْ بِهِ صِلَةٌ. كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَمَا لَقِيَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَدْ رُوِيَ أنّ عبد الرحمان بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دَعَا أَبَاهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ

مُشِيرَةً إِلَى ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَحَاوَلَ الْمُشْرِكُونَ صَرْفَ النَّبِيءِ ﷺ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يُرْضُونَهُ بِمَا أَحَبَّ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ أَبِي طَالِبٍ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَأْيِيسٌ، وَجِيءَ- بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ- لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ. ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلّق ب نَدْعُوا. وَالْمُرَادُ بِمَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ الْأَصْنَامُ، فَإِنَّهَا حِجَارَةٌ مَشَاهَدٌ عَدَمُ نَفْعِهَا وَعَجْزُهَا عَنِ الضُّرِّ، وَلَوْ كَانَتْ تَسْتَطِيعُ الضُّرَّ لَأَضَرَّتْ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ خَلَعُوا عِبَادَتَهَا وَسَفَّهُوا أَتْبَاعَهَا وَأَعْلَنُوا حَقَارَتَهَا، فَلَمَّا جَعَلُوا عَدَمَ النَّفْعِ وَلَا الضُّرِّ عِلَّةً لِنَفْيِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَقَدْ كَنَّوْا بِذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِهِمُ النَّافِعَ الضَّارَّ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.

وَقَوْلُهُ: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عطف على نَدْعُوا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَارِ.

وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: ٣٣] .

وَالْأَعْقَابُ جَمْعُ عَقِبٍ وَهِيَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ. وَعَقِبُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ: رَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ وَعَلَى عَقِبَيْهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ بِمَعْنَى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ جَاعِلًا إِيَّاهُ وَرَاءَهُ فَرَجَعَ.

وَحَرْفُ (عَلَى) فِيهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ رَجَعَ عَلَى طَرِيقِ جِهَةِ عَقِبِهِ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ وَرَاءَهُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ تَمْثِيلًا شَائِعًا فِي التَّلَبُّسِ بِحَالَةٍ ذَمِيمَةٍ كَانَ فَارَقَهَا صَاحِبُهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا وَتَلَبَّسَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَارِجَ إِلَى سَفَرٍ أَوْ حَاجَةٍ فَإِنَّمَا يَمْشِي إِلَى غَرَضٍ يُرِيدُهُ فَهُوَ يَمْشِي الْقُدُمِيَّةَ فَإِذَا رَجَعَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى غَرَضِهِ فَقَدْ أَضَاعَ مَشْيَهُ فَيُمَثَّلُ حَالُهُ بِحَالِ مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» .

فَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ هُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْتَدِّ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ بِحَالِ مَنْ خَرَجَ فِي مُهِمٍّ فَرَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَمْ يَقْضِ مَا خَرَجَ لَهُ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ سُوءِ الْحَالَةِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَنَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ.

وَقَدْ أُضِيفَ (بَعْدَ) إِلَى إِذْ هَدانَا وَكِلَاهُمَا اسْمُ زَمَانٍ، فَإِنَّ (بَعْدَ) يَدُلُّ عَلَى

الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ [النُّور: ٥٨] و(إِذا) يَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُعَرَّفٍ بِشَيْءٍ، فَ (إِذَا) اسْمُ زَمَنٍ مُتَصَرِّفٍ مُرَادٌ بِهِ الزَّمَانُ وَلَيْسَ مَفْعُولًا فِيهِ. وَالْمَعْنَى بَعْدَ الزَّمَنِ

الَّذِي هَدَانَا اللَّهُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨] .

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا.

ارْتَقَى فِي تَمْثِيلِ حَالِهِمْ لَوْ فُرِضَ رُجُوعُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَمْثِيلٍ آخَرَ أَدَقَّ، بِقَوْلِهِ:

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بِهَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ فِي أَحْوَالِ الْمَمْسُوسِينَ. فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا، أَيْ حَالَ كَوْنِنَا مُشْبِهِينَ لِلَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَهَذِهِ الْحَالُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا فِي نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا مِنْ مَعْنَى التَّمْثِيلِ بِالْمُرْتَدِّ عَلَى أَعْقَابِهِ.

وَالِاسْتِهْوَاءُ اسْتِفْعَالٌ، أَيْ طَلَبُ هَوَى الْمَرْءِ وَمَحَبَّتِهِ، أَيِ اسْتِجْلَابُ هَوَى الْمَرْءِ إِلَى شَيْءٍ يُحَاوِلُهُ الْمُسْتَجْلِبُ. وَقَرَّبَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى هَمْزَةِ التَّعَدِّيَةِ. فَقَالَ: اسْتَهْوَاهُ بِمَعْنَى أَهْوَاهُ مِثْلُ اسْتَزَلَّ بِمَعْنَى أَزَلَّ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ هَوَى فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُوَ فِي «الْأَسَاسِ» مَعَ كَوْنِهِ ذَكَرَ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذَا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ.

وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ، إِذَا اخْتَطَفَتِ الْجِنُّ عَقْلَهُ فَسَيَّرَتْهُ كَمَا تُرِيدُ.

وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَحَرَتْهُ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْغِيلَانَ هِيَ سَحَرَةُ الْجِنِّ، وَتُسَمَّى السَّعَالَى أَيْضًا، وَاحِدَتُهَا سِعْلَاةٌ، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: اسْتَهَامَتْهُ الْجِنُّ إِذَا طَلَبَتْ هُيَامَهُ بِطَاعَتِهَا.

وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِ اسْتَهْوَتْهُ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى ذَهَبَتْ بِهِ وَضَلَّ فِي الْأَرْضِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي تَتَوَهَّمُهَا الْعَرَبُ اسْتِهْوَاءَ الْجِنِّ يُصَاحِبُهَا التَّوَحُّشُ وَذَهَابُ الْمَجْنُونِ عَلَى وَجْهِهِ فِي الْأَرْضِ رَاكِبًا رَأْسَهُ لَا يَنْتَصِحُ لِأَحَدٍ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْ

مَجَانِينِهِمْ وَمَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ اخْتَطَفَتْهُمْ. وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ عَمْرُو بْنُ عُدَيٍّ الْإِيَادِيُّ اللَّخْمِيُّ ابْنُ أُخْتِ جُذَيْمَةَ بْنِ مَالِكٍ مَلِكِ الْحَيْرَةِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقًا بِ حَيْرانَ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضٍ لِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ.

وحَيْرانَ حَال من كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ، وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى السَّبِيلِ. يُقَالُ: حَارَ يَحَارُ إِذْ تَاهَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَعْلَمِ الطَّرِيقَ. وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرَدُّدِ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مَخْرَجُهُ، وَانْتَصَبَ حَيْرانَ عَلَى الْحَال من كَالَّذِي.

وَجُمْلَةُ: لَهُ أَصْحابٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ مَعَهُ حِينَ أَصَابَهُ اسْتِهْوَاءُ الْجِنِّ.

فَجُمْلَةُ يَدْعُونَهُ صِفَةٌ لِ أَصْحابٌ.

وَالدُّعَاءُ: الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ عَمَلٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَالْهُدَى: ضِدُّ الضَّلَالِ. أَيْ يَدْعُونَهُ إِلَى مَا فِيهِ هُدَاهُ. وَإِيثَارُ لَفْظِ الْهُدَى هُنَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ.

فَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَجْرِيدٌ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] . وَلِذَلِكَ كَانَ لِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَقْعٌ بَدِيعٌ. وَجَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْهُدَى مُسْتَعَارًا لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَجُمْلَةُ: ائْتِنا بَيَانٌ لِ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَصَحَّ أَنْ يُبَيَّنَ بِمَا يَقُولُونَهُ إِذَا دَعَوْهُ، وَلِكَوْنِهَا بَيَانًا فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانِ الدُّعَاءِ إِلَى الْهُدَى لِتَمْكِينِ التَّمْثِيلِ مِنْ ذِهْنِ السَّامِعِ، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا يُخَاطَبُ بِصَرِيحِ الْمَقْصِدِ فَلَا يُدْعَى إِلَى الْهُدَى بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ لِأَنَّ مِنْ خُلُقِ الْمَجَانِينِ الْعِنَادَ وَالْمُكَابَرَةَ، فَلِذَلِكَ يَدْعُونَهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ رَغْبَتُهُمْ فِي صُحْبَتِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ إيّاه، فَيَقُولُونَ: ايتنا، حَتَّى إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْهُ أَوْثَقُوهُ وَعَادُوا بِهِ إِلَى بَيْتِهِ.

وَقَدْ شُبِّهَتْ بِهَذَا التَّمْثِيلِ الْعَجِيبِ حَالَةُ مَنْ فُرِضَ ارْتِدَادُهُ إِلَى ضَلَالَةِ الشِّرْكِ بَعْدَ هُدَى الْإِسْلَامِ لِدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ وَتَرْكِهِ أَصْحَابَهُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُ عَنْهُ، بِحَالِ الَّذِي فَسَدَ عَقْلُهُ بِاسْتِهْوَاءٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْجِنِّ، فَتَاهَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاقِلًا عَارِفًا بِمَسَالِكِهَا، وَتَرَكَ رُفْقَتَهُ الْعُقَلَاءَ يَدْعُونَهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ الْبَدِيعُ

صَالِحٌ لِلتَّفْكِيكِ بِأَنْ يُشَبَّهَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِهَا، بِأَنْ يُشَبَّهَ الِارْتِدَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِذَهَابِ عَقْلِ الْمَجْنُونِ، وَيُشَبَّهَ الْكُفْرُ بِالْهُيَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الِارْتِدَادِ بِالشَّيَاطِينِ وَتُشَبَّهُ دَعْوَةُ اللَّهِ النَّاسَ لِلْإِيمَانِ وَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ بِوَحْيِهِ بِالْأَصْحَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْهُدَى. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِير يكون كَالَّذِي صَادِقًا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عبد الرحمان بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَأْبَى، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.

[٧٢، ٧٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٧٢ الى ٧٣]

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

جُمْلَةُ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَكْرِيرٍ لِمَا أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ حِين يدعونَ الْمُسلمين إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا للنبيء ﷺ اعْبُدْ آلِهَتَنَا زَمَنًا وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ زَمَنًا. وَكَانُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُدًى فَلِذَلِكَ خُوطِبُوا بِصِيغَةِ الْقَصْرِ. وَهِيَ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فَجِيءَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ، فَاجْتَمَعَ فِي الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ مُؤَكِّدَاتٍ، لِأَنَّ الْقَصْرَ بِمَنْزِلَةِ مُؤَكِّدَيْنِ إِذْ لَيْسَ الْقَصْرُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ تَأْكِيدٌ، وَ(إِنَّ) تَأْكِيدٌ، فَكَانَتْ مُقْتَضَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى الْوَارِدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الدِّينُ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ هُنَا الْإِسْلَامُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. وَقَدْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ

هُدَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٠]، أَيِ الْقُرْآنُ هُوَ الْهُدَى لَا كُتُبُهُمْ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قَصْرِ جِنْسِ الْهُدَى عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِأَنَّ السِّيَاقَ لِرَدِّ دَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمُ الرُّجُوعَ إِلَى دِينِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ هُدًى، فَالْقَصْرُ لِلْقَلْبِ إِذْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْهُدَى، فَلَا يَكُونُ قَصْرُ الْهُدَى عَلَى هُدَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْهُدَى الْكَامِلِ، بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَجُمْلَةُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ عَطْفٌ عَلَى الْمَقُولِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ٥٦]، وَقَوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ.

وَاللَّامُ فِي لِنُسْلِمَ أَصْلُهَا لِلتَّعْلِيلِ وَتُنُوسِيَ مِنْهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ فَصَارَتْ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُرُودُهَا بَعْدَ مَادَّةِ الْأَمْرِ وَمَادَّةِ الْإِرَادَةِ. وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ لَامَ أَنْ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمَرْتُكَ بِأَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ وَأَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ. فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَإِذَا حَذَفُوهَا فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ مَعَ (أَنْ) . وَأَمَّا أَمَرْتُكَ لِتَفْعَلَ، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَهَا وَقَعَ الْأَمْرُ. يَعْنِي وَأَغْنَتِ الْعِلَّةُ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّلِ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ف (أَن) مضرَّة بَعْدَهَا، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ. وَالْمَعْنَى: وَأُمِرْنَا بِالْإِسْلَامِ، أَيْ أُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] .

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرَبِّ الْعالَمِينَ متعلّقة ب لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ مَعْنَى تَخَلُّصٍ لَهُ، قَالَ:

فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١] . وَفِي ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَأَحَقِّيَّتِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ مَصْدَرِيَّةً عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُسَوِّغُ دُخُولَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ فَتُفِيدُ الْأَمْرَ وَالْمَصْدَرِيَّةَ مَعًا لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عَبَثًا، فَقَوْلُ الْمُعْرِبِينَ: إِنَّهُ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْأَمْرِيَّةِ، مُرَادُهُمْ بِهِ أَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ مَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَهُوَ إِمَّا عُطِفَ عَلَى لِنُسْلِمَ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ قَبْلَ (أَنْ) وَهُوَ الْبَاءُ. وَتَقْدِيرُ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَإِمَّا عُطِفَ عَلَى مَعْنَى لِنُسْلِمَ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مَوْقِعِ بِأَنْ نُسْلِمَ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الزَّجَّاجِ. فَالتَّقْدِيرُ: أُمِرْنَا بِأَنْ نُسْلِمَ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنْ أَقِيمُوا أَيْ وَأُمِرْنَا بِأَنْ أَقِيمُوا، وَالْعَطْفُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَوْقِعِهِ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٍّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المُنَافِقُونَ: ١٠] إِذِ الْمَعْنَى إِنْ تُؤَخِّرْنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ.

وَإِنْ جَعَلْتَ (أَنْ) فِيهِ تَفْسِيرِيَّةً فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. فَيُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أُمِرْنا لِنُسْلِمَ بِأُمِرْنَا أَنْ أَسْلِمُوا لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ، أَيْ لِنُقِيمَ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ.

وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَاوُ الْعَطْفِ مِنْ تَقْدِيرِ الْعَامِلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَأُمِرْنا، فَإِنَّ أُمِرْنا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ فَنَاسَبَ مَوْقِعُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ.

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣] .

واتَّقُوهُ عَطْفٌ عَلَى أَقِيمُوا وَيَجْرِي فِيهِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ أَقِيمُوا.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي أُمِرُوا بِمُقْتَضَاهُ بِأَنْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَسْلِمُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى بِأَنْ قَالَ اللَّهُ: اتَّقَوْنِ، فَحُكِيَ بِمَا يُوَافِقُ كَلَامَ النَّبِيءِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، كَمَا فِي حِكَايَةِ قَوْلِ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧] .

وَجَمَعَ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ، وَتَخْصِيصُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ

لِلِاهْتِمَامِ.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتَّقُوهُ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ، أَيْ وَقُلْ لَهُمْ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى قُلْ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمَقُولِ. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِلْحَشْرِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَتَذْكِيرٌ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ تَحْرِيضًا عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّقْوَى.

وَاشْتَمَلَتْ جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عَلَى عِدَّةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ: صِيغَةُ الْحَصْرِ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تُحْشَرُونَ الْمُفِيدُ لِلتَّقَوِّي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْحَشْرِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحُصْرُ هُنَا حَقِيقِيٌّ إِذْ هُمْ لَمْ يُنْكِرُوا كَوْنَ الْحَشْرِ إِلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا وُقُوعَ الْحَشْرِ، فَسَلَكَ فِي إِثْبَاتِهِ طَرِيقَ الْكِنَايَةِ بِقَصْرِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَلْزِمِ وُقُوعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، تَعْرِيضًا بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ رَدِّ اعْتِقَادٍ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَصْرِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْخَلَائِقَ عَبِيدُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] .

وَالْبَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ خَلَقَ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ.

وَالْحَقُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ (حَقَّ) إِذَا ثَبَتَ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْأَمْرِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يُنَكَّرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ فُلَانٌ عَدْلٌ. وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ. فَالْبَاطِلُ اسْمٌ لِضِدِّ مَا يُسَمَّى بِهِ الْحَقُّ فَيُطْلَقُ الْحَقُّ إِطْلَاقًا شَائِعًا عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَإِعْطَاءُ الْمُسْتَحِقِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُرَادِفُ الْعَدْلِ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ الصَّالِحِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِتْقَانِ وَالصَّوَابِ، وَيُرَادِفُ الْحِكْمَةَ وَالْحَقِيقَةَ، وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ فَيُرَادِفُ الْعَبَثَ

وَاللَّعِبَ. وَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخان: ٣٩] بَعْدَ قَوْلِهِ:

وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: ٣٨] وَكَقَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آل عمرَان: ١٩١] . فَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَأَوْدَعَ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَخَصَائِصَ تَصْدُرُ بِسَبَبِهَا الْآثَارُ الْمَخْلُوقَةُ هِيَ لَهَا وَرَتَّبَهَا عَلَى نُظُمٍ عَجِيبَةٍ تَحْفَظُ أَنْوَاعَهَا وَتُبْرِزُ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَأَعْظَمُهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِيهِ وَالْعِلْمِ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ لِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إِذْ لَوْ أُهْمِلَتْ أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ لَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانًا مِنَ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُلَابِسَةً لَهُ، فَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ.

وَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ مُلَابَسَةِ الْحَقِّ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى فَبَيَّنَتْ مُلَابَسَةَ الْحَقِّ لِأَمْرِهِ تَعَالَى الدَّالِّ عَلَيْهِ يَقُولُ. وَالْمُرَادُ بِ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ يَوْمُ الْبَعْثِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.

وَقَدْ أَشْكَلَ نَظْمُ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَذَهَبَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ طَرَائِقَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُبْتَدَأُ هُوَ قَوْلُهُ وَيَكُونُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَقَوْلُهُ الْحَقُّ يَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَنُكْتَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ وُقُوعَ هَذَا التَّكْوِينِ بَعْدَ الْعَدَمِ.

وَوَصْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْحَقُّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ عَيْنُ الْمَقُولِ لِفِعْلِ يَقُولُ كُنْ، وَحَذْفُ الْمَقُولِ لَهُ كُنْ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ يَقُولُ لِغَيْرِ الْمَوْجُودِ الْكَائِنِ: كُنْ. وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ اعْتِرَاضٌ، أَيْ يَقُولُ لِمَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ (كُنْ) فَيُوجَدُ الْمَقُولُ لَهُ كُنْ عَقِبَ أَمْرِ التَّكْوِينِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ الَّذِي بَدَأَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ، فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ تَكْوِينِهِ الْأَوَّلِ وَلَا مِنْ تَكْوِينِهِ الثَّانِي عَنِ الْحَقِّ. وَيَتَضَمَّنُ

أَنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي الْمُقَابِلُ لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِكَلِمَةِ يَوْمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ تَكْوِينٌ خَاصٌّ مُقَدَّرٌ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: قَوْلُهُ الْحَقُّ صِيغَةُ قَصْرٍ لِلْمُبَالِغَةِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ لِأَنَّ أَقْوَالَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَقِّ فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ لِلْخَطَأِ وَمَا كَانَ فِيهَا غَيْرَ مُعَرَّضٍ لِلْخَطَأِ فَهُوَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ أَوْ مِنْ نِعْمَتِهِ بِالْعَقْلِ وَالْإِصَابَةِ، فَذَلِكَ اعْتِدَادٌ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ. وَنَظِيرُ هَذَا

قَول النبيء ﷺ فِي دُعَائِهِ: «قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ» .

وَالْمُرَادُ بِالْقَوْلِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ، وَهُوَ يَوْمُ يَقُولُ كُنْ، مِنْ أَمْرِ تَكْوِينٍ، أَوْ أَمْرِ ثَوَابٍ، أَوْ عِقَابٍ، أَوْ خَبَرٍ بِمَا اكْتَسَبَهُ النَّاسُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَأَضْدَادِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ حَقٌّ. وَخَصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَقْوَالِ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّقْدِيمُ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ كَمَا عَلِمْتَ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِقَامَةِ الْمَعْنَى مِنْ ذَلِكَ مَسَالِكُ أُخْرَى غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى السُّبُلِ الْوَاضِحَةِ.

وَقَوْلُهُ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَانْتِظَامُهَا كَانْتِظَامِ جُمْلَةِ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ إِلَّا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيِ الْمُلْكُ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ لِرَدِّ مَا عَسَى أَنْ يَطْمَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُشَارَكَةِ أَصْنَامِهِمْ يَوْمَئِذٍ فِي التَّصَرُّفِ وَالْقَضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ تَهْوِيلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ الَّذِي يَعُمُّ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ، فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَحْضُرُونَ لِلْحَشْرِ كَمَا يَحْضُرُ الْجَيْشُ بِنَفْخِ الْأَبْوَاقِ وَدَقِّ الطُّبُولِ.

وَالصُّورُ: الْبُوقُ.

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِنَفْخِ الصُّورِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ هَذَا النَّفْخِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى»

. وَيَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنَّهُ عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لِإِفَادَةِ هَذَا الْحَالِ الْعَجِيبِ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا جُعِلَ

ظَرْفًا لِلْقَوْلِ عُرِّفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَلَمَّا جُعِلَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْمُلْكِ نَاسَبَ أَنْ يُعَرِّفَ الْيَوْمَ بِمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُلْكِ وَالْجُنْدِ.

وَقَدِ انْتَصَبَ يَوْمَ يُنْفَخُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ لِلِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُجْعَلُ وَلَهُ الْمُلْكُ عَطْفًا عَلَى قَوْلُهُ الْحَقُّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصُّورُ هُنَا جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يُنْفَخُ فِي صُوَرِ الْمَوْجُودَاتِ.

وَلَمَّا انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شُؤُونٍ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى أُتْبِعَ بِصِفَاتٍ تُشِيرُ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ عَلَى كُلِّ جَلِيلٍ وَدَقِيقٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ بِقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. وَجَاءَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي مَقَامِ تَقَدُّمِ صِفَاتِهِ. فَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ تَبَعٌ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي تَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ بِخَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهَا يُجْعَلُ فِيهِ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُسْنَدًا

إِلَيْهِ وَيُلْتَزَمُ حَذْفُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٧]، فَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا عالِمُ الْغَيْبِ فَحَذَفَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَحْذِفِ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

وَالْغَيْبُ: مَا هُوَ غَائِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٩] .

وَالشَّهَادَةُ: ضِدُّ الْغَيْبِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ ويتوصّلون إِلَى علمهَا يُقَالُ: شَهِدَ، بِمَعْنَى حَضَرَ، وَضِدُّهُ غَابَ، وَلَا تَخْرُجُ الْمَوْجُودَاتُ عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الْعَالِمُ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ عَالِمٌ كُلَّ غَيْبٍ وَكُلَّ شَهَادَةٍ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ. وَصِفَةُ الْحَكِيمُ تَجْمَعُ إِتْقَانَ الصُّنْعِ فَتَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَصْنُوعَاتِ. وَصِفَةُ الْخَبِيرُ تَجْمَعُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُومَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا. فَكَانَتِ الصِّفَتَانِ

كَالْفَذْلَكَةِ لِقَوْلِهِ:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِقَوْلِهِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.

[٧٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٧٤]

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)

عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الَّتِي أُولَاهَا وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: ٦٦] الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحُجَجِ وَالْمُجَادِلَةِ فِي شَأْنِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ، فَعُقِّبَتْ تِلْكَ الْحُجَجُ بِشَاهِدٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ بِذِكْرِ مُجَادَلَةِ أَوَّلِ رَسُولٍ أَعْلَنَ التَّوْحِيدَ وَنَاظَرَ فِي إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ السَّاطِعَةِ، وَلِأَنَّهَا أَعْدَلُ حُجَّةٍ فِي تَارِيخِ الدِّينِ إِذْ كَانَتْ مُجَادَلَةَ رَسُولٍ لِأَبِيهِ وَلِقَوْمِهِ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ حُجَّةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّ أَبَاهُمْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا وَلَا مُقِرًّا لِلشِّرْكِ فِي قَوْمِهِ، وَأَعْظَمُ حجّة للرسول ﷺ إِذْ جَاءَهُمْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ.

وَالْكَلَامُ فِي افْتِتَاحِ الْقِصَّةِ بِ إِذْ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] .

وآزَرَ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عُرِفَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ

اسْمُهُ آزَرُ فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُعْتَنِينَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام وَنَسَبِهِ وَأَبْنَائِهِ. وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا ذُكِرَ اسْمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا لِقَصْدٍ سَنَذْكُرُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاسْمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (تَارَحُ) - بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فَأَلِفٍ فَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ-. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ فِي أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ. وَتَبِعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْجُوَيْنِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي «تَفْسِيرِ النُّكَتِ» . وَفِي كَلَامِهِمَا نَظَرٌ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْفِيَّ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ آزَرَ اسْمٌ لِأَبِي إِبْرَاهِيمَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ بَيْنَ قَوْمِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ فِي لُغَةٍ أُخْرَى غَيْرَ لُغَةِ قَوْمِهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ (آزَرَ) وَصْفٌ.

قَالَ الْفَخْرُ: قِيلَ مَعْنَاهُ الْهَرِمُ بِلُغَةِ خُوَارَزْمَ، وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ الْأَصْلِيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الضَّحَّاكِ: (آزَرُ) الشَّيْخُ.

وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ بِلُغَةِ الْفُرْسِ (آزَرُ) . وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: اسْمُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ تَارَحُ وَآزَرُ لَقَبٌ لَهُ مِثْلَ يَعْقُوبَ الْمُلَقَّبِ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (آزَرُ) اسْمُ الصَّنَمِ الَّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ فَلُقِّبَ بِهِ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ الصَّنَمُ الَّذِي كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ سَادِنُ بَيْتِهِ.

وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَالْفَرَّاءِ: (آزَرُ) كَلِمَةُ سَبٍّ فِي لُغَتِهِمْ بِمَعْنَى الْمُعْوَجِّ، أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ. وَهَذَا وَهْمٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ لَفْظٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ لَيْسَ بِعَلَمٍ وَلَا بِمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الْمُعَرَّبَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا غَيْرَ عَلَمٍ نَقَلَهُ الْعَرَبُ إِلَى لُغَتِهِمْ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ»: أَنَّ مِنَ الْوُجُوهِ أَنْ يَكُونَ (آزَرُ) عَمَّ إِبْرَاهِيمَ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ لِأَنَّ الْعَمَّ قَدْ يُقَالُ لَهُ: أَبٌ. وَنُسِبَ هَذَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ أَبِيهِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَمُّهُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ كُلِّهَا.

قَالَ الْفَخْرُ: وَقَالَتِ الشِّيعَةُ: لَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ آبَاءِ رَسُول الله ﷺ وَأَجْدَادِهِ كَافِرًا.

وَأَنْكَرُوا أَنَّ (آزَرَ) أَبٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِنَّمَا كَانَ عَمَّهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ. قُلْتُ: هُوَ كَمَا قَالَ الْفَخْرُ مِنْ عَدَمِ الْتِزَامِ هَذَا وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي «رِسَالَةٍ» لِي فِي طَهَارَةِ نَسَبِ رَسُول الله ﷺ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي خُلُوصَ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ خُلُوصًا جِبِلِّيًّا لِأَنَّ الْخُلُوصَ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ هُوَ الْخُلُوصُ مِمَّا يُتَعَيَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ: أَنَّ (تَارَحَ) لُقِّبَ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ بِلَقَبِ (آزَرَ) بَاسِمِ الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، فَفِي «مُعْجَمِ يَاقُوتَ» - آزَرُ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَبِالرَّاءِ- نَاحِيَةٌ بَيْنَ سُوقِ الْأَهْوَازِ وَرَامَهُرْمُزَ.

وَفِي الْفَصْلِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ بَلَدَ تَارَحَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ هُوَ (أُورُ الْكِلْدَانِيِّينَ) . وَفِي «مُعْجَمِ يَاقُوتٍ» (أُورُ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- مِنْ أَصْقَاعِ رَامَهُرْمُزَ مِنْ خُوزِسْتَانَ» . وَلَعَلَّهُ هُوَ أُورُ الْكَلْدَانِيِّينَ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ أُضِيفَ إِلَى سُكَّانِهِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ (تَارَحَ) خرج هُوَ وَابْنه إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَلَدِهِ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ قَاصِدِينَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَأَنَّهُمَا مَرَّا فِي طَرِيقِهِمَا بِبَلَدِ (حَارَانَ) وَأَقَامَا هُنَاكَ وَمَاتَ تَارِحُ فِي

حَارَانَ. فَلَعَلَّ أَهْلَ حَارَانَ دَعَوْهُ آزَرَ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ صِقْعِ آزَرَ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام نبّىء فِي حَارَانَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ.

وَلَمْ يَرِدْ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِلْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِيهِ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ.

وَلِذَا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ آزَرَ فِي الْآيَةِ مُنَادًى وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ آزَرَ مَضْمُومًا. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهُ أَإِزْرُ- بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ-، وَرُوِيَ: عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَتَيْنِ- وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِهِ حِكَايَةً لِخِطَابِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ خِطَابَ غِلْظَةٍ، فَذَلِكَ مُقْتَضَى ذِكْرِ اسْمِهِ الْعَلَمِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آزَرَ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِضَمِّهَا-. وَاقْتَصَرَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى جَعْلِهِ فِي قِرَاءَةِ- فَتْحِ الرَّاءِ- بَيَانا من لِأَبِيهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لَهُ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْكِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِفٌ مِنْ مَوَاقِفِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ مَوْقِفُ غِلْظَةٍ، فَيَتَعَيَّنُ أنّه كَانَ عِنْد مَا أَظْهَرَ أَبُوهُ تَصَلُّبًا فِي الشِّرْكِ. وَهُوَ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ أَبُوهُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَم: ٤٦] وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْقِفِ الَّذِي خَاطَبَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ

الْآيَاتِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٢] .

وتَتَّخِذُ مُضَارِعُ اتَّخَذَ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ دَالَّةٌ عَلَى التَّكَلُّفِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْصِيلِ الْفِعْلِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَاءً لِقَصْدِ الْإِدْغَامِ تَخْفِيفًا وَلَيَّنُوا الْهَمْزَةَ ثُمَّ اعْتَبَرُوا التَّاءَ كَالْأَصْلِيَّةِ فَرُبَّمَا قَالُوا: تَخِذَ بِمَعْنَى اتّخذ، وَقد قرىء بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الْكَهْف: ٧٧] ولَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فَأَصْلُ فِعْلِ اتَّخَذَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَكَانَ أَصْلُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي حَالًا، وَقَدْ وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧] بِأَنَّ نُبَيِّنَ اسْتِعْمَالَ (اتَّخَذَ) وَتَعَدِّيَتَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَمَعْنَى تَتَّخِذُ هُنَا تَصْطَفِي وَتَخْتَارُ فَالْمُرَادُ أَتَعْبُدُ أَصْنَامًا.

وَفِي فِعْلِ تَتَّخِذُ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ مُصْطَنَعٌ مُفْتَعَلٌ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْإِلَهِيَّةِ.

وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِسَخَافَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَهَهُ شَيْئًا هُوَ صَنَعَهُ.

وَالْأَصْنَامُ جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ الصُّورَةُ الَّتِي تُمَثِّلُ شَكْلَ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اعْتِبَارَ كَوْنِهِ مَعْبُودًا دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ اسْمِ صَنَمٍ كَمَا تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ كَلِمَاتُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ، وَفِي «شِفَاءِ الْغَلِيلِ»: أَنَّ صَنَمَ مُعَرَّبٌ عَنْ (شَمَنَ)، وَهُوَ الْوَثَنُ، أَيْ مَعَ قَلْبٍ فِي بَعْضِ حُرُوفِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللُّغَةَ الْمُعَرَّبَ مِنْهَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ يَكُونُ قَوْلُهُ أَصْنامًا مَفْعُولَ تَتَّخِذُ عَلَى أَنَّ تَتَّخِذَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِهِ وَمَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ الْمَفْعُولُ، أَيْ أَصْنامًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ آلِهَةً حَالًا مِنْ أَصْنامًا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى صَاحِبِ الْحَالِ، أَوْ بَدَلًا مِنْ أَصْنامًا. وَهَذَا الَّذِي يُنَاسِبُ تَنْكِيرَ أَصْنامًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ تَتَّخِذُ لَكَانَ مُعَرَّفًا لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمُبْتَدَأُ. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الصَّنَمَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ سَوَاءٌ عُبِدَتْ أَمْ لَمْ تُعْبَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ آلِهَةً مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ تَتَّخِذُ عَلَى أَنَّ تَتَّخِذُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى تَجْعَلُ وَتَصِيرُ، أَيْ أَتَجْعَلُ صُوَرًا آلِهَةً لَكَ كَقَوْلِهِ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] .

وَقَدْ تَضَمَّنَ مَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَعْلُهُ الصُّوَرَ آلِهَةً مَعَ أَنَّهَا ظَاهِرَةُ الِانْحِطَاطِ عَنْ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَثَانِيهُمَا تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ مَفْعُولَا تَتَّخِذُ جَمْعَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَتَتَّخِذُ الصَّنَمَ إِلَهًا.

وَجُمْلَةُ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبَيِّنَةٌ لِلْإِنْكَارِ فِي جُمْلَةِ: أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً. وَأَكَّدَ الْإِخْبَارَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ مِنْ كَوْنِ ضَلَالِهِمْ بَيِّنًا، وَذَلِكَ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُ وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ فِي اعْتِقَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ يَحْسَبُ نَفْسَهُ عَلَى هُدًى وَلَا يَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ إِنْكَارَ ابْنِهِ عَلَيْهِ لَا يبلغ بِهِ إِلَى حَدِّ أَنْ يَرَاهُ وَقَوْمَهُ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فَقَدَ يَتَأَوَّلُهُ بِأَنَّهُ رَامَ مِنْهُ مَا هُوَ أَوْلَى.

وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً قُصِدَ مِنْهَا فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ ضَلَالَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لِوُضُوحِهِ فِي أَحْوَالِ تَقَرُّبَاتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ فَهِيَ حَالَةٌ مُشَاهَدٌ مَا فِيهَا مِنَ الضَّلَالِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً، وَقَوْلُهُ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي.

وَفَائِدَةُ عَطْفِ وَقَوْمَكَ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ أَبَاهُ فِي ضَلَالٍ

يَقْتَضِي أَنْ يَرَى مُمَاثِلِيهِ فِي ضَلَالٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ صَرَاحَةٍ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلِيُنَبِّئَهُ مِنْ أَوَّلِ وهلة على أَنَّ مُوَافَقَةَ جَمْعٍ عَظِيمٍ إِيَّاهُ عَلَى ضلاله لَا تعصّد دِينَهُ وَلَا تُشَكِّكُ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ. ومُبِينٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ.

وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِ مُبِينٍ نِدَاءٌ عَلَى قُوَّةِ فَسَادِ عُقُولِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِضَلَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُ كَالْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ.

وَمُبَاشَرَتُهُ إِيَّاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْغَلِيظِ كَانَتْ فِي بَعْضِ مُجَادَلَاتِهِ لِأَبِيهِ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ لَهُ بِالدَّعْوَةِ بِالرِّفْقِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا

- إِلَى قَوْلِهِ- سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: ٤٢- ٤٧] . فَلَمَّا رَأَى تَصْمِيمَهُ عَلَى الْكُفْرِ سَلَكَ مَعَهُ الْغِلْظَةَ اسْتِقْصَاءً لِأَسَالِيبِ الْمَوْعِظَةِ لَعَلَّ بَعْضَهَا أَنْ يَكُونَ أَنْجَعَ فِي نَفْسِ أَبِيهِ مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ لِلنُّفُوسِ مَسَالِكَ وَلِمَجَالِ أَنْظَارِهَا مَيَادِينُ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لرَسُوله ﷺ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥]، وَقَالَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣] . فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَوَاقِفِهِ مَعَ أَبِيهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا تنَافِي الْبُرُورَ بِهِ لِأَنَّ الْمُجَاهَرَةَ بِالْحَقِّ دُونَ سَبٍّ وَلَا اعتداء لَا يُنَافِي الْبُرُورَ. وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يُخَطِّئُونَ أَسَاتِذَتَهُمْ وَأَئِمَّتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِدُونِ تَنْقِيصٍ. وَقَدْ قَالَ أَرِسْطَالِيسُ فِي اعْتِرَاضٍ عَلَى أَفْلَاطُونَ: أَفْلَاطُونُ صَدِيقٌ وَالْحَقُّ صَدِيقٌ لَكِنَّ الْحَقَّ أَصْدَقُ.

عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الشَّرَائِعِ. وَقَدْ قَالَ أَبْنَاءُ يَعْقُوبَ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُف: ٩٥] .

[٧٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٧٥]

وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)

عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤] . فَالْمَعْنَى وَإِذْ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض إراءة لَا إراءة أَوْضَحَ مِنْهَا فِي جِنْسِهَا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْإِرَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ نُرِي إِبْراهِيمَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِرَاءِ الْعَجِيبِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [الْبَقَرَة: ١٤٣] . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ.

وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى حُجَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا.

وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ لِلِانْكِشَافِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَالْإِرَاءَةُ بِمَعْنَى الْكَشْفِ وَالتَّعْرِيفِ، فَتَشْمَلُ الْمُبْصَرَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ الْمُسْتَدَلَّ بِجَمِيعِهَا عَلَى الْحَقِّ وَهِيَ إِرَاءَةُ إِلْهَامٍ وَتَوْفِيقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٨٥]، فَإِبْرَاهِيمُ- عليه السلام ابْتُدِئَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِالْإِلْهَامِ إِلَى الْحَقِّ كَمَا ابْتُدِئَ رَسُول الله ﷺ بِالرُّؤْيَةِ الصَّادِقَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِرَاءَةِ الْعِلْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ فِي الْمَاضِي فَحَكَاهَا الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا [فاطر: ٩] .

وَالْمَلَكُوتُ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّحَمُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْوَاوَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- لِأَنَّ مَصْدَرَ مَلَكَ الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَلَمَّا كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ كَانَ مَعْنَاهُ الْمِلْكَ الْقَوِيَّ الشَّدِيدَ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ.

وَفِي «اللِّسَانِ»: مُلْكُ اللَّهِ وَمَلَكُوتُهُ سُلْطَانُهُ وَلِفُلَانٍ مَلَكُوتُ الْعِرَاقِ، أَيْ سُلْطَانُهُ وَمِلْكُهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَفِي طَبْعَةِ «اللِّسَانِ» فِي بُولَاقَ رُقِّمَتْ عَلَى مِيمِ مُلْكِهِ ضَمَّةٌ.

وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَلَكُوتَ كَلِمَةٌ نَبَطِيَّةٌ. فَيَظْهَرُ أَنَّ صِيغَةَ (فَعَلَوْتٍ) فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الدَّخِيلَةِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهَا فِي النَّبَطِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، فَنَقَلَهَا الْعَرَبُ إِلَى لُغَتِهِمْ لِمَا فِيهَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْقُوَّةِ.

وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَلَكُوتَ يُطْلَقُ مَصْدَرًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمُلْكِ، وَأَنَّ الْمُلْكَ (بِالضَّمِّ) لَمَّا كَانَ مِلْكًا (بِالْكَسْرِ) عَظِيمًا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَيْضًا الْمَلَكُوتُ. فَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مُجَازٌ عَلَى كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَمْلُوكُ، كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، إِمَّا مِنَ الْمِلْكِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- أَوْ مِنَ الْمُلْكِ- بِضَمِّهَا-.

وَإِضَافَةُ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) . وَالْمَعْنَى مَا يَشْمَلُهُ الْمُلْكُ أَوِ الْمِلْكُ، وَالْمُرَادُ مُلْكُ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى نَكْشِفُ لِإِبْرَاهِيمَ دَلَائِلَ مَخْلُوقَاتِنَا أَوْ عَظَمَةَ سُلْطَانِنَا كَشْفًا يُطْلِعُهُ عَلَى حَقَائِقِهَا وَمَعْرِفَةِ أَنْ لَا خَالِقَ وَلَا مُتَصَرِّفَ فِيمَا كَشَفْنَا لَهُ سِوَانَا.

وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ لِأَنَّ وَكَذلِكَ أَفَادَ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ تَعْلِيمًا فَائِقًا. فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ عِلَّةٌ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.

فَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِرَاءَ تَبْصِيرٍ وَفَهْمٍ لِيَعْلَمَ عِلْمًا عَلَى وَفْقٍ لِذَلِكَ التَّفْهِيمِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْكَامِلُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ (١) الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٦] .

وَالْمُوقِنُ هُوَ الْعَالِمُ عِلْمًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ، وَهُوَ الْإِيقَانُ. وَالْمُرَادُ الْإِيقَانُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَلِيَكُونَ مُوقِنًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي هَذِه السُّورَة [٥٦] .

[٧٦- ٧٩]

(١) فِي المطبوعة: (نصرف)، وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق للمصحف.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٩]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)

فَلَمَّا جَنَّ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَبًا فَإِنَّ الْكَوْكَبَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَقَوْلِهِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] . فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي اهْتَدَى بِهَا إِلَى طَرِيق عَجِيب فِيهِ إبكات لِقَوْمِهِ ملجىء إِيَّاهُمْ لِلِاعْتِرَافِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ، هِيَ فَرْعٌ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الَّتِي عَمَّتْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفَاءِ مِنَ التَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ، وَلِذَلِكَ نَعُدُّ جَعْلَ الزَّمَخْشَرِيَّ فَلَمَّا جَنَّ عَطْفًا عَلَى قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ [الْأَنْعَام: ٧٤]، وَجَعْلَهُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، غَيْرَ رَشِيقٍ.

وَقَوْلُهُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَيْ أَظْلَمَ اللَّيْلُ إِظْلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، أَيْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مَحُوطًا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ السَّمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتٍ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَهُ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أَنَّهُ كَانَ سَائِرًا مَعَ فَرِيقٍ مِنْ قَوْمِهِ يُشَاهِدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَقَدْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيُصَوِّرُونَ لَهَا

أَصْنَامًا. وَتِلْكَ دِيَانَةُ الْكِلْدَانِيِّينَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.

يُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، أَيْ أَخْفَاهُ، وَجَنَانُ اللَّيْلِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ-، وَجَنَّهُ: سَتْرُهُ الْأَشْيَاءَ الْمَرْئِيَّةَ بِظَلَامِهِ الشَّدِيدِ. يُقَالُ: جِنَّهُ اللَّيْلُ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَيُقَالُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي السَّتْرِ بِالظُّلْمَةِ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا غِطَاءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ جَنَّ اللَّيْلُ قَاصِرًا بِمَعْنَى أَظْلَمَ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: رَأى كَوْكَبًا أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ رُؤْيَةُ الْكَوَاكِبِ عَرَضًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلتَّأَمُّلِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْأُفُقَ فِي اللَّيْلِ مَمْلُوءٌ كواكب، وأنّ الْكَوَاكِب كَانَ حِينَ رَآهُ وَاضِحًا فِي السَّمَاءِ مُشْرِقًا بِنُورِهِ، وَذَلِكَ أَنْوَرُ مَا يَكُونُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَأَى كَوْكَبًا مِنْ بَيْنِهَا شَدِيدَ الضَّوْءِ. فَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ الْكَوْكَبَ هُوَ الزُّهَرَةُ. وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ الْمُشْتَرِي.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ الْكَوَاكِبَ فَرَأَى كَوْكَبًا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ مِثْلُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣]، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَجُمْلَةُ رَأى كَوْكَبًا جَوَاب فَلَمَّا. وَالْكَوْكَبُ: النَّجْمُ.

وَجُمْلَةُ: قالَ هَذَا رَبِّي مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ رَأى كَوْكَبًا وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ: فَمَاذَا كَانَ عِنْد مَا رَآهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي جوبا لِذَلِكَ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ تَمْيِيزِ الْكَوْكَبِ مِنْ بَيْنِ الْكَوَاكِب وَلَكِن إجراؤه عَلَى نَظِيرَيْهِ فِي قَوْلِهِ حِينَ رَأَى الْقَمَرَ وَحِينَ رَأَى الشَّمْسَ هَذَا رَبِّي- هَذَا رَبِّي يُعَيِّنُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ هُوَ الْكِنَايَةُ بِالْإِشَارَةِ عَنْ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَمْرًا مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ أُشِيرَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ كَالْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: ٥٦]، وَقَوْلِهِ: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يُوسُف: ٣٢] وَلَمْ يُقَلْ فَهُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي. وَلَعَلَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يُوسُف: ٦٥] إِذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى «بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا» . وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: «ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ» (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَشَأْنُهُ هُوَ الْجَارِي فِي خَوَاطِرِ النَّاسِ أَيَّامَ صِفِّينَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: ٨٩] يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَفِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ: «فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ

بِهَذَا الرَّجُلِ» (يَعْنِي الرَّسُول ﷺ، وَهَذَا مِنَ الْأَغْرَاضِ الدَّاعِيَةِ لِلتَّعْرِيفِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الَّتِي أَهْمَلَهَا عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ فَيَصِحُّ هُنَا أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَيَيْهِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ.

وَتَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَذَا رَبٌّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَرَادَ اسْتِدْرَاجَ قَوْمِهِ فَابْتَدَأَ بِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لِيَصِلَ بهم إِلَى التوحد وَاسْتَبْقَى وَاحِدًا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ فَفَرَضَ اسْتِحْقَاقَهُ الْإِلَهِيَّةَ كَيْلَا يَنْفِرُوا مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى اسْتِدْلَالِهِ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ قالَ إِنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَتُهُ الْكَلَامُ، وَإِنَّمَا يُسَاقُ الْكَلَامُ إِلَى مُخَاطَبٍ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْقَوْلِ هِيَ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِهَا إِذْ رَتَّبَ قَوْلَهُ فَلَمَّا جَنَّ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] وَقَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥] وَرَتَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً [الْأَنْعَام: ٧٤] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:

قالَ هَذَا رَبِّي وَإِنَّمَا يَقُولُهُ لِمُخَاطَبٍ، وَلِقَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، وَلِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى إِبْطَالِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِمَّا يُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ بُطْلَانُ إِلَهِيَّةِ أَجْرَامٍ أُخْرَى لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُدَّعَى قَوْمِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَادَلَةِ لِقَوْمِهِ وَإِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَهُمْ لِيَصِلُوا إِلَى تَلَقِّي الْحُجَّةِ وَلَا يَنْفِرُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا مِنْ قَوْمِهِ وَأَرَادَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي أَيْ خَالِقِي وَمُدَبِّرِي فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ عِبَادَتِي. قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ جَرْيًا عَلَى مُعْتَقَدِ قَوْمِهِ لِيَصِلَ بِهِمْ إِلَى نَقْضِ اعْتِقَادِهِمْ فَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ لِيَهَشُّوا إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِبْطَالِ إِظْهَارًا لِلْإِنْصَافِ وَطَلَبِ الْحَقِّ. وَلَا يَرِيبُكَ فِي هَذَا أَنَّ صُدُورَ مَا ظَاهِرُهُ كُفْرٌ عَلَى لِسَانِهِ- عليه السلام لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ ذَلِكَ طَرِيقٌ إِلَى إِرْشَادِ قَوْمِهِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَاجْتَهَدَ فَرَآهُ أَرْجَى لِلْقَبُولِ عِنْدَهُمْ سَاغَ لَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَا يَزِيدُ قَوْلُهُ هَذَا قَوْمَهُ كُفْرًا، كَالَّذِي يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ

كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ لِحِفْظِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْقَاذِهَا مِنَ الْهَلَاكِ كَانَ جَوَازُهُ لِإِنْقَاذِ فَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْلَى. وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ.

وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَأَنَّهُمْ عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الدِّينُ شَائِعًا فِي بُلْدَانِ الْكِلْدَانِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام وَأَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا أَرَادُوا بِهَا أَنَّهَا صُوَرٌ لِلْكَوَاكِبِ وَتَمَاثِيلُ لَهَا عَلَى حَسَبِ تَخَيُّلَاتِهِمْ

وَأَسَاطِيرِهِمْ مِثْلَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيُونَانُ الْقُدَمَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَعَبَدُوا صُوَرًا أُخْرَى عَلَى أَنَّهَا دُونَ الْكَوَاكِبِ كَمَا كَانَ الْيُونَانُ يُقَسِّمُونَ الْمَعْبُودَاتِ إِلَى آلِهَةٍ وَأَنْصَافِ آلِهَةٍ.

عَلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ أنّ للكواكب رُوحَانِيَّاتٌ تَخْدِمُهَا.

وَأَفَلَ النَّجْمُ أُفُولًا: غَابَ، وَالْأُفُولُ خَاصٌّ بِغِيَابِ النَّيِّرَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، يُقَالُ: أَفَلَ النَّجْمُ وَأَفَلَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ الْمَغِيبُ الَّذِي يَكُونُ بِغُرُوبِ الْكَوْكَبِ وَرَاءَ الْأُفُقِ بِسَبَبِ الدَّوْرَةِ الْيَوْمِيَّةِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ: أَفَلَتِ الشَّمْسُ أَوْ أَفَلَ النَّجْمُ إِذَا احْتَجَبَ بِسَحَابٍ.

وَقَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْحُبُّ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، أَيْ لَا أَرْضَى بِالْآفِلِ إِلَهًا، أَوْ لَا أُرِيدُ الْآفِلَ إِلَهًا. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْمَحَبَّةِ هُوَ إِرَادَتُهُ إِلَهًا لَهُ بِقَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي.

وَإِطْلَاقُ الْمُحِبَّةِ عَلَى الْإِرَادَةِ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التَّوْبَة: ١٠٨] . وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِحَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا أُحِبُّ عِبَادَةَ الْآفِلِينَ.

وَجَاءَ بِ الْآفِلِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الذُّكُورِ الْعُقَلَاءِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ قَوْمِهِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ فِي الْأَكْوَانِ، وَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ مَعْبُودًا إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ.

وَوجه الِاسْتِدْلَال بالأقوال عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّ الْأُفُولَ مَغِيبٌ وَابْتِعَادٌ عَنِ النَّاسِ، وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْمُرَاقَبَةِ لِتَدْبِيرِ عِبَادِهِ فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْمُ كَانَ فِي حَالَةِ أُفُولِهِ مَحْجُوبًا عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ بَنَى هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مَا هُوَ شَائِعٌ عِنْدَ الْقَوْمِ مِنْ كَوْنِ أُفُولِ النَّجْمِ مَغِيبًا عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، يَعْنِي أَنَّ مَا يَغِيبُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّخَذَ إِلَهًا

لِأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْ عِبَادِهِ فِيمَا يَحْتَاجُونَهُ حِينَ مَغِيبِهِ. وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى التَّغَيُّرِ لِأَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وَانْتِفَاءِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْأُفُولَ لَيْسَ بِتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِ الْكَوْكَبِ بَلْ هُوَ عَرَضٌ لِلْأَبْصَارِ الْمُشَاهِدَةِ لَهُ، أَمَّا الْكَوْكَبُ فَهُوَ بَاقٍ فِي فَلَكِهِ وَنِظَامِهِ يَغِيبُ وَيَعُودُ إِلَى الظُّهُورِ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُقْنِعًا لَهُمْ.

وَلِأَجْلِ هَذَا احْتَجَّ بِحَالَةِ الْأُفُولِ دُونَ حَالَةِ الْبُزُوغِ فَإِنَّ الْبُزُوغَ وَإِنْ كَانَ طَرَأَ بَعْدَ أُفُولٍ لَكِنَّ الْأُفُولَ السَّابِقَ غَيْرُ مُشَاهَدٍ لَهُمْ فَكَانَ الْأُفُولُ أَخْصَرَ فِي الِاحْتِجَاجِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْبَازِغَ كَانَ مِنْ قَبْلُ آفِلًا.

وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا إِلَخ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ.

وَالتَّقْدِيرُ: فَطَلَعَ الْقَمَرُ فَلَمَّا رَآهُ بَازِغًا، فَحُذِفَتِ الْجُمْلَةُ لِلْإِيجَازِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَمَرَ طَلَعَ بَعْدَ أُفُولِ الْكَوْكَبِ، وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ لِمُحَاجَّةِ قَوْمِهِ الْوَقْتَ الَّذِي يُغْرِبُ فِيهِ الْكَوْكَبُ ويطلع الْقَمَر

بِقُرْبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ لِيَعْقُبَهُمَا طُلُوعُ الشَّمْسِ. وَأَظْهَرَ اسْمَ الْقَمَرَ لِأَنَّهُ حَذَفَ مُعَادَ الضَّمِيرِ. وَالْبَازِغُ: الشَّارِقُ فِي ابْتِدَاءِ شُرُوقِهِ، وَالْبُزُوغُ ابْتِدَاءُ الشُّرُوقِ.

وَقَوْلُهُ هَذَا رَبِّي أَفَادَ بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ أَنَّهُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنَ الْكَوْكَبِ فَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْإِلَهِيَّةِ بِسَبَبِ النُّورِ فَالَّذِي هُوَ أَشَدُّ نُورًا أَوْلَى بِهَا مِنَ الْأَضْعَفِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ خَاصَّةً وَهُوَ كَوْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قَصَدَ بِهِ تَنْبِيهَ قَوْمِهِ لِلنَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ وَأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ كِلَيْهِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ عَرَّضَ فِي كَلَامِهِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا يَهْدِيهِ وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِعِدَّةِ أَرْبَابٍ. وَفِي هَذَا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الْكَوَاكِبِ.

ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ وَهَيَّأَهُمْ قَبْلَ الْمُصَارَحَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يُدْخِلُ عَلَى

نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ فِي مُعْتَقَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ ضَلَالًا، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّعْرِيضِ لَمْ يَقُلْ: لَأَكُونَنَّ ضَالًّا، وَقَالَ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ فِي النَّاسِ قَوْمًا ضَالِّينَ، يَعْنِي قَوْمَهُ.

وَإِنَّمَا تَرَيَّثَ إِلَى أُفُولِ الْقَمَرِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ على انْتِفَاء إلهيته وَلَمْ يَنْفِهَا عَنْهُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ بَازِغًا مَعَ أَنَّ أُفُولَهُ مُحَقَّقٌ بِحَسْبِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَسَاسِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ أَقْوَى.

وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أَيْ فِي الصَّبَاحِ بَعْدَ أَنْ أَفَلَ الْقَمَرُ، وَذَلِكَ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي الَّتِي يَغْرُبُ فِيهَا الْقَمَرُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ كُلَّهُ وَقَعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ لِلشَّمْسِ هَذَا رَبِّي بَاسِمِ إِشَارَةِ الْمُذَكَّرِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَهَا رَبًّا، فَرُوعِيَ فِي الْإِشَارَةِ مَعْنَى الْخَبَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِرْمُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الشَّمْسَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ رَبِّي. وَجُمْلَةُ هَذَا رَبِّي جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ هَذَا رَبِّي الْمُقْتَضِيَةِ نَقْضَ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَحَصْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَنَفْيَهَا عَنِ الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ، وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، أَيْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمَا، يَعْنِي أَنَّ الْأَكْبَرَ الْأَكْثَرَ إِضَاءَةً أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِقْنَاعٌ لَهُمْ بِأَنْ لَا يُحَاوِلُوا مُوَافَقَتَهُ

إِيَّاهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى اسْتِحْقَاقُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَعْظَمِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي عَبَدُوهَا فَقَدِ انْتَفَى عَمَّا دُونَهَا بِالْأَحْرَى.

وَالْبَرِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل من برىء- بِكَسْرِ الرَّاءِ لَا غَيْرَ- يَبْرَأُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ لَا غَيْرَ- بِمَعْنَى تَفَصَّى وَتَنَزَّهَ وَنَفَى الْمُخَالَطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْرُورِ بِ (مِنْ) . وَمِنْهُ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٣]، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: ٦٩]، وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يُوسُف:

٥٣] . فَمَعْنَى قَوْلِهِ بَرِيءٌ هُنَا أَنَّهُ لَا صِلَةَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ مَا يُشْرِكُونَ. وَالصِّلَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هِيَ الْعِبَادَةُ إِنْ كَانَ مَا يُشْرِكُونَ مُرَادًا بِهِ الْأَصْنَامُ، أَوْ هِيَ التَّلَبُّسُ وَالِاتِّبَاعُ إِنْ كَانَ مَا يُشْرِكُونَ بِمَعْنَى الشِّرْكِ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مَا) فِي قَوْله مِمَّا تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ الْعَائِدَ مَحْذُوفٌ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، أَيْ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام:

٨٠] لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي فِعْلِ الْبَرَاءَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالذَّوَاتِ، وَلِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةً، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ، أَيْ لَا أَتَقَلَّدُهُ.

وَتَسْمِيَتُهُ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ إِشْرَاكًا لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ إِشْرَاكُ الْعَرَبِ وَهُوَ ظَاهِرُ آيِ الْقُرْآنِ حَيْثُ وَرَدَ فِيهَا الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِضَرْبِ الْمَثَلِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ، وَلِقَوْلِهِ الْآتِي الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ٨٢] .

وَجُمْلَةُ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْإِشْرَاكِ تَشْتَمِلُ عَلَى تَوْجِيهِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ. وَالْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجْهِيَ. ووَجَّهْتُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِهَةِ وَالْوِجْهَةِ، أَيْ صَرَفْتُهُ إِلَى جِهَةٍ، أَيْ جَعَلْتُ كَذَا جِهَةً لَهُ يَقْصِدُهَا. يُقَالُ: وَجَّهَهُ فَتَوَجَّهَ إِلَى كَذَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.

وَيُقَالُ لِلْمَكَانِ الْمَقْصُودِ وِجْهَةٌ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-، وَكَأَنَّهُمْ صَاغُوهُ عَلَى زِنَةِ الْهَيْئَةِ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى مَكَانٍ يَقْصِدُهُ مِنْ نَحْوِ وَجْهِهِ، وَفَعَلُوهُ عَلَى زِنَةِ الْفِعْلَةِ- بِكَسْرِ الْفَاءِ- لِأَنَّ قَاصِدَ الْمَكَانِ بِوَجْهِهِ تَحْصُلُ هَيْئَةٌ فِي وَجْهِهِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْعَزْمِ وَتَحْدِيقِ النَّظَرِ. فَمَعْنَى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ صَرَفْتُهُ وَأَدَرْتُهُ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ: شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْأَصْنَامِ وَقَصْدِهِ إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ بِمَنِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ شَيْئًا وَقَصَدَهُ وَانْصَرَفَ عَنْ غَيْرِهِ.

وَأُتِيَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ليومىء إِلَى عِلَّةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى عِبَادَتِهِ، لِأَنَّ الْكَوَاكِبَ مِنْ مَوْجُودَاتِ السَّمَاءِ، وَالْأَصْنَامَ مِنْ مَوْجُودَاتِ الْأَرْضِ فَهِيَ

مَفْطُورَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَفِعْلُ (وَجَّهَ) يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ بِإِلَى، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ أَنَّهُ انْصَرَفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَحْسُنُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَقْصُودُ مُرَاعًى إِرْضَاؤُهُ

وَطَاعَتُهُ كَمَا تَقُولُ: تَوَجَّهْتُ لِلْحَبِيبِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ تَعَدِّيهِ هُنَا بِاللَّامِ، لِأَنَّ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ إِرْضَاءً وَطَاعَةً.

وَفَطَرَ: خَلَقَ، وَأَصْلُ الْفَطْرِ الشَّقُّ. يُقَالُ فُطِرَ فُطُورًا إِذَا شُقَّ قَالَ تَعَالَى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الْملك: ٣] أَيِ اخْتِلَالٍ، شَبَّهَ الْخَلْقَ بِصِنَاعَةِ الْجِلْدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الصَّانِعَ يَشُقُّ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَصْنَعَهُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: الْفَتْقُ وَالْفَلْقُ، فَأُطْلِقَ الْفَطْرُ عَلَى إِيجَادِ الشَّيْءِ وَإِبْدَاعِهِ عَلَى هَيْئَةٍ تُؤَهِّلُ لِلْفِعْلِ.

وحَنِيفًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي وَجَّهْتُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥] .

وَجُمْلَةُ: وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُشْرِكِينَ وَفِي عِدَادِهِمْ.

فَلَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ تَبَرَأَ مِنَ الْقَوْمِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا أَيْضًا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [٤] إِذْ قَالَ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

وَأَفَادَتْ جُمْلَةُ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَإِنَّمَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا قصد مِنْهَا التبرّي مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَهَذَا قَدْ جَرَيْنَا فِيهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَأَى النَّيِّرَاتِ هَذَا رَبِّي هُوَ مُنَاظَرَةٌ لِقَوْمِهِ وَاسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ مُوقِنًا بِنَفْيِ إِلَهِيَّتِهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ النُّبُوءَةِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِبُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ وَبِالْحُجَجِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى قَوْمِهِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ:

إِنَّ كَلَامَهُ ذَلِكَ كَانَ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا فِي نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي ضَلَالٍ لِأَنَّهُ طَلَبُ هِدَايَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ أَيْ لِأَجْلِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُهُ لِتَنْبِيهِ قَوْمِهِ إِلَى أَنَّ لَهُمْ رَبًّا بِيَدِهِ الْهِدَايَةُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْرِيضِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَيْضًا مُرَادًا بِهِ الدَّوَامُ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرَادَ الْهِدَايَةَ إِلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ حَتَّى لَا يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ.

فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِدْلَالًا فِي نَفْسِهِ قَبْلَ الْجَزْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧٥] مَعْنَاهُ نُرِيهِ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ نُوحِيَ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: رَأى كَوْكَبًا بِمَعْنَى نَظَرَ فِي السَّمَاءِ فَرَأَى هَذَا الْكَوْكَبَ وَلَمْ يَكُنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: قالَ هَذَا رَبِّي قَوْلًا فِي نَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ الْمُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ فِي كَلْبِ صَيْدٍ:

قَالَتْ لَهُ النَّفْسُ إِنِّي لَا أَرَى طَمَعًا ... وَأَنَّ مَوْلَاكَ لَمْ يَسْلَمْ وَلَمْ يَصِدِ

وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ فِي ثَوْرٍ وَحْشِيٍّ:

ثُمَّ انْثَنَى وَقَالَ فِي التَّفْكِيرِ ... إِنَّ الْحَيَاةَ الْيَوْمَ فِي الْكُرُورِ

وَقَوْلِهِ: هَذَا رَبِّي وَقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقَائِقِهِ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ. وَقَوْلُهُ: قالَ يَا قَوْمِ هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابِهِ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ لَهُ فَأَعْلَنَ بِمُخَالَفَتِهِ قومه حِينَئِذٍ.

[٨٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨٠]

وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)

لَمَّا أَعْلَنَ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام مُعْتَقَدَهُ لِقَوْمِهِ أَخَذُوا فِي مُحَاجَّتِهِ، فَجُمْلَةُ وَحاجَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام:

٧٩] . وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِخْبَارِ بِمَضْمُونِهَا مَعَ أَنَّ تَفَرُّعَ مَضْمُونِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.

وَالْمُحَاجَّةُ مُفَاعَلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ مِنَ الْحُجَّةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُؤَيِّدُ لِلدَّعْوَى. وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمُفَاعَلَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ بِمَعْنَى اسْتَدَلَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِعْلُ حَجَّ إِذَا غَلَبَ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ احْتِجَاجًا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُحَاوِلَ الْغَلَبِ فِي الْحُجَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ خَصْمِهِ مَا يَرُدُّ احْتِجَاجَهُ فَتَحْصُلُ الْمُحَاوَلَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ أُطْلِقَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ مُحَاجَّةٌ، أَوِ الْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا هُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حُصُولَ مُحَاجَّةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي دَرْسِ تَفْسِيرِهِ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمَجْعُولَ فِيهَا

فَاعِلًا هُوَ الْبَادِئُ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اسْتَشْكَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ حَيْثُ قَالَ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] . فَبَدَأَ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ وَأَجَابَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَدَأَ بِالْمُقَاوَلَةِ وَنُمْرُوذَ بَدَأَ الْمُحَاجَّةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ هَذَا الْقَيْدَ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ سَلَكُوا مَعَهُ طَرِيقَ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَجَعَلَ سَمَاعَهُ كَلَامَهُمْ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ مِنْهُ فَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ كَلِمَةَ الْمُحَاجَّةِ. وَأَبْهَمَ احْتِجَاجَهُمْ هُنَا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الِاعْتِبَارُ بِثَبَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَقِّ. وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ حاجَّهُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ:

أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ الْآيَاتِ.

وَقَدْ ذُكِرَتْ حُجَجُهُمْ فِي مَوَاضِع فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٢- ٥٦] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٧٢، ٧٣] قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ الْآيَاتِ، وَفِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٨٥- ٩٨] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَكُلُّهَا مُحَاجَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُحَاجَّةِ مَا لَيْسَ

بِحُجَّةٍ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَرَوْنَهُ حُجَجًا بِأَنْ خَوَّفُوهُ غَضَبَ آلِهَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ الْآيَةَ.

وَالتَّقْدِيرُ: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ.

وَجُمْلَةُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ جَوَابُ مُحَاجَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُفَاعَلَةِ فَقَوْلُهُ أَتُحاجُّونِّي غَلْقٌ لِبَابِ الْمُجَادَلَةِ وَخَتْمٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاجَّةُ مُسْتَعْمَلَةً فِي الِاحْتِجَاجِ فَقَوْلُهُ: أَتُحاجُّونِّي جَوَابٌ لِمُحَاجَّتِهِمْ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] . وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَأْيِيسٌ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى معتقدهم.

وفِي للظرفية الْمَجَازِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تُحاجُّونِّي وَدُخُولُهَا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْمَقَامُ وَهُوَ صِفَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] أَيْ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ.

وَجُمْلَة وَقَدْ هَدانِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ لَا جَدْوَى لِمُحَاجَّتِكُمْ إِيَّايَ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَشَأْنُ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اتِّصَافُ صَاحِبِهَا بِهَا مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَزَّلَهُمْ فِي خِطَابِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ كِنَايَةً عَلَى ظُهُورِ دَلَائِلِ الْهِدَايَةِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ أَتُحَاجُّونِي- بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ- وَأَصْلُهُ أَتُحَاجُّونَنِي- بِنُونَيْنِ- فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلتَّخْفِيفِ، وَالْمَحْذُوفَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ عَلَى مُخْتَارِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: لِأَنَّ الْأُولَى نُونُ الْإِعْرَابِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ مُوَطِّئَةٌ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ حَذْفُهَا تَخْفِيفًا، كَمَا قَالُوا: لَيْتِي فِي لَيْتَنِي. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَحْذُوفَةَ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّ الثَّانِيَةَ جُلِبَتْ لِتَحْمِلَ الْكَسْرَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْيَاءِ وَنُونُ الرَّفْعِ لَا تَكُونُ مَكْسُورَةً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَذْفُ مُسْتَعْمَلٌ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ.

وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ:

أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنٌ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي زَعْمِهِ، أَوْ أَخْطَأَ مَنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ.

وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- لِإِدْغَامِ نُونِ الرَّفْعِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ تُمَدُّ الْوَاوُ لِتَكُونَ الْمَدَّةُ فَاصِلَةً بَيْنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّ الْمَدَّةَ خِفَّةٌ وَهَذَا الِالْتِقَاءُ هُوَ الَّذِي يَدْعُونَهُ الْتِقَاءَ السَّاكِنَيْنِ عَلَى حِدَةٍ.

وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِلتَّخْفِيفِ وَصْلًا وَوَقْفًا فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ قَالُونَ، وَفِي الْوَقْفِ فَقَطْ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الْعَشَرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦] .

وَقَوْلُهُ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى أَتُحاجُّونِّي فَتَكُونُ إِخْبَارًا، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ هَدانِ فَتَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْإِنْكَارِ. وَتَأْكِيدُ الْإِنْكَارِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ وَقَدْ هَدانِ لِأَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ قَدْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُهُ عَلَيْهِ. فَقَوْمُهُ إِمَّا عَالِمُونَ بِهِ أَوْ مُنْزَلُونَ مَنْزِلَةَ الْعَالِمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ هَدانِ وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ حَاجُّوهُ فِي التَّوْحِيدِ وَخَوَّفُوهُ بَطْشَ آلِهَتِهِمْ وَمَسَّهُمْ إِيَّاهُ بِسُوءٍ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ إِنْكَارِ مُحَاجَّتِهِمْ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلَا بَيْنَ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُ وَبَيْنَ نَفْيِ خَوْفِهِ آلِهَتَهُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ مَكْرَ آلِهَتِهِمْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٤] .

وَ(مَا) مِنْ قَوْلِهِ: مَا تُشْرِكُونَ بِهِ مَوْصُولَةٌ مَا صَدَّقَهَا آلِهَتُهُمُ الَّتِي جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فَتَكُونُ الْبَاءُ

لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُشْرِكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةُ فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيِ الْأَصْنَامُ الَّتِي بِسَبَبِهَا أَشْرَكْتُمْ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَقَدْ جَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ يَخَافُ إِضْرَارَ آلِهَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ السَّامِعُونَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ شَيْئًا

اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ، أَيْ لَكِنْ أَخَافُ مَشِيئَةَ رَبِّي شَيْئًا مِمَّا أَخَافُهُ، فَذَلِكَ أَخَافُهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ لِقَوْمِهِ إِذْ كَانَ لَا يَخَافُ آلِهَتَهُمْ فِي حِينِ أَنَّهُ يَخْشَى رَبَّهُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْخَشْيَةِ إِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يَعْتَرِفُونَ بِرَبٍّ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمُتَابِعُوهُ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا مُفْرَغًا عَنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَوْقَاتٍ، أَيْ لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ أَبَدًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى وَجْهِ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ كَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْ شُرَكَائِكُمْ، أَيْ بِأَنْ يُسَلِّطَ رَبِّي بَعْضَهَا عَلَيَّ فَذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ رَبِّي بِوَاسِطَتِهَا لَا مِنْ قُدْرَتِهَا عَلَيَّ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحْوَالًا عَامَّةً، أَيْ إِلَّا حَالَ مَشِيئَةِ رَبِّي شَيْئًا أَخَافُهُ مِنْهَا.

وَجُمْلَةُ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ:

كَيْفَ يَشَاءُ رَبُّكَ شَيْئًا تَخَافُهُ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ قَائِمٌ بِمَرْضَاتِهِ وَمُؤَيِّدٌ لِدِينِهِ فَمَا هَذَا إِلَّا شَكٌّ فِي أَمْرِكَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، أَيْ إِنَّمَا لَمْ آمَنْ إِرَادَةَ اللَّهِ بِي ضُرًّا وَإِنْ كَنْتُ عَبْدَهُ وَنَاصِرَ دِينِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحِكْمَةِ إِلْحَاقِ الضُّرِّ. أَوِ النَّفْعِ بِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَهَذَا مَقَامُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف: ٩٩] .

وَجُمْلَةُ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ.

وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فَاءِ الْعَطْفِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِعَدَمِ تَذَكُّرِهِمْ مَعَ وُضُوحِ دَلَائِلِ التَّذَكُّرِ. وَالْمُرَادُ التَّذَكُّرُ فِي صِفَاتِ آلِهَتِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، وَفِي صِفَاتِ الْإِلَهِ الْحَقِّ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا مصنوعاته.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨١]

وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)

عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَكَيْفَ أَخافُ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٨٠] لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَقَلُّ عَجَبًا مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَلِذَلِكَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِرَبِّهِمُ الْمُعْتَرِفِ بِهِ دُونَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِذَلِكَ.

وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَخَافَ بَأْسَ الْآلِهَةِ فَأَنْكَرَ هُوَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَلَبَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا اللَّهَ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ بِدُونِ دَلِيلٍ نَصَبَهُ لَهُمْ فَجَمَعَتْ (كَيْفَ) الْإِنْكَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ.

قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ:

أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ فَيَدْخُلُ كِلْتَاهُمَا فِي حُكْمِ الْإِنْكَارِ، فَخَوْفُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ مُنْكَرٌ، وَعَدَمُ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ مُنْكَرٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَيَكُونَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ دَعْوَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى الْخَوْفِ مِنْ آلِهَتِهِمْ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ سُلْطَانًا وَأَشَدُّ بَطْشًا، فَتُفِيدُ (كَيْفَ) مَعَ الْإِنْكَارِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٤٤] . وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ تَخْوِيفَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَلَى هَذَا إِنْكَارُ تَحْمِيقٍ وَمُقَابَلَةِ حَالٍ بِحَالٍ، لَا بَيَانُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ وَمَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.

وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْلَغُ.

وَمَا أَشْرَكْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَشْرَكْتُمْ بِهِ. حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:

وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام:] عَلَيْهِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ (بِهِ)، لِ مَا أَشْرَكْتُمْ.

وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ حُذِفَتْ (مِنْ) الْمُتَعَلِّقَةُ بِ تَخافُونَ لِاطِّرَادِ حَذْفِ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ)، أَيْ مِنْ إِشْرَاكِكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَخَافُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْإِشْرَاكَ بِهِ. وَمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا مَوْصُولٌ مَعَ صِلَتِهِ مَفْعُولُ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ.

وَمَعْنَى لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِعِبَادَتِهَا خَبَرًا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ التَّنْزِيلَ تَشْبِيهًا لِعِظَمِ قَدْرِهِ

بِالرِّفْعَةِ، وَلِبُلُوغِهِ إِلَى مَنْ هُمْ دُونَ الْمُخْبَرِ، بِنُزُولِ الشَّيْءِ الْعَالِي إِلَى أَسْفَلِ مِنْهُ.

وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ لِأَنَّهَا تَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْمُخَاصِمِ، أَيْ لَمْ يَأْتِكُمْ خَبَرٌ مِنْهُ تَجْعَلُونَهُ حُجَّةً عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالتَّعْجِيبُ فَرْعٌ عَلَيْهِمَا اسْتِفْهَامًا مُلْجِئًا إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ آلِهَتِهِمْ.

والاستفهام ب فَأَيُّ لِلتَّقْرِيرِ بِأَنَّ فَرِيقَهُ هُوَ وَحْدَهُ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.

وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَيِّزَةُ عَنْ غَيْرِهَا بِشَيْءٍ يَجْمَعُهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، مُشْتَقٌّ مِنْ فَرَّقَ إِذَا مَيَّزَ. وَالْفِرْقَةُ أَقَلُّ مِنَ الْفَرِيقِ، وَأَرَادَ بِالْفَرِيقَيْنِ هُنَا قَوْمَهُ وَنَفْسَهُ، فَأَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْفَرِيقَ تَغْلِيبًا، أَوْ أَرَادَ نَفْسَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ سَاعَتَئِذٍ، قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦]، أَوْ أَرَادَ مَنْ سَيُوجَدُ مِنْ أَتْبَاعِ مِلَّتِهِ، كَمَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ٨٢] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْنُ لِلْجِنْسِ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجَوَابُ شَرْطِهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي، وَفِيهِ اسْتِحْثَاثٌ على الْجَواب.

[٨٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨٢]

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ فَيَكُونُ

جَوَابًا مِنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: ٨١] . تَوَلَّى جَوَابَ اسْتِفْهَامِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ جَوَابَهُمْ لِكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا يَسْأَلُ الْعَالِمُ وَيُجِيبُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، أَيْ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ قُلْتَ قُلْتُ» .

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَقِيلَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدِ انْتَهَى قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٨١] بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِابْتِدَاءِ حُكْمٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَصْدِيقًا لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ.

وَقِيلَ: هُوَ حِكَايَةٌ لِكَلَامٍ صَدَرَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [الْأَنْعَام: ٨١] . وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: قَالَ الَّذِينَ

آمَنُوا إِلَخ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ قَوْمِهِ لَمَا اسْتَمَرَّ بِهِمُ الضَّلَالُ وَالْمُكَابَرَةُ إِلَى حَدِّ أَنْ أَلْقَوْا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ.

وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ آمَنُوا لِظُهُورِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ.

وَحَقِيقَةُ يَلْبِسُوا يَخْلِطُوا، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعَمَلِ بِشَيْئَيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. شُبِّهَ بِخَلْطِ الْأَجْسَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [الْبَقَرَة: ٤٢] .

وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِشْرَاكُ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الِاعْتِدَاءِ، إِذْ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُطْلَقِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَقَوْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ.

فَفِي الْحَدِيثِ «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»

. وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالشِّرْكِ.

فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»

[لُقْمَان: ١٣] اهـ. وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَ جَمَعَ بَيْنَ

الِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ لِغَيْرِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِرَافُ لِغَيْرِهِ ظُلْمًا كَانَ إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ مَخْلُوطًا بِظُلْمٍ وَهُوَ إِيمَانُهُمْ بِغَيْرِهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُلَائِمُ لِاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْخَلْطِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كِلَاهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ اعْتِقَادُ الرُّبُوبِيَّةِ فَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ، وَذَلِكَ أَظْهَرُ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْأَجْسَامِ الْمُتَمَاثِلَةِ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَاطُهَا أَشَدَّ فَإِنَّ التَّشَابُهَ أَقْوَى أَحْوَالِ التَّشْبِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ. وَالْمَعْنَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ.

وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الظُّلْمَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَعَاصِيَ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: ٣٦] تَأْوِيلًا لِلْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الِاعْتِزَالِ لِأَنَّ الْعَاصِيَ غَيْرُ آمِنٍ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ فَهُوَ مُسَاوٍ لِلْكَافِرِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مَحْكِيًّا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الظُّلْمِ مِنْهُ بِالْمَعْصِيَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ دَاعِيًا إِلَّا لِلتَّوْحِيدِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَعْدُ شَرِيعَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْكِيٍّ مِنْ كَلَامِهِ فَلَا يُنَاسِبُ تَفْسِيرُهُ فِيهِ بِالْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ تَعْقِيبَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْيِيدُ قَوْلِهِ وَتَبْيِينُهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ لِلتَّأْوِيلِ

عَلَى أُصُولِهِمْ نَظَرًا لِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِالْمُسْنَدِ مِنْ أَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] .

وَقَوْلُهُ لَهُمُ الْأَمْنُ أَشَارَتِ اللَّامُ إِلَى أَنَّ الْأَمْنَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ وَثَابِتٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: آمِنُونَ. وَالْمُرَادُ الْأَمْنُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ وَمَا عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْجَاحِدَةُ، وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا مِنْهُمْ حِينَئِذٍ إِلَّا التَّوْحِيدُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْنُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْأَمْنُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً فَالثَّانِيَةُ عَيْنُ الْأُولَى إِذْ لَا يُحْتَمَلُ هُنَا غَيْرُ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمُ الْأَمْنُ عَطْفُ جُزْءِ جُمْلَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ، فَيَكُونُ مُهْتَدُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

وَالضَّمِيرُ لِلْفَصْلِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيِ الِاهْتِدَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَيْ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥٥] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤] . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ لَمَّا نَبَذُوا الشِّرْكَ فَقَدِ اهْتَدَوْا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَهُمْ مُهْتَدُونَ جُمْلَةً، بِأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ مُبْتَدَأً ومُهْتَدُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ، فَيَكُونُ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ:

أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ومهتدون فَصِيَغُ الْمَعْطُوفِ فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَالضَّمِيرُ لَا يُفِيدُ اخْتِصَاصًا إِذْ لَمْ يُؤْتَ بِهِ لِلْفَصْلِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: ١] وَقَوْلِهِ: تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْحَدِيد: ٢] عَلَى اعْتِبَارِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَطْفًا عَلَى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا حَالٌ، وَهَذَا مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْوَصْلِ كَمَا عُرِفَ فِي الْبَلَاغَةِ، وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ نَظْمِ الْكَلَام الْعَرَبِيّ.

[٨٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨٣]

وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠] . وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأُتِيَ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حُجَّةٌ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِحُجَّةٍ فَلَمَّا لم يكن ثمّة مُشَارٌ إِلَيْهِ مَحْسُوسٌ تَعَيَّنَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ لَفْظُ الْخَبَرِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٣] .

وَإِضَافَةُ الْحُجَّةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهَا وَصِحَّتِهَا.

وآتَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ مِنَ الْخَبَرِ. وَحَقِيقَةُ الْإِيتَاءِ الْإِعْطَاءُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ، وَيَكُونُ بِمُنَاوَلَةِ الْيَدِ إِلَى الْيَدِ. قَالَ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْمُعْطَاةُ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا شَائِعًا فِي تَعْلِيمِ الْعُلُومِ وَإِفَادَةِ الْآدَابِ الصَّالِحَةِ وَتَخْوِيلِهَا وَتَعْيِينِهَا لِأَحَدٍ دُونَ مُنَاوَلَةِ يَدٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُورُ الْمَمْنُوحَةُ ذَوَاتًا أَمْ مَعَانِيَ.

يُقَالُ: آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَيُقَالُ: آتَاهُ الْخَلِيفَةُ إِمَارَةً وآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [الْبَقَرَة: ٢٥٨]، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ [ص: ٢٠] . فَإِيتَاءُ الْحُجَّةِ إِلْهَامُهُ إِيَّاهَا وَإِلْقَاءُ مَا يُعَبِّرُ عَنْهَا فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِذْ نَصَرَهُ عَلَى مُنَاظِرِيهِ.

وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْغَالِبِ بِالْمُسْتَعْلِي الْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْمَغْلُوبِ، وَهِي متعلّقة ب حُجَّتُنا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ. يُقَالُ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكَ وَشَاهِدٌ عَلَيْكَ، أَيْ تِلْكَ حُجَّتُنَا عَلَى قَوْمِهِ أَقْحَمْنَاهُمْ بِهَا بِوَاسِطَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ آتَيْناها لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الْإِيتَاءُ مِنْ مَعْنَى النَّصْرِ.

وَجُمْلَةُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي آتَيْناها أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيتَاءِ تَفْضِيلٌ لِلْمُؤْتَى وَتَكْرِمَةً لَهُ. وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ تَمْثِيلٌ لِتَفْضِيلِ الشَّأْنِ، شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمُفَضَّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِحَالِ الْمُرْتَقِي فِي سُلَّمٍ إِذَا ارْتَفَعَ مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ، وَفِي جَمِيعِهَا رَفْعٌ، وَكُلُّ أَجْزَاءِ هَذَا التَّمْثِيلِ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ، فَالتَّفْضِيلُ يُشْبِهُ الرَّفْعَ، وَالْفَضَائِلُ الْمُتَفَاوِتَةُ تُشْبِهُ الدَّرَجَاتِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ عِزَّةُ حُصُولِ ذَلِكَ لِغَالِبِ النَّاسِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، بِإِضَافَةِ دَرَجاتٍ إِلَى مَنْ. فَإِضَافَةُ الدَّرَجَاتِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ مُلَابَسَةِ الْمُرْتَقِي فِي الدَّرَجَةِ لَهَا لِأَنَّهَا

إِنَّمَا تُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُرْتَقِيًا عَلَيْهَا،

وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي دَرَجاتٍ بِاعْتِبَارِ صَلَاحِيَةِ مَنْ نَشاءُ لِأَفْرَادٍ كَثِيرِينَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّفْعَةِ، وَدَلَّ فِعْلُ الْمَشِيئَةِ عَلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمْ بِكَثْرَةِ مُوجِبَاتِ التَّفْضِيلِ، أَوِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُفَضَّلَ الْوَاحِدَ يَتَفَاوَتُ حَالُهُ فِي تَزَايُدِ مُوجِبَاتِ فَضْلِهِ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِتَنْوِينِ دَرَجاتٍ-، فَيَكُونُ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الرَّفْعِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الرَّفْعِ مَجَازًا فِي التَّفْضِيلِ. وَالدَّرَجَاتِ مَجَازًا فِي الْفَضَائِلِ الْمُتَفَاوِتَةِ.

وَدَلَّ قَوْلُهُ مَنْ نَشاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْرِيمَ لَا يَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ النَّاسِ لَمْ يَحْصُلِ الرَّفْعُ وَلَا التَّفْضِيلُ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يُثِيرُ سؤالا، يَقُول: لماذَا يُرْفَعُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، فَأُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ وَمِقْدَارَ اسْتِحْقَاقِهِ وَيَخْلُقُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ. فَحَكِيمٌ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، أَيْ مُتْقِنٍ لِلْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ. وَقُدِّمَ حَكِيمٌ عَلَى عَلِيمٌ لِأَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ مُظْهِرٌ لِلْحِكْمَةِ ثُمَّ عُقِّبَ بِ عَلِيمٌ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِحْكَامَ جَارٍ عَلَى وفْق الْعلم.

[٨٤- ٨٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٨٤ إِلَى ٨٧]

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًاّ هَدَيْنا وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكلًاّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

(٨٧)

جُمْلَةُ وَوَهَبْنا عَطْفٌ عَلَى جملَة آتَيْناها [الْأَنْعَام: ٨٣] لِأَنَّ مَضْمُونَهَا تَكْرِمَةٌ وَتَفْضِيلٌ. وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً هُوَ مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِلْجُمَلِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا إِبْطَالُ الشِّرْكِ وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى فَسَادِهِ وَعَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ.

وَالْوَهْبُ وَالْهِبَةُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ بِلَا عِوَضٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّفَضُّلِ وَالتَّيْسِيرِ.

وَمَعْنَى هِبَةِ يَعْقُوبَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ وُلِدَ لِابْنِهِ إِسْحَاقَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَبِرَ وَتَزَوَّجَ فِي حَيَاتِهِ فَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لِإِبْرَاهِيمَ.

وَقَدْ مَضَتْ تَرْجَمَةُ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [الْبَقَرَة: ١٢٤] . وَتَرْجَمَةُ إِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [الْبَقَرَة: ١٣٢] وَقَوْلِهِ: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَة: ١٣٣] كُلُّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَقَوْلُهُ: كُلًّا هَدَيْنا اعْتِرَاضٌ، أَيْ كُلُّ هَؤُلَاءِ هَدَيْنَاهُمْ يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِظُهُورِهِ وَعَوَّضَ عَنْهُ التّنوين فِي «كلّ» تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ.

وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَدْيِهِمَا التَّنْوِيهُ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَأَنَّهُمَا نَبِيئَانِ نَالَا هُدَى اللَّهِ كَهَدْيِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِيهِ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ، وَدَمْغٌ، لِقُرَيْشٍ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَتَسْفِيهٌ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ كَانُوا عَلَى ضِدِّ مُعْتَقَدِهِمْ كَمَا سَيُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ٨٨] .

وَجُمْلَةُ: وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ عَطْفٌ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، أَيْ وَهَدَيْنَا نُوحًا مِنْ قَبْلِهِمْ. وَهَذَا اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ بَعْضِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهُدَى، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْهُدَى هُوَ الْأَصْلُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى التَّوْحِيدُ كَمَا عَلِمْتَ.

وَانْتَصَبَ نُوحًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلَى هَدَيْنا لِلِاهْتِمَامِ، ومِنْ قَبْلُ حَالٌ مِنْ نُوحًا. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي أُصُولِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي (قَبْلُ) وَأَخَوَاتِ غَيْرٍ مِنْ حَذْفِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وَيُنْوَى مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٣] .

وَقَوْلُهُ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَال من دَاوُود، وداوُدَ مَفْعُولُ (هَدَيْنَا) مَحْذُوفًا. وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ التَّنْوِيهُ بِهَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ بِشَرَفِ أَصْلِهِمْ وَبِأَصْلِ فَضْلِهِمْ، وَالتَّنْوِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ أَوْ بِنُوحٍ بِفَضَائِلِ ذُرِّيَّتِهِ. وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى نُوحٍ لَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّ لُوطًا مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَسْبَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِهِ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ اسْمِهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَسْمَاءِ مَنْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ لَا عَلَى الْعَطْفِ.

وَدَاوُدُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥١] . وَنُكْمِلُهَا هُنَا بِأَنَّهُ دَاوُدُ بْنُ يِسِّي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وُلِدَ بِقَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ سَنَةَ ١٠٨٥ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَتُوُفِّيَ فِي أُورَشْلِيمَ سَنَةَ ١٠١٥. وَكَانَ فِي شَبَابِهِ رَاعِيًا لِغَنَمِ

أَبِيهِ. وَله معرفَة النغم وَالْعَزْفِ وَالرَّمْيِ بِالْمِقْلَاعِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى (شَمْوِيلَ) نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُبَارِكَ دَاوُدَ بْنَ يِسِّي، وَيَمْسَحَهُ بِالزَّيْتِ الْمُقَدَّسِ لِيَكُونَ مَلِكًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى حَسَبِ تَقَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْبَاءً بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ (شَاوُلَ) الَّذِي غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا مَسَحَهُ (شَمْوِيلُ) فِي قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ

خَطَرَ لِشَاوُلَ، وَكَانَ مَرِيضًا، أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَضْرِبُ لَهُ بِالْعودِ عِنْد مَا يَعْتَادُهُ الْمَرَضُ، فَصَادَفَ أَنِ اخْتَارُوا لَهُ دَاوُدَ فَأَلْحَقَهُ بِأَهْلِ مَجْلِسِهِ لِيَسْمَعَ أَنْغَامَهُ. وَلَمَّا حَارَبَ جُنْدُ (شَاوُلَ) الْكَنْعَانِيِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، كَانَ النَّصْرُ لِلْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِسَبَبِ دَاوُدَ إِذْ رَمَى الْبَطَلَ الْفِلَسْطِينِيَّ (جَالُوتَ) بِمِقْلَاعِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَصَرَعَهُ وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَلِذَلِكَ صَاهَرَهُ (شَاوُلُ) بِابْنَتِهِ (مِيكَالَ)، ثُمَّ إِنَّ (شَاوُلَ) تَغَيَّرَ عَلَى دَاوُدَ، فَخَرَجَ دَاوُدُ إِلَى بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً تَحْتَ قِيَادَتِهِ، وَلَمَّا قُتِلَ (شَاوُلُ) سَنَةَ ١٠٥٥ بَايَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ الْإِسْرَائِيلِيِّ فِي فِلَسْطِينَ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ.

وَجَعَلَ مَقَرَّ مُلْكِهِ (حَبْرُونَ)، وَبَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قُتِلَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي خَلَفَ شَاوُلَ فَبَايَعَتِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ كُلُّهُمْ دَاوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَرَجَعَ إِلَى أُورَشْلِيمَ، وَآتَاهُ اللَّهُ النُّبُوءَةَ وَأَمَرَهُ بِكِتَابَةِ الزَّبُورِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْيَهُودِ بِالْمَزَامِيرِ.

وَسُلَيْمَانُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] .

وَأَيُّوبُ نَبِيءٌ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ نُبُوءَتَهُ. وَلَهُ قِصَّةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ أَيُّوبَ، مِنْ جُمْلَةِ كُتُبِ الْيَهُودِ. وَيَظُنُّ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ أَيُّوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ (نَاحُورَ) أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وَبَعْضُهُمْ ظَنَّ أَنَّهُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي كِتَابِهِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَ سَاكِنًا بِأَرْضِ عُوصَ (وَهِيَ أَرْضُ حُورَانَ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي عُوصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُمْ أُصُولُ عَادٍ) وَكَانَتْ مُجَاوِرَةً لِحُدُودِ بِلَادِ الْكِلْدَانِ، وَقَدْ ورد ذكر الكلدان فِي كِتَابِ أَيُّوبَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَنْ صِنْفٍ عَرَبِيٍّ وَأَنَّهُ مَنْ عُوصَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِنِسْبَتِهِ فِي كِتَابِهِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِأَرْضِ عُوصَ (الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ) . وَزَعَمُوا أَنَّ كَلَامَهُ الْمَسْطُورَ فِي كِتَابِهِ كَانَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَأَنَّ مُوسَى- عليه السلام نَقَلَهُ إِلَى الْعِبْرَانِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَانَ شِعْرًا تَرْجَمَهُ مُوسَى فِي كِتَابِهِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ عُرِفَ

بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَوَّلُ شِعْرٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ، ذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَكَلَامَ أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ عَزَّوْهُ عَلَى مَصَائِبِهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةٍ شِعْرِيَّةٍ لَا مَحَالَةَ.

وَيُوسُفُ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ وَيَأْتِي تَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ.

ومُوسَى وَهَارُون وزكرياء تَقَدَّمَتْ تَرَاجِمُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَتَرْجَمَةُ عِيسَى تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَيَحْيَى تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ.

وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْوَهْبُ الَّذِي وَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ وَالْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّتَهُ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَهُ، أَوْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنَا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مِثْلَ نُوحٍ، فَعُلِمَ أَنَّ نُوحًا أَوْ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، فَأَمَّا إِحْسَانُ نُوحٍ فَيَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَأَمَّا إِحْسَانُ إِبْرَاهِيمَ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ مِنْ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ وَبَذْلِهِ كُلَّ الْوُسْعِ لِإِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى الْهَدْيِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: هَدَيْنا الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ وَكَذَلِكَ الْهَدْيِ الْعَظِيمِ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، أَيْ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا فَكَانَ جَزَاءُ إِحْسَانِهِمْ أَنْ جَعَلْنَاهُمْ أَنْبِيَاءَ.

وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بَاسِمِ إِيلِيَا، وَيُسَمَّى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ بَاسِمِ إِلْيَاسَ أَوْ (مَارِ إِلْيَاسَ) وَهُوَ إِلْيَاسُ التَّشَبِيُّ (١) . وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ فنحَاص بن إلعازر، ابْن هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَيَكُونُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي. كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ فِي

(١) نِسْبَة إِلَى تشبي مَدِينَة الأَرْض الَّتِي أَعْطَيْت لسبط نفتالي كَمَا فِي سفر الْعدَد.

حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَهُوَ إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ سُكَّانِ (جِلْعَادَ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ- صِقْعٌ جَبَلِيٌّ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ وَمِنْهُ بَعْلَبَكُّ. وَكَانَ إِلْيَاسُ مِنْ سِبْطِ رُوبِينَ أَوْ مِنْ سِبْطِ جَادَ. وَهَذَانِ السِّبْطَانِ هُمَا سُكَّانُ صِقْعِ جِلْعَادَ، وَيُقَالُ لِإِلْيَاسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ التَّشَبِيُّ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) وَعَبَدُوا (بَعْلَ) صَنَمَ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ وَعَظَهُمْ إِلْيَاسُ وَلَهُ أَخْبَارٌ مَعَهُمْ. أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الْيَسَعَ خَلِيفَةً لَهُ فِي النُّبُوءَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ إِلْيَاسَ فِي عَاصِفَةٍ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدُ، وَخَلَفَهُ الْيَسَعُ فِي النُّبُوءَةِ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ

(تَهُورَامَ) بْنِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ.

وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ اعْتِرَاضٌ. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَذْكُورِينَ إِسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُ.

وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَالْيَسَعُ اسْمُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِلْيَشَعُ- بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ وَلَامٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ وَعَيْنٌ- وَتَعْرِيبُهُ فِي العربيّة اليسع- بهزة وَصْلٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ- فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور.

وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ «اللَّيْسَعُ» - بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ- بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَهُوَ ابْنُ (شَافَاطَ) مِنْ أَهْلِ (آبُلِ مَحُولَةَ) . كَانَ فَلَّاحًا فَاصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ إِلْيَاسَ فِي مُدَّةِ (آخَابَ) وَصَحِبَ إِلْيَاسَ. وَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ لَازَمَ سِيرَةَ إِلْيَاسَ وَظَهَرَتْ لَهُ مُعْجِزَاتٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (أَرِيحَا) وَغَيْرِهَا. وَتُوُفِّيَ فِي مُدَّةِ الْمَلِكِ (يُوءَاشَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ ٨٤٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَدُفِنَ بِالسَّامِرَةِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْيَسَعَ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْهَمْزَةَ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ لِلتَّخْفِيفِ

فَأَشْبَهَ الِاسْمَ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ الَّتِي لِلَمْحِ الْأَصْلِ مِثْلَ الْعَبَّاسِ، وَمَا هِيَ مِنْهَا.

وَأَمَّا يُونُسُ فَهُوَ ابْنُ مَتَّى، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (يُونَانُ بْنُ أَمِتَّاي)، وَهُوَ مِنْ سِبْطِ (زَبُولُونَ) . وَيَجُوزُ فِي نُونِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وُلِدَ فِي بَلْدَةِ (غَاثِ ايفَرَ) مِنْ فِلَسْطِينَ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ (نِينَوَى) مِنْ بِلَادِ آشُورَ. وَكَانَ أَهْلُهَا يَوْمَئِذٍ خَلِيطًا مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ، وَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَأَبَوْا تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ فَتَأَخَّرَ الْعَذَابُ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا وَذَهَبَ إِلَى (يَافَا) فَركب سفينة للفنيقيّين لِتَذْهَبَ بِهِ إِلَى تَرْشِيشَ (مَدِينَةٍ غَرْبِيِّ فِلَسْطِينَ إِلَى غَرْبِيِّ صُورَ وَهِيَ عَلَى الْبَحْرِ وَلَعَلَّهَا مِنْ مَرَاسِي الْوَجْهِ الْبَحْرِيِّ مِنْ مِصْرَ أَوْ مِنْ مَرَاسِي بُرْقَةَ لِأَنَّهُ وُصِفَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يُجْلَبُ إِلَيْهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْقُرُودُ وَالطَّوَاوِيسُ مِنْ تَرْشِيشَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِتَرْشِيشَ تِجَارَةٌ مَعَ الْحَبَشَةِ أَوِ السُّودَانِ، وَمِنْهَا تُصَدَّرُ هَذِهِ الْمَحْصُولَاتُ. وَقِيلَ هِيَ طَرْطُوشَةُ مِنْ مِرَاسِي الْأَنْدَلُسِ.

وَقِيلَ (قَرْطَاجَنَّةُ) مَرْسَى إِفْرِيقِيَّةَ قُرْبَ تُونُسَ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوَارِيخِنَا أَنَّ تُونُسَ كَانَ اسْمُهَا قَبْلَ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ تَرْشِيشَ. وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّ تِجَارَتَهَا مَعَ السُّودَانِ قَدْ تَكُونُ أَقْرَبَ) فَهَالَ الْبَحْرُ عَلَى السَّفِينَةِ وَثَقُلَتْ وَخِيفَ غَرَقُهَا، فَاقْتَرَعُوا فَكَانَ يُونُسُ مِمَّنْ خَابَ فِي الْقُرْعَةِ فَرُمِيَ

فِي الْبَحْرِ وَالْتَقَمَهُ حُوتٌ عَظِيمٌ فَنَادَى فِي جَوْفِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٨٧]، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَقَذَفَهُ الْحُوتُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ ثَانِيًا إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَآمَنُوا وَكَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ. وَكَانَتْ مُدَّتُهُ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ قَبْلَ الْمِيلَادِ. وَلَمْ نَقِفْ عَلَى ضَبْطِ وَفَاتِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّ قَبْرَهُ بِقَرْيَةِ جَلْجُونَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَبَلَدِ الْخَلِيلِ، وَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ فِي رِحْلَتِهِ.

وَسَتَأْتِي أَخْبَارُ يُونُسَ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَسُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُورَةِ الصَّافَّاتِ.

وَأَمَّا لُوطٌ فَهُوَ ابْنُ هَارَانَ بْنِ تَارَحَ، فَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ. وُلِدَ فِي (أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ) . وَمَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ تَارَحَ، فَاتَّخَذَ تَارَحُ لُوطًا فِي كَفَالَتِهِ. وَلَمَّا مَاتَ تَارَحُ كَانَ لُوطٌ مَعَ إِبْرَاهِيمَ سَاكِنَيْنِ فِي أَرْضِ حَارَانَ (حُورَانَ) بَعْدَ أَنْ خَرَجَ تَارَحُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ قَاصِدَيْنِ أَرْضَ كَنْعَانَ. وَهَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ مَعَ لُوطٍ إِلَى مِصْرَ لِقَحْطٍ أَصَابَ بِلَادَ كَنْعَانَ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى بِلَادِ كَنْعَانَ، وَافْتَرَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ بِسَبَبِ خِصَامٍ وَقَعَ بَيْنَ رُعَاتِهِمَا، فَارْتَحَلَ لُوطٌ إِلَى (سَدُومَ)، وَهِيَ مِنْ شَرْقِ الْأُرْدُنِّ إِلَى أَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حِينَ قَدَّرَ اللَّهُ خَسْفَهَا عِقَابًا لِأَهْلِهَا فَخَرَجَ إِلَى (صَوْغَرَ) مَعَ ابْنَتِهِ وَنَسْلِهِ هُنَاكَ، وَهُمُ (الْمُؤَابِيُّونَ) وَ(بَنُو عَمُونَ) .

وَقَوْلُهُ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ مِنْ إِسْحَاقَ إِلَى هُنَا. وَ(كُلٌّ) يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ. وَحُكْمُ الِاسْتِغْرَاقِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَا لِلْمَجْمُوعِ.

وَالْمُرَادُ تَفْضِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَدَا مَنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَاللَّامُ فِي الْعالَمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، فَقَدْ كَانَ لُوطٌ فِي عَصْرِ إِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَكَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا مَنْ كَانُوا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَلَا يُعْرَفُ فَضْلُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ وَكُلٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُفَضَّلُونَ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَيَّ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الْآخَرِ كَلَامٌ فِي غَرَضٍ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَوَّلِ اهـ. وَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ مُقْتَضَى حُكْمِ الِاسْتِغْرَاقِ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.

وَتَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ. وَهِيَ ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ فِيهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي الْإِيمَانِ وَحَقِّ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا الْمُفَسِّرُونَ وَكَانَ يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لَهَا لِأَنَّهَا تَتَفَرَّعُ إِلَى مَسَائِلَ تَهُمُّ طَالِبَ

الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعْرِفَتُهَا،

وَأَحَقُّ مَظِنَّةً بِذِكْرِهَا هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا هُوَ بِمَعْنَى بَعْضِهَا. فَأَمَّا ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِيهَا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ أَنْ عَدَّ أَسْمَاءَهُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوءَةَ. فَثُبُوتُ النُّبُوءَةِ لَهُمْ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ لأنّ اسْم إِشَارَة أُولئِكَ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ فِي عَوْدِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسَمَّيْنَ قَبْلَهُ مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ وَيُكَمِّلُهُ مِنَ النَّصِّ بِنُبُوءَةِ بَعْضِهِمْ فِي آيَاتٍ تُمَاثِلُ هَذِهِ الْآيَةَ، مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٦٣] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ الْآيَاتِ، وَمِثْلِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [٤١] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ الْآيَاتِ.

وَلِلنُّبُوءَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْصُوفِهَا وَبِمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَا. مِنْهَا مَعْنَى النَّبِيءِ وَالرَّسُولِ، وَمَعْنَى الْمُعْجِزَةِ الَّتِي هِيَ دَلِيلُ تَحَقُّقِ النُّبُوءَةِ أَوِ الرِّسَالَةِ لِمَنْ أَتَى بِهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَرْعٍ وَآدَابٍ، وَمَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا. إِنَّمَا الَّذِي يَهُمُّنَا مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ هُوَ مَا أَوْمَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِهَا فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الْأَنْعَام: ٨٩] . فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِمَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ مَنْ جَرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِيهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا وَنَبَّأَ أَنْبِيَاءَ لِإِرْشَادِ النَّاسِ وَاجِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، أَيْ إِيمَانًا بِإِرْسَالِ أَفْرَادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، أَوْ بِنُبُوءَةِ أَفْرَادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِاسْمِهِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا مُحَمَّدًا ﷺ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» «الْبَاعِثُ (صِفَةُ لِلَّهِ تَعَالَى) الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ» . فَإِرْسَالُ الرُّسُلِ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ» الْمَقَاصِدِ» أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَيْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ) مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ بِوُجُوبِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِنَبِيءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ: «ثُمَّ خَتَمَ- أَيِ اللَّهُ- الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوءَةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيئِهِ ﷺ إِلَخْ»، لِأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي

رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيءَ ﷺ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»

إِلَخْ. فَلَمْ يُعَيِّنْ رُسُلًا مَخْصُوصِينَ.

وَقَالَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ

إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» .

فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ بِنُبُوءَةِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا. وَلَعَلَّ كثيرا لَا يقرأونها وَكَثِيرًا ممّن يقرأونها لَا يَفْهَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا حَقَّ الْفَهْمِ فَلَا يُطَالَبُونَ بِتَطَلُّبِ فَهْمِهَا وَاعْتِقَادِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي فَصْلٍ (سَابِعٍ) مِنْ فُصُولِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الشِّفَاءِ» «وَهَذَا كُلُّهُ (أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِلْزَامِ الْكُفْرِ أَوِ الْجُرْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ لِمَنْ جَاءَ فِي حَقِّهِمْ بِمَا يُنَافِي مَا يَجِبُ لَهُمْ) فِيمَنْ تُكُلِّمَ فِيهِمْ (أَيِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ) بِمَا قُلْنَاهُ عَلَى جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيئِينَ (أَيْ عَلَى مَجْمُوعِهِمْ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ- قَالَهُ الْخَفَاجِيُّ- يُرِيدُ بِالْجَمِيعِ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ) مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنْهُمْ ممّن نصّ الله عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ وَالْخَبَرِ الْمُشْتَهِرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (الْوَاوُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ بِمَعْنَى أَوْ) . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَثْبُتِ الْإِخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْخَضِرِ، وَلُقْمَانَ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَمَرْيَمَ، وَآسِيَةَ (امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ) وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيءُ أَهْلِ الرَّسِّ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ» اهـ.

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي أَبْيَاتٍ ثَلَاثَةٍ نَظَمَهَا الْبَعْضُ

، (ذَكَرَهَا الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَيْجُورِيُّ فِي مَبْحَثِ الْإِيمَانِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى «جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ»:

حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ ... بِأَنْبِيَاءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا


فِي «تِلْكَ حُجَّتُنَا» (١) مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ... مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وُهُمُ


إِدْرِيسُ. هُودٌ. شُعَيْبٌ، صَالِحٌ وَكَذَا ... ذُو الْكِفْلِ، آدَمُ، بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا

لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، لِأَنَّ كَوْنَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتْمًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الِاصْطِلَاحِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَتْمِ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهُ كَانَ مُتَأَكِّدًا لِقَوْلِهِ:

عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ. فَلَوْ عَوَّضَهُ بِكُلِّ ذِي التَّعْلِيمِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْحَتْمِ أَنَّهُ يَتَحَتَّمُ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَدَمُ إِنْكَارِ كَوْنِ هَؤُلَاءِ أَنْبِيَاءَ بِالتَّعْيِينِ، وَلَكِنْ شَاءَ بَيْنَ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ وَبَيْنَ مَنْعِ إِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ.

فَأَمَّا رِسَالَةُ هُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.

وَأَمَّا مَعْرِفَةُ نُبُوءَةِ ذِي الْكِفْلِ فَفِيهَا نَظَرٌ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ مِنَ الصَّابِرِينَ وَالصَّالِحِينَ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَنُسِبَ إِلَى الْجُمْهُورِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ نَبِيءٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَأَمَّا آدَمُ فَإِنَّهُ نَبِيءٌ مُنْذُ كَوْنِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَالَ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: ١٢٢] فَهُوَ قَدْ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مُشَرَّفًاِِ

(١) أَرَادَ الْآيَة وَتِلْكَ حُجَّتُنا وَهِي بواو الْعَطف فَلَو قَالَ: وَتلك حجتنا عدّت ثَمَانِيَة مِنْهُم وَعشرا إِلَخ.

بِصِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آدَمَ بَلَّغَ لِأَبْنَائِهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٢٧- ٢٩] .

فَالَّذِي نَعْتَمِدُهُ أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُ نُبُوءَةَ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَادِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ مُحَقَّقًا عِلْمُهُ بِالْآيَةِ الَّتِي وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ نَبِيءٌ وَوَقَفَ عَلَى دَلِيلِ صِحَّةِ مَا أَنْكَرَهُ وَرُوجِعَ فَصَمَّمَ عَلَى إِنْكَارِهِ، إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَذِرَ بِجَهْلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ مَقْبُولٍ.

وَاعْلَمْ أَنِّي تَطَلَّبْتُ كَشْفَ الْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، (عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مُعَادِ ضَمِيرِ ذُرِّيَّتِهِ) . فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وَتَطَلَّبْتُ وَجْهَ تَرْتِيبِ أَسْمَائِهِمْ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَمُوَالَاةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِبَعْضٍ فِي الْعَطْفِ فَلَمْ يَبْدُ لِي، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَون هَؤُلَاءِ معروفون لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ مَعْرِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي تَرْتِيبِهِمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَوْهِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ، فَنَشَأَ الِانْتِقَالُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ بِمُنَاسَبَةٍ لِلِانْتِقَالِ، وَأَنَّ تَوْزِيعَ أَسْمَائِهِمْ عَلَى فَوَاصِلَ ثَلَاثٍ لَا يَخْلُو عَنْ مُنَاسَبَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَاصِلَةِ الشَّامِلَةِ لِأَسْمَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنَّ خِفَّةَ أَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي تَعْرِيبِهَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ حُرُوفًا وَوَزْنًا لَهَا أَثَرٌ فِي إِيثَارِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوُ (شَمْعُونَ وَشَمْوِيلَ وَحِزْقيَالَ وَنَحْمِيَا)، وَأَنَّ الْمَعْدُودِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَوَزَّعُوا الْفَضَائِلَ إِذْ مِنْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ وَأَهْلُ

الْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ الْعَزِيزَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَجِهَادِ النَّفْسِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُصَابَرَةِ

لِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَاتِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَعْرَاف: ٨٩] وَمِنْ بَيْنِهِمْ أَصْلَا الْأُمَّتَيْنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّةِ.

فَلَمَّا ذَكَرَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَرْدَفَ ذِكْرَهُمَا بِذِكْرِ نَبِيئَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاء هما دَاوُود وَسُلَيْمَانُ مُبْتَدَءًا بِهِمَا عَلَى بَقِيَّةِ ذَرِّيَّةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا نَالَا مَجْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَجْدَ الْآخِرَةِ بِالنُّبُوءَةِ وَمَجْدَ الدُّنْيَا بِالْمُلْكِ. ثُمَّ أَرْدَفَ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ تَمَاثَلَا فِي أَنَّ الضُّرَّ أَصَابَ كِلَيْهِمَا وَأَنَّ انْفِرَاجَ الْكَرْبِ عَنْهُمَا بِصَبْرِهِمَا. وَهُمَا أَيُّوبُ وَيُوسُفُ. ثُمَّ بِذِكْرِ رَسُولَيْنِ أَخَوَيْنِ هُمَا مُوسَى وَهَارُونُ، وَقَدْ أَصَابَ مُوسَى مِثْلُ مَا أَصَابَ يُوسُفَ مِنَ الْكَيْدِ لَهُ لِقَتْلِهِ وَمِنْ نَجَاتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَالَتِهِ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ، فَهَؤُلَاءِ السِّتَّةُ شَمِلَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الْأُولَى الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

ثُمَّ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ أَبٍ وَابْنه وهما زَكَرِيَّاء وَيَحْيَى. فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُمَا رَسُولَانِ لَا ذُرِّيَّةَ لَهُمَا، وَهُمَا عِيسَى وَإِلْيَاسُ، وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي أَنَّهُمَا رُفِعَا إِلَى السَّمَاءِ. فَأَمَّا عِيسَى فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إِلْيَاسُ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ وَعَلَيْهِ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيئًا وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٥٦، ٥٧] . وَابْتُدِئَ بِعِيسَى عَطْفًا عَلَى يَحْيَى لِأَنَّهُمَا قَرِيبَانِ ابْنَا خَالَةٍ، وَلِأَنَّ عِيسَى رَسُولٌ وَإِلْيَاسَ نَبِيءٌ غَيْرُ رَسُولٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَعَطَفَ الْيَسَعَ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ إِلْيَاسَ وَتِلْمِيذُهُ، وَأَدْمَجَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْيَاسَ إِسْمَاعِيلَ تَنْهِيَةً بِذِكْرِ النَّبِيءِ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهِي نَسَبُ الْعَرَبُ مِنْ ذرّيّة إِبْرَاهِيم. وختوا بِيُونُسَ وَلُوطٍ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ صَغِيرَةٍ. وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الْفَاصِلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ:

وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آبائِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: كُلًّا. فَالتَّقْدِيرُ: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَيْ وَهَدَيْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ [النِّسَاء: ٤٦] . وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ آبَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ مَهْدِيِّينَ كَثِيرِينَ، فَتَكُونُ (مِنْ) تبعيضية متعلّقة بهدينا.

وَالذُّرِّيَّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَهِيَ مَنْ تَنَاسَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ مِنْ أَبْنَاءٍ أَدْنَيْنَ وَأَبْنَائِهِمْ فَيَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنِينَ وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ إِرَادَةُ أَنَّ الْهُدَى تَعَلَّقَ بِذُرِّيَّةِ كُلِّ مِنْ لَهُ ذَرِّيَّةٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ فِي هَدْيِ بَعْضِ الذُّرِّيَّةِ كَرَامَةً لِلْجِدِّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُرَادٌ وُقُوعُ الْهَدْيِ فِي ذُرِّيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ذُرِّيَّاتُهُمْ رَاجِعِينَ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ نُوحٌ- عليه السلام.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى الْمُقَدَّرِ الْهُدَى الْمُمَاثِلَ لِلْهُدَى الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَهُوَ هُدَى النُّبُوءَةِ، فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ مِثْلَ آدَمَ وَإِدْرِيسَ- عليهم السلام فَإِنَّهُمْ آبَاء نوح. والذّرّات يَشْمَلُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَدَانْيَالَ. فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَالْأَنْبِيَاءَ مِنْ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ- عليه السلام مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ، وَهُودًا، وَصَالِحًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَشُعَيْبًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْإِخْوَانُ يَشْمَلُ بَقِيَّةَ الْأَسْبَاطِ إِخْوَةَ يُوسُفَ.

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النُّبُوءَةِ شَمِلَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْآبَاءِ مِثْلَ هَابِيلَ ابْن آدَمَ. وَشَمِلَ الذُّرِّيَّاتِ جَمِيعَ صَالِحِي الْأُمَمِ مِثْلَ أَهْلِ الْكَهْفِ، قَالَ تَعَالَى:

وَزِدْناهُمْ هُدىً [الْكَهْف: ١٣]، وَمِثْلَ طَالُوتَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ.

وَيَشْمَلُ. الْإِخْوَانُ هَارَانَ بْنَ تَارَحَ أَخَا إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَبُو لُوطٍ، وَعيسو أَخَا، يَعْقُوبَ وَغَيْرَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، قَالُوا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْيِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، وَجَبْيُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ الَّذِي سُمِّيَتْ مِنْهُ الْجَابِيَةُ، فَالِافْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ، وَوَجْهُ الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الْجَمْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي تَحْصِيلِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ فَجَعَلَهُمْ مَوْضِعَ هَدْيِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَنُبُوءَتَهُ وَهَدْيَهُ.

وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَهَدَيْناهُمْ عَلَى اجْتَبَيْناهُمْ عَطْفًا يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ هُدَاهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْهَدْيِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ إِلَى مَا بِهِ نَوَالُ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ الْكَمَالِ لِنَوَالِهِ، فَضَرَبَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مَثَلًا لِذَلِكَ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ الْعَامِلِ لِيَنَالَ مَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْكَمَالِ بِهَيْئَةِ السَّاعِي عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَا سَار إِلَيْهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ وَلَا تَحَيُّرٍ وَلَا ضَلَالٍ، وَذَكَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَحْذُوفَةِ لِلْإِيجَازِ.

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ

الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا مُعْتَقَدَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: ٨٨] .

[٨٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨٨]

ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَدْيِهِمْ وَضَلَالِ غَيْرِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِ الْهِدَايَةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَخُصُوصًا الْمَذْكُورُ آخِرًا بِقَوْلِهِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ٨٧] . وَقَدْ زَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْهَدْيِ إِذْ جُعِلَ كَالشَّيْءِ

الْمُشَاهَدِ فَزِيدَ بَاسِمِ الْإِشَارَةِ كَمَالُ تَمْيِيزٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْهُدَى بِأَنَّهُ هُدَى اللَّهِ لِتَشْرِيفِ أَمْرِهِ وَبَيَانِ عِصْمَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا يَزْعُمُونَهُ هُدًى وَيَتَلَقَّوْنَهُ عَنْ كُبَرَائِهِمْ، أَمْثَالِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي وَضَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَمِثْلِ الْكُهَّانِ وَأَضْرَابِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْفَذْلَكَةِ لِأَحْوَالِ الْهِدَايَةِ الَّتِي تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا كَأَبْيَاتِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:

وَلِلَّهِ صُعْلُوكٌ يُسَاوِرُ هَمَّهُ ... وَيَمْضِي عَلَى الْأَحْدَاثِ وَالدَّهْرِ مُقْدِمَا

إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ أَبْيَاتٍ سَبْعَةٍ فِي مَحَامِدِ ذَلِكَ الصُّعْلُوكِ:

فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفًا مُذَمَّمَا

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ هُدَى اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِ مَنْ يَشاءُ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ وَبِاسْتِعْدَادِهِمْ لِهَدْيهِ وَنَبْذِهِمُ الْمُكَابَرَةَ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَيْهِ وَتَدَرُّجِهِمْ فِيهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَرْتَبَةَ إِفَاضَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ أَوِ التَّوْفِيقَ وَالْإِلْهَامَ الصَّادِقَ. فَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ مِنَ الْإِبْهَامِ مَا يَبْعَثُ النُّفُوسَ عَلَى تَطَلُّبِ هُدَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نبوءة محمّد ﷺ حَسَدًا، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ تَفْظِيعًا لِأَمْرِ الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يُغْتَفَرُ لِأَحَدٍ وَلَوْ بَلَغَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ الْمُنَوَّهِ بِهِمْ. وَالْوَاو للْحَال. و«حَبط» مَعْنَاهُ تَلِفَ، أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢١٧] .

[٨٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٨٩]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ

(٨٩)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَهِيَ فَذْلَكَةٌ ثَانِيَةٌ، لِأَنَّ الْفَذْلَكَةَ الْأُولَى رَاجِعَةٌ إِلَى مَا فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنَ الْهُدَى وَهَذِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَهْدِيِّينَ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِتَمْيِيزِهِمْ وَإِخْطَارِ سِيرَتِهِمْ فِي الْأَذْهَانِ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ هُمُ الْمُعَيَّنُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَالْمَذْكُورُونَ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ [الْأَنْعَام: ٨٧] . والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْجِنْسُ: أَيِ الْكُتُبُ. وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ يَكُونُ بِإِنْزَالِ مَا يُكْتَبُ، كَمَا أَنْزَلَ عَلَى الرُّسُلِ وَبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ كِتَابًا، لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يُكْتَبَ سَوَاءٌ كُتِبَ أَمْ لَمْ يُكْتَبْ. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ لَهُ صُحُفٌ بِقَوْلِهِ: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٩] وَكَانَ لِعِيسَى كَلَامُهُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْإِنْجِيل. ولداوود الْكَلَامُ الصَّادِرُ مِنْهُ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ نَبِيئًا وَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا، وَلِسُلَيْمَانَ الْأَمْثَالُ، وَالْجَامِعَةُ، وَالنَّشِيدُ الْمَنْسُوبُ فِي ثَلَاثَتِهَا أَحْكَامٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. وَيُقَالُ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَتَبَ الْحِكْمَةَ فِي صُحُفٍ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ (أَخْنُوخَ) ويدعوه القبط (توت) وَيَدْعُوهُ الْحُكَمَاءُ (هُرْمُسَ) . وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ بِإِيتَاءِ النّبيء فهم ونبيين الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ، كَمَا أُوتِيَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى أَمْثَالَ يَحْيَى فَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُ يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: ١٢] .

وَالْحُكْمُ هُوَ الْحِكْمَةُ، أَيِ الْعِلْمُ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ يَحْيَى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢]، وَلَمْ يَكُنْ يَحْيَى حَاكِمًا أَيْ قَاضِيًا، وَقَدْ يُفَسَّرُ الْحُكْمُ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْن دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا [الْأَنْبِيَاء: ٧٩] .

وَإِيتَاءُ هَذِهِ الثَّلَاثِ عَلَى التَّوْزِيعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ جَمِيعَهَا وَهُمُ الرُّسُلُ مِنْهُمْ وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ حَكَمُوا بَيْنَ النّاس مثل دَاوُود وَسُلَيْمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ بَعْضَهَا وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ وَالصَّالِحُونَ مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ شُمُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِآبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ

الْكِتابَ عُقِّبَتْ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ وَفُرِّعَتْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الْأَنْعَام: ٧٤] هُوَ تَشْوِيهُ أَمْرِ الشِّرْكِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِهِ بِنَبْذِ أَهْلِ الْفضل وَالْخَيْر إيّاه، فَكَانَ لِلْفَاءِ الْعَاطِفَةِ عَقِبَ ذَلِكَ مَوْقِعٌ بَدِيعٌ مِنْ أَحْكَامِ نَظْمِ الْكَلَامِ.

وَضَمِيرُ بِها عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ: الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ:

هؤُلاءِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ «فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ» (يَعْنِي النّبيء ﷺ . وَفِي «الْبُخَارِيِّ» قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ (يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) .

وَقَدْ تَقَصَّيْتُ مَوَاقِعَ آيِ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ يُعَبِّرُ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَثِيرًا بِكَلِمَةٍ (هَؤُلَاءِ)، كَقَوْلِهِ بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ [الزخرف: ٢٩] وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ.

وَكُفْرُ الْمُشْرِكِينَ بِنُبُوءَةِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعٌ لكفرهم بمحمّد ﷺ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدُ أَنَّهُمْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] .

وَمَعْنَى: وَكَّلْنا بِها وَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَمُرَاعَاتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا. فَالتَّوْكِيلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْكِيلِ إِسْنَادُ صَاحِبِ الشَّيْءِ تَدْبِيرِ شَيْئِهِ إِلَى مَنْ يَتَوَلَّى تَدْبِيرَهُ وَيَكْفِيهِ كُلْفَةَ حِفْظِهِ وَرِعَايَةِ مَا بِهِ بَقَاؤُهُ وَصَلَاحُهُ وَنَمَاؤُهُ. يُقَالُ: وَكَّلْتُهُ عَلَى الشَّيْءِ وَوَكَّلْتُهُ بِالشَّيْءِ فَيَتَعَدَّى بِعَلَى وَبِالْبَاءِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْفِيقِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنُّبُوءَةِ وَالْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنَّظَرِ فِي مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَرِعَايَتِهِ تَشْبِيهًا لِتِلْكَ الرِّعَايَةِ بِرِعَايَةِ الْوَكِيلِ، وَتَشْبِيهًا لِلتَّوْفِيقِ إِلَيْهَا بِإِسْنَادِ النَّظَرِ إِلَى الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ الشَّيْءِ الْمُوَكَّلِ بِيَدِ الْوَكِيلِ مَعَ حِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ، فَكَانَتِ اسْتِعَارَةُ وَكَّلْنا لِهَذَا الْمَعْنَى إِيجَازًا

بَدِيعًا يُقَابِلُ مَا يَتَضَمَّنُهُ مَعْنَى الْكُفْرِ بِهَا مِنْ إِنْكَارِهَا الَّذِي فِيهِ إِضَاعَةُ حُدُودِهَا.

وَالْقَوْمُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا برسالة محمّد ﷺ وَالْقُرْآنِ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ. وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ فَسَّرَ فِي «الْكَشَّافِ» الْقَوْمَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَادَّعَى أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَامِلَ إِلَيْهِ.

وَوَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ جِيءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنِ اسْمِ (لَيْسَ)

وَخَبَرِهَا لِأَنَّ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ نَفْيٍ إِذْ هِيَ فَعْلٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ فَجُمْلَتُهَا تَدُلُّ عَلَى دَوَامِ نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ، وَأُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ (لَيْسَ) لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَصَارَ دَوَامَ نَفْيٍ مُؤَكَّدًا.

وَالْمَعْنَى إِنْ يَكْفُرِ الْمُشْرِكُونَ بِنُبُوءَتِكَ وَنُبُوءَةِ مَنْ قَبْلِكَ فَلَا يَضُرُّكَ كُفْرُهُمْ لِأَنَّا قَدْ وَفَّقْنَا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ لِلْإِيمَانِ بِكَ وَبِهِمْ، فَهَذَا تَسْلِيَة للرّسول ﷺ عَلَى إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمُعَادٍ الضَّمِيرِ: الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوءَةِ.

[٩٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٠]

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.

جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ قُصِدَ مِنِ اسْتِئْنَافِهَا اسْتِقْلَالُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهَا، وَلِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ التَّكْرِيرِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا: جُمْلَةِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ٨٧] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَنْعَام: ٨٩] . وَحَقُّ التَّكْرِيرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ.

وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة [الْأَنْعَام: ٨٩] فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَمر نبيّنا ﷺ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْكِيدِ تَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَلِمَا يَقْتَضِيهِ التَّكْرِيرُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.

وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَصْرَ جِنْسِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ تَفْصِيلًا وإجمالا، لأنّ المهديين مِنَ الْبَشَرِ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا أُولَئِكَ الْمُسَمَّيْنَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، فَإِنَّ مِنْ آبَائِهِمْ آدَمَ وَهُوَ الْأَبُ الْجَامِعُ لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، فَأُرِيدَ بِالْهُدَى هُدَى الْبَشَرِ، أَيِ الصَّرْفُ عَنِ الضَّلَالَةِ، فَالْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ. وَلَا نَظَرَ لِصَلَاحِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ صَلَاحٌ جِبِلِّيٌّ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الظَّاهِرِ لِقَرْنِ هَذَا الْخَبَرِ بِالْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ.

وَقَوْلُهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تَفْرِيعٌ عَلَى كَمَالِ ذَلِكَ الْهُدَى، وَتَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ حظّ محمدّ ﷺ مِنْ هُدَى اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قدّم قبله مسهب ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَدْيِهِمْ إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ

مُحَمَّدٍ ﷺ وأنّها منزلَة جَدِيدَة بِالتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُ جَمَعَ هُدَى الْأَوَّلِينَ، وَأُكْمِلَتْ لَهُ الْفَضَائِلُ، وَجَمَعَ لَهُ مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْخَصَائِصِ وَالْمَزَايَا الْعَظِيمَةِ. وَفِي إِفْرَادِهِ بِالذِّكْرِ وَتَرْكِ عَدِّهِ مَعَ الْأَوَّلِينَ رَمْزٌ بَدِيعٌ إِلَى فَذَاذَتِهِ وَتَفَرُّدِ مِقْدَارِهِ، وَرَعْيٌ بَدِيعٌ لِحَالِ مَجِيءِ رِسَالَتِهِ بَعْدَ مُرُورِ تِلْكَ الْعُصُورِ الْمُتَبَاعِدَةِ أَوِ الْمُتَجَاوِرَةِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُور وَهُوَ فَبِهُداهُمُ عَلَى عَامِلِهِ، لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْهُدَى لِأَنَّهُ هُوَ مَنْزِلَتُكَ الْجَامِعَةُ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا، فَلَا يَلِيقُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ بِهُدًى هُوَ دُونَ هُدَاهُمْ. وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يسْبق للنّبيء ﷺ اقْتِدَاءٌ بِأَحَدٍ مِمَّنْ تَحَنَّفُوا فِي الجاهليّة أَو تنصّروا أَوْ تَهَوَّدُوا. فَقَدْ لَقِيَ النَّبِيءُ صَلَّى الله

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فِي بَلْدَحَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ مِنْ سُفْرَتِهِ، فَقَالَ زَيْدٌ «إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ» تَوَهُّمًا مِنْهُ أنّ النَّبِي ﷺ يَدِينُ بِدِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلْهَمَ الله محمّدا ﷺ السُّكُوتَ عَنْ إِجَابَتِهِ إِلْهَامًا لِحِفْظِ السِّرِّ الْمُدَّخَرِ فَلَمْ يَقِلْ لَهُ إِنِّي لَا أَذْبَحُ عَلَى نُصُبٍ. وَلَقِيَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ غَيْرَ مَرَّةٍ بِمَكَّةَ. وَلَقِيَ بُحَيْرَا الرَّاهِبَ. وَلَمْ يَقْتَدِ بِأَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ وَبَقِيَ عَلَى الْفِطْرَةِ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ.

وَالِاقْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقُدْوَةِ- بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا- وَقِيَاسُهُ عَلَى الْإِسْوَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَسْرَ فِيهِ أَشْهَرُ. وَقَالَ فِي «الْمِصْبَاحِ»: الضَّمُّ أَكْثَرُ. وَوَقَعَ فِي «الْمَقَامَاتِ» لِلْحَرِيرِيِّ «وَقُدْوَةُ الشَّحَّاذِينَ» فَضُبِطَ بِالضَّمِّ. وَذَكَرَهُ الْوَاسِطِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفَاظِ الْمَقَامَاتِ» فِي الْقَافِ الْمَضْمُومَةِ، وَرَوَى فِيهِ فَتْحَ الْقَافِ أَيْضًا، وَهُوَ نَادِرٌ. وَالْقُدْوَةُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ غَيْرُهُ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي اللُّغَةِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعُ إِلَّا اقْتَدَى. وَكَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا الْقُدْوَةَ اسْمًا جَامِدًا وَاشْتَقُّوا مِنْهُ الِافْتِعَالَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَلُّفِ كَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ الْخَرِيفِ اخْتُرِفَ، وَمِنَ الْأُسْوَةِ ائْتَسَى، وَكَمَا اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ النَّمِرِ تَنَمَّرَ، وَمِنَ الْحَجَرِ تَحَجَّرَ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْقُدْوَةُ اسْمَ مَصْدَرٍ لِاقْتَدَى. يُقَالُ: لِي فِي فُلَانٍ قُدْوَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦] .

وَفِي قَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بأنّ محمّدا ﷺ مَا جَاءَ إِلَّا عَلَى سُنَّةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَأَنَّهُ مَا كَانَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ.

وَأمر النّبيء ﷺ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّهَ زَوَى إِلَيْهِ كلّ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِمُ الَّتِي اخْتَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِهَا سَوَاءٌ مَا اتَّفَقَ مِنْهُ وَاتَّحَدَ، أَوِ اخْتَلَفَ وَافْتَرَقَ، فَإِنَّمَا يُقْتَدَى بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ وَسِيَرِهِمْ، وَهُوَ الْخُلُقُ الْمَوْصُوفُ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَم: ٤] .

وَيَشْمَلُ هُدَاهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى زَكَاءِ النَّفْسِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ تَفَارِيعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَحْكَامًا جُزْئِيَّةً مِنْ كُلِّ مَا أَبْلَغَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بَيَّنَ لَهُ نَسْخَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ أَحْكَامُهَا مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَبْلَغَهَا اللَّهُ إِلَى الرّسول ﷺ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَنْسَخُهَا.

وَأَرَى أَنَّ أَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ- عليه الصلاة والسلام حِكَايَةَ حُكْمٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ فِي مَقَامِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ وَالِامْتِنَانِ وَلَمْ يُقَارِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشْدِيدِ عَلَى أَصْحَابِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِمِثْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا مِنْ أُصُولِهِ مَا يَأْبَاهُ، مِثْلُ أَصْلِ التَّيْسِيرِ وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمٍ إِسْلَامِيٍّ مَا يُنَاقِضُ حُكْمًا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا. وَلَا حُجَّةً فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا أَمر النّبيء ﷺ بِاتِّبَاعِ مَنْ قَبْلَهُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا [النَّحْل: ١٢٣] وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣]، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أُصُولُ الدِّيَانَةِ وَأُسُسُ التَّشْرِيعِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَاسْتِدْلَالُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» «أَرَادَ بِالْهُدَى التَّوْحِيدَ وَدَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَحدَانِيَّةِ وَالصِّفَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى شَرَائِعَهُمْ لَكَانَ أَمْرًا بِشَرَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَنَاسِخَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكَ بَين جَمِيعهم» اهـ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا اسْتِئْنَاسٌ لِمَنْ رَأَى حُجِّيَّةَ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا آنِفًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ (ص) عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ

عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ (أَيْ مِنْ أَيِّ دَلِيلٍ أَخَذْتَ أَنْ تَسْجُدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهَا حِكَايَةٌ عَن سُجُود دَاوُود وَلَيْسَ فِيهَا صِيغَة أَمر بِالسُّجُود) فَقَالَ: «أَو مَا تَقْرَأُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَكَانَ دَاوُود مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيئُكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فسجدها دَاوُود فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ» .

وَالْمَذَاهِبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيُّ وَنَسَبُوهُ إِلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا تَكُونُ

أَحْكَامًا لَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَهَا إِلَيْنَا. وَالْحُجَّةُ عَلَى ذَلِك مَا

ثَبت فِي الصِّحَاحِ مِنْ أَمْرِ رَسُول الله ﷺ فِي قَضِيَّةِ الرُّبَيْعِ بِنْتِ النَّضْرِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ عَمْدًا أَنْ تُكْسَرَ ثَنِيَّتُهَا فَرَاجَعَتْهُ أُمُّهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا تَكْسِرُ ثَنِيَّةَ الرُّبَيْعِ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله ﷺ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ»،

وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ شَرْعِ التَّوْرَاةِ بِقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [الْمَائِدَة: ٤٥] . وَمَا

فِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:

أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي


[طه: ١٤] وَإِنَّمَا قَالَهُ اللَّهُ حِكَايَةً عَنْ خِطَابِهِ لِمُوسَى- عليه السلام، وَبِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْهُدَى مَصْدَرٌ مُضَافٌ فَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَلَا يُسَلَّمُ كَوْنُ السِّيَاقِ مُخَصِّصًا لَهُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. وَنَقَلَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ هَذَا.

وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ «الْإِعْرَابِ فِي الْحَيْرَةِ وَالِالْتِبَاسِ الْوَاقِعَيْنِ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ» (١) . وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حِكَايَتَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ. وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(١) مخطوط فِي مكتبتنا.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا [الْمَائِدَة: ٤٨] . وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِلْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ.

الثَّالِثُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا [النَّحْل: ١٢٣] . وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ.

الرَّابِعُ: لَا يَلْزَمُ إِلَّا اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ عِيسَى لِأَنَّهَا آخِرُ الشَّرَائِعِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ»: وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.

وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: اقْتَدِهْ سَاكِنَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ الَّتِي تُجْلَبُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ إِذَا حُذِفَتْ لَامُهُ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ أَوَاخِرَ الْكَلِمِ عَلَى مُرَاعَاةِ

حَالِ الْوَقْفِ. وَقَدْ أَثْبَتَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الفصيح. وَالْأَحْسَن للقارىء أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى الْأَفْصَحِ، فَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوهَا سَاكِنَةً مَا عَدَا رِوَايَةَ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فَقَدْ حَرَّكَهَا بِالْكَسْرِ، وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِأَنَّهَا تَجْعَلُ الْهَاءَ ضَمِيرَ مَصْدَرِ «اقْتَدِ»، أَيِ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، وَلَيْسَتْ هَاءَ السَّكْتِ، فَهِيَ كَالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥] أَيْ لَا أُعَذِّبُ ذَلِكَ الْعَذَابَ أَحَدًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ الْغَالِبِ.

قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.

اسْتِئْنَافٌ عُقِّبَ بِهِ ذَلِكَ الْبَيَانُ الْعَظِيمُ الْجَامِعُ لِأَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى نُبُوءَةِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَيَانُ طَرِيقَةِ الْجَدَلِ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا كَمَا جَاءَتْ مِلَلُ تِلْكَ الرُّسُلِ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ اللَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِهِ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِأَنَّهُ يَذْكُرُهُمْ. كَمَا ذَكَّرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهُمْ، وَأَنَّهُ

مَا جَاءَ إِلَّا بِالنُّصْحِ لَهُمْ كَمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ. وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِفِعْلِ قُلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَقَدَّمَ ذَلِكَ بقوله: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا أَيْ لَسْتُ طَالِبَ نَفْعٍ لِنَفْسِي عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا لَصَانَعَهُمْ وَوَافَقَهُمْ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ هُودٍ [٥١] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَة من هُودٍ يَا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ. مَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَاجَهَ قَوْمَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ شَأْنَهُمُ النَّصِيحَةُ وَالنَّصِيحَةُ لَا يُمَحِّصُهَا وَلَا يُمَحِّضُهَا إِلَّا حَسْمُ الْمَطَامِعِ وَمَا دَامَ يُتَوَهَّمُ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ تَنْفَعْ وَلَمْ تَنْجَعْ اهـ.

قُلْتُ: وَحَكَى اللَّهُ عَنْ نُوحٍ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٢٩] وَيا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ أَيْضًا فِي سُورَةِ الشُّورَى [٢٣] قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْله: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا رَدَّ اعْتِقَادِ مُعْتَقَدٍ أَوْ نَفْيَ تُهْمَةٍ قِيلَتْ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الِاعْتِبَارُ وَلَفْتُ النَّظَرِ إِلَى مَحْضِ نصح الرّسول ﷺ فِي رِسَالَتِهِ وَأَنَّهَا لِنَفْعِ النَّاسِ لَا يَجُرُّ مِنْهَا نَفْعًا إِلَى نَفْسِهِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْرُوفٍ فِي الْأَذْهَانِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمَقْصُودِ مِنَ الضَّمِيرِ مُغْنِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَادِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]، وَكَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي خَبَرِ إِيلَاء النّبيء ﷺ: «فَنَزَلَ صَاحِبِي

الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ» . إِلَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى التَّبْلِيغِ أَوِ الدُّعَاءِ أَجْرًا وَمَا دُعَائِي وَتَبْلِيغِي إِلَّا ذِكْرَى بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ.

وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرِ الذِّكْرِ- بِالْكَسْرِ-، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

وَجَعَلَ الدَّعْوَةَ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ، لأنّ دَعوته ﷺ عَامَّةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَقَدْ أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّ انْتِفَاءَ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ لِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لَهُمْ وَنُصْحٌ لِنَفْعِهِمْ فَلَيْسَ مُحْتَاجًا لِجَزَاءٍ مِنْهُمْ، ثَانِيهمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ وَلَيْسَ خاصّا بهم.

[٩١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩١]

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)

وُجُودُ وَاوِ الْعَطف فِي صدر هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ مُتَنَاسِقَةً مَعَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهَا وَارِدَتَانِ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ هُوَ إِبْطَالُ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: ٨٩]، وَأَنَّهَا لَيْسَتِ ابْتِدَائِيَّةً فِي غَرَضٍ آخَرَ. فَوَاوُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: هؤُلاءِ [الْأَنْعَام:

٨٩] كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اسْتَشْعَرُوا نُهُوضَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرُّسُلِ، وَدَحَضَ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الْفرْقَان: ٧] تَوَغَّلُوا فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْجُحُودِ فَقَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَتَجَاهَلُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام وَمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ رِسَالَةِ مُوسَى- عليه السلام وَكِتَابِهِ. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ.

وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرَائِعِ وَالْكُتُبِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قَدْ جَاءُوا إِفْكًا وَزُورًا وَأَنْكَرُوا مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أَجْيَالِ الْبَشَرِ بِالتَّوَاتُرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: ٣١] . وَمِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مَنْ جَعَلَ هَذَا حِكَايَةً لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مُعَيَّنٌ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَ مَا

أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

بَعْضُ الْيَهُودِ

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ الْقُرَظِيُّ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَمِينًا وَأَنَّهُ جَاءَ يُخَاصم النّبيء ﷺ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

. وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَهُ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ. وَمَحْمَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَهُ جَهْلًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَهُوَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ قَالَهُ لَجَاجًا وَعِنَادًا. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ هِيَ الَّتِي أَلْجَأَتْ رُوَاتَهَا إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.

وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ٨٩] الْآيَةَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ كَالْمُعْتَرِضَةِ فِي خِلَالِ إِبْطَالِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ.

وَحَقِيقَةُ قَدَرُوا عَيَّنُوا الْقَدْرَ وَضَبَطُوهُ أَيْ، عَلِمُوهُ عِلْمًا عَنْ تَحَقُّقٍ.

وَالْقَدْرُ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- مِقْيَاسُ الشَّيْءِ وَضَابِطُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عِلْمِ الْأَمْرِ بِكُنْهِهِ وَفِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ. يُقَالُ: قَدَرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يَقْدُرُونَهُ- بِضَمِّ الدَّالِّ- فِي الْمُضَارِعِ، أَيْ ضَبَطُوهُ وَدَبَّرُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ» . وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا عَلِمُوا شَأْنَهُ وَتَصَرُّفَاتِهِ حَقَّ الْعِلْمِ بِهَا، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَدْرِهِ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْأَصْلُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ.

وإِذْ قالُوا ظَرْفٌ، أَيْ مَا قَدَرُوهُ حِينَ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا شَأْنًا عَظِيما من شؤون اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ هَدْيِهِ النَّاسَ وَإِبْلَاغِهِمْ مُرَادَهُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،

قَدْ جَهِلُوا مَا يُفْضِي إِلَى الْجَهْلِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْكَلَامِ، وَجَهِلُوا رَحْمَتَهُ لِلنَّاسِ وَلُطْفَهُ بِهِمْ.

وَمَقَالُهُمْ هَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِنَفِيِ الْجِنْسِ، وَيَعُمُّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ بِاقْتِرَانِهِ بِ مِنْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَيْضًا، وَيَعُمُّ إِنْزَالَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَحْيَ عَلَى الْبَشَرِ بِنَفْيِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ.

وَالْمُرَادُ بِ شَيْءٍ هُنَا شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَنْ يُفْحِمَهُمْ بِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرٍ وَإِلْجَاءٍ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَذَكَّرَهُمْ بِأَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَحَدَهُ لِتَوَاتُرِهِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُوَ رِسَالَةُ مُوسَى وَمَجِيئُهُ بِالتَّوْرَاةِ وَهِيَ تُدْرَسُ بَيْنَ الْيَهُودِ

فِي الْبَلَدِ الْمُجَاوِرِ مَكَّةَ، وَالْيَهُودُ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى مَكَّةَ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا وَفِيهَا الْيَهُودُ وَأَحْبَارُهُمْ، وَبِهَذَا لَمْ يُذَكِّرْهُمُ اللَّهُ بِرِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ صُحُفًا فَكَانَ قَدْ يَتَطَرَّقُهُ اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ رِسَالَتِهِ وَنُبُوءَتِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ إِنْكَارَهُ كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَوَابُ آخِرَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا فَانْتَقَضَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ قَاعِدَةِ نَقْضِ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ بِمُوجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ. وَافْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْإِفْحَامِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُور النّبيء ﷺ بِأَنْ يَقُولَهُ.

وَالنُّورُ: اسْتِعَارَةٌ لِلْوُضُوحِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، كَمَا يُشَبَّهُ الْبَاطِلُ بِالظُّلْمَةِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ التَّنُوخِيُّ:

وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهَا ... سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ

وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ هُدىً. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٤٤] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ. وَلَوْ أَطْلَقَ النُّورَ عَلَى سَبَبِ الْهُدَى لَصَحَّ لَوْلَا

هَذَا الْعَطْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْقُرْآنِ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: ٥٢] . وَقَدِ انْتَصَبَ نُورًا عَلَى الْحَالِ.

وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْيَهُودُ، أَيْ لِيَهْدِيَهُمْ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ النَّاسُ الَّذِينَ هُمْ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ.

وَقَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً سَبَبِيَّةً لِلْكِتَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ.

قَرَأَ تَجْعَلُونَهُ- وتُبْدُونَها- وتُخْفُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ، وَأَبَا عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، مِنَ الْعَشَرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَلَا بَاشَرُوا إِبْدَاءَ بَعْضِهِ وَإِخْفَاءَ بَعْضِهِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْيَهُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ (أَيِ الْخُرُوجِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْرِهِ) تَعْرِيضًا بِالْيَهُودِ وَإِسْمَاعًا لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ مِنْ بَابِ إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ، أَوْ هُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ. وَحَقُّهُ أَنْ يُقَالَ يَجْعَلُونَهُ- بِيَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْغَائِبِ- كَمَا قَرَأَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْقُرَّاءِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ.

وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَ كِتَابَ مُوسَى قَرَاطِيسَ يُبْدُونَ بَعْضَهَا وَيُخْفُونَ بَعْضَهَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا

الْيَهُودَ عَنْ نبوءة محمّد ﷺ فقرأوا لَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالسَّبْتِ، أَيْ دِينِ الْيَهُودِ، وَكَتَمُوا ذكر الرّسول ﷺ الَّذِي يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، فَأَسْنَدَ الْإِخْفَاءَ وَالْإِبْدَاءَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَجَازًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ ذَلِكَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامُ الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَعَلِمَ الْيَهُودُ وَبَالَ عَاقِبَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَوُا الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَزِيدُهُمْ تَصْمِيمًا عَلَى الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ قَدَّمْتُ مَا

يُرَجِّحُ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَةِ رَسُول الله ﷺ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ كَانَتْ مَبْدَأَ مُدَاخَلَةِ الْيَهُودِ لِقُرَيْشٍ فِي مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمَكَّةَ حِينَ بَلَغَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ يَجْعَلُونَهُ، وَيُبْدُونَهَا، وَيُخْفُونَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- فَتَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةً إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْد المتكلّم، وهم يَهُودُ الزَّمَانِ الَّذِينَ عُرِفُوا بِذَلِكَ.

وَالْقَرَاطِيسُ جَمْعُ قِرْطَاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧] . وَهُوَ الصَّحِيفَةُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ مِنْ رَقٍّ أَوْ كَاغِدٍ أَوْ خِرْقَةٍ. أَيْ تَجْعَلُونَ الْكِتَابَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى أَوْرَاقًا مُتَفَرِّقَةً قَصْدًا لِإِظْهَارِ بَعْضِهَا وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ آخَرَ.

وَقَوْلُهُ: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيرًا صِفَةٌ لِقَرَاطِيسَ، أَيْ تُبْدُونَ بَعْضَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْهَا، فَفُهِمَ أَنَّ الْمَعْنَى تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ لِغَرَضِ إِبْدَاءِ بَعْضٍ وَإِخْفَاءِ بَعْضٍ.

وَهَذِهِ الصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الذَّمِّ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كُتُبَهُ لِلْهُدَى، وَالْهُدَى بِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِظْهَارِهَا وَإِعْلَانِهَا، فَمَنْ فَرَّقَهَا لِيُظْهِرَ بَعْضًا وَيُخْفِيَ بَعْضًا فَقَدْ خَالَفَ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا. فَأَمَّا لَوْ جَعَلُوهُ قَرَاطِيسَ لِغَيْرِ هَذَا الْمَقْصِدِ لَمَا كَانَ فِعْلُهُمْ مَذْمُومًا، كَمَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ فِي أَجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْأَلْوَاحِ فِي الْكَتَاتِيبِ لِمَصْلَحَةٍ.

وَفِي «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ سُئِلَ مَالِكٌ- رحمه الله عَنِ الْقُرْآنِ يُكْتَبُ أَسْدَاسًا وَأَسْبَاعًا فِي الْمَصَاحِفِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً وَعَابَهَا وَقَالَ لَا يُفَرَّقُ الْقُرْآنُ وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ وَهَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَهُ وَلَا أرى ذَلِك اهـ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ»: الْقُرْآنُ أُنْزِلُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى كَمُلَ وَاجْتَمَعَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى كَوْنِهِ مَجْمُوعًا، فَهَذَا وَجْهُ كَرَاهِيَةِ مَالك لتفريقه اهـ.

قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى تَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْمُصْحَفِ

الْوَاحِدِ فَيَقَعُ بَعْضُهَا فِي يَدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ هُوَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: وَقَدْ جَمَعَهُ اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ أَمر رَسُوله ﷺ بِجَمْعِهِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ مُنَجَّمًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ جَمْعَهُ فَلَا يُفَرَّقُ أَجْزَاءً. وَقَدْ أَجَازَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ تَجْزِئَةَ الْقُرْآنِ لِلتَّعَلُّمِ وَمَسَّ جُزْئِهِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَمِنْهُ كِتَابَتُهُ فِي الْأَلْوَاحِ.

وَقَوْلُهُ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قُوَّةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ أَخْبِرُونِي، فَإِنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْفِعْلِ.

وَوُقُوعُ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ تَعْيِينِ فَاعِلِ الْإِنْزَالِ يُقَوِّي مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ إِذْ تَضَمَّنَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِعْلًا وَفَاعِلًا مُسْتَفْهَمًا عَنْهُمَا، أَيْ أَخْبِرُونِي عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ كَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، احْتَجَجْتُمْ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْصَفْتُمْ لَوَجَدْتُمْ وَأَمَارَةُ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثَابِتَةٌ فِيهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ مَعَهَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْخِطَابُ أَشَدُّ انْطِبَاقًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ التَّشْرِيعِ وَنِظَامِهِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ- عليه الصلاة والسلام عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ عِلْمًا رَاسِخًا، وَعلِمَ ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ وَمِنْ مُخَالِطِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَصفهم الله بِمثل هَذَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩] .

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَعُلِّمْتُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: أَنْزَلَ الْكِتابَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا.

وَوَجْهُ بِنَاءِ فِعْلِ عُلِّمْتُمْ لِلْمَجْهُولِ ظُهُورُ الْفَاعِلِ، وَلِأَنَّهُ سَيَقُولُ قُلِ اللَّهُ.

فَإِذَا تَأَوَّلْنَا الْآيَةَ بِمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ تَقْرِيرِيٌّ، إِمَّا لِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ مَنْ جَحَدَ تَنْزِيلَ كِتَابٍ عَلَى بَشَرٍ، عَلَى طَرِيقَةِ إِفْحَامِ الْمُنَاظِرِ بِإِبْدَاءِ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْفَسَادِ، مِثْلُ فَسَادِ اطِّرَادِ التَّعْرِيفِ أَوِ انْعِكَاسِهِ، وَإِمَّا لِإِبْطَالِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ رِسَالَة محمّد ﷺ بِطَرِيقَةِ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ- عليه الصلاة والسلام كَالشَّيْءِ الْمُحَالِ فَقِيلَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى كِتَابًا لِمَ لَا يُنَزِّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤] الْآيَةَ.

ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ قِرَاءَةُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بِالْفَوْقِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى الظَّاهِر، وقراءته بالتّحتيّة مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ جُعِلُوا كَالْغَائِبِينَ عَنْ مَقَامِ الْخِطَابِ.

وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُمُ الْيَهُودُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَجْعَلُونَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُخْفُونَ بَعْضَهَا فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمُعْتَرِضِ بِهِ.

وَيَجِيءُ عَلَى قِرَاءَةِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ- بِالتَّحْتِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا أَيْضًا. وَحُسْنُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عَادَ إِلَى مَقَامِ الْخِطَابِ، أَوْ لِأَنَّ مَقَامَ الْخِطَابِ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ نَظْمَ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلرَّدِّ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُرَاعَاةً لِمُقْتَضَى الرِّوَايَتَيْنِ. فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَاوُ الْجَمَاعَةِ فِي «قَدَرُوا- وَقَالُوا» عَائِدَةٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ إِشَارَةُ هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَالْوَاوُ وَاوُ الْجَمَاعَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ

التَّعْرِيضِ بِشَخْصٍ مِنْ بَابِ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ»، وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.

وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ. وَقَدْ تَوَلَّى السَّائِلُ الْجَوَابَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُجِيبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَابِرَ، عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢] .

وَالْمَعْنَى قُلِ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى. وَإِذَا كَانَ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلَ كَانَ الْجَوَابُ شَامِلًا لَهُ، أَيِ اللَّهُ عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْمَجْهُولِ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى الْمَعْلُومِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ أَوِ الْحَارِثِ النَّهْشَلِيِّ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ:

لِيَبْكِ يَزِيدَ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ

كَأَنَّهُ سُئِلَ مَنْ يُبْكِيهِ فَقَالَ: ضَارِعٌ.

وَعَطَفَ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ بِثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا تَنْجَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ فَتَرْكُهُمْ وَخَوْضَهُمْ بَعْدَ التَّبْلِيغِ هُوَ الْأَوْلَى وَلَكِنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ لِتَبْكِيتِهِمْ وَقَطْعِ مَعَاذِيرِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: فِي خَوْضِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ذَرْهُمْ. وَجُمْلَةُ يَلْعَبُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي «ذَرْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ [الْأَنْعَام: ٧٠] .

وَالْخَوْضُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْأَنْعَام: ٦٨] . وَاللَّعِبُ تَقَدَّمَ فِي وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا فِي هَذِه السّورة [٧٠] .

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٢]

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

وَهذا كِتابٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ٩١]، أَيْ وَقُلْ لَهُمُ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُحَاوَلَةَ فِي شَأْنِهِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ نَفِيَ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْ تَبْكِيتِهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، يَجْعَلُ الْقُرْآنَ كَالْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، فَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ تَقْوِيَةً لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ.

وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِنَاء فعل أَنْزَلْناهُ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كِتابٌ الَّذِي هُوَ عَيْنُهُ فِي الْمَعْنَى، لِإِفَادَةِ التَّقْوِيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا أَنْزَلْنَاهُ.

وَجَعَلَ كِتابٌ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَنْزَلْنَا مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَنَصَبَ فِعْلَ أَنْزَلْنَا لِضَمِيرِهِ، لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ إِنْزَالِهِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ.

وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ. ومُبارَكٌ خَبَرٌ ثَانٍ. وَالْمُبَارَكُ اسْمٌ مَفْعُولٌ مِنْ بَارَكَهُ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَبَارَكَ لَهُ، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَنَمَاؤُهُ يُقَالُ: بَارَكَهُ. قَالَ تَعَالَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النَّمْل: ٨]، وَيُقَالُ: بَارَكَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها [فصلت: ١٠] .

وَلَعَلَّ قَوْلَهُمْ (بَارَكَ فِيهِ) إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةً لِلْغَيْرِ فِي زَمَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ، وَأَمَّا (بَارَكَهُ) فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ صِفَةً لَهُ، وَ(بَارَكَ

عَلَيْهِ) جَعَلَ الْبَرَكَةَ مُتَمَكِّنَةً مِنْهُ، (وَبَارَكَ لَهُ) جَعَلَ أَشْيَاءَ مُبَارَكَةً لِأَجْلِهِ، أَيْ بَارَكَ فِيمَا لَهُ.

وَالْقُرْآنُ مُبَارَكٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، فَالْبَرَكَةُ كَائِنَةٌ بِهِ، فَكَأَنَّ الْبَرَكَةَ جُعِلَتْ فِي أَلْفَاظِهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْدَعَ فِيهِ بَرَكَةً لِقَارِئِهِ الْمُشْتَغِلِ بِهِ بَرَكَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا فِي الْعَمَلِ بِهِ كَمَالُ النَّفْسِ وَطَهَارَتُهَا بِالْمَعَارِفِ النَّظَرِيَّةِ ثُمَّ الْعَمَلِيَّةِ.

فَكَانَتِ الْبَرَكَةُ مُلَازِمَةً لِقِرَاءَتِهِ وَفَهْمِهِ. قَالَ فَخْرُ الدِّينِ «قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ (أَيْ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ) الْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ. وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لِي بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ (يَعْنِي التَّفْسِيرَ) .

ومُصَدِّقُ خَبَرٌ عَنْ كِتابٌ بِدُونِ عَطْفٍ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٧]، وَقَوْلِهِ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٠] . والَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَى جَمْعٍ. وَإِذْ قَدْ كَانَ جَمْعُ الَّذِي وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَاقِلُ وَشِبْهُهُ، نَحْوُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٤] لِتَنْزِيلِ الْأَصْنَامِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ عُرْفًا. فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ إِلَّا الَّذِي الْمُفْرَدُ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: ٣٣] .

وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَخَصُّهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، لِأَنَّهَا آخَرُ مَا تَدَاوَلَهُ النَّاسُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مُصَدِّقُ الْكُتُبِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.

وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْوَعْدَ

بِمَجِيءِ الرَّسُولِ الْمُقَفَّى عَلَى نُبُوءَةِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْكُتُبِ، فَمَجِيءُ الْقُرْآنِ قَدْ أَظْهَرَ صِدْقَ مَا وَعَدَتْ بِهِ تِلْكَ الْكُتُبُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقُ أَنْبِيَائِهَا وَصَدَّقَهَا وَذَكَرَ نُورَهَا وَهُدَاهَا، وَجَاءَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِيهَا لَا يُخَالِفُهَا. وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخَالِفَةِ لِلْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَذَلِكَ قَدْ يُبَيَّنُ فِيهِ أَنَّهُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّيْسِيرَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَمَعْنَى: بَيْنَ يَدَيْهِ مَا سَبَقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٧]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٠] .

وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى فَوُجُودُ وَاوِ الْعَطْفِ فِي أَوَّلِهَا مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِ لِتُنْذِرَ بِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ، وَمِنْ جَعْلِ الْمَجْرُورِ خَبَرًا عَنْ كِتابٌ خِلَافًا لِلتَّفْتَزَانِيِّ، إِذِ الْخَبَرُ إِذَا كَانَ مَجْرُورًا لَا يَقْتَرِنُ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَا نَظِيرَ لِذَاكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَوُجُودُ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ الْوَاوِ مَانِعٌ مِنْ جَعْلِهَا خَبَرًا آخَرَ لِ كِتابٌ، فَلَا مَحِيصَ عِنْدَ تَوْجِيهِ انْتِظَامِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَوْ تَأْوِيلِ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مقدّر ينبىء عَنْهُ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: لِيُؤْمِنَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِهِ وَلِتُنْذِرَ الْمُشْرِكِينَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ يَطَّرِدُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَدَّرَ. وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٥٢] .

وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ وَلِتُنْذِرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِفَةُ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَنْزَلْنَاهُ لِلْبَرَكَاتِ وَتَصْدِيقِ مَا تقدّمه والإنذار اهـ. وَهَذَا وَإِنِ اسْتَتَبَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ لَا يَحْسُنُ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّ لَفْظَ «بَلَاغٌ» اسْمُ لَيْسَ

فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالتَّعْلِيلِ، وَ«لِلنَّاسِ» مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَاللَّامُ فِيهِ لِلتَّبْلِيغِ لَا لِلتَّعْلِيلِ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بَعْدَهُ نَحْوُ لِيَنْتَبِهُوا أَوْ لِئَلَّا يُؤْخَذُوا عَلَى غَفْلَةٍ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ.

وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ تَوَقُّعُ ضُرٍّ، وَضِدُّهُ الْبِشَارَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩] . وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَخْوِيفُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] .

وَأُمُّ الْقُرَى: مَكَّةُ، وَأُمُّ الشَّيْءِ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُلْتَفُّ حَوْلَهُ، وَحَقِيقَةُ الْأُمِّ الْأُنْثَى الَّتِي تَلِدُ الطِّفْلَ فَيَرْجِعُ الْوَلَدُ إِلَيْهَا وَيُلَازِمُهَا، وَشَاعَتِ اسْتِعَارَةُ الْأُمِّ لِلْأَصْلِ وَالْمَرْجِعِ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الرَّايَةُ أُمًّا، وَسُمِّيَ أَعْلَى الرَّأْسِ أُمَّ الرَّأْسِ، وَالْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّهَا أَقْدَمُ الْقُرَى وَأَشْهَرُهَا وَمَا تَقَرَّتِ الْقُرَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ إِلَّا بَعْدَهَا، فَسَمَّاهَا الْعَرَبُ أُمَّ الْقُرَى، وَكَانَ عَرَبُ الْحِجَازِ قَبْلَهَا سُكَّانَ خِيَامٍ.

وَإِنْذَارُ أُمِّ الْقُرَى بِإِنْذَارِ أَهْلِهَا، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢]، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَمَنْ حَوْلَها، أَيِ الْقَبَائِلَ الْقَاطِنَةَ حَوْلَ مَكَّةَ مِثْلَ خُزَاعَةَ، وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهَوَازِنَ، وَثَقِيفَ، وَكِنَانَةَ.

وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ جَرَى الْكَلَامُ

وَالْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: ٦٦]، إِذِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيلِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْإِنْذَارِ بِالْقُرْآنِ فِيهِمْ حَتَّى نَتَكَلَّفَ الِادِّعَاءَ أَنَّ مَنْ حَوْلَها مُرَادٌ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى بِالْخِطَابِ، وقرأه أبوبكر وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ وَلِيُنْذِرَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى كِتابٌ.

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ احْتِرَاسٌ مِنْ شُمُول الْإِنْذَار للْمُؤْمِنين الَّذِينَ هُمْ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ وَحَوْلَهَا الْمَعْرُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ

أَهْلِ مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهَذَا الْمَوْصُولِ لِكَوْنِهِ كَاللَّقَبِ لَهُمْ، وَهُوَ مُمَيِّزُهُمْ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَنْكَرُوا الْآخِرَةَ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْصُولِ إِيذَانٌ بِالتَّعْلِيلِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ.

وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْبِشَارَةُ.

وَزَادَهُمْ ثَنَاءً بِقَوْلِهِ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ إِيذَانًا بِكَمَالِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِهِ، إِذْ كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ الْعَمَلُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَجَّ كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَة:

٢، ٣] وَلَمْ يَكُنِ الْحَجُّ مَشْرُوعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ.

[٩٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٣]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.

لَمَّا تَقَضَّى إِبْطَالُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ نَفْيِ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْزَالِ وَالْوَحْيِ، النَّاشِئِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْبَاطِلِ، إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا لِأَجْلِهِ جَحَدُوا إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى بَشَرٍ، وَهُوَ إِثْبَاتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنَ

اللَّهِ، عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا اخْتَلَقَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّرَائِعِ الضَّالَّةِ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنَ الذَّبَائِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَهُمْ يَنْفُونَ الرِّسَالَةَ تَارَةً فِي حِينِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ فَكَيْفَ بَلَغَهُمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُمْ قَدْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] . فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا طَرِيقَ وُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الرِّسَالَةِ فَجَاءُوا بِأَعْجَبَ مَقَالَةٍ.

وَذَكَرَ مَنِ اسْتَخَفُّوا بِالْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أُوحِيَ إِلَيَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا تَسْفِيهَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ مِنْهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَاضْطِرَابِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعَ ذَلِكَ تَنْزِيه النّبيء ﷺ عَمَّا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ حِينَ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا ظُلْمَ أَعْظَمُ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَادِّعَاءِ الْوَحْيِ بَاطِلًا لَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مِنْ نَاحِيَةِ قَوْلِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ «وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذْرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» .

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَاتِ. وَمَسَاقُهُ هُنَا مَسَاقُ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ إِبْطَالًا لِتَكْذِيبِهِمْ إِنْزَالَ الْكِتَابِ، وَهُوَ تَكْذِيبٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٩٢] لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَمِنْهُمُ الَّذِي قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فِيمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِخِصَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ. وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٦٠] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ عَقِبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٥٧] الْآيَةَ.

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١١٤] .

وافتراء: الِاخْتِلَاقُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ

الْكَذِبَ

فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣] .

وَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مَنِ افْتَرَى أَوْ قَالَ، وَلَيْسَ

الْمُرَادُ فَرْدًا مُعَيَّنًا، فَالَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِهَوَاهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ كَذِبًا.

وأَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، أَيْ كُلُّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ كَذِبًا، وَلَمْ يَزَلِ الرُّسُلُ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوءَةَ كَذِبًا كَمَا قَدَّمْتُهُ. رُوِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا مُسَيْلمَة متنبّىء أَهْلِ الْيَمَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُسَيْلِمَةُ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَ هِجْرَة النّبيء ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوءَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَفَدَ على النّبيء ﷺ فِي قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ طَامِعًا فِي أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَسُول الله ﷺ الْأَمْرَ بَعْدَهُ فَلَمَّا رَجَعَ خَائِبًا ادَّعَى النُّبُوءَةَ فِي قَوْمِهِ.

وَفِي «تَفْسِيرِ» ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْأسود الْعَنسِي المتنبّئ بِصَنْعَاءَ. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ الْأَسْوَدَ تَنْظِيرًا مَعَ مُسَيْلِمَةَ فَإِنَّ الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ مَا ادَّعَى النُّبُوءَةَ إِلَّا فِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُول الله ﷺ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعُمُومُ وَلَا يَضُرُّهُ انْحِصَارُ ذَلِكَ فِي فَرْدٍ أَوْ فَرْدَيْنِ فِي وَقْتٍ مَا وَانْطِبَاقُ الْآيَةِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْي للنّبيء ﷺ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَالَ: أَنَا أَقُولُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، اسْتِهْزَاءً، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ وَالْمَهْدَوِيِّ أَنَّهَا: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. وَحَفِظُوا لَهُ أَقْوَالًا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ وَإِنِّي سَأُنْزِلُ مِثْلَهُ وَكَانَ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَالْوَجْهُ

أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْعُمُومَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَقَوْلُهُمْ: مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَالُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ سُخْرِيَةً كَمَا قَالُوا:

يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦]، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى، أَيْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَعَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ:

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٥٧] .

وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.

عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِأَنَّ هَذِهِ وَعِيدٌ بِعِقَابٍ لِأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْقَائِلِينَ «أُوحِيَ إِلَيْنَا» وَالْقَائِلِينَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.

فَ الظَّالِمُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يَشْمَلُ أُولَئِكَ وَيَشْمَلُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْخِطَابُ فِي تَرى للرّسول ﷺ، أَوْ كلّ من تتأتّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مُخَاطَبٌ. ثُمَّ الرُّؤْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ إِذَا كَانَ الْحَالُ الْمَحْكِيُّ

مِنْ أَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَحْكِيَّةُ مِنْ أَحْوَالِ النَّزْعِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ.

وَمَفْعُولُ تَرى مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ الْمُضَافُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى الظَّالِمِينَ إِذْ هُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، أَيْ وَقْتَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ (إِذِ) اسْمًا مُجَرَّدًا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَيَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: ٨٦] فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ، وَلَوْ تَرَى زَمَنَ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً لِأَنَّ الزَّمَنَ لَا يُرَى.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تَهْوِيلُ هَذَا الْحَالِ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ جَوَابَ (لَوْ) كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا.

وَالْغَمْرَةُ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ- مَا يَغْمُرُ، أَيْ يَغُمُّ مِنَ الْمَاءِ فَلَا يَتْرُكُ لِلْمَغْمُورِ مَخْلَصًا.

وَشَاعَتِ اسْتِعَارَتُهَا لِلشِّدَّةِ تَشْبِيهًا بِالشِّدَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلْغَرِيقِ حِينَ يَغْمُرُهُ الْوَادِي أَوِ السَّيْلُ حَتَّى صَارَت الغمرة حَقِيقَة عُرْفِيَّةً فِي الشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ.

وَجَمْعُ الْغَمَرَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعَدُّدِ الْغَمَرَاتِ بِعَدَدِ الظَّالِمِينَ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَصْدِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَهْوِيلِ مَا يُصِيبُهُمْ بِأَنَّهُ أَصْنَافٌ مِنَ الشَّدَائِدِ هِيَ لِتَعَدُّدِ أَشْكَالِهَا وَأَحْوَالِهَا لَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بَاسِمٍ مُفْرَدٍ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا فِي وَقْتِ النَّزْعِ. وَلَمَّا كَانَ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٌ جُعِلَتْ غَمْرَةُ الْمَوْتِ

غَمَرَاتٍ.

وَ(فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ مُلَابَسَةِ الْغَمَرَاتِ لَهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا ظَرْفٌ يَحْوِيهِمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ. فَالْمَوْتُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَغَمَرَاتُهُ هِيَ آلَامُ النَّزْعِ.

وَتَكُونُ جُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حِكَايَةَ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.

فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَمَرَاتِ مَجَازًا مُفْرَدًا وَيَكُونُ الْمَوْتُ حَقِيقَةً. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ تَمْثِيلًا لِلشِّدَّةِ فِي انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا بَسْطَ وَلَا أَيْدِيَ. وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الْأَرْوَاحِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَرْوَاحَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ، أَيْ هَاتُوا أَرْوَاحَكُمْ، وَالْأَمْرُ لِلْإِهَانَةِ وَالْإِرْهَاقِ إِغْلَاظًا فِي قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَلَا يَتْرُكُونَ لَهُمْ رَاحَةً وَلَا يُعَامِلُونَهُمْ بِلِينٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْزَعُونَ فَلَا يَلْفِظُونَ أَرْوَاحَهُمْ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَعِيدٌ بِالْآلَامِ عِنْد النّزع جزاءا فِي الدُّنْيَا عَلَى شِرْكِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ فَتَوَعَّدُوا بِمَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ حَالُ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ بِأَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةً تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ وَتُذِيقُهُمْ عَذَابًا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ الْوَعيد يَقع فِي نُفُوسِهِمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ شَدَائِدَ النَّزْعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الْأَنْفَال: ٥٠] الْآيَة، وَقَول أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ عَلَى هَذَا صَادِرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَعِيدًا بِمَا يُلَاقِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الْأَنْعَام: ٩٤] فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي مُنَازَعَةِ الشَّدَائِدِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ بِحَالٍ مِنْهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدِ النَّزْعِ فَالْمَوْتُ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّمْثِيلِ تَقْرِيبُ الْحَالَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ أَهْوَالَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ مَا هُوَ أَقْصَى مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ دَلَالَةً عَلَى هَوْلِ الْأَلَمِ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: وَجَدْتُ أَلَمَ الْمَوْتِ، وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ:

«فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ»، وَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ:

وَشَمَمْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... فِي مَأْزِقٍ وَالْخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ

وَجُمْلَةُ: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ حَالٌ، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ مَادُّونَ أَيْدِيَهُمْ

إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِمْ وَيَدْفَعُوهُمْ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ لِيَقْبِضُوا أَرْوَاحَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ بَسْطُ الْأَيْدِي حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَشَكَّلَ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ فِي أَشْكَالٍ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَسْطُ الْأَيْدِي كِنَايَةً عَنِ الْمَسِّ وَالْإِيلَامِ، كَقَوْلِهِ: لَئِنْ

بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي

[الْمَائِدَة: ٢٨] .

وَجُمْلَةُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ وَالْأَنْفُسُ بِمَعْنَى الذَّوَاتِ. وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، أَيْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي الْإِنْقَاذِ وَالْإِنْجَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْحَالَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ. وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ الْإِخْرَاجِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِنْ كَانَ هَذَا الْحَالُ وَاقِعًا فِي حِينِ دُخُولِهِمُ النَّارَ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَإِطْلَاقُ الْيَوْمِ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، فَإِنْ حَمَلَ الْغَمَرَاتِ عَلَى النَّزْعِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْيَوْمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَقْتِ، أَيْ وَقْتَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ.

وَجُمْلَةُ: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ إِلَخْ اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ، فُصِلَتْ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ. وتُجْزَوْنَ تُعْطَوْنَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ عِوَضُ الْعَمَلِ وَمَا يُقَابِلُ بِهِ مِنْ أَجْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ. قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقًا [النبأ: ٢٦]، وَفِي الْمَثَلِ: الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا صَنَعَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. يُقَالُ: جَزَاهُ يَجْزِيهِ فَهُوَ جَازٍ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى جَزَاءً، وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُكَافَأِ عَنْهُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٧] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها متؤوّلا عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ البيانيّة. أَي جَزَاء هُوَ سَيِّئَةٌ، وَأَنَّ مَجْرُورَ الْبَاءِ هُوَ السَّيِّئَةُ الْمُجْزَى عَنْهَا، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] . وَيُقَالُ: جَازَى بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. قَالَ الرّاغب: وَلم يَجِيء فِي الْقُرْآنِ: جَازَى.

وَالْهُونُ: الْهَوَانُ، وَهُوَ الذُّلُّ. وَفَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ بِالْهَوَانِ الشَّدِيدِ، وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْهُونَ مُرَادِفُ الْهَوَانِ، وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْيَوْمَ تَجْزُونَ عَذَابَ الْهَوَانِ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْهُونِ لِإِفَادَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الْإِضَافَةُ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَالْمِلْكِ، أَيِ الْعَذَابَ الْمُتَمَكِّنَ فِي الْهُونِ الْمُلَازِمِ لَهُ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ بَاءُ الْعِوَضِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ تُجْزَوْنَ إِلَى الْمَجْزِيِّ عَنْهُ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِسَبَبِ قَوْلِكُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ، وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ صَادِرًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَذِكْرُ اسْمِ

الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْأَصْلُ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَيَّ.

وَضَمَّنَ تَقُولُونَ مَعْنَى تَكْذِبُونَ، فَعَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ: عَلَى اللَّهِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: ٤٤] الْآيَةَ، وَبِذَلِكَ يَصِحُّ تَنْزِيلُ فِعْلِ تَقُولُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ، وَيَصِحُّ جَعْلُ غَيْرِ الْحَقِّ مَفْعُولًا لِ تَقُولُونَ، وَغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ الْبَاطِلُ، وَلَا تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا كَذِبًا.

وَشَمِلَ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا- إِلَى قَوْلِهِ- مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَغَيْرَهَا.

وغَيْرَ الْحَقِّ حَالٌ مِنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَوْ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ لِ تَقُولُونَ.

وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ عَطْفٌ عَلَى كُنْتُمْ تَقُولُونَ، أَيْ وَبِاسْتِكْبَارِكُمْ عَنْ آيَاتِهِ.

وَالِاسْتِكْبَارُ: الْإِعْرَاضُ فِي قِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إِلَى الْآيَاتِ، أَوْ أُرِيدَ مِنَ الْآيَاتِ التَّأَمُّلُ فِيهَا فَيَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ وَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أَعْظَمَ مِنْ صَاحِبِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لَقَصْدِ التَّهْوِيلِ. وَالْمَعْنَى: لَرَأَيْتَ أَمْرًا مُفْظِعًا. وَحَذْفُ جَوَابِ (لَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَو ترى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٥] .

[٩٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٤]

وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ فِي جُمْلَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: ٩٣] قَوْلًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الْأَنْعَام: ٩٣]، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَ دَفَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْعَذَابِ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى. فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ. وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَام: ٩٣] حَقِيقَةً، أَيْ فِي حِينِ النَّزْعِ يَكُونُ فِعْلُ جِئْتُمُونا مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي

عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ، مِثْلُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَارَبُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِيهِمْ.

وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام: ٩٣] فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ خِطَابِ الْمُعْتَبِرِينَ بِحَالِ الظَّالِمِينَ إِلَى خِطَابِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِمَا سَيَقُولُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ.

فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ جِئْتُمُونا حَقِيقَةً فِي الْمَاضِي لِأَنَّهُمْ حِينَمَا يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْمَجِيءُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَ(قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ.

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَاضِي مُعَبَّرًا بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَتَكُونُ (قَدْ) تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ.

وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذِرُونَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيُنْكِرُونَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَقَدْ يُقْصَدُ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْمِكْنَةِ وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: ٣٩]، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:

قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ إِمَامَ السَّارِي وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جِئْتُمُونا ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:

كَما خَلَقْناكُمْ.

وفُرادى حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي جِئْتُمُونا أَيْ مُنْعَزِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا كُنْتُمْ تَعْتَزُّونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَنْصَارٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (فُرَادَى) جُمَعُ فَرْدَانَ مِثْلُ سُكَارَى لِسَكْرَانَ. وَلَيْسَ فُرَادَى الْمَقْصُورُ مُرَادِفًا لِفُرَادَ الْمَعْدُولِ لِأَنَّ فُرَادَ الْمَعْدُولَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فَرْدًا فَرْدًا، مِثْلُ ثَلَاثٍ وَرُبَاعٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ الْمَعْدُولَةِ. وَأَمَّا فُرَادَى الْمَقْصُورُ فَهُوَ جَمْعُ فَرْدَانَ بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَاءَ مُنْفَرِدًا عَنْ مَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَشْبِيهٌ لِلْمَجِيءِ أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَقَدْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَالْكَافُ لِتَشْبِيهِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَ(مَا) الْمَجْرُورَةُ بِالْكَافِ مَصْدَرِيَّةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: كَخَلْقِنَا إِيَّاكُمْ، أَيْ جِئْتُمُونَا مُعَادِينَ مَخْلُوقِينَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ

الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ

[ق: ١٥] .

وَالتَّخْوِيلُ: التَّفَضُّلُ بِالْعَطَاءِ. قِيلَ: أَصْلُهُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ- بِفَتْحَتَيْنِ- وَهُوَ الْخَدَمُ، أَيْ إِعْطَاءُ الْعَبِيدِ. ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِعْطَاءِ مُطَلَّقِ مَا يَنْفَعُ، أَيْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.

وَ(مَا) مَوْصُولَةٌ وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بُعْدُهُمْ عَنْهُ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الشَّيْءِ بِمَنْ بَارَحَهُ سَائِرًا، فَهُوَ يَتْرُكُ مَنْ يُبَارِحُهُ وَرَاءَهُ حِينَ مُبَارَحَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَارَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَبَلَغَ إِلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُمَثِّلُ الْقَاصِدَ لِلشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُهَيِّئُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ: قَدْ قَدَّمَهُ.

وَتَرَكْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جِئْتُمُونا وَهُوَ يُبَيِّنُ مَعْنَى فُرادى إِلَّا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِذِكْرِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الِانْفِرَادِ لِأَنَ كِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّنْدِيمِ، إِذْ جَاءُوا إِلَى الْقِيَامَةِ وَكَانُوا يَنْفُونَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَنْوِي الْخَلْودَ. فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَأَبُو الْبَقَاءِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنَ الْوَاوِ فِي جِئْتُمُونا فَيَصِيرُ تَرْكُ مَا خُوِّلُوهُ هُوَ مَحَلَّ التَّنْكِيلِ.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جِئْتُمُونا- وتَرَكْتُمْ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ التَّخْطِئَةُ وَالتَّلْهِيفُ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا إِذَا اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ عَلَّلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ: أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ اسْتِسْخَارًا أَوْ جَهْلًا، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِ، أَيْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ رَدُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ بَيَانٌ أَيْضًا وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ:

فُرادى.

وَقَوْلُهُ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا شُفَعَاءَ لَهُمْ فَسِيقَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ كَلَامِ مَنْ يَتَرَقَّبُ، أَيْ يَرَى شَيْئًا فَلَمْ يَرَهُ عَلَى

نَحْوِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النَّحْل: ٢٧]، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ عَنْ شَيْءٍ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَكَانَ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِيهَامُ أَنَّ شُفَعَاءَهُمْ مَوْجُودُونَ سِوَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ دُونَ الْمَاضِي لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ رُؤْيَةِ الشُّفَعَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْآنِ، فَفِيهِ إِيهَامُ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مُحْتَمَلَةُ الْحُصُولِ بَعْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ.

وَأُضِيفَ الشُّفَعَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ شُفَعَاءُ مَعْهُودُونَ، وَهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] . وَقَدْ زِيدَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى بِوَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ.

وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْبَاطِلُ سَوَاءً كَانَ عَن تعمّد للباطل كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النِّسَاء: ٦٠] أَمْ كَانَ عَنْ سُوءِ اعْتِقَادٍ كَمَا هُنَا، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: ٢٢]، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فِيكُمْ شُرَكاءُ لِلِاهْتِمَامِ الَّذِي وَجَّهَهُ التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْمَزْعُومِ إِذْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ فَمِنْ أَيْنَ كَانَتْ شَرِكَةُ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، يَعْنِي لَوِ ادَّعَوْا لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا مُغَيَّبًا لَا يُعْرَفُ أَصْلُ تَكْوِينِهِ لَكَانَ الْعَجَبُ أَقَلَّ، لَكِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ لَهُمُ الشَّرِكَةَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ حَقًّا لِأَجَلِ الْخَالِقِيَّةِ، كَانَ قَدْ لَزِمَهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِ خَلْقِهِ، أَيْ فِي خَلْقِهِمْ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتِ النُّفُوسُ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرِكَةِ.

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨] .

وَجُمْلَةُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ: مَا نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ يَعْتَادُهُمُ الطَّمَعُ فِي لِقَاءِ شُفَعَائِهِمْ فَيَتَشَوَّفُونَ لِأَنْ يَعْلَمُوا سَبِيلَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ بَعْدَ الْإِطْمَاعِ التَّهَكُّمِيِّ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشُفَعَائِهِمْ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِفَتْحِ نُونِ- بَيْنَكُمْ. فَ (بَيْنَ) عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ دَالٌّ عَلَى مَكَانِ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ فِيمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ- بِضَمِّ نُونِ- بَيْنَكُمْ عَلَى إِخْرَاجِ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَصَارَ اسْمًا مُتَصَرِّفًا وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّقَطُّعُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.

وَحَذْفُ فَاعِلِ تَقَطَّعَ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ التَّقَطُّعِ، فَفَاعِلُهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ

مِمَّا يَصْلُحُ لِلتَّقَطُّعِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ. فَيُقَدَّرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الْحَبْلُ أَوْ نَحْوُهُ. قَالَ تَعَالَى:

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [الْبَقَرَة: ١٦٦] . وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّرْكِيبُ كَالْمَثَلِ بِهَذَا الْإِيجَازِ. وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ذِكْرُ التَّقَطُّعِ مُسْتَعَارًا لِلْبُعْدِ وَبُطْلَانِ الِاتِّصَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَبْلِ لِلِاتِّصَالِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبَانَةِ وَالْهَوَى ... عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةَ وَشَيْزَرَا

فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ حَذْفُ الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَثَلِ. وَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَصْدَرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تَقَطَّعَ فَاعِلًا، أَيْ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَصْدَرِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، أَيْ وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنكُم. وَقَالَ التفتازانيّ: «الْأَوْلَى أَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ لِتَقَرُّرِهِ فِي النُّفُوسِ، أَيْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ» .

وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يُقَالُ: إِنَّ بَيْنَكُمْ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ

الَّذِي هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ بَيْنِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الضَّمِيرِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُعَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢]، لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْهَدُ فِي الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى تَقْدِيرِهِ وُجُودُ مُعَادِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ. فَأَمَّا وَالْكَلَامُ خَلِيٌّ عَنْ مُعَادٍ وَعَنْ لَفْظِ الضَّمِيرِ فَالْمُتَعَيَّنُ أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ حَذْفِ الْفَاعِلِ كَمَا قَرَّرْتُهُ لَكَ ابْتِدَاءً، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ تَوارَتْ بِالْحِجابِ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ ضَمِيرٍ إِذِ التَّاءُ عَلَامَةٌ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الضَّمِيرِ هِيَ الْفَاعِلُ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ جَعَلَ بَيْنَكُمْ فَاعِلًا، أَيْ أُخْرِجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجُعِلَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي يجْتَمع فِيهِ مَا صدق الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمُ الْمَكَانِ، أَيِ انْفَصَلَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اتِّصَالِكُمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ انْفِصَالِ أَصْحَابِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اجْتِمَاعٍ.

وَالْمَكَانِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مِثْلُ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١] .

وَقَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْكُمْ عَطْفٌ عَلَى تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ.

وَمَعْنَى ضَلَّ: ضِدُّ اهْتَدَى، أَيْ جَهِلَ شُفَعَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ لَمَّا تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْكُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ. و(مَا) مَوْصُولَة مَا صدقهَا الشُّفَعَاءُ لِاتِّحَادِ صِلَتِهَا وَصِلَةِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، أَيِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزَعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ، فَحَذَفَ مَفْعُولَا الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَدْوَاهَا، وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ وَتَلِفَ وَذَهَبَ،

وَجَعَلُوا (مَا) مَصْدَرِيَّةً، أَيْ ذَهَبَ زَعْمُكُمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أبلغ وأوقع.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ٩٥ إِلَى ٩٦]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبانًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِنْ تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ وَأَفَانِينِ الْمَوَاعِظِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ الْمُشَاهَدَةِ، عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بالإلهيّة المستلزم لِانْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا لَا تَقْدِرُ عَلَى مَثْلِ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ، فَلَا يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَلَا أَنْ تُشْرَكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ إِذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الدَّهْرِيِّينَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَى الْمَقْصُودِينَ مِنَ الْخِطَابِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أَيْ فَتَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ. وَفِيهِ عِلْمٌ وَيَقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ وَاسْتِزَادَةٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ وَشُكْرِهِمْ.

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَلَكِنَّ النَّظَرَ وَالِاعْتِبَارَ فِي دَلَالَةِ الزَّرْعِ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَدَرَ عَلَى إِمَاتَةِ الْحَيِّ، لَمَّا كَانَ نَظَرًا دَقِيقًا قَدِ انْصَرَفَ عَنهُ الْمُشْركُونَ فاجترأوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَنْكَرَ أَوْ شَكَّ فِي أَنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ (إِنَّ) .

وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ هَذَا الْوَصْفِ دَوَامه لِأَنَّهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَصْفُ الْفِعْلِ أَوْ وَصْفُ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقَاتِهَا فِي مُصْطَلَحِ مَنْ لَا يُثْبِتُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الِاكْتِفَاءَ بِدَلَالَةِ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى دَلَالَتِهِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي الْبَعْثِ، لَمْ يُؤْتَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْقَصْرِ.

وَالْفَلْقُ: شَقُّ وَصَدْعُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ عَنْ بَعْضٍ، وَالْمَقْصُودُ الْفَلْقُ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنْهُ وَشَائِجُ النَّبْتِ وَالشَّجَرِ وَأُصُولُهَا، فَهُوَ مَحَلِّ الْعِبْرَةِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَالْحَبُّ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا يُثْمِرُهُ النَّبْتُ، وَاحِدُهُ حَبَّةٌ. وَالنَّوَى اسْمُ جَمْعِ نَوَاةِ، وَالنَّوَاةُ قَلْبُ التَّمْرَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الثِّمَارِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي مِنْهَا يُنْبِتُ شَجَرَهَا مِثْلَ الْعِنَبِ

وَالزَّيْتُونَ، وَهُوَ الْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ اسْمُ جَمْعِ عُجْمَةَ.

وَجُمْلَةُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِي مَحَلِّ خَبَرٍ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ) تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهُوَ الْفَلْقُ الَّذِي يُخْرِجُ مِنْهُ نَبْتًا أَوْ شَجَرًا نَامِيًا ذَا حَيَاةٍ نَبَاتِيَّةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ جِسْمًا صُلْبًا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا نَمَاءَ. فَلِذَلِكَ رَجَّحَ فَصْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهَا لِدَلَالَتِهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْحَيَوَانِ مِنْ مَاءِ النُّطْفَةِ أَوْ مِنَ الْبَيْضِ، فَهِيَ خَبَرٌ آخَرُ وَلَكِنَّهُ بِعُمُومِهِ يُبَيِّنُ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ، فَلِذَلِكَ يَحْسُنُ فَصْلُ الْجُمْلَةِ، أَوْ عَدَمُ عَطْفِ أَحَدِ الْأَخْبَارِ.

وَعَطَفَ عَلَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَوْلَهُ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِضِدِّ مَضْمُونِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَصُنْعٍ آخَرَ عَجِيبٍ دَالٍّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنَافٍ تَصَرُّفَ الطَّبِيعَةِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْعَالِمِ الْمُخْتَارِ يَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ مُتَضَادَّةٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ سَبَبٍ طَبْعِيٍّ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَكْمِلَةُ بَيَانٍ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ عَنِ النَّبَاتِ وَالنَّوَى عَنِ الشَّجَرِ يَشْمَلُ أَحْوَالًا مُجْمَلَةً، مِنْهَا حَالُ إِثْمَارِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ: حَبًّا يَيْبَسُ وَهُوَ فِي قَصَبِ نَبَاتِهِ فَلَا تَكُونُ فِيهِ حَيَاةٌ، وَنَوَى فِي بَاطِنِ الثِّمَارِ يَبَسًا لَا حَيَاةَ فِيهِ كَنَوَى الزَّيْتُونِ وَالتَّمْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيَانِ بِإِخْرَاجِ الْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْمِسْكِ وَاللُّؤْلُؤِ وَحَجَرِ (الْبَازهرِ) مِنْ بَوَاطِنِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، فَظَهَرَ صُدُورُ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَمَامَ الظُّهُورِ.

وَقَدْ رَجَّحَ عَطْفُ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ كَالتَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَيْ يَفْعَلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا كَقَوْلِهِ بَعْدَهُ فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلَ سَكَنًا. وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَطْفًا عَلَى فالِقُ الْحَبِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ: مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ فالِقُ الْحَبِّ لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ يَنْشَأُ عَنْهُ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ لَا الْعَكْسُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ عَلَاقَةَ وَصْفِ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخَبَرِ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَقْوَى مِنْ عَلَاقَتِهِ بِخَبَرِ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى.

وَقَدْ جِيءَ بِجُمْلَةِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فِعْلِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ آنٍ، فَهُوَ مُرَادٌ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ وَالِاتِّفَاقِ.

وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ اسْمًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مُتَجَدِّدٌ وَثَابِتٌ، أَيْ كَثِيرٌ وَذَاتِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْإِخْرَاجَيْنِ لَيْسَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ قَرِينِهِ فَكَانَ فِي الْأُسْلُوبِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ وَلِلتَّعْرِيضِ بِغَبَاوَةِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ ذَلِكُمُ الْفَاعِلُ الْأَفْعَالِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْفَلْقِ وَإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَلْقُ باسمه الْعَظِيم الدالّ عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ، الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا تَعْدِلُوا بِهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.

وَالْأَفْكُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- مَصْدَرُ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، إِذَا صَرَفَهُ عَنْ مَكَانٍ أَوْ عَنْ عَمَلٍ، أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ.

وَ(أَنَّى) بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ مُوجِبٌ يَصْرِفُكُمْ عَنْ تَوْحِيدِهِ. وَبُنِيَ فِعْلُ تُؤْفَكُونَ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ

صَارِفِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَجْمُوعُ أَشْيَاءَ: وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَتَضْلِيلِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَهَوَى أَنْفُسِهِمْ.

وَجُمْلَةُ (ذَلِكُمُ اللَّهُ) مُسْتَأْنَفَةٌ مَقْصُودٌ مِنْهَا الِاعْتِبَارُ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا.

وفالِقُ الْإِصْباحِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا رَابِعًا عَنِ اسْمِ (إِنَّ)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ اعْتِرَاضًا.

وَالْإِصْبَاحُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَصْبَحَ الْأُفُقُ، إِذَا صَارَ ذَا صَبَاحٍ، وَقَدْ سَمَّى بِهِ الصَّبَاحَ، وَهُوَ ضِيَاءُ الْفَجْرِ فَيُقَابِلُ اللَّيْلَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ اسْتِعَارَةٌ لِظُهُورِ الضِّيَاءِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِفَلْقِ الظُّلْمَةِ عَنِ الضِّيَاءِ، كَمَا اسْتُعِيرَ لِذَلِكَ أَيْضًا السَّلْخُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] . فَإِضَافَةُ فالِقُ إِلَى الْإِصْباحِ حَقِيقِيَّةٌ وَهِيَ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.

وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَهُ شَائِبَةُ الِاسْمِيَّةِ فَيُضَافُ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً، وَلَهُ شَائِبَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَيُضَافُ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً. وَهُوَ هُنَا لَمَّا كَانَ دَالًّا عَلَى وَصْفٍ فِي الْمَاضِي ضَعُفَ شَبَهُهُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُشْبِهُ الْمُضَارِعَ فِي الْوَزْنِ وَزَمَنِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَفْعُولِيَّةُ عَلَى التَّوَسُّعِ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، أَيْ فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَانْتَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الصُّبْحَ فَلَقًا- بِفَتْحَتَيْنِ- بِزِنَةِ مَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا قَالُوا مَسْكَنٌ، أَيْ مَسْكُونٌ إِلَيْهِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا لَفْظِيَّةً بِالتَّأْوِيلِ وَلَيْسَتْ إِضَافَتُهُ مِنْ إِضَافَةِ الْوَصْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ إِذْ لَيْسَ الْإِصْبَاحُ مَفْعُولَ الْفَلْقِ وَالْمَعْنَى فَالِقٌ عَنِ الْإِصْبَاحِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمَفْلُوقَ هُوَ اللَّيْلُ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، أَيِ الظُّلْمَةِ الَّتِي يَعْقُبُهَا الصُّبْحُ وَهِيَ ظُلْمَةُ

الْغَبَشِ، فَإِنَّ فَلْقَ اللَّيْلِ عَنِ الصُّبْحِ أَبْدَعُ فِي مَظْهَرِ الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ، لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ وَالنُّورَ وُجُودٌ. وَالْإِيجَادُ هُوَ مَظْهَرُ الْقُدْرَةِ

وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ ومظهرا لِلْقُدْرَةِ إِلَّا إِذَا تَسَلَّطَ عَلَى مَوْجُودٍ وَهُوَ الْإِعْدَامُ، وَفَلْقُ الْإِصْبَاحِ نِعْمَةٌ أَيْضًا عَلَى النَّاسِ لِيَنْتَفِعُوا بِحَيَاتِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ.

وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنَا عَطْفٌ عَلَى فالِقُ الْإِصْباحِ.

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَجَرِّ اللَّيْلَ- لِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفَيْنِ فِي الِاسْمِيَّةِ وَالْإِضَافَةِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ. وَجَعَلَ بِصِيغَة فعل الْمَاضِي وَبِنَصْبِ اللَّيْلَ.

وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ اللَّيْلِ بِمَادَّةِ الْجَعْلِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ فَتَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ فِيهَا هُوَ تَعَلُّقُهَا بِإِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ تِلْكَ الظُّلْمَةِ مِنَ الْأَنْوَارِ الْعَارِضَةِ لِلْأُفُقِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَلَقَ الْإِصْبَاحَ بِقُدْرَتِهِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ وَلَمْ يَجْعَلِ النُّورَ مُسْتَمِرًّا فِي الْأُفُقِ فَجَعَلَهُ عَارِضًا مُجَزَّءًا أَوْقَاتًا لَتَعُودَ الظَّلَمَةُ إِلَى الْأُفُقِ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْمَوْجُودَاتِ لِيَسْكُنُوا بَعْدَ النَّصَبِ وَالْعَمَلِ فَيَسْتَجِمُّوا رَاحَتَهَمْ.

وَالسَّكَنُ- بِالتَّحْرِيكِ- عَلَى زِنَةِ مُرَادِفِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْفَلْقِ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَفْعُولًا بِالتَّوَسُّعِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، أَيْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالسُّكُونُ فِيهِ مَجَازٌ. وَتُسَمَّى الزَّوْجَةُ سَكَنًا وَالْبَيْتُ سَكَنًا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النَّحْل: ٨٠]، فَمَعْنَى جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا أَنَّهُ جُعِلَ لِتَحْصُلَ فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ.

وَعَطَفَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى اللَّيْلَ بِالنَّصْبِ رَعْيًا لِمَحَلِّ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِ جَاعِلُ بِنَاءً عَلَى الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ. وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَحَلِّ شَائِعٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلِ رَفْعِ الْمَعْطُوفِ عَلَى اسْمِ (إِنَّ)، وَنَصْبِ الْمَعْطُوفِ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ.

وَالْحُسْبَانُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَسَبَ- بِفَتْحِ السِّينِ- كَالْغُفْرَانِ، وَالشُّكْرَانِ،

وَالْكُفْرَانُ، أَيْ جَعَلَهَا حِسَابًا، أَيْ عَلَامَةَ حِسَابٍ لِلنَّاسِ يَحْسُبُونَ بِحَرَكَاتِهَا أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشُّهُورِ، وَالْفُصُولِ، وَالْأَعْوَامِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَتَذْكِيرٌ بِمَظْهَرِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ لِلشَّمْسِ حُسْبَانٌ كَمَا جُعِلَ لِلْقَمَرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ يَحْسُبُونَ شُهُورَهُمْ

وَأَعْوَامَهُمْ بِحِسَابِ سَيْرِ الشَّمْسِ بِحُلُولِهَا فِي الْبُرُوجِ وَبِتَمَامِ دَوْرَتِهَا فِيهَا. وَالْعَرَبُ يَحْسُبُونَ بِسَيْرِ الْقَمَرِ فِي مَنَازِلِهِ. وَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ الْكُبْسَ لِتَحْوِيلِ السَّنَةِ إِلَى فُصُولٍ مُتَمَاثِلَةٍ، فَمُوقِعُ الْمِنَّةِ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ فِي حِسَابِ الْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ بِالْقَمَرِيِّ، وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ بِجَعْلِ اللَّهِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ دَلَائِلِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهَذَا بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِنْهُ وَلَوِ اطَّلَعُوا عَلَى أَسْرَارِ ذَلِكَ النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَكَانَتِ الْعِبْرَةُ بِهِ أَعْظَمَ.

وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِالْمَصْدَرِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَاسِبَيْنِ.

وَالْحَاسِبُ هُمُ النَّاسُ بِسَبَبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جَاعِلُ.

وَالتَّقْدِيرُ: وَضَعَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الْفرْقَان: ٢] .

وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، الْقَاهِرُ، وَاللَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ حَقًّا لِأَنَّهُ لَا تَتَعَاصَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَائِنَاتُ كُلُّهَا. وَالْعَلِيمُ مُبَالَغَةٌ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى النِّظَامِ الْبَدِيعِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ عَالِمٍ عَظِيم الْعلم.

[٩٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٧]

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَاعِلُ اللَّيْل سكنا [الْأَنْعَام: ٩٦]، وَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِعَظِيمِ خِلْقَةِ النُّجُومِ، وَبِالنِّعْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ نِظَامِ سَيْرِهَا إِذْ كَانَتْ هِدَايَةً

لِلنَّاسِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَهْتَدُونَ بِهَا. وَقَدْ كَانَ ضَبْطُ حَرَكَاتِ النُّجُومِ وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أَقْدَمِ الْعُلُومِ الْبَشَرِيَّةِ ظَهَرَ بَيْنَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ. وَذَلِكَ النِّظَامُ هُوَ الَّذِي أَرْشَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَدْوِينِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ.

وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلِذَلِكَ صِيغَ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِ النُّجُومِ مِنَ اللَّهِ وَكَوْنَهَا مِمَّا يُهْتَدَى بِهَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُخَاطَبُونَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ.

وَالنُّجُومُ جَمْعُ نَجْمٍ، وَهُوَ الْكَوْكَبُ، أَيِ الْجِسْمُ الْكُرَوِيُّ الْمُضِيءُ فِي الْأُفُقِ لَيْلًا الَّذِي يَبْدُو لِلْعَيْنِ صَغِيرًا، فَلَيْسَ الْقَمَرُ بِنَجْمٍ.

وجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ ولَكُمُ. مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، وَالضَّمِيرُ لِلْبَشَرِ كُلِّهِمْ، فَلَامُ لَكُمُ لِلْعِلَّةِ.

وَقَوْلُهُ: لِتَهْتَدُوا بِها عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِ جَعَلَ فَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ أَيْضًا، وَقَدْ دَلَّتِ الْأُولَى عَلَى قَصْدِ الِامْتِنَانِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّمِيرِ الدَّالِّ عَلَى الذَّوَاتِ، كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١]، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى حِكْمَةِ الْجَعْلِ وَسَبَبِ الِامْتِنَانِ وَهُوَ ذَلِكَ النَّفْعُ الْعَظِيمُ. وَلَمَّا كَانَ الِاهْتِدَاءُ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ كَانَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ:

لِتَهْتَدُوا قَرِيبًا مِنْ مَوْقِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١١٤] .

وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ: الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْقُوَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّائِعَ أَنْ يُقَالَ: ظُلُمَاتٌ، وَلَا يُقَالُ: ظُلْمَةٌ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] .

وَإِضَافَةُ ظُلُماتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى مَعْنَى (فِي) لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ وَاقِعَةٌ فِي

هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ، أَيْ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي السَّيْرِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَمَنْ يَنْفِي الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى (فِي) يَجْعَلُهَا إِضَافَةً عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَمَا فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» (١) . وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِمَّا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَابَهَةِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ «الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِذْ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِ الْمَاءِ بِالْأَرْضِ بِاتِّصَالِ الْملك بالمالك اهـ. فَاسْتَعْمَلَ فِيهِ الْإِضَافَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْمِلْكِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَإِمَّا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ على رَأْي التفتازانيّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذْ قَالَ فِي «كَوْكَبِ الْخَرْقَاءِ» «حَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ اللَّامِيَّةِ الِاخْتِصَاصُ الْكَامِلُ، فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ تَكُونُ مَجَازًا حكميا» .

ولعلّ التفتازانيّ يَرَى الِاخْتِلَافَ فِي الْمَجَازِ بِاخْتِلَافِ قُرْبِ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ وَبُعْدِهَا مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثَالَيْنِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ،

يُؤْذِنُ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ إِسْنَادُ الْحُكْمِ أَوْ مَعْنَاهُ إِلَى مَلَابِسٍ لِمَا هُوَ لَهُ.

وَجُمْلَةُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ مُسْتَأْنِفَةٌ لِلتَّسْجِيلِ وَالتَّبْلِيغِ وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.

وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَصَّلْنَا كَقَوْلِهِ:

وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعِذَارَى مَطِيَّتِي أَيْ فَصَّلْنَا لِأَجْلِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥] . وَجَعَلَ التَّفْصِيلَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تَعْرِيضًا بِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعُوا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.

(١) فِي قَول الشَّاعِر الَّذِي لم يعرف اسْمه:

إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرة ... سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآياتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ آيَةَ خَلْقِ النُّجُومِ وَغَيْرَهَا. وَالْعِلْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَ السَّمَوْأَلُ أَوْ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَارِثِيُّ:

فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ:

وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِدَلَائِلِ الْآيَاتِ. وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ٩٩] .

[٩٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٨]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)

هَذَا تَذْكِيرٌ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَكَيْفَ نَشَأْ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ، فَالَّذِي أَنْشَأَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ هُوَ الْحَقِيقُ بِعِبَادَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا أَشْرَكُوا بِهِ، وَالنَّظَرُ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَعْظَمِ الْآيَاتِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] .

وَالْقَصْرُ الْحَاصِلُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ، إِذْ أَشْرَكُوا فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ خَالِقِهِمْ غَيْرَ مَنْ خَلَقَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْتُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ.

وَالْإِنْشَاءُ: الْإِحْدَاثُ وَالْإِيجَادُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مُرَادٌ بِهِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ. وَالنَّفْسُ

الْوَاحِدَةُ هِيَ آدَمُ- عليه السلام.

وَقَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ أَنْشَأَكُمْ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ الْمُقَارَنِ عَلَى الْمُشْتَمِلِ.

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مُسْتَقَرٌّ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «بِكَسْرِ الْقَافِ» . فَعَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْقَافِ- يَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، ومُسْتَوْدَعٌ كَذَلِكَ، وَرَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ،

تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ أَوْ مِنْكُمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَأَنْتُمْ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحَاصِلِ بِهِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَنْ إِنْشَائِكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ، أَيْ لَكُمْ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- يَكُونُ الْمُسْتَقِرُّ اسْمَ فَاعِلٍ. وَالْمُسْتَوْدَعُ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنِ اسْتَوْدَعَهُ بِمَعْنَى أَوْدَعَهُ، أَيْ فَمُسْتَقِرٌّ مِنْكُمْ أَقْرَرْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ، وَمُسْتَوْدَعٌ مِنْكُمْ وَدَّعْنَاهُ فَهُوَ مُسْتَوْدَعٌ. وَالِاسْتِقْرَارُ هُوَ الْقَرَارُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ. يُقَالُ: اسْتَقَرَّ فِي الْمَكَانِ بِمَعْنَى قَرَّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٧] .

وَالِاسْتِيدَاعُ: طَلَبُ التَّرْكِ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَدْعِ، وَهُوَ التَّرْكُ عَلَى أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَوْدَعَ. يُقَالُ: اسْتَوْدَعَهُ مَالًا إِذَا جَعَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، فَالِاسْتِيدَاعُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ مُوَقَّتٍ، وَالِاسْتِقْرَارُ مُؤْذِنٌ بِوَضْعٍ دَائِمٍ أَوْ طَوِيلٍ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْهَمَا مُتَقَابِلَانِ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُسْتَقَرُّ الْكَوْنُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْكَوْنُ فِي الْقَبْرِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ حَيَاةَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا يَعْقُبُهَا الْوَضْعُ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ اسْتِيدَاعٌ مُوَقَّتٌ إِلَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى رَدًّا عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَقَرُّ فِي الرَّحِمِ وَالْمُسْتَوْدَعِ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ، وَنُقِلَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَفَسَّرَ بِهِ الزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَخْرُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينُ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا. وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ تَفْسِيرَاتٌ أُخْرَى لَا يُثْلَجُ لَهَا الصَّدْرُ أَعْرَضْنَا عَنِ التَّطْوِيلِ بِهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ مَعْنًى دُونَ غَيْرِهِ»، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مُسْتَقِرًّا فِي الرَّحِمِ وَمُسْتَوْدَعًا فِي الصُّلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ

عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَوْ بَطْنِهَا وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي

الْقَبْرِ مُسْتَوْدَعٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مُسْتَقِرٍّ أَوْ مُسْتَوْدَعٍ بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:

فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اهـ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هُوَ مُسْتَوْدَعٌ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِيهِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الرَّحِمِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الدُّنْيَا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْقَبْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْحَشْرِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. وَهُوَ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ بَيْنَ هَذَيْنِ الظَّرْفَيْنِ مُسْتَقِرٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَمُسْتَوْدَعٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الّتي بعْدهَا اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ الِاسْتِيدَاعُ بِالْقُبُورِ بَلْ هُوَ اسْتِيدَاعٌ مِنْ وَقْتِ الْإِنْشَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ لِلتَّقْسِيمِ بَلِ الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِ، أَيْ أَنْشَأَكُمْ فَشَأْنُكُمُ اسْتِقْرَارٌ وَاسْتِيدَاعٌ فَأَنْتُمْ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِكُمْ فِي الْأَرْضِ وَدَائِعُ فِيهَا وَمَرْجِعُكُمْ إِلَى خَالِقِكُمْ كَمَا تَرْجِعُ الْوَدِيعَةُ إِلَى مُودِعِهَا. وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ بِهَذَيْنِ الْمَصْدَرَيْنِ مَا كَانَ إِلَّا لِإِرَادَةِ تَوْفِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ- كَسْرِ الْقَافِ- هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ. وَمُسْتَوْدَعٌ اسْمُ مَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى هُوَ هُوَ.

وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ تَقْرِيرٌ لِنَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ مَقْصُودٌ بِهِ التَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ.

وَعَدَلَ عَنْ (يَعْلَمُونَ) إِلَى يَفْقَهُونَ لِأَنَّ دَلَالَةَ إِنْشَائِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأَطْوَارِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكْمَةِ دَلَالَةٌ دَقِيقَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ، فَإِنَّ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْهَا فَعَبَّرَ عَنْ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ فِقْهٌ، بِخِلَافِ دَلَالَةِ النُّجُومِ عَلَى حِكْمَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَهِيَ دَلَالَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَتَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ، فَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَافَقَةُ لِلْحَقِيقَةِ،

وَالْفِقْهُ هُوَ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ. فَحَصَلَ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَانْتَفَى الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام:

٩٩] .

[٩٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ٩٩]

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

الْقَوْلُ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَخْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ يَتَكَوَّنُ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا الزَّمْهَرِيرِيَّةِ عِنْدَ تَصَاعُدِ الْبُخَارِ الْأَرْضِيِّ إِلَيْهَا فَيَصِيرُ الْبُخَارُ كَثِيفًا وَهُوَ السَّحَابُ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ مَاءً. فَالسَّمَاءُ اسْمٌ لِأَعْلَى طَبَقَاتِ الْجَوِّ حَيْثُ تَتَكَوَّنُ الْأَمْطَارُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ:

فَأَخْرَجْنا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ جَعَلَ اللَّهُ الْمَاءَ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّبَاتِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْمَاءِ.

وَالنَّبَاتُ اسْمٌ لِمَا يَنْبُتُ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ، سُمِّيَ بِهِ النَّابِتُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الَّذِي صَارَ حَقِيقَةً شَائِعَةً فَصَارَ النَّبَاتُ اسْمًا مُشْتَرِكًا مَعَ الْمَصْدَرِ.

وَشَيْءٍ مُرَادٌ بِهِ صِنْفٌ مِنَ النَّبَاتِ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ نَباتَ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ مَا يَنْبُتُ مِنْ أَصْنَافِ النَّبْتِ. فَإِنَّ النَّبْتَ جِنْسٌ لَهُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهُ زَرْعُ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ لَيِّنَةٌ كَالْقَصَبِ وَمِنْهُ شَجَرٌ وَهُوَ مَا لَهُ سَاقٌ غَلِيظَةٌ كَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ وَمِنْهُ نَجْمٌ وَأَبٌّ وَهُوَ مَا يَنْبُتُ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الصِّفَاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالطَّبَائِعِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَالْمَذَاقِ، وَهِيَ كُلُّهَا نَابِتَةٌ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ آيَةٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] وَهُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِدَقَائِقِ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنْ مُخْتَلَفِ الْقُوَى الَّتِي سَبَّبَتِ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهَا.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاءُ التَّفْرِيعِ.

وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا تَفْصِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ، وَ(مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى النَّبَاتِ، أَيْ فَكَانَ مِنَ النَّبْتِ خَضِرٌ وَنَخْلٌ وَجَنَّاتٌ وَشَجَرٌ، وَهَذَا تَقْسِيمُ الْجِنْسِ إِلَى أَنْوَاعِهِ.

وَالْخَضِرُ: الشَّيْءُ الَّذِي لَوْنُهُ أَخْضَرُ، يُقَالُ: أَخْضَرُ وَخَضِرٌ كَمَا يُقَالُ: أَعْوَرُ وَعُوِرٌ، وَيُطْلَقُ الْخَضِرُ اسْمًا لِلنَّبْتِ الرَّطِبِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ كَالْقَصِيلِ وَالْقَضْبِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ

خَاصِرَتَاهَا»

الْحَدِيثَ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ فِي وَصْفِهِ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا، فَإِنَّ الْحَبَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّبْتِ الرَّطْبِ.

وَجُمْلَةُ: نُخْرِجُ مِنْهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ خَضِرًا لِأَنَّهُ صَارَ اسْمًا، وَ(مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِهَا عَائِدٌ إِلَى خَضِرًا.

وَالْحَبُّ: هُوَ ثَمَرُ النَّبَاتِ، كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالزَّرَارِيعُ كُلُّهَا.

وَالْمُتَرَاكِبُ: الْمُلْتَصِقُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي السُّنْبُلَةِ، مِثْلُ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّفَاعُلُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي رُكُوبِ بَعْضِهِ بَعْضًا.

وَجُمْلَةُ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ عَطْفٌ عَلَى فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: مِنَ النَّخْلِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقِنْوانٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ.

وَالْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ خُرُوجِ الْقِنْوَانِ مِنَ الطَّلْعِ وَمَا فِيهِ مِنْ بَهْجَةٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَغْيِيرِ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ أَسَالِيبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا إِذْ لَمْ تُعْطَفْ أَجْزَاؤُهَا عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ بَيْنَ أَخَوَاتِهَا يُفِيدُ مَا أَفَادَتْهُ أَخَوَاتُهَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّخْلِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الْجِنْسِيِّ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِالتَّعْرِيفِ فِيهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ الْجِنْسُ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ لِلْعَرَبِ، فَإِنَّ النَّخْلَ شَجَرُهُمْ وَثَمَرَهُ قُوتُهُمْ وَحَوَائِطَهُ مُنْبَسَطُ نُفُوسِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ النَّخْلِ اعْتِدَادًا بِالتَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِهِ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلْعِها بَدَلَ بَعْضٍ مِنَ النَّخْلِ بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ.

وقِنْوانٌ- بِكَسْرِ الْقَافِ- جَمْعُ قِنْوٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْضًا- عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيْرَ لُغَةِ قَيْسٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُمْ يَضُمُّونَ الْقَافَ. فَقِنْوَانٌ- بِالْكَسْرِ- جَمْعُ تَكْسِيرٍ.

وَهَذِهِ الصِّيغَةُ نَادِرَةٌ، غَيْرَ جَمْعِ فُعَلٍ (بِضَمٍّ فَفَتْحٍ) وَفعل (بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَفعل (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) إِذَا كَانَا وَاوِيَّيِ الْعَيْنِ وفعال.

وَالْقِنْوُ: عُرْجُونُ التَّمْرِ، كَالْعُنْقُودِ لِلْعِنَبِ، وَيُسَمَّى الْعِذْقَ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- وَيُسَمَّى الْكِبَاسَةُ- بِكَسْرِ الْكَافِ-.

وَالطَّلْعُ: وِعَاءُ عُرْجُونِ التَّمْرِ الَّذِي يَبْدُو فِي أَوَّلِ خُرُوجِهِ يَكُونُ كَشَكْلِ

الْأُتْرُجَّةِ الْعَظِيمَةِ مُغْلَقًا عَلَى الْعُرْجُونِ، ثُمَّ يَنْفَتِحُ كَصُورَةِ نَعْلَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعُنْقُودُ مُجْتَمِعًا، وَيُسَمَّى حِينَئِذٍ الْإِغْرِيضَ، ثُمَّ يَصِيرُ قِنْوًا.

ودانِيَةٌ قَرِيبَةٌ. وَالْمُرَادُ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: ٢٣] .

وَالْقِنْوَانُ الدَّانِيَةُ بَعْضُ قِنْوَانِ النَّخْلِ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ هُنَا إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ فِي خِلَالِ التَّذْكِيرِ بِإِتْقَانِ الصَّنْعَةِ فَإِنَّ الْمِنَّةَ بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ أَتَمُّ، وَالدَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ نَخْلَتُهَا قَصِيرَةً لَمْ تَتَجَاوَزْ طُولَ قَامَةِ الْمُتَنَاوِلِ، وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْبَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لِأَنَّ الذِّكْرَى قَدْ حَصَلَتْ بِالدَّانِيَةِ وَزَادَتْ بِالْمِنَّةِ التَّامَّةِ.

وجَنَّاتٍ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى خَضِرًا. وَمَا نُسِبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِنْ رَفْعِ جَنَّاتٍ لَمْ يَصِحَّ.

وَقَوْلُهُ: مِنْ أَعْنابٍ تَمْيِيزٌ مَجْرُورٌ بِ مِنَ الْبَيَانِيَّةِ لِأَنَّ الْجَنَّاتِ لِلْأَعْنَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَادِيرِ كَمَا يُقَال جريت تَمْرًا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُدِّيَ فِعْلُ الْإِخْرَاجِ إِلَى الْجَنَّاتِ دُونَ الْأَعْنَابِ، فَلَمْ يُقِلْ وَأَعْنَابًا فِي جَنَّاتٍ. وَالْأَعْنَابُ جَمْعُ عِنَبٍ، وَهُوَ جَمْعُ عِنَبَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَمَرُ شَجَرِ الْكَرْمِ. وَيُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ عِنَبٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ شَجَرَةِ عِنَبٍ، وَشَاعَ ذَلِكَ فَتُنُوسِيَ الْمُضَافُ. قَالَ الرَّاغِبُ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وللكرم نَفسه» اهـ. وَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْمُفْرَدِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقَ الْعِنَبَةِ بِالْإِفْرَادِ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَلَكِنْ يُطْلَقُ بِالْجَمْعِ، يُقَالُ: عِنَبٌ، مُرَادٌ بِهِ الْكَرْمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَبًا [عبس: ٢٧، ٢٨]، وَيُقَالُ: أَعْنَابٌ كَذَلِكَ، كَمَا هُنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّهُ يُقَالُ: عِنَبَةٌ لِشَجَرَةِ الْكَرْمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «الْعِنَبُ يُقَالُ لِثَمَرَةِ الْكَرْمِ وَلِلْكَرْمِ نَفْسِهِ الْوَاحِدَةُ عِنَبَةٌ» .

وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا

الْجِنْسُ كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ شَجَرُهُمَا. وَهُمَا فِي الْأَصْلِ اسْمَانِ لِلثَّمَرَتَيْنِ ثُمَّ أُطْلِقَا عَلَى شَجَرَتَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَعْنَابِ. وَهَاتَانِ الشَّجَرَتَانِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مِثْلَ النَّخْلِ فِي الْأَهَمِّيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّهُمَا لِعِزَّةِ وَجُودِهِمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَلِتُنَافِسِ الْعَرَبِ فِي التَّفَكُّهِ بِثَمَرِهِمَا وَالْإِعْجَابِ بِاقْتِنَائِهِمَا ذُكِرَا فِي مَقَامِ التَّذْكِيرِ بِعَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَّتِهِ. وَكَانَتْ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ مَوْجُودَةً بِالشَّامِ وَفِي سَيْنَا، وَشَجَرَةُ الرُّمَّانِ مَوْجُودَةً بِالطَّائِفِ.

وَقَوْلُهُ: مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حَالٌ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الشَّيْءَ

الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، أَيْ بَعْضُهُ مُشْتَبَهٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَهُمَا حَالَانِ مِنَ «الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» مَعًا، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ وَلَمْ يُجْمَعِ اعْتِبَارًا بِإِفْرَادِ اللَّفْظِ. وَالتَّشَابُهُ وَالِاشْتِبَاهُ مُتَرَادِفَانِ كَالتَّسَاوِي وَالِاسْتِوَاءِ، وَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الشَّبَهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ لِلتَّفَنُّنِ كَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنَ التَّشَابُهِ أَسْعَدُ بِالْوَقْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَدِّ الصّوت بِخِلَاف مشتبه. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ.

وَالتَّشَابُهُ: التَّمَاثُلُ فِي حَالَةٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ، أَيْ بَعْضُ شَجَرِهِ يُشْبِهُ بَعْضًا وَبَعْضُهُ لَا يُشْبِهُ بَعْضًا، أَوْ بَعْضُ ثَمَرِهِ يُشْبِهُ بَعْضًا وَبَعْضُهُ لَا يُشْبِهُ بَعْضًا، فَالتَّشَابُهُ مِمَّا تَقَارَبَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ شَكْلُهُ مِمَّا يَتَطَلَّبُهُ النَّاسُ مِنْ أَحْوَالِهِ عَلَى اخْتِلَاف أميالهم، وَعدم التَّشَابُهُ مَا اخْتَلَفَ بَعْضُهُ عَنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ فِيمَا يَتَطَلَّبُهُ النَّاسُ مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ شَهَوَاتِهِمْ، فَمِنْ أَعْوَادِ الشَّجَرِ غَلِيظٌ وَدَقِيقٌ، وَمِنْ أَلْوَانِ وَرَقِهِ قَاتِمٌ وَدَاكِنٌ، وَمِنْ أَلْوَانِ ثَمَرِهِ مُخْتَلِفٌ وَمِنْ طَعْمِهِ كَذَلِكَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] . وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذِهِ الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لَا بِالصُّدْفَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْحَالَ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا،

فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُشْتَبِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ. وَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ حَالًا مِنَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَقَدَّرَ لِ الرُّمَّانَ حَالًا أُخْرَى تَدُلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى، بِتَقْدِيرِ: وَالرُّمَّانُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى تَعَدُّدَ صَاحِبِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ وَلَا التَّنَازُعَ فِي الْحَالِ وَنَظَرِهِ بِإِفْرَادِ الْخَبَرِ بَعْدَ مُبْتَدَأٍ وَمَعْطُوفٍ فِي قَوْلِ الْأَزْرَقِ بْنِ طَرَفَةَ الْبَاهِلِيَّ، جَوَابًا لِبَعْضِ بَنِي قُشَيْرٍ وَقَدِ اخْتَصَمَا فِي بِئْرٍ فَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَنْتَ لِصٌّ ابْنُ لِصٍّ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِيَ

وَلَا ضَيْرَ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ التَّنْبِيهَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ دَلَائِلِ الِاخْتِيَارِ يُوَجِّهُ الْعُقُولَ إِلَى مَا فِي مُمَاثِلِهِ مِنْ أَمْثَالِهَا.

وَجُمْلَةُ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ بَيَانٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي ثَمَرِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُشْتَبِهًا مِنْ تَخْصِيصٍ أَوْ تَعْمِيمٍ. وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ نَظَرُ الِاسْتِبْصَارِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَطْوَارِهِ.

وَالثَّمَرُ: الْجَنَى الَّذِي يُخْرِجُهُ الشَّجَرُ. وَهُوَ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ الْأَكْثَرِ، جَمْعُ ثَمَرَةٍ- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ- وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَمَا جُمِعَتْ: خَشَبَةٌ عَلَى خُشُبٍ، وَنَاقَةٌ عَلَى نُوقٍ.

وَالْيَنْعُ: الطَّيِّبُ وَالنِّضِجُ. يُقَالُ: يَنَعَ- بِفَتْحِ النُّونِ- يَيْنَعُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا- وَيُقَالُ: أَيْنَعَ يُونِعُ يَنْعًا- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا نُونٌ سَاكِنَةٌ-.

وإِذا ظَرْفٌ لِحُدُوثِ الْفِعْلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْوَقْت الّذي يبتدىء فِيهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَ إِلَيْهَا، أَيْ حِينَ ابْتِدَاءِ أَثْمَارِهِ. وَقَوْلُهُ: وَيَنْعِهِ لَمْ يُقَيَّدْ بِإِذَا أَيْنَعَ لِأَنَّهُ إِذَا يَنَعَ فَقَدْ تَمَّ تَطَوُّرُهُ وَحَانَ قِطَافُهُ فَلَمْ تَبْقَ لِلنَّظَرِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأَنَّهُ قَدِ انْتَهَتْ أَطْوَارُهُ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِالنَّظَرِ. وَمُوقِعُ (إِنَّ) فِيهِ مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِ بَشَّارٍ:

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ كُلِّهِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَنْعِهِ فَتَوْحِيدُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨] .

ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَصْفٌ لِلْآيَاتِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ هُوَ مَا فِي مَدْلُولِ الْآيَاتِ مِنْ مُضَمَّنِ مَعْنَى الدَّلَالَةِ وَالنَّفْعِ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٩٧] وَقَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الْأَنْعَام: ٩٨]، وَإِتْمَامًا لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّ غَيْرَ الْعَالَمِينَ وَغَيْرَ الْفَاقِهِينَ هُمْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُشْركين.

[١٠٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٠]

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)

عَطَفَ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهُ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي جَعَلُوا عَائِدٌ إِلَى قَوْمُكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: ٦٦] .

وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ شِرْكٍ آخَرَ مِنْ شِرْكِ الْعَرَبِ وَهُوَ جَعْلُهُمُ الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِمْ كَمَا جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ دِينُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَلِيطًا

مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمِنَ الصَّابِئِيَّةِ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةِ الشَّيَاطِينِ، وَمَجُوسِيَّةِ الْفُرْسِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لِجَهْلِهِمْ حِينَئِذٍ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُمْ وَالَّتِي يَرْحَلُونَ إِلَيْهَا عَقَائِدَ شَتَّى مُتَقَارِبًا بَعْضُهَا وَمُتَبَاعِدًا بَعْضُ، فَيَأْخُذُونَهُ بِدُونِ

تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ لِفَقْدِ الْعِلْمِ فِيهِمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ هُوَ الذَّائِدُ عَنِ الْعُقُولِ مِنْ أَنْ تُعَشَّشَ فِيهَا الْأَوْهَامُ وَالْمُعْتَقَدَاتُ الْبَاطِلَةُ، فَالْعَرَبُ كَانَ أَصْلُ دِينِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَسَرَتْ إِلَيْهِمْ مَعَهَا عَقَائِدُ مِنِ اعْتِقَادِ سُلْطَةِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَكَانَ الْعَرَبُ يُثْبِتُونَ الْجِنَّ وَيَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ تَصَرُّفَاتٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا يَتَّقُونَ الْجِنَّ وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهَا وَيَتَّخِذُونَ لَهَا الْمَعَاذَاتِ وَالرُّقَى وَيَسْتَجْلِبُونَ رِضَاهَا بِالْقَرَابِينِ وَتَرْكِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ الذَّبَائِحِ. وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِالْخَبَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الشَّاعِرَ لَهُ شَيْطَانٌ يُوحِي إِلَيْهِ الشّعر، ثمّ إِذْ أَخَذُوا فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَجَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُعْتَقَدِهِمْ فِي أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّلُوا لِذَلِكَ بِأَنَّ لِلْجِنِّ صِلَةً بِاللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ قَالُوا:

الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ أُمَّهَاتِ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات: ١٥٨] وَقَالَ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الصافات:

١٤٩- ١٥٢] . وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْجِنِّ.

قَالَ تَعَالَى: وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤٠، ٤١] .

وَالَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ هُمْ قُرَيْشٌ وَجُهَيْنَةُ وَبَنُو سَلَمَةَ وَخُزَاعَةُ وَبَنُو مُلَيْحٍ. وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ مَجُوسًا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهُ الشَّرِّ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَهُ الْخَيْرِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ جُنْدَ اللَّهِ وَالْجِنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ. وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الشَّرِّ فَصَارَ إِلَهَ الشَّرِّ. وَهُمْ قَدِ انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنَ الدِّيَانَةِ الْمَزْدَكِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِإِلَهَيْنِ إِلَهٍ لِلْخَيْرِ وَهُوَ (يَزْدَانُ) . وَإِلَهٍ لِلشَّرِّ وَهُوَ (أَهْرُمُنُ) وَهُوَ الشَّيْطَانُ.

فَقَوْلُهُ: الْجِنَّ مَفْعُولُ أَوَّلُ جَعَلُوا وشُرَكاءَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، لِأَنَّ الْجِنَّ

الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ لَا مُطْلَقُ الشُّرَكَاءِ، لِأَنَّ جَعْلَ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ. ولِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ شُرَكاءَ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَعْجِيبٍ وَإِنْكَارٍ فَصَارَ لِذَلِكَ أَهَمَّ وَذِكْرُهُ أَسْبَقَ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ شُرَكاءَ لِلِاهْتِمَامِ والتعجيب من خطل

عُقُولِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْجِنِّ، فَهَذَا التَّقْدِيمُ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَى خِلَافَهُ. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ تَقْدِيمَ الْمَجْرُورِ فِي الْآيَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِاعْتِقَادِهِمُ الشَّرِيكِ لِلَّهِ اهْتِمَامًا فِي مَقَامِهِ وَهُوَ الِاسْتِفْظَاعُ وَالْإِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ. وَتَبِعَهُ فِي «الْمِفْتَاحِ» إِذْ قَالَ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَعْمُولَاتِ عَلَى بَعْضٍ «لِلْعِنَايَةِ بِتَقْدِيمِهِ لِكَوْنِهِ نُصْبَ عَيْنِكَ كَمَا تَجِدُكَ إِذَا قَالَ لَكَ أَحَدٌ: عَرَفْتَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، يَقِفُ شِعْرُكَ وَتَقُولُ: لِلَّهِ شُرَكَاءُ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ اهـ. فَيَكُونُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.

وَالْجِنُّ- بِكَسْرِ الْجِيمِ- اسْمٌ لِمَوْجُودَاتٍ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ الَّتِي لَا أَجْسَامَ لَهَا ذَاتُ طَبْعٍ نَارِيٍّ، وَلَهَا آثَارٌ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ تَصَرُّفَاتٍ تُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مَا لَا تُؤَثِّرُهُ الْقُوَى الْعَظِيمَةُ. وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ لَا يُدْرَى أَمَدُ وُجُودِ أَفْرَادِهَا وَلَا كَيْفِيَّةُ بَقَاءِ نَوْعِهَا. وَقَدْ أَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَكَانَ لِلْعَرَبِ أَحَادِيثُ فِي تَخَيُّلِهَا. فَهُمْ يَتَخَيَّلُونَهَا قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا إِذَا مَسَّتِ الْإِنْسَانَ آذَتْهُ وَقَتَلَتْهُ. وَأَنَّهَا تَخْتَطِفُ بَعْضَ النَّاسِ فِي الْفَيَافِي، وَأَنَّ لَهَا زَجَلًا وَأَصْوَاتًا فِي الْفَيَافِي، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الصَّدَى هُوَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْعَام: ٧١]، وَأَنَّهَا قَدْ تَقُولُ الشِّعْرَ، وَأَنَّهَا تَظْهَرُ لِلْكُهَّانِ وَالشُّعَرَاءِ.

وَجُمْلَةُ وَخَلَقَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوِ لِلْحَالِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي خَلَقَهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ

جَعَلُوا، أَيْ وَخَلَقَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَهُوَ خَالِقُهُمْ، مِنْ قَبِيلِ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢]، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ مُتَنَاسِقَةً وَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جَعْلِهِمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ لَا يَنْظُرُونَ فِي أَنَّ مُقْتَضَى الْخَلْقِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِدَعْوَاهَا لِمَنْ لَا يَخْلُقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] فَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ وَسُوءِ نَظَرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَخَلَقَهُمْ عَائِدًا إِلَى الْجِنِّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهُمْ عَقْلًا، وَمَوْقِعُ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُشْرِكُوا اللَّهَ فِي الْعِبَادَةِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجِنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى عِلْمِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَهُمْ كَمَا فِي عِلْمِهِمْ، أَيْ وَخَلَقَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرَ.

وَجُمْلَةُ: وَخَرَقُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَعَلُوا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخَرَقُوا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ-، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ-.

وَالْخَرْقُ: أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ عَلَى سَبِيلِ الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الْكَهْف: ٧١] . وَهُوَ ضِدُّ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ فَعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ وَرِفْقٍ، وَالْخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْخَرْقُ مَجَازًا فِي الْكَذِبِ كَمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ افْتَرَى وَاخْتَلَقَ مِنَ الْفَرْيِ وَالْخَلْقِ. وَفِي «الْكَشَّافِ»: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَقُوا فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: «قَدْ خَرَقَهَا وَاللَّهِ» . وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْفِعْل لأنّ التّفعل يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ حُصُولِ الْفِعْلِ. فَمَعْنَى خَرَقُوا كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخَرْقِ، أَيْ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ كَذِبًا،

فَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنِينَ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هُنَا. وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْيَهُودَ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠]، وَلَا النَّصَارَى فِي قَوْلهم:

الْمَسِيحُ (١) ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠] . كَمَا فَسَّرَ بِهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ السِّيَاقَ وَيُشَوِّشُ عَوْدَ الضَّمَائِرِ وَيَخْرِمُ نَظْمَ الْكَلَامِ. فَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ نَسَبُوا لله الْبَنِينَ وَهُوَ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا شَيْئًا مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْعَالَمَ تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَتِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ لَهُ عُجْبٌ تَوَلَّدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ، وَرُبَّمَا قَالُوا أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، فَلَزِمَهُمْ نِسْبَةُ الِابْنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْجِنَّ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّ فِي الْمَلَائِكَةِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَلَقَدْ يَنْجَرُّ لَهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادِ مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ أَبْنَاءَ اللَّهِ. فَقَدْ جَاءَ فِي أَوَّلِ الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الْأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ أَنَّ أَبْنَاءَ اللَّهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ فَاتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا وَإِذْ دَخَلَ بَنُو اللَّهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا هَؤُلَاءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ» . وَأَمَّا نِسْبَتُهُمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الْعَرَبِ إِذْ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، وَقَالُوا: هُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مُتَعَلِّقٌ بِ خَرَقُوا، أَيِ اخْتَلَقُوا اخْتِلَاقًا عَنْ جَهْلٍ وَضَلَالَةٍ، لِأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فَقَدْ رَمَوْا بِقَوْلِهِمْ عَنْ عَمًى وَجَهَالَةٍ. فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْعِلْمُ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ بُرْهَانٍ.

(١) فِي المطبوعة: (عِيسَى ابْن الله) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الْمُوَافق لرسم الْمُصحف.

وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا تَخْرِيقَهُمْ غَيْرَ الْعِلْمِ فَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْجَهْلِ بَدْءًا وَغَايَةً، فَهُمْ قَدِ اخْتَلَقُوا بِلَا دَاعٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَمْ يَجِدُوا لِمَا اخْتَلَقُوهُ تَرْوِيجًا، وَقَدْ لَزِمَهُمْ بِهِ لَازِمُ الْخَطَلِ وَفَسَادُ الْقَوْلِ وَعَدَمُ الْتِئَامِهِ، فَهَذَا مَوْقِعُ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ فِي الْآيَةِ الَّذِي لَا يُفِيدُ مُفَادُهُ غَيْرَهُ.

وَجُمْلَةُ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَنْزِيهًا عَنْ جَمِيعِ مَا حُكيَ عَنْهُم.

فسبحان مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا. فَلَمَّا عُوِّضَ عَنْ فِعْلِهِ صَارَ (سُبْحَانَ اللَّهِ) بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَفْعُولِهِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢] .

وَمَعْنَى: تَعالى ارْتَفَعَ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْعُلُوِّ. وَالتَّفَاعُلُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ. وَالْعُلُوُّ هُنَا مَجَازٌ، أَيْ كَوْنُهُ لَا يَنْقُصُهُ مَا وَصَفُوهُ بِهِ، أَيْ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِمِثْلِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَهُوَ لَا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ فَشُبِّهَ التَّحَاشِي عَنِ النَّقَائِصِ بِالِارْتِفَاعِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْتَفِعَ لَا تَلْتَصِقُ بِهِ الْأَوْسَاخُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ مَطْرُوحَةً عَلَى الْأَرْضِ، فَكَمَا شَبَّهَ النَّقْصَ بِالسَّفَالَةِ شَبَّهَ الْكَمَالَ بِالْعُلُوِّ، فَمَعْنَى (تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ) أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: عَمَّا يَصِفُونَ مُتَعَلِّقٌ بِ (عَنْ) لِلْمُجَاوَزَةِ. وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيْ عَنِ الَّذِي يَصِفُونَهُ.

وَالْوَصْفُ: الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِ الشَّيْءِ وَأَوْصَافِهِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ مُبَيِّنٌ مُفَصِّلٌ لِلْأَحْوَالِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُخْبِرَ يَصِفُ الشَّيْءَ وَيَنْعَتُهُ.

وَاخْتِيرَ فِي الْآيَةِ فِعْلُ يَصِفُونَ لِأَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ يَرْجِعُ إِلَى تَوْصِيفِهِ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، أَيْ تَبَاعَدَ عَنِ الِاتِّصَافِ بِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ وَصَفُوهُ بِهِ فَذَلِكَ أَمر وَاقع.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠١]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنِفَةٌ وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِخْبَارِ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ

تَقْوِيَةَ التَّنْزِيهِ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٠] فَتَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ ذَلِكَ التَّنْزِيهِ بِمَضْمُونِهَا أَيْضًا، وَبِهَذَا الْوَجْهِ رُجِّحَ فَصْلُهَا عَلَى عَطْفِهَا فَإِنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ لَهُ وَلَدًا وَبَنَاتٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيهَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الشَّيْءِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ وَإِبْطَالُهُ، فَعُلِّلَ الْإِبْطَالُ بِأَنَّهُ خَالِقُ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ تَدَّعُونَ بُنُوَّةَ الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ عَظَمَتِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ الْجِنَّ وَلَا الْمَلَائِكَة فَلَمَّا ذَا لَمْ تَدَّعُوا الْبُنُوَّةَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَاهَدَةِ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا وَتَرَوْنَ عِظَمَهَا. فَهَذَا الْإِبْطَالُ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ وَالْمُنَاظَرَةِ.

وَقَوْلُهُ: بَدِيعُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ فِي مِثْلِهِ، وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْجَارِي عَلَى مُتَابعَة الِاسْتِعْمَال عِنْد مَا يَتَقَدَّمُ الْحَدِيثُ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ يُعَقَّبُ بِخَبَرٍ عَنْهُ مُفْرَدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٦، ١١٧] .

وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ الْبُنُوَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْدَاعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ خَلْقَ الْمَحَلِّ يَقْتَضِي خَلْقَ الْحَالِّ فِيهِ، فَالْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ الْجِنَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَيَافِي، فَيَلْزَمُهُمْ حُدُوثُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْحَالُّ قَبْلَ وُجُودِ الْمَحَلِّ، وَإِذا ثَبت الْحُدُوث ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْبُنُوَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ ابْنَ الْإِلَهِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَهًا فَيَلْزَمُ قِدَمُهُ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ حُدُوثُهُ،

وَلِذَلِكَ عَقَّبَ قَوْلَهُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الْبَقَرَة: ١١٦] . بِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٦] . وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [١] .

وَجُمْلَةُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ التَّنْزِيهِ مِنَ الْإِبْطَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ طَرِيقِ الْإِبْطَالِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى أَبْطَلَتْ دَعْوَاهُمْ مِنْ جِهَةِ فَسَادِ الشُّبْهَةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّقْضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْطَلَتِ الدَّعْوَى مِنْ جِهَةِ إِبْطَالِ الْحَقِيقَةِ فَكَأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ خَطَأِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْجِنَّ أَبْنَاءُ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا محذوفا على النبوّة وَهُوَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ شَرِيفَةٌ، فَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُنَافِي الدَّعْوَى وَهُوَ انْتِفَاءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْوِلَادَةِ، فَهَذَا الْإِبْطَالُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ. وأَنَّى بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ وَبِمَعْنَى كَيْفَ.

وَالْوَاوُ فِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَاوُ الْحَالِ لِأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْحَالِ.

وَالصَّاحِبَةُ: الزَّوْجَةُ لِأَنَّهَا تُصَاحِبُ الزَّوْجَ فِي مُعْظَمِ أَحْوَالِهِ. وَقَدْ جَعَلَ انْتِفَاءَ الزَّوْجَةِ مُسَلَّمًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوهُ فَلَزِمَهُمُ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ التَّوَلُّدِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُحَاجَّةِ الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمَعْلُومُ فِي حَقِيقَةِ الْوِلَادَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهَا وَهُوَ التَّوْصِيفُ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُبْدِعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ كُلُّ مَوْجُودٍ فَيَشْمَلُ ذَوَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَشَمِلَ مَا فِيهِمَا، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ، وَالْجِنُّ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحْوِيهِ الْأَرْضُ عِنْدَهُمْ، فَهُوَ خَالِقُ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، وَالْخَالِقُ لَا يَكُونُ أَبًا كَمَا عَلِمْتَ. فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِبْطَالُ

وَالْولد أَيْضًا، وَهَذَا إِبْطَالٌ ثَالِثٌ بِطَرِيقِ الْكُلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ إِبْطَالًا جُزْئِيًّا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ لَكَانُوا غَيْرَ مَخْلُوقِينَ.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِإِتْمَامِ تَعْلِيمِ الْمُخَاطَبِينَ بَعْضَ صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ التَّوْصِيفِ لَا بِاعْتِبَارِ الرَّدِّ. وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ عَدَلَ فِيهَا عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: بِكُلِّ شَيْءٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ «بِهِ» لِأَنَّ التَّذْيِيلَاتِ يُقْصَدُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَمْثَالَ فِي كَوْنِهَا كَلَامًا جَامِعًا لمعان كَثِيرَة.

[١٠٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٢]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)

وُقُوعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِالْأَخْبَارِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ

[الْأَنْعَام: ٩٥] قَبْلَ هَذَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥] .

وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ الْمُضَمَّنَةِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ عَنِ اتِّبَاعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِبَيَانٍ أَوْ بَدَلٍ، وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمُ الْمُبْدِعُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْخَالِقُ

كُلَّ شَيْءٍ وَالْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ الله، أهوَ الَّذِي تَعْلَمُونَهُ. وَقَوْلُهُ: رَبُّكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ حَالٌ مِنْ رَبُّكُمْ أَوْ صِفَةٌ. وَقَوْلُهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ صِفَةٌ لِ رَبُّكُمْ أَوْ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْهُ خَبَرًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ قَدْ تَقَدَّمَ بِنَظَائِرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.

وَجُمْلَةُ: فَاعْبُدُوهُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ مُفَرَّعًا عَلَى وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْعِبَادَةِ، وَالِانْفِرَادُ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ فُهِمَ هَذَا التَّخْصِيصُ مِنَ التَّفْرِيعِ.

وَوَجْهُ أَمْرِهِمْ بِعِبَادَتِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ إِلَّا إِلَى الْأَصْنَامِ فَهُمْ يَزُورُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ إِلَيْهَا الْقَرَابِينَ وَيَنْذِرُونَ لَهَا النُّذُورَ وَيَسْتَعِينُونَ بِهَا وَيَسْتَنْجِدُونَ بِنُصْرَتِهَا، وَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ خَلَطُوهُ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الْأَصْنَامِ إِذْ جَعَلُوا فَوْقَ الْكَعْبَةِ (هُبَلَ)، وَجَعَلُوا فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (إِسَافًا وَنَائِلَةَ) . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُم يهلّ (لمناة) فِي مُنْتَهَى الْحَجِّ، فَكَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِهَا صَرِيحًا، وَأُمِرُوا بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ بِالتَّفْرِيعِ.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ فَاعْبُدُوهُ مُعْتَرِضَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ فَاعْبُدُوهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ وَالْعَكْسِ (وَهُوَ الْحَقُّ)، عَلَى وَجْهِ تَكْمِيلِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، بِأَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِنْعَامِ وَكُلُّ مَا يَطْلُبُ الْمَرْءُ حِفْظَهُ لَهُ، فَالْوَجْهُ عِبَادَتُهُ وَلَا وَجْهَ لِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ اسْمَ الْوَكِيلِ جَامِعٌ لِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالرِّقَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٧٣] .

[١٠٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٣]

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِفَادَةِ عَظَمَتِهِ تَعَالَى وَسَعَةِ عِلْمِهِ، فَلِعَظَمَتِهِ جَلَّ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَبْصَارِ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِانْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ

الَّتِي هِيَ أَجْسَامٌ مَحْدُودَةٌ مَحْصُورَةٌ مُتَحَيِّزَةٌ، فَكَوْنُهَا مُدْرَكَةً بِالْأَبْصَارِ مِنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَكَانَتْ مُحْتَجِبَةً عَنِ الْأَبْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْكَوَاكِبُ الَّتِي عَبَدَهَا بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْجِنُّ

وَالْمَلَائِكَةُ وَقَدْ عَبَدُوهُمَا فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُدْرَكَيْنِ بِالْأَبْصَارِ فِي الْمُتَعَارَفِ لِكُلِّ النَّاسِ وَلَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَبْدُو لَهُمْ تَارَّاتٍ فِي الْفَيَافِي وَغَيْرِهَا. قَالَ شَمِرُ بْنُ الْحَارِثِ الضَّبِّيُّ:

أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْتُ عِمُوا ظَلَامَا

وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَظْهَرُونَ لِبَعْضِ النَّاسِ، يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ عَنِ الْيَهُودِ.

وَالْإِدْرَاكُ حَقِيقَتُهُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى شُعُورِ الْحَاسَّةِ بِالْمَحْسُوسِ أَوِ الْعَقْلِ بِالْمَعْقُولِ يُقَالُ: أَدْرَكَ بَصَرِي وَأَدْرَكَ عَقْلِي تَشْبِيهًا لِآلَةِ الْعِلْمِ بِشَخْصٍ أَوْ فَرَسٍ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَيُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ بِبَصَرِهِ وَأَدْرَكَ بِعَقْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ بِدُونِ تَقْيِيدٍ، وَاصْطَلَحَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّعُورِ الْعَقْلِيِّ إِدْرَاكًا، وَجَعَلُوا الْإِدْرَاكَ جِنْسًا فِي تَعْرِيفِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، وَوَصَفُوا صَاحِبَ الْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ بِالدَّرَّاكَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ الْإِدْرَاكِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ مُشَاكَلَةً لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ فِيهِ مُسْتَعَارًا لِلتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ مَعْنَاهُ النَّوَالُ.

وَالْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا النَّظَرُ الْمُنْتَشِرَةِ فِي إِنْسَانِ الْعَيْنِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْحَدَقَةِ وَبِهِ إِدْرَاكُ الْمُبْصَرَاتِ. وَالْمَعْنَى: لَا تُحِيطُ بِهِ أَبْصَارُ الْمُبْصِرِينَ لِأَنَ الْمُدْرِكَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُبْصِرُ لَا الْجَارِحَةُ، وَإِنَّمَا الْجَارِحَةُ وَسِيلَةٌ لِلْإِدْرَاكِ لِأَنَّهَا تُوَصِّلُ الصُّورَةَ إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فِي الدِّمَاغِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا بَيَانُ مُخَالَفَةِ خُصُوصِيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْ خُصُوصِيَّاتِ آلِهَتِهِمْ فِي هَذَا الْعَالِمِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى وَأَصْنَامُهُمْ تُرَى، وَتِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ مُنَاسِبَةٌ

لِعَظَمَتِهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عَدَمَ إِحَاطَةِ الْأَبْصَارِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ عَظَمَتِهِ فَلَا تُطِيقُهُ الْأَبْصَارُ، فَعُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يُدْرِكَهُ شَيْءٌ مِنْ أَبْصَارِ الْمُبْصِرِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ السِّيَاقُ.

وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَرَى فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَمَسَّكَ بِهِ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ لِلْأُمُورِ الْآخِرَةِ أَحْوَالًا لَا تَجْرِي عَلَى مُتَعَارِفِنَا، وَأَحْرَى أَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. وَمَنْ حَاوَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يَتِمُّ كَمَا صَنَعَ الْفَخْرُ فِي «تَفْسِيرِهِ» .

وَالْخِلَافُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ شَائِعٌ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ لِكَثْرَةِ ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا رُؤْيَةٌ تَخَالُفِ الرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ. وَعَنْ مَالِكٍ- رحمه الله «لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيَّرِ الْكُفَّارُ بِالْحِجَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] . وَعَنْهُ أَيْضًا «لَمْ يُرَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رَأَوُا الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي» . وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَحَالُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لِاسْتِلْزَامِهَا الِانْحِيَازَ فِي الْجِهَةِ. وَقَدِ اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى التَّنْزِيهِ عَنِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ، كَمَا اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ الِانْكِشَافِ الْعِلْمِيِّ التَّامِّ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ لِحَقِيقَةِ الْحَقِّ تَعَالَى، وَعَلَى امْتِنَاعِ ارْتِسَامِ صُورَةِ الْمَرْئِيِّ فِي الْعَيْنِ أَوِ اتِّصَالِ الشُّعَاعِ الْخَارِجِ مِنَ الْعَيْنِ بِالْمَرْئِيِّ تَعَالَى لِأَنَّ أَحْوَالَ الْأَبْصَارِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا بِأَدِلَّةِ الْجَوَازِ وَبِأَدِلَّةِ الْوُقُوعِ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مُجْمَلًا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَأَدِلَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَجْوِبَتُنَا عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ وَمَرْجِعُهَا جَمِيعًا إِلَى إِعْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْ تَأْوِيلِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا هَلْ حَصَلَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى للنّبيء ﷺ فَنَفِي ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ-

رضي الله عنهم وَتَمَسَّكُوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ. وَأَثْبَتَهَا الْجُمْهُورُ، وَنُقِلَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْعُمُومُ مَخْصُوصًا. وَقَدْ تَعَرَّضُ لَهَا عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» . وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا رَسُول الله ﷺ فَأَجَابَ بِجَوَابٍ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ، فَحَجَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِتْمَامًا لِمُرَادِهِ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فَإِسْنَادُ الْإِدْرَاكِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِهِ تَعَالَى إِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ يُدْرِكُ اسْتُعِيرَ لِمَعْنَى يَنَالُ، أَيْ لَا تَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِهِ كَمَا يُقَالُ: لَحِقَهُ فَأَدْرَكَهُ، فَالْمَعْنَى يَقْدِرُ عَلَى الْإِبْصَارِ، أَيْ عَلَى الْمُبْصِرِينَ، وَإِمَّا لِاسْتِعَارَةِ فِعْلِ يُدْرِكُ لِمَعْنَى يَعْلَمُ لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أَيْ لَا تَعْلَمُهُ الْأَبْصَارُ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَبْصَارَ هِيَ الْعَدَسَاتُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي هِيَ وَاسِطَةُ إِحْسَاسِ الرُّؤْيَةِ أَوْ هِيَ نَفْسُ الْإِحْسَاسِ وَهُوَ أَخْفَى. وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ الْمُدْرِكِينَ.

وَفِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فَهِيَ صِفَةٌ

أُخْرَى. أَوْ هِيَ تَذْيِيلٌ لِلِاحْتِرَاسِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَ مَنْ لَا يُدْرِكُونَهُ.

وَاللَّطِيفُ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اللُّطْفِ أَوْ مِنَ اللَّطَافَةِ. يُقَالُ: لَطَفَ- بِفَتْحِ الطَّاءِ- بِمَعْنَى رَفَقَ، وَأَكْرَمَ، وَاحْتَفَى. وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِاللَّامِ بِاعْتِبَارِ مُلَاحَظَةِ مَعْنَى رَفَقَ أَوْ مَعْنَى أَحْسَنَ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الطُّرْفَةُ وَالتُّحْفَةُ الَّتِي يُكْرَمُ بِهَا الْمَرْءُ لَطَفًا (بِالتَّحْرِيكِ)، وَجَمْعُهَا أَلْطَافٌ. فَالْوَصْفُ مِنْ هَذَا لَاطِفٌ وَلَطِيفٌ فَيَكُونُ اللَّطِيفُ اسْمَ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ مِنْ فَاعِلِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ [يُوسُف:

١٠٠] . وَيُقَالُ لَطُفَ- بِضَمِّ الطَّاءِ- أَيْ دَقَّ وَخَفَّ ضِدُّ ثَقُلَ وَكَثُفَ.

وَاللَّطِيفُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ. فَإِنِ اعْتُبِرَتْ وَصْفًا جَارِيًا عَلَى لَطُفَ- بِضَمِّ الطَّاءِ- فَهِيَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةُ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ الْعُقُولِ بِمَاهِيَّتِهِ أَوْ إِحَاطَةِ الْحَوَاسِّ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ اخْتِيَارُهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مُنْتَهَى الصَّرَاحَةِ وَالرَّشَاقَةِ فِي الْكَلِمَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَادَّةٍ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تُقَرِّبُ مَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا وُضِعَتْ لَهُ اللُّغَةُ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَيَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ مِنْ مَدْلُولِ جُمْلَةِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، فَتَتَنَزَّلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ أَوْ مَنْزِلَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَزِيدُ الْوَصْفُ قَبْلَهُ تَمَكُّنًا. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ مِنْ مَعَانِي الْكَلِمَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ وَجَوَّزَهُ الرَّاغِبُ وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي التَّفْسِيرُ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اقْتَرَنَ فِيهِ وَصْفُ اللَّطِيفِ بِوَصْفِ الْخَبِيرِ كَالَّذِي هُنَا وَالَّذِي فِي سُورَةِ الْمُلْكِ.

وَإِنِ اعْتُبِرَ اللَّطِيفُ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ لَطَفَ- بِفَتْحِ الطَّاءِ- فَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَإِتْقَانِ صُنْعِهِ فِي ذَلِكَ وَكَثْرَةِ فِعْلِهِ ذَلِكَ، فَيَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُبَيِّنِينَ لِمَعْنَى اسْمِهِ اللَّطِيفِ فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِيهِ وَصْفُهُ تَعَالَى بِهِ مُفْرَدًا مُعَدًّى بِاللَّامِ أَوْ بِالْبَاءِ نَحْوِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ [يُوسُف:

١٠٠]، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: ١٩] . وَبِهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ فَلِلَّهِ دَرُّهُ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ هُنَا كَانَ وَصْفًا مُسْتَقِلًّا عَمَّا قَبْلَهُ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى لِلْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَ«خَبِيرٌ» صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ خَبُرَ- بِضَمِّ الْبَاءِ- فِي الْمَاضِي، خُبْرًا- بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ- بِمَعْنَى عَلِمَ وَعَرَفَ، فَالْخَبِيرُ الْمَوْصُوفُ بِالْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا عِلْمًا مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ.

وَوُقُوعُ الْخَبِيرِ بَعْدَ اللَّطِيفِ عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ وُقُوعُ صِفَةٍ أُخْرَى هِيَ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، فَيَكْمُلُ التَّذْيِيلُ بِذَلِكَ وَيَكُونُ التَّذْيِيلُ مُشْتَمِلًا عَلَى مُحَسِّنِ النَّشْرِ بَعْدَ اللَّفِّ وَعَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ الِاحْتِرَاسِ لِمَعْنَى اللَّطِيفِ، أَيْ هُوَ الرَّفِيقُ الْمُحْسِنُ الْخَبِيرُ بِمَوَاقِعِ الرِّفْقِ وَالْإِحْسَان وبمستحقّيه.

[١٠٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٤]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)

هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى - إِلَى قَوْلِهِ- وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْأَنْعَام: ٩٥- ١٠٣] . فَاسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ لِلنَّبِيءِ- عليه الصلاة والسلام مَقُولٍ لِفِعْلِ أَمْرٍ بِالْقَوْلِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ، حُذِفَ عَلَى الشَّائِعِ مِنْ حَذْفِ الْقَوْلِ لِلْقَرِينَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الْأَنْعَام:

١٠٤] . وَمُنَاسِبَةُ وُقُوعِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَقِبَ الْكَلَامِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كَالتَّوْقِيفِ وَالشَّرْحِ وَالْفَذْلَكَةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ فَيُقَدَّرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ.

وَبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَالْبَصِيرَةُ: الْعَقْلُ الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقُ، كَمَا أَنَّ الْبَصَرَ إِدْرَاكُ الْعَيْنِ الَّذِي تَتَجَلَّى بِهِ الْأَجْسَامُ، وَأُطْلِقَتِ الْبَصَائِرُ عَلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِيهَا.

وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَى الْبَصَائِرِ اسْتِعَارَةٌ لِلْحُصُولِ فِي عُقُولِهِمْ، شُبِّهَ بِمَجِيءِ شَيْءٍ كَانَ غَائِبًا، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ مَا حَصَلَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ مَجِيئُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] . وَخُلُوُّ فِعْلِ «جَاءَ» عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْنَدَ إِلَى جَمْعِ تَكْسِيرٍ مُطْلَقًا أَوْ جَمْعِ مُؤَنَّثٍ يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَخُلُوُّهُ عَنْهَا.

وَ(مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِ «جَاءَ» أَوْ صِفَةٌ لِ بَصائِرُ، وَقَدْ جُعِلَ خِطَابُ اللَّهِ بِهَا

بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ مِنْ جَانِبِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَالِابْتِدَاءُ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ بِتَقْدِيرِ: مِنْ إِرَادَةِ رَبِّكُمْ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ التَّعَالِيمِ وَالذِّكْرَيَاتِ الَّتِي بِهَا الْبَصَائِرُ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا مُسْدَاةٌ إِلَيْهِمْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ فِي هَدْيِهِ خَلَلٌ وَلَا خَطَأٌ،

مَعَ مَا فِي ذِكْرِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ مِنْ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَتَقْوِيَةِ دَاعِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ.

وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، أَيْ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الضَّلَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْبَصَائِرِ، وَلَا فَائِدَةَ لِغَيْرِكُمْ فِيهَا «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ»، أَيْ مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَدْ عَلِمَ عِلْمًا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَمَنْ عَمِيَ أَيْ ضَلَّ عَنِ الْحَقِّ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا وِزْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ.

فَاسْتُعِيرَ الْإِبْصَارُ فِي قَوْلِهِ: أَبْصَرَ لِلْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ بِهَذَا الْهَدْيِ الْوَارِدِ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي نُوِّرَ لَهُ الطَّرِيقُ بِالْبَدْرِ أَوْ غَيْرِهِ، فَأَبْصَرَهُ وَسَارَ فِيهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبْصَرَ تَمْثِيلًا مُوجَزًا ضُمِّنَ فِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ الْمُرْشِدِ إِلَى الْحَقِّ إِذا عمل بهَا أَرْشَدَ بِهِ، بِهَيْئَةِ الْمُبْصِرِ إِذَا انْتَفَعَ بِبَصَرِهِ.

وَاسْتُعِيرَ الْعَمَى فِي قَوْلِهِ: عَمِيَ لِلْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الضَّلَالِ بَعْدَ حُصُولِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُ لِأَنَّ الْمُكَابِرَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْأَعْمَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِنَارَةِ طَرِيقٍ وَلَا بِهَدْيِ هَادٍ خِرِّيتٍ.

وَيَجُوزُ اعْتِبَارُ التَّمْثِيلِيَّةِ فِيهِ أَيْضًا كَاعْتِبَارِهَا فِي ضِدِّهِ السَّابِقِ.

وَاسْتَعْمَلَ اللَّامَ فِي الْأَوَّلِ اسْتِعَارَةً لِلنَّفْعِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الشَّيْءُ النَّافِعُ الْمُدَّخَرُ لِلنَّوَائِبِ، وَاسْتُعِيرَتْ (عَلَى) فِي الثَّانِي لِلضُّرِّ وَالتَّبِعَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الضَّارَّ ثَقِيلٌ عَلَى صَاحِبِهِ يُكَلِّفُهُ تَعَبًا وَهُوَ كَالْحِمْلِ الْمَوْضُوعِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ [فصلت: ٤٦]، وَقَالَ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها [الْإِسْرَاء: ١٥]،

وَقَالَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّي الْإِثْمُ وِزْرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَام: ٣١]، وَقَدْ جَاءَ اللَّامُ فِي مَوْضِعِ (عَلَى) فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧] .

وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ بَين «البصائر» و«أبْصر»، وَمُلَاحَظَةِ مُنَاسِبَةِ فِي الْإِبْصَارِ وَالْبَصَائِر. وَفِيهَا مُحَسِّنُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَبْصَرَ وعَمِيَ، وَبَيْنَ (اللَّامِ) وَ(عَلَى) .

ويتعلّق قَوْله: فَلِنَفْسِهِ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الشَّرْطِ. وَتَقْدِيرُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ. وَاقْتَرَنَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ نَظَرًا لِصَدْرِهِ إِذْ كَانَ اسْمًا مَجْرُورًا وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِأَنْ يَلِيَ أَدَاةَ الشَّرْطِ.

وَإِنَّمَا نُسِجَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّسْجِ للإيذان بأنّ فَلِنَفْسِهِ مُقَدَّمٌ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ، وَلَوْلَا قَصْدُ الْإِيذَانِ بِهَذَا التَّقْدِيمِ لَقَالَ: فَمَنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٧] وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ هُنَا لِيُفِيدَ الْقَصْرَ، أَيْ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ لَا لِفَائِدَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يغيظون النّبيء ﷺ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَقُولٌ من النبيء ﷺ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، بِخِلَافِ آيَةِ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٧]، فَإِنَّهَا حَكَتْ كَلَامًا خُوطِبَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ إِحْسَانَهُمْ يَنْفَعُ اللَّهَ أَوْ إِسَاءَتَهُمْ تَضُرُّ اللَّهَ.

وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها نَظِيرُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ. وَعُدِّيَ فِعْلُ عَمِيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِأَنَّ الْعَمَى لَمَّا كَانَ مَجَازًا كَانَ ضُرًّا يَقَعُ عَلَى صَاحِبِهِ.

وَجُمْلَةُ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ تَكْمِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، أَيْ فَلَا يَنَالُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَلَا يَرْجِعُ لِي نَفْعُكُمْ وَلَا يَعُودُ عَلَيَّ ضُرُّكُمْ وَلَا أَنَا وَكِيلٌ عَلَى نَفْعِكُمْ وَتَجَنُّبِ ضُرِّكُمْ فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ حَتَّى تَمْكُرُونَ بِي بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْهُدَى وَالِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ.

وَالْحَفِيظُ: الْحَارِسُ وَمَنْ يُجْعَلُ إِلَيْهِ نَظَرُ غَيْرِهِ وَحِفْظُهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ مَجْعُولًا لَهُ الْحِفْظُ مِنْ جَانِبِ الشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ، وَالْحَفِيظُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جَانِبِهِ وَمِنْ جَانِبِ مُوَالِيهِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الْأَنْعَام: ٦٦] .

وَالْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ هُنَا دَقِيقٌ، لِأَنَّ الْحَفِيظَ وَصْفٌ لَا يُفِيدُ غَيْرَهُ مُفَادَهُ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِعْلُ حَفِظَ، فَالْحَفِيظُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ يُقَدَّرُ لَهَا فِعْلٌ مَنْقُولٌ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- لَمْ يُنْطَقْ بِهِ مِثْلُ الرَّحِيمِ.

وَلَا يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ اخْتِصَاصًا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَإِنْ كَانَ الْعَلامَة التّفتازاني مَالَ إِلَيْهِ، وَسَكَتَ عَنْهُ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ وَهُوَ وُقُوفٌ مَعَ الظَّاهِرِ. وَتَقْدِيمُ عَلَيْكُمْ عَلَى بِحَفِيظٍ لِلِاهْتِمَامِ ولرعاية الفاصلة.

[١٠٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٥]

وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهَا. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَنْعَام: ١٠٤] الَّتِي هِيَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُوله ﷺ بِتَقْدِيرِ «قُلْ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى التَّصْرِيفِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: نُصَرِّفُ الْآياتِ.

أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَوَّلُهَا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] .

وَالْقَوْلُ فِي تَصْرِيفِ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦] .

وَقَوْلُهُ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَقَدْ

تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥] . وَلَكِنْ مَا هُنَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مُخَالَفَةً مَا فَإِنَّ قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام دَرَسْتَ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِتَصْرِيفِ الْآيَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [الْقَصَص: ٨] . الْمَعْنَى. فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا.

وَكَذَلِكَ هُنَا، أَيْ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ مِثْلَ هَذَا التَّصْرِيفِ السَّاطِعِ فَيَحْسَبُونَكَ اقْتَبَسْتَهُ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعْلِيمِ فَيَقُولُوا: دَرَسْتَ. وَالْمَعْنَى: أَنَا نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَنُبَيِّنُهَا تَبْيِينًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْعَالِمِ الَّذِي دَرَسَ الْعِلْمَ فَيَقُولُ الْمُشْرِكُونَ دَرَسْتَ هَذَا وَتَلَقَّيْتَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْكُتُبِ، لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُوصِلِ إِلَى أَنَّ صُدُورَ مِثْلِ هَذَا التَّبْيِينِ مِنْ رَجُلٍ يَعْلَمُونَهُ أُمِّيًّا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النَّحْل: ١٠٣] وَهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَيَقُولُونَهُ وَيَزِيدُونَ بِمِقْدَارِ زِيَادَةِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ، فَشَبَّهَ تَرَتُّبَ قَوْلِهِمْ عَلَى التَّصْرِيفِ بِتَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَاسْتُعِيرَ لِهَذَا الْمَعْنَى الْحَرْفُ الْمَوْضُوعُ لِلْعِلَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِثْلَ هَذِهِ اللَّامِ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي اللَّامِ وَلَكِنَّهُ إِفْصَاحٌ عَنْ حَاصِلِ الْمَعْنَى.

وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِتَمَهُّلٍ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلْفَهْمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩] . وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. يُقَالُ: دَرَسَ الْكِتَابَ، أَيْ تَعَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمرَان:

٧٩]، وَقَالَ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الْأَعْرَاف: ١٦٩] . وَسُمِّيَ بَيْتُ تَعَلُّمِ الْيَهُودِ الْمِدْرَاسَ، وَسُمِّيَ

الْبَيْتُ الَّذِي يُسْكِنُهُ التَّلَامِذَةُ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ الْمَدْرَسَةَ. وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ: تَعَلَّمْتَ، طَعْنًا فِي أُمَيَّةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الِعِلْمِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دَرَسْتَ- بِدُونِ أَلْفٍ وَبِفَتْحِ التَّاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو «دَارَسْتَ» - عَلَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَبِفَتْحِ التَّاءِ- أَيْ يَقُولُونَ: قَرَأت وقرىء

عَلَيْكَ، أَيْ دَارَسْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ وذاكرتهم فِي علمهمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «دَرَسْتَ» - بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَتَاءِ التَّأْنِيثِ- أَيِ الْآيَاتِ، أَيْ تَكَرَّرْتَ.

وَأَمَّا اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ الحقيقيّة. وَضمير لِنُبَيِّنَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآن لأنّه مَا صدق الْآياتِ، وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ.

وَالْقَوْمُ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَآمَنُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٩٧]، وَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ حَصَلَ مِنْهُ هُدًى لِلْمُوَفَّقِينَ وَمُكَابَرَةٌ لِلْمَخَاذِيلِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَة: ٢٦] .

[١٠٦، ١٠٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ١٠٦ إِلَى ١٠٧]

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)

اسْتِئْنَافٌ فِي خِطَابِ النَّبِيءِ- عليه الصلاة والسلام لِأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ لَا يَكْتَرِثَ بِأَقْوَالِهِمْ، فَابْتِدَاؤُهُ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُقَدِّمَةِ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، لِأَنَّ اتّباع الرّسول ﷺ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَمْرٌ وَاقِعٌ بِجَمِيعِ مَعَانِيهِ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ الدَّوَامُ عَلَى اتِّبَاعِهِ. وَالْمَعْنَى: أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ اتِّبَاعًا لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.

وَالْمُرَادُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ.

وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَصْلِ اقْتِفَاءُ أَثَرِ الْمَاشِي، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْعَمَلِ بِمِثْلِ عَمَلِ الْغَيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ [التَّوْبَة: ١٠٠] . ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي امْتِثَالِ

الْأَمْرِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمَتْبُوعَ فَهُوَ الِائْتِمَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ إِلَى ذَاتِ الْمُتَّبِعِ فَيُقَالُ: اتَّبَعْتُ فُلَانًا بِهَذِهِ

الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ.

وَإِطْلَاقُ الِاتِّبَاعِ بِمَعْنَى الِائْتِمَارِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُلَازِمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، لِأَنَّ مَنْ يَتِّبِعُ أَحَدًا يُلَازِمُهُ. وَمِنْهُ سُمِّي الرَّئِيُّ مِنَ الْجِنِّ فِي خُرَافَاتِ الْعَرَبِ تَابِعَةً، وَمِنْهُ سُمِّي مَنْ لَازَمَ الصَّحَابِيَّ وَرَوَى عَنْهُ تَابِعِيًّا.

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ فِي الْآيَةِ مُرَادًا بِهِ دَوَامُ الِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَعِنَادِهِمْ، فَالِاتِّبَاعُ الْمَأْمُورُ بِهِ اتِّبَاعٌ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مُسْتَمِرٌّ فِي الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِمُلَازَمَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْإِعْلَانِ بِهَا وَدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْ لَا يَعْتَرِيَهُ فِي ذَلِكَ لِينٌ وَلَا هَوَادَةٌ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَذَاءَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ تَأْثِيرٌ عَلَى نَفْسِهِ يُوهِنُ دَعْوَتَهُمْ وَالْحِرْصَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَاعْتِقَادُ أَنَّ مُحَاوَلَةَ إِيمَانِهِمْ لَا جَدْوَى لَهَا. فَالْمُرَادُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَا أُوحِيَ مِنَ الْقُرْآنِ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ أَمْرًا بِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ عَنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ شَدًّا لساعد النّبيء ﷺ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: لَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٠٨] كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام:

٥٠] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَنَوَاهِيهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ: رَبِّكَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ تأنيس للرّسول ﷺ وَتَلَطُّفٌ مَعَهُ.

وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِدْمَاجُ التَّذْكِيرِ بالوحدانيّة لزِيَادَة تقرّرها وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ لَا الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمر رَسُوله ﷺ بِقَطْعِ الدَّعْوَةِ لِأَيِّ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَذَاهُمْ، أَلَا تَرَى كُلَّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ تَلَتْهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدْعُو الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.

وَهَذَا تَلَطُّفٌ مَعَ الرّسول ﷺ وَإِزَالَةٌ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ الْكَدَرِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَقِلَّةِ إِغْنَاءِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَوِّلَ قُلُوبَهُمْ فَتَقْبَلَ الْإِسْلَامَ بِتَكْوِينٍ آخَرَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْإِرْشَادِ وَالِاهْتِدَاءِ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ وَتَظْهَرَ مَرَاتِبُ النُّفُوسِ فِي مَيَادِينِ التَّلَقِّي، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَخْتَلِفَ النُّفُوسُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ كَيْفِيَّاتِ الْخِلْقَةِ وَالْخَلْقِ وَالنَّشْأَةِ وَالْقَبُولِ، وَعَنْ مَرَاتِبِ اتِّصَالِ الْعِبَادِ بِخَالِقِهِمْ وَرَجَائِهِمْ مِنْهُ. فَالْمُشْرِكُونَ بَلَغُوا إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِأَسْبَابٍ وَوَسَائِلَ مُتَسَلْسِلَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ خِلْقِيَّةٍ، وَخُلُقِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، تَهَيَّأَتْ فِي أزمنة وأحوال هيّأتها لَهُمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْمُرْشِدَ كَانَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى إِرْشَادِهِ مُتَفَاوِتًا عَلَى تَفَاوُتِ صَلَابَةِ عُقُولِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَعَرَاقَتِهِمْ فِيهِ، وَعَلَى تَفَاوُتِ إِعْدَادِ نُفُوسِهِمْ لِلْخَيْرِ وَجُمُوحِهِمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِيمَانَ النَّاسِ حَاصِلًا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَا بِتَبْدِيلِ خَلْقِ الْعُقُولِ، وَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهَذَا مَعْنَى انْتِفَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُرَادِ بِهِ تَطْمِينُ قَلْبِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام وَتَذْكِيرُهُ بِحَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا عُذْرٌ لَهُمْ

وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْعُصَاةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِذَارَ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا [الْأَنْعَام: ١٤٨] الْآيَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠] فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ (١)، لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ كَاشِفَةٌ عَنِ الْوَاقِعِ لَا تَصْلُحُ عُذْرًا لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا فِي عِدَادِ الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [الْمَائِدَة: ٤١] .

وَمَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ (لَوْ) عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِشْرَاكِهِمْ مَا أَشْرَكُوا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٥] .

وَقَوْلُهُ: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا تَذْكِيرٌ وَتَسْلِيَةٌ لِيُزِيحَ عَنْهُ كَرْبَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْكَدَرِ لِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ فِي نَفْسِهِ انْكِسَارًا كَأَنَّهُ انْكِسَارُ مَنْ عُهِدَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْ حُسْنِ الْقِيَامِ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْهُ مُكْرِهًا لَهُمْ لِيَأْتِيَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا بَعَثَهُ مُبَلِّغًا

لِرِسَالَتِهِ فَمَنْ آمَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهَا.

وَالْحَفِيظُ: الْقَيِّمُ الرَّقِيبُ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْكَ رَقِيبًا عَلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ فَلَا يُهِمَّنَّكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ وَعَدَمُ تَحْصِيلِ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ إِذْ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ، فَالْخَبَرُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ وَالتَّسْلِيَةِ، لَا مَسَاقَ الْإِفَادَةِ لِأَنَّ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مَا جَعَلَهُ حَفِيظًا عَلَى تَحْصِيلِ إِسْلَامِهِمْ إِذْ لَا يَجْهَلُ الرَّسُولُ مَا كُلِّفَ بِهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام بِطَرِيقَةِ التَّذْكِيرِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْغَمُّ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

(١) فِي المطبوعة: (فصلت) وَهُوَ خطأ.

فَإِنْ أُرِيدَ مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ مِنَّا عَلَيْهِمْ كَانَ تَتْمِيمًا لقَوْله: وَما جَعَلْناكَ (١) عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَإِنْ أُرِيدَ مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ مِنْهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ نَفْعِهِمْ كَانَ اسْتِيعَابًا لِنَفْيِ أَسْبَابِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِي عَدَمِ إِيمَانِهِمْ، يَقُولُ: مَا أَنْتَ بِوَكِيلٍ عَلَيْهِمْ وَكَّلُوكَ لِتَحْصِيلِ مَنَافِعِهِمْ كَإِيفَاءِ الْوَكِيلِ بِمَا وَكَّلَهُ عَلَيْهِ مُوَكِّلُهُ، أَيْ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ وَلَا تَقْصِيرَ لِانْتِفَاءِ سَبَبَيِ التَّقْصِيرِ إِذْ لَيْسَ مَقَامُكَ مَقَامَ حَفِيظٍ وَلَا وَكِيلٍ. فَالْخَبَرُ أَيْضًا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّذْكِيرِ بِلَازِمِهِ لَا فِي حَقِيقَتِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَعَلَى كلا الْمَعْنيين لَا بدّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى نَفْعِهِمْ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَفِيظِ وَالْوَكِيلِ هُنَا فِي خَبَرَيْنِ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الْأَنْعَام: ١٠٤] . مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكِيلِ والحفيظ فاذكره.

[١٠٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٨]

وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)

عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ١٠٦] يَزِيدُ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَيَانًا، وَيُحَقِّقُ مَا قُلْنَاهُ أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِعْرَاضِ تَرْكُ الدَّعْوَةِ بَلِ الْمَقْصُودُ الْإِغْضَاءُ عَنْ سِبَابِهِمْ وَبَذِيءِ أَقْوَالِهِمْ مَعَ الدَّوَامِ عَلَى مُتَابَعَةِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِرْسَالِ عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَإِبْطَالِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ مَعَ تَجَنُّبِ الْمُسْلِمِينَ سَبَّ مَا يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

وَالسَّبُّ: كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيرِ أَحَدٍ أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى نَقِيصَةٍ أَوْ مَعَرَّةٍ، بِالْبَاطِلِ أَوْ بِالْحَقِّ، وَهُوَ مُرَادِفُ الشَّتْمِ. وَلَيْسَ مِنَ السَّبِّ النِّسْبَةُ إِلَى خَطَأٍ فِي الرَّأْيِ أَوِ الْعَمَلِ، وَلَا

النِّسْبَةُ إِلَى ضَلَالٍ فِي الدِّينِ إِنْ كَانَ صَدَرَ مِنْ مُخَالِفٍ فِي الدِّينِ.

وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا النَّهْيِ الْمُسْلِمُونَ لَا الرّسول ﷺ لِأَنَّ

(١) فِي المطبوعة: (أَرْسَلْنَاك) .

الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فَحَّاشًا وَلَا سَبَّابًا لِأَنَّ خُلُقَهُ الْعَظِيمَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ تَرْكَهُ مِنْ وَحْيِهِ الَّذِي يُنْزِلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِغَيْرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ رُبَّمَا تَجَاوَزُوا الْحَدَّ فَفَرَطَتْ مِنْهُمْ فُرُطَاتٌ سَبُّوا فِيهَا أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ.

رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ «كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ» . وَهَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْفَقُهُ بِنَظْمِ الْآيَةِ. وَأَمَّا مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ ضَعِيفٌ وَلَهُ مُنْكَرَاتٌ وَلَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ بِلَفْظِ وَلا تَسُبُّوا وَكَانَ أَنْ يُقَالَ: وَلَا تَجْهَرُوا بِسَبِّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَثَلًا. كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ١١٠] . وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَانْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ سَادَتِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَاطَبُوهُ بِمَا رَامَوْا،

فَدَعَا رَسُول الله ﷺ فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يُرِيدُونَ أَنْ تَدَعَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ وَيَدَعُوكَ وَإِلَهَكَ، وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ.

وَلَمْ يَقِلِ السُّدِّيُّ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.

قَالَ الْفَخر: هَاهُنَا إِشْكَالَانِ هُمَا: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ

نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: عَبَدْنَا الْأَصْنَامَ لِتَكُونَ شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُ الْكُفَّارِ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.

وَأَقُولُ: يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْأَوَّلَ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلنُّزُولِ فَإِنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَقَدَّمُ زَمَانَهُ ثُمَّ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ النَّازِلَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ أَجَابَ الْفَخْرُ بِمِثْلِ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الْأَنْعَام: ١١١]

الْآيَةَ. وَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الثَّانِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ إِلَهُهُ وَلذَلِك أَنْكَرُوا الرّحمان وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورًا [الْفرْقَان: ٦٠] . فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَمِّ آلِهَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ شَيْطَانًا يَأْمر النّبيء ﷺ بِسَبِّ الْأَصْنَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ لَمَّا فَتِرَ الْوَحْيُ فِي ابْتِدَاءِ الْبِعْثَةِ: مَا أَرَى شَيْطَانَهُ إِلَّا وَدَّعَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ سُورَةِ الضُّحَى.

وَجَوَابُ الْفَخْرِ عَنْهُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ وَهُمُ الدَّهْرِيُّونَ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام فَأَجْرَى اللَّهُ شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: ١٠]» اهـ. فَإِنَّ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدًا لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.

وَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِثْبَاتِ نَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٩] . وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الْأَعْرَاف: ١٩٥] فَلَيْسَ مِنَ الشَّتْمِ وَلَا مِنَ السَّبِّ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ وَلَيْسَ تَصَدِّيًا لِلشَّتْمِ، فَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَلِمَاتِ الذَّمِّ وَالتَّعْبِيرِ لِآلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا رُوِيَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ جَاءَ رَسُولًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى رَسُول الله ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَهُ: «وَايْمُ اللَّهِ لَكَأَنِّي

بِهَؤُلَاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ»، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حَاضِرًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ «امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ» إِلَى آخَرَ الْخَبَرِ.

وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّبَّ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ اسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيَنْهَضُ بِهِ الْمُحِقُّ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُبْطِلُ، فَأَمَّا السَّبُّ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ لِلْمُحِقِّ وَلِلْمُبْطِلِ فَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا.

وَرُبَّمَا اسْتَطَاعَ الْمُبْطِلُ بِوَقَاحَتِهِ وَفُحْشِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُحِقُّ، فَيَلُوحُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى الْمُحِقِّ. عَلَى أَنَّ سَبَّ آلِهَتِهِمْ لَمَّا كَانَ يَحْمِي غَيْظَهُمْ وَيَزِيدُ تَصَلُّبَهُمْ قَدْ عَادَ مُنَافِيًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَقَدْ قَالَ لِرَسُولِهِ- عليه الصلاة والسلام «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ- عليهما السلام «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا»، فَصَارَ السَّبُّ عائقا من الْمَقْصُودِ

مِنَ الْبِعْثَةِ، فَتَمَحَّضَ هَذَا السَّبُّ لِلْمَفْسَدَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَشُوبًا بِمَصْلَحَةٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ إِذا خيف إفضاؤه إِلَى مَفْسَدَةٍ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ مَصْلَحَةٌ بِالذَّاتِ وَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ بِالْعَرْضِ. وَذَلِكَ مَجَالٌ تَتَرَدَّدُ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَحَقُّقًا وَاحْتِمَالًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ كُلِّهَا.

وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حُكْمُهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنَّهُ إِنْ سَبَّ الْمُسْلِمُونَ أَصْنَامَهُ أَوْ أُمُورَ شَرِيعَتِهِ أَنْ يَسُبَّ هُوَ الْإِسْلَامَ أَوِ النَّبِيءَ- عليه الصلاة والسلام أَو اللَّهَ عز وجل لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلَا كَنَائِسَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ اهـ، أَيْ عَلَى زِيَادَةِ الْكُفْرِ. وَلَيْسَ مِنَ السَّبِّ إِبْطَالُ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ فِي مَقَامِ الْمُجَادَلَةِ وَلَكِنَّ السَّبَّ أَنْ نُبَاشِرَهُمْ فِي غَيْرِ مُقَامِ الْمُنَاظَرَةِ بِذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَصْدُرُ

مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سبّ النّبيء ﷺ بِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَرَ مِنْهُمْ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَلَا يُعَدُّ سَبًّا وَإِنْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ عُدَّ سَبًّا، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: «مَا بِهِ كُفْرٌ وَغَيْرُ مَا بِهِ كُفْرٍ» .

وَقَدِ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِمَسْأَلَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «مَنَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إِلَى مَحْظُورٍ وَلِأَجْلٍ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ» . وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٣] عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِه الْآيَة أصل من أصُول إِثْبَات الذّرائع الّتي انْفَرد بهَا مَالِكٌ- رضي الله عنه وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنهما مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ اهـ. وَفَسَّرَ الْمَازِرِيُّ فِي بَابِ بُيُوعِ الْآجَالِ مِنْ «شَرْحِهِ لِلتَّلْقِينِ» سَدَّ الذَّرِيعَةِ بِأَنَّهُ مَنْعُ مَا يَجُوزُ لِئَلَّا يُتَطَرَّقَ بِهِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ اهـ. وَالْمُرَادُ: سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ فِي «تَنْقِيحِ الْفُصُولِ» وَفِي «الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ» فَقَالَ: الذَّرِيعَةُ: الْوَسِيلَةُ إِلَى الشَّيْءِ. وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ.

وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مُعْتَبَرٌ إِجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي

طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ. وَثَانِيهَا: مُلْغًى إِجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ لِخَشْيَةِ الْخَمْرِ، وَكَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنَا. وَثَالِثُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ- رضي الله عنه الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ اهـ. وَعَنَى بِالْمُخَالِفِ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ- رضي الله عنهما.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ

شُعْبَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ إِعْطَاءِ الْوَسِيلَةِ حُكْمَ الْمَقْصِدِ خَاصَّةً بِوَسَائِلِ حُصُولِ الْمَفْسَدَةِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي حَكَى الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِيهِ. وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عُنْوَانٌ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَا تَعَرَّضُوا لَهَا بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فِي عِدَادِ الْأُصُولِ الْمَوْهُومَةِ فِي خَاتِمَةِ الْقُطْبِ الثَّانِي فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ.

وعَدْوًا- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ «يَسُبُّوا» لِأَنَّ الْعَدْوَ هُنَا صِفَةٌ لِلسَّبِّ، فَصَحَّ أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّهُ فِي الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَيَانًا لِنَوْعِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ عَدْوًا- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ- وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْعَدْوِ.

وَوَصْفُ سَبِّهِمْ بِأَنَّهُ عَدْوٌ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ سَبَّ الْمُسْلِمِينَ أَصْنَامَ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ السَّبَّ عَدْوًا سَوَاءً كَانَ مُرَادًا بِهِ اللَّهُ أَمْ كَانَ مُرَادًا بِهِ مَنْ يَأْمر النّبيء ﷺ بِمَا جَاءَ بِهِ لِأَنَّ الَّذِي أَمر النّبيء ﷺ بِمَا جَاءَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اللَّهُ تَعَالَى فَصَادَفُوا الِاعْتِدَاءَ عَلَى جَلَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ حَالٌ من ضمير فَيَسُبُّوا، أَيْ عَنْ جَهَالَةٍ، فَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ لَا يَزَعُهُمْ وَازِعٌ عَنْ سَبِّهِ، وَيَسُبُّونَهُ غَيْرَ عَالِمِينِ بِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَسُبُّونَ مَنْ أَمر محمّدا ﷺ بِمَا جَاءَ بِهِ فَيُصَادِفُ سَبُّهُمْ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ صِفَةً لِ عَدْوًا كَاشِفَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعِظَمِ الْجُرْمِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ، أَوْ عَنْ عِلْمٍ بِذَلِكَ لَكِنَّ حَالَةَ إِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ تُشْبِهُ حَالَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مَعْنَاهُ كَتَزْيِينِنَا لِهَؤُلَاءِ سُوءَ عَمَلِهِمْ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ

عَمَلَهُمْ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ- إِلَى قَوْلِهِ- فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: ١٠٠- ١٠٨] . فَإِنَّ اجْتِرَاءَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ وَعَمَاهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي سُوءِ عَوَاقِبِهَا نَشَأَ عَنْ تَزْيِينِهَا فِي نُفُوسِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ أَنَّهَا طَرَائِقُ نَفْعٍ لَهُمْ وَنَجَاةٍ وَفَوْزٍ فِي الدُّنْيَا بِعِنَايَةِ أَصْنَامِهِمْ. فَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَبِمُمَاثِلِ هَذَا التَّزْيِينِ زَيَّنَ اللَّهُ أَعْمَالَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَعَثُوا فِيهِمْ فَكَانُوا يُشَاكِسُونَهُمْ وَيَعْصُونَ نُصْحَهُمْ وَيَجْتَرِئُونَ عَلَى رَبِّهِمُ الَّذِي بَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا شَبَّهَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ تَزْيِينًا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ مَا وَقَعَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّزْيِينِ. وَقَدْ جَرَى اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:

وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَنَظَائِرِهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ بَلْ بِأَحْوَالٍ أَعَمُّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوَعُّدِ بِأَنْ سَيَحُلُّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنَ الْعَذَابِ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا.

وَحَقِيقَةُ تَزْيِينِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ بِعُقُولٍ يَحْسُنُ لَدَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٨] . وَذَلِكَ هُوَ الْقَانُونُ فِي نَظَائِرِهِ.

وَالتَّزْيِينُ تَفْعِيلٌ مِنَ الزَّيْنِ، وَهُوَ الْحُسْنُ أَوْ مِنَ الزِّينَةِ، وَهِيَ مَا يُتَحَسَّنُ بِهِ الشَّيْءُ.

فَالتَّزْيِينُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا زِينَةٍ أَوْ إِظْهَارُهُ زَيْنًا أَوْ نِسْبَتُهُ إِلَى الزَّيْنِ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى إِظْهَارِهِ فِي صُورَةِ الزَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالتَّفْعِيلُ فِيهِ لِلنِّسْبَةِ مِثْلُ التَّفْسِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ٧] بِمَعْنَى جَعَلَهُ زَيْنًا، فَالتَّفْعِيلُ لِلْجَعْلِ لِأَنَّهُ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ.

وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الْأُمَمِ عَقَّبَ الْكَلَامَ بِ ثُمَّ الْمُفِيدَةِ التَّرْتِيبَ الرُّتْبِيَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ

بِ ثُمَّ أَعْظَمُ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِ ثُمَّ أَشَدُّ وَأَنْكَى فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا زائل غير مؤيّد. وَالْمَعْنَى أعظم مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ فَيُحَاسِبُهُمْ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى لَفْظِ رَبِّهِمْ لِقَصْدِ تَهْوِيلِ الْوَعِيدِ وَتَعْلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ بِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مَالِكِهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ فَكَفَرُوا نِعَمَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ فَكَانُوا كَالْعَبِيدِ الْآبِقِينَ يَطُوفُونَ مَا يَطُوفُونَ ثُمَّ يَقَعُونَ فِي يَدِ مَالِكِهِمْ.

وَالْإِنْبَاءُ: الْإِعْلَامُ، وَهُوَ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي لَازِمِ

مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالْعِقَابُ، لِأَنَّ الْعِقَابَ هُوَ الْعَاقِبَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ إِعْلَامِ الْمُجْرِمِ بِجُرْمِهِ.

وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَنِ الْمَرْجِعِ مُؤْذِنَةٌ بِسُرْعَةِ الْعِقَابِ إِثْرَ الرّجوع إِلَيْهِ.

[١٠٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٠٩]

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)

عطف جُمْلَةُ: وَأَقْسَمُوا عَلَى جُمْلَةِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: ١٠٦] الْآيَةَ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: ٦٦] مِثْلُ الضَّمَائِرِ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ وَمَعْنَى: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ آيَةٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَعَلُّلَاتِهِمْ لِلتَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَجِ الدَّامِغَةِ لَهُمْ، كَانُوا قَدْ تَعَلَّلُوا بِهِ فِي بَعْضِ تَوَرُّكِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَالْكَلْبِيِّ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُول الله ﷺ آيَةً مِثْلَ آيَةِ مُوسَى- عليه السلام إِذْ ضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ، أَوْ مِثْلَ آيَةِ صَالِحٍ، أَوْ مِثْلَ آيَةِ عِيسَى- عليهم السلام، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا

سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاء: ٤] أَقْسَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ كَمَا سَأَلُوا أَوْ كَمَا تَوَعَّدُوا لَيُوقِنُنَّ أَجْمَعُونَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- عليه الصلاة والسلام سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا، حِرْصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. فَهَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جَمَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمُحَاجَّاتِهِمْ.

وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ هُوَ نَحْوُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣] أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. وَالْأَيْمَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٥] .

وَجُمْلَةُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ إِلَخْ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ جُعِلَ شَرْطًا فِي الْقَسَمِ فَتَدُلُّ عَلَى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ غَالِبًا، وَقَدْ جَاءَتْ هُنَا مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُلَازِمَةً لِلشَّرْطِ الْوَاقِعِ جَوَابًا لِلْقَسَمِ فَلَمْ تَنْفَكَّ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ فِعْلِ الْقَسَمِ. وَاللَّامُ فِي لَيُؤْمِنُنَّ بِها لَامُ الْقَسَمِ، أَيْ لَامُ جَوَابِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا اقْتَرَحُوهُ على الرّسول ﷺ يَعْنُونَ بِهَا خَارِقَ عَادَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ

أَجَابَ مُقْتَرَحَهُمْ لِيُصَدِّقَ رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام، فَلِذَلِكَ نُكِّرَتْ آيَةٌ، يَعْنِي: أَيَّةَ آيَةٍ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْحَصِرُ فِيهِ الْآيَاتُ فِي زَعْمِهِمْ. وَمَجِيءُ الْآيَةِ مُسْتَعَارٌ لِظُهُورِهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الظَّاهِرَ يُشْبِهُ حُضُورَ الْغَائِبِ فَلِذَلِكَ يُسْتَعَارُ لَهُ الْمَجِيءُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ وَاشْتِقَاقِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَمَعْنَى كَوْنِ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ الْآيَاتِ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَأَسْبَابُ إِيجَادِ الْآيَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُبِّهَتْ بِالْأُمُورِ الْمُدَّخَرَةِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا شَاءَ إبرازها أبرزها لِلنَّاسِ، فَكَلِمَةُ عِنْدَ هُنَا مَجَازٌ. اسْتُعْمِلَ اسْمُ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَادِ وَالِاسْتِئْثَارِ مَجَازًا مُرْسَلًا، لِأَنَّ الِاسْتِئْثَارَ مِنْ لَوَازِمِ حَالَةِ الْمَكَانِ الشَّدِيدِ الْقُرْبِ عُرْفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَام: ٥٩] .

وَالْحَصْرُ بِ إِنَّمَا رَدَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ظَنَّهُمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ فِي مَقْدُور النّبيء ﷺ إِنْ كَانَ نَبِيئًا فَجَعَلُوا عَدَمَ إِجَابَة النّبيء ﷺ اقْتِرَاحَهُمْ آيَةً أَمَارَةً عَلَى انْتِفَاءِ نُبُوءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ لَا عِنْدَ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَرَأَ الْأَكْثَرُ (أَنَّهَا) - بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ» -. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) -.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَعَلَيْهِ فَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقَبَةُ حَيْرَةٍ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مَعْنَاهَا وَنَظْمِهَا وَلْنَأْتِ عَلَى مَا لَاحَ لَنَا فِي مَوْقِعِهَا وَنَظْمِهَا وَتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا، ثُمَّ نَعْقُبُهُ بِأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ. فَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ الْجُمْلَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا وَاوَ الْعَطْفِ وَأَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ. فَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهَا وَاوَ الْعَطْفِ فَأَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ كَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ، وَهِيَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ- عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.

وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام وَالْمُؤْمِنُونَ،

وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ لَا تُؤْمِنُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما يُشْعِرُكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر الرّسول ﷺ أَنْ يَقُولَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.

وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّشْكِيكِ وَالْإِيقَاظِ، لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ قَسَمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُرَوَّجُ عَلَيْهِمْ تُرَّهَاتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِي الِاسْتِفْهَامِ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَلَا التَّوْبِيخِ وَلَا التَّغْلِيظِ إِذْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُؤْثَرُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يَقْتَضِي إِرَادَةَ توبيخهم وَلَا تغليطهم، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ طَمِعُوا فِي حُصُولِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَنْ يُجَابُوا إِلَى إِظْهَارِ آيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِمْ، وَكَيف والمسلمون يقرأون قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ وَهِيَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٦، ٩٧] وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ كَذِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي الدِّينِ وَتَلَوُّنَهُمْ فِي اخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَسِيقَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنْ شَأْنه أَن يهيّء نَفْسَ السَّامِعِ لِطَلَبِ جَوَابِ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ فَيَتَأَهَّبُ لِوَعْيِ مَا يَرُدُّ بَعْدَهُ.

وَالْإِشْعَارُ: الْإِعْلَامُ بِمَعْلُومٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى وَيَدِقَّ. يُقَالُ: شَعَرَ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ عَلِمَهُ وَتَفَطَّنَ لَهُ، فَالْفِعْلُ يَقْتَضِي مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَ مَفْعُولِهِ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ.

وَهَمْزَةُ (أَنَّ) مَفْتُوحَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالْمَعْنَى أَمُشْعِرٌ يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ.

فَهَذَا بَيَانُ الْمَعْنَى وَالتَّرْكِيبِ، وَإِنَّمَا الْعُقْدَةُ فِي وُجُودِ حَرْفِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ مَا يُشْعِرُكُمْ بِمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا يُدْرِيكُمْ، وَمُعْتَادُ الْكَلَامِ فِي نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ الدِّرَايَةِ فِيهِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَظُنَّ الْمُخَاطَبُ وُقُوعَهُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُظَنُّ وُقُوعُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَسَمُهُمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ فَلَمَّا جعل متعلّق فعل الشُّعُورِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا غَرِيبًا بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي اسْتِعْمَالِ نَظِيرِ هَذَا التَّرْكِيبِ.

وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ فِي خَصَائِصِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَفُرُوقِهِ أَنْ لَا يُقَاسَ قَوْلُهُ: وَما

يُشْعِرُكُمْ

عَلَى مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مَا يُدْرِيكَ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ مَا يُدْرِيكَ شَاعَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بِاسْتِعْمَالٍ خَاصٍّ لَا يَكَادُونَ يُخَالِفُونَهُ كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْأَمْثَالِ أَنْ لَا تُغَيَّرَ عَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ (مَا) فِيهِ اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ يُدْرِيكَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ. فَلَوْ قِسْنَا اسْتِعْمَالَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ (مَا يُدْرِيكُمْ) لَكَانَ وُجُودُ حَرْفِ النَّفْيِ مُنَافِيًا لِلْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ مُثَارُ تَرَدُّدِ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِي مَحْمَلِ لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

فَأَمَّا حِينَ نَتَطَلَّبُ وَجْهَ الْعُدُولِ فِي الْآيَةِ عَنِ اسْتِعْمَالِ تَرْكِيبِ (مَا يُدْرِيكُمْ) وَإِلَى إِيثَارِ تَرْكِيبِ مَا يُشْعِرُكُمْ فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ لِمُرَاعَاةِ خُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَعْدُولِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ لَيْسَ مُتَّبَعًا فِيهِ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَلِذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا يَسْمَحُ بِهِ الْوَضْعُ وَالنَّظْمُ فِي اسْتِعْمَالِ الأدوات وَالْأَفْعَال ومفاعليها وَمُتَعَلِّقَاتِهَا (١) .

(١) اعْلَم أَن قَوْلهم مَا يدْريك لَهُ ثَلَاثَة استعمالات. أَحدهَا: أَن يكون مرَادا بِهِ (الرَّد) على الْمُخَاطب فِي ظن يَظُنّهُ فَيُقَال لَهُ مَا يدْريك أَنه كَذَا فَيجْعَل مُتَعَلق فعل الدِّرَايَة هُوَ الظَّن الَّذِي يُرِيد الْمُتَكَلّم رده على الْمُخَاطب وَهَذَا الِاسْتِعْمَال يجْرِي فِيهِ تركيب مَا يدْريك وَمَا أَدْرَاك وَمَا تصرف مِنْهُمَا مجْرى الْمثل فَلَا يُغير عَن اسْتِعْمَاله، وَيكون الِاسْتِفْهَام فِيهِ إنكاريا، وَيلْزم أَن يكون مُتَعَلق الدِّرَايَة على نَحْو ظن الْمُخَاطب من إِثْبَات أَو نفى نَحْو مَا يدْريك أَنه يفعل وَمَا يدْريك أَنه لَا يفعل.

ثَانِيهَا: أَن يرد بعد فعل الدِّرَايَة حرف الرَّجَاء نَحْو: مَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى، إِذا كَانَ الْمُخَاطب غافلا عَن ظَنّه وَهُوَ الِاسْتِعْمَال الَّذِي على مثله خرج الْخَلِيل قَوْله تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَاء على ترادف فعل يشعركم وَفعل يدريكم. ثَالِثهَا: نَحْو وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة، مِمَّا وَقع بعده (مَا) الاستفهامية لقصد التهويل.

فَلْنَحْمِلِ اسْمَ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا عَلَى مَعْنَى التَّنْبِيهِ وَالتَّشْكِيكِ فِي الظَّنِّ، وَنَحْمِلْ فِعْلَ يُشْعِرُكُمْ عَلَى أَصْلِ مُقْتَضَى أَمْثَالِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْيُ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ بِإِتْيَانِ آيَةٍ وَإِثْبَاتِهِ سَوَاءً فِي الْفَرْضِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الِاسْتِفْهَامُ، فَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنْ يَقُولَ: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ جَانِبُ النَّفْيِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي هَذَا الظَّنِّ.

هَذَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ. وَلِلْفُرُوقِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي اعْتِبَارَاتٌ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ عِلْمِ الْمَعَانِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْهَا، وَكَثِيرًا مَا بَيْنَ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَصْنَافًا مِنْهَا فَلْيُلْحَقْ هَذَا الْفَرْقُ بِأَمْثَالِهِ.

وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا قِيَاسَ مَا يُشْعِرُكُمْ عَلَى (مَا يُدْرِيكُمْ) سَوَاءً، كَمَا سَلَكَهُ الْمُفَسِّرُونَ فَاجْعَلِ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ (مَا يُدْرِيكَ) هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ مَا يُشْعِرُكُمْ وَاجْعَلْ تَعْلِيقَ الْمَنْفِيِّ بِالْفِعْلِ جَرْيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِنُكْتَةِ ذَلِكَ الْإِيمَاءِ وَيَسْهُلُ الْخَطْبُ. وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ وَاوَ الْحَالِ فَتَكُونُ «مَا» نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بِجُمْلَةِ يُشْعِرُكُمْ. وَمَعْنَاهَا شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا الشَّيْءُ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٦، ٩٧]، وَكَذَلِكَ مَا جَرَّبُوهُ مِنْ تَلَوُّنِ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّفَصِّي مِنْ تَرْكِ دِينِ آبَائِهِمْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالِاسْتِقْرَاءَ أَشْعَرَكُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَا تَطْمَعُوا فِي إِيمَانِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَلَا فِي صِدْقِ أَيْمَانِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ١٢] . وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ جَعْلِ «مَا» نَكِرَةً مَوْصُوفَةً فِي حِينِ إِنَّهُمْ تَطَرَّقُوا إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ.

فَإِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ يُشْعِرُكُمْ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ.

وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّنَا نَأْتِيكُمْ بِآيَةٍ كَمَا تُرِيدُونَ.

وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفَاتٍ تَكَلَّفَهَا الْمُفَسِّرُونَ، فَفِي «الْكَشَّافِ»: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ طَمِعُوا فِي إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَتَمَنَّوْا مَجِيئَهَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى جَعْلِ مَا يُشْعِرُكُمْ مُسَاوِيًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لِقَوْلِهِمْ مَا يُدْرِيكَ.

وَرَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّها مَعْنَاهُ لَعَلَّهَا، أَيْ لَعَلَّ آيَةً إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. وَقَالَ: تَأَتَّى (أَنْ) بِمَعْنَى لَعَلَّ، يُرِيدُ أَنَّ فِي لَعَلَّ لُغَةً تَقُولُ: لِأَنَّ، بِإِبْدَالِ الْعَيْنِ هَمْزَةً وَإِبْدَالِ اللَّامِ الْأَخِيرَةِ نُونًا، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَحْذِفُونَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا كَمَا يَحْذِفُونَهَا فِي قَوْلِهِمْ: عَلَّكَ أَنْ تَفْعَلَ، فَتَصِيرُ (أَنَّ) أَيْ (لَعَلَّ) . وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدُوا أَبْيَاتًا.

وَعَنِ الْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ لَا زَائِدَةٌ، كَمَا ادَّعَوْا زِيَادَتَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥] .

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ جَعَلَ أَنَّها تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ أَي لَا

تأتيهم بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ كِنَايَةً عَنْ مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوهُ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ، وَأَبِي بَكْرٍ، فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّها- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- يَكُونُ اسْتِئْنَافًا. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يُشْعِرُكُمْ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ بِإِيمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ آيَةٌ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ- بِتَاءِ الْمُخَاطَبِ-. فَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ خَلَفٍ الَّذِي قَرَأَ إِنَّهَا- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-، أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ أَنَّها إِذا جاءَتْ

إِلَخْ خِطَابًا مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ اللَّذَيْنِ قَرَآ أَنَّها- بِفَتْح الْهمزَة- فَأن يُجْعَلَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَقْفِ على يُشْعِرُكُمْ.

[١١٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٠]

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩] فَتَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩]، أَيْ بِأَنْ نُعَطِّلَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَعُقُولَهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فَلَا يُبْصِرُونَ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَلَا تَفْقَهُ قُلُوبُهُمْ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فَيَتَعَطَّلُ تَصْدِيقُهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْرِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ إِصْلَاحِ إِدْرَاكِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ خُلِقَتْ عُقُولُهُمْ نَابِيَةً عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَا هَيَّأَ لَهَا ذَلِكَ مِنِ انْسِلَالِهَا مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ نَشْأَتِهَا بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ وَتَلَقِّي ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا بَيَّنْتُهُ آنِفًا. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ الْمُخَالِفِ لِلْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ بِأَنَّهُ تَقْلِيبٌ لِعُقُولِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْلُوبَةً عَنِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَلَيْسَ دَاعِيَ الشِّرْكِ فِيهَا تَقْلِيبًا عَنْ حَالَةٍ كَانَتْ صَالِحَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ حِينًا، وَلَكِنَّهُ تَقْلِيبٌ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ مَا الشَّأْنِ أَنْ تَجِيءَ عَلَيْهِ.

وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ [الْأَنْعَام: ١٠٩] فَإِنَّهُمْ عَنَوْا آيَةً غَيْرَ الْقُرْآنِ.

وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِتَشْبِيهِ حَالَةِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ تَجِيئَهُمْ آيَةٌ مِمَّا اقْتَرَحُوا. وَالْمَعْنَى وَنُقَلِّبُ أَيْدِيَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآيَةِ الَّتِي تَجِيئُهُمْ مِثْلَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلُ، فَتَقْلِيبُ أَفْئِدَتِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ فِي

الدُّنْيَا، وَهُوَ الْخِذْلَانُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مُسْتَأْنِفَةً وَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ،

أَوْ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩] . وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كِنَايَةً عَنْ تَقْلِيبِ أَجْسَادِهِمْ كُلِّهَا. وَخَصَّ مِنْ أَجْسَادِهِمْ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦]، أَيْ سَحَرُوا النَّاسَ بِمَا تُخَيِّلُهُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ.

وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨] .

وَأَقُولُ: هَذَا الْوَجْه يناكده قَوْلُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَرَّتَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنَّهَا الْحَيَاةُ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا.

وَالتَّقْلِيبُ مَصْدَرُ قَلَّبَ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ قَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْقَلْبُ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعْلِ الْمُقَابِلِ لِلنَّظَرِ مِنَ الشَّيْءِ غَيْرَ مُقَابِلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف: ٤٢]، وَقَوْلِهِمْ: قَلَبَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] وَيَكُونُ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ حَالَةِ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ قَلْبَ ذَاتِ الشَّيْءِ.

وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩]، وَ«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُونَ مِثْلَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: ٦٦]، أَيْ أَنَّ الْمُكَابَرَةَ سَجِيَّتُهُمْ فَكَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الْمَاضِي بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام لَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِآيَةٍ أُخْرَى إِذَا جَاءَتْهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مُعْتَرِضًا بِالْعَطْفِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ التَّشْبِيهَ لِلتَّقْلِيبِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي نُقَلِّبُ، أَيْ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ فِطْرَةِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ كَمَا قَلَّبْنَاهَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ جَمَحُوا عَنِ

الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ- عليه الصلاة والسلام، وَيَصِيرُ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي قُوَّةِ الْبَيَانِ لِلتَّقْلِيبِ الْمَجْعُولِ حَالًا مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ سَبَبَ صُدُورِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَزَالُ قَائِمًا لِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ إِصْلَاحَ قُلُوبِهِمْ.

وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِيهَا، وَخُرِّجَ

عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨] . فَالْمَعْنَى: نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَابَرُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلَ مَا تَحَدَّاهُمْ، فَنَجْعَلُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ مُسْتَمِرَّةَ الِانْقِلَابِ عَنْ شَأْنِ الْعُقُولِ وَالْأَبْصَارِ، فَهُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِعْثَةِ رَسُولِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.

وَتَقْدِيمُ الْأَفْئِدَةِ عَلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ بِمَعْنَى الْعُقُولِ، وَهِيَ مَحَلُّ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَإِذَا لَاحَ لِلْقَلْبِ بَارِقُ الِاسْتِدْلَالِ وَجَّهَ الْحَوَاسَّ إِلَى الْأَشْيَاءِ وَتَأَمَّلَ مِنْهَا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْأَفْئِدَةِ عَنِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ تَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ، مِثْلُ آيَةِ الْأُمِّيَّةِ وَآيَةِ الْإِعْجَازِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُفَّهُمُ الْآيَاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ لِأَنَّهَا مُقَلَّبَةٌ عَنِ الْفِطْرَةِ وَسَأَلُوا آيَاتٍ مَرْئِيَّةً مُبْصَرَةً، كَأَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَيُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ، أخبر الله رَسُوله ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مُبْصَرَةٌ لَمَا آمَنُوا لِأَنَّ أَبْصَارَهُمْ مُقَلَّبَةٌ أَيْضًا مِثْلُ تَقْلِيبِ عُقُولِهِمْ.

وَذُكِّرَ أَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَرَّةٍ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ أَصْلَ «أَوَّلَ» اسْمُ تَفْضِيلٍ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى النَّكِرَةِ تَعَيَّنَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، كَمَا تَقُولُ: خَدِيجَةُ أَوَّلُ النِّسَاءِ إِيمَانًا وَلَا تَقُولُ أُولَى النِّسَاءِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَرَّةِ مَرَّةٌ مِنْ مَرَّتَيْ مَجِيءِ الْآيَاتِ، فَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ، وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَجِيءُ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ، وَهِيَ مَرَّةٌ مَفْرُوضَةٌ.

وَنَذَرُهُمْ عَطْفٌ عَلَى نُقَلِّبُ. فَحُقِّقَ أَنَّ مَعْنَى نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ نَتْرُكُهَا عَلَى انْقِلَابِهَا الَّذِي خُلِقَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مَمْلُوءَةً طُغْيَانًا وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَكَانَتْ تَصْرِفُ أَبْصَارَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَأَصُّلِهِ فِيهِمْ وَنَشْأَتِهِمْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ حُرِمُوا لِينَ الْأَفْئِدَةِ الَّذِي تَنْشَأُ عَنْهُ الْخَشْيَةُ وَالذِّكْرَى.

وَالطُّغْيَانُ وَالْعَمَهُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥] .

وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي طُغْيانِهِمْ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الطُّغْيَانِ بِهِمْ، أَيْ بِقُلُوبِهِمْ. وَجُمْلَةُ: وَنَذَرُهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى نُقَلِّبُ. وَجُمْلَةُ يَعْمَهُونَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: وَنَذَرُهُمْ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أنّ العمه ناشيء عَن الطّغيان.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١١]

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)

جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ [الْأَنْعَام: ١٠٩] بِاعْتِبَارِ كَوْنِ جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٠٩]، فَتَكُونُ ثَلَاثَتُهَا رَدًّا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ [الْأَنْعَام: ١٠٩] إِلَخْ، وَبَيَانًا لِجُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩] .

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثَ بْنَ حَنْظَلَةَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَتَوْا رَسُول الله ﷺ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: «أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ لَكَ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا فَنَسْأَلْهُمْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ»، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يُحْشَرَ قُصَيٌّ فَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِكَ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا- أَيْ كَفِيلًا-» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: [٩٠- ٩٢] . وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مُسَايَرَةً لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ يُشِيرُ إِلَى مَجْمُوعِ مَا سَأَلُوهُ وَغَيْرِهِ.

وَالْحَشْرُ:

الْجَمْعُ، وَمِنْهُ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: ١٧] . وَضُمِّنَ مَعْنَى الْبَعْثِ والإرسال فعدّي بعلى كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا [الْإِسْرَاء: ٥] . وكُلَّ شَيْءٍ يَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا. لَكِنَّ الْمَقَامَ يُخَصِّصُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوهُ، أَوْ مِنْ جِنْسِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْآيَاتِ، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي رِيحِ عَادٍ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَاف: ٢٥] وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى.

وَقَوْلُهُ: قُبُلًا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ-، وَهُوَ

بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ، أَيْ حَشَرْنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِيَانًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي قِبَلَ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُعَايَنَةِ وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَغَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِلْمَعْنَى.

وَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا هُوَ أَشَدُّ مِنْ (لَا يُؤْمِنُونَ) تَقْوِيَةً لِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ، مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ مُكَابِرُونَ غَيْرُ طَالِبِينَ لِلْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا الْحَقَّ بِإِنْصَافٍ لَكَفَتْهُمْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ، إِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ وُضُوحُ الْحَقِّ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام. فَالْمَعْنَى:

الْإِخْبَارُ عَنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي أَجْدَرِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ يُؤْمِنَ لَهَا مَنْ يُؤْمِنُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ انْتِفَاءُ إِيمَانِهِمْ أَبَدًا.

وَلَوْ هَذِهِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةُ، وَسَنَشْرَحُ الْقَوْلَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٣] .

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عُمُومُ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَيْ حَالُ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَغْيِيرَ قُلُوبِهِمْ فَيُؤْمِنُوا طَوْعًا، أَوْ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ. فَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعْرِيضٌ بِوَعْدِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَحُذِفَتِ الْبَاءُ مَعَ «أَنْ» .

وَوَقَعَ إِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِأَنَّ اسْم الْجَلالَة يوميء إِلَى مَقَامِ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ مقَام لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]، ويومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ.

وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَا سَأَلُوا الْآيَاتِ إِلَّا لِتَوْجِيهِ بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّلُونَ بِالْعِلَلِ بِطَلَبِ الْآيَاتِ اسْتِهْزَاءً، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ- فِي نَظَرِهِمْ- مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا شَاءَ إِيمَانَهُمْ آمَنُوا، فَالْجَهْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ عُقَلَاءَ يَحْسَبُونَ ذَلِكَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعًا إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ: مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ

مَعَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ لَهُمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ جَهْلًا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَهْلِ ضِدَّ الْحِلْمِ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ، وَإِسْنَادُ الْجَهْلِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِإِخْرَاجِ قَلِيلٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْحِلْمِ فَإِنَّهُمْ يُرْجَى إِيمَانُهُمْ، لَوْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ.

فَضَمِيرُ يَجْهَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ كَبَقِيَّةِ الضَّمَائِرِ الَّتِي قبله.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٢]

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)

اعْتِرَاضٌ قُصِدَ مِنْهُ تَسْلِيَة الرّسول ﷺ وَالْوَاوُ وَاوُ الِاعْتِرَاضِ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ، وَتَكون للرّسول ﷺ تَسْلِيَةً بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُحْزِنُهُ مِنْ أَحْوَالِ كُفَّارِ قَوْمِهِ، وَتَصَلُّبِهُمْ فِي نَبْذِ دَعْوَتِهِ، فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ: بِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُهُ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ أَمْثَالِهِمْ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِلَاءِ أَنْبِيَائِهِ كُلِّهِمْ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ أَعْدَاءٌ، فَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَةُ هَؤُلَاءِ لِلنَّبِيءِ عليه الصلاة والسلام بِدْعًا مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَلَسْتَ نَبِيئًا وَقَدْ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا- إِلَى آخِرِهِ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِلَى الْجَعْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ جَعَلْنا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [الْبَقَرَة: ١٤٣] . فَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ جَعَلْنا.

وَقَوْلُهُ: عَدُوًّا مَفْعُولُ جَعَلْنا الْأَوَّلُ، وَقَوله: لِكُلِّ نَبِيٍّ الْمَجْرُورُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ جَعَلْنا وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَنْبِيَائِهِ كُلِّهِمْ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةُ وَالتَّسْلِيَةُ وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَنْبِيهًا- مِنْ أَوَّلِ السَّمْعِ- عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:

عَدُوًّا كَيْلَا يَخَالَ السَّامِعُ أَنَّ قَوْلَهُ: شَياطِينَ الْإِنْسِ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ يُحَوِّلُ الْكَلَامَ إِلَى قَصْدِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ، أَوْ عَنْ تَعْيِينِ الْعَدُوِّ لِلْأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ، وَذَلِكَ يُنَافِي بَلَاغَةَ الْكَلَامِ.

وَ(شَياطِينَ) بَدَلٌ مِنْ عَدُوًّا وَإِنَّمَا صِيغَ التَّرْكِيبُ هَكَذَا: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعدَاء للرّسول ﷺ، فَمَنْ أَعْرَبَ شَياطِينَ مَفْعُولا لجعل ولِكُلِّ نَبِيٍّ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ عَدُوًّا فَقَدْ أَفْسَدَ الْمَعْنَى.

وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ على الْوَاحِد والمعتدّد، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المُنَافِقُونَ: ٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢] .

وَالشَّيْطَانُ أَصْلُهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَةِ الْخَفِيَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: ١٠٢] .

وَيُطْلَقُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُضَلِّلِ الَّذِي يَفْعَلُ الْخَبَائِثَ مِنَ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَمِنْهُ «شَيَاطِينُ الْعَرَبِ» لِجَمَاعَةٍ مِنْ خَبَاثِهِمْ، مِنْهُمْ: نَاشِبٌ الْأَعْوَرُ، وَابْنُهُ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ الشَّاعِرُ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ.

وَالْإِنْسُ: الْإِنْسَانُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّأَنُّسِ وَالْإِلْفِ، لِأَنَّ الْبَشَرَ يَأْلَفُ بِالْبَشَرِ وَيَأْنَسُ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِنْسًا وَإِنْسَانًا.

وَ«شَيَاطِينَ الْإِنْسِ» اسْتِعَارَةٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ فِعْلَ الشَّيَاطِينِ: مِنْ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.

وَإِضَافَةُ شَيَاطِينَ إِلَى الْإِنْسِ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ مَجَازًا، بِنَاءً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَهُمْ شَيَاطِينُ، وَهُمْ بَعْضُ الْإِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْإِنْسَ: لَهُمْ أَفْرَادٌ مُتَعَارَفَةٌ، وَأَفْرَادٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الشَّيَاطِينِ، فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ إِضَافَةِ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ إِلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ حَقِيقَة، وَالْإِضَافَة حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الْجِنَّ مِنْهُمْ شَيَاطِينٌ، وَمِنْهُمْ غَيْرُ شَيَاطِينٍ، وَمِنْهُمْ صَالِحُونَ، وَعَدَاوَةُ شَيَاطِينِ الْجِنِّ لِلْأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةٌ، وَمَا جَاءَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: ١١٧] .

وَجُمْلَةُ يُوحِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَتَقَيَّدُ بِهَا الْجَعْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ جَعَلْنا فَهَذَا الْوَحْيُ مِنْ تَمَامِ الْمَجْعُولِ.

وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، كَالْوَسْوَسَةِ، وَأُرِيدُ بِهِ مَا يَشْمَلُ إِلْقَاءَ الْوَسْوَسَةِ فِي النَّفْسِ مِنْ حَدِيثٍ يُزَوَّرُ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ. وَالْبَعْضُ الْمُوحِي: هُوَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، يُلْقُونَ خَوَاطِرَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَيَكُونُونَ زُعَمَاءَ لِأَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ.

وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ، وَسُمِّيَ الذَّهَبُ زُخْرُفًا لِأَنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِهِ حُلِيًّا، وَإِضَافَةُ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْقَوْلِ الزُّخْرُفِ: أَيِ الْمُزَخْرَفِ، وَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ، إِذْ كَانَ بِمَعْنَى الزَّيْنِ. وَأَفْهَمَ وَصْفُ الْقَوْلِ

بِالزُّخْرُفِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحْسِينِ وَالزَّخْرَفَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْقَوْلُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يُكْسِبُهُ الْقَبُولَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ يَحْتَاجُ قَائِلُهُ إِلَى تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ لِإِخْفَاءِ مَا فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ مَنْ يُسَوِّلُهُ لَهُمْ، فَذَلِكَ التَّزْيِينُ تَرْوِيجٌ يَسْتَهْوُونَ بِهِ النُّفُوسَ، كَمَا تُمَوِّهُ لِلصِّبْيَانِ اللَّعِبَ بِالْأَلْوَانِ وَالتَّذْهِيبِ.

وَانْتَصَبَ زُخْرُفَ الْقَوْلِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مِنْ فِعْلِ يُوحِي لِأَنَّ إِضَافَةَ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ، الَّذِي هُوَ مِنْ نَوْعِ الْوَحْيِ، تجْعَل زُخْرُفَ نَائِيا عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْوَحْيِ.

وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ وَالْإِطْمَاعُ بِالنَّفْعِ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] . وَانْتَصَبَ غُرُورًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلِ يُوحِي، أَي يرحون زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَغُرُّوهُمْ.

وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ كَالْقَوْلِ فِي مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١١١] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ. الْمَأْخُوذِ مِنْ يُوحِي أَوْ إِلَى الْإِشْرَاكِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] أَوْ إِلَى الْعَدَاوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْله: لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا.

وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَوْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِتَرْكِهِمْ وَافْتِرَاءِهِمْ، وَهُوَ تَرْكُ إِعْرَاضٍ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِغُرُورِهِمْ، وَالنَّكَدِ مِنْهُ، لَا إِعْرَاضٌ عَنْ وَعْظِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:

وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ.

وَما يَفْتَرُونَ مَوْصُولٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ هُوَ أَكَاذِيبُهُمُ الْبَاطِلَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ المعتقدات الْبَاطِلَة.

[١١٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٣]

وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)

عُطِفَ قَوْلُهُ: وَلِتَصْغى على غُرُورًا [الْأَنْعَام: ١١٢] لِأَنَّ غُرُورًا فِي مَعْنَى

لِيَغُرُّوهُمْ. وَاللَّامُ لَامُ كَيْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ وَلَصَغْيِ، أَيْ مَيْلُ قُلُوبِهِمْ إِلَى وَحْيِهِمْ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ.

وَمَعْنَى تَصْغَى تَمِيلُ، يُقَالُ: صَغَى يَصْغَى صَغْيًا، وَيَصْغُو صَغْوًا- بِالْيَاءِ وَبِالْوَاوِ- وَوَرَدَتِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ- بِالْيَاءِ- لِأَنَّهُ رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ الْيَاءِ. وَحَقِيقَتُهُ الْمَيْلُ الْحِسِّيُّ، يُقَالُ: صَغَى، أَيْ مَالَ، وَأَصْغَى أَمَالَ. وَفِي حَدِيثِ الْهِرَّةِ:

أَنَّهُ أَصْغَى إِلَيْهَا الْإِنَاءَ، وَمِنْهُ أَطْلَقَ: أَصْغَى بِمَعْنَى اسْتَمَعَ، لِأَنَّ أَصْلَهُ أَمَالَ سَمْعَهُ أَوْ أُذُنَهُ، ثُمَّ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الِاتِّبَاعِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ.

وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَخَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ، فَعُرِّفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى بَعْضِ آثَارِ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ. وَهَذَا الْوَصْفُ أَكْبَرُ مَا أَضَرَّ بِهِمْ، إِذْ كَانُوا بِسَبَبِهِ لَا يَتَوَخَّوْنَ فِيمَا يَصْنَعُونَ خَشْيَةَ الْعَاقِبَةِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا يُزَيَّنُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، مُعْرِضِينَ عَمَّا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْكُفْرِ، إِذْ لَا يَتَرَقَّبُونَ جَزَاءً عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلِذَلِكَ تَصْغَى عُقُولُهُمْ إِلَى غُرُورِ الشَّيَاطِينِ.

وَلَا تَصْغَى إِلَى دَعْوَة النّبيء ﷺ وَالصَّالِحِينَ.

وَعُطِفُ وَلِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى، وَإِنْ كَانَ الصَّغْيُ يَقْتَضِي الرِّضَى وَيُسَبِّبُهُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ وَأَنْ لَا تُكَرَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالتَّعْلِيلِ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ وَأُعِيدَتِ اللَّامُ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِقْلَالِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَغْيَ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَكْفِي لِعَمَلِهِمْ بِهِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَضَوْهُ.

وَعَطْفُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ عَلَى ولِيَرْضَوْهُ كَعَطْفِ ولِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى.

وَالِاقْتِرَافُ افْتِعَالُ مِنْ قَرَفَ إِذَا كَسَبَ سَيِّئَةً، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٠] فَذَكَرَ هُنَالِكَ ل يَكْسِبُونَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْكَسْبَ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا

لِ يَقْتَرِفُونَ مَفْعُولًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا اكْتِسَابَ الشَّرِّ، وَلَمْ يَقُلْ: سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ لِقَصْدِ تَأْكِيدِ مَعْنَى الْإِثْمِ. يُقَالُ: قَرِفَ وَاقْتَرَفَ وَقَارَفَ. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تُؤْذِنُ بِأَمْرٍ ذَمِيمٍ. وَحَكَوْا أَنَّهُ يُقَالُ: قَرِفَ فُلَانٌ لِعِيَالِهِ، أَيْ كَسِبَ، وَلَا أَحْسِبُهُ صَحِيحًا.

وَجِيءَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ فِي ذَلِكَ الِاقْتِرَافِ وثباتهم فِيهِ.

[١١٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٤]

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)

اسْتِئْنَافٌ بِخِطَابٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُوله ﷺ بِتَقْدِيرِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥] أَيْ يَقُولُونَ. وَقَوْلُهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَنْعَام: ١٠٤] بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ عَنْ تَصَارِيفِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَكْذِيبِهِمْ. وَتَعَنُّتِهِمْ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ الْخَوَارِقِ، إِذْ جَعَلُوهَا حَكَمًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فِي صِدْقِ دَعْوَتِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَأمر رَسُوله ﷺ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ مَا كَلَّفَهُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِإِيمَانِهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَقَّنَ الله رَسُوله ﷺ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ خِطَابًا كَالْجَوَابِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَتَوَرُّكَاتِهِمْ، فَيُفَرَّعُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ حَاكِمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي إِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ،

وَأَنَّهُمْ إِنْ طَمِعُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَدْ طَمِعُوا مُنْكَرًا، فَتَقْدِيرُ الْقَوْلِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ عليه الصلاة والسلام.

وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْجَوَابِ عَنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِهِمْ وَمُقْتَرَحَاتِهِمْ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ بِالْفَاءِ: كَمَا جَاءَ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤]، وَمِنْهُ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٦٤]: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ فَكَأَنَّ الْمُشْركين دعوا النّبي ﷺ إِلَى التَّحَاكُمِ فِي شَأْنِ نُبُوءَتِهِ بِحُكْمِ مَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَضَعُ دِينَ اللَّهِ لِلتَّحَاكُمِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْإِنْكَارُ أَنْ يُحَكِّمَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ ظَاهِرٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ مُفَصَّلًا بِالْحَقِّ، وَبِشَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّقْدِيمِ كَوْنِ الْمُقَدَّمِ يَتَضَمَّنُ جَوَابًا لِرَدِّ طَلِبٍ طَلَبَهُ الْمُخَاطَبُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فِي هَذِه السُّورَة [الْأَنْعَام: ١٦٤] . وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الإنكاري: أَي إِن ظَنَنْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَنَنْتُمْ مُنْكَرًا.

وَتَقْدِيمُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ عَلَى أَبْتَغِي لِأَنَّ الْمَفْعُولَ هُوَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ. فَهُوَ الْحَقِيقُ بِمُوَالَاةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤] .

وَالْحَكَمُ: الْحَاكِمُ الْمُتَخَصِّصُ بِالْحُكْمِ الَّذِي لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ

الْحَاكِمِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْحَكَمُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا: الْحَاكِمُ. وَانْتَصَبَ حَكَمًا عَلَى الْحَالِ.

وَالْمَعْنَى: لَا أَطْلُبُ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ غَيْرَ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ حُكْمَهُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ أَعْدَاءٌ مُقْتَرِفُونَ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِابْتِغَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣] .

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا أَعْدِلُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ. وَقَدْ فَصَّلَ حُكْمَهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْكُمْ لِتَتَدَبَّرُوهُ فَتَعْلَمُوا مِنْهُ صِدْقِي، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ الْمَعْرِفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِتُفِيدَ الْقَصْرَ مَعَ إِفَادَةِ أَصْلِ الْخَبَرِ. فَالْمَعْنَى: وَالْحَالُ أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْزِلْهُ غَيْرُهُ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَبِأُمِّيَّةِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام تَبَعًا لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أرسل محمّدا ﷺ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَفِي تَضَاعِيفِ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارِهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ فَحَصَلَ بِصَوْغِ جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحُكْمِ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِالصِّدْقِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْكُمُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَكَمَا قَالَ اللَّهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاء: ١٦٦] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النِّسَاء: ١٧٤] وَفِي قَوْلِهِ: إِلَيْكُمُ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَجَاهُلًا.

وَالْمُفَصَّلُ الْمُبَيَّنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥] .

وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ، أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي أَوْ عَلَى

جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ، فَهُوَ عَطْفُ تَلْقِينِ عُطِفَ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ عَلَى الْكَلَامِ

الْمَنْسُوبِ إِلَى النبيء ﷺ تَعْضِيدًا لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى النبيء ﷺ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَخَاصَّةً أَهْلُ مَكَّةَ، لِتَرَدُّدِ الْيَهُودِ عَلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ. وَلِتَرَدُّدِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَنَازِلِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ وَقُرَاهَا وَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْحُكْمِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ خَاصَّةً قَالَ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَلَمْ يَقُلْ: أَهْلَ الْكِتَابِ.

وَمَعْنَى عِلْمِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ: أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مُصَدِّقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا ﷺ لَمْ يَدْرُسْ كِتَابَهُمْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ دَرَسَهُ لَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمْ، وَلَأَعْلَنُوا ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ حِينَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ. وَهُمْ أَحْرَصُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَّعُوهُ. وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِسْلَامَهُمْ لِأَنَّ الْعِنَادَ وَالْحَسَدَ يَصُدَّانِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ. مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَمُخَيْرِيقٌ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ للْعهد. وَعَنْ عَطَاءٍ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. هُمْ رُؤَسَاءُ أَصْحَاب محمّد ﷺ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. فَيَكُونُ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ.

وَضَمِيرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ. وَهِيَ مُلَابَسَةُ الدَّالِّ لِلْمَدْلُولِ، لِأَنَّ مَعَانِيَهُ، وَأَخْبَارَهُ، وَوَعْدَهُ، وَوَعِيدَهُ، وَكُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، حَقٌّ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنَزَّلٌ- بِتَخْفِيفِ الزَّايِ- وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ- بِالتَّشْدِيدِ- وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَوْ مُتَّحِدٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣] .

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: ١٤٧] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خطابا للنبيء ﷺ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ الْخَبَرِ: هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ، فَالِامْتِرَاءُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَرِيبًا اجْتِمَاعُ عِلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى

مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، أَيْ فَلَا تَكُونَنَّ- أَيُّهَا السَّامِعُ- مِنَ الْمُمْتَرِينَ، أَيِ الشَّاكِّينَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اتَّضَحَ. فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْرِكُونَ الْمُمْتَرُونَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، كَمَا يُقَالُ:

(إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ) . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] . وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، وَالتَّفْرِيعُ فِيهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.

وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ كَانَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الِامْتِرَاءِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مَقْصُودًا مِنَ الْآيَةِ.

لِتَذْهَبَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ إِلَى مَا تَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَهَذَا- فِيمَا أَرَى- مِنْ مَقَاصِدِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ الْجَامِعِ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِص الْقُرْآن.

[١١٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٥]

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

(١١٥)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الْأَنْعَام: ١١٤] لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الْأَنْعَام: ١١٤] فَلَمَّا وُصِفَ الْكِتَابُ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَوُصِفَ بِوُضُوحِ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الْأَنْعَام: ١١٤] ثُمَّ بِشَهَادَةِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: ١١٤]، أَعْلَمَ رَسُولَهُ عليه الصلاة والسلام وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ تَامُّ الدَّلَالَةِ، نَاهِضُ الْحُجَّةِ، عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ: مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، صَادِقٌ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ، عَادِلٌ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وجَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

وَالْمُرَادُ بِالتَّمَامِ مَعْنًى مَجَازِيٌّ: إِمَّا بِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَحْسَنِ مَا يَبْلُغُهُ مِمَّا يُرَادُ مِنْهُ، فَإِنَّ التَّمَامَ حَقِيقَتُهُ كَوْنُ الشَّيْءِ وَافِرًا أَجْزَاءَهُ، وَالنُّقْصَانُ كَوْنُهُ فَاقِدًا بَعْضَ أَجْزَائِهِ، فَيُسْتَعَارُ لِوَفْرَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُرَادُ مِنْ نَوْعِهِ وَإِمَّا بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ فَقَدْ يُطْلَقُ التَّمَامُ عَلَى حُصُولِ الْمُنْتَظَرِ وَتَحَقُّقِهِ، يُقَالُ: تَمَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فُلَانٌ، وَيُقَالُ: أَتَمَّ وَعْدَهُ، أَيْ حَقَّقَهُ، وَمِنْهُ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَة: ١٢٤] أَيْ عَمِلَ بِهِنَّ دُونَ تَقْصِيرٍ وَلَا تَرَخُّصٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: ١٣٧] أَيْ ظَهَرَ وَعْدُهُ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٥] الْآيَةَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصَّفّ: ٨] أَيْ مُحَقِّقٌ دِينَهُ وَمُثَبِّتُهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِتْمَامَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِطْفَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازًا أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ: كَلِمَاتُ رَبِّكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ- وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: كَلِمَةُ- بِالْإِفْرَادِ- فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ أَوِ الْكَلِمَةِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ،

وَنُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، الْمُنَاسِبُ لِجَعْلِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١١٤] . فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ فَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَقَوْلِهِ. وَالْكَلِمَةُ وَالْكَلَامُ يَتَرَادَفَانِ، وَيَقُولُ الْعَرَبُ: كَلِمَةُ زُهَيْرٍ، يَعَنُونَ قَصِيدَتَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ (الْكَلِمَاتُ) عَلَى الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الْأَعْرَاف: ١٥٨] أَيْ كُتُبِهِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْكَلِمَاتِ بِالْجَمْعِ فَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمَلِ وَالْآيَاتِ. أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ أَغْرَاضِهِ مِنْ أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَتَبْشِيرٍ، وَإِنْذَارٍ، وَمَوَاعِظَ، وَإِخْبَارٍ، وَاحْتِجَاجٍ، وَإِرْشَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى تَمَامِهَا أَنَّ كُلَّ غَرَضٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ جَاءَ وَافِيًا بِمَا يَتَطَلَّبُهُ الْقَاصِدُ مِنْهُ. وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَاتِ رَبِّكَ- بِالْجَمْعِ أَوِ الْإِفْرَادِ- الْقُرْآنَ، وَاسْتَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا:

قَوْلُ اللَّهِ، أَيْ نَفَذَ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أُثِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ وَعْدُهُ. وَقِيلَ: كَلِمَاتُ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَوَعْدُهُ، وَوَعِيدُهُ، وَفُسِّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ، لَكِنَّ السِّيَاقَ يَشْهَدُ بِأَنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ بِالْقُرْآنِ أَظْهَرُ.

وَانْتَصَبَ صِدْقًا وَعَدْلًا عَلَى الْحَالِ، عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ صَادِقَةً وَعَادِلَةً، فَهُوَ حَالٌ مِنْ كَلِمَاتُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَجَعَلَهُمَا الطَّبَرِيُّ مَنْصُوبَيْنِ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ، أَيْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ التَّمَامِ بِمَعْنَى بُلُوغِ الشَّيْءِ أَحْسَنَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا غَيْرُ صَوَابٍ. وَقُلْتُ: لَا وَجْهَ لِعَدَمِ تَصْوِيبِهِ.

وَالصِّدْقُ: الْمُطَابَقَةُ لِلْوَاقِعِ فِي الْإِخْبَارِ: وَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالنُّفُوذِ

فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَشْمَلُ الصِّدْقُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَار عَن شؤون الله وشؤون الْخَلَائِقِ.

وَيُطْلَقُ الصِّدْقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ كَامِلًا فِي خَصَائِصِ نَوْعِهِ.

وَالْعَدْلُ: إِعْطَاءُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَدَفْعُ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٨] . فَيَشْمَلُ الْعَدْلُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ: من تَدْبِير شؤون الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلْكَلِمَاتِ أَوِ الْكَلِمَةِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَبْلُغُهُ الْكُتُبُ: فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ فِي أَخْبَارِهِ، الْعَادِلُ فِي أَحْكَامِهِ، لَا يُعْثَرُ فِي أَخْبَارِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، وَلَا فِي أَحْكَامِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ التَّحَدِّي وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: نَفَذَ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَمَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ، وَمَا أَمَرَ وَنَهَى، صَادِقًا ذَلِكَ كُلُّهُ، أَيْ غَيْرُ مُتَخَلِّفٍ، وَعَادِلًا، أَيْ غَيْرُ جَائِرٍ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كلمت رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: ١٣٧] أَيْ تَمَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنِ امْتِلَاكِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الَّتِي بَارَكَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَات رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: ٦] أَيْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ وَعِيدِهِ.

وَمَعْنَى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيُ جِنْسِ مَنْ يُبَدِّلُ كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ يُبْطِلُ مَا أَرَادَهُ فِي كَلِمَاتِهِ.

وَالتَّبْدِيلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١]، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ هُوَ التَّبْدِيلُ.

وَالتَّبْدِيلُ حَقِيقَتُهُ جَعْلُ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ آخَرَ، فَيَكُونُ فِي الذَّوَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: ٤٨] وَقَالَ النَّابِغَةُ:

عَهِدْتُ بِهَا حَيًّا كِرَامًا فَبُدِّلَتْ ... خَنَاظِيلَ آجَالِ النِّعَاجِ الْجَوَافِلِ

وَيَكُونُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النُّور: ٥٥] .

وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي إِبْطَالِ الشَّيْءِ وَنَقْضِهِ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ

[الْفَتْح: ١٥] أَيْ يُخَالِفُوهُ وَيَنْقُضُوا مَا اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح: ١٥] . وَذَلِكَ أَنَّ النَّقْضَ يَسْتَلْزِمُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ ضِدِّ الشَّيْءِ الْمَنْقُوضِ. فَكَانَ ذَلِكَ اللُّزُومُ هُوَ علاقَة الْمجَاز. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨١] . وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِي قَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ أَوِ النَّقْضِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى التَّمَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ.

فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْقُرْآنَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ: انْتِفَاءُ الْإِتْيَانِ بِمَا يَنْقُضُهُ وَيُبْطِلُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ، بِأَنْ يُظْهِرَ أَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ بِتَمَامٍ. فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ بِمَا يَنْقُضُهُ كَذِبًا وَزُورًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَقْضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ مُكَابَرَةٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ، وَانْتِفَاءُ مَا يُبْطِلُ مَعَانِيَهُ وَحَقَائِقَ حِكْمَتِهِ، وَانْتِفَاءُ تَغْيِيرِ مَا شَرَّعَهُ وَحَكَمَ بِهِ. وَهَذَا الِانْتِفَاءُ الْأَخِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّبْدِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَكِنَايَتِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنَا لِكُلِّ نبيء عدوا [الْأَنْعَام: ١١٢] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، فَالْكَلِمَاتُ مُرَادٌ بِهَا مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ: مِنْ جَعْلِ أَعدَاء لكلّ نَبِي يُزَخْرِفُونَ الْقَوْلَ فِي التَّضْلِيلِ، لِتَصْغَى إِلَيْهِمْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَيَتْبَعُوهُمْ، وَيَقْتَرِفُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَامِ التَّحَقُّقُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيٌ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ سُنَّةَ اللَّهِ وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ، كَقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣]

فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ٣٤] . فَفِيهَا تأنيس للرسول ﷺ وَتَطْمِينٌ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِحُلُولِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِي إِبَّانِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَذْيِيلٌ لجملة: وتمت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أَيْ: وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الْأَقْوَالِ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِمَنْ يَسْعَى لِتَبْدِيلِ كَلِمَاتِهِ، فَالسَّمِيعُ الْعَالِمُ بِأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، الَّتِي مِنْهَا مَا تُوحِي بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَلَا يَفُوتُهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَالْعَالِمُ أَيْضًا بِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُبَدِّلَ كَلِمَاتِ اللَّهِ، عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ:

مِنْ تَبْيِيتِ الْكَيْدِ وَالْإِبْطَالِ لَهُ.

وَالْعَلِيمُ أَعَمُّ، أَيْ: الْعَلِيمُ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَالْعَلِيمُ بِمَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ، وَمَحَالِّ تَمَامِهَا، وَالْمُنَظِّمُ بِحِكْمَتِهِ لِتَمَامِهَا، وَالْمُوَقِّتُ لِآجَالِ وُقُوعِهَا.

فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُنَا: وَعِيدٌ لِمَنْ شَمِلَتْهُ آيَاتُ الذَّمِّ السَّابِقَةِ، وَوَعْدٌ لِمَنْ أُمِرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَنِ افْتِرَائِهِمْ، وَبِالتَّحَاكُمِ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابه بالحقّ.

[١١٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٦]

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)

أَعْقَبَ ذِكْرَ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ، وعداوتهم للرسول ﷺ، وَوِلَايَتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ، وَرِضَاهُمْ بِمَا تُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَاقْتِرَافِهِمِ السَّيِّئَاتِ طَاعَةً

لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَمَا طَمْأَنَ بِهِ قلب الرّسول ﷺ مِنْ أَنَّهُ لَقِيَ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ آثَارِ عَدَاوَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بِذِكْرِ مَا يُهَوِّنُ على الرّسول ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتِهِمْ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، مَعَ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِمْ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى رَأْيِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَلْزَمُوا مَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ. فَجُمْلَةُ: وَإِنْ تُطِعْ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَبِجُمْلَةِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الْأَنْعَام: ١١٤] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْأَنْعَام: ١١٥] .

وَالْخطاب للنّبي ﷺ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] .

وَجِيءَ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ النَّادِرِ الْوُقُوعِ، أَوِ الْمُمْتَنَعِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَيَسُوا مِنِ ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا [الْأَنْعَام: ٧١] الْآيَةَ، جَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ فِي أَحْكَامِ دِينِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ مَنْ قَتَلَهَا (يُرِيدُونَ أَكْلَ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا دُونَ ذَبْحٍ) - قَالَ- اللَّهُ قَتَلَهَا- فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا

قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ» فَوَقَعَ فِي نَفْسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى أنَاس النبيء ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ»

فَأَنْزَلَ اللَّهُ:

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨] الْآيَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. فَمِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ حَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا. كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: ١٠٠] .

وَالطَّاعَةُ: اسْمٌ لِلطَّوْعِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ طَاعَ يَطُوعُ، بِمَعْنَى انْقَادَ وَفِعْلُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عَن رضى دُونَ مُمَانَعَةٍ، فَالطَّاعَةُ ضِدُّ الْكُرْهِ. وَيُقَالُ: طَاعَ وَأَطَاعَ، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي قَبُولِ الْقَوْلِ، وَمِنْهُ مَا

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ»

، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِر: ١٨] أَيْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ أَرْفَعُ مِنَ الشَّفِيعِ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَمْتَثِلُ إِلَيْهِ. وَالطَّاعَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ قَبُولُ الْقَوْلِ.

وأَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَالْأَرْضُ: يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي يَعِيشُ عَلَى وَجْهِهَا الْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ، وَهِيَ الدُّنْيَا كُلُّهَا. وَيُطْلَقُ الْأَرْضُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ مَعْهُودٌ بَيْنَ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ [الْإِسْرَاء: ١٠٤] يَعْنِي الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَقَوْلُهُ: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [الْمَائِدَة: ٣٣] أَيِ الْأَرْضِ الَّتِي حَارَبُوا اللَّهَ فِيهَا.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ وَهُوَ جَمِيعُ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ كَمَا هُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهَا مَكَّةَ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الْمَعْهُودَةُ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام. وَأَيَّا مَا كَانَ فَأَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ: أَمَّا الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ فَلِأَنَّ جَمْهَرَةَ سُكَّانِهَا أَهْلُ عَقَائِدَ ضَالَّةٍ، وَقَوَانِينَ غَيْرِ عَادِلَةٍ.

فَأَهْلُ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ: فِي أَمْرِ الْإِلَهِيَّةِ: كَالْمَجُوسِ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ، وَالْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ وَفِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ: كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى

وَأَهْلِ الْقَوَانِينِ الْجَائِرَةِ مِنَ الْجَمِيعِ. وَكُلُّهُمْ إِذَا أُطِيعَ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ وَنِحْلَتِهِ، فَهُوَ مُضِلٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الضَّلَالِ كَثْرَةً وَقِلَّةً، وَاتِّبَاعُ شَرَائِعِهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ ضَلَالٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا بَعْضٌ مِنَ الصَّوَابِ. وَالْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ مَنْ هُمْ أَهْلُ هُدًى، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ

الْمُسْلِمُونَ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الصَّالِحِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الطَّالِبِينَ لِلْحَقِّ.

وَسَبَبُ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةِ: أَنَّ الْحَقَّ وَالْهُدَى يَحْتَاجُ إِلَى عُقُولٍ سَلِيمَةٍ، وَنُفُوسٍ فَاضِلَةٍ، وَتَأَمُّلٍ فِي الصَّالِحِ وَالضَّارِّ، وَتَقْدِيمِ الْحَقِّ عَلَى الْهَوَى، وَالرُّشْدِ عَلَى الشَّهْوَةِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَهَذِهِ صِفَاتٌ إِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا تَطَرَّقَ الضَّلَالُ إِلَى النَّفْسِ بِمِقْدَارِ مَا انْثَلَمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَاجْتِمَاعُهَا فِي النُّفُوسِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِدَالٍ تَامٍّ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ، وَذَلِكَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَهِيَ حَالَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ وَأَصْحَابِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَقَدْ يُسَمُّونَهَا الذَّوْقَ. أَوْ عَنِ اقْتِدَاءٍ بِمُرْشِدٍ مَعْصُومٍ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَخِيرَةِ أُمَمِهِمْ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ضَالِّينَ وَكَانَ الْمُهْتَدُونَ قِلَّةً، فَمَنِ اتَّبَعَهُمْ أَضَلُّوهُ.

وَالْآيَةُ لَمْ تَقْتَضِ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ مُضِلُّونَ، لِأَنَّ مُعْظَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُتَصَدِّينَ لِإِضْلَالِ النَّاسِ، بَلْ هُمْ فِي ضَلَالِهِمْ قَانِعُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، مُقْبِلُونَ عَلَى شَأْنِهِمْ وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ، إِنْ قَبِلَ الْمُسْلِمُ قَوْلَهُمْ، لَمْ يَقُولُوا لَهُ إِلَّا مَا هُوَ تَضْلِيلٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُلْقُونَ عَلَيْهِ إِلَّا ضَلَالَهُمْ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ضَالُّونَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ لَا يَضِلُّ مُتَّبِعُهُ وَكُلُّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ [١٠٠] سُورَةِ الْعُقُودِ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ

فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ يَتَطَلَّبُ مُصَادَفَةَ الصَّوَابِ بِاجْتِهَادِهِ، بِتَتَبُّعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَزَالُ يَبْحَثُ عَنْ مُعَارِضِ اجْتِهَادِهِ وَإِذَا اسْتَبَانَ لَهُ الْخَطَأُ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ، فَلَيْسَ فِي طَاعَتِهِ ضَلَالٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ طُرُقَ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.

وَقَوْلُهُ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَهُ، بِحَالِ مَنْ يُضِلُّ مُسْتَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَيَنْعَتُ لَهُ طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ التَّشْبِيهِ: بِأَنْ يُشَبِّهَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِضَافَةُ السَّبِيلِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ قَرِينَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَسَبِيلُ اللَّهِ هُوَ أَدِلَّةُ الْحَقِّ، أَوْ هُوَ الْحَقُّ نَفْسُهُ.

ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُمْ مَا يَعْتَقِدُونَ وَيَدِينُونَ إِلَّا عَقَائِدَ ضَالَّةً،

وَأَدْيَانًا سَخِيفَةً، ظَنُّوهَا حَقًّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفْرِغُوا مَقْدِرَةَ عُقُولِهِمْ فِي تَرَسُّمِ أَدِلَّةِ الْحَقِّ فَقَالَ:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.

وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي قَبُولِ الْفِكْرِ لِمَا يُقَالُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْفِكْرِ: مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَدِلَّةِ وَتَقَلُّدِ ذَلِكَ. فَهَذَا أَتَمُّ مَعْنَى الِاتِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ يُطْلَقُ عَلَى عَمَلِ الْمَرْءِ بِرَأْيِهِ كَأَنَّهُ يَتَّبِعُهُ.

وَالظَّنُّ، فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، هُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُخْطِئُ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، الَّذِي يَحْسَبُهُ صَاحِبُهُ حَقًّا وَصَحِيحًا، قَالَ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يُونُس: ٣٦] وَمِنْه

قَول النّبي ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»

وَلَيْسَ هُوَ الظَّنُّ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ فُقَهَاؤُنَا فِي الْأُمُورِ التَّشْرِيعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْعِلْمَ الرَّاجِحَ فِي النَّظَرِ، مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، لِتَعَسُّرِ الْيَقِيِنِ فِي الْأَدِلَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ فِيهَا: إِنْ كَانَ الْيَقِينَ الْمُرَادَ لِلْحُكَمَاءِ، فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ أَوِ الْبُرْهَانِ، وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ إِلَّا فِي أُصُولِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ

كَانَ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ أَوْ نَهَى، فَذَلِكَ نَادِرٌ فِي مُعْظَمِ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، عَدَا مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ حَصَلَ لِصَاحِبِهِ بِالْحِسِّ، وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا تَلَقَّاهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنْ رَسُول الله ﷺ مُبَاشَرَةً، أَوْ حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ. وَهُوَ عَزِيزُ الْحُصُولِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا عُلِمَ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَجُمْلَةُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَبَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالِهِمْ: أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الشُّبْهَةَ، مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَفَاسِدِهَا، فَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ ظَنُّ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَتَّبِعُونَ.

وَجُمْلَةُ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَوُجُودُ حَرْفِ الْعَطْفِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ تَفْسِيرًا لَهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِجُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.

وَقَدْ تَرَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فَقِيلَ:

يَخْرُصُونَ يَكْذِبُونَ فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّ مَا اتَّبَعُوهُ يَقِينٌ، وَقِيلَ: الظَّنُّ ظَنُّهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ عَلَى الْحَقِّ.

وَالْخَرْصُ: تَقْدِيرُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ.

وَالْوَجْهُ: أَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ:

يَتَّبِعُونَ، وَأَنَّ مَحْمَلَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا تَرَكَ لَهُمْ

أَسْلَافُهُمْ وَعَلَى شُبَهَاتِهِمِ الَّتِي يَحْسَبُونَهَا أَدِلَّةً مُفْحِمَةً، كَقَوْلِهِمْ: «كَيْفَ نَأْكُلُ مَا قَتَلْنَاهُ وَقَتَلَهُ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ فِعْلُ: يَخْرُصُونَ مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّأَمُّلِ.

وَالْخَرْصُ: الظَّنُّ النَّاشِئُ عَنْ وِجْدَانٍ فِي النَّفْسِ مُسْتَنِدٍ إِلَى تَقْرِيبٍ، وَلَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ يَشْتَرِكُ الْعُقَلَاءُ فِيهِ، وَهُوَ يُرَادِفُ: الْحَزْرَ، وَالتَّخْمِينَ، وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ، أَيْ تَقْدِيرُ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُهُ النَّاظِرُ فِيمَا تَعَوَّدَهُ. وَإِطْلَاقُ الْخَرْصِ عَلَى ظُنُونِهِمُ الْبَاطِلَةِ فِي غَايَةِ الرَّشَاقَةِ لِأَنَّهَا ظُنُونٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا غَيْرُ مَا حَسُنَ لِظَانِّيهَا. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ فَسَّرَ الْخَرْصَ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، نَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى حَاصِلِ مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: ١٠] وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِوَصْفِ أَكْثَرِ مَنْ فِي الْأَرْضِ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، بَلْ لِوَصْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الِاعْتِقَادَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَهْمِيَّةِ، فَالْخَرْصُ مَا كَانَ غَيْرَ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠]، وَلَوْ أُرِيدَ وَصْفُهُمْ بِالْكَذِبِ لَكَانَ لَفْظُ (يَكْذِبُونَ) أَصْرَحَ مَنْ لَفْظِ يَخْرُصُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السِّيَاقَ اقْتَضَى ذَمَّ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ لَا يَنْضَبِطُ، وَيُعَارِضُهُ مَا

وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ: «أَمَرَ رَسُول الله ﷺ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصَ التَّمْرُ»

. فَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ لِيَنْتَفِعُوا بِأَكْلِ ثِمَارِهِمْ رَطْبَةً، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمْ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ الْخَرْصُ، وَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَرِيَّةِ يَشْتَرِيهَا الْمُعْرِي مِمَّنْ أَعْرَاهُ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ حَدِيثَ عتاب مَنْسُوخا.

[١١٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٧]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [الْأَنْعَام: ١١٦] لِأَنَّ مَضْمُونَهُ التَّحْذِيرُ مِنْ نَزَغَاتِهِمْ وَتَوَقُّعُ التَّضْلِيلِ مِنْهُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ الِاهْتِدَاءَ، فَلْيَجْتَنِبُوا الضَّالِّينَ، وَلْيَهْتَدُوا بِاللَّهِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ فِي خَبَرٍ لَا يَحْتَاجُ لِرَدِّ الشَّكِّ أَوِ الْإِنْكَارِ: أَنَّ تُفِيدُ تَأْكِيدَ

الْخَبَرِ وَوَصْلَهُ بِالَّذِي قَبْلَهُ، بِحَيْثُ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ، وَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى بَيَانِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ، وَهُدَى الْمُهْتَدِينَ، كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تَذْيِيلًا

لِجَمِيعِ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لِتَشْرِيفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَإِظْهَارِ أَنَّ هَدْيَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام هُوَ الْهُدَى، وَأَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُضِلُّونَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْهُدَى لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا اللَّهَ رَبًّا لَهُمْ. وَقَدْ

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ- فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: أَجِيبُوهُ قُولُوا: «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ» .

وأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَحَدٌ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ قَدْ يَعْلَمُ بَعْضَ الْمُهْتَدِينَ وَبَعْضَ الْمُضِلِّينَ، وَيَفُوتُهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَخْفَى عَلَيْهِ دَخِيلَةُ بَعْضِ الْفَرِيقَيْنِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، لِإِفَادَةِ قَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، فَالْأَعْلَمِيَّةُ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ مَقْصُورَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيره، وَوَجهه هَذَا الْقَصْرِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ عِلْمَهُمْ بِالضَّالِّينَ وَالْمُهْتَدِينَ عِلْمٌ قَاصِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا عَلِمَ بَعْضَ أَحْوَالِ النَّاسِ تَخْفَى عَلَيْهِمْ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّهُمْ يَعْلَمُ قُصُورَ عِلْمِهِ، وَيَتَحَقَّقُ أَنَّ ثَمَّةَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَ الْعَالِمِ مِنْهُمْ، لَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِآلِهَتِهِمْ، فَنُفِيَ بِالْقَصْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يُشَارِكُ اللَّهَ فِي وَصْفِ الْأَعْلَمِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ.

ومَنْ مَوْصُولَةٌ، وَإِعْرَابُهَا نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ

لَا يَنْصِبُ بِنَفْسِهِ مَفْعُولًا بِهِ لِضَعْفِ شَبَهِهِ بِالْفِعْلِ، بَلْ إِنَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ أَوْ بِاللَّامِ أَوْ بِإِلَى، وَنَصْبُهُ الْمَفْعُولَ نَادِرٌ، وَحَقُّهُ هُنَا أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ إِيجَازَ حَذْفٍ، تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ. وَإِنَّمَا حُذِفَ الْحَرْفُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَأُظْهِرَ فِي الثَّانِيَةِ، دُونَ الْعَكْسِ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْقَرِينَةِ أَنْ تَتَقَدَّمَ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ يَكُونُ الْمُفَضَّلُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، نَحْوُ: هُوَ أَعْلَمُ الْعُلَمَاءِ وَأَكْرَمُ الْأَسْخِيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَنْصُوبَانِ فِيهِمَا غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَيْهِمَا الْإِعْرَابُ، يَلْتَبِسُ الْمَفْعُولُ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْتَبِسٍ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الصِّلَةَ فِيهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: اللَّهُ أَعْلَمُ الضَّالِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ أَعْلَمُ عَالِمٍ مِنْهُمْ، إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ أَعْلَمُ الْجَاهِلِينَ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّ الضَّلَالَ جَهَالَةٌ، فَفَسَادُ الْمَعْنَى يَكُونُ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: وَهُوَ أَعْلَمُ الْمُهْتَدِينَ، فَقَدْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ

اللَّهَ أَعْلَمُ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ أَقْوَى الْمُهْتَدِينَ عِلْمًا، لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ مِنَ الْعِلْمِ. هَذَا مَا لَاحَ لِي فِي نُكْتَةِ تَجْرِيدِ قَوْلِهِ: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ أَعْلَمُ.

[١١٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٨]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)

هَذَا تَخَلُّصٌ مِنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيَانُ ضَلَالِهِمُ، الْمُذَيَّلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: ١١٧] . انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَبْيِينِ شَرَائِعِ هُدًى لِلْمُهْتَدِينَ، وَإِبْطَالِ شَرَائِعَ شَرَّعَهَا الْمُضِلُّونَ، تَبْيِينًا يُزِيلُ التَّشَابُهَ وَالِاخْتِلَاطَ.

وَلِذَلِكَ خُلِّلَتِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، بِأَضْدَادِهَا الَّتِي كَانَ شَرَّعَهَا الْمُشْرِكُونَ وَسَلَفُهُمْ.

وَمَا تُشْعِرُ بِهِ الْفَاءُ مِنَ التَّفْرِيعِ يَقْضِي بِاتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ:

أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١١٦]

تَضَمَّنَ إِبْطَالَ مَا أَلْقَاهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ: فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، إِذْ قَالُوا للنّبيء ﷺ «تَزْعُمُ أَنَّ مَا قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ أَكْلُهُ، وَأَنَّ مَا قَتَلَ اللَّهُ حَرَامٌ» وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: ١١٦]، فَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَسَمَّى شَرَائِعَهُمْ خَرْصًا، فَرَّعَ عَلَيْهِ هُنَا الْأَمْرَ بِأَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ عِنْدَ قَتْلِهِ، أَيْ مَا نُحِرَ أَوْ ذُبِحَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْمَيْتَةُ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةِ:

وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام:

١٢١] . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَحْرُمُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ رَفْعَ الْحَرَجِ، وَلَكِنْ بَيَانُ مَا هُوَ الْمُبَاحُ، وَتَمْيِيزُهُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُّبِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَقَوْلُهُ: مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُول صَادِق على الذَّبِيحَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَذْكُرُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ اسْمَ الْمَقْصُودِ بِتِلْكَ الذَّكَاةِ، يَجْهَرُونَ بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ: أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَيْ أُعْلِنَ. وَالْمَعْنَى كُلُوا الْمُذَكَّى وَلَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ. فَمَا

ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَنِ الْمَذْبُوحِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الذَّبْحِ.

وَتَعْلِيقُ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ بِمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَفْهَمَ أَنَّ غَيْرَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا يَأْكُلُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذَا الْغَيْرُ يُسَاوِي مَعْنَاهُ معنى مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَادَتهم أَن لَا يَذْبَحُوا ذَبِيحَةً إِلَّا ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ هَدْيًا فِي الْحَجِّ، أَوْ ذَبِيحَةً لِلْكَعْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ

أَوْ لِلْجِنِّ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ الْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ. فَصَارَ قَوْلُهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُفِيدًا النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وَلَا اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا لِقَصْدِ تَجَنُّبِ ذِكْرِهِ.

وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ أَوِ اسْمِ غَيْرِهِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ إِرَادَةِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَدَيْهِمْ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَعْيِينِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ دُونَ الْمَيْتَةِ، بِنَاءً عَلَى عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ النَّهْيَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا فِي «الْكَشَّافِ»، أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ الْآتِي: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَيْتَةَ، وَبِنَاءً عَلَى فَهْمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَكَاتِهِ دُونَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، أَخْذًا مِنْ مَقَامِ الْإِبَاحَةِ وَالِاقْتِصَارِ فِيهِ عَلَى هَذَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ قَصْرٍ، وَلَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا مِنْ دَلَالَةِ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَبَعْضَهَا مِنْ سِيَاقِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْعَقْلِ الَّتِي لَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِلْآيَةِ بِحُكْمِ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَإِنَّ تِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَهَا أَدِلَّتُهَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ التَّشْرِيعِ الْقُرْآنِيِّ التَّعَرُّضُ لِلْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ.

وَ«عَلَى» لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِي، تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ فِعْلِ الذِّكْرِ بِذَاتِ الذَّبِيحَةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ لَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ تَقْيِيدٌ لِلِاقْتِصَارِ الْمَفْهُومِ: مِنْ فِعْلِ الْإِبَاحَةِ، وَتَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِهِ، وَهُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِيهِ، حَتَّى جُعِلَ مِنْ عَلَامَاتِ كَوْنِ فَاعِلِهِ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ شِعَارُ أَهْلِ الشِّرْكِ ذِكْرَ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى مُعْظَمِ الذَّبَائِحِ.

فَأَمَّا تَرْكُ التَّسْمِيَةِ: فَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ تَجَنُّبِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُسَاوٍ لِذِكْرِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لِسَهْوٍ فَحُكُمُهُ يُعْرَفُ مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا

إِنْ نَسِينا

[الْبَقَرَة: ٢٨٦] وَأَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ كَلَام النّبيء ﷺ.

[١١٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١١٩]

وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)

وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨] . وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَما لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ: أَيْ لَا يَثْبُتُ لَكُمْ عَدَمُ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَيْ كُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ (مَا)، أَيْ مَا استقرّ لكم.

وأَلَّا تَأْكُلُوا مَجْرُورٌ بِ (فِي) مَحْذُوفَةٌ. مَعَ (أَنَّ) . وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٦] .

وَلَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ وَجْهِ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَا عَنِ الدَّاعِي إِلَى هَذَا الْخِطَابِ، سِوَى مَا نَقَلَهُ الْخَفَاجِيُّ- فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ» - عَمَّنْ لَقَّبَهُ عَلَمَ الْهُدَى وَلَعَلَّهُ عَنَى بِهِ الشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ، تقشّفا وتزهّدا اهـ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ تَزَهُّدًا عَنْ أَكْلِ اللَّحْمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتِطْرَادًا بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨]، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ، وَلَا أَحْسَبُ

مَا قَالَهُ هَذَا الْمُلَقَّبُ بِعَلَمِ الْهُدَى صَحِيحًا وَلَا سَنَدَ لَهُ أَصْلًا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَفَّ عَنْ أَكْلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الذَّبَائِحِ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا للنّبيء ﷺ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ: «أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ» يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ

عَلَيْهِ

أَيْ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِإِبْطَالِ قِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ الْمُمَوِّهِ بِأَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْلَى بِالْأَكْلِ مِمَّا قَتَلَهُ الذَّابِحُ بِيَدِهِ، فَأَبْدَى اللَّهُ لِلنَّاسِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى، بِأَنَّ الْمُذَكَّى ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَالْمَيْتَةَ لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَهُوَ فَارِقٌ مُؤَثِّرٌ. وَأَعْرِضْ عَنْ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَسُوقٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِإِبْطَالِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فَآلَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥]، إِذْ قَالَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [الْبَقَرَة: ٢٧٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، فَيَنْقَلِبُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا إِلَى مَعْنَى: لَا يُسَوِّلْ لَكُمُ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، هَذَا مَا قَالُوهُ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ عَنْ مَوْقِعِ الْآيَةِ.

وَقَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُبَيِّنَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لَا يَصُدُّكُمْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ، مِنْ قَبْلُ، مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [الْأَنْعَام: ١٤٥] الْآيَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيبَاجَةِ تَفْسِيرِهَا، فَذَلِكَ يُنَاكِدُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ فِي التِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا نُزُولُهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا فِي

سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عَائِدِ الْمَوْصُولِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ حَرَّمَ، الْمَحْذُوفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ إِلَّا الَّذِي اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْوَاعٌ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا مَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ مِنْ أَفْرَادِهَا فَيَصِيرُ حَلَالًا. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى جَعْلِ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا اضْطُرِرْتُمْ مَصْدَرِيَّةً.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ: وَقَدْ فَصَّلَ بِبِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: مَا حَرَّمَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ. وَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَاتِ فِيهِمَا وَاحِدٌ.

وَالِاضْطِرَارُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.

تَحْذِيرٌ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِ الْأَنْعَامِ عَلَى بَعْضِ أَصْنَافِ النَّاسِ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِالْحَذَرِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُضِلُّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: لَيُضِلُّونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- عَلَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أنفسهم، وَقَرَأَ عَاصِمٌ،

وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ:- بِضَمِّ الْيَاءِ- عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُضِلِّلُونَ النَّاسَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الضَّالَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُضِلَّ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمُضِلَّ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا ضَالًّا، إِلَّا إِذَا قَصَدَ التَّغْرِيرَ بِغَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ.

وَالْبَاءُ فِي بِأَهْوائِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَالْبَاءُ فِي بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُضِلُّونَ مُنْقَادِينَ لِلْهَوَى، مُلَابِسِينَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ: الْجَزْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ عَنْ دَلِيلٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: ١١٦] . وَمِنْ هَؤُلَاءِ قَادَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَدِيمِ، مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، أَوَّلُ مَنْ سَنَّ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِثْلُ الَّذِينَ قَالُوا: (مَا قَتَلَ اللَّهُ أَوْلَى بِأَنْ نَأْكُلَهُ مِمَّا قَتَلْنَا بِأَيْدِينَا) .

وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ تَذْيِيلٌ، وَفِيهِ إِعْلَام للرّسول ﷺ بِتَوَعُّدِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ، فَالْإِخْبَارُ بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَأَنَّهُ لَا يُفْلِتُهُمْ، لِأَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا بِهِمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ. وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ وَيُقْرَأُ عَلَيْهِمْ حِينَ الدَّعْوَةِ. وَذِكْرُ الْمُعْتَدِينَ، عَقِبَ ذِكْرِ الضَّالِّينَ، قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِانْتِظَامِ الْكَلَامِ مُنَاسَبَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ وَهُمْ مُعْتَدُونَ، وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُعْتَدِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ: الظُّلْمُ، لِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوا الضَّلَالَ مِنْ دُونِ حُجَّةٍ وَلَا نَظَرٍ، فَكَانُوا مُعْتَدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَمُعْتَدِينَ عَلَى كُلِّ مَنْ دَعَوْهُ إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ.

وَقَدْ أَشَارَ هَذَا إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، أَوْ دَعَا النَّاسَ إِلَى شَيْءٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، فَهُوَ مُعْتَدٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ كلّ مَا أَفْتَى وَلَيْسَ هُوَ بِكُفْءٍ لِلْإِفْتَاءِ.

[١٢٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٠]

وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)

وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ.

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرَدْتُمُ الزُّهْدَ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِتَرْكِ الْإِثْمِ، لَا بِتَرْكِ الْمُبَاحِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَةَ.

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى فِعْلِ (ذَرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧٠] . وَالْإِثْمُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٩] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِثْمِ: تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى تَعْرِيفٌ لِلظَّاهِرِ وَلِلْبَاطِنِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَعْمِيمُ أَفْرَادِ الْإِثْمِ لِانْحِصَارِهَا فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، لِقَصْدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِهَاتِ.

وَظَاهِرُ الْإِثْمِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ، وَبَاطِنُهُ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَيَقَعُ فِي السِّرِّ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ هَذَا الْأَمْرَ تَرْكُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِعَمَلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا خَلَوُا ارْتَكَبُوا الْآثَامَ، وَفِي بَعْضِهِمْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [الْبَقَرَة: ٢٠٤، ٢٠٦]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ.

تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْإِثْمِ، وَإِنْذَارٌ وَإِعْذَارٌ لِلْمَأْمُورِينَ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ)، وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، أَيْ مَقَامِ تَعْقِيبِ الْأَمْرِ أَوِ الْإِخْبَارِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَتُغْنِي عَنِ الْفَاءِ، وَمِثَالُهَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ بَشَّارٍ:

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْإِثْمِ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَهُ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيدِ بِالْإِثْمِ، وَلِيَسْتَقِرَّ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَكْمَلَ اسْتِقْرَارٍ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ. وَحَرْفُ السِّينِ، الْمَوْضُوعُ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ، مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ

وَاسْتِمْرَارِهِ.

وَلَمَّا جَاءَ فِي الْمُذْنِبِينَ فِعْلُ يَكْسِبُونَ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْإِثْمِ، جَاءَ فِي صِلَةِ جَزَائِهِمْ بِفِعْلِ (يَقْتَرِفُونَ)، لِأَنَّ الِاقْتِرَافَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ اكْتِسَابُ الْإِثْمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: ١١٣] .

[١٢١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢١]

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)

جُمْلَةُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨] .

و

(مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَوْصُولَة، وَمَا صدق الْمَوْصُولِ هُنَا:

ذَكِيٌّ، بِقَرِينَةِ السَّابِقِ الّذي مَا صدقه ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ أَفَادَتْ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْهَمَتِ النَّهْيَ عَمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ، وَتَمَّ الْحُكْمُ فِي شَأْنِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذُكِّيَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أُفِيدَ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى: لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ

: أَنَّهُ تُرِكَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ قَصْدًا وَتَجَنُّبًا لِذِكْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِقَصْدِ أَنْ لَا يَكُونَ الذَّبْحُ لِلَّهِ، وَهُوَ يُسَاوِي كَوْنَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ فِي الذَّكَاةِ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ أَوْ يَذْكُرُوا اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١١٨] . وَمِمَّا يُرَشِّحُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥]، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْفِسْقِ هُنَا: هُوَ الَّذِي وُصِفَ بِهِ هُنَالِكَ، وَقُيِّدَ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَبِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ:

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الشِّرْكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ أَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ عَلَى الْمُذَكَّى، وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.

وَرُبَّمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَحَيُّلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الذَّكَاةِ يَقْتَنِعُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُمْ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ، بِحَيْثُ لَا يُسَمُّونَ اللَّهَ وَلَا يُسَمُّونَ لِلْأَصْنَامِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ: تَحْذِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا التَّرْكِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّمْوِيهُ، وَأَنْ يُسَمَّى عَلَى الذَّبَائِحِ غَيْرَ أَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ.

فَإِنِ اعْتَدَدْنَا بِالْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ، كَانَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادًا بِهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حُكْمُهَا قَاصِرًا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ

فِي الذَّكَاةِ، وَلَا كَوْنِهَا شَرْطًا أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ بَلْهَ حُكْمَ نِسْيَانِهَا. وَإِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْمَقْصِدَ بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ لِلنُّزُولِ، وَاعْتَدَدْنَا بِالْمَوْصُولِ صَادِقًا عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْعَامِّ

الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَلَا يُخَصُّ بِصُورَةِ السَّبَبِ، وَإِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ.

وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبْحِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ تَجَنُّبًا لَهَا لَمْ تُؤْكَلْ (وَهَذَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الزُّنُوجِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تُونِسَ وَبَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَمْتَلِكُهُمْ، فَيَتَفَادُونَ مِنْ أَضْرَارِهَا بِقَرَابِينَ يَذْبَحُونَهَا لِلْجِنِّ وَلَا يُسَمُّونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَنْفِرُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى خِيفَةً مِنْهُ، (وَهَذَا مُتَفَشٍّ بَيْنَهُمْ فِي تُونِسَ وَمِصْرَ) فَهَذِهِ ذَبِيحَةٌ لَا تُؤْكَلُ. وَمُسْتَنَدُ هَؤُلَاءِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَقْيِيدِهَا بِغَيْرِ النِّسْيَانِ، إِعْمَالًا لِقَاعِدَةِ رَفْعِ حُكْمِ النِّسْيَانِ عَنِ النَّاسِ. وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ لَا لِقَصْدِ اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَجَنُّبٍ وَلَكِنَّهُ تَثَاقَلَ عَنْهَا، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي الْمَشْهُورِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُؤَكَلُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ كَالنِّسْيَانِ، وَلَعَلَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ فِي احْتِمَالِ الْآيَةِ اقْتِصَارًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ مَعُونَةِ السِّيَاقِ.

الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَمَالِكٌ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تُؤْكَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَكْمِلَةٌ لِلْقُرْبَةِ، وَالذَّكَاةُ بَعْضُهَا قُرْبَةٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، وَلَا يَبْلُغُ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْإِبَاحَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَيْتَةُ خَاصَّةً، وَبِمَا ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ، عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: ذِكْرُ اللَّهِ إِنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْعَامِدَ آثِمٌ وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ أَشَدُّ إِثْمًا. وَأَمَّا تَعَمُّدُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ غَيْرِ اللَّهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ سَمَّى لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا يُكْرَهُ أَكْلُهَا، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَلَا يُعَدُّ هَذَا خِلَافًا، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَشْهَبُ،

وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، إِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَنَافِعٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدُ: لَا تُؤَكَلُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، دُونَ تَأَمُّلٍ فِي الْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ.

وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بِالْقَرَائِنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي

ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ تَارِكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا آثِمًا، إِلَّا أَنَّ إِثْمَهُ لَا يُبْطِلُ ذَكَاتَهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ غَيْرِ أَحْمَدَ.

وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَأْكُلُوا عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَجَازَ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِالْوَاوِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَهُ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» . وَقَدْ جَعَلَهَا الرَّازِيُّ وَجَمَاعَةٌ: حَالًا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يَعُودُ عَلَى مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ لَفِسْقٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الْفِعْلِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، بِالْفِسْقِ حَتَّى تَجَاوَزَ الْفِسْقُ صِفَةَ الْفِعْلِ أَنْ صَارَ صِفَةَ الْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ:

كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا نَظِيرُ جَعْلِهِ فِسْقًا فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥] . وَالتَّأْكِيدُ بِإِنَّ: لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَلا تَأْكُلُوا، أَيْ وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ عَطْفٌ عَلَى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، أَيْ: وَاحْذَرُوا جَدَلَ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ

بِأَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ:

الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، فِيمَا مَرَّ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَالْمُجَادَلَةُ الْمُنَازَعَةُ بِالْقَوْلِ لِلْإِقْنَاعِ بِالرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ

فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧]، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُجَادَلَةُ فِي إِبْطَالِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَحْبِيبِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ بِأَيْدِينَا وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ.

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ أَطَعْتُمُوهُمْ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيمَا يُجَادِلُونَكُمْ فِيهِ، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشَّكُّ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِإِنْ لِتَحْقِيقِ الْتِحَاقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ إِذَا أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّ تَخْطِئَةَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ تُسَاوِي الشِّرْكَ، فَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى التَّأْكِيدِ، أَوْ أَرَادَ: إِنَّكُمْ لَصَائِرُونَ إِلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَسْتَدْرِجُكُمْ بِالْمُجَادَلَةِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ، فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ

الِاسْتِقْبَالُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَأَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ سَبَبٌ، بَلْ وَلَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فَائِدَةٌ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مُضَافًا يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ التَّجْرِيدُ عَنِ الْفَاءِ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ الْمَاضِي فِي جَزَائِهِ ضَعِيفٌ، فَكَمَا جَازَ رَفْعُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مُضَارِعٌ، إِذَا كَانَ شَرْطُهُ مَاضِيًا، كَذَلِكَ جَازَ كَوْنُهُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِالْفَاءِ. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ حَذْفَ فَاءِ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ مَالِكٍ

فِي شَرْحِهِ عَلَى «مُشْكِلِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ» . وَجَعَلَ مِنْهُ

قَوْله ﷺ: «إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً»

عَلَى رِوَايَةِ إِنْ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- دُونَ رِوَايَةِ- فتح الْهمزَة-.

[١٢٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٢]

أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)

الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا عَاطِفَةٌ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٢] لِتَضَمُّنِ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَنَّ الْمُجَادَلَةَ، الْمَذْكُورَةَ مِنْ قَبْلُ، مُجَادَلَةٌ فِي الدِّينِ: بِتَحْسِينِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَتَقْبِيحِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي مِنْهَا: تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، وَتَحْرِيمُ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَسَائِسِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُجَادَلَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَصْفِ حُسْنِ حَالَةِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَارَقُوا الشِّرْكَ، فَجَاءَ بِتَمْثِيلَيْنِ لِلْحَالَتَيْنِ، وَنَفَى مُسَاوَاةَ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: تَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحُسْنِ حَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِنْكَارِ تَمَاثُلِ الْحَالَتَيْنِ: فَالْحَالَةُ الْأُولَى: حَالَةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا مُودَعًا فِي ظُلُمَاتٍ، فَصَارَ حَيًّا فِي نُورٍ وَاضِحٍ، وَسَارَ فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِلَةِ لِلْمَطْلُوبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

حَالَةُ الْمُشْرِكِ وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالَةِ مَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ.

وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، اسْتِغْنَاءً بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمَحْذُوفِ:

فَقَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا مَعْنَاهُ: أَحَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ صِفَةُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا.

وَقَوْلُهُ:

وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ حَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فِي

ظُلُمَاتٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ مثل ميّت فَمَا صدق (مَنْ) مَيِّتٌ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِمَيِّتٍ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ جُزْءَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُوَ الْمَيِّتُ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ وَالْمُشَبَّهَ بِهِ سَوَاءٌ فِي الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِ الْفَرِيقَيْنِ مُشْرَكَيْنِ. وَلَفْظُ (مَثَلِ) بِمَعْنَى حَالَةِ. وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ، وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ كِنَايَةٌ عَنْ تَفْضِيلِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَفْضِيلًا لَا يَلْتَبِسُ، فَذَلِكَ مَعْنَى نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرَّعْد: ١٦]- وَقَوْلِهِ- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨] . وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مَنْفِيٌّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ.

وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ حَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَتَخَلَّصَ مِنَ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأُحْيِيَ، وَتَمْثِيلُ حَالِ مَنْ هُوَ بَاقٍ فِي الشِّرْكِ بِحَالٍ مَيِّتٍ بَاقٍ فِي قَبْرِهِ. فَتَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ:

أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا إِلَى آخِرِهَا تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَجُمْلَةُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ إِلَخْ تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُمَا حَالَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ، وَحَالَتَانِ مُشَبَّهٌ بِهِمَا، وَحَصَلَ بِذِكْرِ كَافِ التَّشْبِيهِ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ فِي الشِّرْكِ. كَمَا حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ تَشْبِيهَيْنِ مُرَكَّبَيْنِ.

وَلَكِنَّ وُجُودَ كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهَيْنِ فِي التَّرْكِيبَيْنِ أَثَارَا شُبْهَةً: فِي اعْتِبَارِ هَذَيْنِ التَّشْبِيهَيْنِ أَهْوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، أَمْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ فَنَحَا

الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» الْقَبِيلَ الأول، ونحا التفتازانيّ الْقَبِيلَ الثَّانِي، وَالْأَظْهَرُ مَا نحاه التفتازانيّ: أَنَّهُمَا اسْتِعَارَتَانِ تَمْثِيلِيَّتَانِ، وَأَمَّا كَافُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُشَابَهَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ لَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْحَالَيْنِ بِالْحَالَيْنِ، فَمَوْرِدُ كَافِ التَّشْبِيهِ غَيْرُ مَوْرِدِ تَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ. وَبَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ بَوْنٌ خَفِيٌّ.

وَالْمُرَادُ: بِ الظُّلُماتِ ظلمَة الْقَبْر لمناسبة لِلْمَيِّتِ، وَبِقَرِينَةِ ظَاهِرِ فِي مِنْ حَقِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ وَظَاهِرِ حَقِيقَةِ فِعْلِ الْخُرُوجِ.

وَلَقَدْ جَاءَ التَّشْبِيهُ بَدِيعًا: إِذْ جَعَلَ حَالَ الْمُسْلِمِ، بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِحَالِ مَنْ كَانَ عَدِيمَ الْخَيْرِ، عَدِيمَ الْإِفَادَةِ كَالْمَيِّتِ، فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحُولُ دُونَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَصْرِفُ صَاحِبَهُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُ وَنَجَاتُهُ، وَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَوْ أَفَاقَ لَمْ يَعْرِفْ أَيْنَ يَنْصَرِفُ، فَإِذَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَغَيَّرَ حَالَهُ فَصَارَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ الصَّالِحَ مِنَ الْفَاسِدِ، فَصَارَ كَالْحَيِّ وَصَارَ يَسْعَى إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيَتَنَكَّبُ عَنْ سَبِيلِ

الْفَسَادِ، فَصَارَ فِي نُورٍ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ تَفْضِيلُ أَهْلِ اسْتِقَامَةِ الْعُقُولِ عَلَى أَضْدَادِهِمْ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: يَمْشِي بِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ. وَالنَّاسُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْهَيْئَة الْمُشبه بِهَا هُمُ الْأَحْيَاءُ الَّذِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُمُ الْمُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِيُّ. وَالنَّاسُ الْمُقَدَّرُ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُمْ رُفَقَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ جَاءَ الْمُرَكَّبُ التَّمْثِيلِيُّ تَامًّا صَالِحًا لِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ، وَلِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، كَمَا قَدْ عَلِمْتَهُ وَذَلِكَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ.

وَجُمْلَةُ: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِإِضَافَةِ (مَثَلُ)، أَيْ ظُلُمَاتٌ لَا يُرْجَى لِلْوَاقِعِ فِيهَا تَنُّورٌ بِنُورٍ مَا دَامَ فِي حَالَةِ الْإِشْرَاكِ.

وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ التَّمْثِيلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا، أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، وَكَيْفَ لَمْ يَشْعُرُوا بِالْبَوْنِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَإِذَا كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ انْحِطَاطِ حَالِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَمَّا دَعَاهُمُ الْإِسْلَامُ إِلَى الْحَقِّ وَنَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ بَقَوْا فِي ضَلَالِهِمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُ وَهُمْ أَهْلُ عُقُولٍ وَفِطْنَةٍ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ لَهُ السَّبَبَ فِي دَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا عَمِلُوهُ كَانَ تُزَيِّنُهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ، هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ، الَّذِي لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ تَقْرِيبَهُ لَمْ يَجِدْ ضَلَالًا مُزَيَّنًا أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَعْجَبَ فَلَا يُشَبَّهُ ضَلَالُهُمْ إِلَّا بِنَفْسِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: (وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا) .

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى التَّزْيِينِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ زُيِّنَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ لِلْكَافِرِينَ الْعَجِيبِ كَيْدًا وَدِقَّةً زَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] .

وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ فَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ التَّزْيِيِنِ لَا مَعْرِفَةُ مَنْ أَوْقَعَهُ. وَالْمُزَيِّنُ شَيَاطِينُهُمْ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧]، وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلتَّزْيِينِ، وَشَيَاطِينُ الجنّ هم المسوّلون الْمُزَيِّنُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الْأَنْعَام:

١٢١] .

[١٢٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٣]

وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ

(١٢٣)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٢] فَلَهَا حُكْمُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، لِبَيَانِ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِمْرَارِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَكْرُ أَكَابِرِ قريتهم بالرّسول ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ وَصَرْفُهُمُ الْحِيَلَ لِصَدِّ الدَّهْمَاءَ عَنْ مُتَابَعَةِ دَعْوَةِ رَسُول الله ﷺ. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وكَذلِكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ بِتَأْوِيلِ كَذلِكَ الْمَذْكُورِ.

وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ هَذَا الْجَعْلِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَضَتْ أَكَابِرَ يَصُدُّونَ عَنِ الْخَيْرِ، فَشَبَّهَ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ مِنْ أَهِلِ مَكَّةَ فِي الشِّرْكِ بِأَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ فِي أَهْلِ الْقُرَى فِي الْأُمَمِ الْأُخْرَى، أَيْ أَنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِبِدْعٍ وَلَا خَاصٍّ بِأَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ الْمُجْرِمِينَ مَعَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.

فَالْجَعْلُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَوَضْعِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ سُنَنُ خَلْقِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الشَّرِّ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ، وَبِخَاصَّةٍ الْقُرَى.

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَدَاوَةِ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، لِأَنَّهُمْ لِبَسَاطَةِ طِبَاعِهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْخَيْرَ تَقَبَّلُوهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُرَى، فَإِنَّهُمْ لِتَشَبُّثِهِمْ بِعَوَائِدِهِمْ وَمَا أَلِفُوهُ، يَنْفِرُونَ مِنْ كُلِّ مَا يُغَيِّرُهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَة: ١٠١] فَجَعَلَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْرَابِ نِفَاقًا مُجَرَّدًا، وَالنِّفَاقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا مَارِدًا.

وَقَدْ يَكُونُ الْجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَهُوَ تَصْيِيرُ خَلْقٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ تَصْيِيرُ مَخْلُوقٍ إِلَى صِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّ تَصَارُعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ بِمِقْدَارِ غَلَبَةِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى أَهْلِ الْآخَرِ، فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْخَيْرِ انْقَبَضَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا انْعَكَسَ الْأَمْرُ انْبَسَطَ دُعَاةُ الشَّرِّ وَكَثَرُوا.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَزَلِ الْحُكَمَاءُ الْأَقْدَمُونَ يَبْذُلُونَ الْجُهْدَ فِي إِيجَادِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي وَصَفَهَا (أَفْلَاطُونَ) فِي «كِتَابِهِ»، وَالَّتِي كَادَت أَن تتحقّق صِفَاتَهَا فِي مَدِينَةِ (أَثِينَةَ) فِي زَمَنِ جُمْهُورِيَّتِهَا، وَلَكِنَّهَا مَا تَحَقَّقَتْ بِحَقٍّ إِلَّا فِي مَدِينَة الرّسول ﷺ فِي زَمَانِهِ وَزَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِيهَا.

وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا

[الْإِسْرَاء: ١٦] عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيد مِيم: دمرنا.

وَالْأَظْهَرُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ: أَنَّ جَعَلْنا بِمَعْنَى خَلَقْنَا وَأَوْجَدْنَا، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَام: ١] فَمَفْعُولُهُ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها.

وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ظَرْفٌ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَ أَنَّهُ دُونَهُ فِي التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ جَمِيعِ الْقُرَى هُوَ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْخَبَرِ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّ حَالَهُمْ جَرَى عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهَا.

وَفِي قَوْلِهِ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها إِيجَازٌ لِأَنَّهُ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ جَعْلَنَا مُجْرِمِينَ وَأَكَابِرَ لَهُمْ وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ أَكَابِرُ مُجْرِمِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلْنا أَيْ لِيَحْصُلَ الْمَكْرُ، وَفِيهِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ لَيْسَ بِعَظِيمِ الشَّأْنِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ هُمَا: أَكابِرَ مُجْرِمِيها عَلَى أَنَّ مُجْرِمِيها الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وأَكابِرَ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِيَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَةِ شَأْنِهِ، لِأَنَّ مَصِيرَ الْمُجْرِمِينَ أَكَابِرَ وَسَادَةً أَمْرٌ عَجِيبٌ، إِذْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلسُّؤْدُدِ، كَمَا قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا


تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ ... فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ

وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ فِي تَقْدِيمِهِ لِلِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ. وَفِي هَذَا الِاحْتِمَالِ إِيذَانٌ بِغَلَبَةِ الْفَسَادِ عَلَيْهِمْ، وَتَفَاقُمِ ضُرِّهِ، وَإِشْعَارٌ بِضَرُورَةِ خُرُوجِ رَسُول الله ﷺ مِنْ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَإِيذَانٌ بِاقْتِرَابِ زَوَالِ سِيَادَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَلَّاهَا الْمُجْرِمُونَ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ صَيَّرَهُمْ مُجْرِمِينَ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.

وَلَعَلَّ كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ مِنَ الْكَلَامِ لِيَفْرِضَ السَّامِعُونَ كِلَيْهِمَا، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْأَنْعَام: ١١٤] .

وَاللَّامُ فِي لِيَمْكُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَضْعِ نِظَامِ وُجُودِ الصَّالِحِ وَالْفَاسِدِ، أَنْ يَعْمَلَ الصَّالِحُ لِلصَّلَاحِ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْفَاسِدُ لِلْفَسَادِ، وَالْمَكْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِيجَادِ أَمْثَالِهِمْ حِكَمٌ جَمَّةٌ،

مِنْهَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ شَرَفُ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَيَسْطَعُ نُورُهُ، وَيَظْهَرُ انْدِحَاضُ الْبَاطِلِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْدَ الصِّرَاعِ الطَّوِيلِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ اسْتِعَارَةُ اللَّامِ لِمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [الْقَصَص: ٨] .

وَدَخَلَتْ مَكَّةُ فِي عُمُومِ: كُلِّ قَرْيَةٍ وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْحَاضِرَةُ الَّتِي مُكِرَ فِيهَا، فَالْمَقْصُودُ الْخُصُوصُ. وَالْمَعْنَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا كَمَا جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِثْلَهُمْ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ الْخَبَرَ لِقَصْدِ تَذْكِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالْقُرَى مِنْ قَبْلِهَا، مِثْلُ قَرْيَةِ: الْحِجْرِ، وَسَبَأٍ، وَالرَّسِّ، كَقَوْلِهِ: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الْأَعْرَاف: ١٠١]،

وَلِقَصْدِ تَسْلِيَة الرّسول ﷺ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَمَكْرِهِمْ بِهِ وَوَعْدِهِ بِالنَّصْرِ.

وَقَوْلُهُ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها أَكَابِرُ جَمْعُ أَكْبَرَ. وَأَكْبَرُ اسْمٌ لِعَظِيمِ الْقَوْمِ وَسَيِّدِهِمْ، يُقَالُ:

وَرِثُوا الْمَجْدَ أَكْبَرَ أَكْبَرَ، فَلَيْسَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ فِيهِ مُفِيدَةَ الزِّيَادَةِ فِي الْكِبَرِ لَا فِي السِّنِّ وَلَا فِي الْجِسْمِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ غَيْرِ الْمُشْتَقِّ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ إِذَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ أَوْ وُصِفَ بِهِ الْجَمْعُ وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْزَمَ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ. وَجُمِعَ عَلَى أَكَابِرَ، يُقَالُ: مُلُوكُ أَكَابِرَ، فَوَزْنُ أَكَابِرَ فِي الْجَمْعِ فَعَالِلُ مِثْلُ أَفَاضِلَ جَمْعُ أَفْضَلَ، وَأَيَامِنَ وَأَشَائِمَ جَمْعُ أَيْمَنَ وَأَشْأَمَ لِلطَّيْرِ السَّوَانِحِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اصْطِلَاحَ النُّحَاةِ فِي مَوَازِينِ الْجُمُوعِ فِي بَابِ التَّكْسِيرِ وَفِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى صُورَةِ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ وَالزَّائِدَةِ بِخِلَافِ اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الصَّرْفِ فِي بَابِ الْمُجَرَّدِ وَالْمَزِيدِ. فَهَمْزَةٌ أَكْبَرَ تُعْتَبَرُ فِي الْجَمْعِ كَالْأَصْلِيِّ وَهِيَ مَزِيدَةٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: أَكابِرَ مُجْرِمِيها إِيجَازٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِينَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَكَابِرَ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ أَكَابِرَ يَقْتَضِي وُجُودَ مَنْ دُونَهُمُ اسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ.

وَالْمَكْرُ: إِيقَاعُ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ خُفْيَةً وَتَحَيُّلًا، وَهُوَ مِنَ الْخِدَاعِ وَمِنَ الْمَذَامِّ، وَلَا يُغْتَفَرُ إِلَّا فِي الْحَرْبِ، وَيُغْتَفَرُ فِي السِّيَاسَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ اتِّقَاءُ الضُّرِّ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤] فَهُوَ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ لِأَنَّ قبله وَمَكَرُوا [آل عمرَان: ٥٤]، أَيْ مَكَرُوا بِأَهْلِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ هُنَا تَحَيُّلُ زُعَمَاءِ

الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّاسِ فِي صَرْفِهِمْ عَن النّبيء ﷺ وَعَن مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا جَلَسُوا عَلَى كُلِّ عَقَبَةٍ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ عَنِ اتّباع النّبيء ﷺ.

وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ: لِيَمْكُرُوا لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيَمْكُرُوا بِالنَّبِيءِ عليه الصلاة والسلام ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّ صَدَّ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَتِهِ يَضُرُّهُ وَيُحْزِنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنْهُمْ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي مَكْرِهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى مَآلِهِ وَهُوَ الضُّرُّ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّ غَايَةَ الْمَكْرِ وَمَآلَهُ إِضْرَارُ الْمَمْكُورِ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِضْرَارُ حَاصِلًا لِلْمَاكِرِينَ دُونَ الْمَمْكُورِ بِهِ أُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى الْإِضْرَارِ.

وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقصر: لأنّ النّبيّ ﷺ لَا يَلْحَقُهُ أَذًى وَلَا ضُرٌّ مِنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَيَلْحَقُ الضُّرُّ الْمَاكِرِينَ، فِي الدُّنْيَا: بِعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ: بِعَذَابِ النَّارِ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَالضُّرُّ انْحَصَرَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ.

وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ جُمْلَةُ حَالٍ ثَانِيَةٍ، فَهُمْ فِي حَالَةِ مَكْرِهِمْ بِالنَّبِيءِ مُتَّصِفُونَ بِأَنَّهُمْ مَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ مَا يَشْعُرُونَ بِلَحَاقِ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ بِهِمْ، وَالشُّعُورُ:

الْعِلْمُ.

[١٢٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٤]

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣] لِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ أَكَابِرَ مُجْرِمِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها. وَمَكَّةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ عُمُومِ كُلِّ قَرْيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣]، بِاعْتِبَارِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنْ

الْعُمُومِ، إِذْ لَيْسَ قَوْلُ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ بِمَنْسُوبٍ إِلَى جَمِيعِ أَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى.

وَالْمَعْنَى: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَيْ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَعَبَّرَ بِالْمَجِيءِ عَنِ الْإِعْلَامِ بِالْآيَةِ أَوْ تِلَاوَتِهَا تَشْبِيهًا لِلْإِعْلَامِ بِمَجِيءِ الدَّاعِي أَوِ الْمُرْسَلِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَنِعِينَ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مُعْجِزَاتٍ عَيْنِيَّةٍ مِثْلَ مُعْجِزَةِ مُوسَى وَمُعْجِزَةِ عِيسَى، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] لِجَهْلِهِمْ بِالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَصْرِيفِ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠، ٥١]

وَقَالَ النّبيء ﷺ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ»

الْحَدِيثَ.

وَأُطْلِقَ عَلَى إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ لَدَيْهِمْ بِالْإِيتَاءِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ إِذْ قِيلَ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَمَّا كَانَتْ لِإِقْنَاعِهِمْ بِصِدْقِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام أَشْبَهَتِ الشَّيْءَ الْمُعْطَى لَهُمْ.

وَمَعْنَى: مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ مِثْلَ مَا آتَى اللَّهُ الرُّسُلَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَظْهَرُوهَا لِأَقْوَامِهِمْ. فَمُرَادُهُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُمْ. وَقِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر: ٥٢] . رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَ للنّبيء ﷺ: لَوْ كَانَتِ النُّبُوءَةُ لَكَنْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْكَ لِأَنِّي أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا وَأَكْثَرُ مَالًا وَوَلَدًا وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ

قَالَ: زَاحَمَنَا (يَعْنِي بَنِي مَخْزُومٍ) بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ، حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيءٌ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَتَّبِعُهُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيَهُ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى مَا صَدَرَ مِنْ هَذَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ حَتَّى يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِي الرُّسُلَ.

أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِرُسُلِ اللَّهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، فَعَدَلُوا عَنْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا أُوتِيَ محمّد ﷺ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ وَحْيٌ. وَمَعْنَى نُؤْتى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ الرُّسُلُ، وَهُوَ الْوَحْيُ. أَوْ أَرَادُوا بِرُسُلِ الله محمّدا ﷺ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْرِيضًا، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ كَذَا، وَالْمُرَادُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] وَنَحْوُهُ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُهُمْ عَلَيْهِ: رُسُلُ اللَّهِ تهكّما بِهِ ﷺ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] وَقَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاء: ٢٧] .

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ.

اعْتِرَاضٌ لِلرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.

فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالْمُعْجِزَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْقَوْمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ فَتَكُونُ حَيْثُ مَجَازًا فِي الْمَكَانِ الِاعْتِبَارِيِّ لِلْمُعْجِزَةِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يُظْهِرُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مَكَانٌ لِظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ. وَالرِّسَالَاتُ مُطْلَقَةٌ عَلَى الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِرِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: وَجْهُ

دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صدق الرّسول ﷺ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: «صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي»، بِأَمَارَةٍ أَنِّي أَخْرِقُ الْعَادَةَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ.

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُعْطَى بِسُؤَالِ سَائِلِهَا، مَعَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل لَهَا، فَمَا صدق حَيْثُ الشَّخْصُ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ.

وحَيْثُ هُنَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْمَكَانِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَةِ، بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الرِّسَالَةِ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِمَكَانِ أَمَانَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْمَكَانِ تَخْيِيلٌ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى مُصَرِّحَةٌ بِتَشْبِيهِ الرُّسُلِ بِمَكَانِ إِقَامَةِ الرِّسَالَةِ. وَلَيْسَتْ حَيْثُ هُنَا ظَرْفًا بَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ حَيْثُ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ، فَهِيَ هُنَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، لِأَنَّ أَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا يَنْصِبُ الْمَفْعُولَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١١٧] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَجُمْلَة يَجْعَلُ رِسالَتَهُ صِفَةٌ لِ حَيْثُ إِذَا كَانَتْ حَيْثُ مُجَرَّدَةً عَنِ الظَّرْفِيَّةِ.

وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَابِطُ جُمْلَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: حَيْثُ يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَاتِهِ.

وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يُنَالُ بِالْأَمَانِي وَلَا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَمَنْ لَا يَصْلُحُ، وَلَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَأَرَادَ إِرْسَالَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ

مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَالطَّاقَةِ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِحَمْلِهِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا نَفْسٌ خُلِقَتْ قَرِيبَةً مِنَ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ، بَعِيدَةً عَنْ رَذَائِلِ الْحَيَوَانِيَّةِ، سَلِيمَةً مِنَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ.

فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يُخْلَقُ خِلْقَةً مُنَاسِبَةً لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَاللَّهُ حِينَ خَلَقَهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُ سَيُرْسِلُهُ، وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ نُفُوسًا صَالِحَةً لِلرِّسَالَةِ وَلَا تَكُونُ حِكْمَةٌ فِي إِرْسَالِ أَرْبَابهَا، فالاستعداد مهيّيء لِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مُوجِبًا لَهُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الِاسْتِعْدَادَ الذَّاتِيَّ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلرِّسَالَةِ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْفَلَاسِفَةِ لَا يَبْعُدُ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي النَّمَطِ التَّاسِعِ.

وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بَيَانٌ لِعَظِيمِ مِقْدَار النبيء ﷺ وَتَنْبِيهٌ لِانْحِطَاطِ نُفُوسِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ نَوَالِ مَرْتَبَةِ النُّبُوءَةِ وَانْعِدَامِ اسْتِعْدَادِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرُجِي» .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِسالاتِهِ- بِالْجَمْعِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالْإِفْرَادِ- وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ اسْتَوَى الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ.

سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.

اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا فِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣] وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.

فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا أَكَابِرُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَإِنَّ صِفَةَ الْمَكْرِ أُثْبِتَتْ لِأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَذِكْرُهُمْ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ، وَإِنَّمَا خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ

لِلْإِتْيَانِ بالموصول حتّى يوميء إِلَى عِلَّةِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ صَغَارٌ وَعَذَابٌ لِإِجْرَامِهِمْ.

وَالصَّغَارُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- الذُّلُّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصِّغَرِ، وَهُوَ الْقَمَاءَةُ وَنُقْصَانُ الشَّيْءِ عَنْ مِقْدَارِ أَمْثَالِهِ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ ذُلًّا وَعَذَابًا: لِيُنَاسِبَ كِبْرَهُمْ وَعُتُوَّهُمْ وَعِصْيَانَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى.

وَالصَّغَارُ وَالْعَذَابُ يَحْصُلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْهَزِيمَةِ وَزَوَالِ السِّيَادَةِ وَعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ

وَالْخَوْفِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التَّوْبَة: ٥٢] وَقَدْ حَصَلَ الْأَمْرَانِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ، فَهَلَكَتْ سَادَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِهَانَتِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، وَعَذَابِهِمْ فِي جَهَنَّمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ صَغَارٌ مُقَدَّرٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ صَغَارٌ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْصُلُ أَثَرُهُ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهُ تَكْوِينٌ لَا يُفَارِقُ صَاحِبَهُ، كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَحَبَّهُ ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَأَحَبُّوهُ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ»

، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْعِنْدِيَّةِ بِمَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

وَالْبَاءُ فِي: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ سَبَبِيَّةٌ. وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِسَبَبِ مَكْرِهِمْ، أَيْ فِعْلِهِمُ الْمَكْرَ، أَوْ مَوْصُولَةٌ: أَيْ بِسَبَبِ الَّذِي كَانُوا يَمْكُرُونَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكْرِ الِاسْمُ، فَيُقَدَّرُ عَائِدٌ مَنْصُوبٌ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْذُوف.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٥]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)

الْفَاءُ مُرَتِّبَةُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: ١٢٢] وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَارِيعِ وَالِاعْتِرَاضِ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ إِبْطَالٌ لِتَعَلُّلَاتِهِمْ بِعِلَّةِ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤]، وَأَنَّ اللَّهَ مَنَعَهُمْ مَا عَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى حُصُولِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بَيَانُ السَّبَبِ الْمُؤَثِّرِ بِالْحَقِيقَةِ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِ وَكُفْرُ الْكَافِرِ، وَهُوَ: هِدَايَةُ اللَّهِ الْمُؤْمِنَ، وَإِضْلَالُهُ الْكَافِرَ، فَذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّأْثِيرِ، دُونَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُجْرِمِينَ لَوْ أُوتُوا مَا سَأَلُوا لَمَا آمَنُوا، حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٦، ٩٧]- وَكَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١١١] .

وَالْهُدَى إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ النَّافِعَةِ: لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ لِلْمَكَانِ الْمَقْصُودِ، وَمَجَازُهُ رَشَادُ الْعَقْلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مُتَعَلَّقِهِ هُنَا لِظُهُورِ أَنَّهُ الْهُدَى

لِلْإِسْلَامِ، مَعَ قَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣] فَهُوَ تَهَكُّمٌ. وَالضَّلَالُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي أَحْوَالٍ مُضِرَّةٍ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمَطْلُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُشْعِرًا بِالضُّرِّ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلَّقُهُ، فَهُوَ هُنَا الِاتِّصَافُ بِالْكُفْرِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ خَيْرِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ كَالضَّلَالِ عَنِ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ الضَّالُّ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْإِسْلَامِ، لَكِنَّهُ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ لَطَلَبَهُ.

وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ شَقُّ اللَّحْمِ، وَالشَّرِيحَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ تُشَقُّ حَتَّى تُرَقَّقَ لِيَقَعَ شَيُّهَا.

وَاسْتُعْمِلَ الشَّرْحُ فِي كَلَامِهِمْ مَجَازًا فِي الْبَيَانِ وَالْكَشْفِ، وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا مَجَازًا فِي انْجِلَاءِ الْأَمْرِ، وَيَقِينِ النَّفْسِ بِهِ، وَسُكُونِ الْبَالِ لِلْأَمْرِ، بِحَيْثُ لَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ وَلَا يُغْتَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] .

وَالصَّدْرُ مُرَادٌ بِهِ الْبَاطِنُ، مَجَازًا فِي الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ، فَمَعْنَى يَشْرَحْ صَدْرَهُ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ اسْتِعْدَادًا وَقَبُولًا لِتَحْصِيلِ الْإِسْلَامِ، وَيُوَطِّنُهُ لِذَلِكَ حَتَّى يَسْكُنَ إِلَيْهِ وَيَرْضَى بِهِ، فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالشَّرْحِ، وَالْحَاصِلُ لِلنَّفْسِ يُسَمَّى انْشِرَاحًا، يُقَالُ: لَمْ تَنْشَرِحْ نَفْسِي لِكَذَا، وَانْشَرَحَتْ لِكَذَا. وَإِذَا حَلَّ نُورُ التَّوْفِيقِ فِي الْقَلْبِ كَانَ الْقَلْبُ كَالْمُتَّسِعِ، لِأَنَّ الْأَنْوَارَ تُوَسِّعُ مَنَاظِرَ الْأَشْيَاءِ.

رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ- فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: يُدْخِلُ فِيهِ النُّورَ فَيَنْفَسِحُ- قَالُوا- وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُ بهَا- قَالَ- الْإِنَابَة إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّنَحِّي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ الْفَوْتِ» .

وَمَعْنَى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ مَنْ يُرِدْ دَوَامَ ضَلَالِهِ بِالْكُفْرِ، أَوْ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ ضَلَالٌ مُسْتَقْبَلٌ، إِمَّا بِمَعْنَى دَوَامِ الضَّلَالِ الْمَاضِي، وَإِمَّا بِمَعْنَى ضَلَالٍ عَنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يُضِلَّهُ بِكُفْرِهِ الْقَدِيمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَضَى وَتَقَرَّرَ.

وَالضَّيِّقُ- بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بِوَزْنِ فَيْعِلَ- مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الشَّيْءِ بِالضِّيقِ، يُقَالُ ضَاقَ ضِيقًا- بِكَسْرِ الضَّادِ- وَضَيْقًا- بِفَتْحِهَا- وَالْأَشْهَرُ كَسْرُ الضَّادِ فِي الْمَصْدَرِ وَالْأَقْيَسُ الْفَتْحُ وَيُقَالُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ بِوَزْنِ فَعْلٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ، وَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ زِنَتُهُمَا، وَكَانَتْ زِنَةُ فَيْعِلٍ فِي الْأَصْلِ تُفِيدُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مَا لَا تُفِيدُهُ زِنَةُ فَعْلٍ، فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ سَوَّى

بَيْنَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ ضَيْقٍ: بِالتَّخْفِيفِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي إِفَادَةِ الْمُبَالغَة بِالْوَصْفِ. وقرىء بِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَرَأَهَا

الْجُمْهُورُ: بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَابْنُ كَثِيرٍ: بِتَخْفِيفِهَا. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الضَّيِّقُ لِضِدِّ مَا اسْتُعِيرَ لَهُ الشَّرْحُ فَأُرِيدَ بِهِ الَّذِي لَا يَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ الْإِيمَانِ وَلَا تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَرِبَ الْبَالِ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠] .

وَالْحَرِجُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَرِجَ الشَّيْءُ حَرَجًا، مِنْ بَابِ فَرِحَ، بِمَعْنَى ضَاقَ ضَيْقًا شَدِيدًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: دَنِفَ، وَقَمِنَ، وَفَرِقَ، وَحَذِرَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَرَأُوهُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ، فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ دَنَفٌ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَفَرَدٌ- بِفَتْحِ الرَّاءِ-.

وَإِتْبَاعُ الضَّيِّقِ بِالْحَرَجِ: لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الضِّيقِ، لِأَنَّ فِي الْحَرَجِ مِنْ مَعْنَى شِدَّةِ الضِّيقِ مَا لَيْسَ فِي ضَيِّقٍ. وَالْمَعْنَى يَجْعَلْ صَدْرَهُ غَيْرَ مُتَّسِعٍ لِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ:

يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَزَادَ حَالَةَ الْمُضَلَّلِ عَنِ الْإِسْلَامِ تَبْيِينًا بِالتَّمْثِيلِ، فَقَالَ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.

قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: يَصَّعَّدُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ- عَلَى أَنَّهُ يَتَفَعَّلُ مِنَ الصُّعُودِ، أَيْ بِتَكَلُّفِ الصُّعُودِ، فَقُلِبَتْ تَاءُ التَّفَعُّلِ صَادًّا لِأَنَّ التَّاءَ شَبِيهَةٌ بِحُرُوفِ الْإِطْبَاقِ، فَلِذَلِكَ تُقْلَبُ طَاءً بَعْدَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ فِي الِافْتِعَالِ قَلْبًا مُطَّرِدًا ثُمَّ تُدْغَمُ تَارَةً فِي مُمَاثِلِهَا أَوْ مُقَارِبِهَا، وَقَدْ تُقْلَبَ فِيمَا يُشَابِهُ الِافْتِعَالَ إِذَا أُرِيدَ التَّخْفِيفُ بِالْإِدْغَامِ، فَتُدْغَمُ فِي أَحَدِ أَحْرُفِ

الْإِطْبَاقِ، كَمَا هُنَا، فَإِنَّهُ أُرِيدَ تَخْفِيفُ أَحَدِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمُتَوَالِيَةِ مِنْ (يَتَصَعَّدُ)، فَسُكِّنَتِ التَّاءُ ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ إِدْغَامَ الْمُقَارِبِ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ:

يَصَّعَّدُ- بِسُكُونِ الصَّادِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: يَصَّاعَدُ- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ بَعْدَهَا أَلِفٌ- وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ.

وَجُمْلَةُ كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ: صَدْرَهُ أَوْ مِنْ صَدْرِهِ، مُثِّلَ حَالُ الْمُشْرِكِ حِينَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ حِينَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ، فَيَتَأَمَّلُ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِحَالِ الصَّاعِدِ، فَإِنَّ الصَّاعِدَ يَضِيقُ تَنَفُّسُهُ فِي الصُّعُودِ، وَهَذَا تَمْثِيلُ هَيْئَةٍ مَعْقُولَةٍ بِهَيْئَةٍ مُتَخَيَّلَةٍ، لِأَنَّ الصُّعُودَ فِي السَّمَاءِ غَيْرُ وَاقِعٍ.

وَالسَّمَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَاهُ الْمُتَعَارَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَوِّ الَّذِي يَعْلُو الْأَرْضَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: «لَا يَكُونُ السَّمَاءُ الْمُظِلَّةَ لِلْأَرْضِ، وَلَكِنْ كَمَا

قَالَ سِيبَوَيْهِ (١) الْقَيْدُودُ الطَّوِيلُ فِي غَيْرِ سَمَاءٍ- أَيْ فِي غَيْرِ ارْتِفَاعٍ صَعَدًا» أَرَادَ أَبُو عَلِيٍّ الِاسْتِظْهَارَ بِكَلَامِ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّمَاءِ يُقَالُ لِلْفَضَاءِ الذَّاهِبِ فِي ارْتِفَاعٍ (وَلَيْسَتْ عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ) .

وَحَرْفُ فِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (إِلَى)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ: إِمَّا بِمَعْنَى كَأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ وَأَخَذَ يَصَّعَّدُ فِي مَنَازِلِهَا، فَتَكُونُ هَيْئَةً تَخْيِيلِيَّةً، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاءِ بِمَعْنَى الْجَوِّ.

وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.

(١) فِي بَاب مَا تقلب فِيهِ الْوَاو يَاء من «كتاب» سِيبَوَيْهٍ، أَي كَمَا أطلق سِيبَوَيْهٍ فِي كَلَامه السّماء على الِارْتفَاع.

وَالرِّجْسُ: الْخُبْثُ وَالْفَسَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ وَالنَّفْسِيِّ. وَالْمُرَادُ هُنَا خُبْثُ النَّفْسِ وَهُوَ رِجْسُ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥] أَيْ مَرَضًا فِي قُلُوبِهِمْ زَائِدًا عَلَى مَرَضِ قُلُوبِهِمُ السَّابِقِ، أَيْ أَرْسَخَتِ الْمَرَضَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٩٠] إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَالرِّجْسُ يَعُمُّ سَائِرَ الْخَبَاثَاتِ النَّفْسِيَّةِ، الشَّامِلَةِ لِضِيقِ الصَّدْرِ وَحَرَجِهِ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ كَانَ تَذْيِيلًا، فَلَيْسَ خَاصًّا بِضِيقِ الصَّدْرِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ.

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَائِبٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ وَالْمَعْنَى: يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ جَعْلًا كَهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ الشَّدِيدِ الَّذِي جَعَلَهُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.

وعَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تُفِيدُ تَمَكُّنَ الرِّجْسِ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَالْعِلَاوَةُ مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ، مِثْلُ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَالْمُرَادُ تَمَكُّنُهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَظُهُورُ آثَارِهِ عَلَيْهِمْ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَجْعَلْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَنْ يَنْصَرِفُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ.

والَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ مَوْصُول يومىء إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ تَلَقِّيهِ بِإِنْصَافٍ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مُتَزَائِدَةً بِالْقَسَاوَةِ. وَالْمَوْصُولُ

يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ، وَيَشْمَلُ غَيْرَهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُعْرِضُ عَنْهُ، مِثْلُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا، وَصَارَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٦]

وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الْأَنْعَام: ١٢٥] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ هَدْيِ الْقُرْآنِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يُجْهِدُ مُتَّبِعَهُ، فَهَذَا ضِدٌّ لِحَالِ التَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الْأَنْعَام: ١٢٥] . وَتَمْثِيلُ الْإِسْلَامِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَتَضَمَّنُ تَمْثِيلَ الْمُسْلِمِ بِالسَّالِكِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، فَيُفِيدُ تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ:

يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٥] . وَعُطِفَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ بِالْعَطْفِ مَقْصُودَةً بِالْإِخْبَارِ. وَهُوَ اقبال على النبيء ﷺ بِالْخِطَابِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَالْمُنَاسَبَةُ قَوْلُهُ: يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٥] . وَالصِّرَاطُ حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الْمُوصِلِ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ لِتَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُضَافِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرُ صِرَاطٍ.

وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ تَشْرِيفٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَتَرْضِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ بِمَا فِي هَذَا السَّنَنِ مِنْ بَقَاءِ بَعْضِ النَّاسِ غَيْرَ مُتَّبَعِينَ دِينَهُ.

وَالْمُسْتَقِيمُ حَقِيقَتُهُ السَّالِمُ مِنَ الْعِوَجِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلصَّوَابِ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ، أَيْ سَنَنُ اللَّهِ الْمُوَافِقُ لِلْحِكْمَةِ وَالَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يُعَطِّلُهُ شَيْءٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الْحِسِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ كَقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام:

٩٢]، فَيَكُونُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُسْتَعَارًا لِمَا يَبْلُغُ إِلَى الْمَقْصُودِ النَّافِعِ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١٥٣] . ومستقيما حَالٌ مِنْ «صِرَاطٌ» مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَى اللَّهِ.

وَجُمْلَةُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ اسْتِئْنَافٌ وَفَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَمِنْ رَشَاقَةِ لَفْظِ الْآياتِ هُنَا أَنَّ فِيهِ تَوْرِيَةً بِآيَاتِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا السَّائِرُ.

وَاللَّامُ فِي: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لِلْعِلَّةِ، أَيْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِأَجْلِهِمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِتَفْصِيلِهَا. وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَفَادَتْهُمُ الْآيَاتُ وتذكّروا بهَا.

[١٢٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٧]

لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)

الضَّمِيرُ فِي: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عَائِد إِلَى لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٦] .

وَالْجُمْلَةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فُصِّلَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ وَيَتَذَكَّرُونَ بِهَا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَثَرِ تَبْيِينِ الْآيَاتِ لَهُمْ وَتَذَكُّرِهُمْ بِهَا، فَقِيلَ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ.

وَإِمَّا صِفَةٌ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٦] . وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَذَّكَّرُونَ لَا لِغَيْرِهِمْ.

وَالدَّارُ: مَكَانُ الْحُلُولِ وَالْإِقَامَةِ، تُرَادِفُ أَوْ تُقَارِبُ الْمَحَلَّ مِنَ الْحُلُولِ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ تَقْدِيرًا فَيُصَغَّرُ عَلَى دُوَيْرَةٍ. وَالدَّارُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِ أَهْلِهَا، وَيُقَالُ لَهَا:

دَارَةٌ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الدَّارَةِ أَنَّهَا الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ بَيْنَ جِبَالٍ.

وَالسَّلَامُ: الْأَمَانُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْأَمَانُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِي صَاحِبَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَخَافُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ جَوَاهِرُهَا وَأَعْرَاضُهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ

بِـ (دَارِ السَّلَامِ) الْجَنَّةُ سُمِّيَتْ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ السَّلَامَةَ الْحَقَّ فِيهَا، لِأَنَّهَا قَرَارُ أَمْنٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ، فَتَمَحَّضَتْ لِلنَّعِيمِ الْمُلَائِمِ، وَقِيلَ: السَّلَامُ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ دَارُ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهَا كَمَا يُقَالُ لِلْكَعْبَةِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَكَانَةُ الْأَمَانِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ حَالَةُ الْأَمَانِ مِنْ غَضَبِهِ وَعَذَابِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

كَمْ قَدْ أَحَلَّ بِدَارٍ الْفَقْرَ بَعْدَ غِنَى ... عَمْرٌو وَكَمْ رَاشَ عَمْرٌو بَعْدَ إِقْتَارِ

وعِنْدَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْقُرْبِ الِاعْتِبَارِيِّ، أُرِيدَ بِهِ تَشْرِيفُ الرُّتْبَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ:

وَهُوَ وَلِيُّهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعَارَةً لِلْحِفْظِ لِأَنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ يُجْعَلُ فِي مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَحْفَظَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَنَّهُ وَعْدٌ كَالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ الْمُدَّخَرِ، كَمَا يُقَالُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا فَلَكَ عِنْدِي كَذَا تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ. وَالْعُدُولُ عَنْ إِضَافَةِ عِنْدَ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى إِضَافَتِهِ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ: لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ عَطِيَّةُ مَنْ هُوَ مَوْلَاهُمْ.

فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِفَضْلِهِ وَبِرِّهِ بِهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ كَعَكْسِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤] .

وَعُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ تَعْمِيمًا لِوِلَايَةِ اللَّهِ

إِيَّاهُمْ فِي جَمِيع شؤونهم، لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ. وَالْوَلِيُّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَبِمَعْنَى الْمُوَالِي.

وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ، مِنْ مَفْهُومِ الْفِعْلِ، أَيْ ثَبَتَ لَهُمْ ذَلِكَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَاصِلَةِ بِالْإِسْلَامِ، أَوِ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ: أَيْ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَمُتَعَلَّقِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مُتَعَلِّقًا بِ وَلِيُّهُمْ أَيْ وَهُوَ نَاصِرُهُمْ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِْ

تَوَلَّاهُمْ، أَوِ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَيَكُونُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مُرَادًا بِهِ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ، عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُّهُمْ أَفَادَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْقَوْمِ الْمُتَذَكِّرِينَ، لِيَعْلَمُوا عِظَمَ هَذِهِ الْمِنَّةِ فَيَشْكُرُوهَا، وَلِيَعْلَمَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ فَيَغِيظُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمُسْنَدِ بِالْإِضَافَةِ يُخَالِفُ طَرِيقَةَ تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ، مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ التَّعْرِيفِ، حَتَّى أَنَّهُ قَدْ يَقْرُبُ مِنَ التَّنْكِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ: مِنْ أَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الْإِضَافَةِ عَلَى اعْتِبَارِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ، فَلَا يُقَالُ: غُلَامُ زَيْدٍ، إِلَّا لِغُلَامٍ مَعْهُودٍ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَتَجِيءُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْوَصْفِ، فَتَقُولُ: أَتَانِي غُلَامُ زَيْدٍ بِكِتَابٍ مِنْهُ وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامًا لَهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ، فَيَصِيرُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ حِينَئِذٍ كَالْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيْ يُفِيدُ تَعْرِيفًا يُمَيِّزُ الْجِنْسَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ، فَالتَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ قَصْرٌ وَلَا إِفَادَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ. وَمِمَّا يَزِيدُكَ يَقِينًا بِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] فَإِنَّ عَطْفَ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ إِفَادَةُ وِلَايَةِ اللَّهِ لِلَّذِينَ آمَنُوا لَا الْإِعْلَامُ بِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِأَنَّهُ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا هُوَ الله.

[١٢٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٨]

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)

لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْآيَاتِ، وَهُوَ ثَوَابُ دَارِ السَّلَامِ، نَاسَبَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ ذِكْرَ جَزَاءِ الَّذِينَ لَا يَتَذَكَّرُونَ، وَهُوَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَجُمْلَةُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْأَنْعَام: ١٢٧] . وَالْمَعْنَى:

وَلِلْآخَرِينَ النَّارُ مَثْوَاهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ صَوَّرَ هَذَا الْخَبَرَ فِي صُورَةِ مَا يَقَعُ فِي حِسَابِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى غَايَةِ ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَهُوَ خُلُودُهُمْ فِي النَّارِ.

وَانْتَصَبَ: يَوْمَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، عَلَى طَرِيقَةِ نَظَائِرِهِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الْأَنْعَام: ١٢٤] الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام:

١٢٥] فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَابِلُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُونَ مُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ فَرِيقٌ وَاحِدٌ مَعَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَيُعْتَبَرُ الْمُشْرِكُونَ فَرِيقًا مُبَائِنًا لَهُمْ بَعيدا عَنْهُم، فيتحدّث عَنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، فَالْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ وَأُكِّدَ بِ جَمِيعًا لِيَعُمَّ كُلَّ الْمُشْرِكِينَ، وَسَادَتَهُمْ، وَشَيَاطِينَهُمْ، وَسَائِرَ عُلَقِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الشَّيَاطِينِ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الْأَنْعَام: ١٢١] إِلَخْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَلَمَّا أُسْنِدَ الْحَشْرُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ النِّدَاءَ فِي قَوْلِهِ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِضْمَارُ قَوْلٍ صَادِرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ نَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ، لِأَنَّ النِّدَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوْلًا.

وَجُمْلَةُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ إِلَخْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ أَوْ قَائِلِينَ.

وَالْمَعْشَرُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَشَأْنُهُمْ وَاحِدٌ، بِحَيْثُ تَجْمَعُهُمْ صِفَةٌ أَوْ عَمَلٌ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَهُوَ يُجْمَعُ عَلَى مَعَاشِرَ أَيْضًا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُضَافَ الْمَعْشَرُ إِلَى اسْمٍ يُبَيِّنُ الصِّفَةَ الَّتِي اجْتَمَعَ مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَهِيَ هُنَا صِفَةُ كَوْنِهُمْ جِنًّا، وَلِذَلِكَ إِذَا عُطِفَ عَلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ كَانَ عَلَى

تَقْدِيرِ تَثْنِيَةِ مَعْشَرًا وَجَمْعِهِ: فَالتَّثْنِيَةُ نَحْوُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣] الْآيَةَ، أَيْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَيَا مَعْشَرَ الْإِنْسِ، وَالْجَمْعُ نَحْوُ قَوْلِكَ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْبَرْبَرِ.

وَالْجِنُّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٠] . وَالْمُرَادُ بِالْجِنِّ الشَّيَاطِينُ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ بَنِي جِنْسِهِمِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١١٢] .

وَالِاسْتِكْثَارُ: شِدَّةُ الْإِكْثَارِ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ للْمُبَالَغَة مثل الاستسلام وَالِاسْتِخْدَاعِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَيَتَعَدَّى بِمَنِ الْبَيَانِيَّةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُتَّخَذِ كَثِيرُهُ، يُقَالُ: اسْتَكْثَرَ مِنَ النِّعَمِ أَوْ مِنَ الْمَالِ، أَيْ أَكثر من جَمعهمَا، وَاسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنْدِ، وَلَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ اسْتَكْثَرَ الَّذِي بِمَعْنَى عَدَّ الشَّيْءَ كثيرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: ٦] .

وَقَوْلُهُ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيره: مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ، أَوْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ، فَمَعْنَى اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَكْثَرْتُمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ، أَيْ مِنْ جَعْلِهِمْ أَتْبَاعًا لَكُمْ، أَيْ تَجَاوَزْتُمُ الْحَدَّ فِي اسْتِهْوَائِهِمْ وَاسْتِغْوَائِهِمْ، فَطَوَّعَتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا جِدًّا.

وَالْكَلَامُ تَوْبِيخٌ لِلْجِنِّ وَإِنْكَارٌ، أَيْ كَانَ أَكْثَرُ الْإِنْسِ طَوْعًا لَكُمْ، وَالْجِنُّ يَشْمَلُ الشَّيَاطِينَ، وَهُمْ يُغْوُونَ النَّاسَ وَيُطَوِّعُونَهُمْ: بِالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّخْيِيلِ، وَالْإِرْهَابِ، وَالْمَسِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى تَوَهَّمَ النَّاسُ مَقْدِرَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ بِالْإِرْضَاءِ وَتَرْكِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحهم وَفِي شؤونهم، وحتّى أَصْبَحَ الْمُسَافِرُ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ:

«أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، أَوْ بِرَبِّ هَذَا الْوَادِي، يَعْنِي بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، أَوْ قَالَ: يَا رَبِّ الْوَادِي إِنِّي أَسْتَجِيرُ بِكَ» يَعْنِي سَيِّدَ الْجِنِّ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْفَيَافِيَ وَالْأَوْدِيَةَ الْمُتَّسِعَةَ بَيْنَ الْجِبَالِ مَعْمُورَةٌ بِالْجِنِّ، وَيَتَخَيَّلُونَ أَصْوَاتَ الرِّيَاحِ زَجَلَ الْجِنِّ. قَالَ الْأَعْشَى:

وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلْجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ

وَفِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْإِنْسِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ، وَأَطَاعُوهُمْ، وَأَفْرَطُوا فِي مَرْضَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْمَعُوا مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبْذِ مُتَابَعَتِهِمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله الْآتِي: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

[الْأَنْعَام: ١٣٠] فَإِنَّهُ تَدَرُّجٌ فِي التَّوْبِيخِ وَقَطْعُ الْمَعْذِرَةِ.

وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَائِهِمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ: أَيِ الْمُوَالُونَ لَهُمْ، وَالْمُنْقَطِعُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِأَحْوَالِهِمْ.

وَأَوْلِيَاءُ الشَّيَاطِينِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وَافَوُا الْمَحْشَرَ عَلَى الشِّرْكِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْكُفَّارُ وَالْعُصَاةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاصِيَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطَاعَ الشَّيَاطِينَ فَلَيْسَ وَلِيًّا لَهَا اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ٢٥٧] وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

[الْأَنْعَام: ١٣٠] وَقَالَ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.

ومِنَ الْإِنْسِ بَيَانٌ لِلْأَوْلِيَاءِ. وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى حِكَايَةِ جَوَابِ الْإِنْسِ لِأَنَّ النَّاسَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَمَعْنَى: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ انْتَفَعَ وَحَصَّلَ شَهْوَتَهُ وَمُلَائِمَهُ: أَيِ اسْتَمْتَعَ الْجِنُّ بِالْإِنْسِ، وَانْتَفَعَ الْإِنْسُ بِالْجِنِّ، فَكُلُّ بَعْضٍ مُرَادٌ بِهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَجْمُوعِ الْفَرِيقَيْنِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسُ هُمُ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّوْبِيخِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَدَفْعَ التَّوْبِيخِ عَنْهُمْ، بِأَنَّ الْجِنَّ لَمْ يَكُونُوا هُمُ الْمُسْتَأْثِرِينَ بِالِانْتِفَاعِ بِتَطْوِيعِ الْإِنْسِ، بَلْ نَالَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ انْتِفَاعًا بِصَاحِبِهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَذِرُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُشَاطَرَةَ الْجِنَايَةِ إِقْرَارًا بِالْحَقِّ، وَإِخْلَاصًا لِأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَمَّا عَلِمُوا مِنْ أَنَّ تَوْبِيخَ الْجِنِّ الْمُغْوِينَ يُعَرِّضُ بِتَوْبِيخِ الْمُغْوَيْنِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ-. فَأَقَرُّوا وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَمْ يَكُنْ تَمَرُّدًا عَلَى اللَّهِ، وَلَا اسْتِخْفَافًا بِأَمْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِمْتَاعِ.

وَلِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ ابْتِدَاءً. وَكَوْنِ كَلَامِهِمْ دَخِيلًا فِي الْمُخَاطَبَةِ، لَمْ تُفْصَلْ جُمْلَةُ قَوْلِهِمْ كَمَا تفصل جملَة الْمُحَاوَرَةِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، بَلْ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ لِأَنَّهَا قَوْلٌ آخَرُ عَرَضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ بِفِعْلِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ مِنْ أجل قَوْله:

يَحْشُرُهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْقِيقِ الْخَبَرِ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُحَقَّقًا وَبَعْضُهُ دُونَ ذَلِكَ.

وَاسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ هُوَ انْتِفَاعُهُمْ فِي الْعَاجِلِ: بِتَيْسِيرِ شَهَوَاتِهِمْ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ اللَّذَّاتِ وَالْأَهْوَاءِ لَهُمْ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ بَطْشَتِهِمْ. وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ: هُوَ انْتِفَاعُ الْجِنِّ بِتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى إِضْلَالِ النَّاسِ، وَالْوُقُوفِ فِي وَجْهِ دُعَاةِ الْخَيْرِ، وَقَطْعِ سَبِيلِ الصَّلَاحِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَعَانَ الْآخَرَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا فِي نَفْسِهِ مِمَّا فِيهِ مُلَائِمُ طَبْعِهِ وَارْتِيَاحِهِ لِقَضَاءِ وَطَرِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا اسْتِسْلَامٌ لِلَّهِ، أَيِ: انْقَضَى زَمَنُ الْإِمْهَالِ، وَبَلَغْنَا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا لِلْوُقُوعِ فِي قَبْضَتِكَ، فسدّت الْآن دُوننَا الْمَسَالِكُ فَلَا نَجِدُ مَفَرًّا. وَفِي الْكَلَامِ تَحَسُّرٌ وَنَدَامَةٌ. عِنْدَ ظُهُورِ عَدَمِ إِغْنَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَانْقِضَاءِ زَمَنِ طُغْيَانِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، وَمَحِينِ حِينِ أَنْ يُلْقُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩] .

وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الْجِنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ أُفْحِمُوا، فَلَمْ يَجِدُوا جَوَابًا، فَتَرَكُوا أَوْلِيَاءَهُمْ يُنَاضِلُونَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عَدَمِ إِغْنَاءِ الْمَتْبُوعِينَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ يَوْمَئِذٍ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَة: ١٦٦] .

وَجُمْلَةُ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَوْلِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] .

وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: النَّارُ مَثْواكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْإِنْسِ فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [سبأ: ٤١، ٤٢] وَقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:

١١٩] .

وَمَجِيءُ الْقَوْلِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي: لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِقَرِينَة قَوْله:

يَحْشُرُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْغَائِبِ نَظَرٌ لِمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْأَوْلِيَاءِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ إِلَخْ.

وَالْمَثْوَى: اسْمُ مَكَانٍ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ إِقَامَةَ سُكْنَى أَوْ إِطَالَةَ مُكْثٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الثَّوَاءَ بِالْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها.

وَقَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها هُوَ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِي الْحَشْرِ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ مَثْوَاكُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَن يكون إخراجا مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الله لرَسُوله ﷺ، وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها.

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ إِمَّا مِنْ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِذِ الْخُلُودُ هُوَ إِقَامَةُ الْأَبَدِ وَالْأَبَدُ يَعُمُّ الْأَزْمَانَ كُلَّهَا، فَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِزَالَةَ خُلُودِكُمْ، وَإِمَّا مِنْ عُمُومِ الْخَالِدِينَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ خالِدِينَ أَيْ إِلَّا فَرِيقًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُدُوا فِي النَّارِ.

وَبِهَذَا صَارَ مَعْنَى الْآيَةِ مَوْضِعَ إِشْكَالٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْ حَيْثُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءِ فَرِيقٍ وَلَا زَمَانٍ.

وَقَدْ أَحْصَيْتُ لَهُمْ عَشَرَةَ تَأْوِيلَاتٍ، بَعْضُهَا لَا يَتِمُّ، وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي الْحَشْرِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا وَاحِدٌ، إِذَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ حِكَايَةِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْحَشْرِ وَبَيْنَ مَا خُوطِبَ بِهِ النّبي ﷺ، فَيَكُونُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ التَّهْدِيدَ، إِعْذَارًا لَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا، فَتَكُونُ (مَا) مَصْدَرِيَّةً غَيْرَ ظَرْفِيَّةٍ: أَيْ إِلَّا مَشِيئَةَ اللَّهِ عَدَمَ خُلُودِهِمْ، أَيْ حَالُ مَشِيئَتِهِ. وَهِيَ حَالُ تَوْفِيقِهِ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا وَتَحْقِيقًا لِلْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ

الْكُفَّارِ، وَإِذَا صَحَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ قبل علمه بِإِجْمَاع أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْصُولَةً، فَإِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْعَاقِلِ بِكَثْرَةٍ. وَإِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ فِي الْحَشْرِ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُقْصَدُ بِهِ إِخْرَاجُ أَوْقَاتٍ وَلَا حَالَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ، يُقْصَدُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مُخْتَارًا لَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَيْهِ، إِظْهَارًا لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَمَحْضِ الْإِرَادَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ شِئْتُ لَأَبْطَلْتُ ذَلِكَ. وَقَدْ يُعَضَّدُ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: ١٠٦، ١٠٨] فَانْظُرْ كَيْفَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فِي عِقَابِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:

١٠٧] وَكَيْفَ عَقَّبَ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فِي نَعِيمِ أَهْلِ السَّعَادَةِ بِقَوْلِهِ:

عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: ١٠٨] فَأَبْطَلَ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَهَذَا مَعْنَى الْكِنَايَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ الْمَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ خُلُودَ الْمُشْرِكِينَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِزَمَنٍ وَلَا بِحَالٍ. وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تذييل، وَالْخطاب للنّبي ﷺ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَقُولِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنِّ فِي الْحَشْرِ كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَقُولَةِ، لِبَيَانِ أَنَّ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ عَلَى الشِّرْكِ مِنَ الْخُلُودِ رَتَّبَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: خالِدِينَ إِلَخْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مُعْتَرِضًا كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلًا لِلِاعْتِرَاضِ، وَتَأْكِيدًا لِلْمَقْصُودِ

مِنَ الْمَشِيئَةِ مِنْ جَعْلِ اسْتِحْقَاقِ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ مَنُوطًا بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الشِّرْكِ. وَجَعْلِ النَّجَاةِ من ذَلِك الخلود مَنُوطَةً بِالْإِيمَانِ.

وَالْحَكِيمُ: هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مُنَاسَبَاتِهَا، وَالْأَسْبَابَ لِمُسَبِّبَاتِهَا. وَالْعَلِيمُ:

الَّذِي يَعْلَمُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ جَمِيعُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَحِقَّةِ للثّواب وَالْعِقَاب.

[١٢٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٢٩]

وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)

وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ التَّذْيِيلِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، الْوَاوُ لِلْحَالِ: اعْتِرَاضِيَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام:

١٢٨] .

وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّوْلِيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ: نُوَلِّي، وَجَاءَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِالتَّذْكِيرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ التَّوْلِيَةِ لَفْظِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، فَيَجُوزُ فِي إِشَارَتِهِ مَا جَازَ فِي فِعْلِهِ الرَّافِعِ لِلظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى: وَكَمَا وَلَّيْنَا مَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِمْ نُوَلِّي بَيْنَ الظَّالِمِينَ كُلِّهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ.

وَالتَّوْلِيَةُ يَجِيءُ مِنَ الْوَلَاءِ وَمِنَ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُقَالُ فِي فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَلِيًّا، فَهُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَذَا فَسَّرُوهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا إِذَا حَالَفْتُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: تَوَلَّتْ ضَبَّةُ تَمِيمًا بِمَعْنَى حَالَفَتْهُمْ، فَإِذَا عُدِّيَ الْفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ قِيلَ: وَلَّيْتُ ضَبَّةَ تَمِيمًا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النِّسَاء: ١١٥] أَيْ نُلْزِمُهُ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَيَكُونُ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام:

١٢٨] . وَجَعَلَ الْفَرِيقَيْنِ ظَالِمِينَ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَوْمًا يَصِيرُ مِنْهُمْ،

فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ فَرِيقًا أَوْلِيَاءً

لِلظَّالِمِينَ فَقَدْ جعلهم ظالمين بالأخرة، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: ١١٣] وَقَالَ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٥١] .

وَيُقَالُ: وَلَّى، بِمَعْنَى جَعَلَ وَالِيًا، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى أَيْضًا، يُقَالُ:

وَلَّى عُمَرُ أَبَا عُبَيْدَةَ الشَّامَ، كَمَا يُقَالُ: أَوْلَاهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: وَلِيَ أَبُو عُبَيْدَةَ الشَّامَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا نَجْعَلُ بَعْضَهُمْ وُلَاةً عَلَى بَعْضٍ، أَيْ نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ الْجِنَّ وَهُمْ ظَالِمُونَ مُسَلَّطِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ ظَالِمُونَ، فَكُلٌّ يَظْلِمُ بِمِقْدَارِ سُلْطَانه. وَالْمرَاد: بالظالمين فِي الْآيَةِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ.

وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كُلَّ ظَالِمٍ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَى الظَّالِمِ مَنْ يَظْلِمُهُ، وَقَدْ تَأَوَّلَهَا عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَيَّامَ دَعْوَتِهِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَان قتل عمرا بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَمْرٌو عَلَيْهِ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ:

«أَلَا إِنَّ ابْنَ الزَّرْقَاءِ- يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِأَنَّ مَرْوَانَ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْأَزْرَقِ وَبِالزَّرْقَاءِ لِأَنَّهُ أَزْرَقُ الْعَيْنَيْنِ- قَدْ قَتَلَ لَطِيمَ الشَّيْطَانِ (١) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: إِنْ لَمْ يُقْلِعِ الظَّالِمُ عَنْ ظُلْمِهِ سُلِّطَ عَلَيْهِ ظَالِمٌ آخَرُ. قَالَ الْفَخْرُ: إِنْ أَرَادَ الرَّعِيَّةُ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ. وَقَدْ قِيلَ:

وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ شِرْكِهِمْ.

(١) كلمة ينبّز بهَا عَمْرو بن سعيد لاعوجاج فِي شدقه فلقّبوه الْأَشْدَق، وَقَالُوا: لطمه الشّيطان.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الِاعْتِبَارُ وَالْمَوْعِظَة، والتّحذير مَعَ الِاغْتِرَارِ بِوِلَايَةِ الظَّالِمِينَ.

وَتَوَخِّي الْأَتْبَاعِ صَلَاحَ الْمَتْبُوعِينَ. وَبَيَانُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْعَالمين.

[١٣٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٠]

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)

هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاوَلَةِ الَّتِي تَجْرِي يَوْمَ الْحَشْرِ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا فِي مَقَامِ تَعْدَادِ جَرَائِمِهِمِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْخُلُودَ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ، وَإِعْلَانًا بِأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا جُزُوا بِهِ، فَأَعَادَ نِدَاءَهُمْ كَمَا يُنَادَى الْمُنَدَّدُ عَلَيْهِ الْمُوَبَّخُ فَيَزْدَادُ رَوْعًا.

والهمزة فِي لَمْ يَأْتِكُمْ

لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْيِ إِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ إِذَا كَانَ حَالُهُ فِي مُلَابَسَةِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يُجِيبَ بِالنَّفْيِ، يُؤْتَى بِتَقْرِيرِهِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ الَّذِي الْمُرَادُ إِقْرَارُهُ بِإِثْبَاتِهِ، حَتَّى إِذَا أَقَرَّ بِإِثْبَاتِهِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْطَعَ لِعُذْرِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَانِي: أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا وَكَذَا، وأ لست الْقَائِلَ كَذَا، وَقَدْ يَسْلُكُ ذَلِكَ فِي مَقَامِ اخْتِبَارِ مِقْدَارِ تَمَكُّنِ الْمَسْئُولِ الْمُقَرَّرِ مِنَ الْيَقِينِ فِي الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، فَيُؤْتَى بِالِاسْتِفْهَامِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِيهِ ارتبك وتعلثم. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٧٢]، وَلَمَّا كَانَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، وَنَبْذِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ظِهْرِيًّا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، حَالَ مَنْ لَمْ يَطْرُقْ سَمْعَهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، جِيءَ

فِي تَقْرِيرِهِمْ عَلَى بِعْثَةِ الرّسل إِلَيْهِم بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ نَفْيِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدُوا لِإِنْكَارِ مَجِيءِ الرُّسُلِ مَسَاغًا، وَاعْتَرَفُوا بِمَجِيئِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ أَحْرَى لِأَخْذِهِمْ بِالْعِقَابِ.

وَالرُّسُلُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، أَيْ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ بِمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ: مِنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ رَسُولٍ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَنْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس: ١٣] وَهُمْ رُسُلُ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ عِيسَى.

فَوَصْفُ الرّسل بقوله: نْكُمْ

لِزِيَادَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، أَيْ رُسُلٌ تَعْرِفُونَهُمْ وَتَسْمَعُونَهُمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةً مِثْلُ الَّتِي فِي قَوْلِهِمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، فَلَيْسَتْ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَة: ٢] وَذَلِكَ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنَ الْإِنْسِ، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ إِلَّا فِي أَشْرَفِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَجِنْسُ الْجِنِّ أَحَطُّ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ.

وَتَكُونُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً، وَيَكُونُ المُرَاد بضمير: نْكُمْ

خُصُوصَ الْإِنْسِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، أَوْ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ

وَالْمَرْجانُ

[الرَّحْمَن: ٢٢] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ. فَأَمَّا مُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ بِمُخَالَفَةِ الرُّسُلِ فَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْجِنِّ إِلْهَامًا بِوُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ- فَقالُوا- إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا [الْجِنّ: ١] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٠، ٣١]:

قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ذَلِكَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ تَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ لَهُمُ اتِّصَالٌ بِهَذَا الْعَالَمِ وَاطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: ٢٧]

فَضَعُفَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِوُجُودِ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَنُسِبَ إِلَى الضَّحَّاكِ، وَلِذَلِكَ فَقَوله: لَمْ يَأْتِكُمْ

مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ شُمُولِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ، وَلَمْ يَرِدْ عَن النّبيء ﷺ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ رُسُلًا مِنَ الْجِنِّ إِلَى جِنْسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُسُلُ الْجِنِّ طَوَائِفَ مِنْهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيَفْهَمُونَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيُبَلِّغُونَ ذَلِكَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فَمُؤَاخَذَةُ الْجِنِّ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ يَقْتَضِيهَا بُلُوغُ تَوْحِيدِ اللَّهِ إِلَى عِلْمِهِمْ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْوَحْدَانِيَّةِ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُحَرِّكُ النَّظَرَ. فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْجِنِّ عِلْمًا بِمَا تَجِيءُ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى النَّظَرِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَدْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ عَلَى الْإِشْرَاكِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى تَوْجِيهِ الرُّسُلِ دَعْوَتَهُمْ إِلَيْهِمْ.

وَمِنْ حُسْنِ عِبَارَاتِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، دُونَ أَنْ يَقُولُوا: عَلَى مَنْ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ. وَطُرُقُ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي صَحِيحِ الْآثَارِ أَنَّ النّبيء محمّدا ﷺ، وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ، بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، وَتَعَذُّرِ تَخَالُطِهِمَا، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أنّ محمّدا ﷺ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُمَرَ ابْن عَبْدِ الْبَرِّ، وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ: فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصَ النّبيء محمّد ﷺ تَشْرِيفًا لِقَدْرِهِ. وَالْخَوْضُ فِي هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَرْبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ خَوْضٌ فِي أَحْوَالِ عَالَمٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُدْرَكَاتِنَا، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَنَا بِأَنَّ الْعَوَالِمَ كُلَّهَا خَاضِعَةٌ لِسُلْطَانِهِ. حَقِيقٌ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ، إِذَا كَانَتْ مُدْرِكَةً صَالِحَةً لِلتَّكْلِيفِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا إِعْلَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْحِيدِ

وَالْإِسْلَامِ وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى نَبْذِ الْإِسْلَامِ. بَلْهَ أَتْبَاعُهُمْ وَدَهْمَائُهُمْ. فَذِكْرُ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ فِي قَوْله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَبْكِيتِ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْسِيرِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِبَادَةِ الْجِنِّ أَوِ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ،

عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: ١٧] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦] .

وَالْقَصُّ كَالْقَصَصِ: الْإِخْبَارُ، وَمِنْهُ الْقِصَّةُ لِلْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى: يُخْبِرُونَكُمُ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَسَمَّى ذَلِكَ قَصًّا لِأَنَّ أَكْثَرَهُ أَخْبَارٌ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ وَعَنِ الْجَزَاءِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الْعَذَابِ.

فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَقْوَالُ الَّتِي فَيَفْهَمُهَا الْجِنُّ بِإِلْهَامٍ، كَمَا تقدّم آنِفا، ويفهمها الْإِنْسُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ مُبَاشَرَةً وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِالتَّرْجَمَةِ.

والإنذار: الْإِخْبَار بِمَا يُخِيفُ وَيُكْرَهُ، وَهُوَ ضِدُّ الْبِشَارَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٩]، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمُلْقَى إِلَيْهِ الْخَبَرُ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ: بِالْبَاءِ، وَبِنَفْسِهِ، يُقَالُ: أَنْذَرْتُهُ بِكَذَا وَأَنْذَرْتُهُ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارا تَلَظَّى [اللَّيْل: ١٤]، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١٣]، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ [الشورى: ٧] وَلَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَتَضَمَّنُ خَيْرًا لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَشَرًّا لِأَهْلِ الشَّرِّ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبُونَ قَدْ تَمَحَضُّوا لِلشَّرِّ، جُعِلَ إِخْبَارُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ بِلِقَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنْذَارًا لِأَنَّهُ الطَّرَفُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ إِخْبَارِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَشَرِّهِ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: وْمِكُمْ هَذَا

لِتَهْوِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ بِمَا يُشَاهَدُ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا تُحِيطُ الْعِبَارَةُ بِوَصْفِهِ، فَيُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطّور: ١٤] .

وَمعنى قَوْلهم: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا

الْإِقْرَارُ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ إِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ حَرْفِ النَّفْيِ فِي جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِلَّا قَطْعَ الْمَعْذِرَةِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَسَعُ الْمَسْئُولَ نَفْيُهُ، فَلِذَلِكَ أجملوا الْجَواب: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا

، أَيْ أَقْرَرْنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا.

وَاسْتُعْمِلَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَهُ الْمُخْبِرُ وَبَيَّنَهُ، وَمِنْهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ

[آل عمرَان: ١٨] . وَشَهِدَ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ عَنْهُ خَبَرَ الْمُتَثَبِّتِ الْمُتَحَقِّقِ، فَلذَلِك قَالُوا: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا

أَيْ أَقْرَرْنَا بِإِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْنَا. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذَا الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ إِنْكَارِهِمُ الشِّرْكَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣] لِاخْتِلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي الْآيَتَيْنِ. وفصلت جملَة: الُوا

لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ.

وَجُمْلَةُ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

مَعْطُوفَةٌ على جملَة: الُوا شَهِدْنا

بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأُولَى خَبَرًا عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِيقَةِ لَهُمْ، وَعِلْمُهُمْ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ عَصَوُا الرُّسُلَ وَمَنْ أَرْسَلَهُمْ.

وَأَعْرَضُوا عَنْ لِقَاءِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ. فَعَلِمُوا وَعَلِمَ السَّامِعُ لِخَبَرِهِمْ أَنَّهُمْ مَا وَقَعُوا فِي هَذِهِ الرِّبْقَةِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْغُرُورُ لَمَا كَانَ عَمَلُهُمْ مِمَّا يَرْضَاهُ الْعَاقِلُ لِنَفْسِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ أَحْوَالُهَا الْحَاصِلَةُ لَهُمْ: مِنَ اللَّهْوِ، وَالتَّفَاخُرِ، وَالْكِبْرِ، وَالْعِنَادِ.

وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْحَقَائِقِ، وَالِاغْتِرَارِ بِمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُمْ كَشْفُ حَالِهِمْ، وَتَحْذِيرُ السَّامِعِينَ مِنْ دَوَامِ التَّوَرُّطِ فِي مِثْلِهِ. فَإِنَّ حَالَهُمْ سَوَاءٌ.

وَجُمْلَةُ: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ

مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَخْطِئَةِ رَأْيِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَسُوءِ نَظَرِهِمْ فِي الْآيَاتِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَقَدْ رُتِّبَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ اغْتِرَارُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الِاغْتِرَارَ كَانَ السَّبَبُ فِي وُقُوعِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى اسْتَسْلَمُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَافِرِينَ بِاللَّهِ، فَأَمَّا الْإِنْسُ فَلِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِهِ وَعَبَدُوا الْجِنَّ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَلِأَنَّهُمْ أَغْرُوا

الْإِنْسَ بِعِبَادَتِهِمْ وَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ شُرَكَاء الله تَعَالَى، فَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ، وَهَذَا مِثْلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ التَّعْجِيبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الْملك: ١٠، ١١] . فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ عَيْنُ الِاعْتِرَافِ، فَلَا يُفَرَّعُ الشَّيْءُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أُرِيدَ مِنَ الْخَبَرِ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِهِمْ، وَالتَّسْمِيعُ بِهِمْ، حِينَ أُلْجِئُوا إِلَى الِاعْتِرَافِ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ.

وَشَهَادُتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ كَانَتْ بَعْدَ التَّمْحِيصِ وَالْإِلْجَاءِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْكُفْرَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْحِسَابِ، إِذْ قَالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣] . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنِّي أَجِدُ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ اللَّهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النِّسَاء: ٤٢]، وَقَالَ: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام:

٢٣]، فَقَدْ كَتَمُوا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ:

تَعَالَوْا نَقُلْ: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِق أَيْديهم» .

[١٣١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣١]

ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، تَهْدِيدٌ وَمَوْعِظَةٌ، وَعِبْرَةٌ بِتَفْرِيطِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي فَائِدَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَنْبِيهٌ لِجَدْوَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ لِيُعِيدَ الْمُشْرِكُونَ نَظَرًا فِي أَمْرِهِمْ، مَا دَامُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، قَبْلَ يَوْمِ الْحَشْرِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَة الرّسول ﷺ خُسْرَى، فَيَتَدَارَكُوا أَمْرَهُمْ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ، وَإِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَإِيقَاظٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ إِذَا مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِ مَحْسُوسٍ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمَذْكُورُ

قَبْلُ، أَوْ هُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ الَّذِي جَرَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي حِكَايَةِ تَقْرِيرِ الْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ عَنْ إِتْيَانِ رُسُلِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ من قَوْله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ

[الْأَنْعَام: ١٣٠] فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى ذَلِكَ الْقَوْلَ لِلنَّاسِ السَّامِعِينَ، صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ كَالْحَاضِرِ، فَصَحَّ أَنْ يُشَارَ إِلَى شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِمَّا مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ أَوِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ (أَنْ) .

وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا عِنْدَ التَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ شَأْنٌ يَجْدُرُ أَنْ يُعْرَفَ وَالْجُمْلَةُ خَبْرُ أَنْ، وَحُذِفَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ الدَّاخِلَةُ عَلَى أَنْ: لِأَنَّ حَذْفَ جَارِّ أَنْ كَثِيرٌ شَائِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ، أَوِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ- أَيِ الشَّأْنُ- لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى.

وَجُمْلَةُ: لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ هُوَ شَأْنٌ عَظِيم من شؤون اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ شَأْنُ عَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَرِضَاهُ لِعِبَادِهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، وَكَرَاهِيَتُهُ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ، وَإِظْهَارُهُ أَثَرَ رُبُوبِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى سُبُلِ الْخَيْرِ، وَعَدَمِ مُبَاغَتَتِهِمْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّقَدُّمِ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّنْبِيهِ.

وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ إِذْ عُلِمَ مِنْهُ: أَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُ الْقُرَى الْمُسْتَرْسِلَ أَهْلُهَا عَلَى الشِّرْكِ إِذَا أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مُنْذِرِينَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ حَمْلَ تَبِعَةِ هَلَاكِهِمْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلَا رَحِمَنَا رَبُّنَا فَأَنْبَأَنَا

وَأَعْذَرَ إِلَيْنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ (أَي قبل محمّد ﷺ أَوْ قَبْلَ الْقُرْآنِ) لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤]

فَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِرْسَالِ هِيَ عَدَمُ إِهْلَاكِ الْقُرَى عَلَى غَفْلَةٍ، فَدَلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَحْذُوفِ.

وَالْإِهْلَاكُ: إِعْدَامُ ذَاتِ الْمَوْجُودِ وَإِمَاتَةُ الْحَيِّ. قَالَ تَعَالَى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَال: ٤٢] فَإِهْلَاكُ الْقُرَى إِبَادَةُ أَهْلِهَا وَتَخْرِيبُهَا، وَإِحْيَاؤُهَا إِعَادَةُ عُمْرَانِهَا بِالسُّكَّانِ وَالْبِنَاءِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ (أَيِ الْقَرْيَةَ) اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الْبَقَرَة:

٢٥٩] . وإهلاك النّاس: إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فَمَعْنَى إهلاك الْقُرَى هُنَا شَامِلٌ لِإِبَادَةِ سُكَّانِهَا. لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْقُرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَجُّزِ فِي إِطْلَاقِ الْقُرَى عَلَى أَهْلِ الْقُرَى (كَمَا فِي: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢] لِصِحَّةِ الْحَقِيقَةِ هُنَا، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا

[الْإِسْرَاء: ١٦] فَجَعَلَ إِهْلَاكَهَا تَدْمِيرَهَا، وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها [الْفرْقَان: ٤٠] .

وَالْبَاءُ فِي: بِظُلْمٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ، أَيْ مُهْلِكُهُمْ بِسَبَبِ شِرْكٍ يَقَعُ فِيهَا فَيُهْلِكُهَا وَيُهْلِكُ أَهْلَهَا الَّذِينَ أَوْقَعُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: بِظُلْمِ أَهْلِهَا، لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ وُجُودَ الظُّلْمِ فِيهَا سَبَبُ هَلَاكِهَا، وَهَلَاكُ أَهْلِهَا بِالْأَحْرَى لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْهَلَاكِ.

وَجُمْلَةُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ حَالٌ مِنَ الْقُرى. وَصَرَّحَ هُنَا بِ أَهْلُها تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْقُرَى مِنْ جَرَّاءِ أَفْعَالِ سُكَّانِهَا، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: ٥٢] .

[١٣٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٢]

وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

(١٣٢)

احْتِرَاسٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [الْأَنْعَام: ١٣١] لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْغَالِبِ عَلَى أَهْلِهَا الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ لَا يُحْرَمُونَ جَزَاءَ صَلَاحِهِمْ.

وَالتَّنْوِينُ فِي: وَلِكُلٍّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: أَيْ وَلِكُلِّهِمْ، أَيْ كُلِّ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ دَرَجَاتٌ. يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ لَا يُضَاعُ إِيمَانُهُمْ. وَالْكَافِرُونَ يُحْشَرُونَ إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا. فَاللَّهُ قَدْ

يُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَتِلْكَ دَرَجَةٌ نَالُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ دَرَجَةُ إِظْهَارِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، وَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْكَافِرُونَ يَحِيقُ بِهِمْ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَهْلِكُ الْقَرْيَةُ بِمُؤْمِنِيهَا ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّعِيمِ فَيَظْهَرُ تَفَاوُتُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]

رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ رَسُول الله ﷺ: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» .

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي «الشُّعَبِ» مَرْفُوعًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ قُبِضُوا مَعَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»، مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله ﷺ «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ (أَيْ عَقَدَ إِصْبَعَيْنِ بِعَلَامَةِ تِسْعِينَ فِي الْحِسَابِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْعُقَدِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْقَافِ) - قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»

. وَالدَّرَجَاتُ هِيَ مَا يُرْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، فِي سُلَّمٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَإِنْ قُصِدَ بِهَا النُّزُولُ إِلَى مَحَلٍّ مُنْخَفِضٍ مِنْ جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ فَهِيَ دَرَكَاتٌ،

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: ١١] وَقَالَ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٥] وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (كُلٍّ) مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الدَّرَجَاتِ كَانَ إِيمَاءً إِلَى تَغْلِيبِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ لَا بَأْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ مُشْرِكِيهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ:

فِي الدُّنْيَا بِالْهِجْرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِحَشْرِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي حَقَّ عَلَى أَهْلِهَا الْعَذَابُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْجُوعِ وَالْخَوْفِ ثُمَّ بِالْغَزْوِ بَعْدَ أَنْ أنجى رَسُوله ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الدَّرَجَاتِ أَنَّ أَسَافِلَهَا دَرَكَاتٌ فَغُلِّبَ دَرَجَاتٌ لِنُكْتَةِ الْإِشْعَارِ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ. وَمن فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَمِلُوا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَيْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِ أَعْمَالِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ خطاب للرّسول ﷺ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَالْمَقْصُودُ

مُشْرِكُو مَكَّةَ، فَهُوَ لِلتَّسْلِيَةِ والتّطمين لِئَلَّا يستبطىء وَعْدَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ بَابِ: وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامر- بتاء الْخطاب-، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ وَعْدٌ بِالْجَزَاءِ عَلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، تَرْشِيحًا لِلتَّعْبِيرِ بِالدَّرَجَاتِ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ، لِيَكُونَ سَلًّا لَهُمْ مِنْ وَعِيدِ أَهْلِ الْقُرَى أَصْحَابِ الظُّلْمِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْن مُرَاد الله تَعَالَى فِيمَا أَحْسِبُ.

[١٣٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٣]

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عَلَى جُمْلَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام:

١٣٢] إِخْبَارًا عَنْ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ عَمَلِهِ، وَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ غِنَاهُ تَعَالَى عَنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمُوَالَاتِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: ٧]، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَتِهِ إِذْ أَمْهَلَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ، كَمَا قَالَ: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٥٨] .

وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ إِظْهَارٌ، فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمَا فِي اسْمِ الرَّبِّ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى الْعِنَايَةِ بِصَلَاحِ الْمَرْبُوبِ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا فَتَسِيرُ مَسْرَى الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ، وَلِلتَّنْوِيهِ بشأن النبيء ﷺ.

وَالْغَنِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْغَنِيُّ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ بِحَالٍ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ: إِنَّ صِفَةَ الْغَنِيِّ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ مَعْنَاهَا وُجُوبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّ افْتِقَارَ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُوجِدِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يُرَجِّحُ طَرَفَ وُجُودِهِ عَلَى طَرَفِ عَدَمِهِ، هُوَ أَشَدُّ الِافْتِقَارِ، وَأَحْسِبُ أَنَّ مَعْنَى الْغَنِيِّ لَا يثبت فِي اللّغة للشّيء إلّا بِاعْتِبَار أنّه مَوْجُود فَلَا يَشْمَل معنى الْغنى صِفَةُ الْوُجُودِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اصْطِلَاحًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ خَاصًّا بِمَعْنَى الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُغْنِي، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْغَنِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٣٥] .

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ مُقْتَضٍ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ الْغِنَى عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ غِنَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ غِنًى نَاقِصًا نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، أَيْ رَبُّكَ الْغَنِيُّ لَا غَيْرُهُ، وَغِنَاهُ تَعَالَى حَقِيقِيٌّ. وَذِكْرُ وَصْفِ الْغَنِيِّ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْحُكْمِ الْوَارِدِ عَقِبَهُ، وَهُوَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهُوَ مِنْ تَقْدِيمِ الدَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الدَّعْوَى، تَذْكِيرًا بِتَقْرِيبِ حُصُولِ الْجَزْمِ بِالدَّعْوَى.

وَ(ذُو الرَّحْمَةِ) خَبَرٌ ثَانٍ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِوَصْفِ الرَّحِيمِ إِلَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ:

ذُو الرَّحْمَةِ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلَّهِ لَا يَنْتَفِعُ الْخَلَائِقُ إِلَّا بِلَوَازِمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهِيَ جُودُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ غِنَاهُ، بِخِلَافِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَهَا يَنْفَعُ الْخَلَائِقَ، فَأُوثِرَتْ بِكَلِمَةِ ذُو لِأَنَّ ذُو كَلِمَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِالْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَاهَا صَاحِبُ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقُوَّةِ أَوْ وَفْرَةِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ ذُو إِنْصَافٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُقَالُ ذُو مَالٍ لِمَنْ عِنْدَهُ مَالٌ قَلِيلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِذِي الرَّحْمَةِ، هُنَا تَمْهِيدٌ لِمَعْنَى الْإِمْهَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، أَيْ فَلَا يقولنّ أحد لماذَا لَمْ يُذْهِبْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ أَنَّهُ لِرَحْمَتِهِ أَمْهَلَهُمْ إِعْذَارًا لَهُمْ.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.

اسْتِئْنَافٌ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الْإِنْذَارَ بِعَذَابِ الْإِهْلَاكِ، فَيَقُولُونَ:

مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨] وَذَلِكَ مَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤] .

فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَن يكون للنبيء ﷺ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِمَنْ يَغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ من الْمُشْركين، وَيجوز أَن يكون إقبالا على خطاب الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ تَهْدِيدًا صَرِيحًا.

وَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يُعَجِّلْ بِإِفْنَائِكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ من بعدكم مِنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ فَمَا إِمْهَالُهُ إِيَّاكُمْ إِلَّا لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.

وَجُمْلَة الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنِ الْمُبْتَدَأ.

ومفعول: يَشَأْ مَحْذُوفٌ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمَأْلُوفَةِ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ.

وَالْإِذْهَابُ مَجَازٌ فِي الْإِعْدَامِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٨] .

وَالِاسْتِخْلَافُ: جَعْلُ الْخَلَفِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْخَلَفُ: الْعِوَضُ عَنْ شَيْءٍ فَائِتٍ، فَالسِّينُ

وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ عَامَّةٌ، أَيْ: مَا يَشَاءُ مِنْ مُؤْمِنِينَ أَوْ كَافِرِينَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الضَّمِيرِ يُفِيدُ الْعُمُومَ.

وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ تَشْبِيهٌ فِي إِنْشَاءِ مَوْجُودَاتٍ بَعْدَ مَوْجُودَاتٍ أُخْرَى، لَا فِي كَوْنِ الْمُنْشَئَاتِ مُخْرَجَةً مِنْ بقايا المعدومات، وَيجوز أَن يكون التّشبيه فِي إنْشَاء موجودات من بقايا معدومات كَمَا أَنْشَأَ الْبَشَرَ نَشْأَةً ثَانِيَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ فِي السَّفِينَةِ مَعَ نُوحٍ عليه السلام، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَعْرِيضًا بِإِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ.

وَكَافُ التَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ نِيَابَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، لِأَنَّهَا وَصْفٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اسْتِخْلَافًا كَمَا أَنْشَأَكُمْ، فَإِنَّ الْإِنْشَاءَ يَصِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِخْلَافِ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَمَعْنَى الذُّرِّيَّةِ وَاشْتِقَاقِهَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤] .

وَوَصْفُ قَوْمٍ بِ آخَرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ، أَيْ قَوْمٍ لَيْسُوا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَن ينشيء أَقْوَامًا من أَقْوَامًا يُخَالِفُونَهُمْ فِي اللُّغَةِ وَالْعَوَائِدِ وَالْمَوَاطِنِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَبَاعُدِ الْعُصُورِ، وَتَسَلْسُلِ الْمُنْشَآتِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لَا يَحْدُثُ إِلَّا فِي أَزْمِنَةٍ بَعِيدَةٍ، فَشَتَّانَ بَيْنِ أَحْوَالِ قَوْمِ نُوحٍ وَبَيْنَ أَحْوَالِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَبَيْنَ ذَلِكَ قُرُونٌ مُخْتَلفَة متباعدة.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٤]

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٣] فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى حَالَيْنِ: حَالِ تَرْكِ إِهْلَاكِهِمْ، وَحَالِ إِيقَاعِهِ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَلَّقَتْ بِإِيقَاعِ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِذْهَابِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْجُمْلَةَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا: جَوَابًا عَنْ أَنْ يَقُولَ سَائِلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مُتَوَرِّكًا بِالْوَعِيدِ: إِذَا كُنَّا قَدْ أُمْهِلْنَا وَأُخِّرَ عَنَّا الِاسْتِئْصَالُ فَقَدْ أَفْلَتْنَا مِنَ الْوَعِيدِ، وَلَعَلَّهُ يَلْقَاهُ أَقْوَامٌ بَعْدَنَا، فَوَرَدَ قَوْلُهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ مَوْرِدَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ النَّاشِئِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ بِتَحْقِيقِ أَنَّ مَا أُوعِدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَإِن تأخّر.

والتّأكيد بِأَن مُنَاسِبٌ لِمَقَامِ الْمُتَرَدِّدِ الطَّالِب، وَزِيَادَة التّأكيد بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَغِّلُونَ فِي إِنْكَارِ تَحَقُّقِ مَا أُوعِدُوا بِهِ مِنْ حُصُولِ الْوَعِيدِ وَاسْتِسْخَارِهِمْ بِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا:

اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ

أَلِيمٍ

[الْأَنْفَال: ٣٢] إفحاما للرّسول ﷺ وَإِظْهَارًا لِتَخَلُّفِ وَعِيدِهِ.

وَبِنَاءُ تُوعَدُونَ لِلْمَجْهُولِ يُصَحِّحُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُضَارِعَ وَعَدَ يَعِدُ، أَوْ مُضَارِعَ أُوعِدَ، يُوعَدُ وَالْمُتَبَادَرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَمِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ اخْتِيَارُ بِنَائِهِ لِلْمَجْهُولِ، لِيَصْلُحَ لَفْظُهُ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ بُنِيَ لِلْمَعْلُومِ لَتَعَيَّنَ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا نَعِدُكُمْ، أَوْ إِنَّ مَا نُوعِدُكُمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّوْجِيهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ السَّامِعِينَ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَلْزِمُ وَعْدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ هُوَ وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فَذَلِكَ كَالتَّرْشِيحِ لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ.

والإتيان مُسْتَعَارٌ لِلْحُصُولِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمَوْعُودِ بِهِ الْمُنْتَظَرِ وُقُوعُهُ بِالشَّخْصِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ إِتْيَانُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَحَقِيقَةُ الْمُعْجِزِ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ طَالِبَ شَيْءٍ عَاجِزًا عَنْ نَوَالِهِ، أَيْ غَيْرُ قَادِرِينَ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْإِفْلَاتِ مِنْ تَنَاوُلِ طَالِبِهِ كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قَبِيصَةَ الطَّائِيُّ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ ... فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا

أَيْ فَلَا تُفْلِتُ مِنِّي بُقْعَةٌ مِنْهَا لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْعَدُوُّ الَّذِي يُطَالِبُنِي. فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِيَّ أَيْ: بِمُفْلِتِينَ مِنْ وَعِيدِي، أَوْ بِخَارِجِينَ عَنْ قُدْرَتِي، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَيْنِ.

وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، فِي نِسْبَةِ الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهِيَ نِسْبَةُ نَفْيِهِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الْإِثْبَاتِ تُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ النَّفْيِ إِذِ النَّفْيُ إِنَّمَا هُوَ كَيْفِيَّةٌ لِلنِّسْبَةِ. وَالْخُصُوصِيَّاتُ مُقْتَضَيَاتُ أَحْوَالِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ النَّفْيُ عَنِ الْإِثْبَاتِ إِلَّا فِي اعْتِبَارِ الْقُيُودِ الزَّائِدَةِ عَلَى أَصْلِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ النَّفْيَ يُعْتَبَرُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا خَاصَّةً وَهِيَ قُيُودُ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِلَّا لَبَطُلَتْ خُصُوصِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ مَفْرُوضَةٌ مَعَ الْإِثْبَاتِ، إِذَا صَارَ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا مَنْفِيًّا، مِثْلُ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِ جُؤَيَّةَ بْنِ النَّضْرِ:

لَا يَأْلَفُ الدِّرْهَمُ الْمَضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ منطق

إِذْ لَا فَرْقَ فِي إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ بَيْنَ هَذَا الْمِصْرَاعِ، وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ: أَلِفَ الدِّرْهَمُ صُرَّتَنَا.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠] فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ

أَنَّ نَفْيَ حِلِّهِنَّ لَهُم حكم ثَابت لَا يخْتَلف، والثّاني يُفِيد أنّ نفي حلّهم لهنّ حُكْمٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يُنْسَخُ، فَهُمَا اعْتِبَارَانِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى بَعْضِ هَذَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٧٦] .

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٥]

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الْأَنْعَام: ١٣٤] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْهُ هُوَ وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا مَرَّ، فَأَعْقَبَهُ بِمَا تَمَحَّضَ لِوَعِيدِهِمْ: وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، لِيُمْلِيَ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِمْلَاءً يُشْعِرُ، فِي مُتَعَارَف بالتّخاطب، بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِمَّا يَزِيدُ الْمَأْمُورَ اسْتِحْقَاقًا لِلْعُقُوبَةِ، وَاقْتِرَابًا مِنْهَا. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ وَيُهَدِّدَهُمْ. وَأمر أَن يبتدىء خِطَابَهُمْ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَرْعِي إِسْمَاعَ الْمُنَادَيْنِ، وَكَانَ الْمُنَادِي عُنْوَانَ الْقَوْمِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ لِحَالِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤] لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

وَالنِّدَاءُ: لِلْقَوْمِ الْمُعَانِدِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّهْدِيدِ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مُخَالِفٌ لِعَمَلِهِ، لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا- مَعَ قَوْلِهِ- إِنِّي عامِلٌ.

فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا لِلتَّسْوِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ لِإِظْهَارِ الْيَأْسِ مِنِ امْتِثَالِهِمْ لِلنُّصْحِ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ نَاصِحُهُمْ نُصْحَهُمْ إِلَى الْإِطْلَاقِ لَهُمْ فِيمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ اسْتِعَارَةٌ إِذْ يُشَبَّهُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ الْمَأْيُوسُ مِنَ ارْعِوَائِهِ بِالْمَأْمُورِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُنْهَى عَنْهُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْهِيَّ صَارَ وَاجِبًا، وَهَذَا تَهَكُّمٌ.

وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، جَاءَ عَلَى التَّأْنِيثِ مِثْلُ مَا جَاءَ الْمُقَامَةُ لِلْمُقَامِ، وَالدَّارَةُ اسْمًا لِلدَّارِ، وَالْمَاءَةُ لِلْمَاءِ الَّذِي يُنْزَلُ حَوْلَهُ، يُقَالُ: أَهْلُ الْمَاءِ وَأَهْلُ الْمَاءَةِ. وَالْمَكَانَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ، تُشَبَّهُ الْحَالَةُ فِي إِحَاطَتِهَا وَتَلَبُّسِ صَاحِبِهَا بِهَا بِالْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي الشَّيْءَ، كَمَا تَقَدَّمَ

إِطْلَاقُ الدَّارِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الْأَنْعَام:

١٢٧]، أَوْ تَكُونُ الْمَكَانَةُ كِنَايَةً عَنِ الْحَالَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْمَرْءِ تَظْهَرُ فِي مَكَانِهِ وَمَقَرِّهِ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ: «يَا فُلَانُ عَلَى مَكَانَتِكَ» أَيْ اُثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ.

وَمَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ اعْمَلُوا عَمَلَكُمُ الْمَأْلُوفَ الَّذِي هُوَ دَأْبُكُمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ.

وعَلى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكَانَةِ لِلْحَالَةِ. لِأَنَّ الْعِلَاوَةَ تُنَاسِبُ الْمَكَانَ، فَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِمُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ. وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا حَالَكُمْ فَلَا مَطْمَعَ لِي فِي اتِّبَاعِكُمْ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى مَكانَتِكُمْ- بِالْإِفْرَادِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ:

مَكَانَاتِكُمُ جَمْعُ مَكَانَةٍ. وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

وَجُمْلَةُ: إِنِّي عامِلٌ تَعْلِيلٌ لِمُفَادِ التَّسْوِيَةِ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا أَيْ لَا يَضُرُّنِي تَصْمِيمُكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَكِنِّي مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَمَلِي، أَيْ أَنِّي غَيْرُ تَارِكٍ لِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ: إِنِّي عامِلٌ لِلتَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ.

وَرُتِّبَ عَلَى عَمَلِهِمْ وَعَمَلِهِ الْإِنْذَارُ بِالْوَعِيدِ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى ذَلِكَ التَّهْدِيدِ.

وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْوُقُوعِ لِأَنَّ حَرْفَيِ التَّنْفِيسِ يُؤَكِّدَانِ الْمُسْتَقْبَلَ كَمَا تُؤَكِّدُ (قَدْ) الْمَاضِي، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى (لَنْ): إِنَّهَا لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ، فَأَخَذَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِفَادَتَهَا تَأْكِيدَ النَّفْيِ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّهْدِيدِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ يَعْلَمُ وُقُوعَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، وَتَصْمِيمُهُ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِهِ وَمُخَالِفٌ لِعَمَلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُوقِنٌ بِحُسْنِ عُقْبَاهُ وَسُوءِ عُقْبَاهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمِلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى الضُّرَّ لِنَفْسِهِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَالِمٌ مِنَ الْآنِ، فَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ وُثُوقِهِ بِأَنَّهُ مُحِقٌّ، وَأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ.

وَقَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ يُعَلِّقُ فِعْلَ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، فَلَا يُعْطَى مَفْعُولَيْنِ اسْتِغْنَاءً بِمُفَادِ الِاسْتِفْهَامِ إِذِ التَّقْدِيرُ: تَعْلَمُونَ أَحَدَنَا تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ.

وَمَوْضِعُ: مَنْ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ: تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ خَبَرُهُ.

وَالْعَاقِبَةُ، فِي اللُّغَةِ: آخِرُ الْأَمْرِ، وَأَثَرُ عَمَلِ الْعَامِلِ، فَعَاقِبَةُ كُلِّ شَيْءٍ هِيَ مَا ينجلي عَنهُ الشَّيْءِ وَيَظْهَرُ فِي آخِرِهِ مِنْ أَثَرٍ وَنَتِيجَةٍ، وَتَأْنِيثُهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَالَةِ فَلَا يُقَالُ: عَاقِبُ

الْأَمْرِ، وَلَكِنْ عَاقِبَةُ وَعُقْبَى.

وَقَدْ خَصَّصَ الِاسْتِعْمَالُ لَفْظَ الْعَاقِبَةِ بِآخِرَةِ الْأَمْرِ الْحَسَنَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْعَاقِبَةُ وَالْعُقْبَى يَخْتَصَّانِ بِالثَّوَابِ نَحْوُ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٢٨]، وَبِالْإِضَافَةِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُوبَةِ نَحْوُ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى [الرّوم: ١٠] وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ مِنْ تَدْقِيقِهِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.

وَالدَّارُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

لَهُمْ دارُ السَّلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٧]، وَتَعْرِيفُ الدَّارِ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الدَّارِ مُطْلَقًا، عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَإِضَافَةُ عاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَيْ حُسْنُ الْأُخَارَةِ الْحَاصِلُ فِي الدَّارِ، وَهِيَ الْفَوْزُ بِالدَّارِ، وَالْفَلَجُ فِي النِّزَاعِ عَلَيْهَا، تَشْبِيهًا بِمَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَنَازَعُونَ عَلَى الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاعِي، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ

اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْفَائِزِينَ فِي عَمَلِهِمْ، مَعَ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، بِحَالَةِ الْغَالِبِ عَلَى امْتِلَاكِ دَارِ عَدُوِّهِ، وَطُوِيَ الْمُرَكَّبُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مِنْ رَوَادِفِهِ، وَهُوَ عاقِبَةُ الدَّارِ، فَإِنَّ التَّمْثِيلِيَّةَ تَكُونُ مُصَرَّحَةً، وَتَكُونُ مَكْنِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يُقَسِّمُوهَا إِلَيْهِمَا، لَكِنَّهُ تَقْسِيمٌ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّارِ مُسْتَعَارَةً لِلْحَالَةِ الَّتِي اسْتَقَرَّ فِيهَا أحد، تَشْبِيها للحالة بِالْمَكَانِ فِي الِاحْتِوَاءِ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ عَاقِبَةُ إِلَى الدَّارِ إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيِ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي هِيَ حَالُهُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً.

وَمِنْ مَحَاسِنِهَا هُنَا: أَنَّهَا بَنَتْ عَلَى اسْتِعَارَةِ الْمَكَانَةِ لِلْحَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ فَصَارَ الْمَعْنَى: اعْمَلُوا فِي دَارِكُمْ مَا أَنْتُمْ عَامِلُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعَ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَةَ تِلْكَ الدَّارِ، أَيْ بَلَدِ مَكَّةَ، أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥] وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَنْ تَكُونُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، بِتَحْتِيَّةٍ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ عَاقِبَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَلَمَّا وَقع فَاعِلا ظَاهرا فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقْرَنَ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَبِدُونِهَا.

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَذْيِيلٌ لِلْوَعِيدِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، سَتَكُونُ عُقْبَى الدَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ، لَا لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ ابْتِدَاءً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَنَّهُ أَمر عَظِيم.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٦]

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)

عَطْفٌ عَلَى نَظَائِرِهِ مِمَّا حُكِيَتْ فِيهِ أَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: ١٠٠] وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: ١٠٩] وَقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ فَهُوَ إِبْطَالٌ لِأَقْوَالِهِمْ، وَرَدٌّ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَتَمْثِيلَاتٌ وَنَظَائِرُ، فَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ غَرَضُ الْكَلَامِ مَنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ:

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١] . وَهَذَا ابْتِدَاءُ بَيَانِ تَشْرِيعَاتِهِمِ الْبَاطِلَةِ، وَأَوَّلُهَا مَا جَعَلُوهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لِلْأَصْنَامِ: مِمَّا يُشْبِهُ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُوجِبُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِالْتِزَامِ مِثْلَ النُّذُورِ، أَوْ بَتَعْيِينٍ مِنَ الَّذِينَ يُشَرِّعُونَ لَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْجَعْلُ هُنَا مَعْنَاهُ الصَّرْفُ وَالتَّقْسِيمُ، كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله ﷺ الْمُخْتَصِمُ فِيهَا الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهم «فَيَجْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» أَيْ يَضَعُهُ وَيَصْرِفُهُ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَى الْجَعْلِ هُوَ التَّصْيِيرُ، فَكَمَا جَاءَ صَيَّرَ لِمَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ، كَذَلِكَ جَاءَ (جَعَلَ)، فَمَعْنَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ: صَرَفُوا وَوَضَعُوا لِلَّهِ، أَيْ عَيَّنُوا لَهُ نَصِيبًا، لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ تَصْيِيرًا تَقْدِيرِيًّا وَنَقْلًا. وَكَذَلِكَ

قَول النّبي ﷺ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»

أَيْ أَنْ تَصْرِفَهَا إِلَيْهِمْ، وَجعل هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ التَّعْدِيَةُ هِيَ أَكْثَرُ أَحْوَالِ تَعْدِيَتِهِ، حَتَّى أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إِلَى مفعولين إنّما مَا فِي الْحَقِيقَةِ مَفْعُولٌ وَحَالٌ مِنْهُ.

وَمَعْنَى: ذَرَأَ أَنْشَأَ شَيْئًا وَكَثَّرَهُ. فَأُطْلِقَ عَلَى الْإِنْمَاءِ لِأَنَّ إِنْشَاءَ شَيْءٍ تَكْثِيرٌ وَإِنْمَاءٌ.

ومِمَّا ذَرَأَ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلُوا، وَمن تَبْعِيضِيَّةٌ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِأَجْلِ دَلَالَةِ صِلَتِهِ عَلَى تَسْفِيهِ آرَائِهِمْ، إِذْ مَلَّكُوا اللَّهَ بَعْضَ مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا ذَرَأَهُ هُوَ مِلْكُهُ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِهِ بِلَا جَعْلٍ مِنْهُمْ.

وَاخْتِيَارُ فِعْلِ: ذَرَأَ هُنَا لِأَنَّهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ، إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ شَرَائِعِهِمِ الْفَاسِدَةِ فِي نَتَائِجِ أَمْوَالِهِمْ. ثُمَّ سَيُبَيِّنُ شَرْعَهُمْ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ فِي قَوْلِهِ:

وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨] الْآيَةَ.

ومِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ بَيَانُ مَا الْمَوْصُولَةِ. وَالْحَرْثُ مُرَادٌ بِهِ الزَّرْعُ وَالشَّجَرُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ الْحَرْثُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الْجَنَّاتِ وَالْمَزَارِعِ، قَالَ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: ٢٢] .

وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْقِسْمُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٢]، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِغَيْرِهِ نَصِيبًا آخَرَ، وَفُهِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ النَّصِيبَ الْآخَرَ لِآلِهَتِهِمْ. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا.

وَالْإِشَارَتَانِ إِلَى النَّصِيبِ الْمُعَيَّنِ لِلَّهِ وَالنَّصِيبِ الْمُعَيَّنِ لِلشُّرَكَاءِ، وَاسْمَا الْإِشَارَةِ مُشَارٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ عَلَى الْإِجْمَالِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي الْمَقَامِ فِي تَعْيِينِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ وَمَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ.

وَالزَّعْمُ: الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ، أَوِ الْقَرِيبُ مِنَ الْخَطَأِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٠]، وَهُوَ مُثَلَّثُ الزَّايِ، وَالْمَشْهُور فِيهِ فتح الزَّاي، وَمثله الرّغم بِالرَّاءِ مُثَلَّثُ الرَّاءِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الزَّايِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِضَمِّ الزَّايِ- وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُمْ:

بِزَعْمِهِمْ ب فَقالُوا وَجُعِلَ قَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ مُوَالِيًا لِبَعْضِ مَقُولِ الْقَوْلِ لِيَكُونَ مُتَّصِلًا بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَيُرَتَّبُ التَّعْجِيبُ مِنْ حُكْمِهِمْ بِأَنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، أَيْ مَا اكْتَفَوْا بِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ حَتَّى نَكَلُوا عَنهُ وأشركوا شركاؤهم فِيمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ.

وَالْبَاءُ الدَّاخِلَة على بِزَعْمِهِمْ إِمَّا بِمَعْنَى مِنَ أَيْ، قَالُوا ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَعْلَنُوا بِهِ قَوْلًا نَاشِئًا عَنِ الزَّعْمِ، أَيِ الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَإِمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا. وَمَحَلُّ الزَّعْمِ هُوَ مَا اقْتَضَتْهُ الْقِسْمَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْآلِهَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلَّهِ قَوْلٌ حَقٌّ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى تَعْيِينِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبِ دُونَ نَصِيبٍ آخَرَ.

كَانَ قَوْلُهُمْ زَعْمًا بَاطِلًا.

وَالشُّرَكَاءُ هُنَا جَمْعُ شَرِيكٍ، أَيْ شَرِيكُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ صَارَ كَالْعِلْمِ بِالْغَلَبَةِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَعْنِي الشَّرِكَةَ ثُمَّ لِأَجْلِ غَلَبَتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى صَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ، فَلِذَلِكَ أَضَافُوهُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، فَقَالُوا: لِشُرَكَائِنَا، إِضَافَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا لَفْظِيَّةٌ، أَيْ لِلشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ (يَعْنِي زَرْعَهُمْ وَشَجَرَهُمْ) وَأَنْعَامَهُمْ نَصِيبًا وَلِلْأَوْثَانِ نَصِيبًا فَمَا كَانَ لِلْأَصْنَامِ أَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْعَمُوهُ الضِّيفَانَ وَالْمَسَاكِينَ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ.

وَكَانُوا يَجْعَلُونَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ لِلْأَصْنَامِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ (خَوْلَانَ) كَانَ لَهُمْ صَنَمٌ اسْمُهُ (عَمَّ أَنَسٍ) يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ

أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قِسَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لِلصَّنَمِ وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْ حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) رَدُّوهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمُ (الْأَدِيمُ) قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ الْآيَةَ.

وَقَوْلُهُ: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَانُوا إِذَا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إِلَى الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ أَقَرُّوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا حَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ إِلَى الَّذِي لِلَّهِ رَدُّوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا لِأَصْنَامِهِمْ بِقَحْطٍ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ، وَإِذَا انْفَجَرَ مِنْ سُقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَسَاحَ إِلَى مَا لِلَّذِي لِلْأَصْنَامِ تَرَكُوهُ وَإِذَا انْفَجَرَ مَنْ سُقْيِ مَا لِلْأَصْنَامِ فَدَخَلَ فِي زَرْعِ الَّذِي لِلَّهِ سَدُّوهُ. وَكَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ اسْتَعَانُوا بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَقَرُّوا مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ لِلشُّرَكَاءِ، وَإِذَا هَلَكَ الّذي جَعَلُوهُ للأصنام وَكثر الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ قَالُوا: لَيْسَ لِآلِهَتِنَا بُدٌّ مِنْ نَفَقَةٍ وَأَخَذُوا الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا أَجْدَبَ الَّذِي لِلَّهِ وَكَثُرَ الَّذِي لِآلِهَتِهِمْ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَزْكَى الَّذِي لَهُ فَلَا يَرُدُّونَ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ شَيْئًا مِمَّا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي صَوْنِهِ مِنْ أَنْ يُعْطَى لِمَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَصِلُ فَهُوَ لَا يُتْرَكُ إِذَا وَصَلَ بِالْأَوْلَى.

وَعُدِّيَ يَصِلُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَإِلَى اسْمِ شُرَكَائِهِمْ. وَالْمُرَادُ لَا يَصِلُ إِلَى النَّصِيبِ الْمَجْعُولِ لِلَّهِ أَوْ إِلَى لِشُرَكَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا نَصِيبًا لِلَّهِ وَنَصِيبًا لِشُرَكَائِهِمْ فَقَدِ اسْتَشْعَرُوا ذَلِكَ النَّصِيبَ مَحُوزًا لِمَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ وَفِي حِرْزِهِ فَكَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ذَاتِهِ.

وَجُمْلَةُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ اسْتِئْنَافٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ شَرَائِعِهِمْ. وَسَاءَ هُنَا بِمَعْنَى بِئْسَ:

وَمَا هِيَ فَاعِلُ ساءَ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا يَحْكُمُونَ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ: جَعَلُوا

عَلَيْهِ، أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ جَعْلُهُمْ، وَسَمَّاهُ حُكْمًا تَهَكُّمًا، لِأَنَّهُمْ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِتَعْيِينِ الْحُقُوقِ، فَفَصَلُوا بِحُكْمِهِمْ حَقَّ اللَّهِ مِنْ حَقِّ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ أَبَاحُوا أَنْ تَأْخُذَ الْأَصْنَامُ حَقَّ اللَّهِ وَلَا يَأْخُذَ اللَّهُ حَقَّ الْأَصْنَامِ، فَكَانَ حُكْمًا بَاطِلًا كَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠] .

[١٣٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٧]

وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)

عطف على جملَة: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا [الْأَنْعَام: ١٣٦] وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوا وَزَيَّنَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، فَهَذِهِ حِكَايَةُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَشْرِيعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَصَرُّفِهِمْ فِي ذُرِّيَّاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي نَتَائِجِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَقَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ فِي الْفَسَادِ الَّذِي حَسَّنَ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ قَتْلُهُمْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْسِ التَّزْيِينِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يُمَثِّلَهُ بِشَيْءٍ فِي الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ شَيْءٌ مَبْلَغَ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي بَابِهِ، فَيَلْجَأْ إِلَى تَشْبِيهِهِ بِنَفْسِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ «وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا» . وَالتَّقْدِيرُ: وَزَيَّنَ شُرَكَاءُ الْمُشْرِكِينَ لِكَثِيرٍ فِيهِمْ تَزْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنُوهُ لَهُمْ، وَهُوَ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣] .

وَمَعْنَى التَّزْيِينِ التَّحْسِينُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَمَعْنَى تَزْيِينِ ذَلِكَ هُنَا أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لَهُمْ فَوَائِدَ وَقُرَبًا فِي هَذَا الْقَتْلِ، بِأَنْ يُلْقُوا إِلَيْهِمْ مَضَرَّةَ الِاسْتِجْدَاءِ وَالْعَارِ فِي النِّسَاءِ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُرْجَى مِنْهُنَّ نَفْعٌ لِلْقَبِيلَةِ، وَأَنَّهُنَّ يُجَبِّنَّ الْآبَاءَ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَيُؤْثِرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ على آبائهن، فقتلهنّ أصلح وأنفع من استبقائهن، وَنَحْو هَذَا من الشّبه والتّمويهات، فَيَأْتُونَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَرُوجُ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُفْرِطِينَ فِي الْغَيْرَةِ، وَالْجُمُوحِ مِنَ الْغَلَبِ وَالْعَارِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي ... وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا

وَإِنَّمَا قَالَ: لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ،

وَكَانَ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَهُمَا جَمْهَرَةُ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ كُلُّ الْآبَاءِ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ يَفْعَلُهُ.

وَأَسْنَدَ التَّزْيِينَ إِلَى الشُّرَكَاءِ: إِمَّا لِإِرَادَةِ الشَّيَاطِينِ الشُّرَكَاءِ، فَالتَّزْيِينُ تَزْيِينُ الشَّيَاطِينِ بِالْوَسْوَسَةِ، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّزْيِينَ نَشَأَ لَهُمْ عَنْ إِشَاعَةِ كُبَرَائِهِمْ فِيهِمْ، أَوْ بِشَرْعٍ وَضَعَهُ لَهُمْ مَنْ وَضَعَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَفَرَضَ لَهَا حُقُوقًا فِي أَمْوَالِهِمْ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَيَكُونُ إِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مَجَازًا عَقْلِيًّا لِأَنَّ الْأَصْنَامَ سَبَبُ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١] .

وَالْمَعْنِيُّ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْوَأْدُ، وَهُوَ دَفْنُ الْبَنَاتِ الصَّغِيرَاتِ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ بِغُمَّةِ التُّرَابِ، كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١]، وخشية أَنْ تُفْتَضَحَ الْأُنْثَى بِالْحَاجَةِ إِذَا هَلَكَ أَبُوهَا، أَوْ مَخَافَةَ السِّبَاءِ، وَذَكَرَ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» عَنِ النَّقَّاشِ فِي «تَفْسِيرِهِ»: أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنَ الْبَنَاتِ مَنْ

كَانَتْ زَرْقَاءَ أَوْ بَرْشَاءَ، أَوْ شَيْمَاءَ، أَوْ رَسْحَاءَ، تَشَاؤُمًا بِهِنَّ- وَهَذَا مِنْ خَوَرِ أَوْهَامِهِمْ- وَأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: ٨، ٩]، وَقِيلَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْغِيرَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِينَ مَا يَتَعَيَّرَ مِنْهُ أَهْلُهُنَّ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُبَرِّدُ فِي «الْكَامِلِ»، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ تَمِيمًا مَنَعَتِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْإِتَاوَةَ فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْمُنْذِرِ فَاسْتَاقَ النِّعَمَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ، فَوَفَدَتْ إِلَيْهِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَنَابُوا وَسَأَلُوهُ النِّسَاءَ فَقَالَ النُّعْمَانُ: كُلُّ امْرَأَةٍ اخْتَارَتْ أَبَاهَا رُدَّتْ إِلَيْهِ وَإِنِ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا (أَيِ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ بِالسَّبْيِ) تُرِكَتْ عَلَيْهِ فَكُلُّهُنَّ اخْتَارَتْ أَبَاهَا إِلَّا ابْنَةٌ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ اخْتَارَتْ صَاحِبَهَا عَمْرَو بْنَ الْمُشَمْرَجِ، فَنَذَرَ قَيْسٌ أَنْ لَا تُولَدَ لَهُ ابْنَةٌ إِلَّا قَتَلَهَا فَهَذَا شَيْءٌ يَعْتَلُّ بِهِ مَنْ وَأَدُوا، يَقُولُونَ: فَعَلْنَاهُ أَنَفَةً، وَقَدْ أَكْذَبَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ بِقَوْلِهِ:

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا [الْأَنْعَام: ١٤٠] .

وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يُحْيِيَ الْمَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَ مَؤُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَؤُونَتَهَا. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ الْبِنْتَ وَقْتَ وِلَادَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَرَاهَا أمّها، قَالَ الله تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [النَّحْل: ٥٨، ٥٩] . وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ

مُجَاشِعٍ، وَهُوَ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ، يَفْدِي الْمَوْءُودَةَ، يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ بِذَلِكَ فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ:

وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوءَدِ

وَقَدْ أَدْرَكَ جَدُّهُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ. وَلَا يُعْرَفُ فِي تَارِيخِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ غَيْرَ هَذَا الْوَأْدِ إِلَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الَّذِي

سَنَذْكُرُهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ يَقَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتَكَرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَأْدَ طَريقَة سنّها أئمّة الشِّرْكِ لِقَوْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِمْ، فَهِيَ ضَلَالَةٌ ابْتَدَعُوهَا لِقَوْمِهِمْ بِعِلَّةِ التَّخَلُّصِ مِنْ عَوَائِقِ غَزْوِهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمِنْ مَعَرَّةِ الْفَاقَةِ وَالسِّبَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى إِنْجَازِ أَمْرِ الْمَوْءُودَةِ إِذَا رَأَوْا مِنْ بَعْضِهِمْ تَثَاقُلًا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ «الْكَشَّافُ» إِذْ قَالَ: «وَالْمعْنَى أنّ شركاؤهم مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ مِنْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ زَيَّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ بالوأد أَو بالنّحر» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالشُّرَكَاءُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُمُ الَّذِينَ يَتَنَاوَلُونَ وَأْدَ بَنَاتِ الْغَيْرِ فَهُمُ الْقَاتِلُونَ.

وَفِي قِصَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ نَذَرَ إِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ عَشَرَةَ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ عَدُوِّهِ، لِيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ بَنُوهُ عَشَرَةً بِهَذَا الْمَبْلَغِ دَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ فَأَطَاعُوهُ وَاسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ (هُبَلَ) الصَّنَمِ وَكَانَ (هُبَلُ) فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ لِيَذْبَحَهُ بَين (إساف) و(نائلة) فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَا تَذْبَحُهُ حَتَّى تُعْذَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِدَاءٌ فَدَيْنَاهُ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِاسْتِفْتَاءِ عَرَّافَةٍ بِخَيْبَرَ فَرَكِبُوا إِلَيْهَا فَسَأَلُوهَا وَقَصُّوا عَلَيْهَا الْخَبَرَ فَقَالَتْ: قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَزِيدُ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ وَيَخْرُجُ الْقَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً فَضَرَبَ عَلَيْهَا فَخَرَجَ الْقَدَحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا. وَلَعَلَّ سَدَنَةَ الْأَصْنَامِ كَانُوا يَخْلِطُونَ أَمْرَ الْمَوْءُودَةِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى أَصْنَامِ بَعْضِ الْقَبَائِلِ (كَمَا كَانَتْ سُنَّةً مَوْرُوثَةً فِي الْكَنْعَانِيِّينَ مِنْ نَبَطِ الشَّامِ يُقَرِّبُونَ صِبْيَانَهُمْ إِلَى الصَّنَمِ مَلُوكَ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ الْقَتْلِ إِلَى الشُّرَكَاءِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زَيَّنَ- بِفَتْحِ الزَّايِ- وَنَصْبِ: قَتْلَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ زَيَّنَ، وَرَفْعِ شُرَكاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ: زَيَّنَ، وَجَرِّ أَوْلادِهِمْ بِإِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ

الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ بِبِنَاءِ فِعْلِ زَيَّنَ لِلنَّائِبِ، وَرَفْعِ قَتْلَ عَلَى أَنه نَائِب الْفَاعِل، وَنَصْبِ أَوْلادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قَتْلَ، وَجَرِّ شُرَكائِهِمْ عَلَى إِضَافَةِ قَتْلَ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَتْ كَلِمَةُ شُرَكائِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الَّذِي بِبِلَادِ الشَّامِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ رَسَمُوا تِلْكَ الْكَلِمَةِ رَاعَوْا قِرَاءَةَ شُرَكائِهِمْ بِالْكَسْرِ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي سَنَدِ قراءات الْقُرْآن، إِذا كُتِبَ كَلِمَةُ شُرَكائِهِمْ بِصُورَةِ الْيَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَكْسُورَةٌ، وَالْمَعْنَى، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَنْ مُزَيِّنًا زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْتُلَ شُرَكَاؤُهُمْ أَوْلَادَهُمْ، فَإِسْنَادُ الْقَتْلِ إِلَى الشُّرَكَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِمَّا لِأَنَّ الشُّرَكَاءَ سَبَبُ الْقَتْلِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الَّذِينَ شَرَّعُوا لَهُمُ الْقَتْلَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِدِيَانَةِ الشِّرْكِ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَتْلِ الْوَأْدَ، فَالشُّرَكَاءُ سَبَبٌ وَإِنْ كَانَ الْوَأْدُ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَانًا لَهُمْ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ) فَالشُّرَكَاءُ سَبَبُ السَّبَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ.

وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُنَاكِدُ فَصَاحَةَ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ يُبَيِّنُ مَعَاني الْكَلِمَات ومواقعها، وَإِعْرَابُهَا مُخْتَلِفٌ مِنْ رَفْعٍ وَنَصْبٍ وَجَرٍّ بِحَيْثُ لَا لَبْسَ فِيهِ، وَكَلِمَاتُهَا ظَاهِرٌ إِعْرَابُهَا عَلَيْهَا، فَلَا يُعَدُّ تَرْتِيبُ كَلِمَاتِهَا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ مِنَ التَّعْقِيدِ الْمُخِلِّ بِالْفَصَاحَةِ، مِثْلُ التَّعْقِيدِ الَّذِي فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ

- لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى خَلَلِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّهُ خَلَلٌ فِي أَرْكَانِ الْجُمْلَةِ وَمَا حَفَّ بِهِ مِنْ تَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ الْمُتَشَابِهَةِ- وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مِمَّا يُخَالِفُ مُتَعَارَفَ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ، وَالْخَطْبُ فِيهِ

سَهْلٌ: لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بالمفعول، وَجَاءَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ بِالتَّهْوِيلِ، وَالضَّجِيجِ وَالْعَوِيلِ، كَيْفَ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ وَزَادَ طُنْبُورُ الْإِنْكَارِ نَغْمَةً. فَقَالَ: وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى عَادَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي تَوْهِينِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، إِذَا خَالَفَتْ مَا دُوِّنَ عَلَيْهِ عِلْمُ النَّحْوِ، لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ اخْتِيَارَاتٌ وَأَقْيِسَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَفِي الْإِعْرَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا تُنَاكِدَ الْفَصَاحَةَ.

وَمُدَوَّنَاتُ النَّحْوِ مَا قُصِدَ بِهَا إِلَّا ضَبْطُ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ لِيَجْرِيَ عَلَيْهَا النَّاشِئُونَ فِي

اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَيْسَتْ حَاصِرَةً لِاسْتِعْمَالِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَالْقُرَّاءُ حُجَّةٌ عَلَى النُّحَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَوَاعِدُ النَّحْوِ لَا تَمْنَعُ إِلَّا قِيَاسَ الْمُوَلَّدِينَ عَلَى مَا وَرَدَ نَادِرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، وَالنُّدْرَةُ لَا تُنَافِي الْفَصَاحَةَ، وَهَلْ يُظَنُّ بِمِثْلِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مُتَابَعَةً لِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي الْكِتَابَةِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُبْتَدِئِينَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَلَّا كَانَ رَسْمُ الْمُصْحَفِ عَلَى ذَلِكَ الشَّكْلِ هَادِيًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَتَفَطَّنَ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ الرَّسْمِ. أَمَّا ابْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ: «هِيَ قِرَاءَةٌ ضَعِيفَةٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ» يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَصْلَ نَادِرٌ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ ضَعْفَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ النُّدُورَ لَا يُنَافِي الْفَصَاحَةَ.

وَبَعَّدَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا لِلتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: لِيُرْدُوهُمْ وَتَبْعِيدُ ابْنِ عَطِيَّةَ لَهَا تَوَهُّمٌ: إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يُزَيِّنُوا لَهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَاقِبَةِ مَجَازًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [الْقَصَص: ٨] . وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا- بِفَتْحِ الزَّايِ وَنَصْبِ: الْقَتْلِ وَخَفْضِ: أَوْلادِهِمْ وَرَفْعِ: شُرَكاؤُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي نَصْبِ نَفْسِهِ حَكَمًا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ.

وَاللَّامُ فِي: لِيُرْدُوهُمْ لَامُ الْعَاقِبَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامَ، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ ذَلِكَ قَصْدًا لِنَفْعِهِمْ، فَانْكَشَفَ عَنْ أَضْرَارٍ جَهِلُوهَا. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْجِنَّ، أَيِ الشَّيَاطِينَ فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ: لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الشَّرِّ مِنْ طَبِيعَةِ الْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ الشَّرَّ وَيَنْسَاقُ إِلَيْهِ انْسِيَاقَ الْعَقْرَبِ لِلَّسْعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى كَوْنِ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ مُرْدِيًا وَمُلْبِسًا فَإِنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لَا يَقْصِدُونَ إِضْرَارَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا دَعَوْهُمْ إِلَى أَشْيَاءَ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَضَارُّ كَانَ تَزْيِينُهُمْ مُعَلَّلًا بِالْإِرْدَاءِ وَالْإِلْبَاسِ وَإِنْ لَمْ يَفْقَهُوهُ بِخِلَافِ مَنْ دَعَا لِسَبَبٍ فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَالضَّمِيرُ لِلشُّرَكَاءِ وَالتَّعْلِيلُ لِلتَّزْيِينِ.

وَالْإِرْدَاءُ: الْإِيقَاعُ فِي الرَّدَى، وَالرَّدَى: الْمَوْتُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الضُّرِّ الشَّدِيدِ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً وَذَلِكَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَلَبَّسَ عَلَيْهِ أَوْقَعَهُ فِي اللَّبْسِ، وَهُوَ الْخَلْطُ وَالِاشْتِبَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٢]، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩] . أَيْ أَنْ يَخْلِطُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فَيُوهِمُوهُمُ الضَّلَالَ رُشْدًا وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَاهُ، وَيُخَيِّلُونَ إِلَيْهِمْ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مصلحَة. وَمن أقولهم: «دَفْنُ الْبُنَاهْ

مِنَ الْمَكْرُمَاهْ» (الْبُنَاهْ. وَالْمَكْرُمَاهْ. بِالْهَاءِ سَاكِنَةً فِي آخِرِهِمَا. وَأَصْلُهَا تَاءُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ فَغُيِّرَتْ لِتَخْفِيفِ الْمَثَلِ) وَهَكَذَا شَأْنُ الشُّبَهِ وَالْأَدِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ.

فَمَعْنَى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ لَهُمْ دِينًا مُخْتَلِطًا مِنْ أَصْنَافِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعِ الْجُبَّةَ، أَيِ اجْعَلْهَا وَاسِعَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لِيُدْخِلُوا عَلَيْهِمُ اللَّبْسَ فِي الدِّينِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، أَيِ الْحَنِيفِيَّةُ، فَيَجْعَلُوا فِيهِ أَشْيَاءَ مِنَ الْبَاطِلِ تَخْتَلِطُ مَعَ الْحَقِّ.

وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي:

فَعَلُوهُ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَصَمَهُمْ مِنْ تَزْيِينِ شُرَكَائِهِمْ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَصَدَّهُمْ عَنْ إِغْوَاءِ أَتْبَاعِهِمْ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ يَعُودُ إِلَى الْقَتْلِ أَوْ إِلَى التَّزْيِينِ عَلَى التَّوْزِيعِ، عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي ضَمِيرِ الرّفع.

وَالْمرَاد: ب مَا يَفْتَرُونَ مَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ بِنِسْبَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا اقْتَرَفُوهُ، وَكَانَ افْتِرَاؤُهُمُ اتِّبَاعًا لِافْتِرَاءِ شُرَكَائِهِمْ، فَسَمَّاهُ افْتِرَاءً لِأَنَّهُمْ تَقَلَّدُوهُ عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، فَكَأَنَّهُمْ شَارَكُوا الَّذِينَ افْتَرَوْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَوْ سَدَنَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَادَةِ دِينِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ:

افْتِراءً عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: ١٣٨] وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا [الْأَنْعَام: ١٥٠] .

[١٣٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٨]

وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧] وَهَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَحْجِيرِ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَعْيِينِ مَصَارِفِهِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا قَالُوهُ هُوَ مِنْ تَلْقِينِ شُرَكَائِهِمْ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى زَيَّنَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ.

وَالْإِشَارَةُ بِهَذِهِ وَهَذِهِ إِلَى حَاضِرٍ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِنْدَ صُدُورِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ أحدهم هَذِه الْأَصْنَاف مَصْرِفُهَا كَذَا، وَهَذِهِ مَصْرِفُهَا كَذَا، فَالْإِشَارَةُ مِنْ مَحْكِيِّ

قَوْلِهِمْ حِينَ يُشَرِّعُونَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ

دِينِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَاسِمُ: هَذَا لِفُلَانٍ، وَهَذَا لِلْآخَرِ.

وَأَجْمَلَ ذَلِكَ هُنَا إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَام: ١٣٦] وَقَدْ صَنَّفُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ:

صِنْفٌ مُحْجَرٌ عَلَى مَالِكِهِ انْتِفَاعُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْمَالِكُ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَيِّنُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَزَرْعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ شَيْئًا يَحْجُرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَيُعَيِّنُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُونَ مِنْ سَدَنَةِ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ، وَخَدَمَتِهَا، فَتُنْحَرُ أَو تذبح عِنْد مَا يَرَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَتَكُونُ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَالْوَافِدِينَ عَلَى بُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَإِضَافَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ تُدْفَعُ إِلَى مَنْ عُيِّنَتْ لَهُ، يَصْرِفُهَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ. وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ أَشْيَاءٌ مُعَيَّنَةٌ بِالِاسْمِ، لَهَا حُكْمٌ مُنْضَبِطٌ مِثْلُ الْبَحِيرَةِ: فَإِنَّهَا لَا تُنْحَرُ وَلَا تُؤَكَلُ إِلَّا إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، فَيَحِلُّ أَكْلُهَا لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا كَانَ لَهَا دَرٌّ لَا يَشْرَبُهُ إِلَّا سَدَنَةُ الْأَصْنَامِ وَضُيُوفُهُمْ، وَكَذَلِكَ السَّائِبَةُ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَالسَّدَنَةُ، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَكْلُهَا كَالْبَحِيرَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَامِي، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

فَمَعْنَى لَا يَطْعَمُها لَا يَأْكُلُ لَحْمَهَا، أَيْ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهَا. وَنُونُ الْجَمَاعَةِ فِي نَشاءُ مُرَادٌ بِهَا الْقَائِلُونَ، أَيْ يَقُولُونَ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، أَيْ مَنْ نُعَيِّنُ أَنْ يَطْعَمَهَا، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»: يَعْنُونَ خَدَمَ الْأَوْثَانِ وَالرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ.

وَالْحَرْثُ أَصْلُهُ شَقُّ الْأَرْضِ بِآلَةٍ حَدِيدِيَّةٍ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ، وَيُطْلَقُ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَكَانِ الْمَحْرُوثِ وَعَلَى الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَالْمَغْرُوسَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَرْثٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [الْقَلَم: ٢٢] فَسَمَّاهُ حَرْثًا فِي وَقْتِ جُذَاذِ الثِّمَارِ.

وَالْحجر: اسْمٌ لِلْمُحْجَرِ الْمَمْنُوعِ، مِثْلُ ذَبْحٍ لِلْمَذْبُوحِ، فَمَنْعُ الْأَنْعَامِ مَنْعُ أَكْلِ لُحُومِهَا، وَمَنْعُ الْحَرْثِ مَنْعُ أَكْلِ الْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالثِّمَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ.

وَقَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ وَبَيْنَ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها. وَالْبَاءُ فِي: بِزَعْمِهِمْ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا يَطْعَمُها لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ أَكْلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ زَعْمِهِمْ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّفْيِ نَفْيَ الْإِبَاحَةِ، أَيْ لَا يَحِلُّ أَنْ

يَطْعَمَهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، فَالْمَعْنَى: اعْتَقَدُوهَا حَرَامًا لِغَيْرِ مَنْ عَيَّنُوهُ، حَتَّى أَنْفُسَهُمْ، وَمَا هِيَ بِحَرَامٍ، فَهَذَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: ١٣٦] .

وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، أَيْ حُرِّمَ رُكُوبُهَا، مِنْهَا الْحَامِي: لَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ، وَلَهُ ضَابِطٌ مُتَّبَعٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنْهَا أَنْعَامٌ يُحَرِّمُونَ ظُهُورَهَا، بِالنَّذْرِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِذَا فَعَلَتِ النَّاقَةُ كَذَا مِنْ نَسْلٍ أَوْ مُوَاصَلَةٍ بَيْنَ عِدَّةٍ مِنْ إِنَاثٍ، وَإِذَا فَعَلَ الْفَحْلُ كَذَا وَكَذَا، حَرُمَ ظَهْرُهُ. وَهَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ مَادِحًا الْأَمِينَ:

وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بلّغن مُحَمَّدًا ... فظهور هن عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ

فَقَوْلُهُ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها مَعْطُوفٌ عَلَى: أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فَهُوَ كَخَبَرٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَعُلِمَ أَنَّهُ عَطْفُ صِنْفٍ لِوُرُودِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوْصَافِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَقِبَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ وَهَذِهِ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا

وَبُنِيَ فِعْلُ: حُرِّمَتْ لِلْمَجْهُولِ: لِظُهُورِ الْفَاعِلِ، أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ ظُهُورَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: افْتِراءً عَلَيْهِ.

وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، أَيْ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ نَحْرِهَا أَوْ ذَبْحِهَا، يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا أُهْدِيَ لِلْجِنِّ أَوْ لِلْأَصْنَامِ يُذْكَرُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا قُرِّبَ لَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ لِتَكُونَ خَالِصَةَ الْقُرْبَانِ لِمَا عُيِّنَتْ لَهُ، فَلِأَجْلِ هَذَا الزَّعْمِ قَالَ تَعَالَى: افْتِراءً عَلَيْهِ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَحْرِيمُ ذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى مَا يُقَرَّبُ لِغَيْرِهِ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْبَانِ الَّذِي يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لِشُرَكَائِهِ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» .

وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو وَائِلٍ (١)، الْأَنْعَامُ الَّتِي لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُمْ سُنَّةً فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ أَنْ لَا يُحَجَّ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ تُرْكَبُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا الْحَجَّ، وَأَنَّهَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ حِينَ الْكَوْنِ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ تَلْبِيَةٍ وَتَكْبِيرٍ، فَيَكُونُ: لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا

كِنَايَةً عَنْ مَنْعِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَامِي وَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا نَفْعَهَا لِلْأَصْنَامِ لَمْ يُجِيزُوا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي غَيْرِ خِدْمَةِ الْأَصْنَامِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:

(١) الْأَظْهر أنّه شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي الْكُوفِي من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَيحْتَمل أنّه عبد الله بن بحير- بموحدة مَفْتُوحَة فحاء مُهْملَة مَكْسُورَة- الْمرَادِي الصَّنْعَانِيّ القاصّ، وثّقه ابْن معِين.

وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهُوَ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ، بِقَرِينَةِ اسْتِيفَاءِ أَوْصَافِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ.

وَانْتَصَبَ: افْتِراءً عَلَيْهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ قالُوا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ قَوْلَ افْتِرَاءٍ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْقَوْلِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْقَوْلِ، وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِقَائِلِهِ فِيهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ:

وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣] . وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمِ افْتِرَاءً: لِأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِيهِ لِشَيْءٍ لَيْسَ وَارِدًا لَهُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَلَالِ كُبَرَائِهِمْ.

وَجُمْلَةُ: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى الْخَالِقِ أَمْرٌ شَنِيعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنْ جَزَاءِ افْتِرَائِهِمْ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَقَدْ أُبْهِمَ الْجَزَاءُ لِلتَّهْوِيلِ لِتَذْهَبَ النُّفُوسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِثْمِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ للبدلية والعوض.

[١٣٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٣٩]

وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨] . وَأُعِيدَ فِعْلُ:

قالُوا لِاخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَقُولِ.

وَالْإِشَارَة إِلَى أَنْعَامٍ مَعْرُوفَةٍ بَيْنَهُمْ بِصِفَاتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ إِلَى الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.

وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ إِجْمَالِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمُوهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دِينِهِمْ فِي أَجِنَّةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَجَرُوهَا أَوْ حَرَّمُوا ظُهُورَهَا، فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ: إِذَا خَرَجَتْ أَحْيَاءً يَحِلُّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مَيْتَةً حَلَّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ وَالنِّسَاءِ، فَالْمُرَادُ بِمَا فِي الْبُطُون الأجنة لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَلْبَانِ الْبَحِيرَةِ

وَالسَّائِبَةِ: يَشْرَبُهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ أَلْبَانُهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَا فِي الْبُطُونِ يَشْمَلُ الْأَلْبَانَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَجِنَّةِ وَنَاشِئَةٌ عَنْ وِلَادَتِهَا.

وَالْخَالِصَةُ: السَّائِغَةُ، أَيِ الْمُبَاحَةُ، أَيْ لَا شَائِبَةَ حَرَجٍ فِيهَا، أَيْ فِي أَكْلِهَا، وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَمُحَرَّمٌ.

وَتَأْنِيثُ خالِصَةٌ لأنّ المُرَاد بِمَا الْمَوْصُولَةِ الْأَجِنَّةُ فَرُوعِيَ مَعْنَى (مَا) وَرُوعِيَ لَفْظُ (مَا) فِي تَذْكِيرِ (مُحَرَّمٍ) .

وَالْمُحَرَّمُ: الْمَمْنُوعُ، أَيْ مَمْنُوعٌ أَكْلُهُ، فَإِسْنَادُ الْخُلُوصِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الذَّوَاتِ بِتَأْوِيلِ تَحْرِيمِ مَا تُقْصَدُ لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ أَوْ هُوَ وَالشُّرْبُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.

وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الثَّانِي لِغَيْرِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ هُوَ زَوْجٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَلِيلُ الْمَرْأَةِ زَوْجًا وَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ حَلِيلَةُ الرَّجُلِ زَوْجًا، وَهُوَ وَصْفٌ يُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً فَلَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمُتَزَوِّجَاتِ لِأَنَّهُمْ سَمُّوهُنَّ أَزْوَاجًا، وَأَضَافُوهُنَّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُنَّ النِّسَاءُ الْمُتَزَوِّجَاتُ بِهِمْ كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةُ فُلَانٍ. وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ- وَهُوَ الْأَوْلَى عِنْدِي- كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِأَكْلِ الزَّوْجَاتِ لِشَيْءٍ ذِي صِفَةٍ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ تُصِيبَ نِسَاءَهُمْ: مِثْلُ الْعُقْمِ، أَوْ سُوءِ المعاشرة مَعَ الْأزْوَاج، وَالنُّشُوزِ، أَوِ الْفِرَاقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَاذِيبِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُ نِتَاجُ أَنْعَامٍ مُقَدَّسَةٍ، فَلَا تَحِلُّ لِلنِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَرْمُوقَةٌ عِنْدَ الْقُدَمَاءِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِالنَّجَاسَةِ وَالْخَبَاثَةِ، لِأَجْلِ الْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ دُخُولَ الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُؤَاكِلُونَ الْحَائِضَ، وَقَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب تُعَيِّرُ قَوْمَهَا:

وَلَا تَشْرَبُوا إِلَّا فُضُولَ نِسَائِكُمْ ... إِذَا ارْتَمَلَتْ أَعْقَابُهُنَّ مِنَ الدَّمِ

وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أُطْلِقَ الْأَزْوَاجُ عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا، أَيْ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَيَشْمَلُ الْمَرْأَةَ الْأَيِّمَ وَلَا يَشْمَلُ الْبَنَاتَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدَ بِهِ الْبَنَاتُ أَيْ بِمَجَازِ الْأَوَّلِ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِأَكْلِ الْبَنَاتِ مِنْهُ أَنْ يُصِيبَهُنَّ عُسْرُ التَّزَوُّجِ، أَوْ مَا يَتَعَيَّرُونَ مِنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ الشَّائِعَةُ بَيْنَهُمْ دَالَّةً عَلَى الْمُرَادِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أَيْ إِنْ يُولَدْ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ مَيِّتًا جَازَ أَكْلُهُ لِلرِّجَالِ وَالْأَزْوَاجِ، أَوْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، أَوْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مَيِّتًا يُبْطِلُ مَا فِيهِ مِنَ الشُّؤْمِ عَلَى الْمَرْأَةِ، أَوْ يُذْهِبُ قَدَاسَتَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنْ يَكُنْ- بِالتَّحْتِيَّةِ وَنَصْبِ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ- بِرَفْعِ مَيْتَةً-، عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَقَدْ أُجْرِيَ ضَمِيرُ: يَكُنْ عَلَى التَّذْكِيرِ: لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُفْرَدِ اعْتِبَارُ التَّذْكِيرِ

لِتَجَرُّدِ لَفْظِهِ عَنْ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ، وَقَدْ يُرَاعَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَيَجْرِي الْإِخْبَارُ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ [مُحَمَّد: ١٦] . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ- بِالْفَوْقِيَّةِ- عَلَى اتِّبَاعِ تَأْنِيثِ خالِصَةٌ، أَيْ إِنْ تَكُنِ الْأَجِنَّةُ، وَقَرَأَ مَيْتَةً- بِالنَّصْبِ-، وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِالتَّأْنِيثِ وَالنَّصْبِ-.

وَجُمْلَةُ: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَمَا قُلْتُ فِي جُمْلَةِ:

سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَنْعَام: ١٣٨] آنِفًا.

وَالْوَصْفُ: ذِكْرُ حَالَاتِ الشَّيْءِ الْمَوْصُوف وَمَا يتيمّز بِهِ لِمَنْ يُرِيدُ تَمْيِيزَهُ فِي غَرَضٍ مَا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٠] . وَالْوَصْفُ، هُنَا: هُوَ مَا وَصَفُوا بِهِ الْأَجِنَّةَ مِنْ حَلٍّ وَحُرْمَةٍ لِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ، فَذَلِكَ وَصْفٌ فِي بَيَانِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النَّحْل: ١١٦] .

وَجَزَاؤُهُمْ عَنْهُ هُوَ جَزَاءُ سُوءٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ سَمَّى مَزَاعِمَهُمُ السَّابِقَةَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَجُعِلَ الْجَزَاءُ مُتَعَدِّيًا لِلْوَصْفِ بِنَفْسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: سَيَجْزِيهِمْ جَزَاءَ وَصفهم. ضمّن سَيَجْزِيهِمْ مَعْنَى يُعْطِيهِمْ، أَيْ جَزَاءً وِفَاقًا لَهُ.

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ الْجَزَاءِ مُوَافِقًا لِجُرْمِ وَصْفِهِمْ. وَتُؤْذِنُ (إِنْ) بِالرَّبْطِ وَالتَّعْلِيلِ، وَتُغْنِي غَنَاءَ الْفَاءِ، فَالْحَكِيمُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَالْعَلِيمُ يَطَّلِعُ عَلَى أَفْعَالِ الْمَجْزِيِّينَ، فَلَا يُضَيِّعُ مِنْهَا مَا يستحقّ الْجَزَاء.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٠]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)

تَذْيِيلٌ جُعِلَ فَذْلَكَةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ ضَلَالِهِمْ فِي قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ، وَتَحْجِيرِ بَعْضِ الْحَلَالِ عَلَى بَعْضِ مَنْ أُحِلَّ لَهُ.

وَتَحْقِيقُ الْفِعْلِ بِ قَدْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ أَمْرٌ ثَابِتٌ، فَيُفِيدُ التَّحْقِيقُ التَّعْجِيبَ مِنْهُمْ كَيْفَ عَمُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ خُسْرَانِهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعَلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ- إِلَى- وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. أَيْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا [الْأَنْعَام: ١٣٦] وَجَعَلَهَا فَوْقَ والثّلاثين وَمِائَةٍ تَقْرِيبًا، وَهِيَ فِي الْعَدِّ السَّادِسَةُ وَالثَلَاثُونَ وَمِائَةٌ.

وَوَصَفَ فِعْلَهُمْ بِالْخُسْرَانِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُسْرَانِ نُقْصَانُ مَالِ التَّاجِرِ، وَالتَّاجِرُ قَاصِدُ الرِّبْحِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ، فَإِذَا خَسِرَ فَقَدْ بَاءَ بِعَكْسِ مَا عَمِلَ لِأَجْلِهِ (وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعَارَةُ الْخُسْرَانِ لِعَمَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ فَيَقَعُونَ فِي غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، لِأَنَّهُمْ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَصَّلُوا عَكْسَ مَا تَعِبُوا لِأَجْلِهِ) ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ قَدْ طَلَبُوا نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ أَضْرَارٍ فِي الدُّنْيَا مُحْتَمَلٍ لَحَاقُهَا بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ بَنَاتِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي أَضْرَارٍ مُحَقَّقَةٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ النَّسْلَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ يَأْنَسُونَ بِهِ وَيَجِدُونَهُ لِكِفَايَةِ مُهِمَّاتِهِمْ، وَنِعْمَةٌ عَلَى الْقَبِيلَةِ تَكْثُرُ وَتَعْتَزُّ، وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ بِكَثْرَةِ مَنْ يُعَمِّرُهُ وَبِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مَوَاهِبِ النَّسْلِ وَصَنَائِعِهِ، وَنِعْمَةٌ عَلَى النَّسْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ نَعِيمِ الْحَيَاةِ وَمَلَذَّاتِهَا. وَلِتِلْكَ الْفَوَائِدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ إِيجَادَ نِظَامِ

التَّنَاسُلِ، حِفْظًا لِلنَّوْعِ، وَتَعْمِيرًا لِلْعَالَمِ، وَإِظْهَارًا لِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ مَوَاهِبَ تَنْفَعُهُ وَتَنْفَعُ قَوْمَهُ، عَلَى مَا فِي عَمَلِهِمْ مِنِ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَقِّ الْبِنْتِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا وَهُوَ حَقُّ الْحَيَاةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهَا وَهُوَ حَقٌّ فِطْرِيٌّ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ فَهُوَ ظُلْمٌ بَيِّنٌ لِرَجَاءِ صَلَاحٍ لِغَيْرِ الْمَظْلُومِ وَلَا يُضَرُّ بِأَحَدٍ لِيَنْتَفِعَ غَيْرُهُ. فَلَمَّا قَتَلَ بَعْضُ الْعَرَبِ بَنَاتَهُمْ بِالْوَأْدِ كَانُوا قَدْ عَطَّلُوا مَصَالِحَ عَظِيمَةً مُحَقَّقَةً، وَارْتَكَبُوا بِهِ أَضْرَارًا حَاصِلَةً، مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا التَّخَلُّصَ مِنْ أَضْرَارٍ طَفِيفَةٍ غَيْرِ مُحَقَّقَةِ الْوُقُوعِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا فِي فِعْلِهِمْ كَالتَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَبَاءَ بِضَيَاعِ أَصْلِ مَالِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ فِعْلَهُمْ: سَفَهًا، لِأَنَّ السَّفَهَ هُوَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَاضْطِرَابُهُ، وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ سَفَهٌ مَحْضٌ، وأيّ سَفَهٌ أَعْظَمُ مِنْ إِضَاعَةِ مَصَالِحَ جَمَّةٍ وَارْتِكَابِ أَضْرَارٍ عَظِيمَةٍ وَجِنَايَةٍ شَنِيعَةٍ، لِأَجْلِ التَّخَلُّصِ مِنْ أَضْرَارٍ طَفِيفَةٍ قَدْ تَحْصُلُ وَقَدْ لَا تَحْصُلُ. وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي الْخَبَرِ فَإِنَّ خُسْرَانَهُمْ مُسَبَّبٌ عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: سَفَهًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْقَتْلِ: أَنَّهُ قَتْلُ سَفَهٍ لَا رَأْيَ لِصَاحِبِهِ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْعَدُوِّ وَقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ قَتَلُوا، وُصِفُوا بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ بَالِغُونَ أَقْصَى السَّفَهِ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ إِمَّا مِنْ سَفَهًا فَتَكُونُ حَالًا مُؤَكَّدَةً، إِذِ السَّفَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِمَّا مِنْ فَاعِلِ قَتَلُوا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوا الْقَتْلَ كَانُوا جَاهِلِينَ بِسَفَاهَتِهِمْ وَبِشَنَاعَةِ فِعْلِهِمْ وَبِعَاقِبَةِ مَا قَدَّرُوا حُصُولَهُ لَهُمْ مِنَ الضُّرِّ، إِذْ قَدْ يَحْصُلُ خِلَافُ مَا قَدَّرُوهُ وَلَوْ كَانُوا يَزِنُونَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى فِعْلَتِهِمُ الْفَظِيعَةِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ

سَفَهٌ. التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِك ظنّا مِنْهُم أنّهم أَصَابُوا فِيمَا فعلوا، وأنّهم علمُوا كَيفَ يرأبون مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَيُنَظِّمُونَ حَيَاتَهُمْ أَحْسَنَ نِظَامٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَغْرُورُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجَاهِلُونَ بِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الْكَهْف: ١٠٤] . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَأْدِ آنِفًا، وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِشِدَّةٍ، وَلَيْسَتْ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مُفِيتَةً هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَسْلِيطَ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْأَوْلَادِ يُفِيدُ أَنَّهُ قَتْلٌ فَظِيعٌ.

وَقَوْلُهُ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ نَعَى عَلَيْهِمْ خُسْرَانَهُمْ فِي أَنْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، فَحُرِمُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَحَرَمُوا النَّاسَ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ. وَالْمَوْصُولُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةُ يَصِحُّ فِي الْعَطْفِ عَلَى صِلَتِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ مَعَ الصِّلَةِ مُوَزَّعَةً عَلَى طَوَائِفِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمرَان: ٢١] .

وَانْتَصَبَ افْتِراءً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ حَرَّمُوا: لِبَيَانِ نَوْعِ التَّحْرِيمِ بِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ لِلَّهِ كَذِبًا.

وَجُمْلَةُ قَدْ ضَلُّوا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِزِيَادَةِ النِّدَاءِ عَلَى تَحَقُّقِ ضَلَالِهِمْ.

وَالضَّلَالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوصِّلِ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَهُمْ رَامُوا الْبُلُوغَ إِلَى مَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى شُرَكَائِهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ، وَأَبْعَدَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا كَمَنْ رَامَ الْوُصُولَ فَسَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ.

وَعَطْفُ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عَلَى قَدْ ضَلُّوا لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ضَلُّوا لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَنْفِي ضِدَّ الْجُمْلَة الأولى فتؤول إِلَى تَقْرِيرِ مَعْنَاهَا.

وَالْعَرَبُ إِذَا أَكَّدُوا بِمِثْلِ هَذَا قَدْ يَأْتُونَ بِهِ غَيْرَ مَعْطُوفٍ نَظَرًا لِمَآلِ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا بِاعْتِبَارِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ حَقُّ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: ٢١] وَقَوْلِهِ: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: ٩، ١٠] . وَقَوْلِ الْأَعْشَى:

إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا وَقَدْ يَأْتُونَ بِهِ بِالْعَطْفِ وَهُوَ عَطْفٌ صُورِيٌّ لِأَنَّهُ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَلَا اعْتِدَاد بمآلهما كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩] وَقَوْلِهِ:

قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: ٥٦] وَقَوْلِ الْمُتَنَبِّي:

وَالْبَيْنُ جَارَ عَلَى ضُعْفِي وَمَا عَدَلَا وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيُفِيدَ، بِالْعَطْفِ، أَنَّهُمَا خَبَرَانِ عَنْ مَسَاوِيهِمْ.

وَ(كَانَ) هُنَا فِي حُكْمِ الزَّائِدَةِ: لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً، وَالْمُرَادُ: وَمَا هُمْ بِمُهْتَدِينَ، فَزِيَادَةُ (كَانَ) هُنَا لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ مِثْلُ مَوْقِعِهَا مَعَ لَامِ الْجُحُودِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ وَيُحَرِّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ بَلِيغٌ.

[١٤١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤١]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ.

الْوَاوُ فِي: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ

وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٠] تَذْكِيرًا بِمِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْشَأَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سُوءَ تَصَرُّفِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ تَسْفِيهِ آرَائِهِمْ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، عَطَفَ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ بِذَلِكَ اسْتِنْزَالًا بِهِمْ إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْغَيِّ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبُ مَا ذُكِرَ فِي نَظِيرَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الْأَنْعَام: ٩٩] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ الصَّانِعُ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ٩٩]، وَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: ١٠٠] الْآيَاتِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ: الِامْتِنَانُ وَإِبْطَالُ مَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ:

كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ.

وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ إِذْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَا غَيْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ حَظٌّ فِيهَا، لِإِبْطَالِ مَا جَعَلُوهُ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ من نصيب أنصابهم مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَهُ.

وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْخَلْقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الْوَاقِعَة: ٣٥] أَيْ نِسَاءَ الْجَنَّةِ.

وَالْجَنَّاتُ هِيَ الْمَكَانُ مِنَ الْأَرْضِ النَّابِتُ فِيهِ شَجَرٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ يَجِنُّ أَيْ يَسْتُرُ الْكَائِنَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٥] . وَإِنْشَاؤُهَا إِنْبَاتُهَا وَتَيْسِيرُ ذَلِكَ بِإِعْطَائِهَا مَا يُعِينُهَا عَلَى النَّمَاءِ، وَدَفْعِ مَا يُفْسِدُهَا أَوْ يَقْطَعُ نبتها، كَقَوْلِه: أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٤] .

وَالْمَعْرُوشَاتُ: الْمَرْفُوعَاتُ. يُقَالُ: عَرَشَ الْكَرْمَةَ إِذَا رَفَعَهَا عَلَى أَعْمِدَةٍ لِيَكُونَ نَمَاؤُهَا فِي ارْتِفَاعٍ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْوَدُ لِعِنَبِهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ مُلْقًى عَلَى وَجْهِ

الْأَرْضِ. وَعَرَشَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرْشِ وَهُوَ السَّقْفُ، وَيُقَالُ لِلْأَعْمِدَةِ الَّتِي تُرْفَعُ فَوْقَهَا أَغْصَانُ الشَّجَرِ فَتَصِيرُ كَالسَّقْفِ يَسْتَظِلُّ تَحْتَهُ الْجَالِسُ: الْعَرِيشُ. وَمِنْهُ مَا يُذْكَرُ فِي السِّيرَةِ:

الْعَرِيشُ الَّذِي جعل للنّبيء ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَى بُقْعَتِهِ مَسْجِدٌ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ الْيَوْمَ مَوْجُودٌ بِبَدْرٍ. وَوَصْفُ الْجَنَّاتِ بِمَعْرُوشَاتٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْرُوشٌ فِيهَا، وَالْمَعْرُوشُ أَشْجَارُهَا. وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ الْمُبْقَاةِ كُرُومُهَا مُنْبَسِطَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَرْفَعُ بِقَلِيلٍ، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تُزَيِّنُ وَجْهَ الْأَرْضِ فَيَرَى الرَّائِي جَمِيعَهَا أَخْضَرَ.

وَقَوْلُهُ: مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ صِفَةٌ: لِ جَنَّاتٍ قُصِدَ مِنْهَا تَحْسِينُ الْمَوْصُوفِ وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أَنْ أَلْهَمَ الْإِنْسَانَ إِلَى جَعْلِهَا عَلَى صِفَتَيْنِ، فَإِنَّ ذِكْرَ مَحَاسِنِ مَا أَنْشَأَهُ اللَّهُ يَزِيدُ فِي الْمِنَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦] .

ومُخْتَلِفًا أُكُلُهُ حَالٌ مِنَ الزَّرْعِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى اسْمِ الْحَالِ، وَيُعْلَمُ أَنَّ النَّخْلَ وَالْجَنَّاتِ كَذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِعَجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ، فَيُفِيدُ ذِكْرُ الْحَالِ مَعَ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ تَذَكُّرَ مِثْلِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَة: ١١] أَيْ وَإِلَيْهِ،

وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ النّحويين لأنّها مُسْتَقْبلَة عَنِ الْإِنْشَاءِ، وَعِنْدِي أَنَّ عَامِلَ الْحَالِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ مَعْنَاهُ فِي أَزْمِنَةٍ، وَكَانَتِ الْحَالُ مُقَارِنَةً لِبَعْضِ أَزْمِنَةِ عَامِلِهَا، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بَأَنْ تَكُونُ مُقَارِنَةً، كَمَا هُنَا.

(وَالْأُكْلُ) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ- لِنَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَبِضَمِّهِمَا- قَرَأَهُ الْبَاقُونَ، هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤْكَلُ، أَيْ مُخْتَلِفًا مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ.

وَعُطِفَ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عَلَى: جَنَّاتٍ ... وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ. وَالْمُرَادُ شَجَرُ الزَّيْتُونِ وَشَجَرُ الرُّمَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٩] .

إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: مُشْتَبِهًا [الْأَنْعَام: ٩٩] وَقَالَ هُنَا: مُتَشابِهًا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ التَّشَابُهَ حَاصِلٌ مِنْ جَانِبَيْنِ فَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ لِلْمُبَالَغَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي قَوْلِهِ: وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فِي الْآيَتَيْنِ.

كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْحِكَايَةِ عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ وَهَذَا الْحُكْمِ فَهَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ لِتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ.

وَالثَّمَرُ:- بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيم- وبضمّهما- وقرىء بِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي نَظِيرَتِهَا.

وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ حَقِّ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

أَنْ يَفْعَلَهُ، فَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ الْحَرْثِ.

وإِذا مُفِيدَةٌ لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّهَا ظَرْفٌ، أَيْ: حِينَ إِثْمَارِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الظَّرْفِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَقَبْلَ حَصَادِهِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ أَيْ: كُلُوا مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ حَقِّهِ. وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَمِنَّةٌ، لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ أَنْ لَا يَأْكُلُوا إِلَّا بَعْدَ إِعْطَاءِ حَقِّهِ كَيْلَا يَسْتَأْثِرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَصْحَابِ الْحَقِّ، إلّا أنّ الله رَخَّصَ لِلنَّاسِ فِي الْأَكْلِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ أَخْضَرَ قَبْلَ يُبْسِهِ لِأَنَّهُمْ يَسْتَطِيبُونَهُ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:

وَلا تُسْرِفُوا كَمَا سَيَأْتِي.

وَإِفْرَادُ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْوِيلِ الْمُعَادِ بِالْمَذْكُورِ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ خِطَابٌ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِقَرِينَةِ تَسْمِيَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقًّا. وَأُضِيفَ الْحَقُّ إِلَى ضَمِيرِ الْمَذْكُورِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيِ الْحَقُّ الْكَائِنُ فِيهِ.

وَقَدْ أُجْمِلَ الْحَقُّ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ: حَقُّ الْفَقِيرِ، وَالْقُرْبَى، وَالضُّعَفَاءِ، وَالْجِيرَةِ. فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ، إِذَا جَذُّوا ثِمَارَهُمْ، أَعْطُوا مِنْهَا مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْقَرَابَةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [الْقَلَم: ٢٣، ٢٤] . فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْحَقَّ وَسَمَّاهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: ٢٤، ٢٥]، وَسَمَّاهُ اللَّهُ زَكَاةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَلَكِنَّهُ أَجْمَلَ مِقْدَارَهُ وَأَجْمَلَ الْأَنْوَاعَ الَّتِي فِيهَا الْحَقُّ وَوَكَلَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ شَرْعِ نُصُبِهَا وَمَقَادِيرِهَا. ثُمَّ شُرِعَتِ الزَّكَاةُ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ نُصُبَهَا وَمَقَادِيرَهَا.

وَالْحَصَادُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبِفَتْحِهَا- قَطْعُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ مِنْ أُصُولِهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفِعَالِ أَوِ الْفَعَالِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ «جَاءُوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى مِثَالِ

فِعَالٍ وَذَلِكَ الصِّرَامُ وَالْجِزَازُ وَالْجِدَادُ وَالْقِطَاعُ وَالْحِصَادُ، وَرُبَّمَا دَخَلَتِ اللُّغَةُ فِي بَعْضِ هَذَا (أَيِ اخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَبَائِلِ حَصَادٌ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَقَالَ بَعْضُهُمْ حِصَادٌ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-) فَكَانَ فِيهِ فِعَالٌ وَفَعَالٌ فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ عَلَى فَعَلْتَ قَالُوا حَصَدْتُهُ حَصْدًا وَقَطَعْتُهُ قَطْعًا إِنَّمَا تُرِيدُ الْعَمَلَ لَا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ» .

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-.

وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ-.

وَقَدْ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، لِأَنَّ افْتِرَاضَهَا ضَرُورِيٌّ لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُسَلِمِينَ وَهُمْ كَثِيرُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَدْ نَبَذَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَجَحَدُوا حُقُوقَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا أَمْوَالَهُمْ، فَكَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَسُدَّ أَهْلُ الْجِدَةِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلَّتَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الزَّكَاةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِثْلُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَسُورَةِ الْبَيِّنَةِ وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَالزَّكَاةُ قَرِينَةُ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: الزَّكَاةُ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ، يَحْمِلُ عَلَى ضَبْطِ مَقَادِيرِهَا بِآيَةِ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: ١٠٣] وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، ثُمَّ تَطَرَّقُوا فَمَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا الزَّكَاةَ، لأنّ هَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحُلُولِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَخْذُهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا ضُبِطَتِ الزَّكَاةُ. بِبَيَانِ الْأَنْوَاعِ الْمُزَكَّاةِ وَمِقْدَارِ النُّصُبِ وَالْمُخْرَجِ مِنْهُ، بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ وُجُوبِهَا فِي مَكَّةَ، وَقَدْ حَمَلَهَا مَالِكٌ عَلَى الزَّكَاةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَضْبُوطَةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ

وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَمْعٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَثِيرٍ. وَلَعَلَّهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فُرِضَتِ ابْتِدَاءً بِتَعْيِينِ النُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ، وَحَمَلَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَطَاءٌ، وَحَمَّادٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ وَجَعَلُوا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَحَمَلَهَا السُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، عَلَى صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ.

وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ الْحَقَّ فِي الثِّمَارِ وَالْحَبِّ يَوْمَ الْحَصَادِ: لِأَنَّ الْحَصَادَ إِنَّمَا يُرَادُ لِلِادِّخَارِ وَإِنَّمَا يَدَّخِرُ الْمَرْءُ مَا يُرِيدُهُ لِلْقُوتِ، فَالِادِّخَارُ هُوَ مَظِنَّةُ الْغِنَى الْمُوجِبَةِ لِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَصَادُ مَبْدَأُ تِلْكَ الْمَظِنَّةِ، فَالَّذِي لَيْسَتْ لَهُ إِلَّا شَجَرَةٌ أَوْ شَجَرَتَانِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ ثَمَرَهَا مَخْضُورًا قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَتِ الشَّرِيعَةُ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الثَّمَرِ إِذَا أَثْمَرَ، وَلَمْ تُوجِبْ عَلَيْهِ إِعْطَاءَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ إِلَّا عِنْدَ الْحَصَادِ. ثُمَّ إِنَّ حَصَادَ الثِّمَارِ، وَهُوَ

جُذَاذُهَا، هُوَ قَطْعُهَا لِادِّخَارِهَا، وَأَمَّا حَصَادُ الزَّرْعِ فَهُوَ قَطْعُ السُّنْبُلِ مِنْ جُذُورِ الزَّرْعِ ثُمَّ يُفْرَكُ الْحَبُّ الَّذِي فِي السُّنْبُلِ لِيُدَّخَرَ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ الْفَرْكُ بَقِيَّةً لِلْحَصَادِ. وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا وَجَبَ فِيمَا يُحْصَدُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مِثْلُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ، مِنْ زَيْتِهِ أَوْ مِنْ حَبِّهِ، بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْفَوَاكِهِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ: فَهَذِهِ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ وَمُبَيَّنَةٌ بِآيَاتٍ أُخْرَى وَبِمَا يبيّنه النّبيء ﷺ، فَلَا يُتَعَلَّقُ بِإِطْلَاقِهَا، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الزَّكَاةِ يَعْنِي:

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: ١٠٣] وَقَدْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يُسَمُّونَ التَّخْصِيصَ نَسْخًا.

وَقَوْلُهُ: وَلا تُسْرِفُوا عَطْفٌ عَلَى كُلُوا، أَيْ: كُلُوا غَيْرَ مُسْرِفِينَ. وَالْإِسْرَافُ وَالسَّرَفُ: تَجَاوُزُ الْكَافِي مِنْ إِرْضَاءِ النَّفْسِ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَهَى. وَتَقَدَّمَ

عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] . وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ، وَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَإِصْلَاحٍ، أَيْ: لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَاف:

٣١] . وَالْإِسْرَافُ إِذَا اعْتَادَهُ الْمَرْءُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي تَحْصِيلِ الْمَرْغُوبَاتِ، فَيَرْتَكِبُ لِذَلِكَ مَذَمَّاتٍ كَثِيرَةً، وَيَنْتَقِلُ مِنْ مَلَذَّةٍ إِلَى مَلَذَّةٍ فَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ.

وَقِيلَ عَطْفٌ عَلَى وَآتُوا حَقَّهُ أَيْ وَلَا تُسْرِفُوا فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ إِتْيَانِ حَقِّهِ فَتُنْفِقُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْإِنْفَاقِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا بَذْلُهُ فِي الْخَيْرِ وَنَفْعِ النَّاسِ فَلَيْسَ مِنَ السَّرَفِ، وَلِذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ خَطَأِ التَّفْسِيرِ: تَفْسِيرُهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الصَّدَقَةِ، وَبِمَا ذَكَرُوهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ صَرَّمَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ وَفَرَّقَ ثَمَرَهَا كُلَّهُ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئًا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ تَعْمِيمُ حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَاف.

وأكّد بإن لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحُكْمِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِسْرَافَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَلْزَمُ الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَنَفْيُ الْمَحَبَّةِ مُخْتَلِفُ الْمَرَاتِبِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ نَفْيَ الْمَحَبَّةِ يَشْتَدُّ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْإِسْرَافِ، وَهَذَا حُكْمٌ مُجْمَلٌ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَبَيَانُ هَذَا الْإِجْمَالِ هُوَ فِي مَطَاوِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَالْإِجْمَالُ مَقْصُودٌ.

وَلِغُمُوضِ تَأْوِيلِ هَذَا النَّهْيِ وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ تَفَرَّقَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِيُعِينُوهُ فِي إِسْرَافٍ حَرَامٍ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمُنْجَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

فَوَجْهُ عَدَمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَالْإِكْثَارَ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهَا، يُفْضِي غَالِبًا إِلَى اسْتِنْزَافِ الْأَمْوَالِ وَالشَّرَهِ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَإِذَا ضَاقَتْ عَلَى الْمُسْرِفِ أَمْوَالُهُ تَطَلَّبَ تَحْصِيلَ الْمَالِ مِنْ وُجُوهٍ فَاسِدَةٍ، لِيُخْمِدَ بِذَلِكَ نَهْمَتَهُ إِلَى اللَّذَّاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَأْبَهُ، فَرُبَّمَا ضَاقَ عَلَيْهِ مَالُهُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ مُعْتَادِهِ، فَعَاشَ فِي كَرْبٍ وَضَيْقٍ، وَرُبَّمَا تَطَلَّبَ الْمَالَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَوَقَعَ فِيمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْقِبُ عِيَالَهُ خَصَاصَةً وَضَنْكَ مَعِيشَةٍ. وَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مَلَامٌ وَتَوْبِيخٌ وَخُصُومَاتٌ تُفْضِي إِلَى مَا لَا يُحْمَدُ فِي اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ. فَأَمَّا كَثْرَةُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ فَإِنَّهَا لَا تُوقِعُ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ لَا يَبْلُغُ فِيهَا مَبْلَغَ الْمُنْفِقِ لِمَحَبَّةِ لَذَّاتِهِ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْحِكْمَةِ قَابِلٌ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيدِ بِخِلَافِ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَصِحُّ طَرْدًا وَعَكْسًا: «لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣١]: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الْأَعْرَاف: ٣١]

وَقَول النّبيء ﷺ «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وإضاعة المَال»

. [١٤٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٢]

وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)

عُطِفَ: حَمُولَةً عَلَى: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤١] أَيْ: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حمولة وفرشا، فينسحب عَلَيْهِ الْقصر الّذي فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، أَي هُوَ الّذي أنشأ من الْأَنْعَام حَمُولَةً وَفَرْشًا لَا آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ظَالِمِينَ فِي جَعْلِهِمْ لِلْأَصْنَامِ حَقًّا فِي الْأَنْعَامِ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ مَعْنًى يَصْلُحُ

لِلْحَمُولَةِ وَلِلْفَرْشِ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ مَعَانِي (مِنْ) . وَالْمَجْرُورُ: إِمَّا مُتَعَلِّقٌ ب أَنْشَأَ [الْأَنْعَام: ١٤١]، وَإِمَّا حَالٌ مِنْ حَمُولَةً أَصْلُهَا صِفَةٌ فَلَمَّا قُدِّمَتْ تَحَوَّلَتْ.

وَأَيًّا مَا كَانَ فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فِي تَرْتِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ، أَوْ تَقْدِيمِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْأَنْعَامِ، لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَهُوَ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا، وَإِبْطَالُ جَعْلِ نَصِيبٍ مِنْهَا لِلْأَصْنَامِ، وَأَمَّا الْحَمْلُ وَالْفَرْشُ فَذَلِكَ امْتِنَانٌ أُدْمِجَ فِي الْمَقْصُودِ تَوْفِيرًا لِلْأَغْرَاضِ، وَلِأَنَّ لِلِامْتِنَانِ

بِذَلِكَ أَثَرًا وَاضِحًا فِي إِبْطَالِ تَحْرِيمِ بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ تَضْيِيقٌ فِي الْمِنَّةِ وَنَبْذٌ لِلنِّعْمَةِ، وَلِيَتِمَّ الْإِيجَازُ إِذْ يُغْنِي عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْشَأَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ وَأَنْشَأَ مِنْهَا حَمُولَةً وَفَرْشًا، كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالشَّاءُ، وَالْمَعْزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْعُقُودِ، وَالْحَمُولَةُ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَتَاعُ أَوِ النَّاسُ يُقَالُ: حَمَلَ الْمَتَاعَ وَحَمَلَ فُلَانًا، قَالَ تَعَالَى: إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: ٩٢] وَيَلْزَمُهَا التَّأْنِيثُ، وَالْإِفْرَادُ مِثْلُ (صَرُورَةٍ) لِلَّذِي لَمْ يَحُجَّ يُقَالُ: امْرَأَةٌ صَرُورَةٌ وَرَجُلٌ صَرُورَةٌ.

وَالْفَرْشُ: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَقِيلَ: الْفَرْشُ مَا لَا يُطِيقُ الْحَمْلَ مِنَ الْإِبِلِ أَيْ فَهُوَ يُرْكَبُ كَمَا يُفْرَشُ الْفَرْشُ، وَهَذَا قَوْلُ الرَّاغِبِ. وَقِيلَ: الْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ مِنَ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فَهِيَ كَالْفَرْشِ، وَقِيلَ: الْفَرْشُ مَا يُذْبَحُ لِأَنَّهُ يُفْرَشُ عَلَى الْأَرْضِ حِينَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدِهِ، أَيْ فَهُوَ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ لِأَنَّهَا تُذْبَحُ.

وَفِي «اللِّسَانِ» عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْفَرْشَ هُوَ صِغَارُ الْإِبِلِ.

زَادَ فِي «الْكَشَّافِ»: «أَوِ الْفَرْشُ: مَا يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشَعْرِهِ الْفَرْشَ» يُرِيدُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ [النَّحْل: ٨٠]،

وَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٥- ٧] الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَرِشُونَ جُلُودَ الْغَنَمِ وَالْمَعْزِ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا.

وَلَفْظُ فَرْشًا صَالِحٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَمَحَامِلُهُ كُلُّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْمَقَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً مِنَ الْآيَةِ، وَكَأَنَّ لَفْظَ الْفَرْشِ لَا يُوَازِنُهُ غَيْرُهُ فِي جَمْعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ جَانِبِ فَصَاحَتِهِ، فَالْحَمُولَةُ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَالْفَرْشُ يَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي اسْمِ الْفَرْشِ الصَّالِحَةِ لِكُلِّ نَوْعٍ مَعَ ضَمِيمَتِهِ إِلَى كَلِمَةِ (مِنَ) الصَّالِحَةِ لِلِابْتِدَاءِ.

فَالْمَعْنَى: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَتَرْكَبُونَهُ، وَهُوَ الْإِبِلُ الْكَبِيرَةُ وَالْإِبِلُ الصَّغِيرَةُ، وَمَا تَأْكُلُونَهُ وَهُوَ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَمَا هُوَ فَرْشٌ لَكُمْ وَهُوَ مَا يُجَزُّ مِنْهَا، وَجُلُودُهَا.

وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْشَأَ حَمُولَةً وَفَرْشًا مِنَ الْأَنْعَامِ فقد أنشأ الْأَنْعَام أَيْضا، وَأول مَا يتَبَادَر للنّاس حِين ذكر الْأَنْعَام أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَحَصَلَ إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.

وَجُمْلَةُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مُعْتَرِضَةٌ مِثْلُ آيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَام:

١٤١] . وَمُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْعَامِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَفَرْشًا شَيْئًا مُلَائِمًا لِلذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ، عَقَّبَ بِالْإِذْنِ بِأَكْلِ مَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ مِنْهَا. وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ إِبْطَالًا لِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ مِنْ بَعْضِهَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِتَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ لِزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ تِلْكَ السُّنَنِ الْبَاطِلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةَ فَقَطْ.

وَعَدَلَ عَنِ الضّمير بِأَن يَقُول: كُلُوا مِنْهَا: إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ،

مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَضْلِيلِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَلَى بَعْضِهِمُ، الْأَكْلَ مِنْ بَعْضِهَا، فَعَطَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْضًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.

وَمَعْنَى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ النّهي عَن شؤون الشِّرْكِ فَإِنَّ أَوَّلَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْغَرَضِ هِيَ تَسْوِيلُهُ لَهُمْ تَحْرِيمَ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٨] .

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهِ يُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَة الْبَقَرَة.

[١٤٣، ١٤٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ١٤٣ إِلَى ١٤٤]

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

(١٤٤)

جُمْلَةُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ حَالٌ مِنْ مِنَ الْأَنْعامِ [الْأَنْعَامِ: ١٤٢] . ذُكِرُ تَوْطِئَةً لِتَقْسِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافِ الَّذِي هُوَ تَوْطِئَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أَيْ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً إِلَى آخِرِهِ حَالَةَ كَوْنِهَا ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.

وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَالزَّوْجُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُنْضَمَّةٌ إِلَى غَيْرِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ،

فَالزَّوْجُ ثَانٍ لِوَاحِدٍ، وَكُلٌّ مِنْ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ: زَوْجٌ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَضْمُومٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥]، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ غَالِبًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَنْ بَنِي آدَمَ الْمُتَلَازِمَيْنِ بِعُقْدَةِ نِكَاحٍ، وَتُوُسِّعَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَأُطْلِقَ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَتَقَارَنُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَاهُ مِثْلُ حِمَارِ الْوَحْشِ وَأَتَانِهِ، وَذَكَرُ الْحَمَامِ وَأُنْثَاهُ، لِشَبْهِهَا بِالزَّوْجَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ مِنْ نَوْعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣] . وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَالِحٌ لِلْإِرَادَةِ هُنَا لِأَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالضَّأْنَ وَالْمَعْزَ أَصْنَافٌ لِلْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَكَرَهَا وَأُنْثَاهَا، فَالْأَزْوَاجُ هُنَا أَزْوَاجُ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ زَوْجًا بِعَيْنِهِ، إِذْ لَا تُعَرَفُ بِأَعْيَانِهَا، فَثَمَانِيَةُ أَزْوَاجٍ هِيَ أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ وَأَرْبَعُ إِنَاثٍ كَذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أَبَدَلَ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قَوْلُهُ: اثْنَيْنِ: بَدَلُ تَفْصِيلٍ، وَالْمُرَادُ: اثْنَيْنِ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْأَزْوَاجِ، أَيْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّوَصُّلُ لِذِكْرِ أَقْسَامِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَوْطِئَةً لِلِاسْتِدْلَالِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ الْآيَةَ.

وَسُلِكَ فِي التَّفْصِيلِ طَرِيقُ التَّوْزِيعِ تَمْيِيزًا للأنواع المتقاربة، فإنّ الضَّأْن والمعز متقاربان، وَكِلَاهُمَا يذبح، وَالْإِبِل وَالْبَقر مُتَقَارِبَة، وَالْإِبِلُ

تُنْحَرُ، وَالْبَقَرُ تُذْبَحُ وَتُنْحَرُ أَيْضًا.

وَمِنَ الْبَقَرِ صِنْفٌ لَهُ سِنَامٌ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالْإِبِلِ وَيُوجَدُ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْجَامُوسُ، وَالْبَقَرُ الْعَرَبِيُّ لَا سَنَامَ لَهُ وَثَوْرُهَا يُسَمَّى الْفَرِيشُ.

وَلَمَّا كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْضَ الْغَنَمِ، وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى بِالْوَصِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْضَ الْإِبِل كالبحيرة والوصيلة أَيْضًا، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضَ الْمَعْزِ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَقَرِ، ناسب أَن يُؤْتى بِهَذَا التَّقْسِيمِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدًا لِتَحَكُّمِهُمْ إِذْ حَرَّمُوا بَعْضَ أَفْرَادٍ مِنْ أَنْوَاعٍ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضًا مِنْ أَنْوَاعٍ أُخْرَى، وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ الْمَزْعُومَةِ تَتَأَتَّى فِي كُلِّ نَوْعٍ فَهَذَا إِبْطَالٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَا شَرَّعُوهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ بِالتَّحَكُّمِ.

وَالضَّأْنُ- بِالْهَمْزِ- اسْمُ جَمْعٍ لِلْغَنَمِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمُفْرَدُ الضَّأْنِ شَاةٌ وَجَمْعُهَا شَاءٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ ضَائِنٍ. وَالضَّأْنُ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ صُوفٌ. وَالْمَعْزُ

اسْمُ جمع مفرده مَا عز، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ شَبِيهٌ بِالضَّأْنِ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ شَعْرٌ مُسْتَطِيلٌ، وَيُقَالُ: مَعْزٌ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَمَعَزٌ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ نَافِعٌ. وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ. وَقَرَأَ بِالثَّانِي الْبَاقُونَ.

وَبَعْدَ أَنْ تَمَّ ذِكْرُ الْمِنَّةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْحُجَّةِ، غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ، فَابْتُدِئَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يُجَادِلَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظْهِرَ افْتِرَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ابْتَدَعُوا تَحْرِيمَهُ مِنْ أَنْوَاعٍ وَأَصْنَافِ الْأَنْعَامِ عَلَى مَنْ عَيَّنُوهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ:

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الْآيَاتِ. فَهَذَا الْكَلَامُ رَدٌّ على الْمُشْركين، لإبطال مَا شَرَّعُوهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا الْآيَةَ.

فَقَوْلُهُ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، اعْتِرَاضٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. وَضَمِيرُ: حَرَّمَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٢]، أَوْ فِي قَوْلِهِ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٠] الْآيَةَ. وَفِي تَكْرِيرِ الِاسْتِفْهَامِ مَرَّتَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالتَّخْطِئَةِ، فَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا الْآيَةَ. فَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَهُ، وَنَفْيُ نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي طَرِيقِ اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَهُوَ مِنَ الْمُعْضِلَاتِ.

فَقَالَ الْفَخْرُ: «أَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللَّهُ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ ذَكَرَ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ. وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، ثمّ قَالَ: إِن كَانَ حرّم مِنْهَا الذّكر وَجب أَن يكون كلّ ذكورها حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنَاثِهَا حَرَامًا، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا» . حَاصِلُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا زَعَمُوا تَحْرِيمَهُ إِيَّاهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَهُوَ من طَرِيق الْجَدَلِ.

قُلْتُ: هَذَا مَا عَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى قَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السَّبْرَ غَيْرُ تَامٍّ إِذْ لَا يَنْحَصِرُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي النَّوْعِيَّةِ بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّ سَبَبَهُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْمَمْنُوعِ وَأَحْوَالِهِ.

وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨] وَقَالُوا:

مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَام: ١٣٩] وَحَرَّمُوا الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ،

فَلَمَّا قَامَ الْإِسْلَامُ جادلوا النّبيء ﷺ، وَكَانَ خَطِيبُهُمْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ الْجُشَمِيَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ مِمَّا كَانَ آبَاؤُنَا يَفْعَلُونَهُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُول الله ﷺ: إِنَّكُمْ قَدْ حَرَّمْتُمْ أَصْنَافًا مِنَ النَّعَمِ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّمَانِيَةَ لِلْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْرِيمُ أَمِنْ قِبَلِ الذَّكَرِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُنْثَى. فَسَكَتَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَتَحَيَّرَ اهـ

(أَيْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ) وَلَمْ يَعْزُهُ الْبَغَوِيُّ إِلَى قَائِلٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحِجَاجَ كُلَّهُ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَفِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا حَرَّمُوا أَكْلَهُ وَمَا لَمْ يُحَرِّمُوهُ مَعَ تَمَاثُلِ النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ.

وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي نَظْمِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» الْهَمْزَةُ فِي آلذَّكَرَيْنِ لِلْإِنْكَارِ. وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جِنْسَيِ الْغَنَمِ شَيْئًا مِنْ نَوْعَيْ ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا وَمَا تَحْمِلُ إِنَاثُهَا وَكَذَلِكَ فِي جِنْسَيِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَبَيَّنَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي بَابِ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ (أَيْ بِالِاسْتِفْهَامِ) الْإِنْكَارَ فَانْسُجْهُ عَلَى مِنْوَالِ النَّفْيِ فَقُلْ (فِي إِنْكَارِ نَفْسِ الضَّرْبِ) أَضَرَبْتَ زَيْدًا، وَقُلْ (فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَاطَبِ مَضْرُوبٌ) أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا، فَإِنَّكَ إِذَا أَنْكَرْتَ مَنْ يُرَدَّدِ الضَّرْبُ بَيْنَهُمَا (أَيْ بِزَعْمِهِ) تَوَلَّدَ مِنْهُ (أَيْ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ) إِنْكَارُ الضَّرْبِ عَلَى وَجْهٍ بُرْهَانِيٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ. قَالَ شَارِحُهُ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: لِاسْتِلْزَامِ انْتِفَاءِ مَحَلِّ التَّحْرِيمِ انْتِفَاءَ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، أَيِ التَّحْرِيمُ، دُونَ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَإِذَا انْتَفَى (أَيْ مَحَلُّهُ) انْتَفَى هُوَ أَيِ التَّحْرِيمُ اهـ.

أَقُولُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ اللَّهَ لَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الذُّكُورِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَلَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْإِنَاثِ لِحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ. لِأَنَّ شَأْنَ أَحْكَامِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَّحِدَةِ بِالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَلَوْ حَرَّمَ بَعْضَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ عَلَى النِّسَاءِ لَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِذْ لَمْ يُحَرِّمْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَحْوَالِ. أَنْتَجَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمِ الْبَعْضَ الْمَزْعُومَ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ مَنُوطَةٌ بِالْحِكْمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ إِنَّمَا حَرَّمُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ تَحَكُّمًا وَاعْتِبَاطًا، وَكَانَ تَحْرِيمُهُمْ مَا

حَرَّمُوهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَنَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، الْمُلْجِئَةُ لَهُمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَام النّبيء ﷺ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيِّ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَقَوْلُهُ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَيْ لَوْ حَرَّمَ اللَّهُ الذَّكَرَيْنِ لَسَوَّى فِي تَحْرِيمِهِمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِنْكَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام: ١٣٩] . وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة:

١٦٨] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاسْتِفْهَامِ فِي غَيْرِ مَعْنَى طَلَبِ الْفَهْمِ هُوَ إِمَّا مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ.

وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَمِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) وَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ تَعْدِيدًا لَهُمْ وَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ. فَالْمُفْرَدُ بَعْدَ أَمِ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أُحَرِّمُ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي نَظِيرِهِ.

وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ من مَسْلَك السّير وَالتَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَجُمْلَةُ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ذَيْنِكَ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَضِي تَكْذِيبَهُمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرُوهُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةُ آلذَّكَرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِفْسَارِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ. وَهَذَا تَهَكُّمٌ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ تَلَقِّي عِلْمٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّهَكُّمُ تَابِعٌ لِصُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَهُوَ هُنَا تَجْرِيد لِلْمَجَازِ أَوْ لِلْمَعْنَى الْمَلْزُومِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ فِي الْكِنَايَةِ. وَتَثْنِيَةُ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ: بِاعْتِبَارِ ذُكُورِ وَإِنَاثِ النَّوْعَيْنِ.

وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ: حَرَّمَ إِلَى آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ: حَرَّمَ أَكْلَ الذَّكَرَيْنِ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: آلذَّكَرَيْنِ وَقَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» .

وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ نَبِّئُونِي إِنْبَاءً مُلَابِسًا لِلْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ مَا قَابَلَ الْجَهْلَ أَي إنباء عَالم. وَلَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِنْبَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ حرّموا مَا حرّموه بِجَهَالَةٍ وَسُوءِ عَقْلٍ لَا بِعِلْمٍ، وَشَأْنُ مَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ أَنْ يَكُونَ ذَا عِلْمٍ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ لَاسْتَطَاعُوا بَيَانَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَأَبْدَوْا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَنَسَبُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ عَطْفٌ عَلَى:

وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ تَفْصِيلِ عَدَدِ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْحَامِي وَمَا فِي بُطُونِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ.

وأَمِ فِي قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. فَتُؤْذِنُ بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا حَيْثُمَا وَقَعَتْ. وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ تَقْرِيرِيٌّ أَيْضًا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.

وَالشُّهَدَاءُ: الْحَاضِرُونَ جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُوَ الْحَاضِرُ، أَيْ شُهَدَاءَ حِينَ وَصَّاكُمُ اللَّهُ، فَ إِذْ ظَرْفٌ لِ شُهَداءَ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ: وَصَّاكُمُ.

وَالْإِيصَاءُ: الْأَمْرُ بِشَيْءٍ يُفْعَلُ فِي غَيْبَةِ الْآمِرِ فَيُؤَكَّدُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهِ لِأَنَّ شَأْن الْغَائِب التّأكيد. وَأُطْلِقَ الْإِيصَاءُ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُشَاهِدُوا اللَّهَ حِينَ فِعْلِهِمْ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مُؤَكَّدًا فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيصَاءِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنَ التَّفْوِيتِ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ الْإِيصَاءُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١] .

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بِهذا إِلَى التَّحْرِيمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: حَرَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِنْكَارِ مَجْمُوعِ التَّحْرِيمِ تَضُمُّنًا لِإِبْطَالِ تَحْرِيمٍ مُعَيَّنٍ ادَّعَوْهُ. وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ. فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَخُصَّ بِالْإِنْكَارِ حَالَةُ الْمُشَاهَدَةِ، تَهَكُّمًا بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يكذّبون الرّسول ﷺ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ مَوْضِعَ مَنْ يَحْضُرُ حَضْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِسَمَاعِ أَوَامِرِهِ. أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا إِسْمَاعِيل عليهم السلام، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّعُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنّ يدّعوا أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَهُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ:

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا،

أَيْ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ

الْإِبْطَالِ وَالْإِنْكَارِ أَنْ يَتَوَجَّهَ سُؤَالٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَشُوبٌ بِإِنْكَارٍ. عَمَّنِ اتَّصَفَ بِزِيَادَةِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ لِيُضِلُّوا النَّاسَ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ المخاطبين قد افتروا على الله كذبا، ثَبت أنّهم من الْفَرِيق الّذي هُوَ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ.

وَالْمُشْرِكُونَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ وَضَعَ الشِّرْكَ وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُشْرِكِينَ: مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، وَاضِعُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِيَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ طَوَاغِيتِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ جَعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِبُيُوتِ الْأَصْنَامِ وَسَدَنَتِهَا، فَهَؤُلَاءِ مُفْتَرُونَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ أُولَئِكَ بِعَزْمٍ وَتَصَلُّبٍ وَشَارَكُوهُمْ فَهُمُ اتَّبَعُوا أُنَاسًا لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يُبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَتَوَخَّوْا مَنْ يَتَّبِعُونَ وَمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ وَهُمُ الرُّسُلُ، فَمِنْ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ الْحَقُّ عليه الصلاة والسلام كَذَّبُوهُ، وَقَدْ صَدَّقُوا الْكَذَبَةَ وَأَيَّدُوهُمْ وَنَصَرُوهُمْ.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الظُّلْمِ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الْإِفْتَاءِ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالصَّوَابِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ مُصَادَفَتُهُ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَبِالِاسْتِنَادِ إِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَذْهَبُ إِمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ.

وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ، لِأَنَّ مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الظُّلْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَ ظُلْمُهُمْ لَا إِقْلَاعَ عَنْهُ، لِأَنَّ الضَلَالَ يَزْدَادُ رُسُوخًا فِي النَّفْسِ بِتَكَرُّرِ أَحْوَالِهِ وَمَظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَعَمَّدُوا الْإِضْلَالَ أَوِ اتَّبَعُوا مُتَعَمِّدِيهِ عَنْ تَصَلُّبٍ، فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَطَلُّبِ الْهُدَى وَإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي حَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ يُغْرِيهِمْ

بِالِازْدِيَادِ وَالتَّمَلِّي مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، حَتَّى تَصِيرَ فِيهِمْ مَلِكَةً وَسَجِيَّةً، فَيَتَعَذَّرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ إِنَّ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا لَهُمْ، إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَحْرِمُهُمُ التَّوْفِيقَ وَيَذَرَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَعَمَهِهِمْ، فَاللَّهُ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا قَادَةً وَلَا مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ هُمُ الَّذِينَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى، مِثْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ بِالْقِتَالِ مِثْلُ مُعْظَمِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ هَوَازِنَ وَمَنْ

بَعْدِهَا، فَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا مُذْعِنِينَ ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَحَصَلَ لَهُمُ الْهُدَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانُوا مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصَرُوا اللَّهَ حَقَّ نَصْرِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْهُدَى عَنْهُمْ: إِمَّا نَفْيُهُ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَإِمَّا نَفْيُ الْهُدَى الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى صَفَاءِ النَّفْسِ وَنُورِ الْقَلْبِ، دُونَ الْهُدَى الْحَاصِلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ هُدًى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠] .

[١٤٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٥]

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ سَائِلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ، إِذْ أُبْطِلَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْبَاطِلَةُ،

فَلِذَلِكَ خُوطِبَ الرّسول ﷺ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ خُوطِبَ بِبَيَانِ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ مِمَّا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الْأَنْعَام: ١٤٤] الْآيَاتِ.

وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ الْمَأْمُورُ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَجِدُ إِدْمَاجًا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي خِلَالِ بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الرَّدُّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ كِنَايَةِ الْإِيمَاءِ بِأَنْ لَمْ يُنْفَ تَحْرِيمُ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ صَرِيحًا، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَجِدُهُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ مِنَ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّاسُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ مَا شَاءَ وَيُحَرِّمُ مَا شَاءَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ حُكْمٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَحْيِ وَلَا فِي فُرُوعِهِ فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ حَقٍّ، فَاسْتُفِيدَ بُطْلَانُ تَحْرِيمِ مَا زَعَمُوهُ بِطَرِيقَةِ الْإِيمَاءِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لِأَنَّ فِيهَا نَفْيَ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ.

وأَجِدُ بِمَعْنَى: أَظْفَرُ، وَهُوَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَجْدُ وَالْوِجْدَانُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حُصُولِ الشَّيْءِ وَبُلُوغِهِ، يُقَالُ: وَجَدْتُ فُلَانًا نَاصِرًا، أَيْ حَصَلْتُ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ التَّحْصِيلَ لِلشَّيْءِ بِالظَّفَرِ وَإِلْفَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.

وَالْمُرَادُ، بِ مَا أُوحِيَ مَا أَعْلَمَهُ الله رَسُوله ﷺ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ النَّازِلَ

قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.

وَالطَّاعِمُ: الْآكِلُ، يُقَالُ: طَعِمَ كَعَلِمَ، إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلشَّارِبِ، وَأَمَّا طَعِمَ بِمَعْنَى ذَاقَ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ذَوْقِ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩]، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْآيَةُ قَاصِرَةً عَلَى بَيَانِ مُحَرَّمِ الْمَأْكُولَاتِ.

وَقَوْلُهُ: يَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِ طاعِمٍ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] .

وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَكْوَانِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَيْ لَا أَجِدُ كَائِنًا مُحَرَّمًا إِلَّا كَوْنَهُ مَيْتَةً إِلَخْ أَيْ: إِلَّا الْكَائِنَ مَيْتَةً إِلَخْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ.

وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَاد من النّفي وَالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقِيٌّ بِحَسَبِ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِالْمَدِينَةِ فَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.

وَالْمَسْفُوحُ: الْمَصْبُوبُ السَّائِلُ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. أَوْ مِنَ الْفَصْدِ فِي بَعْضِ عُرُوقِ الْأَعْضَاءِ فَيَسِيلُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَأْكُلُونَ الدَّمَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَوْدَاجِ الذَّبِيحَةِ أَوْ مِنْ مَنْحَرِ الْمَنْحُورَةِ وَيَجْمَعُونَهُ فِي مَصِيرٍ أَوْ جِلْدٍ وَيُجَفِّفُونَهُ ثُمَّ يَشْوُونَهُ، وَرُبَّمَا فَصَدُوا مِنْ قَوَائِمِ الْإِبِلِ مُفَصَّدًا فَأَخَذُوا مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الدَّمِ بِدُونِ أَنْ يَهْلِكَ الْبَعِيرُ، وَرُبَّمَا خَلَطُوا الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيُسَمُّونَهُ (الْعِلْهِزَ)، وَذَلِكَ فِي الْمَجَاعَاتِ. وَتَقْيِيدُ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ الَّذِي يَنِزُّ مِنْ عُرُوقِ اللَّحْمِ عِنْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَيْ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ رِجْسٌ، كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا [الْفرْقَان: ٦٨] .

وَالرِّجْسُ: الْخَبِيثُ وَالْقَذَرُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢٥] .

فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَوَصْفُهُ بِرِجْسٍ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَمِّهِ. وَهُوَ

ذَمٌّ زَائِدٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِهِ تَحْذِيرٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ. وَتَأْنِيسٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَا يَأْكُلُونَهَا إِلَّا فِي الْخَصَاصَةِ.

وَخَبَاثَةُ الْخِنْزِيرِ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ. وَتَبَيَّنَ أَخِيرًا أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَرَّاتٍ حَيَوَانِيَّةٍ مُضِرَّةٍ لِآكِلِهِ أَثْبَتَهَا عِلْمُ الْحَيَوَانِ وَعِلْمُ الطِّبِّ. وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تَأْكُلُ النَّجَاسَةِ وَتُسَمَّى الْجَلَّالَةَ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ فِي صَحِيحِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ.

وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الثَّلَاثَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مَنْ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلِمَا يَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ جِسْمُ الْحَيَوَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ التَّعَفُّنِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ قَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى آكِلِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءً مُضِرَّةً. وَلِأَنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَرَاوَةً.

وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْإِيمَانِ، أَوِ عَن الطَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الْحَرَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِفِسْقِ صَاحِبِهِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ سَمَى الْقُرْآنُ مَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ وَصْفًا مَشْهُورًا لِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةً أَوْ بَيَانًا لِ فِسْقًا، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَيْسَ لِأَنَّ لَحْمُهُ مُضِرٌّ بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ الِانْحِصَارُ بِحَسَبِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ

يُحَرَّمْ بِمَكَّةَ غَيْرِهَا مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ، وَهَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ حَرَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ بِآيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ [٣] .

وَحَرَّمَ لَحْمَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ بِأَمْر النّبيء ﷺ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ لِذَاتِهِ كَالْخِنْزِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا يَوْمَئِذٍ حَمُولَةَ جَيْشِ خَيْبَرَ، وَفِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لِذَاتِهِ مُسْتَمِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ حَصْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَقَدْ بَسَطَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِي تَفْسِير سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا-

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ- عِنْدَ مَنْ عَدَا ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَرَفْعِ مَيْتَةً- وَيُشْكَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى مَيْتَةً مَنْصُوبَاتٌ وَهِيَ: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا عَطْفًا عَلَى أَنْ وَصِلَتِهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وُجُودَ مَيْتَةٍ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْوُجُودِ بِفِعْلِ يَكُونَ التَّامِّ ارْتَفَعَ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣] فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.

وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ رَبَّكَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ دُونَ الْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٢]: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْوِلَايَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ

لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ، وَأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ، لِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْغَفُورِ تَعَالَى بأنّه ربّ النّبيّ عليه الصلاة والسلام عُلِمَ أَنَّهُ رَبُّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ رَبُّ الْمُشْرِكِينَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] أَيْ لَا مَوْلَى يُعَامِلُهُمْ بِآثَارِ الْوِلَايَةِ وَشِعَارِهَا، ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ آيَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٢] فَإِنَّهَا مُفْتَتَحَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ.

وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، هُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِذْنِ فِي تَنَاوُلِ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَرَفْعِ حَرَجِ التَّحْرِيمِ عَنْهَا حِينَئِذٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٢]: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

[١٤٦]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٦]

وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)

جُمْلَةُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَطْفٌ عَلَى جملَة: قُلْ [الْأَنْعَام: ١٤٥] عَطْفُ

خَبَرٍ عَلَى إِنْشَاءٍ، أَيْ بَيِّنْ لَهُمْ مَا حُرِّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَاذْكُرَ لَهُمْ مَا حَرَّمْنَا عَلَى الَّذِينَ هَادَوْا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أَنْ يُبَيِّنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ خَبِيثٌ بَعْضُهُ لَا يَصْلُحُ أَكْلُهُ بِالْأَجْسَادِ الَّذِي قَالَ فِيهِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الْأَنْعَام: ١٤٥]، وَمِنْهُ

مَا لَا يُلَاقِي وَاجِبَ شُكْرِ الْخَالِقِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا خَاصًّا لِحِكْمَةٍ خاصّة بأحوالهم، وموقّتة إِلَى مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْخَاتِمَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْأَخِيرِ: أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ لَيْسَ مِنْ تَشْرِيعِ اللَّهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا مَضَى، فَهُوَ ضَلَالٌ بَحْتٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ فِي قَوْلِهِ:

وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ.

وَالظُّفُرُ: الْعَظْمُ الَّذِي تَحْتَ الْجِلْدِ فِي مُنْتَهَى أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَخَالِبِ، وَهُوَ يُقَابِلُ الْحَافِرَ وَالظِّلْفَ وَيَكُونُ لِلْإِبِلِ وَالسَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالْأَرْنَبِ وَالْوَبَرِ وَنَحْوِهَا فَهَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْيَهُودِ بِنَصِّ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: «الْجَمَلُ وَالْأَرْنَبُ وَالْوَبَرُ فَلَا تَأْكُلُوهَا» .

وَالشُّحُومُ: جَمْعُ شَحْمٍ، وَهُوَ الْمَادَّةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ اللَّحْمِ فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لِلْيَهُودِ أَكْلَ لُحُومِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَحرم عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا كَانَ فِي الظَّهْرِ.

والْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورُهُما. فَالْمَقْصُودُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُبَاحِ لَا عَلَى الْمُحَرَّمِ، أَيْ: أَوْ مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا، وَهِيَ جَمْعُ حَوِيَّةٍ، وَهِيَ الْأَكْيَاسُ الشَّحْمِيَّةُ الَّتِي تَحْوِي الْأَمْعَاءَ.

أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هُوَ الشَّحْمُ الَّذِي يَكُونُ مُلْتَفًّا عَلَى عَظْمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السَّمْنِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِعُسْرِ تَجْرِيدِهِ عَنْ عَظْمِهِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّحُومَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، فَهِيَ غير الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي أَجْمَلَتْهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُنَالِكَ لِأَنَّ الْجَرَائِمَ الَّتِي عُدَّتْ عَلَيْهِمْ هُنَالِكَ كُلَّهَا مِمَّا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يُرَادُ مِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ زَمَنَ مُوسَى. فِي مُدَّةِ التِّيهِ، مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَة: ٦١] وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَة: ٢٤] وَعِبَادَتِهِمِ الْعِجْلَ. وَقَدْ عُدَّ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَمُنَاسَبَةُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْكَوْنِ جَزَاءً لِبَغْيِهِمْ: أَنَّ بَغْيَهُمْ نَشَأَ عَنْ صَلَابَةِ نُفُوسِهِمْ وَتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فِيهِمْ عَلَى الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ تَخْفِيفًا مِنْ صَلَابَتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارُ مِنَّتَهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ لَهُمْ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ الْقُرْآنُ وَحَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ مِمَّا لَمْ يخْتَلف فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَحْرِيمَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّا شَمِلَهُ نَصُّ التَّوْرَاةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ هُنَا مَا خُصُّوا بِتَحْرِيمِهِ مِمَّا لَمْ يُحَرَّمْ فِي الْإِسْلَامِ، أَيْ مَا كَانَ تَحْرِيمه موقّتا.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَلْتَفِتُ الذِّهْنُ إِلَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي ظُفُرٍ فَيَتَرَقَّبُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ بِ (أَمَّا) .

وَجُمْلَةُ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ تَذْيِيلٌ يُبَيِّنُ عِلَّةَ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ مَقْصُودٌ بِهِ التَّحْرِيمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ:

حَرَّمْنا فَهُوَ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ: لِ جَزَيْناهُمْ قُدِّمَ

عَلَى عَامِلِهِ وَمَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّثْبِيتِ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ جَزَاءٌ لِبَغْيِهِمْ.

وَجُمْلَةُ: وَإِنَّا لَصادِقُونَ تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا قَصْدًا لِتَحْقِيقِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا اقْتِدَاءً بِيَعْقُوبَ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا انْتَبَزُوا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّهُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ الْمُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ فَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ كَانَ حَرَّمَهَا يَعْقُوبُ عَلَى نَفْسِهِ نَذْرًا لِلَّهِ فَاتَّبَعَهُ أَبْنَاؤُهُ اقْتِدَاءً بِهِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ بِحَقٍّ: لِأَنَّ يَعْقُوبَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٣] .

وَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ لِنَذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ بَدَنِيَّةٍ لَا يَسْرِي إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مَذْكُورٌ تَحْرِيمُهَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ تَحْرِيمَهَا.

فَالتَّأْكِيدُ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَنَظِيرُ قَوْلِهِ هُنَا: وَإِنَّا لَصادِقُونَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٣] . عَقِبَ قَوْلِهِ: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ

كُنْتُمْ صادِقِينَ

إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمرَان: ٩٣- ٩٥] .

[١٤٧]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٧]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

تَفْرِيعٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ الَّذِي أَبْطَلَ تَحْرِيمَ مَا حَرَّمُوهُ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الْأَنْعَام: ١٤٣] الْآيَاتِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَرْعَوُوا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ

وَكَذَّبُوكَ فِي نَفْيِ تَحْرِيمِ اللَّهِ مَا زَعَمُوا أَنَّهُ حَرَّمَهُ فَذَكِّرْهُمْ بِبَأْسِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عَمَّا زَعَمُوهُ، وَذَكِّرْهُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ بِطَلَبِ مَا يُخَوِّلُهُمْ رَحْمَتَهُ مِنِ اتِّبَاعِ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، فَيَعُودُ ضَمِيرُ: كَذَّبُوكَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَام: سابقه وَلَا حَقه، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ تَنْبِيهٌ لَهُمْ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ إِمْهَالٌ دَاخِلٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ رَحْمَةً مُؤَقَّتَةً، لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَعْنَى فِعْلِ: كَذَّبُوكَ الِاسْتِمْرَارَ، أَيْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ هادُوا [الْأَنْعَام: ١٤٦]، تَكْمِلَةً لِلِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَرْضَ تَكْذِيبِهِمْ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [الْأَنْعَام: ١٤٦] إِلَخْ، لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُمْ بِحَيْثُ يُكَذِّبُونَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمِ الْإِمْهَالُ بِالرِّضَى، فَقِيلَ لَهُمْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِمْهَالُهُ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا غَالِبًا.

وَقَوْلُهُ: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِيهِ إِيجَازٌ بِحَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَذُو بَأْسٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إِذَا أَرَادَهُ. وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَوَقُّعٌ وَهُوَ تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنهم مجرمون.

[١٤٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٨]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ

(١٤٨)

اسْتِئْنَافٌ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنِ اعْتَرَضَ بَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

[الْأَنْعَام: ١٤٥]، فَلَمَّا قَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي شَأْنِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ، وَقِسْمَةِ مَا قَسَّمُوهُ، اسْتَقْصَى مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَهِيَ حُجَّةُ الْمَحْجُوجِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي أَعْيَتْهُ الْمُجَادَلَةُ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ حُجَّةٌ، إِذْ يَتَشَبَّثُ بِالْمَعَاذِيرِ الْوَاهِيَةِ لِتَرْوِيجِ ضَلَالِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ وَقُدِّرَ.

فَإِنْ كَانَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [الْأَنْعَام: ١٤٧] عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ أَقْوَالِهِمْ، فَإِخْبَارُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ [٣٥]: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، فَإِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، كَانَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ اطِّلَاعًا عَلَى مَا تُكِنُّهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ تَزْوِيرِ هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤] . وَإِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَة النّحل فالإخبار بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَعْذِرَتَهُمُ الْمَأْلُوفَةَ.

وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ: أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ على النّبيء ﷺ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى لَصَرَفَهُمْ عَنْهُ وَلَمَّا يَسَّرَهُ لَهُمْ، يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إفحام الرّسول عليه الصلاة والسلام وَإِبْطَالِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْعُقُولِ الْأَفِنَةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَحِفْظِ قَوَانِينِ الْوُجُود، وَهُوَ التصرّف الَّذِي نُسَمِّيهِ نَحْنُ بِالْمَشِيئَةِ وَبِالْإِرَادَةِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ بِالرِّضَى وَبِالْمَحَبَّةِ، فَالْأَوَّلُ تَصَرُّفُ التَّكْوِينِ وَالثَّانِي تَصَرُّفُ التَّكْلِيفِ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ وَضْعِ قَوَاعِدِ الشِّرْكِ وَمِنَ التَّحْرِيمِ

وَالتَّحْلِيلِ مَا هُوَ إِلَّا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمُ التَّمَكُّنَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ حِينَ لَمْ يُمْسِكْ عِنَانَ أَفْعَالِهِمْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ سَلْبِ تَمَكُّنِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يُهِمُّه سُوءَ تَصَرُّفِهِمْ فِيمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ لَكَانَ الْبَاطِلُ وَالْحَقُّ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ عَقْلٌ حَصِيفٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ حِينَ يَتَوَهَّمُونَ ذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَّا إِلَى جَانِبِ نِحْلَتِهِمْ وَمُعْرِضِينَ عَنْ جَانِبِ مُخَالِفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَقُولُونَ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا غَافِلُونَ عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ. مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ: لَوْ شَاءَ الله مَا قُلْتُ لَكُمْ أَنَّ فِعْلَكُمْ ضَلَالٌ، فَيَكُونُ اللَّهُ عَلَى حَسَبِ شُبْهَتِهِمْ قَدْ شَاءَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ إِذْ شَاءَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ وَشَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَا تُشْرِكُوا.

وَسَبَبُ هَذِهِ الضَّلَالَةِ الْعَارِضَةِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ، الَّتِي تَلُوحُ فِي عُقُولِ بَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاذِيرِهِمْ لِلْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ أَنْ يَقُولُوا: أَمْرُ اللَّهِ أَوْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، هُوَ الْجَهْلُ بِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَضْعِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَتْ أَنْ يَجْعَلَ حِجَابًا بَيْنَ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ هُوَ نَامُوسُ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَارْتِبَاطِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ، وَيُسَّمَى بِالْقُدْرَةِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَوْرِدُ التَّكْلِيفِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ بِحِكْمَةٍ فَجَعَلَ قِوَامَهُ هُوَ تَدْبِيرُ الْأَشْيَاءِ أُمُورَهَا مِنْ ذَوَاتِهَا بِحَسَبِ قُوًى أَوْدَعَهَا فِي الْمَوْجُودَاتِ لِتَسْعَى لِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَزَادَ الْإِنْسَانَ مَزِيَّةً بِأَنْ وَضَعَ لَهُ عَقْلًا يُمَكِّنُهُ مِنْ تَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ عَلَى حَسَبِ احْتِيَاجِهِ، وَوَضَعَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا قَيَّضَ لَهُ دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ تُنَبِّهُهُ إِلَيْهِ إِنْ عَرَتْهُ غَفْلَةٌ، أَوْ حَجَبَتْهُ شَهْوَةٌ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَرْعَوِ غَيِّهِ، فَقَدْ خَانَ بِسَاطَ عَقْلِهِ بِطَيِّهِ.

وَبِهَذَا ظَهَرَ تَخْلِيطُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ بَيْنَ مَشِيئَةِ الْعِبَادِ وَمَشِيئَةِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُنَا قَوْلَهُمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا هُوَ مَشِيئَةٌ لَهُمْ مَشِيئَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ أَثْبَتَ مَشِيئَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] فَهِيَ مَشِيئَةُ تَكْوِينِ الْعُقُولِ وَتَكْوِينِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ.

فَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ الَّتِي اعْتَلُّوا بِهَا مَشِيئَةٌ خَفِيَّةٌ لَا تَتَوَصَّلُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى كُنْهِهَا عُقُولُ الْبَشَرِ، فَلِذَلِكَ نَعَى اللَّهُ عَلَيْهِمِ اسْتِنَادَهُمْ إِلَيْهَا عَلَى جَهْلِهِمْ بِكُنْهِهَا، فَقَالَ: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَشَبَّهَ بِتَكْذِيبِهِمْ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ مَقْصِدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْذِيب النّبيء ﷺ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا.

وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَنْهَضُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْنَا، وَإِنْ حَاوَلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى بُطْلَانِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ. وَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم أنبياءهم مثل مَا كَذَّبَكَ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا تَكْذِيب النّبيء ﷺ إِذْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ بِحُجَّةٍ أَنَّ اللَّهَ رَضِيَهُ لَهُمْ

وَشَاءَهُ مِنْهُمْ مَشِيئَةَ رِضًى، فَكَذَلِكَ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ مُسْتَنِدِينَ إِلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَسَمَّى اللَّهُ اسْتِدْلَالَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا، لِأَنَّهُمْ سَاقُوهُ مَسَاقَ التَّكْذِيبِ وَالْإِفْحَامِ، لَا لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ لَا يَقُولُ بِهِ الرّسول ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّا نَقُولُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] نُرِيدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَكَلَامُهُمْ مِنْ بَابِ كَلَامِ الْحَقِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» أنّه قرىء: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ- بِتَخْفِيفِ ذَالِ كَذَّبَ-

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ قِرَاءَةٌ مَوْضُوعَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ يَعْنِي شَاذَّةً شُذُوذًا شَدِيدًا وَلَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، وَلَعَلَّهَا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْفَخْرِ.

وَقَوْلُهُ: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا غَايَةٌ لِلتَّكْذِيبِ مَقْصُودٌ مِنْهَا دَوَامُهُمْ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ أَوْقَاتِ وُجُودِهِمْ. فَلَمَّا ذَاقُوا بَأْسَ اللَّهِ هَلَكُوا وَاضْمَحَلُّوا، وَلَيْسَتِ الْغَايَةُ هُنَا لِلتَّنْهِيَةِ: وَالرُّجُوعِ عَنِ الْفِعْلِ لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ بَعْدَ اسْتِئْصَالِهِمْ.

وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ، فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥] .

وَالْبَأْسُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعْظِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ.

وَأَمَرَ الله رَسُوله ﷺ بِالْجَوَابِ عَنْ مَقَالِهِمُ الْوَاقِعِ أَوِ الْمُتَوَقَّعِ بِقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، فَفَصَّلَ جُمْلَةَ: قُلْ لِأَنَّهَا جَارِيَة مجْرى المقاولة وَالْمُجَاوَبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ الْإِفْحَامُ وَالتَّهَكُّمُ بِمَا عُرِفَ مِنْ تَشَبُّثِهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.

وَجُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، لِأَنَّ أَصْلَ هَلْ أَنَّهَا حَرْفٌ بِمَعْنَى «قَدْ» لِاخْتِصَاصِهَا بِالْأَفْعَالِ، وَكَثُرَ وُقُوعُهَا بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَغَلَبَ عَلَيْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، فَكَثُرَ حَذْفُ الْهَمْزَةِ مَعَهَا حَتَّى تُنُوسِيَتِ الْهَمْزَةُ فِي مَشْهُورِ الْكَلَامِ وَلَمْ تَظْهَرْ مَعَهَا إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩١] . فَدَلَّ هَلْ عَلَى أَنَّهُ سَائِلٌ عَنْ أَمْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَقَّقًا كَأَنَّهُ يَرْغَبُ فِي حُصُولِهِ فَيُغْرِيهِمْ بِإِظْهَارِهِ حَتَّى إِذَا عَجَزُوا كَانَ قَطْعًا لِدَعْوَاهُمْ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّهَكُّمُ بِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا- إِلَى-

وَلا حَرَّمْنا، فَأَظْهَرَ لَهُمْ من القَوْل مِنَ يُظْهِرُهُ الْمُعْجَبُ بِكَلَامِهِمْ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ بَادِيَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَطْلُبُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَيْفَ وَهُوَ يُصَارِحُهُمْ بِالتَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ صَبَاحَ مَسَاءٍ.

وَالْعِلْمُ: مَا قَابَلَ الْجَهْلَ، وَإِخْرَاجُهُ الْإِعْلَامُ بِهِ، شُبِّهَتْ إِفَادَةُ الْمَعْلُومِ لِمَنْ يَجْهَلُهُ بِإِخْرَاجِ الشَّيْءِ الْمَخْبُوءِ، وَذَلِكَ مِثْلُ التَّشْبِيهِ فِي

قَول النّبي ﷺ: «وَعِلْمٌ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ»

وَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِتْيَانِ: بِ عِنْدَكُمْ مَوْقِعٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ (عِنْدَ) فِي الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ الْمُخْتَصِّ بِالَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ لَفْظُهَا، فَهِيَ مِمَّا يُنَاسِبُ الْخَفَاءَ، وَلَوْلَا شُيُوعُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ لَقُلْتُ: إِنَّ ذِكْرَ (عِنْدَ) هُنَا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ لِلْإِعْلَامِ. وَجُعِلَ إِخْرَاجُ الْعِلْمِ مُرَتَّبًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الْعِنْدِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَقْصُودٌ بِهِ مَا يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ.

وَاللَّامُ فِي: فَتُخْرِجُوهُ لَنا لِلْأَجْلِ وَالِاخْتِصَاصِ، فَتُؤْذِنُ بِحَاجَةِ مَجْرُورِهَا لِمُتَعَلَّقِهَا، أَيْ فَتُخْرِجُوهُ لِأَجْلِنَا: أَيْ لِنَفْعِنَا، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ أَبْدَعْتُمْ فِي هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي أَبْدَيْتُمُوهُ فِي اسْتِفَادَتِكُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْتُمُوهُ بِدَلَالَةِ مَشِيئَةٍ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَوْ شَاءَ لَمَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَزِيدُونَا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ.

وَهَذَا الْجَوَابُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ جَازِمًا بِانْتِفَاءِ مَا اسْتَفْهَمَ عَنْهُ أَعْقَبَهُ بِالْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.

وَجُمْلَةُ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ بِإِضْرَابٍ

عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَبَعْدَ أَنْ تَهَكَّمَ بِهِمْ جَدَّ فِي جَوَابِهِمْ، فَقَالَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أَيْ: لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ. وَقُصَارَى مَا عِنْدَكُمْ هُوَ الظَّنُّ الْبَاطِلُ وَالْخَرْصُ. وَهَذَا يُشْبِهُ سَنَدَ الْمَنْعِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْجَدَلِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ الظَّنُّ الْكَاذِبُ وَهُوَ إِطْلَاقٌ لَهُ شَائِعٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي هَذِه السّورة [١١٦] .

[١٤٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٤٩]

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)

جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الْأَنْعَام: ١٤٨] تَكْمِلَةٌ لِلْجَوَابِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْمُعَارَضَةَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْجَدَلِ.

وَأُعِيدَ فِعْلُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ فِعْلِ: قُلْ وَقَدْ كُرِّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَعَاقِبَةً بِدُونِ عَطْفٍ، وَالنُّكْتَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ

الْمُقَاوَلَةِ.

وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ تُؤْذِنُ بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ هُوَ شَرْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُكُمْ لِمُجَرَّدِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ: لِلَّهِ لَا لَكُمْ، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ حُجَّتَهُمْ دَاحِضَةٌ.

وَالْحُجَّةُ: الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ أَحَدٍ فِي دَعْوَاهُ وَعَلَى مُصَادَفَةِ الْمُسْتَدِلِّ وَجْهَ الْحَقِّ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٠] .

وَالْبَالِغَةُ هِيَ الْوَاصِلَةُ: أَيْ الْوَاصِلَةُ إِلَى مَا قُصِدَتْ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ غَلَبُ الْخَصْمِ، وَإِبْطَالُ حُجَّتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [الْقَمَر: ٥]، فَالْبُلُوغُ اسْتِعَارَةٌ مَشْهُورَةٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِجْرَاءِ اسْتِعَارَةٍ

مَكْنِيَّةٍ فِي الْحُجَّةِ بِأَنْ تُشَبَّهَ بِسَائِرٍ إِلَى غَايَةٍ، وَقَرِينَتُهَا إِثْبَاتُ الْبُلُوغِ، وَلَا حَاجَةَ أَيْضًا إِلَى جَعْلِ إِسْنَادِ الْبُلُوغِ إِلَى الْحُجَّةِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، أَيْ بَالِغًا صَاحِبُهَا قَصْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ فِي مَعْنَى الْبُلُوغِ، فَالتَّفْسِيرُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ أَوْلَى، وَالْمَعْنَى: لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْغَالِبَةُ لَكُمْ، أَيْ وَلَيْسَ اسْتِدْلَالُكُمْ بِحُجَّةٍ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ فَاءُ التَّفْرِيعِ عَلَى ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: تَفَرَّعَ عَلَى بُطْلَانِ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاهُمْ، أَيْ لَوْ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يُغَيِّرَ عُقُولَهُمْ فَتَأْتِي عَلَى خِلَافِ مَا هُيِّئَتْ لَهُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِوَجْهِ عِنَايَةٍ خَاصَّةٍ بِهِمْ أَوْ خَارِقِ عَادَةٍ لِأَجْلِهِمْ، إِذْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ قَضَتْ أَنْ لَا يُعَمِّمَ عِنَايَتَهُ بَلْ يَخْتَصَّ بِهَا بَعْضَ خَاصَّتِهِ، وَأَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي الْهِدَايَةِ بِوَضْعِ الْعُقُولِ وَتَنْبِيهِهَا إِلَى الْحَقِّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ الْمَقْصُودَةِ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا [الْأَنْعَام: ١٤٨] وَإِلَّا لَكَانَ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَثْبَتَ نَظِيرَهُ عَقِبَ الْإِنْكَارِ فَتَتَنَاقَضَ الْمُحَاجَّةُ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ تُسَاوِي عَدَمَ الْإِشْرَاكِ وَعَدَمَ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَصْدُقُ جَعْلُ كليهمَا جَوَابا للو الِامْتِنَاعِيَّةِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ هِيَ الْمَشِيئَةُ الْخَفِيَّةُ الْمَحْجُوبَةُ، وَهِيَ مَشِيئَةُ التَّكْوِينِ، وَالْمَشِيئَةُ الْمُنْكَرَةُ عَلَيْهِمْ هِيَ مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَاقِعِ عَلَى الرِّضَى وَالْمَحَبَّةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي كَلَّلَهَا مِنَ الْإِيجَازِ مَا شَتَّتَ أَفْهَامًا كَثِيرَةً فِي وَجْهِ تَفْسِيرِهَا لَا يَخْفَى بُعْدُهَا عَنْ مُطَالِعِ التَّفَاسِيرِ

وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هُنَا.

[١٥٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٠]

قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

(١٥٠)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلِانْتِقَالِ مِنْ طَرِيقَةِ الْجَدَلِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي إِبْطَالِ زَعْمِهِمْ، إِلَى إِبْطَالِهِ بِطَرِيقَةِ التَّبْيِينِ، أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا، تَقَصِّيًا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِ. وَلِذَلِكَ أُعِيدَ أَمر الرّسول ﷺ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يُظْهِرُ كِذْبَ دَعْوَاهُمْ.

وَإِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ بِدُونِ عَطْفٍ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَسْمَاعِ وَلِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ المحاورة كَمَا قدمْنَاهُ آنِفًا.

وهَلُمَّ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ لِلْحُضُورِ أَوِ الْإِحْضَارِ، فَهِيَ تَكُونُ قَاصِرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

هَلُمَّ إِلَيْنا [الْأَحْزَاب: ١٨] وَمُتَعَدِّيَةً كَمَا هُنَا، وَهُوَ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ يَلْزَمُ حَالَةً وَاحِدَةً فَلَا تَلْحَقُهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْمُخَاطَبِ، فَتَقُولُ: هَلُمَّ يَا زَيْدُ، وَهَلُمَّ يَا هِنْدُ، وَهَكَذَا، وَفِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ- أَعْنِي بَنِي تَمِيمٍ- تَلْحَقُهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ، يَقُولُونَ: هَلُمِّي يَا هِنْدُ، وَهَلُمَّا، وَهَلُمُّوا، وَهَلْمُمْنَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَفْصَحِ فَقَالَ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ.

وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى شَاهِدٍ، وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ إِذْ لَا يَلْقَوْنَ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَا نسبوا إِلَيْهِ تَحْرِيمه من شؤون دِينِهِمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا. وَأُضِيفَ الشُّهَدَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِزِيَادَةِ تَعْجِيزِهِمْ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُحِقِّ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُهَدَاءُ يَعْلَمُهُمْ فَيُحْضِرُهُمْ إِذَا دُعِيَ إِلَى إِحْقَاقِ حَقِّهِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: ارْكَبْ فَرَسَكَ وَالْحَقْ فُلَانًا، لِأَنَّ كُلَّ ذِي بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ لَا يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَسٌ، فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ لَهُ فَرَسًا خَاصًّا وَلَكِنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَسٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الْأَحْزَاب: ٥٩] وَقَدْ لَا يَكُونُ لِإِحْدَاهِنَّ جِلْبَابٌ كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُئِلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِإِحْدَانَا جِلْبَابٌ، قَالَ:

لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا

.

ووصفهم بِالْمَوْصُولِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى إِعْدَادِ أَمْثَالِهِمْ لِلشَّهَادَةِ، فَالطَّالِبُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّهُمْ لَا يَخْلَوْنَ عَنْ شُهَدَاءَ بِحَقِّهِمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُمْ وَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِتَعْجِيزِهِمُ الْبَيِّنِ إِذَا لَمْ يُحْضِرُوهُمْ، كَمَا هُوَ الْمَوْثُوقُ بِهِ مِنْهُمْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: ١٤٤] فَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ شُهَدَاءُ.

وَإِشَارَةُ هَذَا تُشِيرُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْجِدَالِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الْأَنْعَام: ١٤٣] الْآيَاتِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: ١٤٤] .

ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى فَرْضِ أَنْ يُحْضِرُوا شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ، قَوْله: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، أَيْ إِنْ فُرِضَ الْمُسْتَبْعَدُ فَأَحْضَرُوا لَكَ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الَّذِي زَعَمُوهُ، فَكَذِّبْهُمْ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ، فَقَوْلُهُ: فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ الَّذِي يُصَدِّقُ أَحَدًا يُوَافِقُهُ فِي قَوْلِهِ، فَاسْتُعْمِلَ النَّهْيُ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ فِي لَازِمِهِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّهَادَةِ مَعَهُمْ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ شَاهِدُهُ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، فَقَرِينَةُ الْكِنَايَةِ ظَاهِرَةٌ.

وَعُطِفَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمُ، النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا.

وَأَظْهَرَ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لِأَنَّ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَهُمْ مِمَّنْ يُتَجَنَّبُ اتِّبَاعُهُمْ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا الْيَهُودُ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ [الْأَنْعَام: ١٤٧] وَسَمَّى دِينَهُمْ هَوًى لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى مُسْتَنَدٍ وَلَكِنَّهُ إِرْضَاءٌ لِلْهَوَى.

وَالْهَوَى غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمُلَائِمِ الْعَاجِلِ الَّذِي عَاقِبَتُهُ ضَرَرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا وَالْمَقْصُودُ عطف الصّلة عَلَى الصِّلَةِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الصِّلَتَيْنِ مُتَّحِدُونَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَهَذَا كَعَطْفِ الصِّفَاتِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ:

إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَا ... مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ

كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يُعَادَ اسْمُ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْهُ، وَلَكِنْ أُجْرِيَ الْكَلَامُ على خلاف مقتصى الظَّاهِرِ لِزِيَادَةِ التَّشْهِيرِ بِهِمْ، كَمَا هُوَ بَعْضُ نُكَتِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَقِيلَ: أُرِيدُ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ: الَّذِينَ كذّبوا الرّسول عليه الصلاة والسلام وَالْقُرْآنَ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، وَبِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ:

الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ

يَعْدِلُونَ

فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [١] .

[١٥١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥١]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ مِنْ لُحُومِ الْأَنْعَامِ، إِلَى دَعْوَتِهِمْ لِمَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي عِلْمُهَا حَقٌّ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا اخْتَلَقُوا مِنِ افْتِرَائِهِمْ وَمَوَّهُوا بِجَدَلِهِمْ. وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِفِعْلِ الْقَوْلِ اسْتِرْعَاءً لِلْأَسْمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَعُقِّبَ بِفِعْلِ: تَعالَوْا اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ السَّفَاسِفِ الَّتِي اهتمّوا بهَا وَهَذَا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ:

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ، لِيَعْلَمُوا الْبَوْنَ بَيْنَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، مِنْ جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا أَزْمَانَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ.

وَافْتِتَاحُهُ بِطَلَبِ الْحُضُورِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي إِعْرَاضٍ.

وَقَدْ تَلَا عَلَيْهِم أحكاما قد كَانُوا جَارِينَ عَلَى خِلَافِهَا مِمَّا أَفْسَدَ حَالَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا وَالْأَمْرِ بِضِدِّهَا.

وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله:

أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ

[الْأَنْعَام: ١٥٢] .

الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ

الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣] .

وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَ(تَعَالَ) فِعْلُ أَمْرٍ، أَصْلُهُ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُرَادُ صُعُودُهُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَوْقَ مَكَانِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَادَوْا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ ارْتَقَى الْمُنَادِي عَلَى رَبْوَةٍ لِيُسْمَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ (تَعَالَ) عَلَى طَلَبِ الْمَجِيءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَأَصْلُهُ فِعْلُ أَمْرٍ لَا مَحَالَةَ مِنَ التَّعَالِي وَهُوَ تَكَلُّفُ الِاعْتِلَاءِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى (اقْدَمْ)، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَا يُقَالُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى (قَدِمْتُ)، وَلَا تَعَالَى إِلَيَّ فُلَانٌ بِمَعْنَى جَاءَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ لَزِمَتْهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِ بِهِ فَيُقَالُ: تَعَالَوْا وَتَعَالَيْنَ. وَبِذَلِكَ رَجَّحَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ وَلَيْسَ بِاسْمِ فِعْلٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمَا لَحِقَتْهُ الْعَلَامَاتُ، وَلَكَانَ مِثْلَ: هَلُمَّ وَهَيْهَاتَ.

وأَتْلُ جَوَابُ تَعالَوْا، وَالتِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ، وَالسَّرْدُ وَحِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: ١٠٢] . وأَلَّا تُشْرِكُوا تَفْسِيرٌ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقَوْلِ.

وَذُكِرَتْ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اللُّحُومِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْفَوَاحِشِ أَوْلَى مِنَ الْعُكُوفِ عَلَى دِرَاسَةِ أَحْكَامِ الْأَطْعِمَةِ، تَعْرِيضًا بِصَرْفِ الْمُشْرِكِينَ هِمَّتَهُمْ إِلَى بَيَانِ الْأَطْعِمَةِ وَتَضْيِيعِهِمْ تَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ عَنِ النَّاسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها [الْأَعْرَاف: ٣٢، ٣٣] الْآيَةَ.

وَقَدْ ذُكِرَتِ الْمُحَرَّمَاتُ: بَعْضُهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَبَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَنُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي صِيغَةِ الطَّلَبِ لَهَاتِهِ الْمَعْدُودَاتِ سَنُبَيِّنُهَا.

وَأَن تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ: أَتْلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ. فَجُمْلَةُ: أَلَّا تُشْرِكُوا فِي مَوْقِعِ عَطْفِ بَيَانٍ.

وَالِابْتِدَاءُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّ إِصْلَاحَ الِاعْتِقَادِ هُوَ

مِفْتَاحُ بَابِ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَاجِلِ، وَالْفَلَاحِ فِي الْآجِلِ.

وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا عَطْفٌ على جملَة: أَلَّا تُشْرِكُوا. وإِحْسانًا مَصْدَرٌ نَابَ مَنَابَ فِعْلِهِ، أَيْ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ: وَهُوَ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَقَعَ هُنَا فِي عِدَادِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْإِسَاءَةُ لِلْوَالِدَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ اعْتِنَاءً بِالْوَالِدَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِرَّهُمَا، وَالْبِرُّ إِحْسَانٌ، وَالْأَمْرُ بِهِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا بِطَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَهْلَ جلافة، فَكَانَ الْأَوْلَاد لَا يُوَقِّرُونَ آبَاءَهُمْ إِذَا أَضْعَفَهُمُ الْكِبَرُ. فَلِذَلِكَ كَثُرَتْ وِصَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْوَأْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٣٧]: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ. وَ(مِنْ) تَعْلِيلِيَّةٌ، وَأَصْلُهَا الِابْتِدَائِيَّةُ فَجُعِلَ الْمَعْلُول كأنّه مبتدىء مِنْ عِلَّتِهِ.

وَالْإِمْلَاقُ: الْفَقْرُ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعَ الْحُصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى، فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣١]: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ إِمَّا لِلْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِهِنَّ وَإِمَّا لِتَوَقُّعٍ ذَلِكَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ، وَهُوَ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ:

إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِينَ تَنْدُبُنِي ... فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ


أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ... فَيُكْشَفُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٣٧] .

وَجُمْلَةُ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، مُسْتَأْنَفَةٌ، عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِمْ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ: لِأَنَّ الْفَقْرَ قَدْ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَمَعَ كَوْنِ الْفَقْرِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا لِقَتْلِ النَّفْسِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَوْلَادَ فَقَدْ قَدَّرَ رِزْقَهُمْ، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَظُنَّ الْأَبُ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ رِزْقِهِمْ يُخَوِّلُهُ قَتْلَهُمْ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكْتَسِبَ لَهُمْ.

وَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ بِضَمِيرِ: نَرْزُقُكُمْ تَذْكِيرًا بِالَّذِي أَمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ كُلِّهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ أَقْحَمَ كَلَامَهُ بِنَفْسِهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَكَلَّمَ النَّاسَ بِنَفْسِهِ، وَتَأْكِيدًا لتصديق الرَّسُول ﷺ.

وَذَكَرَ اللَّهُ رِزْقَهُمْ مَعَ رِزْقِ آبَائِهِمْ، وَقَدَّمَ رِزْقَ الْآبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَمَا رَزَقَ الْآبَاءَ، فَلَمْ يَمُوتُوا جُوعًا، كَذَلِكَ يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ، عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ إِنَّمَا اعْتَرَى الْآبَاءَ فَلِمَ يُقْتَلُ لِأَجْلِهِ الْأَبْنَاءُ.

وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ. هُنَا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ: أَيْ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا أَنْتُمْ تَرْزُقُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَرْزُقُونَ أَبْنَاءَكُمْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَنَّ قَبَائِلَ كَثِيرَةً كَانَتْ تَئِدُ الْبَنَاتِ. فَلِذَلِكَ حُذِّرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَجُمْلَةُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ نَهْيٌ عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ، وَقَدْ نَهَى عَن الْقرب مِنْهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَتِهَا: لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الشَّيْءِ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْإِثْمِ قُرْبٌ وَبُعْدٌ كَانَ الْقُرْبُ مُرَادًا بِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ مُلَابَسَةِ الْإِثْمِ أَقَلَّ مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقِرَّةِِ

فِي الْأَمْكِنَةِ إِذَا قِيلَ لَا تَقْرَبْ مِنْهَا فُهِمُ النَّهْيُ عَنِ الْقُرْبِ مِنْهَا لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ مُلَابَسَتِهَا بِالْأَحْرَى، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيُّ هُنَا تَعَيَّنَتْ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ.

وَالْفَوَاحِشُ: الْآثَامُ الْكَبِيرَةُ، وَهِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَفَاسِدَ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩] .

وَمَا ظَهَرَ مِنْها مَا يُظْهِرُونَهُ وَلَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ، مِثْلُ الْغَضَبِ وَالْقَذْفِ. وَما بَطَنَ مَا يَسْتَخْفُونَ بِهِ وَأَكْثَرُهُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَكَانَا فَاشِيَيْنِ فِي الْعَرَبِ.

وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفَوَاحِشَ بِالزِّنَا، وَجَعَلَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ سُفَهَاؤُهُمْ فِي الْحَوَانِيتِ وَدِيَارِ الْبَغَايَا، وَبِمَا بَطَنَ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ سِرًّا، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ. وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الزِّنَا سِرًّا حَلَالًا، وَيَسْتَقْبِحُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي الْفَوَاحِشِ تُرَجِّحُ التَّفْسِيرَ الْأَوَّلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْم: ٣٢] .

وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَفْسِيرِ الْفَوَاحِشِ بِالزِّنَى قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٢] فِي آيَاتٍ

عدّدت منهيات كَثِيرَة تُشَابِهُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ وَاحِدًا.

وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢٠] .

وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ عَلَى تَفْسِيرِهَا بِالْأَعَمِّ، تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ: لِأَنَّهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَشِّيًا بَيْنَ الْعَرَبِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّفْسِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.

وَوُصِفَتْ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَأْكِيدًا لِلتَّحْرِيمِ بِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ، وَتَعْلِيقُ التَّحْرِيمِ بِالنَّفْسِ: هُوَ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، أَيْ حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي تَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِأَعْيَانِ الذَّوَاتِ أَنَّهُ يُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُسْتَعْمَلُ تِلْكَ الذَّاتُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: ١] أَيْ، أَكْلُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: حَرَّمَ اللَّهُ جَعَلَهَا اللَّهُ حَرَمًا أَيْ شَيْئًا مُحْتَرما لَا يعتدى عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها [النَّمْل: ٩١] .

وَفِي الْحَدِيثِ: «وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»

. وَقَوله: إِلَّا بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من عُمُوم أَحْوَال مُلَابَسَةَ الْقَتْلِ، أَيْ لَا تَقْتُلُوهَا فِي أَيَّةِ حَالَةٍ أَوْ بِأَيِّ سَبَبٍ تَنْتَحِلُونَهُ إِلَّا بِسَبَبِ الْحَقِّ، فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ.

وَالْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي حَقَّ، أَيْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ بَاطِلٍ فِي حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْ هَوًى أَوْ شَهْوَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ الَّذِي اتَّفَقَتِ الْعُقُولُ عَلَى قَبُولِهِ، وَهُوَ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الَّذِي اصْطَلَحَ أَهْلُ نَزْعَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ وُقُوعُهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمَّةٍ أَوْ زَمَنٍ.

فَالتَّعْرِيفُ فِي: الْحَقِّ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَاهِيَّةُ الْحَقِّ الْمُتَقَدِّمِ شَرْحُهَا، وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَاهِيَّتُهُ فِي نَظَرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ فَصَّلَ الْإِسْلَامُ حَقَّ قَتْلِ النَّفْسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْمُحَارِبِ وَالْقِصَاصُ، وَهَذَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ، وَقَتْلُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَقَتْلُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ إِنْظَارِهِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَرَدَتْ بِهَا أَحَادِيثُ عَن النّبيء ﷺ، وَمِنْهُ الْقَتْلُ النَّاشِئُ عَنْ إِكْرَاهٍ وَدِفَاعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا وَذَلِكَ قَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْبُغَاةِ وَهُوَ بِنَصِّ

الْقُرْآنِ، وَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ مَانِعِي

الزَّكَاةِ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ قَتْلَ الْأَسِيرِ فِي الْجِهَادِ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ كَانَ حَقًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ إِلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَلَوْ أَتَى بِإِشَارَةِ الْجَمْعِ لَكَانَ ذَلِكَ فَصِيحًا، وَمِنْهُ: كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٦] .

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوِصَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الْأَنْعَام: ١٤٤] آنِفًا.

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رَجَاءَ أَنْ يَعْقِلُوا، أَيْ يَصِيرُوا ذَوِي عُقُولٍ لِأَنَّ مُلَابسَة بعض هَذِه المحرّمات ينبىء عَنْ خَسَاسَةِ عَقْلٍ، بِحَيْثُ يُنَزَّلُ مُلَابِسُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْقِلُ، فَلِذَلِكَ رُجِيَ أَنْ يَعْقِلُوا.

وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَذْيِيلٌ جُعِلَ نِهَايَةً لِلْآيَةِ، فَأَوْمَأَ إِلَى تنهية نوع من الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْمُحَرَّمَاتُ الرَّاجِعُ تَحْرِيمُهَا إِلَى إِصْلَاحِ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِلْأُمَّةِ، بِإِصْلَاحِ الِاعْتِقَادِ، وَحِفْظِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْمَفَاسِدِ، وَحِفْظِ النَّوْعِ بِتَرْكِ التَّقَاتُلِ.

[١٥٢]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٢]

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

عَطَفَ جُمْلَةَ: وَلا تَقْرَبُوا

عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فَسَّرَتْ فعل: أَتْلُ [الْأَنْعَام: ١٥١] عَطْفَ مُحَرَّمَاتٍ تَرْجِعُ إِلَى حفظ قواع التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ لِإِقَامَةِ قَوَاعِدِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَدَنِيَّتِهَا وَتَحْقِيقِ ثِقَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

وَابْتَدَأَهَا بِحِفْظِ حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الدَّفْعَ عَنْ حَقِّهِ فِي مَالِهِ، وَهُوَ الْيَتِيمُ، فَقَالَ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

وَالْقُرْبَانُ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَابَسَةِ مَالِ الْيَتِيمِ.

وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ [الْأَنْعَام: ١٥١] . وَلَمَّا اقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَوْ بِالْخَزْنِ وَالْحِفْظِ، وَذَلِكَ يُعَرِّضُ مَالَهُ لِلتَّلَفِ،

اسْتُثْنِي مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

أَيْ إِلَّا بِالْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَاسْمُ الْمَوْصُولِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُنَاسِبًا لِلْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ اسْم للمؤنّث، فَيُقَدَّرُ بِالْحَالَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ.

وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ إِلَّا مُلَابِسِينَ لِلْخَصْلَةِ أَوِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَالَاتِ الْقُرْبِ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهُ بِالْمَرَّةِ مِنْ: تَقْرَبُوا أَيْ إِلَّا بِالْقُرْبَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقَدِ الْتُزِمَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَاعْتِبَارُهُ مُؤَنَّثًا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٦] أَيْ بِالْخَصْلَةِ الْحَسَنَةِ ادْفَعِ السَّيِّئَةَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالْمَوْصُولِ مُؤَنَّثًا وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ وَحَذَفُوا صِلَتَهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: «بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي»، أَيْ بَعْدَ الدَّاهِيَةِ الْحَقِيرَةِ وَالدَّاهِيَةِ الْجَلِيلَةِ كَمَا قَالَ سُلْمِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الضبّي:

وَلَقَد رأبت ثَأْيَ الْعَشِيرَةِ بَيْنَهَا ... وَكَفَيْتُ جَانِبَهَا اللَّتَيَّا وَالَّتِي

وأَحْسَنُ

اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، أَيِ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا ضُرَّ فِيهَا لِلْيَتِيمِ وَلَا لِمَالِهِ. وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: وَلا تَقْرَبُوا تَحْذِيرًا مِنْ أَخْذِ مَالِهِ وَلَوْ بِأَقَلِّ أَحْوَالِ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنَا: وَلا تَأْكُلُوا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٨]: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.

وَالْأَشُدُّ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّدِّ وَهُوَ التَّوَثُّقُ،

وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا، مِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْيَتِيمِ، بُلُوغُهُ الْقُوَّةَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ ضَعْفِ الصِّبَا، وَتِلْكَ هِيَ الْبُلُوغُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بُلُوغُهُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ.

وَمَا مُنِعَ الصَّبِيُّ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ إِلَّا لِضَعْفٍ فِي عَقْلِهِ بِخِلَافِ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بُلُوغَ الرَّجُلِ مُنْتَهَى حَدِّ الْقُوَّةِ فِي الرّجال وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً إِلَى الْخَمْسِينَ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الْأَحْقَاف: ١٥] وَقَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ:

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... ونجّذني مداورة الشّؤون

وَالْبُلُوغُ: الْوُصُولُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّدَرُّجِ فِي أَطْوَارِ الْقُوَّةِ الْمُخْرِجَةِ مِنْ وَهْنِ الصِّبَا.

وحَتَّى

غَايَةٌ لِلْمُسْتَثْنَى: وَهُوَ الْقُرْبَانُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَى أَنْ

يَبْلُغَ صَاحِبُهُ أَشُدَّهُ أَيْ فَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] الْآيَةَ.

وَوَجْهُ تَخْصِيصِ حَقِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِالْحِفْظِ: أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ مَظِنَّةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ مَظِنَّةُ انْعِدَامِ الْمُدَافِعِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا وَلَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْمَوَالِي مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ إِذَا اسْتَجَارَهُ أَوِ اسْتَنْجَدَهُ، فَأَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَلِيُّهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلِي الْيَتِيمَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَتَوَسَّعُونَ فِي أَمْوَالِ أَيْتَامِهِمْ، وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهَا، وَيُضَيِّعُونَ الْأَيْتَامَ لِكَيْلَا يَنْشَأُوا نَشْأَةً يَعْرِفُونَ بِهَا حُقُوقَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى [الضُّحَى: ٦] لِأَنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الْإِضَاعَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُوَصِّ اللَّهُ تَعَالَى بِمَالِ غَيْرِ الْيَتِيمِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمُنْجِدِيهِ.

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.

عَطَفَ الْأَمْرَ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَذَلِكَ فِي التَّبَايُعِ، فَقَدْ كَانُوا يَبِيعُونَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ كَيْلًا، وَكَانُوا يَتَوَازَنُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَكَانُوا يُطَفِّفُونَ حِرْصًا عَلَى الرِّبْحِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّطْفِيفِ كَمَا فِي قَوْلِ شُعَيْبٍ: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ [هود: ٨٤] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْحَدِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَدْلُ وَافِيًا، وَعَدَمُ النَّقْصِ يُسَاوِي الْوَفَاءَ، وَلَكِنْ فِي اخْتِيَارِ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ اهْتِمَامًا بِهِ لتَكون النّفوس ملتفتة إِلَى جَانِبِ الْوَفَاءِ لَا إِلَى جَانب ترك التّنقيص، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِالسَّخَاءِ الَّذِي يَتَمَادَحُونَ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ سَخَاؤُكُمُ الَّذِي تَتَنَافَسُونَ فِيهِ فَهَلَّا تُظْهِرُونَهُ إِذَا كِلْتُمْ أَوْ وَزَنْتُمْ فَتَزِيدُوا عَلَى الْعَدْلِ بِأَنْ تُوَفِّرُوا لِلْمُكْتَالِ كَرَمًا بَلْهَ أَنْ تَسْرِقُوهُ حَقَّهُ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اخْتِلَالِ أَخْلَاقِهِمْ وَعَدَمِ تَوَازُنِهَا.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْقِسْطِ

لِلْمُلَابَسَةِ وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِمًا بِالْقِسْطِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]، أَيْ أَوْفُوا مُتَلَبِّسِينَ بِالْعَدْلِ بِأَنْ لَا تَظْلِمُوا الْمُكْتَالَ حَقَّهُ.

لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها.

ظَاهِرُ تَعْقِيبِ جُمْلَةِ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ

إِلَخْ بِجُمْلَةِ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها

أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالَّتِي وَلَيْتَهَا فَتَكُونُ احْتِرَاسًا، أَيْ لَا نُكَلِّفُكُمْ تَمَامَ الْقِسْطِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ بِالْحَبَّةِ

وَالذَّرَّةِ وَلَكِنَّا نُكَلِّفُكُمْ مَا تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَدْلٌ وَوَفَاءٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاحْتِرَاسِ أَنْ لَا يَتْرُكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بَيْنَهُمْ خَشْيَةَ الْغَلَطِ أَوِ الْغَفْلَةِ، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ مَنَافِعَ جَمَّةٍ. وَقَدْ عَدَلَ فِي هَذَا الِاحْتِرَاسِ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْمَقُولُ ابْتِدَاء فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَام: ١٥١] لِمَا فِي

هَذَا الِاحْتِرَاسِ مِنَ الِامْتِنَانِ، فَتَوَلَّى اللَّهُ خِطَابَ النَّاسِ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّكَلُّمِ مُبَاشرَة زِيَادَة فِي المنّة، وَتَصْدِيقًا لِلْمُبَلِّغِ، فَالْوِصَايَةُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ مَال المُشْتَرِي فِي مَظِنَّةِ الْإِضَاعَةِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ حَالَةُ غَفلَة المُشْتَرِي، إِذِ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمِكْيَالُ أَوِ الْمِيزَانُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِرَغْبَتِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَكِيلِ أَوِ الْمَوْزُونِ قد يتحمّل التّطفيف، فَأُوصِيَ الْبَائِعُ بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ بِفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ فِيمَا هُوَ أشدّ من التّطفيف، فإنّ التّطفيف إِنْ هُوَ إِلَّا مُخَالَسَةُ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَبِيعِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ حِينَ التَّقْدِيرِ فَأَكْلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى بِالْحِفْظِ، وَتَجَنُّبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها

تَذْيِيلًا لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ هُوَ فِي طَاقَتِهِمْ وَمُكْنَتِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦] .

وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى.

هَذَا جَامِعٌ كُلَّ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَاسِطَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالتَّعْدِيلُ، وَالتَّجْرِيحُ، وَالْمُشَاوَرَةُ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَخْبَارُ الْمُخْبِرَةُ عَنْ صِفَاتِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُعَامَلَاتِ: مِنْ صِفَاتِ الْمَبِيعَاتِ، وَالْمُؤَاجَرَاتِ، وَالْعُيُوبِ وَفِي الْوُعُودِ، وَالْوَصَايَا، وَالْأَيْمَانِ وَكَذَلِكَ الْمَدَائِحُ وَالشَّتَائِمُ كَالْقَذْفِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا يَصْدُرُ عَنِ الْقَوْلِ.

وَالْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَوْلِ شَيْءٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحُقُوقِ:

بِإِبْطَالِهَا، أَوْ إِخْفَائِهَا، مِثْلَ كِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَبِيعِ، وَادِّعَاءِ الْعُيُوبِ فِي الْأَشْيَاءِ السَّلِيمَةِ، وَالْكَذِبِ فِي الْأَثْمَانِ، كَأَنْ يَقُولَ التَّاجِرُ: أُعْطِيتُ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا، لِثَمَنٍ لَمْ يُعْطَهُ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ قَامَتْ عَلَيَّ بِكَذَا. وَمِنْهُ الْتِزَامُ الصِّدْقِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَإِبْدَاءِ النَّصِيحَةِ فِي الْمُشَاوَرَةِ، وَقَوْلُ الْحَقِّ فِي الصُّلْحِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ وَالْقَضَاءُ فَأَمْرُ الْعَدْلِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، وَإِذَا وَعَدَ الْقَائِلُ لَا يُخْلِفُ، وَإِذَا أَوْصَى لَا يَظْلِمُ أَصْحَابَ حُقُوقِ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى

الْبَاطِلِ، وَإِذَا مَدَحَ أَحَدًا مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ، وَأَمَّا الشَّتْمُ فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَلَوْ كَانَ حَقًّا فَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ.

وَفِي التَّعْلِيقِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قُلْتُمْ

إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ فِي سَعَةٍ مِنَ السُّكُوتِ إِنْ خَشِيَ قَوْلَ الْعَدْلِ. وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ وَالْبَاطِلَ فَلَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ كُلُّهُ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ، عَلَى أَنَّ مِنَ السُّكُوتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَى رِجْلٍ أُخْتَهُ فَذَكَرَ الْأَخُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ ثمّ قَالَ: «مَالك وَلِلْخَبَرِ» .

وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ

وَاوُ الْحَالِ، وَلَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَظُنَّ السَّامِعُ عَدَمَ شُمُولِ الْحُكْمِ إِيَّاهَا لِاخْتِصَاصِهَا مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَشْمَلُهَا الْحُكْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١]، فَإِنَّ حَالَةَ قَرَابَةِ الْمَقُولِ لِأَجْلِهِ الْقَوْلُ قَدْ تَحْمِلُ الْقَائِلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْعَدْلِ، لِنَفْعِ قَرِيبِهِ أَوْ مُصَانَعَتِهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) كائد إِلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ:

أَيْ وَلَو كَانَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْقَوْلُ ذَا قُرْبَى.

وَالْقُرْبَى: الْقَرَابَةُ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ ذُو قَرَابَةٍ مِنَ الْقَائِلِ، أَيْ إِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا لِأَجْلِهِ أَوْ عَلَيْهِ فَاعْدِلُوا وَلَا تَقُولُوا غَيْرَ الْحَقِّ، لَا لِدَفْعِ ضُرِّهِ بِأَنْ تُغْمِصُوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَا لِنَفْعِهِ بِأَنْ تَخْتَلِقُوا لَهُ حَقًّا عَلَى غَيره أَو تبرءوه مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاء: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النِّسَاء: ١٣٥] .

وَقَدْ جَاءَ طَلَبُ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، دُونَ النَّهْيِ عَنِ الظُّلْمِ أَوِ الْبَاطِلِ: لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الْمُقْتَضِي لِصُدُورِ الْقَوْلِ: فَالْقَوْلُ إِذَا صَدَرَ لَا يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْفَى بِمَقْصِدِ الشَّارِعِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِظْهَارَ الْحَقِّ بِالْقَوْلِ، فَفِي الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَمْرٌ بِإِظْهَارِهِ وَنَهِيٌّ عَنِ السُّكُوتِ بِدُونِ مُوجِبٍ. الثّاني: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَوْلِ الْبَاطِلِ أَوِ الزُّورِ يَصْدُقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ إِلَّا عِنْدَ الْخَوْفِ أَوِ الْمُلَايَنَةِ، أَوْ فِيمَا لَا يَرْجِعُ إِلَى إِظْهَارِ حَقٍّ، وَتِلْكَ هِيَ الْمَعَارِيضُ الَّتِي

ورد فِيهَا حَدِيث: «إِنَّ فِي

الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ»

(١) .

وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.

خَتَمَ هَذِهِ الْمَتْلُوَّاتِ بِالْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا

. وَعَهْدُ اللَّهِ الْمَأْمُورُ بِالْإِيفَاءِ بِهِ هُوَ كُلُّ عَهْدٍ فِيهِ مَعْنَى الِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ الَّذِي

(١) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» وَابْن عدي فِي «الْكَامِل» عَن عمرَان بن حُصَيْن. قيل: هُوَ مَرْفُوع وَالأَصَح مَوْقُوف. [.....]

اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ، إِذِ الْإِضَافَةُ هُنَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَيَصِحُّ أَن تكون إِضَافَة الْمصدر إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ مَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ أَنْ تَفْعَلُوهُ، وَالْتَزَمْتُمُوهُ وَتَقَلَّدْتُمُوهُ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيِ الْعَهْدُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، وَحَذَّرَ مِنْ خَتْرِهِ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ أَمْ كَانَ بَيْنَ الْآحَادِ. وَلِأَجْلِ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْمَعَانِي النَّاشِئَةِ عَنْ صَلَاحِيَةِ الْإِضَافَةِ لِإِفَادَتِهَا عُدِلَ إِلَى طَرِيقِ إِسْنَادِ اسْمِ الْعَهْدِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ طَرِيقِ الْفِعْلِ، بِأَنْ يُقَالَ: وَبِمَا عَاهَدْتُمُ اللَّهَ عَلَيْهِ، أَو نَحن ذَلِكَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. وَإِذْ كَانَ الْخِطَابُ بقوله: تَعالَوْا [الْأَنْعَام: ١٥١] لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ شَيْئًا قَدْ تَقَرَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ الْعُهُودُ الَّتِي يَعْقِدُونَهَا بِالْمُوَالَاةِ وَالصُّلْحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ بِمَا عَاقَدُوا عَلَيْهِ. وَأُضِيفَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَالَفُونَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ وَلِذَلِكَ يُسَمُّونَ الْعَهْدَ حِلْفًا، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

وَاذْكُرُوا حِلْفَ ذِي الْمَجَازِ وَمَا ... قُدِّمَ فِيهِ الْعُهُودُ وَالْكُفَلَاءُ

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

وَنُوجَدُ نَحْنُ أَمْنَعَهُمْ ذِمَارًا ... وَأَوْفَاهُمْ إِذَا عَقَدُوا يَمِينَا

فَالْآيَةُ آمِرَةٌ لَهُمْ بِالْوَفَاءِ، وَكَانَ الْعَرَبُ يَتَمَادَحُونَ بِهِ. وَمِنَ الْعُهُودِ الْمُقَرَّرَةِ بَيْنَهُمْ:

حِلْفُ الْفُضُولِ، وَحِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ، وَكِلَاهُمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَنِ الْقَاطِنِينَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِعَهْدِ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَقَدِ اعْتَدَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَظَلَمُوهُمْ مِثْلَ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَنَحْوِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ أَنَّ خَفْرَ عَهْدِ اللَّهِ بِأَمَانِ مَكَّةَ، وَخَفْرَ عُهُودِكُمْ بِذَلِكَ، أَوْلَى بِأَنْ تُحَرِّمُوهُ

مِنْ مَزَاعِمِكُمُ الْكَاذِبَةِ فِيمَا حَرَّمْتُمْ وَفَصَّلْتُمْ، فَهَذَا

هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْعَهْدِ وَصَرْفِ ذهن السّامع عِنْد، لِيَتَقَرَّرَ فِي ذِهْنِهِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِدْحَةً فَعَهْدُ اللَّهِ أَوْلَى بِالْوَفَاءِ وَأَنْتُمْ قَدِ اخْتَرْتُمُوهُ، فَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ- ثُمَّ قَالَ- وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢١٧] .

ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

تَكْرَارٌ لِقَوْلِهِ الْمُمَاثِلِ لَهُ قَبْلَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا التَّذْيِيلَ خُتِمَ بِهِ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ الْأَحْكَامِ. وَجَاءَ مَعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ عُرِفَ بَيْنَ الْعَرَبِ أَنَّهَا مَحَامِدُ، فَالْأَمْرُ بِهَا، وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهَا تَذْكِيرٌ بِمَا عَرَفُوهُ فِي شَأْنِهَا وَلَكِنَّهُمْ تَنَاسَوْهُ بِغَلَبَةِ الْهَوَى وَغِشَاوَةِ الشِّرْكِ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: تَذَّكَّرُونَ- بِتَشْدِيدِ الذَّالِ لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ فِي الذَّالِ بَعْدَ قَلْبِهَا-، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَخَلَفٍ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ الثّانية تَخْفِيفًا-.

[١٥٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٣]

وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

(١٥٣)

الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الْأَنْعَام: ١٥١] لِتَمَاثُلِ الْمَعْطُوفَاتِ فِي أَغْرَاضِ الْخِطَابِ وَتَرْتِيبِهِ، وَفِي تَخَلُّلِ التَّذْيِيلَاتِ الَّتِي عَقِبَتْ تِلْكَ الْأَغْرَاضَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الْأَنْعَام: ١٥١]- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

[الْأَنْعَام: ١٥٢]- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَهَذَا كَلَامٌ جَامِعٌ لِاتِّبَاعِ مَا يَجِيءُ إِلَى الرَّسُول ﷺ مِنَ الْوَحْيِ فِي الْقُرْآنِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: أَنَّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ-.

وَعَنِ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الْأَنْعَام: ١٥١]، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلِ: أَتْلُ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا.

وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ تُحْمَلَ (أَنَّ)، أَيْ تُعَلَّقَ عَلَى قَوْلِهِ:

فَاتَّبِعُوهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: ١] . وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الْجِنّ: ١٨] الْمَعْنَى: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوَا مَعَ الله أحدا اه.

فَ أَنَّ مَدْخُولَةٌ لِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوف مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنَّ) وَ(أَنْ) . وَتَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَاتَّبِعُوا صِرَاطِي لِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، فَوَقَعَ تَحْوِيلٌ فِي النَّظْمِ بِتَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا، فَصَارَ التّعليل مَعْطُوفًا لتقديمه ليُفِيد تَقْدِيمه تفرّع المعلّل وتسبّبه، فَيكون التَّعْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ بِسَبَبِ هَذَا التَّقْدِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: وَإِنَّ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- فَلَا تَحْوِيلَ فِي نظم الْكَلَام، وَيكون قَوْلُهُ: فَاتَّبِعُوهُ تَفْرِيعًا على إِثْبَات الْخَبَر بِأَنَّ صِرَاطَهُ مُسْتَقِيم.

وَقَرَأَ ابْن عَامِرٌ، وَيَعْقُوبُ: «وَأَنْ» -

بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مُقَدَّرٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَحْسَنُ تَخْرِيجُهَا بِكَوْنِ أَنَّ تَفْسِيرِيَّةً معطوفة على: أَلَّا تُشْرِكُوا [الْأَنْعَام: ١٥١] . وَوَجْهُ إِعَادَةِ أَنَّ اخْتِلَافُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ.

وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَيْ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ صِرَاطِي فَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَثَرِ تَكَرُّرِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَسَمَاعِ أَقْوَالِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام، بِحَيْثُ عرفه النّاس وتبيّنوه، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، فَاسْتُعْمِلَ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعُ لِتَعْيِينِ ذَاتٍ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ التَّشْرِيعَاتِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمرَان: ٤٤] .

وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ الْوَاسِعَةُ، وَقَدْ مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦] وَالْمُرَادُ الْإِسْلَامُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا [الْأَنْعَام: ١٦١] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيلُ الصَّلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَشُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ السَّائِرِ فِيهِ إِلَى غَرَضِهِ وَمَقْصِدِهِ.

وَلَمَّا شُبِّهَ الْإِسْلَامُ بِالصِّرَاطِ وَجُعِلَ كَالشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ صَارَ كَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْبَيِّنَةِ فَادُّعِي أَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْسَرُ سُلُوكًا عَلَى السَّائِرِ

وَأَسْرَعُ وُصُولًا بِهِ.

وَالْيَاءُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا (صِرَاطٌ) تَعُودُ عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ [الشورى: ٥٢، ٥٣] عَلَى إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ فِي الْمَقُولِ ضَمِيرُ الْقَائِلِ أَوْ ضَمِيرُ الْآمِرِ بِالْقَوْلِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١١٧]، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْكَلَامُ مِنْ

قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الْأَنْعَام: ١٥١] لِغَرَضِ الْإِيمَاءِ إِلَى عِصْمَةِ هَذَا الصِّرَاطِ مِنَ الزَّلَلِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ صِرَاطَ اللَّهِ يَكْفِي فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ مُوصِلٌ إِلَى النَّجَاحِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ تَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى مُجَرَّدِ كَوْنِهِ صِرَاطَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ عُودُ الْيَاءِ إِلَى النَّبِيءِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يَسْتَدْعِي بِنَاءَ التَّفْرِيعِ بِالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ وَاضِحُ الِاسْتِقَامَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ كَوْنَهُ طَرِيقَ النَّبِيءِ لَا يَقْتَضِي تَسَبُّبَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ الْمُكَذِّبِينَ.

وَقَوْلُهُ: مُسْتَقِيمًا حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَحَسَّنَ وُقُوعَهُ حَالًا أَنَّ الْإِشَارَةَ بُنِيَتْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مُشَاهَدٌ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَحْضَرٌ فِي الذِّهْنِ بِمُجْمَلِ كُلِّيَّاتِهِ وَمَا جَرَّبُوهُ مِنْهُ وَعَرَفُوهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ مَجِيءُ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ نَحْوَ: وَهذا بَعْلِي شَيْخًا [هود: ٧٢] وَلَمْ يَأْتُوا بِهِ خَبَرًا.

والسبل: الطَّرْقُ، وَوُقُوعُهَا هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيِ السُّبُلَ الْمُتَفَرِّقَةَ غَيْرَ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا: بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، وَهِيَ طُرُقٌ تَتَشَعَّبُ مِنَ السَّبِيلِ الْجَادَّةِ ذَاهِبَةً، يَسْلُكُهَا بَعْضُ الْمَارَّةِ فُرَادَى إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْ مَرَاعِيهِمْ فَلَا تَبْلُغُ إِلَى بَلَدٍ وَلَا إِلَى حَيٍّ، وَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ فِيهَا إِلَّا مَنْ عَقَلَهَا وَاعْتَادَهَا، فَلِذَلِكَ سَبَبٌ عَنِ النَّهْيِ قَوْلُهُ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ فَإِنَّهَا طُرُقٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَهِيَ تَجْعَلُ سَالِكَهَا مُتَفَرِّقًا عَنِ السَّبِيلِ الْجَادَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ السَّبِيلَ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ غَيْرِ الْمُوصِلَةِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ يُرَادِفُ الصِّرَاطَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: ١٠٨]، بَلْ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهَا بِالتَّفَرُّقِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سُبُلٌ خَاصَّةٌ مَوْصُوفَةٌ بِغَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِكُمْ لِلْمُصَاحَبَةِ: أَيْ فَتَتَفَرُّقُ السُّبُلِ مُصَاحِبَةٌ لَكُمْ، أَيْ تَتَفَرَّقُونَ مَعَ تَفَرُّقِهَا، وَهَذِهِ الْمُصَاحَبَةُ الْمَجَازِيَّةُ تَجْعَلُ الْبَاءَ بِمَنْزِلَةِ

هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ كَمَا قَالَهُ النُّحَاةُ، فِي نَحْوِ: ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، أَنَّهُ بِمَعْنَى أَذْهَبْتُهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَتُفَرِّقُكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ لَا تُلَاقُونَ

وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي: سَبِيلِهِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، فَإِذَا كَانَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: صِراطِي عَائِدًا لِلَّهِ كَانَ فِي ضَمِيرِ سَبِيلِهِ الْتِفَاتًا عَنْ سَبِيلِي.

رَوَى النَّسَائِيُّ فِي «سُنَنِهِ»، وَأَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ فِي «مَسْنَدَيْهِمَا»، وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ»، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُول الله ﷺ يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ (أَيْ عَنْ يَمِينِ الْخَطِّ الْمَخْطُوطِ أَوَّلًا وَعَنْ شِمَالِهِ) ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهَا» ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.

وَرَوَى أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا عِنْد النّبيء ﷺ فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّيْنِ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ (أَيِ الَّذِي بَيْنَ الْخُطُوطِ الْأُخْرَى) فَقَالَ: هَذِهِ سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

»

وَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى (وَخَطَّ خُطُوطًا) هُوَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ مَا عَلَى الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ. وَهَذَا رَسْمُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ:

وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تَذْيِيلُ تَكْرِيرٍ لِمِثْلَيْهِ السَّابِقَيْنِ، فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الصِّرَاطِ، وَالْوِصَايَةُ بِهِ مَعْنَاهَا الْوِصَايَةُ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ.

وَجَعَلَ الرَّجَاءَ لِلتَّقْوَى لِأَنَّ هَذِهِ السَّبِيلَ تَحْتَوِي عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَزِيدُ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الصَّالِحَاتِ، فَإِذَا اتَّبَعَهَا السَّالِكُ فَقَدْ

صَارَ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالتَّقْوَى بِمَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] .

[١٥٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٤]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)

ثُمَّ هُنَا عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ تَعالَوْا [الْأَنْعَام: ١٥١] فَلَيْسَتْ عَاطِفَةً لِلْمُفْرَدَاتِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ، بَلْ تَنْسَلِخُ عَنْهُ حِينَ تَعْطِفُ الْجُمَلَ فَتَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَهُوَ مُهْلَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَتِلْكَ دَلَالَةُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ. وَقَدِ اسْتُصْعِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَسْلَكُ (ثُمَّ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ مُوسَى عليه السلام الْكِتَابَ لَيْسَ بِرُتْبَةٍ أَهَمَّ

مِنْ رُتْبَةِ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا فَرَضَهُ مِنَ اتِّبَاعِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ. وَتَعَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمِلِ (ثُمَّ) هُنَا إِلَى آرَاءٍ: لِلْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ يَرُومُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ (ثُمَّ) مَا فَارَقَتِ الْمَعْرُوفَ مِنْ إِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، وَأَنَّ تراخي رُتْبَة إيتَاء مُوسَى عليه السلام الْكِتَابَ عَنْ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ ذِكْرِ إِيتَاءِ مُوسَى عليه السلام الْكِتَابَ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: ٩٢] لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا- إِلَى قَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةً [الْأَنْعَام: ١٥٦، ١٥٧]، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَفَوْقَ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ جُمِعَ فِيهِ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى عليه السلام (وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِهِ) وَمَا فِي الْقُرْآنِ: الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ وَاتَّقَيْتُمْ رَحِمْنَاكُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ لَكُمْ

أَنْ تَقُولُوا لَوْ أُنْزِلَ لَنَا كِتَابٌ لَكُنَّا أَفْضَلَ اهْتِدَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، فَهَذَا غَرَضٌ أَهَمُّ جَمْعًا لِاتِّبَاعِ جَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَأُدْخِلَ فِي إِقْنَاعِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَزِيَّةِ أَخْذِهِمْ بِهَذَا الْكِتَابِ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ: مَا ذُكِرَ مِنْ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا كَذَّبُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ آتَى مُوسَى عليه السلام الْكِتَابَ كَمَا اشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ حَسْبَمَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [٩١] الْآيَةَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِيَنْتَقِلَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى اتِّبَاعِهِ فَيَكُونَ التَّذْكِيرُ بِكِتَابِ مُوسَى عليه السلام تَمْهِيدًا لِذَلِكَ الْغَرَضِ.

والْكِتابُ هُوَ الْمَعْهُودُ، أَيِ التَّوْرَاةُ، وتَمامًا حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ، وَالتَّمَامُ الْكَمَالُ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ كَمَالًا لِمَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الصَّلَاحِ الَّذِي هُوَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ: مِنْ صَلَاحِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ عليهم السلام، فَكَانَتِ التَّوْرَاةُ مُكَمِّلَةً لِصَلَاحِهِمْ، وَمُزِيلَةً لِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَأَنَّ إِزَالَةَ الْفَسَادِ تَكْمِلَةٌ لِلصَّلَاحِ. وَوَصْفُ التَّوْرَاةِ بِالتَّمَامِ مُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الْمُتَمِّ.

وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْفَرِيقُ الْمُحْسِنُ، أَيْ تَمَامًا لِإِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْفِعْلُ مَنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ الَّذِي اتَّصَفَ بِالْإِحْسَانِ.

وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

و(لِكُلِّ شَيْءٍ) مُرَادٌ بِهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ، أَيِ الْمُهِمَّاتُ الْمُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِهَا فِي أَحْوَالِ الدِّينِ. فَتَكُونُ (كُلُّ) مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٥] . أَوْ فِي مَعْنَى الْعَظِيمِ مِنَ الْأَشْيَاءِ كَأَنَّهُ جَمَعَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا.

أَوْ يُرَادُ بِالشَّيْءِ: الشَّيْءُ الْمُهِمُّ، فَيَكُونُ مِنْ حَذْفِ الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِ: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٣٨] .

وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رَجَاء أَن تؤمنوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ إِيتَاءِ مُوسَى عليه السلام الْكِتَابَ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِهِ هُمْ قَوْمُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَعَلَّهُمْ إِنْ تَحَرَّوْا فِي أَعْمَالِهِمْ، عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِلِقَاءِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَزْمِنَةٍ طَوِيلَةٍ: مِنْ أَطْوَارِ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ، وَمَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالتَّغَرُّبِ وَالْخَصَاصَةِ وَالِاسْتِعْبَادِ، مَا رَفَعَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ، وَأَذْوَى الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ، فَنَسُوا مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْسَدُوا، حَتَّى كَانَ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ بِبَعْثِهِ مُوسَى عليه السلام، لِيَرْجِعُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةِ لِقَائِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَلْقَوْهُ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ كَانَ سَلَفُهُمْ عَلَى هُدًى وَصَلَاحٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ مَنْ أَضَلَّهُمْ وَلَقَّنَهُمُ الشِّرْكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِم محمّدا ﷺ لِيَرُدَّهُمْ إِلَى الْهُدَى وَيُؤْمِنُوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْبَعْث وَالْجَزَاء.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ١٥٥ إِلَى ١٥٧]

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)

جُمْلَةُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١٥٤] . وَالْمعْنَى: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١٥٤] إِلَخْ ...

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبِنَاءُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَجَعْلُ الْكِتَابِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ: أَنْزَلْناهُ مُبْتَدَأً، كُلُّ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٢] .

وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ، وَكَوْنِهِ مُبَارَكًا، ظَاهِرٌ: لِأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي اتِّبَاعِهِ.

وَالِاتِّبَاعُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠]، وَقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا.

وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِ كِتابٌ، وَ(مُبَارَكٌ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُمَا الْمَقْصِدُ مِنِ الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كِتَابًا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَرَوْا فِي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِي كَوْنِهِ مُبَارَكًا. وَحَسُنَ عَطْفُ: مُبارَكٌ عَلَى: أَنْزَلْناهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَفْعُولِ- لِاشْتِقَاقِهِ- هُوَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَمَعْنَى: اتَّقُوا كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى وَهِيَ الْأَخْذُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَعْدٌ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.

وَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ أَنْزَلْناهُ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَذْفِهَا مَعَ (أَنْ) . وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ لِقَوْلِكُمْ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِكُمْ وَتَوَقُّعِ وُقُوعِهِ، فَالْقَوْلُ بَاعِثٌ عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ.

وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَاعِثًا عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً غَائِيَّةً، فَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّامِ عَكْسُ مَعْنَى لَام الْعَاقِبَة، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا حِكْمَةُ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَيْهِمْ كِتَابٌ، أَوْ كَرَاهِيَةُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، أَوْ لِتَجَنُّبِ أَنْ يَقُولُوهُ، وَذَلِكَ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ إِيثَارًا

لِلْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّرُ مُضَافٌ مِثْلَ: كَرَاهِيَةَ أَوْ تَجَنُّبَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ جَرَى نُحَاةُ الْبَصْرَةِ.

وَذَهَبَ نُحَاةُ الْكُوفَةِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ، فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: أَنْ لَا تَقُولُوا، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاء: ١٧٦]- وَقَوْلِهِ:

- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٥، ٥٦]-

وَقَوْلِهِ:- وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْل: ١٥] أَيْ لِتَجَنُّبِ مَيْدِهَا بِكُمْ، وَقَوْلُ عَمْرو بن كثلوم:

فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْقَصَصِ [٤٨]: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقَّعًا ثُمَّ قَالُوهُ مِنْ بَعْدُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ أَنْ يُكَرِّرُوهُ وَيُعِيدُوهُ قَوْلًا مُوَافِقًا لِلْحَالِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَانَ متوقّعا صدوره عِنْد مَا يَتَوَّجَهُ الْمَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي انْحِطَاطِهِمْ عَنْ مُجَاوَرِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ حَيْثُ اسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ وَحُسْنِ السَّيْرِ وَكَمَالِ التَّدَيُّنِ، وَعِنْدَ سُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ عَنِ اتّباع ضلالهم، وَعند مَا يُشَاهِدُونَ مَا يَنَالُهُ أَهْلُ الْمِلَلِ الصَّالِحَةِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي ثَوَابِ اللَّهِ فَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى حَظٍّ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّهُمْ حُرِمُوا الْإِرْشَادَ فِي الدُّنْيَا.

وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى حَالَةٍ أَكْمَلَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ النَّابِغَةِ يَمْدَحُ آلَ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانُوا نَصَارَى:

مَجَلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قَوِيمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ


وَلَا يَحْسِبُونَ الْخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ ... وَلَا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبٍ

وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْكَثِيرَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢]، وَالْمُرَادُ بِالطَّائِفَتَيْنِ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وَالْكِتَابُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ الْمُنْحَصِرُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَمَعْنَى إِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى

أَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ مُخَاطَبِينَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَهَذَا تَعَلُّلٌ أَوَّلُ مِنْهُمْ، وَثَمَّةُ اعْتِلَالٌ آخَرُ عَنِ الزَّهَادَةِ فِي التَّخَلُّقِ بِالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ، أَيْ

وَأَنَّا كُنَّا غَافِلِينَ عَنِ اتِّبَاعِ رُشْدِهِمْ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَلَّمْ، فَالدِّرَاسَةُ مُرَادٌ بِهَا التَّعْلِيمُ.

وَالدِّرَاسَةُ: الْقِرَاءَةُ بِمُعَاوَدَةٍ لِلْحِفْظِ أَوْ لِلتَّأَمُّلِ، فَلَيْسَ سَرْدُ الْكِتَابِ بِدِرَاسَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٥]، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩] .

وَالْغَفْلَةُ: السَّهْوُ الْحَاصِلُ مِنْ عَدَمِ التَّفَطُّنِ، أَيْ لَمْ نَهْتَمَّ بِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ فَنَقْتَدِي بِهَدْيِهَا، فَكَانَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ مُنَبِّهًا لَهُمْ لِلْهَدْيِ الْكَامِلِ وَمُغْنِيًا عَنْ دِرَاسَةِ كُتُبِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ تَدَرُّجٌ فِي الِاعْتِلَالِ جَاءَ عَلَى مَا تُكِنَّهُ نُفُوسُ الْعَرَبِ مِنْ شُفُوفِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِدْلَالِهِمْ بِفِطْنَتِهِمْ وَفَصَاحَةِ أَلْسِنَتِهِمْ وَحِدَّةِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ تَلَقِّيهِمْ، وَهُمْ أَخْلِقَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ.

وَفِي الْإِعْرَابِ عَنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ مِنْهُمْ تَلْقِينٌ لَهُمْ، وَإِيقَاظٌ لِإِفْهَامِهِمْ أَنْ يَغْتَبِطُوا بِالْقُرْآنِ، وَيَفْهَمُوا مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ بَيْنَ الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠] . وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ أَهْدَى مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِبَوْنٍ بَعِيدِ الدَّرَجَاتِ.

وَلَقَدْ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ بَعْدَ هَذَا التَّنْبِيهِ الْعَجِيبِ لِفَاءِ الْفَصِيحَةِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَقْدِيرُهَا: فَإِذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ وَيَهْجِسُ فِي نُفُوسِكُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يَعْنِي الْقُرْآنَ، يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا تَسْتَشْعِرُونَ مِنَ الِانْحِطَاطِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالْبَيِّنَةُ مَا بِهِ الْبَيَانُ وَظُهُورُ الْحَقِّ. فَالْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِعْجَازِهِ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ، وَهُوَ هَدْيٌ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِرْشَاد إِلَى طرق الْخَيْرِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ لَا حَرَجَ فِيهَا، فَهِيَ مُقِيمَةٌ لِصَلَاحِ الْأُمَّةِ مَعَ التَّيْسِيرِ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ التَّشْرِيعِ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ.

وَتَفَرَّعَ عَنْ هَذَا الْإِعْذَارِ لَهُمُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا أَظْلَمَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَأَعْرَضُوا. فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ لِلتَّفْرِيعِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ.

وَ(مِنْ) فِي مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ مَوْصُولَةٌ وَمَا صِدْقُهَا الْمُخَاطَبُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ.

وَالظُّلْمُ هُنَا يَشْمَلُ ظُلْمَ نُفُوسِهِمْ، إِذْ زَجُّوا بِهَا إِلَى الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَخُسْرَانِ الدُّنْيَا، وظلم الرّسول ﷺ إِذْ كَذَّبُوهُ، وَمَا هُوَ بِأَهْلِ التَّكْذِيبِ، وَظُلْمَ اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَأَنْكَرُوا نِعْمَتَهُ، وَظَلَمُوا النَّاسَ بِصَدِّهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

وَقَدْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِتَدُلَّ الصِّلَةُ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ وَوَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ مَضْمُونُ تِلْكَ الصِّلَةِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِنْهُ.

وَمَعْنَى صَدَفَ أَعْرَضَ هُوَ، وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى صَرَفَ غَيْرَهُ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ» . وَأَصْلُهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِ عَنْ يُقَالُ: صَدَفْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ:

صَرَفْتُهُ، وَقَدْ شَاعَ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ حَتَّى غَلَبَ عَدَمُ ظُهُورِ الْمَفْعُولِ بِهِ، يُقَالُ: صَدَفَ عَنْ كَذَا بِمَعْنَى أَعَرَضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦]، وَقَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا مُتَعَدِّيًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِكَوْنِهِمِ أَظْلَمَ النَّاسِ تَكْثِيرًا فِي وُجُوهِ اعْتِدَائِهِمْ، وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ نَظَرًا

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ إِذْ يُنَاسِبُهُ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعَلَى صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْآيَاتِ يَتَضَمَّنُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ صَدْفُهُمْ هُوَ صَرْفُهُمُ النَّاسَ.

وسُوءَ الْعَذابِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَسُوءُهُ أَشَدُّهُ وَأَقْوَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النَّحْل: ٨٨] . فَقَوْلُهُ: عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ هُوَ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ، أَيْ شِدَّتُهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالذُّلِّ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ جَزَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا تَكْذِيبًا عَنْ دَعْوَةٍ مُجَرَّدَةٍ، بَلْ كَذَّبُوا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الْآيَات البيّنات.

و(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِصَدْفِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ إِعْرَاضًا مُسْتَمِرًّا لَمْ يدعوا راغبه فَكَانَ هُنَا مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ مِثْلُ: وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النِّسَاء: ٩٦] .

[١٥٨]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٨]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

اسْتِئْنَافٌ بياني نَشأ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٥٧] الْآيَةَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ وَيَحْتَمِلُ التَّهَكُّمَ، كَمَا سَيَأْتِي. فَإِنْ كَانَ هَذَا وَعِيدًا وتهديدا فَهُوَ ناشىء

عَنْ جُمْلَةِ: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا [الْأَنْعَام: ١٥٧] لِإِثَارَتِهِ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ:

مَتَى يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، وَإِنْ كَانَ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى صَدْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى آيَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي اعْتِقَادهم، فَهُوَ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: ١٥٧] لِأَنَّهُ يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ: مَاذَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَوْقَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ.

وهَلْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَهِيَ تَرِدُ لَهُ كَمَا تَرِدُ لَهُ الْهَمْزَةُ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء.

ويَنْظُرُونَ مُضَارِعُ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، وَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ نَظَرَ بِمَعْنَى رَأَى فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ، وَيُخَالِفهُ فِي التّعدية، فَفعل نظر الْعين متعدّ بإلى، وَفعل الِانْتِظَار متعدّ بِنَفسِهِ، وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا فِي أَنَّ لَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ وَهُوَ النَّظِرَةُ- بِكَسْرِ الظَّاءِ- وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنِ الْآيَاتِ.

ثُمَّ إِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ وَاقِعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ انْتِظَارُ آيَاتٍ، كَمَا يَقْتَرِحُونَ، فَمَعْنَى الْحَصْرِ:

أَنَّهُمْ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِهَا إِلَّا الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَسَأَلُوهَا وَشَرَطُوا أَنْ لَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يُجَاءُوا بِهَا، وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٢]- وَقَوْلِهِ- وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] فَهُمْ يَنْتَظِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ بِجِدٍّ مِنْ عَامَّتِهِمْ، فَالِانْتِظَارُ حَقِيقَةٌ، وَبِسُخْرِيَةٍ مِنْ قَادَتِهِمْ وَمُضَلِّلِيهِمْ، فَالِانْتِظَارُ مَجَازٌ بِالصُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَظْهَرِ الْمُنْتَظِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا [التَّوْبَة: ٦٤] الْآيَةَ.

وَالْمُرَادُ بِبَعْضِ آيَاتِ رَبِّكَ: مَا يَشْمَلُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٣] . وَفِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَام: ٨- ١٠] فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِعَقَائِدِهِمْ.

وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِجِدٍّ وَلَا بِسُخْرِيَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَا يَتَرَقَّبُونَ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَتَاهُمْ، فَلَا انْتِظَارَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَبْطَنُوا الْعِنَادَ، فَإِنْ فُرِضَ لَهُمُ انْتِظَارٌ فَإِنَّمَا هُوَ انْتِظَارُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَوْ مَا هُوَ بَرْزَخٌ بَينهمَا، فَيكون الاستنثاء تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ

شَيْئًا وَلَكِنْ سَيَجِيئُهُمْ مَا لَا يَنْتَظِرُونَهُ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ، إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ.

وَالْقَصْرُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُنْتَظَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْخَبَرِيُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ آيَةً، فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بتكذيب الرّسول ﷺ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الْآيَاتِ إِفْحَامًا فِي ظَنِّهِمْ. وَلَا يَنْتَظِرُونَ حِسَابًا لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.

وَالْإِتْيَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢] . وَأَمَّا الْمُسْنَدُ إِلَى الرَّبِّ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِتْيَانُ عَذَابِهِ الْعَظِيم، فَهُوَ لعظم هَوْلِهِ جَعَلَ إِتْيَانَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْآمِرِ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ عَظَمَتِهِ، بِحَسَبِ عَظِيمِ قُدْرَةِ فَاعِلِهِ وَآمِرِهِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ مِنْ بَابِ: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَجَازٌ وَارِدٌ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: ٢] وَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِحِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢]، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ.

وَعَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا.

وَجُمْلَةُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الِانْتِظَارَ وَالتَّرَيُّثَ عَنِ الْإِيمَانِ وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُ مُهَدَّدٌ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَامَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَعْقُبَهُ الْمَوْتُ وَالْحِسَابُ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقُبَهُ مَجِيءُ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَهِيَ آيَةُ عَذَابٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ يَخْتَصُّ بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَصَدْفِهِمْ، وَحِينَ يَنْزِلُ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَا تَبْقَى فُسْحَةٌ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْزَلَ عَذَابَهُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَنْفَعْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يُونُس: ٩٨] وَقَالَ تَعَالَى:

مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الْحجر: ٨]- وَقَالَ- وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام: ٨] .

وَمِنْ جُمْلَةِ آيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَامَّةً لِلنَّاسِ، وَهِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ:

وَالَّتِي مِنْهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا حِينَ تُؤْذِنُ بِانْقِرَاضِ نِظَامِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ

. وَالنَّفْعُ الْمَنْفِيُّ هُوَ النَّفْعُ فِي الْآخِرَةِ، بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ نَفْعَ الدُّنْيَا بِكَشْفِ الْعَذَابِ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ النُّفُوسَ الْمُؤْمِنَةَ وَلَا الْكَافِرَةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥]

وَقَوْلِ رَسُول الله ﷺ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»

.

وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ: كُلُّ نَفْسٍ، لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.

وَجُمْلَةُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةُ نَفْسًا، وَهِيَ صِفَةٌ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ:

نَفْسًا، أَيِ: النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا إِذَا آمَنَتْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا فِي الْآخِرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: نَفْسًا إِيمانُها لِيَتِمَّ الْإِيجَازُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ.

وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا عَطْفٌ عَلَى آمَنَتْ، أَيْ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.

وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِيَّةِ مُدَّةُ الْإِيمَانِ، لَا الْإِيمَانُ، أَيْ أَوْ كَسَبَتْ فِي مُدَّةِ إِيمَانِهَا خَيْرًا. وَالْخَيْرُ هُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَالطَّاعَاتُ.

وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ فَيَسْتَلْزِمُ تَقْسِيمُ النُّفُوسِ الَّتِي خَصَّصَتْهَا الصِّفَتَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: نُفُوسٌ كَافِرَةٌ لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، فَلَا يَنْفَعُهَا إِيمَانُهَا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ، وَنُفُوسٌ آمَنَتْ وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا فِي مُدَّةِ إِيمَانِهَا، فَهِيَ نُفُوسٌ مُؤْمِنَةٌ، فَلَا يَنْفَعُهَا مَا تَكْسِبُهُ مِنْ خَيْرٍ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ. وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي ذُو مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ مُتَفَاوِتٌ، فَمِنْهُ إِضَاعَةٌ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، وَمِنْهُ إِضَاعَةٌ لِبَعْضِهَا، وَمِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ نُفُوسٌ لَمْ تَكْسِبْ فِي إِيمَانِهَا شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَيِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْإِيمَانِ وَفَرَّطَتْ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ.

وَقَدْ عُلِمَ مِنَ التَّقْسِيمِ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ لَا يَنْفَعُهَا اكْتِسَابُ الْخَيْرِ مِنْ بَعْدِ مَجِيءِ

الْآيَاتِ، وَلَا مَا يَقُومُ مَقَامَ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ مَا مَنَّ بِهِ

عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ غُفْرَانِ السَّيِّئَاتِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، فَالْعَزْمُ عَلَى الْخَيْرِ هُوَ التَّوْبَةُ، أَيِ الْعَزْمُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، فَوَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الْوَاضِحَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ إِيمَانُهَا أَوْ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ خَيْرًا فِي إِيمَانِهَا مِنْ قَبْلِ كَسْبِهَا، يَعْنِي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ كَسْبِ الْخَيْرِ، مِثْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا بَعْضُ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا مُؤْمِنَةً إِيمَانُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ قَدْ كَسَبَتْ خيرا بِحَيْثُ يضيع الْإِيمَانُ إِذَا لَمْ يَقَعِ اكْتِسَابُ الْخَيْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةً لِلتَّقْسِيمِ، وَلَكَفَى أَنْ يُقَالَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا، ولأنّ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ نَاهِضَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاقِعَ قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَاتِ لَا يُدْحَضُ إِذَا فَرَّطَ صَاحِبُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَسَلَّمْنَاهُ لَمَا اقْتَضَى أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ الَّذِي لم يفعل شَيْئا من الْخَيْرَ عَدَا أَنَّهُ آمَنَ لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ، وَذَلِكَ إِيجَادُ قِسْمٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.

وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَنْهَضُ حُجَّةً لِلْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَوْجَبُوا خُلُودَ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ غَيْرِ التَّائِبِ فِي النَّارِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا قَبْلَ التَّأَمُّلِ يُوهِمُ أَنَّهَا حُجَّةٌ لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَصَارَ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ مَعَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَبَثًا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي كُلْفَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بِدُونِ جَدْوَى عَلَيْهِ مِنْهَا، وَلَكَانَ أَهْوَنُ الْأَحْوَالِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يَخْلَعَ رِبْقَةَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَسَخَافَةُ هَذَا اللَّازِمِ لِأَصْحَابِ هَذَا الْمَذْهَبِ سَخَافَةٌ لَا يَرْضَاهَا مَنْ لَهُ نَظَرٌ ثَاقِبٌ. وَالِاشْتِغَالُ بِتَبْيِينِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ مِنْ ضَبْطِ الْحَدِّ الَّذِي يَنْتَهِي عِنْدَهُ الِانْتِفَاعُ بِتَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَتَحْصِيلِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، أَجْدَى مِنَ الْخَوْضِ فِي لَوَازِمِ مَعَانِيهَا مِن اعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مِنَ الِاحْتِمَالِ الْمُسْقِطِ لِلِاسْتِدْلَالِ.

فَصِفَةُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ تَحْذِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّرَيُّثِ عَنِ الْإِيمَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَبْغَتَهُمْ يَوْمُ ظُهُورِ الْآيَاتِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ السِّيَاقِ. وَصِفَةُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا إِدْمَاجٌ فِي أَثْنَاءِ الْمَقْصُودِ لِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

ثُمَّ إِنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ السَّالِفِينَ، فِي تَصْوِيرِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، تَفَرَّقَتْ تَفَرُّقًا يُؤْذِنُ بِاسْتِصْعَابِ اسْتِخْلَاصِ مَقْصُودِ الْآيَةِ مِنْ أَلْفَاظِهَا، فَلَمْ تُقَارِبِ الْإِفْصَاحَ بِعِبَارَةٍ بَيِّنَةٍ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: عَنِ السُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ مَعْنَى كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا: كَسَبَتْ فِي تَصْدِيقِهَا، أَيْ مَعَهُ أَوْ فِي مُدَّتِهِ، عَمَلًا صَالِحًا، قَالَا: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُصَدِّقَةً وَلَمْ تَعْمَلْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ إِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِ اللَّهِ، فَعَمِلَتْ بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الْآيَةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَإِنْ عَمِلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ خَيْرًا ثُمَّ عَمِلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ خَيْرًا قُبِلَ مِنْهَا.

الثّاني: أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِهِ سَاعَتَئِذٍ هُوَ مَنْ كَسَبَ فِي إِيمَانِهِ خَيْرًا.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِبْهَامٌ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ ضَمَّ إِلَى إِيمَانِهِ فِعْلَ الْخَيْرِ، أَيْ لَا يَنْفَعُ إِيمَانُ مَنْ يُؤْمِنُ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ قَبْلُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أطَاع قبل نفعته طَاعَتُهُ.

وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ، مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْيَوْمِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ، إِعْرَاضًا عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا يَكُونُ يَوْمَ تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ، لِأَنَّ إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ:

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] وَنَحْوِهِ من تهكّماتهم، وإنّما الَّذِي يكون مِمَّا انْتَظَرُوهُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّحْذِيرِ، وَآيَاتُ الْقُرْآن فِي هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غَافِر: ٨٥] .

وَآيَاتُ اللَّهِ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَا هَدَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَيِ الْأَشْرَاطِ الْكُبْرَى.

وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.

فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ

، أَيْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ- إِلَى قَوْلِهِ- خَيْرًا.

وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .

وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ»، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: «بَابٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَفْتُوحٌ مسيرَة عرضه أَرْبَعِينَ سَنَةً

(كَذَا) مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»

، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تُعَارِضُ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٨]: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ: لِأَنَّ مَحْمَلَ تِلْكَ الْآيَةِ عَلَى تَعْيِينِ وَقْتِ فَوَاتِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِآحَادِ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَا فُسِّرَ

فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُول الله صلى الله وَعَلِيهِ وسلّم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ

. (وَمَعْنَى يُغَرْغِرُ أَنْ تَبْلُغَ رُوحُهُ- أَيْ أَنْفَاسُهُ- رَأْسَ حَلْقِهِ) .

وَمَحْمَلُ الْآيَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا تَعْيِينُ وَقْتِ فَوَاتِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهِيَ حَالَةُ يَأْسِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْبَقَاءِ.

وَجَاءَ الِاسْتِئْنَافُ بِقَوْلِهِ: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أمرا للرّسول ﷺ بِأَنْ يُهَدِّدَهُمْ وَيَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى الِانْتِظَارِ، إِنْ كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى التَّرَيُّثِ وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالِانْتِظَارِ إِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ ادِّعَائِيًّا، بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالدَّوَامِ عَلَى حَالِهِمُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالِانْتِظَارِ أَمْرَ تَهْدِيدٍ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُونَ نَصْرَ اللَّهِ وَنُزُولَ الْعِقَابِ بِأَعْدَائِهِمْ، أَيْ: دُومُوا عَلَى انْتِظَارِكُمْ فَنَحْنُ مُنْتَظِرُونَ.

وَفِي مَفْهُومِ الصِّفَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي آمَنَتْ قَبْلَ مَجِيءِ الْحِسَابِ، وَكَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، ينفعها إِيمَانُهَا وَعَمَلُهَا. فَاشْتَمَلَتِ الْآيَةُ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا عَلَى وَعِيدٍ ووعد مجملين تبيّنهما دَلَائِلُ الْكتاب والسنّة.

[١٥٩]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٥٩]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)

اسْتِئْنَافٌ جَاءَ عَقِبَ الْوَعِيدِ كَالنَّتِيجَةِ وَالْفَذْلَكَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ لرَسُوله ﷺ: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٨] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ مُتَبَايِنَانِ مُتَجَافِيَانِ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ.

وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الصِّلَةِ فِيهِمْ، لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ التَّنْفِيرَ مِنَ الِاتِّصَالِ بِهِمْ، لِأَنَّ شَأْنَ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ عَقِيدَةً وَاحِدَةً وَأَعْمَالًا وَاحِدَةً، وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِهِ يُنَافِي وَحْدَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ يَبْذُلُونَ وُسْعَهُمْ لِاسْتِنْبَاطِ مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَعْلَمُونَ

أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعُلَمَاءَ بِإِصَابَتِهِ وَجَعَلَ لِلْمُصِيبِ أَجْرَيْنِ

وَلمن أخطأه مَعَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ أَجْرًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ أَجْرٌ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ فِي طَلَبِهِ فَإِنَّ بَذْلَ الْوُسْعِ فِي ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يَبْلُغَ الْمَقْصُودَ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الدِّينِ، فَقَدْ عَبَدَتِ الْقَبَائِلُ أَصْنَامًا مُخْتَلِفَةً، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ صَنَمٍ عِبَادَةً تُخَالِفُ عِبَادَةَ غَيْرِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَهِيَ دِينُ التَّوْحِيدِ لِجَمِيعِهِمْ، فَفَرَّقُوا وَجعلُوا آلِهَة عباداتها مُخْتَلِفَةُ الصُّوَرِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمْ كَانُوا شِيَعًا فَلِأَنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ كَانَتْ تَنْتَصِرُ لِصَنَمِهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ عَلَى عُبَّادِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ:

وَفَرَّتْ ثَقِيفُ إِلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ

وَمَعْنَى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أَنَّكَ لَا صِلَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ. فَحَرْفُ (مِنِ) اتِّصَالِيَّةٌ.

وَأَصْلُهَا (مِنَ) الِابْتِدَائِيَّةُ.

وشَيْءٍ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى مَوْجُودٌ فَنَفْيُهُ يُفِيدُ نَفْيِ جَمِيعِ مَا يُوجَدُ مِنَ الِاتِّصَالِ، وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٨]، وَقَوْلِهِ: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٦٨] .

وَلَمَّا دَلَّتْ عَلَى التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَعَدَمِ مُخَالَطَتِهِمْ، كَانَ الْكَلَامُ مَثَارَ سُؤَالِ سَائِلٍ يَقُولُ:

أَعَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَتَوَلَّى جَزَاءَهُمْ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِمْ، فَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِئْنَافُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَصِيغَةُ الْقَصْرِ لقلب اعْتِقَاد السَّائِل الْمُتَرَدِّدِ، أَيْ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى الرّسول ﷺ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا إِنْذَارٌ شَدِيدٌ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمْ:

عَمَلُهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْجَزَاء والعقوبة. و(إِلَى) مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِهَاءِ

الْمَجَازِيِّ: شَبَّهَ أَمْرَهُمْ بِالضَّالَّةِ الَّتِي تَرَكَهَا النَّاسُ فَسَارَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَرَاحِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، وَاللَّهُ يُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يَأْذَن لرَسُوله ﷺ بِقِتَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ

[الدُّخان: ١٠، ١٦] . وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ مَعَ إِفَادَةِ الْمُهْلَةِ، أَيْ

يَبْقَى أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ مدّة. وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْهَالِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُمْ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُمْ، فَأَطْلَقَ الْإِنْبَاءَ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَهُوَ يَتَقَدَّمُهُ الْحِسَابُ، وَفِيهِ إِنْبَاءُ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ وَبِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا، فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ مُرَادٌ مَعَهَا لَازِمُهُ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِقَابُ عِقَابَ الدُّنْيَا فَإِطْلَاقُ الْإِنْبَاءِ عَلَيْهِ مجَاز، لأنّه إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ بَعْدَ الْوَعِيدِ عَلِمُوا أَنَّهُ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَهُمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ شَبِيهًا بِحُصُولِ الْعلم الْحَاصِل عَن الْإِخْبَارِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْإِنْبَاءَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يُنَبِّئُهُمْ بِمَعْنَى يُعَاقِبُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.

وَوَصْفُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا: يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ وَصْفٌ شَنِيعٌ، إِذْ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَّا فِي سِيَاقِ الذَّمِّ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي دِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣] .

وَتَفْرِيقُ دِينِ الْإِسْلَامِ هُوَ تَفْرِيقُ أُصُولِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْعَرَبِ مِنْ مَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ بَعْدَ رَسُول الله ﷺ فَقَالَ

أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْآرَاءِ فِي التَّعْلِيلَاتِ وَالتَّبْيِينَاتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الِاخْتِلَافِ فِي أَدِلَّةِ الصِّفَاتِ، وَفِي تَحْقِيقِ مَعَانِيهَا، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِثْبَاتهَا.

وَكَذَلِكَ تَفْرِيق الْفُرُوعِ: كَتَفْرِيقِ فُرُوعِ الْفِقْهِ بِالْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ وَعَلَى مَا بِهِ صِحَة الْأَعْمَال وَفَسَادُهَا. كَالِاخْتِلَافِ فِي حَقِيقَةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَفْرِيقٍ لَا يُكَفِّرُ بِهِ بَعْضُ الْفِرَقِ بَعْضًا، وَلَا يُفْضِي إِلَى تَقَاتُلٍ وَفِتَنٍ، فَهُوَ تَفْرِيقُ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَطَلُّبٍ لِلْحَقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَكُلُّ تَفْرِيقٍ يُفْضِي بِأَصْحَابِهِ إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَهُوَ مِمَّا حَذَّرَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ نِزَاعًا عَلَى الْمُلْكِ وَالدُّنْيَا فَلَيْسَ تَفْرِيقًا فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَسْلَمُ مِنْهَا الْجَمَاعَاتُ.

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: فَرَّقُوا- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ- وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَارَقُوا- بِأَلْفٍ بَعْدِ الْفَاءِ- أَيْ تَرَكُوا دِينَهُمْ، أَيْ تَرَكُوا مَا كَانَ دِينًا لَهُمْ، أَيْ لِجَمِيعِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ فَنَبَذُوهَا وَجَعَلُوهَا عِدَّةَ نِحَلٍ. وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْن وَاحِد.

[١٦٠]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٦٠]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)

مِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَنْذَرَ أعقب الْإِنْذَار بِبِشَارَة لِمَنْ لَا يَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْإِنْذَارُ، وَإِذَا بَشَّرَ أعقب الْبشَارَة بنذارة لِمَنْ يَتَّصِفُ بِضِدِّ مَا بُشِّرَ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى ذَلِكَ هَاهُنَا:

فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْذَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ التَّرَيُّثِ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ الْقَاهِرَةِ، بِقَوْلِهِ:

لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا [الْأَنْعَام: ١٥٨] فَحَدَّ لَهُمْ بِذَلِكَ حَدًّا هُوَ مِنْ مَظْهَرِ عَدْلِهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبُشْرَى مِنْ مَظَاهِرِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْجَزَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، فَقَوْلُهُ:

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَرَى عَلَى عُرْفِ الْقُرْآن فِي الِانْتِقَال بَيْنَ الْأَغْرَاضِ.

فَالْكَلَامُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا [الْأَنْعَام: ١٥٨] . وَهَذَا بَيَان لبَعض الْإِجْمَال الَّذِي فِي قَوْله: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وجاءَ بِالْحَسَنَةِ مَعْنَاهُ عَمِلَ الْحَسَنَةَ: شبه عمله الْحَسَنَة بِحَالِ الْمُكْتَسِبِ، إِذْ يَخْرُجُ يَطْلُبُ رِزْقًا مِنْ وُجُوهِهِ أَوِ احْتِطَابٍ أَوْ صَيْدٍ فَيَجِيءُ أَهْلُهُ بِشَيْءٍ. وَهَذَا كَمَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] .

فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، وَيَجُوزُ حَمْلُ الْمَجِيءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَجِيءٌ إِلَى الْحِسَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ أَن يَجِيء بكتابتها فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ.

وَأَمْثَالُ الْحَسَنَةِ ثَوَابُ أَمْثَالِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، أَوْ مَعْنَاهُ تُحْسَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مِثْلَ الَّتِي جَاءَ بِهَا كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: «كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ»

وَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْحِسَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها.

وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ وَهُوَ الْمُمَاثِلُ الْمُسَاوِي، وَجِيءَ لَهُ بِاسْمِ عَدَدِ الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ عَشْرُ اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْأَمْثَالَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَسَنَةُ

أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالُهَا، فَرُوعِيَ فِي اسْمِ الْعَدَدِ مَعْنَى مُمَيِّزِهِ دُونَ لَفْظِهِ وَهُوَ أَمْثَالٌ. وَالْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ جَزَاءُ غَالِبِ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ زَادَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْحَسَنَاتِ أَنْ ضَاعَفَهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ

[الْبَقَرَة: ٢٦١] فَذَلِكَ خَاصٌّ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْجِهَادِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»

. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَشْرُ أَمْثالِها بِإِضَافَةِ عَشْرُ إِلَى أَمْثالِها. وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوف، وقرأه يَعْقُوبُ- بِتَنْوِينِ عَشْرُ وَرَفْعِ أَمْثالِها، عَلَى أنّه صفة ل عَشْرُ، أَيْ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مُمَاثِلَةٍ لِلْحَسَنَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا. وَمُمَاثَلَةُ الْجَزَاء للحسنة موكول إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ.

وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِأَجْلِ مَا فِي صِيغَتِهِ مِنْ تَقْدِيمِ جَانِبِ النَّفْيِ، اهْتِمَامًا بِهِ، لِإِظْهَارِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ، فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَلَيْسَ فِي الْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ رَدُّ اعْتِقَادٍ بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُسَاوِيهِ أَنْ يُقَالَ:

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَيُجْزَى مِثْلَهَا، لَوْلَا الِاهْتِمَامُ بِجَانِبِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ. وَنَظِيرُهُ

قَول النّبيء ﷺ حِينَ سَأَلَتْهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا، فَقَالَ لَهَا: «لَا إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ»

وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: أَطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى

قَول النّبيء ﷺ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»

فَأَكَّدَهَا بِوَاحِدَةٍ تَحْقِيقًا لِعَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَةِ.

وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ.

إِظْهَار لِلْعَدْلِ، فَلِذَلِكَ سَجَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَا ظُلْمَ فِيهِ لِيُنْصِفُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا عَدُّ عَوْدِ الضَّمِيرَيْنِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُنَاسب فَرِيقُ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِلَّذِي أُكْرِمَ وَأُفِيضَ عَلَيْهِ الْخَيْرُ إِنَّهُ غير مظلوم.

[١٦١]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٦١]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا تَخَلَّلَهَا، إِلَى فَذْلَكَةِ مَا أُمِرَ بِهِ الرّسول ﷺ فِي هَذَا الشَّأْنِ، غَلْقًا لِبَابِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْمُعْرِضِينَ، وَإِعْلَانًا بِأَنَّهُ قَدْ تَقَلَّدَ لِنَفْسِهِ مَا كَانَ يُجَادِلُهُمْ فِيهِ لِيَتَقَلَّدُوهُ وَأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ لَا يُزَلْزِلُهُ عَنِ الْحَقِّ.

وَفِيهِ إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْوَاعِظَ وَالْمُنَاظِرَ إِذَا أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي غَرَضِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا قَرَّ عَلَيْهِ قَرَارُهُ، عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَطْوِي سِجِلَّ الْمُحَاجَّةِ، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ. فَأمر الرّسول ﷺ بِأَنْ يَقُولَ أَشْيَاءَ يُعْلِنُ بِهَا أُصُولَ دِينِهِ، وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَنْوِيهًا بِالْمَقُولِ.

وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣] الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: ٩٢] فَزَادَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ هَذَا: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ إِنَّمَا جَاءَ بِهِ الرّسول ﷺ بِهَدْيٍ

مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ دِينًا قَيِّمًا عَلَى قَوَاعِدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، إِلَّا أَنَّهُ زَائِد عَلَيْهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ.

وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلِاعْتِزَازِ بمربوبية الرّسول ﷺ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ أَرْبَابُهُمْ، وَلَوْ وَحَّدُوا الرَّبَّ الْحَقِيقَ بِالْعِبَادَةِ لَهَدَاهُمْ.

وَقَوْلُهُ: هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَتْ هَيْئَةَ الْإِرْشَادِ إِلَى الحقّ المبلّغ إِلَى النّجاة بِهَيْئَةِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَلِّغَةِ لِلْمَقْصُودِ.

وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَبَيْنَ الصِّرَاطِ تَامَّةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَة الْهِدَايَة التّعريف بِالطَّرِيقِ، يُقَالُ: هُوَ هَادٍ خِرِّيتٌ، وَحَقِيقَةُ الصِّرَاطِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ صَحَّ أَنْ تُسْتَعَارَ الْهِدَايَةُ لِلْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالصِّرَاطُ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، فَكَانَ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا قَابِلًا لِلتَّفْكِيكِ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِيَّةِ.

وَوُصِفَ الصِّرَاطُ بِالْمُسْتَقِيمِ، أَيِ الَّذِي لَا خَطَأَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣]، وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ هَيْئَةِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ دِينٌ لَا يَتَطَرَّقُ مُتَّبِعَهُ شَكٌّ فِي نَفْعِهِ كَمَا لَا يَتَرَدَّدُ سَالِكُ الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا انْعِطَافَ فِيهَا وَلَا يَتَحَيَّرُ فِي أَمْرِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ: دِينًا تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ مُؤْذِنٌ بِالْمُشَبَّهِ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ:

صِراطٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ.

وَالدِّينُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَهُوَ السِّيرَةُ الَّتِي يَتَّبِعُهَا النَّاسُ.

وَالْقَيِّمُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ- كَمَا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: وَصْفُ مُبَالَغَةٍ قَائِمٌ بِمَعْنَى مُعْتَدِلٍ غَيْرِ مُعْوَجٍّ، وَإِطْلَاقُ الْقِيَامِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِقَامَةِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا قَامَ اعْتَدَلَتْ قَامَتُهُ، فَيَلْزَمُ الِاعْتِدَالُ الْقِيَامَ.

وَالْأَحْسَنُ أَنْ نَجْعَلَ الْقَيِّمَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقيام بِالْأَمر، وَهُوَ مُرَادِفُ الْقَيُّومِ، فَيُسْتَعَارُ الْقِيَامُ لِلْكِفَايَةِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَالْوَفَاءُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، فَالْإِسْلَامُ قَيِّمٌ بِالْأُمَّةِ وَحَاجَتِهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ قَيِّمٌ عَلَى كَذَا، بِمَعْنَى مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُصْلِحٌ، وَمِنْهُ وُصِفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَيُّومِ، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُفَادِ مُسْتَقِيمٍ الَّذِي أَخَذَ جُزْءًا مِنَ التَّمْثِيلِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ إِعَادَةً لِبَعْضِ التَّشْبِيهِ.

وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: قِيَمًا- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مُخَفَّفَةً- وَهُوَ مِنْ صِيَغِ مَصَادِرِ قَامَ، فَهُوَ وَصْفٌ لِلدِّينِ بِمَصْدَرِ الْقِيَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذِهِ زِنَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْمَصَادِرِ، وَقَلْبُ وَاوِهِ يَاءً بَعْدَ الْكَسْرَةِ عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ تَصْحِيحُ لَامِهِ لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ، فَسَوَاءٌ فِي خِفَّتِهَا وُقُوعُهَا عَلَى الْوَاوِ أَوْ عَلَى الْيَاءِ، مِثْلَ عِوَضٍ وَحِوَلٍ، وَهَذَا كَشُذُوذِ جِيَادٍ جَمْعِ جَوَادٍ، وَانْتَصَبَ قِيَمًا عَلَى الْوَصْفِ لِ دِينًا.

وَقَوْلُهُ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَالٌ مِنْ: دِينًا أَوْ مِنْ: صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَوْ عطف بَيَان على دِينًا.

والملّة، الدّين: فَهِيَ مُرَادِفَةُ الدِّينِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا هُنَا لِلتَّفَنُّنِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] .

ومِلَّةَ فِعْلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَمْلُولِ، مِنْ أَمْلَلْتُ الْكِتَابَ إِذَا لَقَّنْتُ الْكَاتِبَ مَا يَكْتُبُ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ لَا تَقْتَرِنَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ زِنَةَ (فِعْلٍ) بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ تَلْزَمُ التَّذْكِيرَ، كَالذَّبْحِ، إِلَّا أَنَّهُمْ

قَرَنُوهَا بَهَاءِ التَّأْنِيثِ لَمَّا صَيَّرُوهَا اسْمًا لِلدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمِلَّةُ كَالدِّينِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّينِ أَنَّ الْمِلَّةَ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى النَّبِيءِ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ نَحْوَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مِلَّةِ آبَائِي، وَلَا تُوجَدُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ وَلَا إِلَى آحَاد الْأُمَّةِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ دُونَ آحَادِهَا لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مِلَّةُ اللَّهِ» أَيْ وَيُقَالُ: الصَّلَاةُ دِينُ اللَّهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِي لَفْظِ الملّة أنّها مملول مِنَ اللَّهِ فَهِيَ تُضَافُ لِلَّذِي أُمِلَّتْ عَلَيْهِ.

وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ:

التَّوْحِيدُ، وَمُسَايَرَةُ الْفِطْرَةِ، وَالشُّكْرُ، وَالسَّمَاحَةُ، وَإِعْلَانُ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ

تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٧] .

وَالْحَنِيفُ: الْمُجَانِبُ لِلْبَاطِلِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُهْتَدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥] . وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.

وَجُمْلَةُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ عليه السلام الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا كَالْجَزَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَة الْبَقَرَة.

[١٦٢، ١٦٣]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): الْآيَات ١٦٢ إِلَى ١٦٣]

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)

اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّفْرِيعِ عَنِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْنِفَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ مُهِمٌّ فِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا عَنْ غَيْرِهِ، وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّوْحِيدِ،

وَلِذَلِكَ قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ. علّم الرّسول ﷺ أَنْ يَقُولَهُ عَقِبَ مَا عُلِّمَهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُ هَدَاهُ ثُمَّ أَلْهَمَهُ الشُّكْرَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا.

وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْمَقُولِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِتَحْقِيقِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُرَائِي بِصَلَاتِهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَى رَسُول الله ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ: «أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . فَتَكُونُ (إِنَّ) عَلَى هَذَا لِرَدِّ الشَّكِّ.

وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمِلْكِ، أَيْ هِيَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ:

إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ١٦١] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ.

وَجعل صَلَاتَهُ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ. وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَالنُّسُكُ حَقِيقَتُهُ الْعِبَادَةُ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْعَابِدُ النَّاسِكُ.

وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ يُسْتَعْمَلَانِ مَصْدَرَيْنِ مِيمِيَّيْنِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ، مِنْ حَيِيَ وَمَاتَ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَعْمَالُ الْمَحْيَا وَأَعْمَالُ الْمَمَاتِ، أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ مَعَ حَيَاتِهِ، وَمَعَ وَقت مماته. وَإِذا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمَعْنَى الزَّمَنِيَّ كَانَ الْمَعْنَى مَا يَعْتَرِيهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.

ثُمَّ إِنَّ أَعْمَالَ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ وَفِيرَةٌ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ أَوْ مَدَّتَهُ هِيَ الْحَالَةُ أَوِ المدّة الَّتِي تنْقَلب فِيهَا أَحْوَالُ الْجِسْمِ إِلَى صِفَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ وَتِلْكَ حَالَةُ الِاحْتِضَارِ، وَتِلْكَ الْحَالَةُ قَدْ تُؤَثِّرُ انْقِلَابًا فِي الْفِكْرِ أَوِ اسْتِعْجَالًا بِمَا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْجَلُ بِهِ الْحَيُّ، فَرُبَّمَا صَدَرَتْ عَنْ صَاحِبِهَا أَعْمَالٌ لَمْ يَكُنْ يُصْدِرُهَا فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ، اتِّقَاءً أَوْ حَيَاءً أَوْ جَلْبًا لِنَفْعٍ، فَيُرَى أَنَّهُ قَدْ يَئِسَ مِمَّا كَانَ يُرَاعِيهِ، فَيَفْعَلُ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ، وَأَيْضًا لتِلْك الْحَالة شؤون خَاصَّةٌ تَقَعُ عِنْدَهَا فِي الْعَادَةِ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَحْوَالِ آخِرِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّهَا تُضَافُ إِلَى الْمَوْتِ لِوُقُوعِهَا بِقُرْبِهِ، وَبِهَذَا يَكُونُ ذِكْرُ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا مِنْهُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ حَتَّى زَمَنِ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَمَاتِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ تَوَجُّهَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ نَحْوَ أُمَّتِهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالظُّهُورِ لِخَاصَّةِ أُمَّتِهِ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ لِلرَّسُولِ بَعْدَ مَمَاتِهِ أَحْكَامَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْكَامِلَةِ كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي فَرَدَدْتُ عليه السلام»

وَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُ فِي الْحَشْرِ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ وَالسُّجُودِ لِلَّهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَتِلْكَ أَعْمَالٌ خَاصَّة بِهِ ﷺ وَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لِنَفْعِ عَبِيدِهِ أَوْ لِنَفْعِ أَتْبَاعِ دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَمَماتِي هُنَا نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ

فِي الْحَدِيثِ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ»

. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَمَاتِهِ لِلَّهِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمَّتْهُ الْيَهُودِيَّةُ بِخَيْبَرَ فِي لَحْمِ شَاةٍ أَطْعَمُوهُ إِيَّاهُ حَصَلَ بَعْضٌ مِنْهُ فِي أمعائه.

فَفِي الْحَدِيثِ (١)

(١) رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي «كتاب الطِّبّ النَّبَوِيّ» بِسَنَد حسن.

«مَا

زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تَعْتَادُنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطْعِ أَبْهَرِي»

(١) .

وَبِقَوْلِهِ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَصْلُهُ الْإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى الْمُسْلَمِ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠]، وَهُوَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١] .

وَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَةٌ تُشِيرُ إِلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ لَا لغيره، لأنّ غَيره لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [١]:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

وَجُمْلَةُ: لَا شَرِيكَ لَهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُصَرِّحَةٌ بِمَا أَفَادَهُ جَمْعُ التَّوْكِيدِ مَعَ لَامِ الْمِلْكِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَصْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّفَةِ وَالْحَالِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَصُوا عَمَلَهُمْ لِلَّذِي خَلَقَهُمْ، وَبِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَمَحْيايَ- بِسُكُونِ الْيَاءِ الثّانية- إِجْرَاء للوصل مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ نَادِرٌ فِي النَّثْرِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ أَثْبَتَتْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّدْرَةَ لَا تُنَاكِدُ الْفَصَاحَةِ وَلَا يَرِيبُكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: «أَنَّهَا شَاذَّةٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لِأَنَّ سُكُونَ الْأَلِفِ قَبْلَ حَرْفٍ سَاكِنٍ لَيْسَ مِمَّا يَثْقُلُ فِي النُّطْقِ نَحْوَ عَصَايْ، وَرُؤْيَايْ، وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ هُنَا إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ تَوَالِيَ يَائَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ

(١) الْأَبْهَر- بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء وَفتح الْهَاء عرق فِي الْقلب.

فِيهِ ثِقَلٌ، وَالْأَلِفُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْفَتْحَةِ الْأُولَى لَا تُعَدُّ حَاجِزًا فَعَدَلَ عَنْ فَتْحِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ إِلَى إِسْكَانِهَا» . وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِفَتْحِ الْيَاءِ- وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَرْشٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ نَافِعًا رَجَعَ عَنِ الْإِسْكَانِ إِلَى الْفَتْحِ.

وَجُمْلَةُ: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ صَلاتِي إِلَخْ. فَهَذَا مِمَّا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ، وَحَرْفُ الْعَطْفِ لَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبِذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي إِلَخْ،

أَيْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلَّهِ بِهَدْيٍ مِنَ اللَّهِ وَأَمْرٍ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ١٦١] يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا هَدَاهُ أَمَرَهُ بِمَا هُوَ شُكْرٌ عَلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الصَّلَاةَ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا لِنَفْسِهِ وَجَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى أَعْقَبَهَا بِأَنَّهُ هُدًى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١١، ١٢] . وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ، وَهُوَ لَازِمُ مَعْنَاهُ، يَعْنِي قَبُولَ الْإِسْلَامِ وَالثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالِاغْتِبَاطَ بِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّبْقِ إِذْ يُطْلَقُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالتَّرَجُّحِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

سَبَقْتَ الرِّجَالَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا ... كَسَبْقِ الْجَوَادِ اصْطَادَ قَبْلَ الطَّوَارِدِ


لَا يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَعَالِي أَقْدَمَ مَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِي أَهْلِ الْمَعَالِي مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا، وَمَنْ نَالَ الْعُلَا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْمَمْدُوحُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ نَوَالِ الْعُلَا وَأَصْبَحَ الْحَائِزَ لَهُ وَالثَّابِتَ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

. وَهَذَا الْمَعْنَى تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي التَّنَازُلِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَوْ أَقَلَّ تَنَازُلٍ. وَمِنِ اسْتِعْمَالِ (أَوَّلُ)

فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١] . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ لِقِلَّةِ جَدْوَى الْخَبَرِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ أَوَّلُ أَصْحَابِهِ لَا مَحَالَةَ، فَمَاذَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْأَعْدَاءَ وَالْأَتْبَاعَ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى إِسْلَامِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَسْتَقِمْ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَ بَنُوهُ مُسْلِمِينَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] وَكَذَلِكَ أَبنَاء يَعْقُوب كَانُوا مُسلمين إِذْ قَالُوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٦] .

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِإِثْبَاتِ أَلِفِ «أَنَا» إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَيَجْرِي مَدُّهَا عَلَى قَاعِدَةِ المدّ، وحذفها الْبَاقُونَ قبل الْهمزَة، واتّفق الْجَمِيع على حذفهَا قبل غير الْهمزَة تَخْفِيفًا جَرَى عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِهِمْ نَحْوَ: «أَنَا يُوسُفُ» وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَبْلَ الْهَمْزَةِ نَحْوَ أَنَا أَفْعَلُ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَفْصَحَ إِثْبَاتُهَا مَعَ الْهَمْزِ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْمَدِّ.

[١٦٤]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٦٤]

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.

اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ، مُفْتَتَحٌ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَنْقَذَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُمَحِّضَ عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ لِرَبِّهِ تَعَالَى، شُكْرًا عَلَى الْهِدَايَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ يُنْكِرَ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ وَاهِبَ النِّعَمِ هُوَ مُسْتَحِقُّ الشُّكْرِ، وَالْعِبَادَةُ جِمَاعُ مَرَاتِبِ الشُّكْرِ، وَفِي هَذَا رُجُوعٌ إِلَى بَيَانِ ضَلَالِهِمْ إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِهِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِرُبُوبِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ، وَقَدْ حاولوا مِنْهُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ سَوَاءٌ كَانُوا حَاوَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ بِقُرْبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَمْ يُحَاوِلُوهُ، فَهُمْ دَائِمُونَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ النَّقَاشِ أَنَّ الكفّار قَالُوا للنّبي ﷺ: «ارْجِعْ إِلَى دِينِنَا وَاعْبُدْ آلِهَتَنَا وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ تِبَاعَةٍ تَتَوَقَّعُهَا فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ» وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.

وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ يُبْتَغَى لَهُ رَبًّا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجَوَابِ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُشْركين دعوا النّبي ﷺ لِعِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَيَكُونَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ لِمُوجِبٍ أَوْ لِمُوجِبَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٤] .

وَجُمْلَةُ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِ الْحَال، وَهُوَ حَال مُعَلَّلٌ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ بِاعْتِرَافِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ خَالِقَةٌ لِشَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: ٧٣] فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّهُ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِي أَنْ يَعْبُدَهُ الْخَلَائِقُ، وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَكفر بِنِعْمَة الربوبيّة، وبقطع النّظر عَن كَون الْخلق نعْمَة، لِأَنَّ الْخَلْقَ إِيجَادٌ وَالْوُجُودُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَدَمِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَلْقِ مُوجِبٌ لِلْعِبَادَةِ لِأَجْلِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَإِنَّمَا قِيلَ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَقُلْ: وَهُوَ رَبِّي، لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ رَبُّهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِهِ إَثْبَاتَ حُكْمٍ عَامٍّ يَشْمَلُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ أَرْبَابَهُمْ غَيْرُ حَقِيقَة

بالربوبيّة لأنّها مربوبة أَيْضًا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها من القَوْل بالمأمور بِهِ، مُفِيدٌ مُتَارَكَةً لِلْمُشْرِكِينَ وَمَقْتًا لَهُمْ بِأَنَّ عِنَادَهُمْ لَا يَضُرُّهُ، فَإِنَّ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ

الشِّرْكِ لَا يَنَالُهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّمَا كَسْبُ كُلِّ نَفْسٍ عَلَيْهَا، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْفُسِ فَكَسْبُهُمْ عَلَيْهِمْ لَا يَتَجَاوَزُهُمْ إِلَى غَيرهم. فالتّعميم فِي الْحُكْمِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: كُلِّ شَيْءٍ فَائِدَتُهُ مِثْلُ فَائِدَةِ التَّعْمِيمِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ.

وَدَلَّتْ كَلِمَةُ (عَلَى) عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ الْكَسْبِ الْمَحْذُوفَ تَقْدِيرُهُ: شَرًّا، أَوْ إِثْمًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُخَاطَبِينَ هُوَ اكْتِسَابُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٥٢] وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكًا تَقْدِيره: وَلَا تكسب كلّ نفس إلّا لَهَا وَلَا تكتسب إِلَّا عَلَيْهَا فَحذف من الأول لِدَلَالَةِ الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ إِذا جربت عَلَى أَنَّ (كَسَبَ) يَغْلِبُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ، وَأَنَّ (اكْتَسَبَ) يَغْلِبُ فِي تَحْصِيلِ الشَّرِّ، سَوَاءٌ اجْتَمَعَ الْفِعْلَانِ أَمْ لَمْ يَجْتَمِعَا. وَلَا أَحْسَبُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فَرْقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَة: ٢٨٦] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ أَوْ يَكْسِبُهُ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تَكْمِلَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فَكَمَا أَنَّ مَا تَكْسِبُهُ نَفْسٌ لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهَا، كَذَلِكَ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى: وَلَا أَحْمِلُ أَوْزَارَكُمْ.

فَقَوْلُهُ: وازِرَةٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: نَفْسٌ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةً حِمْلَ أُخْرَى.

وَالْوِزْرُ: الْحِمْلُ، وَهُوَ مَا يَحْمِلُهُ الْمَرْءُ عَلَى ظَهْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه: ٨٧]، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [الْأَنْعَام: ٣١] . وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِثْمِ وِزْرًا فَلِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ ثَقِيلًا عَلَى نَفْسِ الْمُؤْمِنِ. فَمَعْنَى لَا تَزِرُ وازِرَةٌ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ، أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِينَ تَحْمِلُ حِمْلَ أَيِّ نَفْسٍ أُخْرَى غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا تَحْمِلُهُ عَنْهَا، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ تَزِرُ وِزْرَ نَفْسِهَا، فَيُفِيدُ أَنَّ وِزْرَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ غَيْرُهُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ وِزْرِهِ الَّذِي وَزَرَهُ وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، فَلَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَلَا تُتَّبَعُ نَفْسٌ بِإِثْمِ غَيْرِهَا، فَهِيَ إِنْ حَمَلَتْ لَا تَحْمِلُ حِمْلَ غَيْرِهَا. وَهَذَا إتْمَام

لِمَعْنى المتاركة.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيكون تعقيبا للمتاركة بِمَا فِيهِ تَهْدِيدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ، فَكَانَ مَوْقِعُ ثُمَّ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَهَمُّ.

فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ:

بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَالْمَعْنَى: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنْفُسِهِمِ اخْتِلَافٌ. فَأُدْمِجَ الْوَعِيدُ بِالْوَعِيدِ. وَقَدْ جَعَلُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمَصَاحِفِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وِزْرَ أُخْرى فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خطابا للنّبيء ﷺ وَلِلْمُعَانِدِينَ لَهُ. وَ(ثُمَّ) صَالِحَةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ مُلَائِمٌ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ أَيْضًا. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً.

وَالتَّنْبِئَةُ: الْإِخْبَارُ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِظْهَارُ آثَارِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاضِحَةً يَوْمَ الْحِسَابِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ يَوْمَئِذٍ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ نَبَّأَهُمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ زَمَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ يُنْبِئُكُمْ مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِنْبَاءً لَا يَسْتَطِيعُ الْكَافِرُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، كَمَا

وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الله حجاب»

. [١٦٥]


[سُورَة الْأَنْعَام (٦): آيَة ١٦٥]

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَعَلَى وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْيَالِ خَلَائِفَ لِمَا سَبَقَهَا، فَعَمَرُوا الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَحْشُرَهَا جَمِيعًا بَعْدَ انْقِضَاء عَالم حَيَاتهَا الْأُولَى. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي دَبَّرَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بَيْنَهُمْ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا صَنَعُوا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى لِئَلَّا يَذْهَبَ الْمُعْتَدُونَ وَالظَّالِمُونَ فَائِزِينَ بِمَا جَنَوْا، وَإِذَا كَانَ يُقِيمُ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَأَشَارَ إِلَى الشَّقِّ الثَّانِي قَوْلُهُ:

وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِتَذْيِيلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الْأَنْعَام: ١٦٤] وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ.

فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: ١٦٤] تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ، بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ، فَتكون بِشَارَة للأمّة بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ:

الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ.

وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِمَا يخلف بِهِ شَيْء، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أَيْ عِوَضَهُ، يُقَالُ: خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ.

وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) على لوجه الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩]- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: ٧٤]- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٩] . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَم الَّتِي قبلهَا لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ.

وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ

وَالرِّفْعَةِ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ.

وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ.

وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ.

وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: ١٥٥] . وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بمواهب الله فِيهَا وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النّاس، وَلَكِن سمّى ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:

وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا

وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعُ الْعِقابِ وَصفَة لَغَفُورٌ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.

وَاسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ وَلِتَمَامِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْعَاجِزِ أَنْ يَتَرَيَّثَ وَأَنْ يَخْشَى غَائِلَةَ الْمُعَاقَبِ، فَالْمُرَادُ سَرِيعُ الْعِقَابِ فِي يَوْمِ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَرِيعَهُ مِنَ الْآنِ حَتَّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنَى: كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، إِذْ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا.

وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ (سَرِيعِ الْعقَاب) على موكّد وَاحِدٍ، وَتَعْزِيزِ وَصْفِ (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ إِنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ لِأَنَّ (الرَّحِيمَ) يُؤَكِّدُ مَعْنَى (الْغَفُورِ): لِيُطَمْئِنَ أَهْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِيَسْتَدْعِيَ أَهْلَ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُوفِ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ.

google-playkhamsatmostaqltradent