قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة في آخرين: هي مكية «١» . وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إلى قوله تعالى: غَفُورًا رَحِيمًا «٢» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَياةً وَلا نُشُورًا (٣)
قوله تعالى: تَبارَكَ قد شرحناه في سورة الأعراف «٣»، والفُرقان: القرآن، سمي فُرقانًا، لأنه فُرق به بين الحق والباطل. والمراد بعبده: محمد ﷺ، لِيَكُونَ فيه قولان:
أحدهما: أنه كناية عن عبده، قاله الجمهور. والثاني: عن القرآن، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: لِلْعالَمِينَ يعني الجن والإِنس نَذِيرًا أي: مخوّفا من عذاب الله.
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٣/ ٥: سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم.
(٢) الفرقان: ٦٨- ٧٠.
(٣) الأعراف: ٥٤. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٨٣: يقول الله تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وقال ها هنا: تَبارَكَ وهو تفاعل من البركة المستقرة الدائمة الثابتة الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ فعل من التكرر والتكثر كما قال: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل منجما مفصلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسورا بعد سور. وهذا أبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ولذلك سمّاه ها هنا الفرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل. والحلال والحرام، والهدى والضلال، والغي والرشاد.
قوله تعالى: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سوَّاه وهيَّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. والثاني: قَدَّر له ما يُصلحه ويُقيمه. والثالث: قدَّر له تقديرًا من الأجَل والرِّزق.
ثم ذكر ما صنعه المشركون، فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني: الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: وهي مخلوقة وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أي: دَفْع ضرّ، ولا جَرّ نفع، لأنها جماد لا قُدرة لها وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا أي: لا تملك أن تُميت أحدًا، ولا أن تحيي أحدًا، ولا أن تبعث أحدًا من الأموات والمعنى: كيف يعبُدون ما هذه صفته، ويتركون عبادةَ من يقدر على ذلك كلِّه؟!
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: مشركي قريش وقال مقاتل: وهو قول النَّضْر بن الحارث من بني عبد الدار إِنْ هَذا أي: ما هذا، يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي: كذب افْتَراهُ أي: اختلقه من تلقاء نفسه وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال مجاهد: يعنون اليهود وقال مقاتل: أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى لعامر أيضًا، وكان الثلاثة من أهل الكتاب.
قوله تعالى: فَقَدْ جاؤُ ظُلْمًا وَزُورًا. قال الزّجّاج: المعنى فقد جاءوا بظلم وزور فلما سقطت الباء، أفضى الفعل فنصب، والزُّور: الكذب. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ المعنى: وقالوا: الذي جاء به أساطير الأولين، وقد بيَّنَّا ذلك في (الأنعام) «١» . قال المفسرون: والذي قال هذا هو النضر بن الحارث.
ومعنى اكْتَتَبَها أَمر أن تُكْتَب له. وقرأ ابن مسعود، وإِبراهيم النخعي، وطلحة بن مصرف:
«اكْتُتِبَها» برفع التاء الأولى وكسر الثانية، والابتداءُ على قراءتهم برفع الهمزة، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي:
تُقرَأ عليه ليحفظها لا ليكتبها، لأنه لم يكن كاتبًا، بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي: غُدوة وعشيًّا. قُلْ لهم يا محمد: أَنْزَلَهُ يعني: القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي: لا يخفى عليه شيء فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٧ الى ٩]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني المشركين مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أنكروا أن يكون الرسول بَشَرًا يأكل الطعام ويمشي في الطُّرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة والمعنى: أنه ليس بملَك ولا ملِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذَّل في الأسواق، فعجبوا أن يكون مساويًا للبشر لا يتميَّز عليهم بشيء وإِنما جعله الله بشرًا ليكون مجانسًا للذين أُرسل إِليهم، ولم يجعله ملِكًا يمتنع
(١) الأنعام: ٢٥.
من المشي في الأسواق، لأن ذلك من فعل الجبابرة، ولأنه أُمر بدعائهم، فاحتاج أن يمشي بينهم. قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وذلك أنهم قالوا له: سل ربك أن يبعث معك ملَكًا يصدِّقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا فذلك قوله تعالى: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي: ينزل إِليه كنز من السماء أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي: بستان يأكل من ثماره. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «يأكل منها» بالياء، يعنون النبيَّ ﷺ. وقرأ حمزة، والكسائي: «نأكل» بالنون، قال أبو علي: المعنى: يكون له علينا مزيِّة في الفضل بأكلنا من جنته. وباقي الآية مفسَّر في (بني إِسرائيل) «١» .
قوله تعالى: انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ حين مثَّلوك بالمسحور، وبالكاهن والمجنون والشاعر فَضَلُّوا بهذا عن الهدى فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه قولان:
أحدهما: لا يستطيعون مَخرجًا من الأمثال التي ضربوها، قاله مجاهد، والمعنى أنهم كذّبوا ولم يجدوا على قولهم حُجَّة وبرهانًا. وقال الفراء: لا يستطيعون في أمرك حيلة.
والثاني: سبيلًا إِلى الطاعة، قاله السّدّيّ.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١٠ الى ١٤]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)
ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرًا مما قالوا في الدنيا، وهو قوله: خَيْرًا مِنْ ذلِكَ يعني: لو شئتُ لأعطيتُك في الدنيا خيرًا مما قالوا، لأنه قد شاء أن يعطيَه ذلك في الآخرة. وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا
قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويجعلُ لكَ قصورًا» برفع اللام. وقرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «ويجعلْ» بجزم اللام. فمن قرأ بالجزم، كان المعنى: إِن يشأْ يجعلْ لك جنات ويجعلْ لك قصورًا. ومن رفع، فعلى الاستئناف المعنى: وسيجعل لكَ قصورًا في الآخرة. وقد سبق معنى «اعتدنا» «٢» ومعنى «السّعير» «٣» .
قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال السدي عن أشياخه: من مسيرة مائة عام.
فان قيل: السعير مذكَّر، فكيف قال: «إِذا رأتهم»؟ فالجواب: أنه أراد بالسعير النار.
قوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا فيه قولان: أحدهما: غَلَيان تَغَيُّظ، قاله الزجاج. قال المفسرون:
والمعنى أنها تتغيَّظ عليهم فيسمعون صوت تغيُّظها وزفيرها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ. والثاني:
يسمعون فيها تغيُّظ المعذَّبين وزفيرهم، حكاه ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا قال المفسرون: تضيِّق عليهم كما يضيِّق الزُّجُّ على الرُّمح، وهم قد قُرنوا مع الشياطين. والثُّبور: الهَلَكة. وقرأ عاصم الجحدريّ، وابن السّميفع: «ثبورا» بفتح الثاء.
(١) الإسراء: ٤٧. [.....]
(٢) النساء: ٣٧.
(٣) النساء: ١٠.
قوله تعالى: وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قال الزجاج: الثُّبور مصدر، فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد، كما تقول: ضربته ضربًا كثيرًا، والمعنى: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة.
(١٠٤٧) وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «أول من يُكْسى من أهل النار يوم القيامة إِبليس، يُكْسى حُلَّة من النَّار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريَّتُه خلفه وهو يقول: ووا ثبوراه، وهم ينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقول الله عز وجل: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيرًا (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُلًا (١٦)
قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ يعني: السعير خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيرًا. وقال الزجاج: قد وقع التساوي بين الجنة والنار في أنهما منزلان، فلذلك وقع التفضيل بينهما. قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً أي: ثوابًا وَمَصِيرًا أي:
مَرْجِعًا. قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ المشار إِليه، إِما الدخول، وإِما الخُلود وَعْدًا وعدهم الله إِياه على ألسنة الرسل. وفي معنى «مسؤولًا» قولان: أحدهما: مطلوبًا. وفي الطالب له قولان. أحدهما:
أنهم المؤمنون، سألوا الله في الدنيا إِنجاز ما وعدهم به. والثاني: أن الملائكة سألته ذلك لهم، وهو قوله: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «١» . والثاني: أن معنى المسؤول: الواجب.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذابًا كَبِيرًا (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «يحشرهم» «فيقول» بالياء
ضعيف. أخرجه أحمد ٣/ ١٥٢- ١٥٤- ٢٤٩ وابن أبي شيبة ١٣/ ١٦٨ والبزار ٣٤٩٥ «كشف» والطبري ٢٦٢٩٤ والخطيب ١١/ ٢٥٣ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٣٣٦ وأبو نعيم ٦/ ٢٥٦ من حديث أنس، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وقد تفرّد به. وصححه السيوطي في «الدر» ٥/ ١١٧ فلم يصب. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٨٦١١: رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد، وقد وثق. وفيما قاله نظر إذ كان عليه أن يضعف علي بن زيد حيث ضعفه الجمهور، وهو الذي استقر عليه ابن حجر في «التقريب» حيث قال: ضعيف. وعبارة الهيثمي توهم أنه لم يضعف، وقد وثقه بعضهم.
_________
(١) غافر: ٨.
فيهما. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «نحشرهم» بالنون «فيقول» بالياء. وقرأ ابن عامر: «نحشرهم» «فنقول» بالنون فيهما جميعا ويعني: المشركين، وَما يَعْبُدُونَ قال مجاهد: يعني عيسى وعزيرًا والملائكة. وقال عكرمة، والضحاك: يعني الأصنام، فيأذن الله للأصنام في الكلام، ويخاطبها: فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي أي: أمرتموهم بعبادتكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي: أخطئوا الطريق. قالُوا يعني الأصنام سُبْحانَكَ نزَّهوا الله تعالى أن يُعْبَدَ غيره ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ نُواليهم والمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نَعبد نحن غيرك، فكيف ندعو إِلى عبادتنا؟! فدل هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن جبير، والحسن، وقتادة، وأبو جعفر، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «أن نُتَّخَذ» برفع النون وفتحِ الخاء. ثم ذكروا سبب تركهم للإيمان، فقالوا: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ أي: أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرزق حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي: تركوا الإِيمان بالقرآن والاتِّعاظَ به وَكانُوا قَوْمًا بُورًا قال ابن عباس: هَلْكى. وقال في رواية أخرى، البُور: في لغة أزد عُمان: الفاسد. قال ابن قتيبة: هو من بارَ يَبُور: إِذا هلك وبطَل، يقال: بار الطعامُ: إِذا كَسَد، وبارت الأَيّمُ: إِذا لم يُرغَبْ فيها.
(١٠٤٨) وكان رسول الله ﷺ يتعوَّذُ من بَوَار الأيِّمِ.
قال: وقال أبو عبيدة: يقال رجل بُورٌ وقوم بور، لا يُجمَع ولا يُثنَّى، واحتج بقول الشاعر:
يا رَسُولَ المَلِيكِ إِنَّ لِسَاني ... رَاتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بور «١»
قال: وقد سمعنا ب «رجل بائر»، ورأيناهم ربما جمعوا «فاعلًا» على «فُعْل»، نحو عائذٍ وعُوذٍ، وشارِفٍ وشُرْفٍ. قال المفسرون: فيقال للكفار حينئذ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي: فقد كذَّبكم المعبودون في قولكم: إنهم آلهة. وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد، ومعاذ القارئ، وابن شنبوذ عن قنبل: «بما يقولون» بالياء والمعنى: كذَّبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا الآية هذا قول الأكثرين. وقال ابن زيد:
الخطاب للمؤمنين فالمعنى: فقد كذَّبكم المشركون بما تقولون: إنّ محمّدا رسول الله ﷺ.
قوله تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا قرأ الأكثرون بالياء. وفيه وجهان: أحدهما: فما يستطيع المعبودون صرفًا للعذاب عنكم ولا نصرًا لكم. والثاني: فما يستطيع الكفار صرفًا لعذاب الله عنهم ولا نصرًا لأنفسهم. وقرأ حفص عن عاصم: «تستطيعون» بالتاء والخطاب للكفار. وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال: الصَّرْف: الحيلةُ من قولهم: إِنه ليتصرَّف. قوله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي: بالشِّرك نُذِقْهُ في الآخرة. وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وأبو الجوزاء وقتادة: «يذقه» بالياء عَذابًا كَبِيرًا أي: شديدًا. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال الزجاج:
في الآية محذوف، تقديره: وما أرسلنا قبلك رُسلًا من المرسَلين، فحذفت رسلًا لأن قوله: مِنَ الْمُرْسَلِينَ يدلّ عليها.
قوله تعالى: إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي: إِنهم كانوا على مثل حالك،
لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من كلام بعض السلف. وانظر «تفسير القرطبي» ١٣/ ١٤.
_________
(١) البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي كما في «اللسان» - بور- و«مجاز القرآن»: ٢/ ٧٣.
فكيف تكون بِدْعًا منهم؟! فان قيل: لم كسرت «إنّهم» ها هنا، وفتحت في براءة في قوله تعالى: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ «١» فقد بيّنّا عِلَّة فتح تلك فأما كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين:
أحدهما: أن تكون فيها واو للحال مضمرة، فكسرت بعدها «إِنّ» للاستئناف، فيكون التقدير: إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى: أَوْ هُمْ قائِلُونَ «٢»، والتأويل، أو وهم قائلون. والثاني: أن تكون كُسرت لإِضمار «مَنْ» قبلها، فيكون التقدير: وما أرسلنا قبلكَ من المرسَلين إِلا مَنْ إِنهم ليأكلون، قال الشاعر:
فظلُّوا ومنهم دَمْعُه سَابق له ... وآخَرُ يَثني دَمْعَة العَيْنِ بالمَهْلِ «٣»
أراد: مَن دمعُه.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة: الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغنيّ، يقول: لو شاء لجعلني غنيًّا، والأعمى بالبصير، والسقيم بالصحيح، قاله الحسن. والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فاذا أراد الشريف أن يُسْلِم فرأى الوضيع قد سبقه بالإِسلام أنف فأقام على كفره، قاله ابن السائب. والثالث: أن المستهزئين من قريش كانوا إِذا رأوا فقراء المؤمنين، قالوا: انظروا إِلى أتباع محمد من موالينا ورُذالتنا، قاله مقاتل.
فعلى الأول: يكون الخطاب بقوله: أَتَصْبِرُونَ لأهل البلاء. وعلى الثاني: للرؤساء، فيكون المعنى:
أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث: للفقراء والمعنى: أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم، فالمعنى: قد علمتم ما وُعِد الصابرون، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا بمن يصبر وبمن يجزع.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يخافون البعث لَوْلا أي: هلاّ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فكانوا رُسلًا إِلينا وأخبرونا بصدقك، أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا أنَّكَ رسوله، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: تكبَّروا حين سألوا هذه الآيات وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا قال الزجاج: العُتُوُّ في اللغة: مجاوزة القَدْرِ في الظُّلم. قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ فيه قولان: أحدهما: عند الموت. والثاني: يوم القيامة. قال الزجاج: وانتصب اليوم على معنى: لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة، و«يومَئِذٍ» مؤكِّد ل «يومَ يَرَوْنَ الملائكةَ» والمعنى أنهم يُمنَعون البُشرى في ذلك اليوم ويجوز أن يكون «يومَ» منصوبًا على معنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم أخبر فقال: لا بُشْرى والمجرمون ها هنا: الكفار.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا وقرأ قتادة، والضّحّاك، ومعاذ القارئ: «حُجْرًا» بضم الحاء.
قال الزجاج: وأصل الحجْر في اللغة: ما حجرتَ عليه، أي: منعتَ من أن يوصل إليه، ومنه حجر
(١) التوبة: ٥٤.
(٢) الأعراف: ٤.
(٣) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص ٥٧٠.
القضاة على الأيتام. وفي القائلين لهذا قولان «١»: أحدهما: أنهم الملائكة يقولون للكفار: حِجْرًا محجورًا، أي: حرامًا محرّمًا. وفيما حرَّموه عليهم قولان: أحدهما: البُشرى، فالمعنى: حرام محرَّم أن تكون لكم البشرى، قاله الضحاك، والفراء وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أن تدخلوا الجنة، قاله مجاهد. والثاني: أنه قول المشركين إِذا عاينوا العذاب، ومعناه الاستعاذة من الملائكة، روي عن مجاهد أيضًا. وقال ابن فارس: كان الرَّجل إِذا لقيَ مَن يخافه في الشهر الحرام، قال: حجرا محجورا أي: حرام عليكَ أذايَ، فاذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة، قالوا: حِجْرًا محجورًا، يظنُّون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.
قوله تعالى: وَقَدِمْنا قال ابن قتيبه: أي: قَصَدْنا وعَمَدْنا، والأصل أنَّ من اراد القُدوم إِلى موضع عَمَد له وقصده. قوله تعالى: إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي: من أعمال الخير فَجَعَلْناهُ هَباءً لأن العمل لا يُتقبَّل مع الشِّرك. وفي الهباء خمسة أقوال «٢»: أحدها: أنه ما رأيتَه يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوّة مثل الغبار، قاله عليّ رضي الله عنه، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، واللغويون والمعنى أنَّ الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء. والثاني: أنه الماء المُهراق، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ما تنسفه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. والرابع: أنه الشَّرر الذي يطير من النار إِذا أُضرمت، فاذا وقع لم يكن شيئًا، رواه عطيَّة عن ابن عباس. والخامس: أنه ما يسطع من حوافر الدَّواب، قاله مقاتل. والمنثور: المتفرِّق.
قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أفضل منزلًا من المشركين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال الزجاج: المَقيل: المُقام وقت القائلة، وهو النوم نصف النهار. وقال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إِذا اشتد الحرّ وإِن لم يكن مع ذلك نوم. وقال ابن مسعود، وابن عباس: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يَقِيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٧٨: يقول تعالى ذكره: يوم يرى هؤلاء الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا بتصديق محمد الملائكة، فلا بشرى لهم بخير وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك لأن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام.
ووافقه ابن كثير رحمه الله ٣/ ٣٩٠.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩١: وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، إذ إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشرّ فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْمًا عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (٢٩)
قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا هذا معطوف على قوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «تَشَّقَّقُ» بالتشديد، فأدغموا التاء فى الشين، لأن الأصل:
تتشقق. قال الفراء: المعنى: تتشقق السماء عن الغمام، وتنزل فيه الملائكة، و«على» و«عن» و«الباء» في هذا الموضع بمعنى واحد، لأن العرب تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وعلى القوس، والمعنى واحد. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: تتشقَّقُ السماء وعليها غمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، وخرج بثيابه، وإِنما تتشقَّق السماء لنزول الملائكة. قال ابن عباس: تتشقق السماء عن الغمام، وهو الغيم الأبيض، وتنزل الملائكة في الغمام. وقال مقاتل: المراد بالسماء: السّموات، تتشقق عن الغمام، وهو غمام أبيض كهيئة الضَّباب، فتنزل الملائكة عند انشقاقها. وقرأ ابن كثير: «ونُنْزِلُ» بنونين، الأولى مضمومة، والثانية ساكنة، واللام مضمومة، و«الملائكةَ» نصبًا. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني: «ونَزَّلَ» بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب «الملائكةَ» . وقرأ ابن يعمر: «ونَزَلَ» بفتح النون واللام والزاي والتخفيف «الملائكةُ» بالرفع. قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قال الزجاج: المعنى: المُلْك الذي هو المُلْك حقًّا للرحمن «١» . فأما العسير، فهو الصعب الشديد يشتد على الكفار، ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٠٤٩) أحدها: أن أُبيَّ بن خَلَف كان يحضر عند رسول الله ﷺ ويجالسه من غير أن يؤمن به، فزجره عُقبة بن أبي مُعَيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس.
(١٠٥٠) والثاني: أن عُقبة دعا قومًا فيهم رسول الله ﷺ لطعام فأكلوا، وأبى رسول الله ﷺ أن يأكل، وقال: «لا آكل حتى تَشهد أن لا إِله إِلا الله وأنِّي رسولُ الله»، فشهد بذلك عقبة، فبلغ ذلك
أخرجه الطبري ٢٦٣٤٧، وإسناده ضعيف جدا، فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس، وفيه إرسال بين عطاء الخراساني وابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٣٥١ عن مجاهد به. وأخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٤٠١ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره، والكلبي كذاب متهم، وأبو صالح ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٧ م و«الوسيط» ٣/ ٣٣٩ بدون إسناد.
الخلاصة: الخبر واه، وتخصيص الآية بواحد من بدع التأويل، بل «ال» في الظالم لاستغراق الجنس، فالآية تعم كل ظالم كافر، وعقبة داخل في العموم ومثله أبي بن خلف وغيرهما.
_________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩٣: وقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وفي الصحيح: «أن الله يطوي السموات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده ثم يقول: أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» .
أُبيَّ بن خَلَف، وكان خليلًا له، فقال: صبوت يا عقبة؟ فقال: لا والله، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك، وليس من نفسي، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(١٠٥١) والثالث: أن عُقبة كان خليلًا لأُميَّة بن خَلَف، فأسلم عُقبة، فقال أُمية: وجهي من وجهك حرام إِن تابعتَ محمدًا، فكفر وارتدَّ لرضى أُميَّة، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي.
فأمّا الظالم المذكور ها هنا، فهو الكافر، وفيه قولان:
أحدهما: أنه أُبيُّ بن خَلَف، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: عُقبة بن أبي مُعَيط، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال عطاء: يأكل يديه حتى تذهبا إِلى المرفقين، ثم تنبتان، فلا يزال هكذا كلَّما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.
قوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ الأكثرون يسكِّنون «يا ليتني»، وأبو عمرو يحرِّكها، قال أبو علي:
والأصل التحريك، لأنها بازاء الكاف التي للخطاب، إِلا أن حرف اللِّين تكره فيه الحركة، ولذلك أسكن من أسكن والمعنى: ليتني اتَّبعتُه فاتَّخذتُ معه طريقًا إلى الهُدى.
قوله تعالى: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه عنى أُبيَّ بن خَلَف، قاله ابن عباس. والثاني: عقبة بن أبي مُعَيط، قاله أبو مالك. والثالث: الشيطان، قاله مجاهد. والرابع:
أميّة بن خَلَف، قاله السدي. فان قيل: إِنما يكنى من يخاف المبادأة أو يحتاج إِلى المُداجاة، فما وجه الكناية؟ فالجواب: أنه أراد بالظالم: كلَّ ظالم، وأراد بفلان: كلَّ من أُطيع في معصية الله وأُرضي بسخط الله، وإِن كانت الآية نزلت في شخص، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي: صرفني عن القرآن والإِيمان به بَعْدَ إِذْ جاءَنِي مع الرسول، وها هنا تم الكلام. ثم قال الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ يعني: الكافر خَذُولًا يتبرأ منه في الآخرة.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا وَنَصِيرًا (٣١)
قوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يعني محمّدا ﷺ، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة فالمعنى: ويقول الرسول يومئذ. وذهب آخرون، منهم مقاتل، إِلى أن الرسول قال ذلك شاكيًا من قومه إِلى الله تعالى حين كذَّبوه «١» . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «إِن قوميَ اتخذوا» بتحريك الياء وأسكنها عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٣٤٨ عن الشعبي هكذا مرسلا.
_________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩٤: يقول الله تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد ﷺ دائما إلى يوم الدين- أنه قال: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، وكانوا إذا تلي عليهم أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه وترك تفهمه وتدبره من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك العمل به من امتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره، من هجرانه. فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهّاب.
وفي المراد بقوله: مَهْجُورًا قولان: أحدهما: متروكًا لا يلتفتون إِليه ولا يؤمنون به، وهذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: هجَروا فيه، أي: جعلوه كالهذَيان، ومنه يقال: فلان يَهْجُر في منامه، أي: يَهْذِي، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: الهُجْر: ما لا يُنتفع به من القول: قال المفسرون:
فعزّاه الله عز وجل، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: كما جعلنا لك أعداءً من مشركي قومك، جعلنا لكلِّ نبيّ عدوًّا من كفّار قومه والمعنى: لا يَكْبُرَنَّ هذا عليك، فلك بالأنبياء أسوة وَكَفى بِرَبِّكَ هادِيًا لك وَنَصِيرًا يمنعك من عدوِك. قال الزجاج: والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدة فالمعنى: كفى ربُّك هاديا ونصيرا.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٣٤)
قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي: كما أُنزلت التوراةُ والإِنجيل والزَّبور، فقال الله عز وجل: كَذلِكَ أي: أنزلناه كذلك متفرِّقًا، لأن معنى ما قالوا: لِمَ نُزِّل عليه متفرِّقًا؟ فقيل:
إِنما أنزلناه كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي: لنُقَوِّي به قلبَك فتزداد بصيرة، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كل أمر وحادثة، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه، وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة.
قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ يعني المشركين بِمَثَلٍ يضربونه لك في مخاصمتك وإِبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالذي هو الحقّ لنردّ به كيدهم وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا من مَثَلهم والتفسير: البيان والكشف. قال مقاتل: ثم أخبر بمستقرِّهم في الآخرة، فقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ وذلك أن كفار مكة قالوا: إِن محمدًا وأصحابه شُرُّ خلق الله، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكانًا أي: منزلًا ومصيرًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا دينًا وطريقًا من المؤمنين.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذابًا أَلِيمًا (٣٧) وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا (٣٨) وَكُلًاّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًاّ تَبَّرْنا تَتْبِيرًا (٣٩)
قوله تعالى: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. إِن قيل: إِنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة، فكيف يقع التكذيب منهم قبل وجود الآيات؟ فالجواب: أنهم كانوا مكذِّبين أنبياءَ الله وكتبه
المتقدِّمة، ومن كذَّب نبيًّا فقد كذَّب سائر الأنبياء، ولهذا قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وقال الزجاج: يجوز ان يكون المرادَ به نوحٌ وحده، وقد ذُكر بلفظ الجنس، كما يقال: فلان يركب الدوابّ، وإِن لم يركب إِلا دابّة واحدة وقد شرحنا هذا في سورة هود عند قوله: وَعَصَوْا رُسُلَهُ «١» . وقد سبق معنى التّدمير.
قوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ في الرَّسِّ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بئر كانت تسمى الرَّسِّ، قاله ابن عباس في رواية العوفي. وقال في رواية عكرمة: هي بئر بأذربيجان. وزعم ابن السائب أنها بئر دون اليمامة. وقال السدي: بئر بأنطاكية. والثاني: أن الرَّسَّ قرية من قرى اليمامة، قاله قتادة. والثالث: أنها المَعْدِن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة.
وفي تسميتها بالرَّسِّ قولان: أحدهما: أنهم رَسُّوا نبيَّهم في البئر، قاله عكرمة. قال الزجاج:
رَسُّوه، أي: دَسُّوه فيها. والثاني: أن كل رَكِيَّة لم تطو فهي رَسٌّ، قاله ابن قتيبة.
واختلفوا في أصحاب الرَّسِّ على خمسة أقوال «٢»: أحدها: أنهم قوم كانوا يعبدون شجرة، فبعث الله إِليهم نبيًّا من ولد يهوذا بن يعقوب، فحفروا له بئرًا وألقَوه فيها، فهلكوا، قاله عليّ بن أبي طالب.
والثاني: أنهم قوم كان لهم نبيّ يقال له: حنظلة بن صفوان، فقتلوا نبيَّهم فأهلكهم الله، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنهم كانوا أهل بئر ينزلون عليها، وكانت لهم مواشٍ، وكانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إِليهم شُعيبًا، فتمادَوا في طغيانهم، فانهارت البئر، فخُسف بهم وبمنازلهم، قاله وهب بن منبه.
والرابع: أنهم الذين قتلوا حبيبًا النجار، قتلوه في بئر لهم، وهو الذي قال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ «٣»، قاله السدي. والخامس: أنهم قوم قتلوا نبيَّهم وأكلوه، وأولُ من عمل السحر نساؤهم، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَقُرُونًا المعنى: وأهلكنا قرونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا أي: بين عاد وأصحاب الرّسّ.
وقد سبق بيان القرون «٤» وفي هذه القصص تهديد لقريش.
قوله تعالى: وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي: أعذرنا إِليه بالموعظة وإِقامة الحجَّة وَكُلًّا تَبَّرْنا قال الزجاج: التَّتبير: التدمير، وكل شىء كسرته وفتّتّه فقد تبَّرته، وكُسارته: التِّبر، ومن هذا قيل لمكسور الزّجّاج: التّبر، وكذلك تبر الذهب.
(١) هود: ٥٩.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩٧: واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود، الذين ذكروا في سورة البروج، والله أعلم.
(٣) يس: ٢٠. [.....]
(٤) الأنعام: ٦. قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٩٧: وقوله وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا أي: وأمما بين أصناف من ذكر أهلكناهم كثيرة، والقرن: هو الأمة من الناس، كقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ وحدّه بعض المفسّرين بمائة وعشرين سنة، وقيل: بمائة سنة. وقيل: بثمانين سنة، وقيل: أربعين. وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ... الحديث.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٤٠ الى ٤٤]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا يعني كفار مكة عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني قرية قوم لوط التي رُميتْ بالحجارة أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أسفارهم فيعتبروا؟! ثم أخبر بالذي جرَّأهم على التكذيب، فقال: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا أي: لا يخافون بعثًا، هذا قول المفسرين. وقال الزجاج: الذي عليه أهل اللغة أن الرجاء ليس بمعنى الخوف، وإِنما المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب عمل الخير، فركبوا المعاصي.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي: ما يتخذونك إِلَّا هُزُوًا أي: مهزوءًا به، ثم ذكر ما يقولون من الاستهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي: ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي: على عبادتها قال الله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ في الآخرة مَنْ أَضَلُّ أي: مَنْ أَخطأُ طريقًا عن الهدى، أهم، أم المؤمنون. ثم عجَّب نبيَّه من جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إِليه الهوى، فقال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر، فاذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخَر. وقال قتادة: هو الكافر لا يهوى شيئًا إِلا ركبه. وقال ابن قتيبة: المعنى: يتَّبع هواه ويدع الحقَّ، فهو له كالإِله. قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي: حفيظا يحفظه من اتِّباع هواه. وزعم الكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
قوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ يعني أهل مكة والمراد: يسمعون سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من الحُجج والأعلام إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ وفي وجه تشبيههم بالأنعام قولان: أحدهما: أن الأنعام تسمع الصوت ولا تفقه القول. والثاني: أنه ليس لها همٌّ إِلا المأكل والمشرب. قوله تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها وتنقاد لأربابها وتُقبل على المحسِن إِليها، وهم على خلاف ذلك.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٤٥ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا وَالنَّوْمَ سُباتًا وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعامًا وَأَناسِيَّ كَثِيرًا (٤٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا (٥٢)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي: إِلى فِعْل ربِّك. وقال الزجاج: معناه: ألم تعلم، فهو من رؤية القلب، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فالمعنى: ألم تر إِلى الظِّلِّ كيف مَدَّه ربُّك؟ والظِّلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا أي: ثابتا لا يزول ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فالشمس دليل على الظل، فلولا الشمس ما عُرف أنه شيء، كما أنه لولا النُّور ما عُرفت الظُّلمة، فكل الأشياء تُعرف بأضدادها. قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يعني: الظل قَبْضًا يَسِيرًا وفيه قولان: أحدهما: سريعًا، قاله ابن عباس. والثاني: خفيًّا، قاله مجاهد. وفي وقت قبض الظل قولان: أحدهما: عند طلوع الشمس يُقبض الظِّل وتُجمع أجزاؤه المنبسطة بتسليط الشمس عليه حتى تنسجه شيئًا فشيئًا. والثاني: عند غروب الشمس تُقبض أجزاء الظِّل بعد غروبها، ويخلّف كل جزء منه جزءًا من الظلام.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا أي: ساترًا بظلمته، لأن ظلمته تغشى الأشخاص وتَشتمل عليها اشتمال اللباس على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتًا قال ابن قتيبة: أي: راحة، ومنه يوم السبت، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة، وكان الفراغ منه في يوم السبت، فقيل لبني إِسرائيل: استريحوا في هذا اليوم ولا تعملوا فيه شيئًا، فسمِي يوم السبت، أي: يوم الراحة، وأصل السبت: التَّمدُّد، ومن تمدَّد استراح. وقال ابن الأنباري: أصل السبت، القَطْع، فالمعنى: وجعلنا النوم قَطْعًا لأعمالكم. قوله تعالى:
وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا فيه قولان: أحدهما: تنتشرون فيه لابتغاء الرزق، قاله ابن عباس. والثاني: تُنشَر الرُّوح باليقظة كما تنشر بالبعث، حكاه الماوردي. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ قد شرحناه في الأعراف «١» إلى قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا يعني: المطر. قال الأزهري: الطَّهُور في اللغة: الطاهر المُطهِّر. والطَّهور ما يُتَطَهَّر به، كالوَضوء الذي يُتَوضَّأُ به، والفَطُور الذي يُفْطَر عليه.
قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو جعفر: «مَيِّتًا» بالتشديد. قال الزجاج: لفظ البلدة مؤنَّث، وإِنما قيل: «ميتًا» لأن معنى البلدة والبلد سواء. وقال غيره:
إِنما قال: «ميتًا»، لأنه أراد بالبلدة المكان. وقد سبق معنى صفة البلدة بالموت. ومعنى: «ونسقيه» «٢» .
وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «نسقيه» بفتح النون. فأما الأناسيُّ، فقال الزجاج: هو جمع إِنسيّ، مثل كرسيّ وكراسي، ويجوز أن يكون جمع إنسان، وتكون الياء بدلًا من النون، الأصل: أناسين مثل سَراحين. وقرأ أبو مجلز، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: «وأناسيَ» بتخفيف الياء.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ يعني المطر بَيْنَهُمْ مرة لهذه البلدة، ومرة لهذه لِيَذَّكَّرُوا أي:
ليتفكَّروا في نِعَم الله عليهم فيه فيحمدوه. وقرأ حمزة، والكسائي: «لِيَذْكُروا» خفيفة الذال. قال أبو علي: يَذَّكَّر في معنى يتذكَّر، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا وهم الذين يقولون: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، كفروا بنعمة الله. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا المعنى: إِنّا بعثناك إِلى جميع القُرى لعِظَم كرامتك، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وذلك أن كفار مكة دَعَوه إِلى دين آبائهم، وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي: بالقرآن جِهادًا كَبِيرًا أي: تامًّا شديدا.
(١) الأعراف: ٥٧.
(٢) الحجر: ٢٤.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ قال الزجاج: أي: خلَّى بينهما تقول: مرجتُ الدابَّة وأمرجتُها: إِذا خلَّيتَها ترعى. ومنه الحديث:
(١٠٥٢) «مَرِجَتْ عهودُهم وأماناتهم» أي: اختلطت.
قال المفسرون: والمعنى «١» أنه أرسلهما في مجاريهما، فما يلتقيان، ولا يختلط المَلِح بالعذب، ولا العذب بالمَلِحِ، وهو قوله تعالى: هذا يعني: أحد البحرين عَذْبٌ أي: طيِّب، يقال: عَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ. قال الزجاج: والفُرات صفة للعَذْب، وهو أشد الماء عُذوبة، والأُجَاج صفة للملح، وهو: المُرُّ الشديد المرارة. وقال ابن قتيبة: هو أشد الماء ملوحة، وقيل: هو الذي
صحيح. أخرجه أحمد ٢/ ٢١٢ وأبو داود ٤٣٤٣ من طريق يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب به من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهلال بن خباب حسن الحديث إذا لم يخالف ثقة. وأخرجه أحمد ٢/ ٢٢١ وأبو داود ٤٣٤٢ وابن ماجة ٣٩٥٧ من طريق أبي حازم، حدثنا عمارة بن عمرو به. وصححه الحاكم ٤/ ٤٣٥ ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه أحمد ٢/ ١٦٢ من طريق إسماعيل عن يونس عن الحسن أن عبد الله بن عمرو قال: وهذا إسناد فيه كلام. ويشهد له حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدولابي في «الكنى» ٢/ ٣٥ وصححه ابن حبان ١٨٤٩. وأخرجه البخاري ٤٧٨ من طريق حامد بن عمر عن بشر، عن عاصم عن واقد عن أبيه عن ابن عمر- أو ابن عمرو- «شبك النبي ﷺ أصابعه» . وعلقه البخاري ٤٨٠. قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، بهذا» . وقال الحافظ في الفتح ١/ ٥٦٦ بعد أن ذكر هذا: (وقد ساقه الحميدي في الجمع بين الصحيحين نقلا عن أبي مسعود)، وزاد هو:
«قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه» . وأخرجه أبو يعلى ٥٥٩٣ بتمامه: وهو عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن حول رسول الله ﷺ إذ ذكروا الفتنة أو ذكرت عنده»، قال: «إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» .
_________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٤٠٠: وقوله وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ... أي: خلق الماءين:
الحلو والملح. والحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال، واختاره ابن جرير وهذا لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات. والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس، فرّقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم. وقوله: وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي: مالح مر زعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب، وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت بعد الليلة الرابعة عشرة فأجرى الله تعالى- وله القدرة التامة- العادة بذلك فكل هذه البحار الساكنة مالحة الماء لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الجو بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة.
يُخالطه مرارةٌ، ويقال ماءٌ مِلح، ولا يقال مالح، والبرزخ: الحاجز. وفي هذا الحاجز قولان: أحدهما:
أنه مانع من قدرة الله تعالى، قاله الأكثرون، قال الزجاج: فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر. قال أبو سليمان الدمشقي: ورأيت عند عَبَّادان من سواد البصرة الماءَ العذب يَنحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المَدُّ من البحر، فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يُرى ماء البحر إِلى الخُضرة الشديدة، وماء دجلة إِلى الحُمرة الخفيفة فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبًا لا يخالطه شيء، وإِلى جانبه ماء البحر في مكان واحد. والثاني: أن الحاجز: الأرض واليَبَس، وهو قول الحسن، والأول أصح.
قوله تعالى: وَحِجْرًا مَحْجُورًا قال الفراء: أي: حرامًا محرَّمًا أن يغلب أحدهما صاحبه.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا أي: من النُّطفة بَشَرًا أي: إِنسانًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا أي: ذا نسب وصِهْرِ. قال علي عليه السلام: النَّسَب: ما لا يحل نكاحه، والصِّهر: ما يَحِلُّ نكاحه.
وقال الضحاك: النسب سبع، وهو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله تعالى: وَبَناتُ الْأُخْتِ، والصِّهر خمس، وهو قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إلى قوله: مِنْ أَصْلابِكُمْ «١» .
وقال طاوس: الرَّضاعة من الصِّهر. وقال ابن قتيبة: «نَسَبًا» أي: قرابة النَّسَب، «وصِهرًا» أي: قرابة النكاح. وكل شيء من قِبَل الزوج، مثل الأب والأخ، فهم الأحماء، واحدهم حَمًا، مثل: قَفًا، وحمو مثل أبو، وحمء مهموز ساكن الميم، وحَمٌ مثل أَبٍ. وحَمَاة المرأة: أُمُّ زوجها، لا لغة فيها غير هذه، وكلّ شيء من قِبَل المرأة، فهم الأَخْتان. والصِّهر يجمع ذلك كلّه. وحكى ابن فارس عن الخليل، أنه قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إِلا أَختان، ولأهل بيت المرأة إلّا أصهار. ومن العرب من يجعلهم أصهارًا كلّهم. والصَّهْر: إِذابة الشيء. وذكر الماوردي أن المَناكح سمِّيتْ صِهْرًا، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إِذا صُهِر.
قوله تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا فيه أربعة أقوال «٢»: أحدها: مُعينًا للشيطان على ربِّه، لأنّ عبادته الأصنام معاونة للشيطان. والثاني: مُعينًا للمشركين على أن لا يوحِّدوا الله تعالى. والثالث:
مُعِينًا على أولياء ربِّه. والرابع: وكان الكافر على ربِّه هيِّنًا ذليلًا، من قولك: ظَهَرتُ بفلان: إِذا جعلتَه وراء ظهرك ولم تلتفت إِليه. قالوا: والمراد بالكافر ها هنا أبو جهل.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورًا (٦٠)
(١) النساء: ٢٣.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٤١٠: يقول الله تعالى ذكره، ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم إذا عبدوها ولا تضرهم إذا تركوا عبادتها، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحل به ما أحل بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرس، فلم يكن لمن غضب عليه عنه ناصر، ولا له عنه دافع وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا فكان الكافر معينا للشيطان على ربه، مظاهرا له على معصيته.
قوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن وتبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ وهذا توكيد لصِدْقه، لأنه لو سأَلهم شيئًا من أموالهم لاتَّهموه، إِلَّا مَنْ شاءَ معناه: لكن من شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بإنفاق ماله في مرضاة الله، فَعَل ذلك، فكأنه قال: لا أسألكم لنفسي. وقد سبق تفسير الكلمات التي تلي هذه «١»، إلى قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا، و«به» بمعنى: «عنه»، قال ابن أحمر «٢»:
فإن تسألوني بالنّساء فإنّي ... بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وفي هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إِلى اسمه الرحمن، لأنهم قالوا: لا نعرف الرّحمن. الثالث: إِلى ما ذكر مِنْ خَلْق السموات والأرض وغير ذلك. وفي الخبير أربعة أقوال «٣»: أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس: والثاني: أنه الله تعالى، والمعنى: سلني فأنا الخبير، قاله مجاهد. والثالث: القرآن، قاله شمر. والرابع: مُسْلِمة أهل الكتاب، قاله أبو سليمان، وهذا يخرَّج على قولهم: لا نعرف الرَّحمن، فقيل: سَلُوا مُسَلِمة أهل الكتاب، فإنّ الله خاطب موسى في التوراة باسمه الرحمن، فعلى هذا، الخطاب للنبيّ ﷺ والمراد سواه.
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ يعني كفار مكة اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قال المفسرون: إِنهم قالوا: لا نعرف الرَّحمن إِلا رحمن اليمامة، فأنكروا أن يكون من أسماء الله تعالى، أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وقرأ حمزة، والكسائي: «يأمُرُنا» بالياء، أي: لِمَا يأمرنا به محمّد، وهذا استفهام إنكار، ومعناها: لا نسجد للرَّحمن الذي تأمرنا بالسجود له، وَزادَهُمْ ذِكر الرحمن نُفُورًا أي: تباعدًا من الإيمان.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٦١ الى ٦٢]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا (٦٢)
قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا قد شرحناه في الحجر «٤»: والمراد بالسراج: الشمس. وقرأ حمزة، والكسائي: «سُرُجًا» بضم السين والراء وإِسقاط الألف. قال الزجاج:
أراد: الشمس والكواكب العظام ويجوز «سُرْجًا» بتسكين الراء، مثل رُسْل ورُسُل. قال الماوردي: لما اقترن بضوء الشمس وهج حَرِّها، جعلها لأجل الحرارة سراجًا، ولمّا عدم ذلك في القمر جعله نورا.
(١) البقرة: ٣٠ وآل عمران: ١٥٩ والأعراف: ٥٤.
(٢) بل هو علقمة بن عبدة والبيت في ديوانه ١١ و«أدب الكاتب» ٥٠٥.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٤٠٢: وقوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا أي: استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد ﷺ فهو سيد ولد آدم على الإطلاق، في الدنيا والآخرة، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى- فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب ردّ نزاعهم إليه، فما يوافق أقواله أفعاله فهو الحق، وما يخالفها فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان. قال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
(٤) الحجر: ١٦.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً فيه قولان: أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة. والثاني: أن كل واحد منهما يَخْلُفُ صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير:
بِهَا العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ «١»
أي: إِذا ذهبت طائفة جاءت طائفة.
قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يتَّعظ ويعتبر باختلافهما. وقرأ حمزة: «يَذْكُرَ» خفيفة الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكَّر، أَوْ أَرادَ شكر الله تعالى فيهما.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٦٣ الى ٦٧]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا (٦٧)
قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ وقرأ عليّ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن السميفع: «يُمَشَّون» برفع الياء وفتح الميم والشين وبالتشديد. قال ابن قتيبة: إِنما نسبهم إِليه لاصطفائه إِياهم، كقوله تعالى: ناقَةُ اللَّهِ «٢»، ومعنى «هَوْنًا»: مشيًا رويدًا. ومنه يقال: أَحْبِبْ حبيبك هَوْنًا ما.
وقال مجاهد: يمشون بالوقار والسكينة. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا أي: سَدادًا. وقال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جهل عليهم حَلُموا. وقال مقاتل بن حيّان: «قالوا سلامًا» أي:
قولًا يسْلَمون فيه من الإِثم. وهذه الآية محكمة عند الأكثرين. وزعم قوم أن المراد بها أنهم يقولون للكفار: ليس بيننا وبينكم غير السلام، ثم نُسخت بآية السيف.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ قال الزجاج: كل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم يقال: بات فلان قلِقًا، إِنما المبيت إِدراك الليل.
قوله تعالى: كانَ غَرامًا فيه خمسة أقوال تتقارب معانيها:
(١٠٥٣) أحدها: دائمًا، رواه أبو سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ.
والثاني: موجِعًا، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مُلِحًّا، قاله ابن السائب وقال ابن جريج:
أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٥/ ١٤٢، ولم أقف على إسناده، وتفرده به يدل على وهنه، ولم يذكره القرطبي ولا ابن كثير ولا غيرهما. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٩٨ بتخريجنا.
_________
(١) في «اللسان» العين: جمع عيناء، وهي واسعة العين، وهي بقر الوحش. والآرام: جمع رئم، وهو الظبي الخالص البياض. والأطلاء: جمع الطلا: وهو الولد من ذوات الظلف والخف، والطلو والطلا: الصّغير من كل شيء. والمجثم: المربض. وهو الموضع الذي يجثم فيه، أي يقام فيه.
(٢) الأعراف: ٧٣.
لا يفارق. والرابع: هلاكًا، قاله أبو عبيدة: والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر:
وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا ... رِكانَا عذابًا وكانَا غَرَامًا»
قاله الزجاج.
قوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يَقْتِروا» مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَقْتُروا» بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «يُقْتِروا» بضم الياء وكسر التاء. وفي معنى الكلام قولان «٢»: أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لا بُدَّ منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفًا أن يأكل كلَّ ما اشتهى. والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج في آخرين. قوله تعالى: وَكانَ يعني الإِنفاق بَيْنَ ذلِكَ أي: بين الإِسراف والإِقتار قَوامًا أي: عَدْلًا قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف:
الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٠٥٤) أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله ﷺ أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: «أن تَجْعَلَ لله نِدًّا وهو خَلَقَكَ»، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك»، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك»، فأنزل الله تعالى تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ الآية.
(١٠٥٥) والثاني: أن ناسًا من أهل الشرك قَتلوا فأكثَروا وزَنَوْا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ الله ﷺ فقالوا: إِن الذي تقولُ وتدعو إِليه لَحَسَنٌ لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة، فنزلت هذه الآية إلى قوله
صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٢٠ ومسلم ١/ ٩٠ ح ٨٦ والترمذي ٣١٨٣ والنسائي ٧/ ٩٠ وأحمد ١/ ٣٨٠ و٤٣١ و٤٣٤ من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٩٩ و«تفسير القرطبي» ٤٧٢٠.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٠ ومسلم ١٢٢ وأبو داود ٤٢٧٤ والنسائي في «التفسير» ٤٦٩ والحاكم ٢/ ٤٠٣ والبيهقي ٩/ ٩٨ والواحدي في أسباب النزول ٦٥٨ من طريق يعلى بن مسلم به.
وأخرجه الطبري ٢٦٥١٢ من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.
_________
(١) البيت لبشر بن أبي خازم، كما في «تفسير الطبري» ٩/ ٤١٠ وفي «اللسان» - غرم- نسبه للطرماح.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٤١٢: والصواب من القول أن معنى الإسراف الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام بين ذلك. [.....]
تعالى: غَفُورًا رَحِيمًا، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(١٠٥٦) والثالث: أن وحشيّا أتى النبيّ ﷺ فقال: يا محمد أتيتك مستجيرًا فأجِرني حتَى أسمع كلام الله، فقال رسول الله ﷺ: قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار، فأما إِذا أتيتَني مستجيرًا فأنت في جواري حتى تَسمع كلام الله، قال: فإنِّي أشركت بالله وقتلتُ النَّفْس التي حرَّم الله وزنيتُ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله ﷺ حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطًا، فلعلِّي لا أعمل صالحًا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية «١»، فقال: نعم، الآن لا أرى شرطًا، فأسلم، رواه عطاء عن ابن عباس وهذا وحشيّ هو قاتل حمزة وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحّة، والمحفوظ في إِسلامه غير هذا، وأنه قَدِم مع رسل الطّائف فأسلم من غير اشتراط.
وقوله تعالى: يَدْعُونَ معناه: يَعْبُدون. وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في الأنعام «٢» .
قوله تعالى: يَلْقَ أَثامًا وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: «يُلَقَّ» برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يَلْقَ جزاءً. وقال مجاهد، وعكرمة: هو وادٍ في جهنم. وقال ابن قتيبة: يَلْقَ عقوبة، وأنشد:
جَزَى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى ... عُقُوقًا والعُقُوق لَهُ أثام «٣»
قال الزجاج: وقوله تعالى: يَلْقَ أَثامًا جزم على الجزاء. قال أبو عمرو الشيباني: يقال: قد لقيَ أثام ذلك، أي: جزاء ذلك، وسيبويه والخليل يذهبان إِلى أن معناه: يلقى جزاء الأثام. قال سيبويه: وإنما جزمت «يُضَاعَفْ له العذابُ» لأن مضاعفة العذاب لُقِيُّ الآثام، فلذلك جزمت، كما قال الشاعر:
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا ... تَجِدْ حَطَبًا جزْلًا ونارًا تَأجَّجَا
لأن الإِتيان هو الإِلمام، فجزم «تُلْمِمْ» لانه بمعنى «تأتي» . وقرأ الحسن: «يُضَعَّفْ»، وهو جيِّد بالغ تقول: ضاعفتُ الشيءَ وضَعَّفْتُه. وقرأ عاصم: «يُضَاعَفُ» بالرفع على تفسير «يَلْقَ أثامًا» كأنّ قائلًا قال: ما لُقيُّ الأثام؟ فقيل: يُضاعَف للآثم العذاب. وقرأ أبو المتوكل، وقتادة، وأبو حيوة: «يُضْعَف» برفع الياء وسكون الضاد وفتح العين خفيفة من غير ألف. وقرأ أبو حصين الأسدي، والعمري عن أبي
واه. أخرجه الواحدي ٦٦٠ والطبراني ١١٤٨٠ من حديث ابن عباس، قال في المجمع ٧/ ١٠١: فيه أبين بن سفيان ضعفه الذهبي اه. والمتن بهذا اللفظ، وأن وحشيا تردد حتى نزل فيه آيات باطل لا أصل له، وله علة ثانية وهي عنعنة ابن جريج. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٥١٧ بتخريجنا.
_________
(١) الزمر: ٥٣.
(٢) الأنعام: ١٥١.
(٣) البيت لبلعاء بن قيس الكناني كما في «غريب القرآن» ٣١٥. ونسبه في «اللسان» - أثم- إلى شافع الليثي.
والعقوق: عدم بر الوالدين وقطع صلتهما.
جعفر مثله، إِلا أن العين مكسورة، و«العذابَ» بالنصب.
قوله تعالى: وَيَخْلُدْ وقرأ أبو حيوة وقتادة والأعمش: «ويُخْلَد» برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهم شدَّدوا اللام.
فصل:
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة وفي ناسخها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «١»، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في النساء مدنية. والثاني: أنها نسخت بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الآية «٢» . والثالث: أنّ الأولى نسخت بالثانية، وهي: إِلَّا مَنْ تابَ.
والقول الثاني: أنها محكمة والخلود إِنما كان لانضمام الشرك إِلى القتل والزنا. وفساد القول الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليدًا عند الأكثرين وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «٣»، والشِّرك لا يُغْفَر إِذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ. قال ابن عباس:
(١٠٥٧) قرأنا على عهد رسول الله سنتين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ ثم نزلت إِلَّا مَنْ تابَ فما رأيتُ رسولَ الله ﷺ فرح بشيء فرحه بها، وب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.
قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه، فقال ابن عباس: يبدِّل الله شركهم إِيمانًا، وقتلهم إِمساكًا، وزناهم إِحصانًا وهذا يدل: أولا:
على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدِّل الله سيئات المؤمن إِذا غفرها له حسنات، حتى إِن العبد يتمنَّى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: وَدَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذُّنوب فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.
(١٠٥٨) ويؤكِّد هذا القولَ حديثُ أبي ذرّ عن النبيّ ﷺ: «يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيقال:
ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٩٧٢ والطبراني في «الكبير» ١٢٩٣٥ والواحدي ٣/ ٣٤٧ من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٨٤ وقال: رواه الطبراني من رواية علي بن زيد عن يوسف بن مهران، وقد وثقا، وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات. كذا قال رحمه الله، وما ذكره لعله يصدق على يوسف بن مهران، فقد قال عنه الحافظ. لين الحديث، وأما علي بن زيد فضعيف. وقد ضعفه الجمهور، وجزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، وقد روى مناكير كثيرة، وشيخه يوسف بن مهران، وثقة أبو زرعة وابن حبان، وقال أحمد: لا يعرف.
صحيح. أخرجه مسلم ١٩٠ والترمذي ٢٥٩٦ وأحمد ٥/ ١٧٠ وابن حبان ٧٣٧٥ وأبو عوانة ١/ ١٦٩- ١٧٠ وابن مندة في «الإيمان» ٨٤٧- ٨٤٩ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه الترمذي في «الشمائل» ٢٢٩ والبغوي ٤٢٥٦ من طرق كلهم من حديث أبي ذر.
_________
(١) النساء: ٩٣.
(٢) النساء: ٤٨.
(٣) النساء: ٩٣.
اعرضوا عليه صِغار ذنوبه، فتُعْرَض عليه صِغار ذنوبه، وتنحّى عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا، كذا وكذا، وهو مُقِرّ لا يُنْكِر، وهو مُشْفِق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة»، أخرجه مسلم في «صحيحه» .
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا (٧٤)
قوله تعالى: وَمَنْ تابَ ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة. وقال ابن عباس: يعني:
ممن لم يَقْتُل ولم يزن، وَعَمِلَ صالِحًا فانّي قد قدَّمتُهم وفضَّلتُهم على من قاتل نبيّي واستحلَّ محارمي.
قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا قال ابن الأنباري: معناه: من أراد التوبة وقصد حقيقتها، فينبغي له أن يُريد اللهَ بها ولا يخلط بها ما يُفسدها وهذا كما يقول الرجل: من تجر فانه يتّجر في البزّ، ومن ناظر فانه يناظر في النحو، أي: من أراد ذلك، فينبغي أن يقصد هذا الفن قال: ويجوز أن يكون معنى هذه الآية: ومن تاب وعمل صالحًا، فان ثوابه وجزاءه يعظُمان له عند ربِّه الذي أراد بتوبته، فلما كان قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا يؤدِّي عن هذا المعنى، كفى منه، وهذا كما يقول الرجل للرجل:
إِذا تكلَّمتَ فاعلم أنك تكلِّم الوزير، أي تكلِّم من يَعرف كلامك ويجازيك، ومثله قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، أي: فاني أتوكَّل على من ينصرني ولا يُسْلِمني. وقال قوم: معنى الآية: فانه يرجع إِلى الله مرجعًا يقبله منه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فيه ثمانية أقوال «١»: أحدها: أنه الصَّنم، روى الضحاك عن ابن عباس ان الزُّور صنم كان للمشركين. والثاني: أنه الغناء، قاله محمّد ابن الحنفية، ومكحول وروى ليث عن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء. والثالث: الشِّرك، قاله الضحاك، وأبو مالك. والرابع:
لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة. والخامس: الكذب، قاله قتادة، وابن جريج. والسادس: شهادة الزور، قاله عليّ بن أبي طلحة. والسابع: أعياد المشركين، قاله الرّبيع بن أنس. والثامن: أنه الخنا، قاله عمرو بن قيس. وفي المراد باللّغو ها هنا خمسة أقوال «٢»: أحدها: المعاصي، قاله الحسن. والثاني: أذى المشركين إِياهم، قاله مجاهد. والثالث: الباطل، قاله قتادة. والرابع: الشِّرك، قاله الضحاك. والخامس:
إِذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقال محمد بن علي: إِذا ذكروا الفروج كنّوا عنها.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٤٢١: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل بذلك لأنه محسن لأهله، حتى ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يعنيه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه، لتحسين صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور فالتأويل: الذين لا يشهدون شيئا من الباطل، وكل ما لزمه اسم الزور.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٤٢٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح، وكل ما يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عني به بعض ذلك دون بعض.
قوله تعالى: مَرُّوا كِرامًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مَرُّوا حُلَماء، قاله ابن السائب. والثاني:
مَرُّوا مُعْرِضِين عنه، قاله مقاتل. والثالث: أن المعنى إِذا مَرُّوا باللغو جاوزوه، قاله الفراء. قوله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي: وُعِظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وهي القرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانًا قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنّهم صُمٌّ لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يَرَوا، وإِن لم يكونوا خَرُّوا حقيقة تقول العرب:
شتمت فلانًا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظلَّ يتحيَّر، وإِن لم يكن قام ولا قعد. قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وذُرِّيَّاتِنَا» على الجمع. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «وذُرِّيَّتِنَا» على التوحيد، قُرَّةَ أَعْيُنٍ وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: «قُرَّاتَ أَعْيُنٍ» يعنون: من يعمل بطاعتك فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة. وسئل الحسن عن قوله: «قُرَّةَ أعين» في الدنيا، أم في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأيُّ شيء أقَرُّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يُطيعون الله، والله ما طلب القوم إِلا أن يُطاع الله فتَقَرّ أعينهم. قال الفراء: إِنما قال: «قُرَّةَ» لأنها فعل، والفعل لا يكاد يُجمع، ألا ترى إِلى قوله: وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا «١» فلم يجمعه والقُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينه قُرَّة، ولو قيل: قُرَّة عين أو قُرَّات أعين كان صوابًا. وقال غيره: أصل القُرَّة من البَرْد، لأن العرب تتأذى بالحَرِّ، وتستروح إِلى البَرْد.
قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا فيه قولان: أحدهما: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا، قاله ابن عباس. وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به الجمع، كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«٢»، وقوله:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «٣» . والثاني: اجعلنا مؤتمِّين بالمُتَّقِين مقتدين بهم، قاله مجاهد فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب، فالمعنى: واجعل المتّقين لنا إماما.
[سورة الفرقان (٢٥): الآيات ٧٥ الى ٧٧]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا (٧٧)
قوله تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قال ابن عباس: يعني الجنة. وقال غيره: الغرفة: كل بناءٍ عالٍ مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزَّبَرجد والدُّرّ والياقوت، بِما صَبَرُوا على دينهم وعلى أذى المشركين. قوله تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «ويُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ويَلْقَوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، تَحِيَّةً وَسَلامًا قال ابن عباس: يُحيِّي بعضُهم بعضًا بالسلام، ويرسل إليهم الرّبّ عز وجل بالسلام. وقال مقاتل: «تحيةً» يعني السلام، «وسلامًا» أي: سلَّم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم. قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
(١) الفرقان: ٤٤.
(٢) الشعراء: ١٦.
(٣) الشعراء: ٧٧.
أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس. والثاني: أيّ وزن يكون لكم عنده تقول: ما عبأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا قَدْر، قاله الزجاج. والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: لَوْلا دُعاؤُكُمْ أربعة أقوال: أحدها: لولا إِيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لولا دعاؤه إِيّاكم لِتعبُدوه، قاله مجاهد والمراد نفع الخَلْق، لأن الله تعالى غير محتاج. والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج. وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إِضمار وقال ابن قتيبة: فيها إِضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تَدْعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر:
مَنْ شَاءَ دَلَّى النَّفْسَ في هُوَّةٍ ... ضَنْكٍ ولكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيقْ
أي: بالخروج من المضيق. وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان. فأما قوله تعالى:
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فهو خطاب لأهل مكة حين كذَّبوا رسول الله ﷺ، فَسَوْفَ يَكُونُ يعني: تكذيبكم لِزامًا أي: عذابًا لازمًا لكم وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقُتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازمًا لهم، وهذا مذهب ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومجاهد في آخرين. والثاني:
أنه الموت، قاله ابن عباس. والثالث: أنّ اللّزام: القتال، قاله ابن زيد. والله أعلم بالصّواب.