[مقدمة] جميعها مدنية بلا خلاف، وهي من أوائل ما نزل، وآياتها مائتان وثمانون وسبع آيات.
ذكر ما ورد في فضلها
أولًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح.)
ثانيًا: وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «إنَّ لِكُلِّ شيءٍ سَنَامًا، وإنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ البقرة، وإن مَنْ قَرَأَهَا فِي بَيْتِهِ لَيْلَةً لَمْ يَدْخُلْهُ الشيطان ثلاث ليال» (رواه الطبراني وابن حبان وابن مردويه عن سهل بن سعد)
ثالثًا: وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْثًا - وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ - فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كل واحد منهم مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَتَى عَلَى رجلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: مَا مَعَكَ يَا فلان؟ فقال: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ أميرهم (رواه التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
رابعا: وعن أبي أمامة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «اقرأوا القرآن فإنه شافعٌ لأهل يوم القيامة، اقرأوا الزَّهْرَاوَيْنِ (الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ) فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ القيامة كأنهما عمامتان أو غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فَرَقان مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يحاجان عن أهلهما يوم القيامة، ثم قال: اقرأوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» (رواه أحمد ومسلم عن أبي أمامة الباهلي) الزهروانا: المنيرتان، وَالْغَيَايَةُ: مَا أَظَلَّكَ مِنْ فَوْقِكَ، والفَرَق: الْقِطْعَةُ من الشيء، والبطلة: السحرة.
خامسا: وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمهم سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عمران».
بسم الله الرحمن الرحيم
- ١ - الم
- ٢ - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للمتقين
﴿الم﴾ اخْتَلَفَ المفسِّرون فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَرَدُّوا عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهَا فقال بعضهم: هي أسماء السور، قال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْتَتَحُ بِهَا السُّوَرُ، فَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَلَّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وصفةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِ (اللَّهِ) وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ (لطيف) والميم مفتاح اسمه (مجيد) وقال آخرون: إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ التي ذكرت فيها بيانًا ل (إعجاز الْقُرْآنِ) وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، مع أنه مركب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الإمام (ابن تيمية) وشيخنا الحافظ (أبو الحجاج المزي).
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد مثل ﴿ص﴾ وحرفين مثل ﴿حم﴾ وثلاثة مثل ﴿الم﴾ وأربعة مثل ﴿المص﴾ وخمسة مثل ﴿كهيعص﴾ لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
قال ابن كثير: وَلِهَذَا كُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَبَيَانُ إِعْجَازِهِ وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: ﴿الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ ﴿المص كِتَابٌ أُنزِلَ إليك﴾ ﴿الم كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ ﴿الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ ريب فيه﴾ ﴿حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم﴾ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لِمَنْ أَمعن النَّظَرَ.
﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ قال ابن عباس: أي هذا الكتاب. والعربُ تعارض بين أسمي الْإِشَارَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَهَذَا معروفٌ في كلامهم. والكتابُ: القرآنُ، ومن قال: إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فَقَدْ أبعدَ النُجعة، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. والريبُ: الشَّكُّ، أي لا شك فيه، روي ذلك عن أُناسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ فِي هذا خلافًا.
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ، قَالَ جَمِيلٌ:
بثينةُ قَالَتْ: يَا جميلُ أَرَبْتَنِي * فقلتُ: كِلَانَا يَا بثينُ مُرِيبُ
وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا فِي الْحَاجَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ ريبٍ * وخيبر ثم أجممنا السيوفا
والمعنى: إن هذا الكتاب (الْقُرْآنُ) لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ عند الله كما قال تعالى: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالمين﴾ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خبرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ لا ترتابوا فيه. وخصت الهداية لِّلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْعِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ هُوَ فِي نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأرباب كما قال تعالى ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ قال السَّدي: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ يعني نورًا للمتقين، وعن ابن عباس: المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم. وقال قتادة: هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب ويقيمون الصلاة﴾، واختيار ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ الْآيَةَ تعمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وهو كما قال. وفي الحديث الشريف: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حتى يدع ما بأس به حذرًا مما به بأس» (رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن غريب).
ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقد على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحببت﴾ وقال: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وَقَالَ: ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقال: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وقال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾.
وَأَصْلُ التَّقْوَى التَّوَقِّي مِمَّا يَكْرَهُ لِأَنَّ أَصْلَهَا (وَقَوى) من الوقاية، قال الشاعر:
فألقتْ قِناعًا دُونَهُ الشمسُ واتَّقَت * بأحسنِ موصولينِ كفٍ معْصَم
وسأل عمرُ (أُبيَّ بْنَ كَعْبٍ) عَنِ التَّقْوَى فَقَالَ لَهُ: أَمَا سلكتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: شمَّرتُ واجتهدتُ، قَالَ: فذلك التقوى، وأخذ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ:
خَلِّ الذنوبَ صغيرَها * وكبيرَها ذاكَ التُّقَى
واصْنَع كماشٍ فوقَ أرْ *ضِ (أرض) الشَّوْكِ يحذَرُ مَا يَرَى
لَا تحقرنَّ صَغِيرَةً * إنَّ الجبال من الحصى
وفي سنن ابن ماجه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» (رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه.
- ٣ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
الإيمان في اللغة يُطلق على التصديق المحض كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ وكذلك إذا استعمل مقرونًا مع الأعمال: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وعملوا الصالحات﴾ فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولًا عملًا، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الْكَلَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ومنهم من فسره بالخشية: ﴿إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ ربهم بالغيب﴾ والخشيةُ خلاصة الإيمان العلم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾.
وأما الغيب المراد ههنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، فقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وجنته ولقائه، وبالحياة بعد الموت فهذا غيبٌ كله. وقال السُّدي عن ابن عباس وابن مسعود: الغيبُ ما غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النار وما ذكر في القرآن. وقال عطاء: من آمن بالله فقد آمن بالغيب. فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد.
روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قَالَ:»كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ وما سبقونا به، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أحدٌ قَطُّ إِيمَانًا أفضلَ مِنْ إيمانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قرأ: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب - إلى قوله - المفلحون (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ: وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه)﴾ وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عَنِ (ابْنِ محيريزٍ) قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جُمُعَةَ حدثْنا حَدِيثًا سَمعته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ نَعَمْ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا جَيِّدًا: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ، قَالَ: نَعَمْ قومٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي» (رواه أحمد عن أبي جمعة الأنصاري وله طرق أخرى) وفي رواية أُخرى عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ (رجاء بن حيوة) رضي الله عنه، فَلَمَّا انْصَرَفَ خَرَجْنَا نشيِّعه فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ: إنَّ لَكُمْ جَائِزَةً وَحَقًّا، أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قُلْنَا: هَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومعنا معاذ ابن جَبَلٍ عَاشِرُ عَشَرَةٍ - فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هل من قومٍ أعظم منا أجرًا؟ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بَيْنَ لَوْحَيْنِ، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ، أولئك أعظم منكم أجرًا، أولئك أعظم منكم أجرًا» (رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عن صالح بن جبير عن بي جمعة).
وقوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إتمامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا ووضوئها، وركوعها وسجودها.
وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ، قَالَ الْأَعْشَى:
لَهَا حارسٌ لَا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها * وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما
وقال الأعشى أيضًا:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صليتِ فَاغْتَمِضِي * نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا
يَقُولُ: عَلَيْكِ مِنَ الدُّعَاءِ مِثْلَ الَّذِي دَعَيْتِهِ لِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة.
﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ قال ابن عباس: زكاة أموالهم. وقال نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: نفقةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تنزل الزكاة. وقال قتادة: فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٍ وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ في الزكاة والنفقات. قال ابن كثير: كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدِهِ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِمْ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْمُمَالِيكُ ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فكلٌ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ داخلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
- ٤ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
قَالَ ابْنُ عباس: يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ (الْآخِرَةُ) لِأَنَّهَا بَعْدَ الدُّنْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:
أحدها: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا هُمُ الْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا، وَهُمْ كُلُّ مؤمنٍ، مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَمُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ.
والثاني: هم مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَيْنِ تَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةُ صفاتٍ عَلَى صِفَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فسوَّى والذي قدَّر فهدى﴾ فعطف الصفات بَعْضَهَا على بَعْضٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا مُؤْمِنُو الْعَرَبِ، وَالْمَوْصُوفُونَ ثانيًا بقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ هم مؤمنو أهل الكتاب، واختاره ابن جرير ويستشهد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ وبما روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي، وَرَجُلٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ أدّب جاريته
فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها» (رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري).
قلت: والظاهر قول مجاهد: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآياتان فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ اتَّصَفَ بِهَا مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَكِتَابِيٍّ، مِنْ إِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ، وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الأُخرى، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَلْزِمَةٌ للأُخرى، وَشَرْطٌ مَعَهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ من قبل﴾ وقال تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وأُنزل إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ﴾ وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ الْآيَةَ.
- ٥ - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون
يقول تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ﴾ أَيْ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الَّذِي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول، والإيقان بالآخرة ﴿على هُدًى﴾ أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، ﴿ولأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ ابن عباس ﴿عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أَيْ عَلَى نورٍ من ربهم واستقامة على ما جاءهم به ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طلبوا، ونجوا من شر ما هربوا.
- ٦ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي غطوا الحق وستروه، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ الَّذِينَ حقَّت عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأليم﴾ أَيْ إِنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ فَلَا مُسْعِدَ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَبَلِّغْهُمُ الرِّسَالَةَ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَلَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، ومن تولى فلا يهمنك ذلك ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وعلينا الحساب﴾.
وعن ابن عباس في قوله ﴿أن الذين كفروا﴾ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلاَّ مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السعادةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلاَّ مَن سَبَقَ لَهُ مِنَ الله الشقاءُ في الذكر الأول.
وقوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين.
- ٧ - خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
﴿خَتَمَ الله﴾ أي طبع عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فلا يُبْصِرُونَ هُدًى، وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يعقلون. قال مجاهد: الختم: الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت بِهِ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عليها بكفرهم﴾، وفي الحديث «يَا مقلِّب الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ».
قال ابن جرير: وقال بعضهم: إن معنى قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعوا إليه من الحق، كما يقال: فلان أصمَّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ ورَفَع نَفْسَهُ عَنْ تَفَهُّمِهِ تَكَبُّرًا، قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ. قُلْتُ: وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابن جرير ههنا، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ جَدًّا، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ، لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الحق إليه قبيح عنده يتعالى اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ. وَلَوْ فُهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إنما ختم على قلوبهم وحا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ - وَهَذَا عَدْلٌ مِنْهُ تَعَالَى حسنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ - فَلَوْ أَحَاطَ عِلْمًا بهذا لما قال ما قال.
قال ابن جرير: وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الخبرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يكسبون﴾» (رواه التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وقال الترمذي: حسن صحيح. ومعنى استعتب: رجع عن الإساءة، وطلب الرضى. كذا في النهاية لابن الأثير.) فأخبر ﷺ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حينئذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ عَنْهَا مُخَلِّصٌ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ الَّذِي ذكره الله فِي قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ نظيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الأبصار من الأوعيه والظروف.
- ٨ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
- ٩ - يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
لما تقدم وصف المؤمني فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ، ثُمَّ عَرَّفَ حال الكافرين بآيتين، شَرَعَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ يَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، أَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِمْ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كلٌ مِنْهَا نِفَاقٌ، كَمَا أنزل سورة «براءة» وَسُورَةَ «الْمُنَافِقِينَ» فِيهِمْ، وَذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ «النُّورِ» ⦗٣٣⦘ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، تَعْرِيفًا لِأَحْوَالِهِمْ لتُجتَنَبَ ويُجتنب مَنْ تَلَبَّسَ بِهَا أَيْضًا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله ..﴾ الآيات.
والنفاق: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: اعْتِقَادِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ، وعملي: وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسرُّه علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة الْمَدَنِيَّةِ، لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بل كان خلافه، وَلِهَذَا نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فَسَادٌ عَرِيضٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ، وَمِنَ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ أَنْ يظنَّ بِأَهْلِ الفجور خيرًا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر﴾ أي يقولون ذلك قولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله﴾، أَيْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا جَاءُوكَ فَقَطْ لا في نفس الأمر، وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون﴾ وفي اعتقادهم بقوله: ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ والذين آمَنُوا﴾ أي بإظهار مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، يَعْتَقِدُونَ - بِجَهْلِهِمْ - أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَرُوجُ عَلَيْهِ كَمَا قد يروج على بعض المؤمنين، وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَمَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون) وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد.
- ١٠ - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
﴿في قلوبهم مرضٌ﴾ أي شكٌّ ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ شكًا، وعن ابن عباس ﴿مرضٌ﴾ نفاقٌ ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ نِفَاقًا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أسلم: هَذَا مرضٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الأجساد، وَالْمَرَضُ الشَّكُّ الَّذِي دَخْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ﴿فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ أي زَادَهُمْ رِجْسًا. وَقَرَأَ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رجسهم﴾ يعني شرًا إلى شرهم، ضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ وقرئ (يَكْذبون) و(ويُكَذّبون) وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ﷺ قال لعمر رضي الله عنه: «أكره أين يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه» (هو جزء من حديث شريف أخرجه الشيخان) ومعنى هذا خشيته عليه السلام أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وَأَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابه. وقال الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ، لِأَنَّ ما يظهرونه يجبُّ ما قبله، وفي الحديث المجمع على صحته: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل» (أخرجه الشيخان وهو حديث متواتر) ⦗٣٤⦘ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثواب ذلك في الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ الله﴾ الآية فهم يخالطونهم في الْمَحْشَرِ فَإِذَا حَقَّتِ الْمَحْقُوقِيَّةُ تَمَيَّزُوا مِنْهُمْ وَتَخَلَّفُوا بعدهم ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يشتهون﴾.
- ١١ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
- ١٢ - أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ
قال السُّدي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُناسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: هم المنافقون، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبو العالية: ﴿لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ يَعْنِي لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ فَسَادُهُمْ ذَلِكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مَنْ عَصَى اللَّهَ في الأرض، أو أمر بمعصيته فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ والسماء بالطاعة، وقال مجاهد: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الهدى مصلحون.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَهْلُ النِّفَاقِ مُفْسِدُونَ فِي الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ، وَشَكِّهِمْ في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَمُظَاهَرَتُهُمْ أَهْلَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إِذَا وَجَدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فيها. فَالْمُنَافِقُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِيمَانُ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ على المؤمنين، وغرَّهم بِقَوْلِهِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَوَالَى الْكَافِرِينَ على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أَيْ نُرِيدُ أَنْ نُدَارِيَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَقُولُ الله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ يقول: ألا إن هذا الذي يزعمون أَنَّهُ إِصْلَاحٌ هُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ مِنْ جَهْلِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِكَوْنِهِ فَسَادًا.
- ١٣ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ﴾ أي كلإيمان النَّاسِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ المؤمنين به، وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَتَرْكِ الزَّوَاجِرِ ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾؟ يَعْنُونَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟
وَالسَّفِيهُ: هُوَ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ، الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بالمصالح وَالْمَضَارِّ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ ⦗٣٥⦘ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لكم قياما﴾ وقد تولى سُبْحَانَهُ جَوَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَقَالَ: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ فَأَكَّدَ وَحَصَرَ السَّفَاهَةَ فِيهِمْ ﴿وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي وَمِنْ تَمَامِ جهلهم أنه لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ، وَذَلِكَ أبلغ فِي الْعَمَى وَالْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى.
- ١٤ - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
- ١٥ - اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
أي، وَإِذَا لَقِيَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ: قَالُوا آمَنَّا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة، غُرُورًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقًا وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً، وَلِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْرٍ وَمَغْنَمٍ ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ يعني إذا انصرفوا وَخَلَصُوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، فَضُمِّنَ «خَلَوْا» مَعْنَى انْصَرَفُوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم، ورؤساؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، قال السُّدي عن ابن مسعود ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ يعني رؤساءهم في الكفر، وقال ابن عباس: هم أصحابهم من اليهود الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وقال مجاهد: أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقال قتادة: رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر (وهو قول أبي العالية والسُّدي والربيع بن أنَس وغيرهم)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَشَيَاطِينُ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تَعَالَى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ وقوله تعالى: ﴿قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴿إنما نحن مستهزءون﴾ أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم، وقال ابن عباس: ﴿مُسْتَهْزِئُونَ﴾ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى جَوَابًا لَهُمْ وَمُقَابَلَةً عَلَى صَنِيعِهِمْ: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾، قال ابن جرير: أخبر تَعَالَى أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في قوله تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ الآية، وفي قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ الآية، قَالَ: فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك، وقال آخرون: اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ، وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى ما ارتكبوا من معاصيه، وقال آخرون: قوله: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾، وقوله: ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خادعهم﴾، وقوله: ﴿نَسُواْ الله فنسيهم﴾ وما أشبه ذلك إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، معاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف (يسمى هذا النوع عند علماء البيان (المشاكلة) وهو أن تتفق الجملتان في اللفظ وتختلفا في المعنى كقول القائل:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه * قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقوله: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ فَالْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي عَدْلٌ، فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَ لفظهما فقد اختلف معناهما، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي القرآن من نظائر ⦗٣٦⦘ ذلك والعمه: الضلال، يقال: عمه عمهًا إذا ضل، وقوله: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى، لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا لِأَنَّ الله قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَأَعْمَى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا، وقا بعضهم: العمه في القلب، والعمى في العين، وقد يستعمل العمى في القلب أيضًا كم قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور﴾.
- ١٦ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
قال السدي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ يُشْبِهُهُ فِي الْمَعْنَى قوله تعالى فِي ثمود: ﴿فأما ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾.
وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أَيْ بَذَلُوا الْهُدَى ثمنًا للضلالة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أَيْ مَا رَبِحَتْ صَفْقَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ، وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أَيْ رَاشِدِينَ في صنيعهم ذلك وقال ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ.
- ١٧ - مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
- ١٨ - صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يرجعون
يقال: مَثَل، وَالْجَمْعُ أَمْثَالٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعقِلها إِلاَّ العالمون﴾، وَتَقْدِيرُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَبَّهَهُمْ في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلَى الْعَمَى، بِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، وَانْتَفَعَ بِهَا وَأَبْصَرَ بِهَا مَا عن يمينه وشماله، وتأنس بها ... فبينما هو كذلك إذا طُفِئَتْ نَارُهُ وَصَارَ فِي ظَلَامٍ شَدِيدٍ، لَا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا (أَصَمُّ) لَا يَسْمَعُ، (أَبْكَمُ) لَا يَنْطِقُ، (أَعْمَى) لو كان ضياء لما أبصر، فهذا لَا يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي اسْتِبْدَالِهِمُ الضَّلَالَةَ عِوَضًا عَنِ الْهُدَى، وَاسْتِحْبَابِهِمُ الْغَيَّ عَلَى الرُّشْدِ، وَفِي هَذَا الْمَثَلِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم.
وقال الرازي: والتشبيه ههنا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ اكْتَسَبُوا أَوَّلًا نورًا، ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أعظم من حيرة الدين.
وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار ⦗٣٧⦘ يَحْمِلُ أسفارا﴾ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَثَلُ قِصَّتِهِمْ كَقِصَّةِ الذين استوقدوا نارًا، وَقَدِ الْتَفَتَ فِي أَثْنَاءِ الْمَثَلِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾، وَهَذَا أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ وَأَبْلَغُ فِي النِّظَامِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي ذهب عنهم بما يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ النُّورُ وَأَبْقَى لَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ وَالدُّخَانُ، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. ﴿لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ لا يهتدون إلى سبيل خَيْرٍ وَلَا يَعْرِفُونَهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ﴿صُمٌّ﴾ لَا يَسْمَعُونَ خَيْرًا، ﴿بُكْمٌ﴾ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، ﴿عُمْيٌ﴾ فِي ضَلَالَةِ وَعَمَايَةِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور﴾ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الهداية التي باعوها بالضلالة.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ... قَالَ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ استوقدوا نارًا، ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يبصرون.
- ١٩ - أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ
- ٢٠ - يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير
هذا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ قَوْمٌ يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ تَارَةً وَيَشُكُّونَ تَارَةً أُخرى، فَقُلُوبُهُمْ فِي حَالِ شكهم وكفرهم وترددهم (كصيِّب) والصيب: الْمَطَرُ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي حَالِ ظُلُمَاتٍ وهي الشكوك والكفر والنفاق، و(رعد): وَهُوَ مَا يُزْعِجُ الْقُلُوبَ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَالْفَزَعَ كَمَا قال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾، وَقَالَ: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ و(البرق): هُوَ مَا يَلْمَعُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الضَّرْبِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أَيْ وَلَا يُجْدِي عَنْهُمْ حَذَرُهُمْ شَيْئًا لِأَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِقُدْرَتِهِ، وَهُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ. وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ محيط﴾ أي بهم، ثُمَّ قَالَ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أَيْ لِشِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ وَعَدَمِ ثباتها للإيمان.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ الْحَقِّ ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أَيْ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ اسْتَأْنَسُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ، وَتَارَةً تَعْرِضُ لَهُمُ الشُّكُوكُ أَظْلَمَتْ قُلُوبَهُمْ فوقفوا حائرين. وعن ابن عباس: يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إِلَى الكفر قاموا: أي متحيرين. وَهَكَذَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يُعْطَى النَّاسُ النُّورَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى مِنَ النُّورِ ⦗٣٨⦘ مَا يُضِيءُ لَهُ مَسِيرَةَ فَرَاسِخَ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، ومنهم من يمشي عَلَى الصِّرَاطِ تَارَةً وَيَقِفُ أُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْفَأُ نُورُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمُ الخُلَّص مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نورُهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ. نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ على كل شيء قدير﴾.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾، قَالَ: لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ على كل شيءقدير﴾: أَيْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ بِعِبَادِهِ مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ عَفْوٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بهم محيط، وعلى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ، وَمَعْنَى (قَدِيرٍ) قَادِرٌ كما معنى (عليم) عالم. وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أَنَّ هَذَيْنِ المَثَلين مَضْرُوبَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَتَكُونُ (أَوْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ﴾ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أو كفورًا﴾ أَوْ تَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ. أَيْ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بهذا وإن شئت بهذا. قال الْقُرْطُبِيُّ: أَوْ لِلتَّسَاوِي مِثْلَ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابن سيرين، ووجَّهه الزمخشري بأن كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي إِبَاحَةِ الْجُلُوسِ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ: سَوَاءٌ ضَرَبْتُ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَهُوَ مُطَابِقٌ لِحَالِهِمْ.
(قُلْتُ): وَهَذَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَصْنَافٌ وَلَهُمْ أَحْوَالٌ وَصِفَاتٌ، كَمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - وَمِنْهُمْ - يَذْكُرُ أَحْوَالَهُمْ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الأفعال والأقوال، فجعلُ هذن الْمَثَلَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مِنْهُمْ أشدُّ مُطَابَقَةً لِأَحْوَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَيْنِ فِي سُورَةِ (النور) لصنفي الكفّار الدعاة والمقلدين، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّي﴾ الآية. فَالْأَوَّلُ لِلدُّعَاةِ الَّذِينَ هُمْ فِي جَهْلٍ مُرَكَّبٍ، وَالثَّانِي لِذَوِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ مِنَ الْأَتْبَاعِ الْمُقَلِّدِينَ، والله أعلم بالصواب.
- ٢١ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
- ٢٢ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عَبِيدِهِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَإِسْبَاغِهِ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، بِأَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا: أَيْ مَهْدًا كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشَّامِخَاتِ. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَآءً﴾ وَهُوَ السَّقْفُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا معرضون﴾، ﴿وَأَنزَلَ ⦗٣٩⦘ مِنَ السمآء مَآءً﴾ والمرادُ به السحاب ههنا فِي وَقْتِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ بِهِ مِنْ أنواع الزروع والثمار رزقًا لهم ولأنعامهم. ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار ساكنيها وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيِّ الذنب أعظم عند الله؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» الْحَدِيثَ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الله على عباده؟ «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» (هو جزء من حديث أخرجه الشيخان) الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَا يقولنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ لِيَقُلْ ما شاء الله ثم شاء فلان». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ الله وحده» (أخرجه النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يونس) وَهَذَا كُلُّهُ صِيَانَةٌ وَحِمَايَةٌ لِجَنَابِ التَّوْحِيدِ وَاللَّهُ أعلم.
قال ابن عباس، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وعنه أيضًا ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزَقُكُمْ غَيْرُهُ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا﴾ أي عدلاء شركاء، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قَالَ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل.
(ذِكْرُ حَدِيثٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآية الكريمة)
روى الإمام أحمد بسنده عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ نبيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عليه السلام بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىْ بِهَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى عليه السلام إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبْلِغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبْلِغَهُنَّ؟ فَقَالَ: يَا أخي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أعذَّب أَوْ يُخْسف بِي. قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقَعَدَ عَلَى الشَّرف فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ. أولهن أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فإن مَثَل ذلك كمثل رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَوَرِق أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ،، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةً مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ وإن خلوف فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فشدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وقدَّموه لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُمْ هَلْ لَكَمَ أن أفتدي نفسي منكم؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فكَّ نَفْسَهُ. وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَل ذَلِكَ كَمَثَلِ رجلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سراعاُ فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فتحصَّن فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ».
⦗٤٠⦘ قَالَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: الْجَمَاعَةُ وَالسَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فَهُوَ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، فَقَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ عَلَى مَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عز وجل الْمُسْلِمِينَ المؤمنين عباد الله» هذا حديث حسن.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وحده، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عَلِم قدرةَ خَالِقِهَا وَحِكْمَتَهُ، وَعِلْمَهُ وَإِتْقَانَهُ، وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ وَقَدْ سُئِلَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى؟ فَقَالَ: يا سبحان الله أن البعر ليدل عَلَى الْبَعِيرِ، وَإِنَّ أَثَرَ الْأَقْدَامِ لَتَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ فسماءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وأرضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وبحارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ! أَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجود اللطيف الخبير؟.
وحكى الرازي عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ عَنْ ذلك فاستدل له بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، وَالْأَصْوَاتِ، وَالنَّغَمَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ (بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ) سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ، ذَكَرُوا لِي أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةٌ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا - وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنْهَا وَتَسِيرَ حَيْثُ شَاءَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ. فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ! فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ لَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟! فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ وُجُودِ الصَّانِعِ فَقَالَ: هَذَا وَرَقُ التُّوتِ طعمُه واحدٌ تَأْكُلُهُ الدُّودُ فيخرج منه الإبريسم (الإبريسم: الحرير.) وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعَسَلُ، وَتَأْكُلُهُ الشَّاةُ والبقر وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوَثًا، وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فقال: ههنا حصنٌ حَصِينٌ أَمْلَسُ لَيْسَ لَهُ بَابٌ وَلَا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب والإبريز، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَ جِدَارُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذُو شكلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الدَّجَاجَةُ وَسُئِلَ أَبُو نُوَاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْشَدَ:
تأملْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ * إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
عيونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شاخصاتُ * بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ * بأنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإل * هـ (الْإِلَهُ) أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الْكِبَارِ والصغار النيرة من السيارات وَمِنَ الثَّوَابِتِ، وَشَاهَدَهَا كَيْفَ تَدُورُ مَعَ الْفَلَكِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دُوَيْرَةٌ وَلَهَا في أنفسها سير يخصها، وانظَر إلى البحار المكتنفة لِلْأَرْضِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْجِبَالِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْأَرْضِ لِتَقَرَّ وَيَسْكُنَ سَاكِنُوهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وألوانها، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بيضٌ وَحُمْرٌ مختلفٌ أَلْوَانُهَا وغرابيبُ سُودٌ﴾ وَكَذَلِكَ هَذِهِ ⦗٤١⦘ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قطر للمنافع، وَمَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ والنبات المختلف الطعوم وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ طَبِيعَةِ التُّرْبَةِ وَالْمَاءِ، استدل على وُجُودَ الصَّانِعِ وَقُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ، وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِخَلْقِهِ، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا ربَّ سِوَاهُ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَالْآيَاتُ فِي الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ على هذا المقام كثيرة جدًا.
- ٢٣ - وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ٢٤ - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلْكَافِرِينَ: ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْل مَا جَاءَ بِهِ؛ إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَعَارِضُوهُ بمثْل مَا جَاءَ بِهِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿شُهَدَآءَكُم﴾: أعوانكم، أَيِ اسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ فِي ذَلِكَ يَمُدُّونَكُمْ وَيَنْصُرُونَكُمْ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ فِي سُورَةِ القَصَص: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين﴾ وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرًا﴾ وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بعشر سورة مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ وقال في سورة يونس: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ من مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صادقين﴾، وكل هذه الآيات مكية. ثم تحداهم بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ فِي هَذِهِ الآية: ﴿وإن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ أي شَكٍّ ﴿مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ﴾ يعني من مثل الْقُرْآنِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ (وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري والزمخشري والرازي وأكثر المحققين) ورجح ذلك بوجوه من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئًا من العلوم وبدليل قوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مثل﴾ وقوله: ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ وقال بعضهم: من مثل محمد يَعْنِي مِنْ رَجُلٍ أُمّيّ مِثْلِهِ، والصحيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ التَّحَدِّيَ عَامٌّ لَهُمْ كُلُّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ أَفْصَحُ الْأُمَمِ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِهَذَا فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَبُغْضِهِمْ لِدِينِهِ، وَمَعَ هَذَا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ و(لن) لنفي التأبيد في المستقبل، أَيْ وَلَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا وَهَذِهِ أَيْضًا معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْأَمْرُ لَمْ يُعَارَضْ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَلَا يُمْكِنُ، وأنَّى يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَحَدٍ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْخَالِقِ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ؟
⦗٤٢⦘ وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فُنُونًا ظَاهِرَةً وَخَفِيَّةً، مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ ومن جهة المعنى قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير﴾ فَأُحْكِمَتْ أَلْفَاظُهُ، وَفُصِّلَتْ مَعَانِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى الْخِلَافِ، فكلَّ مِنْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَصِيحٌ لَا يُحاذي وَلَا يُداني. فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ مَغِيبَاتٍ مَاضِيَةٍ كَانَتْ وَوَقَعَتْ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ وَنَهَى عَنْ كُلِّ شَرٍّ كما قال تعالى: ﴿وتمت كلمو رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، فكلُّه حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَعَدْلٌ وَهُدًى، لَيْسَ فِيهِ مُجَازَفَةٌ وَلَا كَذِبٌ وَلَا افْتِرَاءٌ، كَمَا يُوجَدُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمُجَازَفَاتِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ شِعْرُهُمْ إِلَّا بِهَا، كَمَا قِيلَ فِي الشِّعْرِ (إِنَّ أَعْذَبَهُ أَكْذَبُهُ) وَتَجِدُ في الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ الْمَدِيدَةَ قَدِ اسْتُعْمِلَ غَالِبُهَا فِي وَصْفِ النِّسَاءِ أَوِ الْخَيْلِ أَوِ الْخَمْرِ، أَوْ فِي مَدْحِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ ناقة أو حرب، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ الَّتِي لَا تفيد شيئاَ، إلا قدرة المتكلم المعين عَلَى الشَّيْءِ الْخَفِيِّ أَوِ الدَّقِيقِ أَوْ إِبْرَازُهُ إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هِيَ بُيُوتُ الْقَصِيدِ، وَسَائِرُهَا هَذَرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَجَمِيعُهُ فَصِيحٌ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْبَلَاغَةِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، مِمَّنْ فَهِمَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ التَّعْبِيرِ، فَإِنَّهُ إِنْ تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَهُ وَجَدْتَهَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَبْسُوطَةً أَوْ وَجِيزَةً، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ أَمْ لَا، وَكُلَّمَا تكرَّر حَلَا وَعَلَا، لَا يخلُق عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يملُّ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنْ أَخَذَ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ جَاءَ مِنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجِبَالُ الصُّمُّ الرَّاسِيَاتُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْقُلُوبِ الْفَاهِمَاتِ؟ وَإِنْ وَعَدَ أَتَى بِمَا يفتح القلوب والآذان، وشوّق إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَمُجَاوَرَةِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ كَمَا قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وَقَالَ فِي التَّرْهِيبِ: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر﴾، ﴿أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾، وقال في الزجر: ﴿فلا أخذنا بذنبه﴾، وَقَالَ فِي الْوَعْظِ: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمتَّعون﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَلَاوَةِ.
وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ رَذِيلٍ دَنِيءٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ في القرآن: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا فأرْعها سمعك فإنها خيرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ الآية، وَإِنْ جَاءَتِ الْآيَاتُ فِي وَصْفِ الْمَعَادِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَفِي وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِمَا لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ، وَالْمَلَاذِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، بَشَّرَتْ بِهِ وَحَذَّرَتْ وَأَنْذَرَتْ؛ وَدَعَتْ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وزهَّدت فِي الدُّنْيَا ورغَّبت فِي الأُخرى، وَثَبَّتَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَهَدَتْ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَشَرْعِهِ الْقَوِيمِ، وَنَفَتْ عَنِ الْقُلُوبِ رجس الشيطان الرجيم. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُعطي مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم ⦗٤٣⦘ تابعًا يوم القيامة (رواه الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم)»، وقوله ﷺ: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أوتيتُه وَحْيًا» أَيِ الَّذِي اخْتَصَصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ أَنْ يُعَارِضُوهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُعْجِزَةً عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَهُ عليه الصلاة والسلام مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ، ولله الحمد والمنة.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أمَّا الوَقود فَهُوَ مَا يُلْقَى فِي النَّارِ لِإِضْرَامِهَا كَالْحَطَبِ ونحوه كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنت لها واردون﴾ والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت، العظيمة السوداء الصلبة النتنة، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَحْجَارِ حَرًّا إِذَا حَمِيَتْ أَجَارَنَا الله منها، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود ﴿اتقوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾: أَمَّا الْحِجَارَةُ فيه حِجَارَةٌ فِي النَّارِ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِجَارَةٌ مِنْ كبريت أنتن من الجيفة. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانَت تَّعْبُدُ مِن دون الله كما قالت تَعَالَى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ (حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول وقال ابن كثير: وهذا الذي قاله ليس بقوي) الآية.
وَإِنَّمَا سِيقَ هَذَا فِي حَرِّ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا وَشِدَّةِ ضِرَامِهَا وَقُوَّةِ لَهَبِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ وَهَكَذَا رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْحِجَارَةَ التي تسعر بها النار لتحمر وَيَشْتَدَّ لَهَبُهَا، قَالَ: لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَذَابًا لأهلها.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الْحِجَارَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان. ﴿أُعِدَّتْ﴾ أَيْ أَرُصِدَتْ وَحَصَلَتْ لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النَّارَ مَوْجُودَةٌ الْآنَ لِقَوْلِهِ تعالى ﴿أُعِدَّتْ﴾ أَيْ أَرُصِدَتْ وَهُيِّئَتْ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ» وَمِنْهَا: «اسْتَأْذَنَتِ النَّارُ ربَّها فَقَالَتْ ربِّ أكلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بنفَسَين: نفسٍ فِي الشِّتَاءِ، ونَفَسٍ فِي الصَّيْفِ»، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْنَا وَجْبَة فَقُلْنَا مَا هَذِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذَا حَجَرٌ أُلْقِيَ بِهِ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مُنْذُ سَبْعِينَ سنة الآن وصل إلى قعرها» وهو مسند عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ خَالَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِجَهْلِهِمْ فِي هَذَا، وَوَافَقَهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ قَاضِي الأندلس.
(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)
قوله تعالى: ﴿فأتو بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: ﴿بسورةٍ مثل﴾ يَعُمُّ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ كَمَا هِيَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَالْإِعْجَازُ حَاصِلٌ فِي طِوَالِ السُّوَرِ وَقِصَارِهَا، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الناس سلفًا وخلفًا. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ﴾ يَتَنَاوَلُ سُورَةَ الْكَوْثَرِ، وسورة العصر، وقل ⦗٤٤⦘ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُمْكِنٌ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ السُّوَرِ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ كَانَ مُكَابَرَةً، وَالْإِقْدَامُ عَلَى هَذِهِ الْمُكَابَرَاتِ مِمَّا يَطْرُقُ بِالتُّهْمَةِ إِلَى الدِّينِ (قُلْنَا): فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَرْنَا الطَّرِيقَ الثَّانِيَ، وَقُلْنَا: إِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْفَصَاحَةِ حَدَّ الْإِعْجَازِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْمُعَارَضَةِ مَعَ شِدَّةِ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَهْوِينِ أَمْرِهِ مُعْجِزًا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَحْصُلُ الْمُعْجِزُ هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ مُعَارَضَتَهَا طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
- ٢٥ - وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَعَدَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ أَوْلِيَائِهِ مِنَ السُّعَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وبرسله الذي صدقوا إمانهم بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنَبْسُطُهُ فِي موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بِذِكْرِ الْكُفْرِ أَوْ عَكْسِهِ، أَوْ حَالَ السُّعَدَاءِ ثُمَّ الْأَشْقِيَاءِ أَوْ عَكْسِهِ، وَحَاصِلُهُ ذِكْرُ الشَّيْءِ ومقابله. وأما ذكر الشيْ وَنَظِيرُهُ فَذَاكَ التَّشَابُهُ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَغُرَفِهَا وَقَدْ جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقنا مِن قَبْلُ﴾.
قال السدي في تفسيره: إِنَّهُمْ أَتَوْا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ في الدنيا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ معناه مثل الذي كان بالأمس، وقال آخرون: ﴿هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ﴾ من ثمار الجنة لِشَدَّةٍ مُشَابَهَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ وعن يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ مِنَ الشَّيْءِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا بِهِ مِن قَبْلُ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كُلْ فَاللَّوْنُ واحد، والطعم مختلف.
وقال ابن جرير بإسناده فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يَعْنِي في اللون والمرأى وليس يشبه فِي الطَّعْمِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ «لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ»، وفِي رِوَايَةٍ «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجنة إلاّ الأسماء».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنُّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَذَى والمأثم، وعن أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ قَالَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالنُّخَاعَةِ وَالْبُزَاقِ (رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ كَمَا تقدم) ⦗٤٥⦘
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هَذَا هُوَ تَمَامُ السَّعَادَةِ، فَإِنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، مِنَ الْمَوْتِ وَالِانْقِطَاعِ فَلَا آخِرَ لَهُ، وَلَا انْقِضَاءَ بَلْ فِي نَعِيمٍ سَرْمَدِيٍّ أبدي على الدوام ... والله المسؤول أَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، برٌّ رحيم.
- ٢٦ - إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ
- ٢٧ - الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أولئك هُمُ الخاسرون
قال السدي: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ يَعْنِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ من السماء﴾ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿هُمُ الخاسرون﴾ (ذكره السدي في تفسيره عن ابن عبا وابن مسعود) وقال قتادة: لما ذكر الله تعالى الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ والذباب يذكران؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يضرب مثلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي أن الله لايستحي من الحق إن يذكر شيئا مما قلَّ أَوْ كَثُر، وَإِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ في كتابه الذباب العنكبوت قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾.
وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُ، وَقِيلَ: لَا يَخْشَى أن يضرب مثلا ما، أيَ مثلٍ كَانَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ صَغِيرًا كان أو كبيرًا و(ما) ههنا لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً عَلَى الْبَدَلِ، كَمَا تَقُولُ: لأضربنَّ ضَرْبًا مَا، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ أو تكون (ما) نكرة موصوفة ببعوضة، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً بِحَذْفِ الْجَارِّ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فوقها» وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: فَمَا دُونَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ، كَمَا إِذَا وُصِفَ رَجُلٌ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ فَيَقُولُ السَّامِعُ نَعَمْ وَهُوَ فَوْقَ ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ:: «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة لما سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» وَالثَّانِي فَمَا فوقها لما هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْقَرُ وَلاَ أَصْغَرَ مِن الْبَعُوضَةِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فما فوقها إلا كتب لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَصْغِرُ شَيْئًا يَضْرِبُ بِهِ مَثَلًا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ وَالصِّغَرِ كَالْبَعُوضَةِ، فكما لا يَسْتَنْكِفْ عَنْ خَلْقِهَا كَذَلِكَ لَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والمطلوب﴾
⦗٤٦⦘ وَقَالَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٌ﴾ الآية، ثم قال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ من يأمر بالعدل﴾؟ الآية. وَقَالَ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ وَفِي الْقُرْآنِ أَمْثَالٌ كَثِيرَةٌ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا سَمِعْتُ الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيْتُ عَلَى نَفْسِي لِأَنَّ الله قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾، قال قتادة: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ مِنْ عند الله. وقال أبو العالية: ﴿فأما لذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ يَعْنِي هَذَا الْمَثَلُ، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا﴾ كما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ ربك إلى هو﴾، وكذلك قال ههنا: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾.
قال ابن عباس: يضل به كثيرا يعني به (المنافقين) ويهدي به كثيرا يعني به (المؤمنين) فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنَ المثل الذي ضربه الله، ويهدي به يعني المثل كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾، قال أبو العالية: هم أهل النفاق، وقال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ قال: يَعْرِفُهُ الْكَافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ على فسقهم.
والفاسقُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ. تقول الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْفَأْرَةِ (فُوَيْسِقَةٌ) لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرِهَا لِلْفَسَادِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «خَمْسُ فَوَاسَقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الغرابُ والحدأةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» فَالْفَاسِقُ يَشْمَلُ الْكَافِرَ وَالْعَاصِيَ، وَلَكِنَّ فِسْقَ الْكَافِرِ أَشَدُّ وَأَفْحَشُ، والمراد به مِنَ الْآيَةِ الفاسقُ الْكَافِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بِدَلِيلِ أنه وصفهم بقوله تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُ الْكُفَّارِ الْمُبَايِنَةُ لِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كما قال تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى؟ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ الْآيَاتِ، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سوء الدار﴾ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ الَّذِي وُصِفَ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَهْيِهِ إِيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، ونقضُهم ذَلِكَ هُوَ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، وَعَهْدُ اللَّهِ الَّذِي نَقَضُوهُ هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا بُعِثَ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودُهُمْ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ، وَكِتْمَانِهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ. ⦗٤٧⦘
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وعهدُه جَمِيعِهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ مَا وَضَعَ لَهُمْ مِنَ الأدلة عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَعَهْدُهُ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ أَنْ يأتي بمثله، الشاهد لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ. قَالُوا: وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الإقرار بما قد تبينت لَهُمْ صِحَّتُهُ بِالْأَدِلَّةِ وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقٌّ. وَرُوِيَ عن مقاتل بن حيان أيضا نَحْوَ هَذَا وَهُوَ حَسَنٌ وَإِلَيْهِ مَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنَّهُ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) فَمَا الْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ مَا رَكَّزَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الحجة على التوحد كَأَنَّهُ أَمْرٌ وَصَّاهُمْ بِهِ ووثَّقه عَلَيْهِمْ، وَهُوَ معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: ﴿أوفوا بعهدي أوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ وقال آخرون: العهد الذي ذكر تَعَالَى هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ الَّذِي وَصَفَ فِي قوله: ﴿وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألستُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شهدنا﴾ الآيتين. وَنَقْضُهُمْ ذَلِكَ تَرْكُهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَيْضًا. حَكَى هَذِهِ الأقوال ابن جرير في تفسيره وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ قال: ما عهد إليهم من الْقُرْآنِ فَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا فَنَقَضُوهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ صِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْقَرَابَاتُ كَمَا فسهر قَتَادَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ وَفِعْلِهِ فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ قَالَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سوء الدار﴾ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ اسْمٍ، مِثْلِ خَاسِرٍ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ. وَمَا نَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّنْبَ. وَقَالَ ابن جرير في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: الْخَاسِرُونَ جَمْعُ خَاسِرٍ وَهُمُ الناقصون أنفسهم حُظُوظَهُمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ مِنْ رَحْمَتِهِ كَمَا يَخْسَرُ الرَّجُلُ فِي تِجَارَتِهِ، بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ رَأْسِ ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خَسِرَ بِحِرْمَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ رَحْمَتَهُ الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ فِي الْقِيَامَةِ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَى رحمته.
- ٢٨ - كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي عِبَادِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ وُجُودَهُ أَوْ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي وقد كُنْتُمْ عَدَمًا فَأَخْرَجَكُمْ إِلَى الْوُجُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يوقنون﴾، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾: أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حَتَّى خَلَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مَوْتَةَ الْحَقِّ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ حِينَ يبعثكم (هذه رواية ابن جريج عن ابن عباس، والرواية الثانية رواية الضحّاك عنه) قال: وهي مثل قوله تعالى: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى ﴿رَبَّنَآ أمتنا اثنتي وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ قَالَ: كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْلَ أَنْ يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم هذه حَيَاةٌ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فَتَرْجِعُونَ إِلَى الْقُبُورِ فَهَذِهِ مَيْتَةٌ أُخرى، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهَذِهِ حَيَاةٌ أُخرى: فَهَذِهِ مَيْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم﴾.
- ٢٩ - هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دلالةَ مِنْ خَلْقِهِمْ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ أي قصد إلى السماء. والاستواء ههنا متضمن مَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِقْبَالِ لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى (فَسَوَّاهُنَّ) أي فخلق السماء سبعًا. والسماء ههنا اسم جنس، فلهذا قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أَيْ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، كَمَا قَالَ: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خلق﴾ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ وهو قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ الآيات.
فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أولاَ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا، وَهَذَا شَأْنُ الْبِنَاءِ أَنْ يَبْدَأَ بِعِمَارَةِ أَسَافِلِهِ ثُمَّ أَعَالِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُفَسِّرُونَ بذلك كما سنذكره فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دحاها﴾ فقد قيل: إن (ثمَّ) ههنا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ لَا لِعَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ * ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
وَقِيلَ: إِنَّ الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وقال مجاهد في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، فلماخلق الْأَرْضَ ثَارَ مِنْهَا دُخَانٌ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَسَوَّاهُنَّ سبع سموات﴾ قَالَ: بعضُهن فَوْقَ بَعْضٍ وَسَبْعُ أَرَضِينَ يَعْنِي بعضها تَحْتَ بَعْضٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ السَّجْدَةِ: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يومين﴾ فَهَذِهِ وَهَذِهِ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أرساها﴾ قَالُوا فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذَا بِعَيْنِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا دُحِيَتْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَجَابَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التفسير قديمًا وحديثًا وقد حررنا ذلك في سُورَةِ النَّازِعَاتِ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّحْيَ مُفَسَّرٌ بقوله تعالى: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أَرْسَاهَا﴾ ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صُورَةُ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ ثُمَّ السَّمَاوِيَّةِ، دَحَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ فَأَخْرَجَتْ مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا مِنَ الْمِيَاهِ، فَنَبَتَتِ النَّبَاتَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَكَذَلِكَ جَرَتْ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ فَدَارَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَةِ والله سبحانه وتعالى أعلم.
- ٣٠ - وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ⦗٤٩⦘ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى بِامْتِنَانِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِتَنْوِيهِهِ بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ أَيْ وَاذْكُرْ يَا محمد إذا قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ ذَلِكَ، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أَيْ قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَجِيلًا بعد جيل، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض﴾، وقال: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض﴾، وَقَالَ: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ وليس المراد ههنا بِالْخَلِيفَةِ آدَمَ عليه السلام فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ طائفة من المفسرين، إذ لو كان ذلك لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء﴾، فإنهم أَرَادُوا أَنَّ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِعِلْمٍ خَاصٍّ، أَوْ بِمَا فَهِمُوهُ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ ﴿صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ أَوْ فَهِمُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن الْمَحَارِمَ وَالْمَآثِمَ (قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ).
أَوْ أَنَّهُمْ قَاسُوهُمْ عَلَى مَنْ سَبَقَ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ هَذَا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْحَسَدِ لِبَنِي آدَمَ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أَيْ لَا يَسْأَلُونَهُ شَيْئًا لَمْ يأذن لهم فيه، وههنا لَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِيهَا فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؟ الْآيَةَ. وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَاسْتِكْشَافٍ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ، مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَن يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عِبَادَتُكَ فَنَحْنُ نسبِّح بِحَمْدِكَ ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهل وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْنَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، أَيْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ، فَإِنِّي سَأَجْعَلُ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَأُرْسِلُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، وَيُوجَدُ منهم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، والعُبَّاد وَالزُّهَّادُ، وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَبْرَارُ، وَالْمُقَرَّبُونَ، وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، وَالْخَاشِعُونَ وَالْمُحِبُّونَ لَهُ تَبَارَكَ وتتعالى، المتبعون رسُلِهِ صلوات الله وسلامه عليهم.
وقيل: معنى قوله تعالى: ﴿إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ إني لِي حِكْمَةً مُفَصَّلَةً فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ وَالْحَالَةُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَوَابٌ ﴿وَنَحْنُ نسبِح بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، فَقَالَ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ مِنْ وُجُودِ إِبْلِيسَ بَيْنَكُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: بَلْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نسبِّح بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ طَلَبًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا الْأَرْضَ بَدَلَ بَنِي آدم، فقال الله تعالى ذلك: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مِنْ أَنَّ بَقَاءَكُمْ فِي السَّمَاءِ أَصْلَحُ لَكُمْ وَأَلْيَقُ بِكُمْ. ذكرها الرازي مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(ذِكْرُ أقوال المفسرين)
قال السدي في تفسيره: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: رَبَّنَا وَمَا يَكُونُ ذاك ⦗٥٠⦘ الْخَلِيفَةُ؟ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ فِي الأرض، ويقتل بعضهم بعضًا: قال ابن جرير: وإنما مَعْنَى الْخِلَافَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ إِنَّمَا هِيَ خلافة قرن منهم قرنًا قال: والخليفة الفعلية من قوله: خَلَفَ فُلَانٌ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ، إِذَا قَامَ مَقَامَهُ فِيهِ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾. ومن ذلك قبل لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ خَلِيفَةٌ، لِأَنَّهُ خَلَفَ الَّذِي كَانَ قبله فقام بالأمر فكان منه خلفًا.
قال ابن جرير عن ابن عباس: إن أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ الْجِنُّ، فَأَفْسَدُوا فِيهَا، وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ، فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَأَطْرَافِ الْجِبَالِ ثم خلق آدم فأسكنه إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة﴾. وقال الْحَسَنُ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا فِي الْأَرْضِ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ (الضمير في (قلوبهم) يعود على الملائكة لا على الجن فتنبه) أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، فَقَالُوا بِالْقَوْلِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾: كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء﴾؟.
قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَالَتْ ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُمْ فِي السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالَتْ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْهَا: وَكَيْفَ يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ؟ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ وَمَنْ بَعْضُ ما تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا، قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَبِّ خبرنا - مسألة اسْتِخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ - وَاخْتَارَهُ ابن جرير.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، قال قتادة: التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن ابن عباس ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾: نُصَلِّي لَكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، قال نعظمك ونكبرك. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: التَّقْدِيسُ هُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّطْهِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ سُبُّوحٌ تَنْزِيهٌ لَهُ، وَبِقَوْلِهِمْ قُدُّوسٌ طَهَارَةٌ وَتَعْظِيمٌ لَهُ، وكذلك قِيلَ لِلْأَرْضِ: أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَةَ فمعنى قوله الْمَلَائِكَةِ إِذًا ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾: نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِمَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ، ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكَ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَمَا أَضَافَ إِلَيْكَ أهل الكفر بك.
عن أبي ذر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده «(رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري) وروي أن رسول الله ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السَّمَاوَاتِ العلا» سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى» (رواه البهيقي عن عبد الرحمن بن قرط) ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي تِلْكَ الْخَلِيقَةِ أَنْبِيَاءُ وَرُسُلٌ وَقَوْمٌ صَالِحُونَ وساكنوا الجنة.
⦗٥١⦘ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وجوب نصب الخليقة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فِيهِ، وَيَقْطَعَ تَنَازُعَهُمْ وَيَنْتَصِرَ لِمَظْلُومِهِمْ مِنْ ظَالِمِهِمْ، وَيُقِيمَ الْحُدُودَ، وَيَزْجُرَ عَنْ تَعَاطِي الْفَوَاحِشِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي لَا تمكن إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالْإِمَامِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَالْإِمَامَةُ تُنَالُ بِالنَّصِّ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَبِي بَكْرٍ. أَوْ بِالْإِيمَاءِ إِلَيْهِ كَمَا يَقُولُ آخَرُونَ مِنْهُمْ، أَوْ بِاسْتِخْلَافِ الْخَلِيفَةِ آخَرَ بَعْدَهُ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَوْ بتركه مشورة فِي جَمَاعَةٍ صَالِحِينَ كَذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، أَوْ بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مُبَايَعَتِهِ أَوْ بِمُبَايَعَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَهُ، فَيَجِبُ الْتِزَامُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الإجماع، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، حُرًّا، بَالِغًا، عَاقِلًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، مُجْتَهِدًا، بَصِيرًا، سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ، خَبِيرًا بِالْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، قُرَشِيًّا عَلَى الصَّحِيحِ؛ وَلَا يُشْتَرَطُ الْهَاشِمِيُّ وَلَا الْمَعْصُومُ مِنَ الْخَطَأِ خلافًا للغلاة والروافض. وَلَوْ فَسَقَ الْإِمَامُ هَلْ يَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بواحًا (كفرًا بواحًا: قال ابن الأثير: أي جهارً من باح بالشيء يبوح به إذا أعلنه. النهاية في غريب الحديث) عندكم من الله فيه برهان»، فَأَمَّا نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ جَاءَكُمْ وأمْرُكم جَميعٌ يُرِيدُ أَنْ يفرِّق بَيْنَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
- ٣١ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ٣٢ - قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
- ٣٣ - قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
هَذَا مقامٌ ذَكَر اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ شرفُ آدم على الملائكة، بما اختصه مِنْ عِلْمِ أَسْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُمْ، وَهَذَا كَانَ بَعْدَ سُجُودِهِمْ لَهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى ذَاكَ لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ هَذَا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تَعَالَى بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا ذكر الله هَذَا الْمَقَامَ عَقِيبَ هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فقال تعالى: ﴿وعلم آدم الأسمآء كُلَّهَا﴾ قال السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ علمه أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا، وَالدَّوَابِّ فَقِيلَ هَذَا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس (هذه رواية السدي عن بن عباس، والثانية رواية الضحاك عنه) وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ قَالَ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يتعارف بها الناس: إنسان، ودواب، وسماء، وأرض وسهل، وبحر، وخيل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وقال مجاهد ﴿وعلم آدم الأسمآء كُلَّهَا﴾: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ، وَكُلِّ طَيْرٍ، وَكُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كل شيء وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا ذَوَاتَهَا وصفاتها وأفعالها، وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أنَس عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وعلَّمك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حتى يريحنا ⦗٥٢⦘ من مكاننا هذا (أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة)» الحديث. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ يعني المسميات ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، قال مجاهد: ثم عَرَضَ أَصْحَابَ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جرير عن الحسن وقتادة قال: علَّمه اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِهِ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ أُمَّةً أُمَّةً، وَبِهَذَا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى ﴿إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إِنِّي لَمْ أَخْلُقْ خَلْقًا إلى كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وقال السدي ﴿إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ فِي الأرض ويسفكون الدماء، ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ هَذَا تَقْدِيسٌ وَتَنْزِيهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ، وَأَنْ يَعْلَمُوا شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلى مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ أَيِ العليمُ بِكُلِّ شَيْءٍ الحكيمُ فِي خَلْقِكَ وَأَمْرِكَ، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تَشَاءُ، لَكَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَالْعَدْلُ التَّامُّ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ قَالَ: تَنْزِيهُ الله نفسه عن السوء.
قوله تَعَالَى ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾: لما ظَهَرَ فَضْلُ آدَمَ عليه السلام عَلَى الْمَلَائِكَةِ عليهم السلام فِي سَرْدِهِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أَيْ أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ الظاهر والخفي، كما قال تَعَالَى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ وكما قال إِخْبَارًا عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾: أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ، يَعْنِي مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ فكان الذي أبدوا هو قَوْلُهُمْ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء﴾ وكان الذي كتموا بينهم هو قَوْلَهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ وَأَكْرَمَ. فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾: وَأَعْلَمُ مَعَ عِلْمِي غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا تُظْهِرُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ سَوَاءٌ عِنْدِي سَرَائِرُكُمْ وَعَلَانِيَتُكُمْ. وَالَّذِي أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلُهُمْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا، وَالَّذِي كَانُوا يكتمونه مَا كَانَ عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا إِبْلِيسُ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى اللَّهِ فِي أَوَامِرِهِ وَالتَّكَبُّرِ عَنْ طَاعَتِهِ، قَالَ: وَصَحَّ ذَلِكَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قُتِلَ الْجَيْشُ وَهُزِمُوا، وَإِنَّمَا قُتِلَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ وَهُزِمَ الْوَاحِدُ أَوِ الْبَعْضُ، فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنِ الْمَهْزُومِ مِنْهُ وَالْمَقْتُولِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، كما قال تعالى: ﴿إن الذي يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ﴾ ذُكِر أَنَّ الَّذِي نَادَى إِنَّمَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
- ٣٤ - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ⦗٥٣⦘
وَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ امتَنَّ بِهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثُ مُوسَى عليه السلام: «رَبِّ أَرِنِي آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ قَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ؟» قَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي إن شاء الله.
وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ دَخَلَ إِبْلِيسُ فِي خِطَابِهِمْ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُنْصُرِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَتَوَسَّمَ بِأَفْعَالِهِمْ، فَلِهَذَا دَخَلَ فِي الْخِطَابِ لَهُمْ وَذُمَّ فِي مُخَالَفَةِ الأمر.
قال طاووس عن ابن عباس: كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ مِنَ الملائكة اسمه (عزرايل) وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حيٍّ يُسَمَّوْنَ جِنًّا وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سماء الدنيا. وقال ابن جرير عن الحسن: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَنِ الْحَسَنِ. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السماء، رواه ابن جرير، وعن سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الْجِنَّ فَسُبِيَ إِبْلِيسُ وَكَانَ صَغِيرًا فَكَانَ مَعَ الملائكة يتعبد مَعَهَا فَلَمَّا أُمروا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ سَجَدُوا فَأَبَى إِبْلِيسُ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن﴾ وقال أبو جعفر: ﴿وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ يعني من العاصين. قال قتادة في قوله تعالى ﴿وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ﴾: فَكَانَتِ الطَّاعَةُ لِلَّهِ والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَانَ هَذَا سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ وَإِكْرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًَا﴾ وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَلَكِنَّهُ نُسِخَ فِي مِلَّتِنَا.
قَالَ مُعَاذٌ: "قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ، فَقَالَ: «لَا، لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَتِ السَّجْدَةُ لِلَّهِ وَآدَمُ قِبْلَةٌ فِيهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَالسَّجْدَةَ لِآدَمَ كانت إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَسَلَامًا، وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ عز وجل لِأَنَّهَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَوَّاهُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وضعَّف مَا عَدَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا: كَوْنُهُ جُعِلَ قِبْلَةً إِذْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَرَفٌ، وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْخُضُوعُ لَا الِانْحِنَاءُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ على الأرض، وهو ضعيف كما قال.
وقال قتادة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾: حَسَدَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ آدَمَ عليه السلام عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَهَذَا طِينِيٌّ، وَكَانَ بَدْءُ الذُّنُوبِ الْكِبْرَ، اسْتَكْبَرَ عَدُوُّ الله أن يسجد لآدم عليه السلام. قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» وَقَدْ كَانَ فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ مَا اقْتَضَى طَرْدَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ جَنَابِ الرَّحْمَةِ وَحَضْرَةِ الْقُدْسِ، قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾: أَيْ وَصَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ امْتِنَاعِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿فَكَانَ مِنَ المغرقين﴾، وقال: ﴿فَتَكُونَا من الظالمين﴾، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٌ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا * قَطَا الْحُزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
⦗٥٤⦘ أَيْ قَدْ صَارَتْ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ تَقْدِيرُهُ: وَقَدْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، ورجَّحه الْقُرْطُبِيُّ، وذكر ههنا مَسْأَلَةً فَقَالَ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مَنْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَرَامَاتٍ وَخَوَارِقَ لِلْعَادَاتِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وِلَايَتِهِ خِلَافًا لبعض الصوفية والرافضة.
قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِ الْوَلِيِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى يَدِ الْفَاجِرِ وَالْكَافِرِ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الدُّخُّ، حِينَ خَبَّأَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿فارتقب يوم تأت السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾، وَبِمَا كَانَ يَصْدُرُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَمْلَأُ الطَّرِيقَ إِذَا غَضِبَ حَتَّى ضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن عمر، وبما تثبتت به الأحاديث الدَّجَّالِ بِمَا يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَثِيرَةِ، مِنْ أَنَّهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ، وَتَتْبَعُهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ مِثْلَ الْيَعَاسِيبِ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ ذَلِكَ الشَّابَّ ثُمَّ يُحْيِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ المهولة. وكان اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ والسنّة.
- ٣٥ - وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين
- ٣٦ - فأزلهما الشيطان عنها فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ
يبين اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَ بِهِ آدَمَ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ إِنَّهُ أَبَاحَهُ الْجَنَّةَ يَسْكُنُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا مَا شَاءَ (رَغَدًا) أي هنيئًا واسعًا، طيبًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ هي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون عَلَى الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ويساق الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ دُخُولِ آدم الجنة، ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ «أُخْرِجُ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وحيدًا لَيْسَ لَهُ زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهِ، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ من ضلعه، فسألها: من أَنْتِ؟ قَالَتِ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قال: حواء، قالوا: ولمَ حَوَّاءَ؟ قَالَ: إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ».
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فَهُوَ اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٌ لِآدَمَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم عليه السلام هِيَ الْكَرْمُ، وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ. وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدم عليه السلام هي السنبلة، وقال ابن جرير بسنده: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا آدَمُ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ عِنْدَهَا آدَمُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْجَلْدِ: سَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا آدَمُ وَهِيَ السُّنْبُلَةُ، وَسَأَلْتَنِي عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَابَ ⦗٥٥⦘ عندها آدم وهي الزيتونة. وقال سفيان الثوري عَنْ أَبِي مَالِكٍ ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾: النَّخْلَةُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾: التينة.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أن الله عز وجل ثَنَاؤُهُ نَهَى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ دُونَ سَائِرِ أَشْجَارِهَا فَأَكَلًا مِنْهَا، وَلَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِأَيِّ شَجَرَةٍ كَانَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ لِعِبَادِهِ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ قِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْبُرِّ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَقِيلَ: كَانَتْ شَجَرَةَ التِّينِ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مِنْهَا وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم يَنْفَعُ الْعَالِمَ بِهِ عِلْمُهُ، وَإِنْ جَهِلَه جَاهِلٌ لم يضره جهله به والله أعلم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ (عَنْهَا) عَائِدًا إِلَى الجنة، فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما، ويصح أين يَكُونَ عَائِدًا عَلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ الشَّجَرَةُ فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزَّلَلِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ أَيْ بِسَبَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أفك﴾ أَيْ يُصْرَفُ بِسَبَبِهِ مَنْ هُوَ مَأْفُوكٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أَيْ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ وَالرِّزْقِ الْهَنِيءِ وَالرَّاحَةِ ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ قَرَارٌ وَأَرْزَاقٌ وَآجَالٌ (إِلَى حِينٍ) أَيْ إِلَى وَقْتٍ مُؤَقَّتٍ وَمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ تَقُومُ الْقِيَامَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ كَالسُّدِّيِّ بِأَسَانِيدِهِ، وَأَبِي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم، ههنا أَخْبَارًا إِسْرَائِيلِيَّةً عَنْ قِصَّةِ الْحَيَّةِ وَإِبْلِيسَ، وَكَيْفَ جَرَى مِنْ دُخُولِ إِبْلِيسَ إِلَى الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَسَنَبْسُطُ ذَلِكَ إِن شَآءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الأعراف فهناك القصة أبسط منها ههنا والله الموفق.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ جَنَّةُ آدَمَ الَّتِي أخرج منها فِي السَّمَاءِ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فكيف تمكن إِبْلِيسُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ طُرِدَ مِنْ هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة، وأحدها أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مُكَرَّمًا، فَأَمَّا على وجه السرقة وَالْإِهَانَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ - كَمَا فِي التَّوْرَاةِ - أَنَّهُ دَخَلَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ خَارِجُ بَابِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ فِي الْأَرْضِ وَهُمَا فِي السَّمَاءِ. ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وقد أورد القرطبي ههنا أَحَادِيثَ فِي الْحَيَّاتِ وَقَتْلِهِنَّ، وَبَيَانِ حُكْمِ ذَلِكَ فأجاد وأفاد.
- ٣٧ - فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مُفَسَّرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ قَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ قَالَ: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله: «إذن أدخلك الجنة» فهي الْكَلِمَاتِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ أَيْضًا ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾. وعن مجاهد أنه كان يقول في قوله اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ الْكَلِمَاتُ «اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ⦗٥٦⦘ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ «،» اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عليَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أَيْ إِنَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ كَقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ يَتُوبُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعَبِيدِهِ، لَا إله إلا هُوَ التواب الرحيم.
- ٣٨ - قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- ٣٩ - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يُخْبِرُ تعالى بما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أَهْبَطَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْمُرَادُ الذُّرِّيَّةُ: أَنَّهُ سَيُنْزِلُ الْكُتُبَ، وَيَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، كَمَا قَالَ أَبُو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات وَالْبَيَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْهُدَى مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْهُدَى القرآن، هذان القولنان صَحِيحَانِ. وَقَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ أَعَمُّ ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ﴾ أَيْ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى مَا أَنْزَلْتُ بِهِ الْكُتُبَ وَأَرْسَلْتُ بِهِ الرُّسُلَ ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أُمور الدُّنْيَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طه: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ كما قال ههنا ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا لَا محيد لهم عنها ولا محيص. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتتة حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي سلمة وأروده ابن جرير من طريقين)».
وذكرُ هَذَا الْإِهْبَاطَ الثَّانِي لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُغَايِرِ لِلْأَوَّلِ، وَزَعَمَ بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قُمْ قُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْإِهْبَاطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أعلم.
- ٤٠ - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
- ٤١ - وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثمنا قليلا وإياي فاتقون
يأمر تعالى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَمُهَيِّجًا لَهُمْ بِذِكْرِ أَبِيهِمْ (إِسْرَائِيلَ) وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْقُوبُ عليه السلام، وَتَقْدِيرُهُ: يَا بَنِي الْعَبْدِ الصَّالِحِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ، ⦗٥٧⦘ كُونُوا مِثْلَ أَبِيكُمْ فِي مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الْكَرِيمِ افْعَلْ كَذَا؛ يَا ابْنَ الشُّجَاعِ بَارِزِ الْأَبْطَالَ؛ يَا ابْنَ العالِم اطْلُبِ الْعِلْمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مع نوح إن كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عَبَّاسٍ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نبيَّ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ؟»، قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ اشهد» وعن ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِكَ عَبْدُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ﴾: نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لَهُمُ الْحَجَرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، ونجّاهم مِنْ عُبُودِيَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نِعْمَتُهُ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ. قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عليه السلام لَهُمْ: ﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾ يعني في زمانهم، وقال محمد ابن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ بَلَائِي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، قَالَ: بِعَهْدِي الَّذِي أَخَذْتُ فِي أَعْنَاقِكُمْ لِلنَّبِيِّ ﷺ إذا جاءكم، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الآصار وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمُ الَّتِي كَانَتْ مِنْ إِحْدَاثِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ قوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا. وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار﴾ الآية. وقال آخرون: هو الذي أخذ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَبْعَثُ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا عَظِيمًا يُطِيعُهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي﴾، قَالَ: عَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحّاك ﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾: أرضَ عنكم وأُدخلكم الجنة، وقوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ أي فاخشون، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ أي أن أنزل بكم ما أنزلت بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التَّرْغِيبِ إِلَى التَّرْهِيبِ، فَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الرسول ﷺ وَالِاتِّعَاظِ بِالْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَآمِنُواْ بِمَآ أَنَزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ يعني به الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ النَّبِيِّ الأُمي الْعَرَبِيِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَسِرَاجًا مُنِيرًا، مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ أبو العالية: ﴿وَآمِنُواْ بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، يَقُولُ: لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مُحَمَّدًا ﷺ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَعِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غيركم، قال أبو العالية: ولا تكونوا أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بعد سماعكم بمبعثه، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِمَآ أَنزَلْتُ﴾، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، لِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَمِنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ⦗٥٨⦘ ﴿أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ فَيَعْنِي بِهِ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ بين إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أول من كفر به من بني إسرائيل مُبَاشَرَةً، فَإِنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أَوَّلُ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يَقُولُ: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسول بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، سئل الحسن الْبَصْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ قَالَ: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وعن سعيد بن جبير: إن آيَاتِهِ: كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّ الثَّمَنَ القليل: الدنيا وشهواتها؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ النَّافِعِ فِي النَّاسِ بِالْكِتْمَانِ وَاللَّبْسِ، لِتَسْتَمِرُّوا عَلَى رِيَاسَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا الْقَلِيلَةِ الْحَقِيرَةِ الزَّائِلَةِ عَنْ قَرِيبٍ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله لا يتعلمه إلا ليصيبه بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الجنة يوم القيامة» (أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة) «فأما تَعْلِيمُ الْعِلْمِ بِأُجْرَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِهِ حَالُهُ وَعِيَالُهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَطَعَهُ التَّعْلِيمُ عَنِ التَّكَسُّبِ فَهُوَ كَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً عِنْدَ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كما فِي قِصَّةِ اللَّدِيغِ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عليه أجرًا كتاب الله». (رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري)» وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْمَخْطُوبَةِ: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ من القرآن».
وقوله: ﴿وَإِيَّايَ فاتقون﴾ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، عَلَى نور من الله، وأنت تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تخاف عقاب اللَّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ فِيمَا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
- ٤٢ - وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- ٤٣ - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا لِلْيَهُودِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَمَّدُونَهُ مِنْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَتَمْوِيهِهِ بِهِ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ وَإِظْهَارِهِمُ الْبَاطِلَ ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّيْئَيْنِ مَعًا، وَأَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ. ولهذا قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾: لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَالصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، وَقَالَ أَبُو العالية: وَلَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَأَدُّوا النَّصِيحَةَ لِعِبَادِ اللَّهِ مِنْ أُمة مُحَمَّدٍ ﷺ، وقال قتادة ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل﴾: ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ وقال مجاهد والسدي: ﴿وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ. (قُلْتُ) وَتَكْتُمُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا أَيْ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَمَا يُقَالُ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مسعود ⦗٥٩⦘ ﴿وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ﴾ أَيْ فِي حَالِ كِتْمَانِكُمُ الْحَقَّ، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ حَالٌ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّاسِ، مِنْ إِضْلَالِهِمْ عَنِ الْهُدَى الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى النار، أَنْ سَلَكُوا مَا تُبْدُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَقِّ لِتُرَوِّجُوهُ عَلَيْهِمْ، والبيانُ: الْإِيضَاحُ، وَعَكْسُهُ الْكِتْمَانُ وَخَلْطُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قَالَ مقاتل: أَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ أَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ أَيْ يَدْفَعُونَهَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ يقول: كونوا معهم ومنهم.
- ٤٤ - أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تعقلون
معناه: كَيْفَ يَلِيقُ بِكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ - وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ - أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بِمَا تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتْلُونَ الْكِتَابَ وَتَعْلَمُونَ مَا فِيهِ عَلَى مَنْ قصَّر فِي أَوَامِرِ اللَّهِ؟ ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِأَنْفُسِكُمْ، فَتَنْتَبِهُوا مِنْ رَقْدَتِكُمْ، وَتَتَبَصَّرُوا من عمايتكم؟ وهذا كما قال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتنسون أنفسكم﴾ قال: كان بنوا إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه ويخالفون، فعيَّرهم الله عز وجل. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ تَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ تَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تكفرون بما فيه مِنْ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي، وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ أَتَأْمَرُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا، وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ إذا جاء الرجل سألهم عَنِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾؟ والغرضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذمَّهم عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ، ونبَّههم عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ، بَلْ عَلَى تَرْكِهِمْ لَهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أَمْرِهِمْ بِهِ، وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ شعيب عليه السلام: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾.
فكلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِعْلِهِ واجبٌ، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ، عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا، وهذا ضعيف. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَالِمَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ، قَالَ سعيد بن جبير: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مَا أَمَرَ أحدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عن منكر.
(قلت) لكنه وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ المعصية، لعلمه بها مخالفته عَلَى بَصِيرَةٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ⦗٦٠⦘ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ على ذلك كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَثَل الْعَالِمِ الَّذِي يعلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ ويحرق نفسه (رواه الطبراني في الكبير، قال ابن كثير؛ وهو غريب من هذا الوجه)» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مررت ليلة أسري بي على قوم تُقْرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يعقلون» (رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنَس بن مالك)، وقال ﷺ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنكر وآتيه» (رواه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم بنحوه)، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعِينَ مَرَّةً، حَتَّى يَغْفِرَ لِلْعَالِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب﴾، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا تعلَّمنا مِنْكُمْ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا نَقُولُ ولا نفعل» (رواه ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبة)
وجاء رجُل إلى ابن عباس فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ: إِنِّي أُريد أَنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو، قَالَ: إِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تُفْتَضَحَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتًا عن الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّالِثُ، قَالَ: قَوْلُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ عليه السلام: ﴿وَمَآ أُريد أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح﴾ أحمكت هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ (رواه الضحاك عن ابن عباس) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنِّي لِأَكْرَهُ الْقَصَصَ لِثَلَاثِ آيَاتٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾، وَقَوْلُهُ إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عنه﴾.
- ٤٥ - وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين
- ٤٦ - الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون
يأمر تعالى عَبِيدَهُ فِيمَا يُؤَمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَعِينُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالصَّلَاةِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ فقيل: إنه الصيام.
قال القرطبي: ولهذه يسمى رَمَضَانُ شَهْرَ الصَّبْرِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ: «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» وَقِيلَ: الْمُرَادُ ⦗٦١⦘ بِالصَّبْرِ الْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْلَاهَا فعل الصلاة. قال عمر بن الخطاب: الصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ منه الصبر عن محارم الله. وقال أبو العالية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى الثَّبَاتِ في الأمر كما قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والمنكر﴾ الآية.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (رواه أحمد وأبو داود) وعن علي رضي الله عنه قال: لَقَدْ رَأَيْتَنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي ويدعو حتى أصبح. وروي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تنحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين﴾، والضمير في قوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ عائد إلى الصلاة، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في قصة قارون: ﴿وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أَيْ وَمَا يلقَّى هَذِهِ الْوَصِيَّةَ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ، وَمَا يُلَقَّاهَا أَيْ يُؤْتَاهَا وَيُلْهَمُهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ أَيْ مَشَقَّةٌ ثَقِيلَةٌ إِلَّا على الخاشعين، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الخائفين، وقال مقاتل: الْمُتَوَاضِعِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ قَالَ: إِنَّهَا لثقيلة إا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَعْنَى الْآيَةِ: وَاسْتَعِينُوا أَيُّهَا الْأَحْبَارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، الْمُقَرِّبَةِ مِنْ رِضَا اللَّهِ، الْعَظِيمَةِ إِقَامَتُهَا ﴿إلا على الخاشعين﴾ أي المتواضعين الْمُسْتَكِينِينَ لِطَاعَتِهِ الْمُتَذَلِّلِينَ مِنْ مَخَافَتِهِ. هَكَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ خِطَابًا فِي سِيَاقِ إِنْذَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقْصَدُوا بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لهم ولغيرهم، والله أعلم.
وقوله تعالى ﴿الذي يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ هَذَا مِنْ تَمَامِ الكلام الذي قبله، أي أن الصلاة لِثَقِيلَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعْرُوضُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَيْ أُمُورُهُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، يَحْكُمُ فِيهَا مَا يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، فَلِهَذَا لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمُنْكَرَاتِ. فَأَمَّا قوله ﴿يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ﴾ فالمراد يعتقدون، والعرب قَدْ تُسَمِّي الْيَقِينَ ظَنًّا وَالشَّكَّ ظَنًّا، نَظِيرُ تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفه. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا﴾، قال مجاهد: كلُّ ظنٍ في القرآن يقين. وعن أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا ربهم﴾ قال: الظن ههنا يقين، وعن ابن جريج: علموا أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ يقول علمت. (قُلْتُ) وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَلَمْ أُزَوِّجْكَ أَلَمْ أُكْرِمْكَ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟» فَيَقُولُ بَلَى، فيقول الله تعالى: «أَظَنَنْتَ أَنَّكَ ملاقيَّ»، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي وَسَيَأْتِي مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿نسو الله فنسيهم﴾، إن شاء الله تعالى.
- ٤٧ - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
يُذَكِّرُهُمْ تَعَالَى بسالف نِعَمِهِ عَلَى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَمَا كَانَ فضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وأنزل الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الأُمم مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العالمين﴾، وقال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قال أبو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ عَلَى عَالَمِ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فإن لكل زمان عالمًا، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أفضل منهم لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس﴾، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا على الله (رواه أصحاب السنن عن معاوية بن حيدة القشيري مرفوعًا)»، والأحاديث في هذا كثيرة، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تفضيلٌ بِنَوْعٍ مَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا، حكاه الرازي وفيه نظر. وقيل: فُضِّلُوا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ لِاشْتِمَالِ أُمَّتِهِمْ عَلَى الأنبياء منهم وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعَالَمِينَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَبْلَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمُحَمَّدٌ بَعْدَهُمْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.
- ٤٨ - وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
لَمَّا ذكَرهم تَعَالَى بِنِعَمِهِ أَوَّلًا، عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّحْذِيرِ من طول نِقَمِهِ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ أَيْ لَا يُغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾، وقال: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه﴾، وقال: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي والدٌ عَن وَلَدِهِ، وَلاَ مولودُ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ فَهَذِهِ أَبْلَغُ الْمَقَامَاتِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ لَا يُغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ شَيْئًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ يَعْنِي من الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾، وَكَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾،
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أَيْ لَا يُقْبَلُ منها فداء، كما قال تعالى: ﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ﴾، وَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ﴾، وَقَالَ: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِرَسُولِهِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ وَوَافَوُا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ قَرَابَةُ قَرِيبٍ، وَلَا شَفَاعَةُ ذِي جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ وَلَوْ بِمِلْءِ الأرض ذهبًا، كما قال تعالى: ﴿لاَّ بيعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ قال: بدلٌ والبدل الْفِدْيَةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ أَيْ وَلَا أَحَدَ يَغْضَبُ لَهُمْ فَيَنْصُرُهُمْ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ ذُو قَرَابَةٍ وَلَا ذُو جَاهٍ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَانِبِ التَّلَطُّفِ، وَلَا لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ ⦗٦٣⦘ أَنْفُسِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ: ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ فِيمَنْ كَفَرَ بِهِ فِدْيَةً وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُنْقِذُ أَحَدًا من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾، وَقَالَ: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ مَا لَكُمُ الْيَوْمَ لَا تُمَانَعُونَ مِنَّا، هَيْهَاتَ لَيْسَ ذَلِكَ لَكُمُ الْيَوْمَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يَعْنِي إِنَّهُمْ يومئذٍ لَا يَنْصُرُهُمْ نَاصِرٌ، كَمَا لَا يَشْفَعُ لَهُمْ شَافِعٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَدْلٌ وَلَا فِدْيَةٌ. بَطَلَتْ هُنَالِكَ الْمُحَابَاةُ وَاضْمَحَلَّتِ الرِّشَا وَالشَّفَاعَاتُ، وَارْتَفَعَ مِنَ الْقَوْمِ التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل، الَّذِي لَا يَنْفَعُ لَدَيْهِ الشُّفَعَاءُ وَالنُّصَرَاءُ فَيَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا وَبِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ؟ بَلْ هُمُ اليوم مستسلمون﴾.
- ٤٩ - وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
- ٥٠ - وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، إذا نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَيْ خَلَّصْتُكُمْ مِنْهُمْ وَأَنْقَذْتُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ صُحْبَةَ مُوسَى عليه السلام، وَقَدْ كَانُوا يَسُومُونَكُمْ أَيْ يُورِدُونَكُمْ وَيُذِيقُونَكُمْ وَيُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ، رَأَى نَارًا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فدخلت بيوت القبط إِلَّا بُيُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَضْمُونُهَا أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ يَكُونُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسرائيل، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْرَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِقَتْلِ كل ذَكَرٍ يُولَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ تُتْرَكَ الْبَنَاتُ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ في مشاق الأعمال وأرذلها، وههنا فُسِّرَ الْعَذَابُ بِذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عَطْفٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ القَصَص، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَالْمَعُونَةُ والتأييد. ومعنى (يَسُومُونَكُمْ) يولونكم كَمَا يُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ إِذَا أَوْلَاهُ إياها، قال عمرو ابن كلثوم:
إذ مَا الْمُلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا * أَبَيْنَا أَنْ نُقرَّ الْخَسْفَ فِينَا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُدِيمُونَ عَذَابَكُمْ، وإنما قال ههنا: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ ثم فسره بهذا لقوله ههنا ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾. وَأَمَّا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَلَمَّا قَالَ: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ أَيْ بِأَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ هناك: ﴿يَسُومُونَكُمْ سوء العذاب ويذبحون أَبْنَآءَكُمْ﴾، فَعَطَفَ عَلَيْهِ الذَّبْحَ لِيَدُلَّ عَلَى تَعَدُّدِ النِّعَمِ والأيادي على بني إسرائيل؟ (وَفِرْعَوْنُ) عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا مِنَ الْعَمَالِيقِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ (قَيْصَرَ) عَلَمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الرُّومَ مَعَ الشام كافرًا، و(كسرى) لمن ملك الفرس. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ فِي زمن موسى عليه السلام (الوليد ⦗٦٤⦘ ابن مصعب بن الريان) فكان من سلالة عمليق، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من اصطخر. وأيًا ما كان فعليه لعنة الله وقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بلاء﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الَّذِي فَعَلْنَا بِكُمْ من إنجائنا آباءكم مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ، بَلَاءٌ لَكُمْ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ، أَيْ نِعْمَةٌ عظيمة عليكم في ذلك، وَأَصْلُ الْبَلَاءِ الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾، وقال: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات﴾.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ﴾ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وهذا قول الجمهور والبلاء ههنا في الشر، والمعنى: وفي الذَّبْحِ مَكْرُوهٌ وَامْتِحَانٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ مَعْنَاهُ: وَبَعْدَ أَنْ أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَخَرَجْتُمْ مَعَ مُوسَى عليه السلام، خَرَجَ فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر، ﴿فَأَنْجَيْنَاكُمْ﴾ أَيْ خَلَّصْنَاكُمْ مِنْهُمْ وَحَجَزْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَفَى لِصُدُورِكُمْ وأبلغ في إهانة عدوكم. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ عاشوراء، لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَ؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ عز وجل فِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَمَرَ بصومه (أخرجه أحمد ورواه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ نحو ما تقدم)
- ٥١ - وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
- ٥٢ - ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- ٥٣ - وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ فِي عَفْوِي عَنْكُمْ، لَمَّا عَبَدْتُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَهَابِ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَمَدِ الْمُوَاعَدَةِ، وَكَانَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
وقوله تعالى: ﴿وإذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يَعْنِي التَّوْرَاةَ، ﴿وَالْفُرْقَانَ﴾ وَهُوَ مَا يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى والضلالة ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولى﴾.
- ٥٤ - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
⦗٦٥⦘
هَذِهِ صِفَةُ تَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عبادة العجل، حِينَ وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ شَأْنِ عِبَادَتِهِمُ العجل ما وقع ﴿فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ﴾ أي إلى خالقكم. وفي قوله ههنا ﴿إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ جُرْمِهِمْ، أَيْ فَتُوبُوا إِلَى الَّذِي خَلَقَكُمْ وَقَدْ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غيره، قال ابن جرير بسنده عن ابن عباس: أمر قومه عن أَمْرِ رَبِّهِ عز وجل أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ قال: وأخبر الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَلَسُوا، وَقَامَ الَّذِينَ لَمْ يَعْكُفُوا عَلَى الْعِجْلِ فَأَخَذُوا الْخَنَاجِرَ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَصَابَتْهُمْ ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ، كلُّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ، وَكُلُّ مَنْ بَقِيَ كانت له توبة. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي قَوْلِهِ ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ قَالَ: فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا، حَتَّى قتل منهم سَبْعُونَ أَلْفًا وَحَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ رَبَّنَا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية الباقية، فأمرهم أن يلقوا السِّلَاحَ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ مُكَفَّرًا عَنْهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرحيم﴾ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ خَرَجَ إِلَى رَبِّهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ثُمَّ بُعِثُوا، فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَد الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ من عبده، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ تُرْفَعَ عَنْهُمُ السُّيُوفُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد: لما رجع موسى إلى قَوْمِهِ، وكانوا سبعين رجالً قَدِ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ الْعِجْلَ لَمْ يَعْبُدُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: انْطَلِقُوا إِلَى مَوْعِدِ رَبِّكُمْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى مَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: بلى ﴿اقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية، فاخترطوا السيوف والخناجر والسكاكين، قال: وبعث عليهم ضبابة فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضًا، ويلقي الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يَدْرِي. قَالَ: وَيَتَنَادَوْنَ فِيهَا رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا صَبَّرَ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّهَ رِضَاهُ، قَالَ فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ وَتِيبَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
- ٥٥ - وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
- ٥٦ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي بعثي لكم بعد الصعق، إذا سَأَلْتُمْ رُؤْيَتِي جَهْرَةً عِيَانًا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ لكم ولا لأمثالكم. قال ابن عباس: (جهرةً) علانية، وقال الرَّبِيعِ بْنِ أنَس: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى فَسَارُوا مَعَهُ، قَالَ فَسَمِعُوا كَلَامًا فَقَالُوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول ماتوا. قال السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ الصَّاعِقَةُ: نَارٌ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ ﴿لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ فقاموا وعاشوا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وقال الربيع ⦗٦٦⦘ ابن أنَس: كَانَ مَوْتُهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ فَبُعِثُوا مِن بَعْدِ الموت ليستوفوا آجالهم، وقال ابن جرير: لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَالَ لِأَخِيهِ وَلِلسَّامِرِيِّ مَا قَالَ، وحرَّق الْعِجْلَ وَذَرَّاهُ فِي الْيَمِّ، اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ وَتُوبُوا إِلَى الله مما صنعتم، واسألوه التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ. صُومُوا وتطَّهروا وطهِّروا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لميقاتِ وقَّته لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - حِينَ صَنَعُوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله: يَا مُوسَى اطْلُبْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا. فَقَالَ: أَفْعَلُ.
فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا. وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، ودنا القوم حتى دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى، يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ قَدْ سَفِهُوا، أَفَتُهْلِكُ مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا يَفْعَلُ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ أَيْ إِنَّ هذا لهم هلاك، واختر مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي مِنْهُمْ رجُل وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونِي بِهِ وَيَأْمَنُونِي عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا؟ ﴿إِنَّا هدنا إليك﴾ فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ عز وجل وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ حَتَّى ردَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال السُّدي: لما تابت بنوا إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقتل بعضهم لبعض كما أمره الله بِهِ، أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي أُناس مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ العجل، ووعدهم موسى فاختار موسى سَبْعِينَ رجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ ليعتذروا وساق البقية. وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَحْكِ كَثِيرٌ من المفسِّرين سواه، وقد غلط أهل الكتاب فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوُا اللَّهَ عز وجل، فَإِنَّ مُوسَى الْكَلِيمَ عليه السلام قَدْ سَأَلَ ذَلِكَ فمُنِع مِنْهُ، فَكَيْفَ يَنَالُهُ هَؤُلَاءِ السبعون!؟
- ٥٧ - وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا دَفَعَهُ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ، شَرَعَ يذكِّرهم أَيْضًا بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ فَقَالَ: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾ جَمْعُ غَمَامَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ يُوَارِيهَا وَيَسْتُرُهَا، وَهُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ ظُلِّلُوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس. وقال الحسن وقتادة ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام﴾: كَانَ هَذَا فِي الْبَرِّيَّةِ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ من الشمس وعن مُجَاهِدٍ ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ قَالَ: لَيْسَ بِالسَّحَابِ هو الغمام الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة﴾ وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ.
﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ﴾ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ المفسِّرين فِي المن ما هو؟ فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْأَشْجَارِ فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا، وَقَالَ السُّدي: قَالُوا: يَا مُوسَى كَيْفَ لَنَا بما ههنا، أي الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرو الزَّنْجَبِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ في محلّهم سُقُوطَ الثَّلْجِ، أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَدْرَ ما يكفيه يومه ذلك. وقال عبد الرحمن بن أسلم: إنه العسل.
وَالْغَرَضُ أَنَّ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ مُتَقَارِبَةٌ فِي شَرْحِ الْمَنِّ. فَمِنْهُمْ مَنْ فسَّره بِالطَّعَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فسَّره بِالشَّرَابِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كُلُّ مَا امتنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ عمل ولا كد.
فلمن الْمَشْهُورُ إِنْ أُكِلَ وَحْدَهُ كَانَ طَعَامًا وَحَلَاوَةً، وَإِنْ مُزج مَعَ الْمَاءِ صَارَ شراباُ طَيِّبًا، وَإِنْ ركِّب مَعَ غَيْرِهِ صَارَ نَوْعًا آخَرَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَحْدَهُ، والدليل على ذلك قول النَّبِيُّ ﷺ: «الْكَمْأَةُ مِنَ المن وماؤها شفاء للعين (رواه البخاري وأخرجه الجماعة إلا أبا داود)». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ. (تَفَرَّدَ بإخراجه الترمذي وقال حديث حسن غريب)
وأما السلوى فقال ابن عباس: السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه. وقال قتادة: السلوى كان مِنْ طَيْرٍ إِلَى الْحُمْرَةِ تَحْشُرُهَا عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْجَنُوبُ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَذْبَحُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعَدَّى فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ سَادِسِهِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِ سَادِسِهِ وَيَوْمِ سَابِعِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِبَادَةٍ لَا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه وَقَالَ السُّدي: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ التِّيهَ قَالُوا لِمُوسَى عليه السلام: كَيْفَ لَنَا بِمَا ههنا، أين الطعام؟ ⦗٦٧⦘ فأنزل الله عليهم المن. فكان ينزل على شجر الزَّنْجَبِيلِ، وَالسَّلْوَى وَهُوَ طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى أَكْبَرُ مِنْهُ فَكَانَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ وَإِلَّا أَرْسَلَهُ فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأُمِرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فَشَرِبَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ، فَقَالُوا: هَذَا الشَّرَابُ فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ فَأَيْنَ اللِّبَاسُ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ لَهُمْ فِي التِّيهِ ثياب لا تَخْرق ولا تَدْرن (لا تدرن: أي لا يصيبها وسخا ولا قذارة والدرن الوسخ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَخَذَ من المن والسلوى فوق يَوْمٍ فَسَدَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ طَعَامَ يَوْمِ السَّبْتِ فَلَا يُصْبِحُ فاسدًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أمر إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَنْ يَعْبُدُوا، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ فَخَالَفُوا وَكَفَرُوا فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. هَذَا مَعَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَاتِ، وَخَوَارِقِ العادات، من ههنا تَتَبَيَّنُ فَضِيلَةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَرَضِيَ عَنْهُمْ عَلَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كَانُوا مَعَهُ فِي أَسْفَارِهِ وَغَزَوَاتِهِ، مِنْهَا عَامُ تَبُوكَ فِي ذَلِكَ الْقَيْظِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْجَهْدِ، لَمْ يَسْأَلُوا خَرْقَ عَادَةٍ وَلَا إِيجَادَ أَمْرٍ مع أن ذلك كان سهلًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَلَكِنْ لَمَّا أَجْهَدَهُمُ الْجُوعُ سَأَلُوهُ فِي تَكْثِيرِ طَعَامِهِمْ فَجَمَعُوا مَا مَعَهُمْ فَجَاءَ قدْر مَبْرَكِ الشَّاةِ فَدَعَا اللَّهَ فيه وأمرهم فملأوا كُلَّ وِعَاءٍ مَعَهُمْ، وَكَذَا لَمَّا احْتَاجُوا إِلَى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَمْ تُجَاوِزِ العسكر.
- ٥٨ - وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
- ٥٩ - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى لَائِمًا لَهُمْ على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لَمَّا قَدِمُوا مِنْ بِلَادِ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى عليه السلام فَأُمِرُوا بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، الَّتِي هِيَ مِيرَاثٌ لَهُمْ عَنْ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيلَ، وَقِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْعَمَالِيقِ الْكَفَرَةِ، فَنَكَلُوا عَنْ قِتَالِهِمْ وَضَعُفُوا وَاسْتَحْسَرُوا، فَرَمَاهُمُ اللَّهُ فِي التِّيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، كَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ هِيَ (بَيْتُ الْمَقْدِسِ) كَمَا نص على ذلك غير واحد، وقد قال الله تعالى حاكيًا عن موسى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا﴾ الآيات. وقال آخرون: هي (أريحا) وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِمْ وَهُمْ قاصدون بيت المقدس لأريحا وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا كَانَ لَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَ يُوشَعَ بْنِ نون عليه السلام، وَلَمَّا فَتَحُوهَا أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ - بَابَ الْبَلَدِ - (سُجَّدًا) أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، ورد بلدهم عليهم وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَالضَّلَالِ. قَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وادخلوا الباب سُجَّدًا﴾ أي ركعًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أُمروا أَنْ يَسْجُدُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ حَالَ دُخُولِهِمْ وَاسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ، وَحَكَى عَنْ بعضهم أن المراد ههنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال السُّدي: عن عبد الله بن مسعود: قيل لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ أَيْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ خِلَافَ مَا أُمروا.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وقولو حِطَّةٌ﴾ قال ابن عباس: مغفرة استغفروا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ قَالَ: قُولُوا هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لكم، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيِ احْطُطْ عَنَّا خَطَايَانَا ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين﴾ وقال: هَذَا جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْنَاكُمْ غَفَرْنَا لَكُمُ الْخَطِيئَاتِ، وَضَاعَفْنَا لَكُمُ الْحَسَنَاتِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَخْضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفَتْحِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بذنوبهم ويستغفروا منها، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ جِدًّا عِنْدَ النَّصْرِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ (فَتْحِ مَكَّةَ) داخلًا إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لِرَبِّهِ حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رَحْلِهِ شكرًا لله على ذلك.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ روى البخاري عن النبي ﷺ: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى اسْتَاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حبة في شعرة (رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا)» وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ادخلوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا حنطة فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾.
⦗٦٩⦘ وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ المفسِّرون وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السياق أَنَّهُمْ بَدَّلُوا أَمْرَ اللَّهِ لَهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فأُمروا أَنْ يَدْخُلُوا سُجَّدًا فَدَخَلُوا يزحفون على اسْتَاهِهِمْ رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ، وأُمروا أَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ، وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ بِفِسْقِهِمْ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرجز يعني به الْعَذَابُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الرجُز الغضبُ، وَقَالَ سعيد بن جبير: هو الطاعون، لحديث: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ عَذَابٌ عُذّب بِهِ مَن كَانَ قبلكم (الحديث رواه النسائي وأصله في الصحيحين)».
- ٦٠ - وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِجَابَتِي لِنَبِيِّكُمْ مُوسَى عليه السلام، حِينَ اسْتَسْقَانِي لَكُمْ وَتَيْسِيرِي لَكُمُ الْمَاءَ، وَإِخْرَاجَهُ لَكُمْ مِنْ حَجَرٍ يُحْمَلُ مَعَكُمْ، وَتَفْجِيرِي الْمَاءَ لَكُمْ مِنْهُ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ أَسْبَاطِكُمُ عينُ قَدْ عَرَفُوهَا، فَكُلُوا مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا مِنْ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي أَنْبَعْتُهُ لَكُمْ، بلا سعي منكم ولا جَدّ، وَاعْبُدُوا الَّذِي سخَّر لَكُمْ ذَلِكَ، ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ وَلَا تُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالْعِصْيَانِ فتُسْلَبوها. وَقَدْ بَسَطَهُ المفسِّرون فِي كَلَامِهِمْ كَمَا قال ابن عباس رضي الله عنه: وَجُعِلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرٌ مُرَبَّعٌ، وَأُمِرَ مُوسَى عليه السلام فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ ثَلَاثُ عُيُونٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَجَرًا طُورِيًّا - مِنَ الطُّورِ - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ فِيهِ قُدْرَةً، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (اللَّامُ) لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ، أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ، قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمُعْجِزَةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ، فَكَانَ يَضْرِبُ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ ثُمَّ يضربه فييبس وَقَالَ الضَّحَّاكُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ شَقَّ لَهُمْ مِنَ الحجر أنهارًا، وقال الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنْ مَاءٍ لِكُلِّ سِبْطٍ منهم عينا يشربون منها.
- ٦١ - وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِي عَلَيْكُمُ المنَّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا طَيِّبًا نافعًا هنيئًا سهلًا، واذكروا ضجركم ⦗٧٠⦘ مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم، قال الحسن البصري: فبطروا وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَكَانُوا قَوْمًا أَهْلَ أَعْدَاسٍ وَبَصَلٍ وَبَقْلٍ وَفُومٍ، فَقَالُوا: ﴿يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ مِمَّا تُنْبِتُ الأرض من بقلها وقثاءهم وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ وإنما قالوا على طعام واحد وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِأَنَّهُ لَا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، وأما الفوم فقال ابن عباس: الثوم، وَقَالَ آخَرُونَ: الْفُومُ: الحنطةُ وَهُوَ البُرَّ الَّذِي يعمل منه الخبز، روي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ ﴿وَفُومِهَا﴾ مَا فُومُهَا؟ قَالَ: الْحِنْطَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا * وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وَقَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَفُومِهَا﴾ قَالَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ بِلِسَانِ بَنِي هَاشِمٍ، وقال الجوهري: الفوم الحنطة، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْفُومَ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الحمص لغة شامية، قال الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فوم، وقوله: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾؟ فِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ عَلَى مَا سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ والطعام الهنيء الطيب النافع. وقوله تعالى: ﴿اهبطوا مِصْرًا﴾ هكذا هو منون مصروف، وقال ابن عباس: مصرًا من الأمصار. والمعنى إن هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ لَيْسَ بأمرٍ عَزِيزٍ بَلْ هو كثير في أي بلد دخلتموها وَجَدْتُمُوهُ، فَلَيْسَ يُسَاوِي مَعَ دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ أَيْ مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ لَمْ يجابوا إليه، والله أعلم.
تتمة الآية ٦١: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أَيْ وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ وَأُلْزِمُوا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، أَيْ لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ مَنْ وَجَدهم اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ وضربَ عَلَيْهِمُ الصغاَر، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، قال الضَّحَّاكُ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قَالَ: الذُّلُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ وَجَعَلَهُمُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وإن المجوس لتجيبهم الجزية، وقال أبو العالية والسُّدى: المسكنةُ الفاقةُ، وقوله تعالى: ﴿وباؤا بغضب من الله﴾ استحقوا الغضب من الله، وقال ابن جرير: يعني بقوله ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾: انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا، وَلَا يُقَالُ باء إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، يُقَالُ منه: باء فلان بذنبه يبوء به، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ يَعْنِي تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا قَدْ صَارَا عليك دوني، فمعنى الكلام رجعوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ يَقُولُ الله تَعَالَى هَذَا الَّذِي
جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَإِحْلَالِ الْغَضَبِ بِهِمْ من الذلة، بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلة الشَّرْعِ وَهُمُ (الْأَنْبِيَاءُ) وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أن قتلوهم فلا كفر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الْكِبْرُ بطرُ الحق وغَمْطُ الناسِ» (هذا جزء من حديث شريف وأوله «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مثقال ذرة من كِبْر ..» الحديث) يَعْنِي رَدَّ الْحَقِّ وَانْتِقَاصَ النَّاسِ وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنوا إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وقتلهم أنبياءه، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرد، وَكَسَاهُمْ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ جزاءً وفاقًا. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَتْ بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار» (رواه أبو داود الطيالسي) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رجلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَل نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ» (رواه الإمام أحمد في مسنده) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخرى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ، فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، والاعتداءُ الْمُجَاوَزَةُ فِي حَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ والمأمور بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٦٢ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
لما بين تَعَالَى حَالَ مَنْ خَالَفَ أَوَامِرَهُ، وَارْتَكَبَ زَوَاجِرَهُ، وَتَعَدَّى فِي فِعْلِ مَا لَا إِذْنَ فِيهِ وَانْتَهَكَ الْمَحَارِمَ، وَمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الأُمم السَّالِفَةِ وَأَطَاعَ فَإِنَّ لَهُ جَزَاءَ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّي فَلَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ وَيُخَلِّفُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كنتُ مَعَهُمْ فَذَكَرْتُ مِنْ صَلاتهم وَعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى آخر الآية. وقال السُّدي: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ (سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) بَيْنَا هُوَ يحدِّث النَّبِيُّ ﷺ إِذَا ذَكَرَ أصحابه فأخبروه خبرهم فقال: كانوا يصلون، ويصومون، وَيُؤْمِنُونَ بِكَ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّكَ سَتُبْعَثُ نَبِيًّا، فَلَّمَا فَرَغَ سَلْمَانُ مِنْ ثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: يَا سَلْمَانُ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى سَلْمَانَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ إِيمَانُ الْيَهُودِ أَنَّهُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَسُنَّةِ مُوسَى عليه السلام حَتَّى جَاءَ عِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى كَانَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالتَّوْرَاةِ وَأَخَذَ بسُنَّة مُوسَى فَلَمْ يَدَعْهَا وَلَمْ يَتْبَعْ عِيسَى كَانَ هَالِكًا، وَإِيمَانُ النَّصَارَى أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِنْجِيلِ مِنْهُمْ وَشَرَائِعِ عِيسَى كَانَ مُؤْمِنًا مَقْبُولًا مِنْهُ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ مُحَمَّدًا ﷺ مِنْهُمْ وَيَدَعْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ عيسى والإنجيل كان هالكًا.
(قلت) وهذا لا ينافي ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ الآية قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة من الخاسرين﴾ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِخْبَارٌ ⦗٧٢⦘ عَنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ طَرِيقَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ أَنْ بعثه بِمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي زَمَانِهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَسَبِيلٍ وَنَجَاةٍ، فَالْيَهُودُ أَتْبَاعُ مُوسَى عليه السلام الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي زَمَانِهِمْ، وَالْيَهُودُ مِنَ الْهَوَادَةِ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ أَوِ التَّهَوُّدُ وَهِيَ التَّوْبَةُ كَقَوْلِ مُوسَى عليه السلام: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ أَيْ تُبْنَا فكأنَّهم سُمُّوا بِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ لِتَوْبَتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقِيلَ: لِنِسْبَتِهِمْ إلى (يهودا) أكبر أولاد يعقوب، فَلَمَّا بُعِثَ عِيسَى ﷺ وَجَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ، فَأَصْحَابُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ هُمُ النَّصَارَى وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ أَنْصَارٌ أَيْضًا كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام: ﴿مَنْ أنصاري إِلَى الله؟ قال الحوارين نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ وَقِيلَ إِنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا أَرْضًا يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ، قَالَهُ قتادة وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ خَاتَمًا لِلنَّبِيِّينَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَالِانْكِفَافُ عَمَّا عَنْهُ زَجَرَ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسمِّيت أُمّة محمدا ﷺ مُؤْمِنِينَ لِكَثْرَةِ إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَاضِيَةِ وَالْغُيُوبِ الْآتِيَةِ.
وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ فقال مجاهد: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ بَيْنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَ لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزَّبُورَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: لَا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ الصَّابِئِينَ قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة، وَسُئِلَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنِ الصَّابِئِينَ فَقَالَ: الَّذِي يَعْرِفُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ شَرِيعَةٌ يَعْمَلُ بِهَا، وَلَمْ يُحْدث كُفْرًا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: الصَّابِئُونَ أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، كَانُوا بِجَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ يَقُولُونَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كتابٌ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، قال: ولم يمنوا بِرَسُولٍ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ: هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ يشبِّهونهم بِهِمْ يَعْنِي فِي قَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نوح عليه السلام، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالَّذِي تحصَّل مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَيَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ وَأَنَّهَا فَاعِلَةٌ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ بِكُفْرِهِمْ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ واختار الرَّازِيُّ أَنَّ الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ بِمَعْنَى أن الله جعلها قبلة للعباد وَالدُّعَاءِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَوَّضَ تَدْبِيرَ أمر هذا العالم إليها. وأظهرُ الْأَقْوَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُتَابِعِيهِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَيْسُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى وَلَا الْمَجُوسِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ بَاقُونَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ وَلَا دِينٌ مُقَرَّرٌ لَهُمْ يَتْبَعُونَهُ وَيَقْتَفُونَهُ، وَلِهَذَا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء، أَيْ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ سَائِرِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الصابئون الذي لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٦٣ - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
- ٦٤ - ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ⦗٧٣⦘
يَقُولُ تَعَالَى مذكِّرًا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَخَذَ عليهم من العهود والمواثيق، بالإيمان وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ رَفَعَ الجبل فوق رؤوسهم، ليقروا بما عوهدوا عليه يأخذوه بقوة وحزم وَامْتِثَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فالطُّور هو الجبل كما فسَّره به في الأعراف، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَسْجُدُوا أَمَرَ اللَّهُ الْجَبَلَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَقَدْ غَشِيَهُمْ، فَسَقَطُوا سُجَّدًا فَسَجَدُوا عَلَى شِقٍّ وَنَظَرُوا بِالشِّقِّ الْآخَرِ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ فَكَشَفَهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا سَجْدَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَجْدَةٍ كَشَفَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْهُمْ فَهُمْ يسجدون كذلك، وذلك قول الله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور﴾، ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾، يعني التوراة، قال أبو العالية: (بِقُوَّةٍ) أَيْ بِطَاعَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (بِقُوَّةٍ) بعملٍ بما فيه، وقال قتادة: الْقُوَّةُ: الْجِدُّ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: فَأَقَرُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا أُوتُوا بِقُوَّةٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَإِلَّا قَذَفْتُهُ عَلَيْكُمْ أَيْ أَسْقَطْتُهُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي الجبل، ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ يقول: اقرأوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَاعْمَلُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ يَقُولُ تَعَالَى ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ الْعَظِيمِ، تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ وَانْثَنَيْتُمْ وَنَقَضْتُمُوهُ ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي بتوبته عَلَيْكُمْ وَإِرْسَالُهُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ ﴿لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ بِنَقْضِكُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
- ٦٥ - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
- ٦٦ - فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ما أحل مِنَ الْبَأْسِ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ، الَّتِي عَصَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفُوا عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، فِيمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذا كَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ فَتَحَيَّلُوا عَلَى اصْطِيَادِ الحِيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل وَالْبِرَكِ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ، فَلَمَّا جَاءَتْ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى عَادَتِهَا فِي الْكَثْرَةِ نَشِبَتْ بِتِلْكَ الْحَبَائِلِ وَالْحِيَلِ فَلَمْ تَخْلُصْ مِنْهَا يَوْمَهَا ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ مَسَخَهُمُ اللَّهُ إِلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَنَاسِيِّ فِي الشَّكْلِ الظَّاهِرِ وَلَيْسَتْ بِإِنْسَانٍ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ هَؤُلَاءِ وحيلتهم لَمَّا كَانَتْ مُشَابِهَةً لِلْحَقِّ فِي الظَّاهِرِ وَمُخَالِفَةً لَهُ فِي الْبَاطِنِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذا يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ الْقِصَّةُ بِكَمَالِهَا وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ هم أهل أيلة، وقوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كونوا ققردة خَاسِئِينَ﴾ قال مجاهد: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ وَهَذَا سَنَدٌ جَيِّدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وقولٌ غَرِيبٌ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنَ السِّيَاقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَفِي غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ⦗٧٤⦘ بشرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطاغوت﴾ الآية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾: فَجَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، فَزَعَمَ أَنَّ شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير. وقال شيبان عَنْ قَتَادَةَ ﴿فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً، وَقَالَ عَطَاءٌ الخُراساني: نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ يَا فُلان، يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ أَيْ بلى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً بِمَعْصِيَتِهِمْ، يَقُولُ: إِذْ لَا يَحْيَوْنَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَلَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسَلْ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَسَائِرَ الْخَلْقِ فِي السِّتَّةِ الْأَيَّامِ التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بمن يشاء، ويحوله كما يشاء ﴿خَاسِئِينَ﴾ يعني أذلة صاغرين.
وقال السُّدي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ قال: هم أَهْلُ أَيْلَةَ؛ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ، فَكَانَتِ الحِيتان إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السَّبْتِ شَيْئًا، لَمْ يَبْقَ فِي الْبَحْرِ حُوتٌ إِلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنَ الماء، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ الْبَحْرِ فَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ السَّبْتِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ فَاشْتَهَى بَعْضُهُمُ السَّمَكَ فَجَعَلَ الرجُل يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فُتِحَ النَّهْرُ، فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ ماء النهر فيمكث فيها، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ الرجُل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فَيَسْأَلُهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ حَتَّى فَشَا فِيهِمْ أَكْلُ السَّمَكِ، فَقَالَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ: وَيَحْكَمُ إِنَّمَا تَصْطَادُونَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الْمَاءَ فَدَخَلَ، قَالَ: وَغَلَبُوا أَنْ يَنْتَهُوا، فَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ لِبَعْضٍ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ يَقُولُ: لِمَ تَعِظُوهُمْ وَقَدْ وَعَظْتُمُوهُمْ فَلَمْ يُطِيعُوكُمْ، فَقَالَ بعضهم: ﴿معذرة إلى ربكم وَلَعَلَّهُمْ يتَّقون﴾، فَلَماَّ أبَوْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لَا نُسَاكِنُكُمْ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ فَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَابًا وَالْمُعْتَدُونَ فِي السَّبْتِ بَابًا وَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عليه السلام، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَخْرُجُونَ مِنْ بَابِهِمْ، والكُفّار مِنْ بَابِهِمْ، فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يفتح الكفّار بابهم، فلما أبطأوا عَلَيْهِمْ تسوَّر الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَفَتَحُوا عَنْهُمْ فَذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فلمآ عتوا عمّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاشئين﴾، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لسان داود وعيسى بن مريم﴾ الآية فَهُمُ الْقِرَدَةُ، (قُلْتُ) وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بَيَانُ خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ رحمه الله مِنْ أَنَّ مَسْخَهُمْ إِنَّمَا كَانَ (مَعْنَوِيًّا) لَا (صُورِيًّا)، بَلِ الصَّحِيحُ أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا﴾ قال بعضهم: الضمير في (فَجَعَلْنَاهَا) عائد إلى الْقِرَدَةِ، وَقِيلَ عَلَى (الحِيتان)، وَقِيلَ عَلَى (الْعُقُوبَةِ)، وَقِيلَ عَلَى الْقَرْيَةِ حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى ⦗٧٥⦘ الْقَرْيَةِ، أَيْ فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِمْ فِي سَبْتِهِمْ (نَكَالًا) أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ عُقُوبَةً فَجَعَلْنَاهَا عِبْرَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى﴾ وقوله تعالى: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ أَيْ مِنَ الْقُرَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي جَعَلْنَاهَا بِمَا أَحْلَلْنَا بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ عِبْرَةً لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يرجعون﴾، فَالْمُرَادُ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِي المكان، كما قال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) من القرى (وَمَا خَلْفَهَا) من القرى، وقال أبو العالية: (وَمَا خَلْفَهَا) لِمَا بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّاسِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وكأن هؤلاء يقولون المراد ﴿لما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا مستقيم بالنسبة إلى ما يأتي بعدهم من الناس أن تكون أَهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عِبْرَةً لَهُمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَلَفَ قَبْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ فتعيَّن أن المراد فِي الْمَكَانِ وَهُوَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال أبو جعفر الرازي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ أَيْ عُقُوبَةً لِمَا خَلَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ من ذُنُوبِ الْقَوْمِ ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ لِمَنْ يَعْمَلُ بَعْدَهَا مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا مِنَ الْقُرَى بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِهَا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ومن بعدها. والثاني: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَنْ بِحَضْرَتِهَا مِنَ الْقُرَى والأُمم. والثالث: أنه تعالى جعلها عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الفعل وما بعده وهو قول الحسن. (قلت) وأرجح الأقوال الْمُرَادَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا مَنْ بحضرتها من القرى يَبْلُغُهُمْ خَبَرُهَا وَمَا حَلَّ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿ولا يزال الذي كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صنعوا قارعة﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها﴾ فجعلهم عبرة ونكالًا لمن في زمانهم وموعظة لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قال: ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ القيامة، قال الحسن: فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السُّدي: ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ (قُلْتُ) المراد بالموعظة ههنا الزَّاجِرُ، أَيْ جَعَلْنَا مَا أَحْلَلْنَا بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ فِي مُقَابَلَةِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَمَا تَحَيَّلُوا بِهِ مِنَ الْحِيَلِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُتَّقُونَ صَنِيعَهُمْ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» (أخرجه الإمام أوب عبد الله بن بطة وفي سنده (أحمد بن محمد بن مسلم) وثقه الحافظ الْبَغْدَادِيُّ وَبَاقِي رِجَالِهِ مَشْهُورُونَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ) وهذا إسناد جيد والله أعلم.
- ٦٧ - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ من الجاهلين
يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لَكُمْ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَانِ الْقَاتِلِ مَنْ هُوَ بِسَبَبِهَا، وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَنَصِّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ.
⦗٧٦⦘ (ذكر بسط القصة)
عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ لَيْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تسلحوا وركب بعضهم على بَعْضٍ، فَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ والنُّهى: عَلَامَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَأَتَوْا مُوسَى عليه السلام فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ قَالَ: فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِضُوا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ أَدْنَى بَقَرَةٍ وَلَكِنَّهُمْ شدَّدوا فشدَّد عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمروا بِذَبْحِهَا فَوَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ بَقَرَةٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْقُصُهَا مِنْ مِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا، فَأَخَذُوهَا بِمِلْءِ جِلْدِهَا ذَهَبًا فَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَقَامَ، فَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ [فَقَالَ؟؟] هَذَا - لِابْنِ أَخِيهِ - ثُمَّ مَالَ مَيِّتًا، فَلَمْ يُعْطَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَلَمْ يُوَرَّثْ قَاتِلٌ بعد (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيدة السلماني)
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ﴾ يَعْنِي لَا هَرِمَةٌ، ﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ يَعْنِي وَلَا صَغِيرَةٌ، ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أَيْ نَصَفٌ بَيْنِ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ. ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ أَيْ صَافٍ لَوْنُهَا، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أَيْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ، ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ﴾ أَيْ لَمْ يذللها العمل، ﴿تُثِيرُ الأرض ولا تسقي الحرث﴾ يَعْنِي وَلَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الحرث يعني وَلَا تَعْمَلُ فِي الْحَرْثِ ﴿مسلَّمة﴾ يَعْنِي مسلَّمة مِنَ الْعُيُوبِ ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ يَقُولُ لَا بَيَاضَ فِيهَا ﴿قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ ولو أن القوم حين أُمروا بذبح بَقَرَةً، اسْتَعْرَضُوا بَقَرَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَكَانَتْ إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْقَوْمَ اسْتَثْنَوْا فَقَالُوا: ﴿وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ لَمَا هُدوا إِلَيْهَا أبدا.
وَقَالَ السُّدي ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ فكانت لَهُ ابْنَةٌ وَكَانَ لَهُ ابْنُ أَخٍ مُحْتَاجٌ فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِيهِ ابْنَتَهُ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَغَضِبَ الْفَتَى وَقَالَ وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي وَلَآخُذَنَّ مَالَهُ، وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ وَلَآكُلَنَّ دِيَتَهُ، فَأَتَاهُ الفتى - وقد قدم تجار ف؟؟ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - فَقَالَ: يَا عَمُّ انطلِق مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْكَ مَعِي أَعْطَوْنِي، فَخَرَجَ الْعَمُّ مَعَ الْفَتَى لَيْلًا، فَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْخُ ذَلِكَ السِّبْطَ قَتَلَهُ الْفَتَى ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ كَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَانْطَلَقَ نَحْوَهُ، فَإِذَا هُوَ بِذَلِكَ السِّبْطِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُمْ، وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي فَأَدُّوا إليَّ ديَته، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيُنَادِي: وَاعَمَاهُ، فَرَفَعَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ. فَقَالُوا لَهُ: يا رسول الله ادع لَنَا رَبَّكَ حَتَّى يُبَيِّنَ لَنَا مَنْ صَاحِبُهُ فَيُؤْخَذُ صَاحِبُ القضية، فوالله إن ديته علينا لهيِّنة، ولكن نَسْتَحْيِي أَنْ نعيَّر بِهِ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾، قَالُوا: نَسْأَلُكَ عَنِ الْقَتِيلِ وَعَمَّنْ قَتَلَهُ وَتَقُولُ اذْبَحُوا بَقَرَةً أَتَهْزَأُ بِنَا؟ ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَوِ اعترضوا بقرة فذبحوها ⦗٧٧⦘ لأجزأت عنهم، ولكنْ شدَّدوا وتعنَّتوا عَلَى مُوسَى فشدَّد اللَّهُ عَلَيْهِمْ. والفارض الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلى وَلَدًا وَاحِدًا، والعَوَان النْصَفُ الَّتِي بَيْنَ ذَلِكَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ وَوَلَدَ وَلَدُهَا ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا﴾ قَالَ نَقِيٌّ لَوْنُهَا ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ قَالَ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تثير في الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مسلَّمة لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ مِنْ بَيَاضٍ وَلَا سَوَادٍ وَلَا حُمْرَةٍ ﴿قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق﴾ فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهبًا فأبى فأضعفوه له حَتَّى أَعْطَوْهُ وَزْنَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ ذَهَبًا فَبَاعَهُمْ إِيَّاهَا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فَذَبَحُوهَا، قَالَ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه مَنْ قَتْلَكَ فَقَالَ لَهُمْ ابْنُ أَخِي قَالَ: أَقْتُلُهُ فَآخُذُ مَالَهُ وَأَنْكِحُ ابْنَتَهُ، فَأَخَذُوا الْغُلَامَ فقتلوه (قال ابن كثير: وهذه الروايات عن (عبيدة) و(السدي) مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ مِمَّا يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب)
- ٦٨ - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرونَ
- ٦٩ - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
- ٧٠ - قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
- ٧١ - قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لِرَسُولِهِمْ ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عَلَيْهِمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا أيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لوقعت الموقع عنهم وَلَكِنَّهُمْ شدَّدوا فشدَّد عَلَيْهِمْ فَقَالُوا ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ﴾ أي ما هذه البقرة؟ وأي شي صفتها؟ قال ابن جرير عن ابن عباس: (لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم) قَالَ: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ﴾ أَيْ لَا كَبِيرَةً هَرِمَةً وَلَا صغيرة لم يلحقها الفحل. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ يَقُولُ نَصَفٌ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ وَأَحْسَنُ ما تكون. وقال سعيد بن جبير: ﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ صافية اللون. وقال العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ تَكَادُ مِنْ صُفْرَتِهَا تَبْيَضُّ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿تَسُرُّ الناظرين﴾ أي تعجب الناظرين. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ أَيْ لِكَثْرَتِهَا فَمَيِّزْ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ وَصِفْهَا وَحِلَّهَا لَنَا ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ﴾ إِذَا بَيَّنْتَهَا لَنَا ﴿لَمُهْتَدُونَ﴾ إليها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا ﴿وَإِنَّآ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ لما أعطوا ولكن استثنوا» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الحافظ ابن مردويه بنحوه) ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ أَيْ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُذَلَّلَةً بِالْحِرَاثَةِ، وَلَا مُعَدَّةَ لِلسَّقْيِ فِي السَّانِيَةِ، بَلْ هِيَ مُكَرَّمَةٌ حَسَنَةٌ صَبِيحَةٌ مسلَّمة صَحِيحَةٌ ⦗٧٨⦘ لَا عَيْبَ فِيهَا ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ غَيْرُ لَوْنِهَا وَقَالَ قتادة ﴿مسلَّمة﴾ يقول: لا عيب فيها ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ لونها واحد بهيم قاله عطاء ﴿قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: الْآنَ بينت لنا، ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس: كادوا أن لا يَفْعَلُوا - وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذِي أَرَادُوا - لِأَنَّهُمْ أرادوا أن لا يَذْبَحُوهَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَهَذِهِ الأسئلة والإضاح مَا ذَبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ الْجُهْدِ، وَفِي هَذَا ذَمٌّ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. قال ابن جرير: لَمْ يَكَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ إِنِ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَى قَاتِلِ الْقَتِيلِ الذِي اختصموا فيه ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكَادُوا يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا وَلِلْفَضِيحَةِ.
- ٧٢ - وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
- ٧٣ - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قال البخاري: ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ اختلفتم وهكذا قال مجاهد، ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: ما تغيبون. عن المسيب بن رافع: «مَا عَمِلَ رَجُلٌ حَسَنَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ وَمَا عَمِلَ رِجْلٌ سَيِّئَةً فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن المسيب بن رافع) ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ هَذَا الْبَعْضُ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْمُعْجِزَةُ حَاصِلَةٌ به وخرق العادة به كائن، فَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا لبيَّنه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ بَيَانَهُ فَنَحْنُ نبهمه كما أبهمه الله.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ أَيْ فَضَرَبُوهُ فحييَ، وَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ، جَعَلَ تبارك وتعالى ذلك الصنيع حُجَّةً لَهُمْ عَلَى الْمَعَادِ، وَفَاصِلًا مَا كَانَ بينهم من الخصومة والعناد، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مما خلقه من إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بعد موتكم﴾ وهذ الْقِصَّةُ، وَقِصَّةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَقِصَّةُ الذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَالطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا، كما قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بوادٍ مُمْحِلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ خَضِرًا»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أَوْ قَالَ: «كَذَلِكَ يحيي الله الموتى» (رواه الطيالسي عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾.
- ٧٤ - ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ⦗٧٩⦘ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى تَوْبِيخًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ عَلَى مَا شَاهَدُوهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ كُلِّهِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ التِي لَا تَلِينُ أَبَدًا، وَلِهَذَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ حَالِهِمْ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ فَصَارَتْ قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْأَمَدِ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنِ الْمَوْعِظَةِ، بَعْدَ مَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَهِيَ فِي قَسْوَتِهَا كَالْحِجَارَةِ التِي لَا عِلَاجَ لِلِينِهَا، أَوْ أشدَّ قَسْوَةً من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، وَمِنْهَا مَا يشقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَفِيهِ إِدْرَاكٌ لذلك بحسبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يسبِّح بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ والمعنى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنَ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمَّا تُدْعون إليه من الحق.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَهُوَ إِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْحِجَارَةِ كَمَا أُسْنِدَتِ الْإِرَادَةُ إِلَى الْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ أن ينقض﴾ قال الرازي والقرطبي: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا هَذِهِ الصِّفَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأشفقن منها﴾ وقال: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فيهن﴾ الآية، وقال: ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾، وقال: ﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ وَفِي الصَّحِيحِ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وَكَحَنِينِ الْجِذْعِ الْمُتَوَاتِرِ خَبَرُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عليَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، وَفِي صِفَةِ الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بِحَقٍّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي معناه.
(تَنْبِيهٌ) اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا لِلشَّكِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ (أو) ههنا بِمَعْنَى الْوَاوِ تَقْدِيرُهُ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ وقوله: ﴿عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ وكما قال جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا * كَمَا أَتَى ربَّه مُوسَى عَلَى قَدَرَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي نَالَ الْخِلَافَةَ وكانت له قدرًا، وقال آخرون: (أو) ههنا بمعنى بل فتقديره: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَكَقَوْلِهِ: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خشية﴾ ﴿وأرسلناه إلى مائة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى﴾، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ عِنْدَكُمْ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ منها في القسوة، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَقَدْ رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَعَ تَوْجِيهِ غَيْرِهِ، (قُلْتُ) وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَبْقَى شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا﴾ مع قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾، وكقوله: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾، مَعَ قَوْلِهِ ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لجِّي﴾ الْآيَةَ أَيْ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ هَكَذَا ومنهم من هو هكذا، والله أعلم. عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، ⦗٨٠⦘ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وإنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ من الله القلب القاسي» (رواه ابن مردويه والترمذي في كتاب الزهد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابراهيم) وروي مرفوعًا: «أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل والحرص على الدنيا» (رواه البزار عن أنَس بن مالك مرفوعًا).
- ٧٥ - أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
- ٧٦ - وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- ٧٧ - أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
يقول تعالى: ﴿فتطمعون﴾ يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴿أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ﴾ أَيْ يَنْقَادُ لَكُمْ بِالطَّاعَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ شَاهَدَ آبَاؤُهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ مَا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ ﴿مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أَيْ فَهِمُوهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا يُخَالَفُونَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيفِهِ وَتَأْوِيلِهِ. وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قلوبهم قاسة يحرفون الكفم عن مواضعه﴾ وليس كلهم قد سمعها، ولكن هم الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فيها، قال السدي: هي التوراة حرّفوها. وقال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عقلوه وهم يَعْلَمُونَ﴾ هُمُ الْيَهُودُ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَوَعَوْهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَمَدُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا، وَقَالَ ابْنُ وهب فِي قَوْلِهِ ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ قَالَ: التَّوْرَاةُ التِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، يُحَرِّفُونَهَا يَجْعَلُونَ الْحَلَالَ فِيهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامَ فِيهَا حَلَالًا، والحق فيها باطلًا والباطل فيها حقًا.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمنوا قالوا آمنا﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمنا﴾ أي قالوا: إنَّ صاحبكم رَسُولِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً. ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ فكان منهم، ﴿وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا، اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؟ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا آمَنَّا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آمنوا ثم نافقوا. وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ نَحْنُ مُسْلِمُونَ، لِيَعْلَمُوا خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَمْرَهُ، فَإِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ، ⦗٨١⦘ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُونَ: بلى.
قال أَبُو الْعَالِيَةِ ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني بما أنزل عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَقَالَ قَتَادَةَ: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ كَانُوا يَقُولُونَ سَيَكُونُ نَبِيٌّ فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فقالوا: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فتح الله عليكم﴾ وعن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ، فَقَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ فَقَالُوا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا الْأَمْرِ مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْكُمْ ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ لِلْفَتْحِ ليكون لهم حجة عليكم. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تحدِّثوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، مِمَّا في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقوله تَعَالَى: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يسرو وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يَعْنِي مَا أَسَرُّوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وتكذيبهم به وهم يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ﴿أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ كَانَ مَا أَسَرُّوا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَوَلَّوْا عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَخَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، تَنَاهَوْا أَنْ يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا فِي كِتَابِهِمْ، خَشْيَةَ أَنْ يُحَاجَّهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ يَعْنِي حِينَ قَالُوا لِأَصْحَابِ محمد ﷺ آمنا.
- ٧٨ - وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
- ٧٩ - فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أَيْ وَمِنْ أَهْلِ الكتاب، وَالْأُمِّيُّونَ جَمْعُ أُمِّيٍّ وَهُوَ الرَّجُلُ الذِي لَا يحسن الكتابة، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب﴾ أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ، وَلِهَذَا فِي صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ الأمي لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهكذا» الحديث. وقال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ قال ابْنُ جَرِيرٍ: نَسَبَتِ الْعَرَبُ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَى أُمِّهِ فِي جهله بالكتاب دون أبيه. وقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ عن ابن عباس: ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ يَقُولُ إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كذبًا، وقال مجاهد إلاّ كذبًا، وعن مُجَاهِدٍ: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ قال: أناس من اليهود لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ويقولون هو من الكتاب (أماني) يتمنونها، وَالتَّمَنِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ تَخَلُّقُ الْكَذِبِ وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان رضي الله عنه «مَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ» يَعْنِي مَا تَخَرَّصْتُ الْبَاطِلَ وَلَا اخْتَلَقْتُ الْكَذِبَ، وقيل: المراد بقوله ﴿إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ بالتشديد والتخفيف أيضًا أي إلاّ تلاوة. واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ الآية، وقال كعب بن مالك الشاعر:
⦗٨٢⦘ تمنَّى كتاب الله أول ليله * وآخره لاقى حِمَام المقادر
﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ يكذبون، وقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ الْآيَةَ. هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى الضَّلَالِ بِالزُّورِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، والويلُ: الْهَلَاكُ والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وعن ابن عباس الويل: المشقة من العذاب، وقال الخليل الويلُ: شِدَّةُ الشَّرِّ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَيْهَا، وقال الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم، وقال غيره: الويل الحزن. وعن عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ﴿فويل للذي يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ قَالَ: هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَقَالَ السُّدي: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِمْ يَبِيعُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيُحَدِّثُونَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَأْخُذُوا بِهِ ثَمَنًا قليلًا، وقال الزهري عن ابن عباس: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عن شيءٍ وكتابُ الله الذي أنزله على نبيّه أحدث أخبار الله تقرأونه غضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حدَّثكم اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قليلاَ، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدًا قَطُّ سَأَلَكُمْ عن الذي أنزل عليكم» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَالِافْتِرَاءِ، وويلٌ لَهُمْ مِمَّا أَكَلُوا بِهِ مِنَ السُّحْتِ، كما قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ﴿فَوَيْلٌ لَّهُمْ﴾ يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ ﴿وَوَيْلٌ لَهُمْ مما يَكْسِبُونَ﴾ يقول: مما يأكلون به أولئك النَّاسَ السَّفَلَةَ وَغَيْرَهُمْ.
- ٨٠ - وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْيَهُودِ فِيمَا نَقَلُوهُ وَادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، ثُمَّ يَنْجُونَ منها، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أَيْ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَهْدٌ فَهُوَ لَا يُخْلِفُ عَهْدَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مَا جَرَى وَلَا كان، ولهذا أتى بأم التِي بِمَعْنَى (بَلْ) أَيْ بَلْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ. قال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يقولون: إن هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ بِكُلِّ أَلْفِ سنةٍ يَوْمًا فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ إلى قوله: ﴿خَالِدُونَ﴾ وقال العوفي عن ابن عباس: قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وهي مدة عبادتهم العجل، وقال قَتَادَةَ: ﴿وَقَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ يَعْنِي الْأَيَّامَ التِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قَوْمٌ آخَرُونَ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بيده على رؤوسهم: (بل أنتم خالدون ومخلدون لا يخلفكم فيها أحد)، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً﴾ الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَاةٌ فِيهَا سمُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اجمعو لي من كان من ⦗٨٣⦘ اليهود هنا) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قَالُوا: فُلان، قَالَ: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ أَنْتُمْ صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اخْسَئُوا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ أَنْتُمْ صادقيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قال: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟»، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وإن كنت نبيًا لم يضرك (رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
- ٨١ - بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- ٨٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَا كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الْأَمْرُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ وَهُوَ من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سَيِّئَاتٌ، فَهَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ مِن الْعَمَلِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرِيعَةِ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَقَامُ شبيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعملْ سُوءًا يُجز بِهِ وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أَيْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ، وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى يُحِيطَ بِهِ كُفْرُهُ فَمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: الشركُ. وقال الحسن: السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال عطاء والحسن: ﴿وأحااطت به خطيئته﴾ أحاط به شركه، وقال الأعمش: ﴿وَأَحَاطَتْ به خطيئته﴾ الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إيَّاكم ومحقراتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرجُل حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ لهم مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما قذفوا فيها (رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مرفوعًا) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ فيه خَالِدُونَ﴾ أي من آمن بما كفرتم وَعَمَلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مقيم على أهله أبدًا لا انقطاع له.
- ٨٣ - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ⦗٨٤⦘ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
يُذَكِّرُ تبارك وتعالى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أمرهم به من الأوامر، وأخذه مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ، فأمرهم تعالى أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وَأَعْظَمُهَا، وَهُوَ حَقُّ الله تبارك وتعالى أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَآكَدُهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِذَلِكَ حَقُّ الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ المصير﴾ وقال تبارك وتعالى: ﴿وقضى ربك أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحسانًا﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبيل﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَبِرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: «أُمَّكَ»، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبَاكَ؟ ثُمَّ أدناك ثم أدناك» وقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَهُوَ آكَدُ. وَقِيلَ: كَانَ أَصْلُهُ ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إلا الله﴾ فحذفت (أن) فارتفع ﴿وَالْيَتَامَى﴾ وَهُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ من الآباء، و﴿المساكين﴾ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وأهليهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أَيْ كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قال الحسن البصري أن يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
كما روي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تحقرَّن مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ تجد فالق أخاك بوجه منطلق (أخرجه أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ورواه مسلم والترمذي)» يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، بَعْدَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ، فَجَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ الإحسان (الفعلي) و(القولي) ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بالمتعين مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَقَالَ: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى عَمْدٍ، بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا القليل منهم، وقد أمر الله هَذِهِ الْأُمَّةَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ الآية.
- ٨٤ - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
- ٨٥ - ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى ⦗٨٥⦘ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- ٨٦ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
يَقُولُ تبارك وتعالى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ، الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانُوا يُعَانُونَهُ مِنَ الْقِتَالِ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ - وَهُمُ الْأَنْصَارُ - كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عبَّاد أَصْنَامٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ يَهُودُ المدينة ثلاث قبائل (بنو قينقاع) و(بنو النضير) حلفاء الخزرج و(بنو قُرَيْظَةَ) حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، فَكَانَتِ الْحَرْبُ إِذَا نَشِبَتْ بَيْنَهُمْ قَاتَلَ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ حُلَفَائِهِ فَيَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ أَعْدَاءَهُ، وَقَدْ يَقْتُلُ الْيَهُودِيُّ الْآخَرُ مِنَ الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتبهون مَا فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الْأَسَارَى مِنَ الْفَرِيقِ الْمَغْلُوبِ عَمَلًا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟﴾ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ﴾ أَيْ لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائر الجسد بالحمى والسهر»،
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أَيْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِمَعْرِفَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ وَصِحَّتِهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِهِ، ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ﴾ الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ قال: أنبأهم الله بذلك مِنْ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ، فَكَانُوا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَرَجَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، يُظَاهِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيْدِيهِمُ التَّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فِيهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَلَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا وَلَا حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَأَخْذًا بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَفْتَدِي (بَنُو قَيْنُقَاعَ) مَا كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي (الْأَوْسِ) وَيَفْتَدِي (النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ) مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ، وَيَطْلُبُونَ مَا أَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ، وقتلوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشرك عليهم،
يقول الله تعالى ذكره: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة أن لا يقتل وَلَا يُخْرَجَ مِنْ دَارِهِ وَلَا يُظَاهَرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مَنْ دُونِهِ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدُّنْيَا؟ فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ - فِيمَا بَلَغَنِي - نَزَلَتْ هَذِهِ القصة. وقال السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَيْسِ بْنِ الحطيم ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ﴾ وَالذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهَذَا السِّيَاقُ ذمَّ الْيَهُودِ فِي قِيَامِهِمْ بِأَمْرِ التَّوْرَاة التِي يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا، وَمُخَالَفَةِ شَرْعِهَا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَشَهَادَتِهِمْ لَهُ بِالصِّحَّةِ، فَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا عَلَى نَقْلَهَا، وَلَا يُصَدَّقُونَ فيما كتموه مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ⦗٨٦⦘ وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ وَمَخْرَجِهِ وَمُهَاجَرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ من شؤونه، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، وَالْيَهُودُ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - يَتَكَاتَمُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا جَزَآءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خزيٌّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ شَرْعَ اللَّهِ وَأَمْرِهِ ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب﴾ جزاء على مخالفتهم كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ أَيِ اسْتَحَبُّوهَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاخْتَارُوهَا ﴿فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ أَيْ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ أَيْ وَلَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه
- ٨٧ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
يَنْعَتُ تبارك وتعالى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعُتُوِّ وَالْعِنَادِ، وَالْمُخَالَفَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى مُوسَى الْكِتَابَ وهو (التوراة) فحرَّفوها وبدَّلوها، وخالفوا أوامرها أولوها، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عليه شهداء﴾ الآية، ولهذا قال تعالى: ﴿قفينا مِن بَعْدِهِ بالرسل﴾ قال السدي: أَتْبَعْنَا وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْدَفْنَا، وَالْكُلُّ قَرِيبٌ كَمَا قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترى﴾ حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى بن مَرْيَمَ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلِهَذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طيرًا بإذن الله، وإبراء الْأَسْقَامَ، وَإِخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ، وَتَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ - وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، فَاشْتَدَّ تَكْذِيبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ وَحَسَدُهُمْ وَعِنَادُهُمْ لِمُخَالَفَةِ التَّوْرَاةِ فِي الْبَعْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عِيسَى: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن ربكم﴾ الآية فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أَسْوَأَ الْمُعَامَلَةِ فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَهُ، وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَهُ، وَمَا ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ التِي قَدْ تَصَرَّفُوا فِي مُخَالَفَتِهَا، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وَرُبَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾؟
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري: عن أبي هريرة عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَضَعَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْبَرًا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فقال رسول ﷺ: «اللَّهُمَّ أَيِّدْ حَسَّانَ بروح القدس كما نافح عن نبيك» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» وَفِي شِعْرِ حَسَّانَ قَوْلُهُ:
وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس به خفاء
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أنه لن تموت نفس حَتَّى تَسْتَكْمِلَ ⦗٨٧⦘ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فَاتَّقَوُا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا في الطلب (رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود)» وحكى القرطبي عن مجاهد القدُس: هو الله تعالى، وروحه جبريل وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقُدْسُ الْبَرَكَةُ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابن عباس: القدس الطهر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ بِالرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ، كَمَا تقول: حَاتِمُ الْجُودِ، وَرَجُلُ صِدْقٍ، وَوَصْفُهَا بِالْقُدُسِ كَمَا قَالَ ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ فَوَصْفُهُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالتَّقْرِيبِ تَكْرِمَةٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ تَضُمَّهُ الْأَصْلَابُ وَالْأَرْحَامُ الطَّوَامِثُ، وَقِيلَ: بِجِبْرِيلَ، وَقِيلَ: بِالْإِنْجِيلِ كَمَا قَالَ فِي القرآن ﴿رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ وَقِيلَ: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الذِي كَانَ يُحْيِي الموتى بذكره. وقال أيضًا في قوله تعالى: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ إِنَّمَا لَمْ يَقِلْ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ وَصْفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ حَاوَلُوا قَتْلَ النَّبِيِّ ﷺ بِالسُّمِّ وَالسِّحْرِ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان انقطاع أبهري» (الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ)
- ٨٨ - وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يؤمنون
﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أَيْ فِي أَكِنَّةٍ: وَقَالَ ابن عباس: أي لا تفقه، وهي القلوب المطبوع عليها، وقال مجاهد: عليها غشاوة، وقال السدي: عليها غلاف وهو الغطاء فلا تعي ولا تفقه. ﴿بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير ﴿فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ معناه: لا يؤمن منهم إلا القليل، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله: ﴿غُلفٌ﴾ تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ» فَذَكَرَ مِنْهَا: «وقلبُ أَغْلَفُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ» (أخرجه ابن جرير عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ادَّعَوْا بَلْ قُلُوبُهُمْ مَلْعُونَةٌ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا كَمَا قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إلا قليلًا﴾ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ فَقَالَ بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وَقِيلَ: فَقَلِيلٌ إِيمَانُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ مَغْمُورٌ بِمَا كَفَرُواْ بِهِ مِن الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كَانُوا غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ كَمَا تَقُولُ العرب: قلَّما رأيت مثل هذا قط نريد ما رأيت مثل هذا قط، والله أعلم.
- ٨٩ - وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ﴾ يَعْنِي الْيَهُودَ ﴿كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ وَهُوَ الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ ⦗٨٨⦘ ﴿مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ يعني التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ هَذَا الرَّسُولِ بِهَذَا الْكِتَابِ يَسْتَنْصِرُونَ بِمَجِيئِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ، يَقُولُونَ إِنَّهُ سَيُبْعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رسوله من قريش كفروا به. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قال يستنصرون: يَقُولُونَ نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ بل يُكَذِّبُونِ. وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتَّقَوُا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ ﷺ ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنا مبعوث وتصفونه بِصِفَتِهِ، فَقَالَ (سلاَم بْنُ مِشْكَمٍ﴾ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِالذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ الآية. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يَقُولُ: يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا بُعث مُحَمَّدٌ ﷺ وَرَأَوْهُ من غيرهم - كفروا به وحسدوه. قال مجاهد: ﴿فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين﴾ هم اليهود.
- ٩٠ - بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ على من يشآء من عباده فباؤوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
قَالَ السدي: ﴿بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اتعاضوا لأنفسهم فرضوا بِهِ وَعَدَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ عن تَصْدِيقِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ البغيُ والحسدُ والكراهية ل ﴿أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وَلَا حَسَدَ أَعْظَمَ مِنْ هذا. ومعنى (باؤا) استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب. قال أَبُو الْعَالِيَةِ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن. قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ فَهُوَ حِينُ غَضَبِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ سَبَبُهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ وَمَنْشَأُ ذَلِكَ التَّكَبُّرُ قُوبِلُوا بِالْإِهَانَةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي صاغرين حقيرين ذليلين. وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ حَتَّى يدخلو سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ (بُولَسُ) تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار» (رواه الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده مرفوعًا)
- ٩١ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ⦗٨٩⦘ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- ٩٢ - وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أَيْ لِلْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴿آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَصَدِّقُوهُ وَاتَّبِعُوهُ، ﴿قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ أَيْ يَكْفِينَا الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا نُقِرُّ إِلَّا بِذَلِكَ ﴿وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ﴾ يَعْنِي بِمَا بَعْدَهُ، ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ﴾ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿الحق مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ﴾ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ ثم قال تعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾؟ أَيْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ بِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ التِي بِأَيْدِيكُمْ، وَالْحُكْمِ بِهَا وَعَدَمِ نَسْخِهَا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُمْ؟ قتلتموهم بغيًا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَلَى رُسُلِ اللَّهِ فَلَسْتُمْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ وَالتَّشَهِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم ففريقا كذبتم وقريقا تقتلون﴾. ﴿وقال ابن جرير: قال يا محمد ليهود بني إسرائيل إِذَا قُلْتَ لَهُمْ: آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا، لِمَ تَقْتُلُونَ - إن كنتم مؤمنين بمآ أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عليكم قتلهم، بل أمركم بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ﴿نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ. ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله، والآيات وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ: (الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، والعصا، واليد، وفرق الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ، وَالْمَنُّ، وَالسَّلَوَى، وَالْحَجَرُ) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ التِي شَاهَدُوهَا ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ أَيْ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي زمان موسى وأيامه. وَقَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾، ﴿وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ أَيْ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ فِي هَذَا الصَّنِيعِ الذِي صَنَعْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ من الخاسرين﴾.
- ٩٣ - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
يُعَدِّدُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِمْ خَطَأَهُمْ وَمُخَالَفَتَهُمْ لِلْمِيثَاقِ، وَعُتُوَّهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ حَتَّى رَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَبِلُوهُ ثم خالفوه: ﴿ولهذا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ وَقَدْ تَقَدَّمُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ (انظر ص ٧٣) ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ﴾ عن قتادة قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وعن النبي ﷺ: «حبك الشيْ يعمي ويصم» (رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه ⦗٩٠⦘ وعن علي رضي الله عنه قَالَ: عَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بها وهو على شاطىء نَهَرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مثل الذهب (رواه ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه)
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ بِئْسَمَا تَعْتَمِدُونَهُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ مِنْ كُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِكُمُ الأنبياء، ثم كُفْرِكُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَهَذَا أكبر ذنوبكم وأشد الأمرو عَلَيْكُمْ، إِذْ كَفَرْتُمْ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ وَقَدْ فَعَلْتُمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ مِنْ نَقْضِكُمُ الْمَوَاثِيقَ، وَكُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعِبَادَتِكُمُ العجل من دون الله.؟
- ٩٤ - قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ٩٥ - وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
- ٩٦ - وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يعملون
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيِ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عليم بالظالمني﴾ أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ وَلَوْ تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت﴾ فسلوا الموت قال ابن عباس: «لو تمنى يهود الموت لماتوا ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» (أخرجه ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس) وقال ابن جرر: وبلغنا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ فهم - عليهم لعائن الله تعالى - لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ دُعُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالدُّعَاءِ عَلَى أَكْذَبِ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَكَلُوا عَنْ ذَلِكَ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَازِمِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ لَكَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَأَخَّرُوا عُلِمَ كَذِبُهُمْ. وَهَذَا كَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَفْدَ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَاهَلْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والمعنى إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ دُونِ النَّاسِ وَأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَاهِلُوا عَلَى ذَلِكَ وَادْعُوا عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُبَاهَلَةَ تَسْتَأْصِلُ ⦗٩١⦘ الْكَاذِبَ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَنَعْتِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، فَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بَاطِلَهُمْ وَخِزْيَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَعِنَادَهُمْ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ تَمَنِّيًا لِأَنَّ كُلَّ مُحِقٍّ يَوَدُّ لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُبْطِلَ الْمُنَاظِرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إذا كان في ذلك حجة له في بَيَانُ حَقِّهِ وَظُهُورُهُ، وَكَانَتِ الْمُبَاهَلَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِنْدَهُمْ عَزِيزَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ سُوءِ مَآلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وَعَاقَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ الْخَاسِرَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَامِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ وَمَا يحاذرون منه وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، حَتَّى وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهَذَا من باب عطف الخاص على العام، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ﴾ أي يود أحد اليهود لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ﴾ أي وما هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا مُنْجِيهِ منه ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي خبير بصير بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَسَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
- ٩٧ - قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
- ٩٨ - مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
قال أبو جعفر الطَّبَرِيُّ رحمه الله: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ جميعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنْ مِيكَائِيلَ وليٌّ لَهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرِ نبوّته. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ عَلَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: يَا أبا القاسم أخبرنا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إسرائيل على بنيه إذا قال: ﴿والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ قال: «هاتوا»، قالوا: فأخبرنا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا ينام قلبه». قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وَكَيْفَ تذكَّر؟ قَالَ: «يَلْتَقِي الْمَاءَانِ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَتْ»، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: «كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَّاءِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إلا ألبان كذا»، قَالَ أَحْمَدُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْإِبِلَ. فَحَرَّمَ لُحُومَهَا. قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حيث أمره الله تعالى». قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «صوته»، قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: «جِبْرِيلُ عليه السلام»، قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عدوُّنا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلُ الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل ⦗٩٢⦘ الله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عدو لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب) إلى آخر الآية. وفي رواية: أَنَّ يَهُودَ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ صَاحِبِهِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ قال: «جبريل» قالوا: فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ﴾ الآية.
وأخرج البخاري عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعَ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ) بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي سائِلك عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهذه جبرائيل آنِفًا» قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ﴾. «وأما أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ وَإِذَا سبق ماء المرأة نَزَعَتْ»، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنك رَسُولُ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيّ رجل عبد الله ابن سَلَامٍ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وابن سيدنا، قال: «أرأتيم إن أسلم» قالوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أن محمدًا رسول الله، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال: هَذَا الذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ«(رواه البخاري وأخرجه مسلم قريبًا من هذا السياق).
وقال آخرون: بل كان سبب ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عمر بن الخطاب فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، قال عمر: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن من القرآن كَيْفَ يصدِّق التَّوْرَاةَ فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ قَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكَ، (قُلْتُ): وَلِمَ ذلك؟ قالوا: لأنك تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا، فَقُلْتُ: إِنِّي آتِيكُمْ فَأَعْجَبُ مِنَ القرآن كَيْفَ يصدِّق التَّوْرَاةَ، وَمِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تصدِّق القرآن، قالوا: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَالْحَقْ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَمَا استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَالِمُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ غلَّظ عَلَيْكُمْ فَأَجِيبُوهُ، قالوا: فَأَنْتَ عَالِمُنَا وَكَبِيرُنَا فَأَجِبْهُ أَنْتَ، قَالَ: أَمَا إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم إنه رسول الله، قلت: ويحكم إذًا هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنت تعلمون إنه رسول الله وَلَا تَتْبَعُونَهُ وَلَا تُصَدِّقُونَهُ!! قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وسلْمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ قرن بنبوّته عدوّنا من الملائكة، قُلْتُ: وَمَنْ عَدُوُّكُمْ وَمَنْ سِلمكم؟ قَالُوا: عَدُوُّنَا جبريل، وسِلمنا مِيكَائِيلَ، قَالُوا: إِنَّ جِبْرِيلَ مَلَكُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ والإعسار والتشدد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة، وَالتَّخْفِيفِ وَنَحْوِ هَذَا، قَالَ، قُلْتُ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّهِمَا عز وجل؟ قَالُواْ: أَحَدُهُمَا عَنْ يمينه والآخر عن يساره، قال، فقلت: فوالذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُمَا - وَالذِي بَيْنَهُمَا - لَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمَا وسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمَا، وَمَا يَنْبَغِي لِجِبْرِيلَ أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، وَمَا ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل، قال: ثُمَّ قُمْتُ فَاتَّبَعْتُ ⦗٩٣⦘ النَّبِيَّ ﷺ فَلَحِقْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ خَوْخَةٍ لِبَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا أُقْرِئَكَ آيَاتٍ نَزَلْنَ قَبْلُ» فَقَرَأَ عَلِيَّ: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ حتى قرأ الآيات. قال، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر» (ذكره ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي)
وقال ابن جرير: انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رَحَّبُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فِيكُمْ وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَسْمَعَ مِنْكُمْ، فَسَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل فَقَالُوا: ذَاكَ عَدُوُّنَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ يُطلع محمدًا على سرِّنا وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة (المراد بالسنة: القحط والجدب) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَفَارَقَهُمْ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَوَجَّهُ نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ لِيُحَدِّثَهُ حَدِيثَهُمْ فَوَجَدَهُ قَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ الآيات.
وقال ابن جرير عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ﴾ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ للمسلمين: لو أن (ميكائيل) كان هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَيْكُمُ اتَّبَعْنَاكُمْ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ والغيث، وإن (جبرائيل) ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال: فنزلت هذه الآية.
وأما تفسير الآية فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ من عادى جبرائيل فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، الذِي نَزَلَ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ عَلَى قَلْبِكَ مِنَ اللَّهِ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ رَسُولٌ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ ملكيَّ، وَمَنْ عَادَى رَسُولًا فَقَدْ عَادَى جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِرَسُولٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الغيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ لله لأن جبرائيل لَا يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ بِأَمْرِ رَبِّهِ كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ» ولهذا غضب الله لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى: ﴿مِنْ كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أَيْ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ هُدًى لِقُلُوبِهِمْ، وَبُشْرَى لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا للَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: مَّنْ عَادَانِي وَمَلَائِكَتِي وَرُسُلِي - وَرُسُلُهُ تَشْمَلُ رُسُلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾، ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عُمُومِ الرُّسُلِ، ثُمَّ خُصّصا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ السِّيَاقَ في الانتصار لجبرائيل، وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَقَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلَ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ الْيَهُودَ زَعَمُوا أَنَّ جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن مَنْ عَادَى وَاحِدًا مِنْهُمَا فَقَدْ عَادَى الْآخَرَ، وعادى الله أيضًا، ولأنه أيضًا ينزل على أنبياء ⦗٩٤⦘ بَعْضَ الْأَحْيَانِ كَمَا قُرِنَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر. هذا بِالْهُدَى وَهَذَا بِالرِّزْقِ، كَمَا أَنَّ إِسْرَافِيلَ مُوَكَّلٌ بالنفخ في الصور لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِف فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي من تشاء إلى صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ». عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: الله. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ فِيهِ إِيقَاعُ الْمُظْهَرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ (فإنه عدو) بل قَالَ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا أَرَى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ * سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وإنما أظهر الله هذا الإسم ههنا لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَإِظْهَارِهِ، وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّ مَنْ عادى وليًا لله فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَمَنْ عَادَى اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لَهُ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَدُوَّهُ فَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة» (الرواية تقدمت بلفظ (فقد بارزني بالحرب) وذكر ابن كثير أنه رواية البخاري رضي الله عنه وفي الحديث الصحيح: «من كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ».
- ٩٩ - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون
- ١٠٠ - أو كلما عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
- ١٠١ - وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنهم لا يعلمون
- ١٠٢ - واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
- ١٠٣ - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عند الله خير لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ الآية. أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ، دالاّت عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ خَفَايَا عُلُومِ الْيَهُودِ، وَمَكْنُونَاتِ سَرَائِرِ أَخْبَارِهِمْ، وَأَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّبَأِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ التِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلُهُمْ ⦗٩٥⦘ وَأَوَاخِرُهُمْ وَبَدَّلُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ التِي كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لِمَنْ أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ صُورِيَّا القطويني لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتْبَعُكَ، فَأَنْزَلَ الله في ذلك: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ﴾ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وذكَّرهم مَا أُخذ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَمَا عُهد إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَاللَّهِ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا فِي محمد، وما أُخذ علينا ميثاقٌ، فأنزل الله تعالى: ﴿أو كلما عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ عَهْدٌ يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، يُعَاهِدُونَ الْيَوْمَ وَيَنْقُضُونَ غَدًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ أَيْ نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّي اللَّقِيطُ مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبِيذُ - وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ - إِذَا طُرِحَا فِي الْمَاءِ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
نظرتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فنبذتَه * كَنَبْذِكَ نَعْلًا أخلقتْ مِنْ نِعَالِكَا
قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، الذِي فِي كُتُبِهِمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ وَأَخْبَارُهُ، وَقَدْ أُمِرُوا فِيهَا بِاتِّبَاعِهِ ومؤازرته ونصرته كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل﴾، وقال ههنا: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ الآية، أي طرح طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ تَرَكُوهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا أَرَادُوا كَيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وسحروه في مُشْط ومُشَاقه وجُفّ طلعة ذَكَرٍ تحت راعوفة ببئر أَرْوَانَ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ) لَعَنَهُ اللَّهُ وقبحه، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ ﷺ وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذلك مبسوطًا في الصحيحين كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ﴾ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ، وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا عِلْمَهُمْ وَكَتَمُوهُ وَجَحَدُوا بِهِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فلما مات سليمان أخرجته الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا هَذَا الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَا. قال: فأكفره جهال الناس وسبُّوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبُّونه حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشياطين كَفَرُواْ﴾ وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أَيْ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كلام الملائكة ما يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ أَوْ أَمْرٍ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً فَاكْتَتَبَ الناس ⦗٩٦⦘ ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبُعِثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يدنوا مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا ضربت عنقه.
فلما مات سليمان وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وخلف مِّن بَعْدِ ذلك خلف، تمثل الشيطان فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كنز لا تأكلونه أَبَدًا (أي لا ينفد بالأكل منه) قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوهها قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، واتخذت بنوا إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ خَاصَمُوهُ بِهَا فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشياطين كَفَرُواْ﴾ وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إِلَى الْإِنْسِ فَقَالُوا لَهُمْ: أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسِخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: فَإِنَّهُ فِي بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستخرجوه وعملوا به، فأنزل الله تعالى على نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَرَاءَةَ سليمان عليه السلام، فقال تعالى: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ﴾ لما ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ (سُلَيْمَانُ بْنُ داود) وعدَّه فيمن عد مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَن كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ اليهود: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا ساحرًا، وأنزل الله: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ الْآيَةَ.
وروي أنه لما مَاتَ سُلَيْمَانُ عليه السلام قَامَ إِبْلِيسُ - لَعَنَهُ الله - خطيبًا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا فَالتَمِسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُوتِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الذِي دُفِنَ فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا، هَذَا سحرهُ بِهَذَا تعَّبدنا وَبِهَذَا قَهَرَنَا، فقال الْمُؤْمِنُونَ: بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا. فَلَمَّا بَعَثَ الله النبي محمدًا ﷺ وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَخْلِطُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَبُ الرِّيحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ (رواه ابن جرير عن شهر بن حوشب) الآية. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي هذا المقام.
وقوله تعالى: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أَيْ وَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ الذين أُوتُواْ الكتاب من بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ ومخالفتهم لرسول الله محمد ﷺ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ أَيْ مَا تَرْوِيهِ وَتُخْبِرُ بِهِ وَتُحَدِّثُهُ الشَّيَاطِينُ على ملك سليمان، وعدّاه بعلى لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ﴿تَتْلُو﴾ تَكْذِبُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿على﴾ ههنا بِمَعْنَى فِي، أَيْ تَتْلُو فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ (قُلْتُ) وَالتَّضَمُّنُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُ الْحَسَنِ البصري رحمه الله: - وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا فِي زَمَانِ مُوسَى عليه السلام وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى﴾ ⦗٩٧⦘ الآية ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بَعْدَهَا، وَفِيهَا: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة﴾ وَقَالَ قَوْمُ صَالِحٍ - وَهُمْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام لَنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ إِنَّمَآ ﴿أَنتَ مِنَ المسحَّرين﴾ أي الْمَسْحُورِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ على الملكين بباب هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفره فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ أَعْنِي التِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قَالَ القرطبي: «ما» نافية ومعطوف عَلَى قَوْلِهِ ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ ثُمَّ قَالَ ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أنزل على الملكين﴾، وذلك أن اليهود كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فأكذبهم الله وَجَعَلَ قَوْلَهُ ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إخوة﴾ أو لكونهما لَهُمَا أَتْبَاعٌ، أَوْ ذُكِرَا مِنْ بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا. تقدير الكلام عنده: يعلمون النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ وَلَا يُلْتَفَتْ إِلَى مَا سِوَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ﴾ الآية. يَقُولُ: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ، وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس فِي قَوْلِهِ ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هذا «واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ» مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الذِي مَعْنَاهُ الْمُقَدَّمُ قَالَ: فإن قال لنا قائل: كيف وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يقال: «واتبعوا ما تتلوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ببابل هاروت وَمَارُوتَ» فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ، وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ عليه السلام مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا (هَارُوتُ) وَاسْمُ الْآخَرِ (مَارُوتُ) فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ علىهذا التأويل ترجمة عن الناس وردًا عليهم. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ (مَا) بِمَعْنَى الذِي، وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ السِّحْرِ اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وَامْتِحَانًا بَعْدَ أَنْ بيَّن لِعِبَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُطِيعَانِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا امْتَثَلَا مَا أُمِرَا بِهِ، وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ غَرِيبٌ جَدًا، وأغرب منه قوله مَنْ زَعَمَ أَنَّ ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ قَبِيلَانِ مِنَ الجن كما زعمه ابن حزم.
وقد روي في قصة (هاروت) و(ماروت) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَغَيْرِهِمْ وقصَّها خَلْقٌ مِنَ المفسِّرين مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الذِي لَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ من غير بسط ولا إطناب، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحال
⦗٩٨⦘ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾، عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: نَعَمْ أُنْزِلَ الْمَلَكَانِ بِالسِّحْرِ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ الْبَلَاءَ الذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ بِهِ الناس، فأخذ عليهم الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نحن فتنة: أَيْ بَلَاءٌ ابْتُلِينَا بِهِ فَلَا تَكْفُرْ. وَقَالَ ابن جرير في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر. وأما الفتنة فيه الْمِحْنَةُ وَالِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ * وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طويلًا
(يتبع ...)
(تابع ... ١): ٩٩ - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون ... ...
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عليه السلام حَيْثُ قَالَ: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ أَيْ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وامتحانك، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ» (رواه البزار بسند صحيح) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ أَيْ فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ، مَا يَتَصَرَّفُونَ به فيما يتصرفون مِنَ الْأَفَاعِيلُ الْمَذْمُومَةِ، مَا إِنَّهُمْ لَيُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْطَةِ وَالِائْتِلَافِ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الشَّيَاطِينِ كَمَا رَوَاهُ مسلم في صحيحه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنِ الشَّيْطَانَ لَيَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا! وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ ويلتزمه ويقول: نعم أنت (رواه مسلم عن جابر بن عبد الله)» وسبب التفريق بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالسِّحْرِ مَا يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ سُوءِ مَنْظَرٍ أو خلق أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفُرْقَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إلا بقضاء الله، وقال الحسن البصري: مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ أَيْ يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ نَفْعٌ يُوَازِي ضَرَرُهُ ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ أَيْ وَلَقَدْ عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا بِالسِّحْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ لَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ من خلاق، قال ابن عباس من نصيب، ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ﴿وَلَبِئْسَ﴾ الْبَدِيلُ مَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ مِنَ السِّحْرِ عِوَضًا عَنِ الْإِيمَانِ وَمُتَابَعَةِ الرسول، لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِمَا وُعِظُوا بِهِ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ أَيْ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَاتَّقَوُا الْمَحَارِمَ، لَكَانَ مَثُوبَةُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا اسْتَخَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَرَضُوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يلقَّاها إِلاَّ الصابرون﴾.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَكْفِيرِ السَّاحِرِ، كَمَا هُوَ رواية عن الإمام أحمد ابن حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: بَلْ لَا يَكْفُرُ وَلَكِنْ حَدُّهُ ضَرْبُ عُنُقِهِ، لِمَا رَوَاهُ الشافعي وأحمد بن حنبل عن
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ بِجَالَةَ بْنَ عبدة يقول: كَتَبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سواحر (رواه البخاري من صحيحه) وصح أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَحَرَتْهَا جَارِيَةٌ لَهَا فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد ابن حنبل: صح عن ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ في قتل الساحر، وروى الترمذي عَنْ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَدُّ السَّاحِرِ ضربه بالسيف» (رواه الترمذي عن جندب الأزدي مرفوعًا وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقبة كَانَ عِنْدَهُ سَاحِرٌ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيحُ بِهِ فَيَرُدُّ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يُحْيِي الْمَوْتَى!! وَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِي الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ، وَذَهَبَ يَلْعَبُ لَعِبَهُ ذَلِكَ فَاخْتَرَطَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَ السَّاحِرِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ صادقا فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: ﴿أتاتون السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ فَغَضِبَ الْوَلِيدُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله قِصَّةَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ عَلَى سِحْرٍ يَكُونُ شِرْكًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
حكى الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ السِّحْرِ، قَالَ: وَرُبَّمَا كفَّروا مَنِ اعْتَقَدَ وجوده، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَقْدِرَ السَّاحِرُ أَنْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ، وَيَقْلِبَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا وَالْحِمَارَ إِنْسَانًا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ عِنْدَمَا يَقُولُ السَّاحِرُ تِلْكَ الرقى والكلمات الْمُعَيَّنَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُوَ الْفَلَكُ وَالنُّجُومُ فَلَا، خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ والصابئة، ثُمَّ استُدل عَلَى وُقُوعِ السِّحْرِ، وَأَنَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. وَمِنَ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُحِرَ وَأَنَّ السِّحْرَ عَمِلَ فِيهِ، وَبِقِصَّةِ الْمَرْأَةِ مَعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَمَا ذكرت من إتيانها بابل وتعلمها السحر.
ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أن أنواع السحر ثمانية (الأول): سحر الكذابين وَالْكُشْدَانِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ وَهِيَ السَّيَّارَةُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةُ الْعَالَمِ وَأَنَّهَا تَأْتِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُمُ الَّذِينَ بُعِثَ الله إليهم إبراهيم الخليل مبطلًا لمقالتهم ورادًا لمذهبهم.
(وَالنَّوْعُ الثَّانِي): سِحْرُ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ وَالنُّفُوسِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَهْمَ لَهُ تَأْثِيرٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى الْجِسْرِ الْمَوْضُوعِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَمْدُودًا عَلَى نَهَرٍ أَوْ نحوه، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ النُّفُوسَ خُلِقَتْ مُطِيعَةً للأوهام، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ حق لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كان شيء سابق القدر لسبقته العين».
(والنوع الثَّالِثُ) مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ وَهُمُ الْجِنُّ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنُونَ، وَكُفَّارٌ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ، قَالَ: وَاتِّصَالُ النُّفُوسِ النَّاطِقَةِ بِهَا أَسْهَلُ مِنَ اتِّصَالَهَا بِالْأَرْوَاحِ السَّمَاوِيَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْقُرْبِ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَ الصَّنْعَةِ وَأَرْبَابَ التَّجْرِبَةِ شَاهَدُوا أَنَّ الِاتِّصَالَ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ يَحْصُلُ بِأَعْمَالٍ سَهْلَةٍ قَلِيلَةٍ من الرقى والدخن وَالتَّجْرِيدِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعَزَائِمِ وَعَمَلِ التسخير.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ) مِنَ السِّحْرِ: التَّخَيُّلَاتُ، وَالْأَخْذُ بِالْعُيُونِ، والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء وَيَشْتَغِلُ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ دُونَ غَيْرِهِ، أَلَا تَرَى ذا الشعبذة الْحَاذِقَ يُظْهِرُ عَمَلَ شَيْءٍ يُذْهِلُ أَذْهَانَ النَّاظِرِينَ بِهِ وَيَأْخُذُ عُيُونَهُمْ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغَهُمُ الشُّغْلُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِالتَّحْدِيقِ وَنَحْوِهِ، عَمِلَ شَيْئًا آخَرَ عَمَلًا بِسُرْعَةٍ شَدِيدَةٍ، وحينئذٍ يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرَ مَا انْتَظَرُوهُ، فَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَصْرِفُ الْخَوَاطِرَ إِلَى ضِدِّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ النُّفُوسُ وَالْأَوْهَامُ إِلَى غَيْرِ مَا يُرِيدُ إِخْرَاجَهُ، لَفَطِنَ النَّاظِرُونَ لِكُلِّ مَا يفعله.
(قُلْتُ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُ المفسِّرين: إِنَّ سِحْرَ السَّحَرَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ باب بالشعبذة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يخَيَّل إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ قَالُوا: وَلَمْ تَكُنْ تَسْعَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(النَّوْعُ الْخَامِسُ) مِنَ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ، وَمِنْهَا الصُّوَرُ التِي تُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورنها ضاحكة؟؟ إِلَى أَنْ قَالَ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أمور التخاييل، قَالَ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا القبيل،؟؟ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَحَشَوْهَا زِئْبَقًا فَصَارَتْ تَتَلَوَّى بِسَبَبِ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الزِّئْبَقِ فَيُخَيَّلُ إلى الرائي أنها تسعى باختيارها، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِيَلُ النَّصَارَى عَلَى عَامَّتِهِمْ بِمَا يُرُونَهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْأَنْوَارِ، كَقَضِيَّةِ قُمَامَةِ الْكَنِيسَةِ التِي لَهُمْ بِبَلَدِ الْمَقْدِسِ، وَمَا يَحْتَالُونَ بِهِ مِنْ إِدْخَالِ النَّارِ خِفْيَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَإِشْعَالِ ذَلِكَ الْقِنْدِيلِ بِصَنْعَةٍ لَطِيفَةٍ تَرُوجُ عَلَى الطعام منهم، وأما الخواص فهم معترفون بِذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَأَوَّلُونَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ شَمْلَ أَصْحَابِهِمْ على دينهم فيرون ذلك سائغًا لهم.
(النَّوْعُ السَّادِسُ) مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ في الأطعمة والدهانات، قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ. (قُلْتُ) يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ، مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إلى غير ذلك من المحالات.
(النوع السابع) من السحر: التعليق للقلب، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّاحِرُ أَنَّهُ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَحَصَلَ فِي نفسه نوع من الرعب والمخالفة، فَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ، فحينئذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. (قُلْتُ): هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التّنْبلة وَإِنَّمَا يَرُوجُ على ضعفاء الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَفِي عِلْم الفِراسة مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ ناقصه، فإذا كان النبيل حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ له من الناس من غيره.
(النوع الثامن) من السحر: السعي بالنميمة مِنْ وُجُوهٍ خَفِيفَةٍ لَطِيفَةٍ وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي الناس (قلت)
النَّمِيمَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا حرام متفق عليه، فأما إن كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَائْتِلَافِ كلمة المسلمين، أو عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الحرب خدعة» وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النَّافِذَةُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ، (قُلْتُ): وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنِّ السِّحْرِ لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»، وَسُمِّيَ السُّحُورُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ خفيًا آخر الليل، والسَّحْرُ: الرئة، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ البدن كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: انتفخ سَحْره، أَيِ انْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ سَحْري ونحري.
وقال الْقُرْطُبِيُّ: وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ، وَلَهُ حَقِيقَةٌ، يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا يَشَاءُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وأبي إسحاق الاسفرايني مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ تَمْوِيهٌ وَتَخَيُّلٌ، قَالَ: وَمِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ كالشعوذة، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ وَرُقًى مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ الشَّيَاطِينِ، وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وَأَدْخِنَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَوْلُهُ عليه السلام: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا كَمَا تَقَوَّلَهُ طَائِفَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لِلْبَلَاغَةِ، قَالَ: وَهَذَا أصح، قال: لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي له» الحديث.
فصل
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ إِنْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَّقِيَهُ أو ليجتنبه وَمَنْ تَعَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ كَفَرَ، وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَآءُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ، فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا قُتِلَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فإنه قال: يقتل والحالة هذه فصاصًا، قَالَ: وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عنهم: لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخرى تُقْبَلُ، وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل لِقِصَّةِ (لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ)، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ، وَقَالَ الثَّلَاثَةُ حُكْمُهَا حكم الرجل والله أعلم.
مسْألة
وهل يسأل الساحر حلًا لسحره؟ فأجازه سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وقال الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَّا تنشَّرت، فَقَالَ: «أمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّهُ قَالَ يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ، فَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ تُضْرَبُ بِالْمَاءِ وَيُقْرَأُ عَلَيْهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَيَشْرَبُ مِنْهَا الْمَسْحُورُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الذِي يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ (قُلْتُ): أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ مَا أنزل الله على رسوله فِي إِذْهَابِ ذَلِكَ وَهُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لم يتعوذ المتعوذ بِمِثْلِهِمَا» وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مُطَّرِدَةٌ للشيطان:
- ١٠٤ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- ١٠٥ - مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم
نهى الله تعالى عباده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ فِي مَقَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَانُونَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَوْرِيَةٌ لِمَا يَقْصِدُونَهُ مِنَ التَّنْقِيصِ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا: اسمع لنا، يقولوا (راعنا) ويورُّون بِالرُّعُونَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدين﴾ وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سلَّموا إِنَّمَا يَقُولُونَ (السَّامُ عَلَيْكُمْ) وَالسَّامُ هُوَ الْمَوْتُ، وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ ب (وعليكم)، وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وقولا انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقال ﷺ: «من تشبه بقوم فهو منهم» (أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ، فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.
وروي أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ، فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خيرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عنه، وقال الاعمش عن خيثمة ما تقرأون فِي الْقُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَإِنَّهُ في التوراة: (يا أيها المساكين) قال ابْنِ عَبَّاسٍ: (رَاعِنَا) أَيْ أَرْعِنَا سمعَك، وَقَالَ الضحاك: كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أرعنا سمعك، قال عطاء: كَانَتْ لُغَةً تَقُولَهَا الْأَنْصَارُ فَنَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وقال أبو صخر: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَن كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَهُ. وَقَالَ السُّدي: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ يُدْعَى (رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ) يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ فَإِذَا لَقِيَهُ فكلَّمه ⦗١٠٣⦘ قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخّم بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: اسمع غير مسمع، فنهوا أن يقولوا راعنا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لَنَبِيِّهِ ﷺ رَاعِنَا، لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيّه ﷺ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ يُبَيِّنُ بِذَلِكَ تَعَالَى شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، الذين حذَّر الله تَعَالَى مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَقْطَعَ المودَّة بَيْنَهُمْ وبينهم، ونبَّه تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الشَّرْعِ التَّامِّ الْكَامِلِ، الذِي شَرَعَهُ لَنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
- ١٠٦ - مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- ١٠٧ - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ مَا نُبَدِّلُ مِنْ آية، وقال مُجَاهِدٍ: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ أَيْ مَا نمحو من آية، مِثْلُ قَوْلِهِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زنَيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ»، وَقَوْلُهُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ من ذهب لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا»، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آية﴾ ما ننقل مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ فَنُبَدِّلُهُ وَنُغَيِّرُهُ، وذلك أن نحوّل الْحَلَالُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، وَالْمُبَاحُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي (الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ) فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ. وَأَصْلُ النَّسْخِ: مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ نُسْخَةٍ أُخرى إِلَى غَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْوِيلُهُ وَنَقْلُ عبارة إِلَى غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ نَسْخُ حُكْمِهَا أَوْ خَطِّهَا إِذْ هِيَ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا عُلُمَاءُ الْأُصُولِ فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي حَدِّ النَّسْخِ، والأمرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ. لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ: رَفْعُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ، فَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ نَسْخُ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَعَكْسِهِ وَالنَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ. وَأَمَّا تَفَاصِيلُ أَحْكَامِ النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أُصول الفقه. وقال الطبراني: قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فكانا يقرآن بِهَا، فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ، فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِي فَالْهُوَا عَنْهَا» (رواه الطبراني وفي سنده سليمان بن الأرقم ضعيف) " فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقْرَؤُهَا: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ بضم النون الخفيفة
وقوله تعالى ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ فقرىء عَلَى وَجْهَيْنِ: ﴿نَنْسأها﴾، ﴿ونُنسِها﴾، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ النُّونِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَ السِّينِ فَمَعْنَاهُ نُؤَخِّرُهَا. قال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود ﴿أو ننسأها﴾ نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال مجاهد وعطاء: ﴿أو ننسأها﴾ نؤخرها ونرجئها. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آية أو ننسأها﴾ أي نؤخرها (ذكره ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وأما على قراءة ﴿أَوْ نُنْسها﴾ فقال قتادة: كان الله عز وجل ينسي نبيّه ﷺ مَا يَشَاءُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ. ⦗١٠٤⦘ وَقَالَ ابْنُ جرير عن الحسن فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ قَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قرأ قرآنًا ثم نسيه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: «كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وينساه بالنهار» (أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس) وقال عُمَرُ: أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وإنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبي، وَذَلِكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لَا أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا﴾ (أخرجه البخاري بسنده إلى عمر رضي الله عنه وقولهُ: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ أَيْ فِي الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قال ابن عباس: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ. وَقَالَ السدي: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلَ الذي تركناه.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ يرشد عباده تَعَالَى بِهَذَا إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ ويشقي مَنْ يَشَاءُ، وَيُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ، كَذَلِكَ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ فَيَحِلُّ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، وَيُبِيحُ مَا يَشَاءُ وَيَحْظُرُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الذِي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ وَيَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالنَّسْخِ فَيَأْمُرُ بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ التِي يَعْلَمُهَا تَعَالَى، ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمُهُ تَعَالَى، فَالطَّاعَةُ كُلُّ الطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرُوا، وَامْتِثَالِ مَا أَمَرُوا وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرُوا، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ رَدٌّ عَظِيمٌ وَبَيَانٌ بَلِيغٌ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنها اللَّهُ فِي دَعْوَى اسْتِحَالَةِ النَّسْخِ إِمَّا عَقْلًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ جَهْلًا وَكُفْرًا، وَإِمَّا نَقْلًا كَمَا تَخَرَّصَهُ آخَرُونَ مِنْهُمُ افْتِرَاءً وَإِفْكًا، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ لي ملء السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَسُلْطَانَهُمَا دُونَ غَيْرِي أَحْكُمُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَآمُرُ فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاءُ، وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاءُ وَأَنْسَخُ وَأُبَدِّلُ وَأُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِي التِي أَحْكُمُ بِهَا في عبادي بما أشاء إذ أَشَاءُ، وَأُقِرُّ فِيهِمَا مَا أَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ: وهذا الخبر وإن كان خطابًا من اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْ عَظَمَتِهِ، فَإِنَّهُ مِنْهُ جل ثناؤه تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّةَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بتغيير مَا غيَّر اللَّهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَأَخْبَرَهُمُ الله إن له ملك السماوات وَسُلْطَانَهُمَا، وَأَنَّ الْخَلْقَ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَعَلَيْهِمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْرَهُمْ بِمَا يَشَاءُ وَنَهْيَهُمْ عَمَّا يَشَاءُ، وَنَسْخَ مَا يَشَاءُ وَإِقْرَارَ مَا يَشَاءُ، وَإِنْشَاءَ مَا يَشَاءُ من إقراره وأمره ونهيه.
(قُلْتُ): الذِي يَحْمِلُ الْيَهُودَ عَلَى الْبَحْثِ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَحْكُمُ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَشَرَائِعِهِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا أَحَلَّ لِآدَمَ تَزْوِيجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ ثُمَّ حَرَّمَ ذَلِكَ، وَكَمَا أَبَاحَ لِنُوحٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ أَكْلَ جميع الحيوانا ثُمَّ نَسَخَ حلَّ بَعْضِهَا، وَكَانَ نِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ مُبَاحًا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي شريعة التوراة وما بعدها، وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام بِذَبْحِ وَلَدِهِ ثُمَّ نسخه قبل الفعل، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ويصدفون عنه. فَفِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَّنَ تَعَالَى جَوَازَ النَّسْخِ ردًا على اليهود عليهم لعنة اللَّهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ ⦗١٠٥⦘ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض﴾ الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّ لَهُ الْمُلْكَ بِلَا مُنَازِعٍ فَكَذَلِكَ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا يَشَاءُ ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾.
وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَكُلُّهُمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ المفسِّر: لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ في القرآن، وقوله ضعيفٌ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَقَدْ تَعَسَّفَ فِي الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ مِنَ النَّسْخِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةُ العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذَلِكَ بِكَلَامٍ مَقْبُولٍ، وَقَضِيَّةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ مُصَابَرَةِ الْمُسْلِمِ لِعَشَرَةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى مُصَابَرَةِ الِاثْنَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ ﷺ وغير ذلك (انظر بحث النسخ في تفسيرنا (روائع البيان)، الجزء الأول، ص ١٠٩)، والله أعلم.
- ١٠٨ - أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
نَهَى اللَّهُ تَعَالَى المؤمنين فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ كَثْرَةِ سُؤَالِ النبي عَنِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تسوءكم وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تَفْصِيلِهَا بَعْدَ نُزُولِهَا تُبَيَّنُ لَكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَبْلَ كَوْنِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يحرَّم مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يحرم فحُرِّم من أجل مسألته». وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة ابن شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِنْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ». وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّ فَقَالَ رَجُلٌ: أكلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: «لَا، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم» الحديث. ولهذا قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ مِنْ أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ما سألوه إلا عن اثنتي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر - و- يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى﴾ (رواه البزار عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) يَعْنِي هَذَا وَأَشْبَاهُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ﴾ أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ أَوْ هِيَ عَلَى بَابِهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ (إِنْكَارِيٌّ) وَهُوَ يَعُمُّ المؤمنين والكافرين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تنزِّل عَلَيْهِمْ كِتَابًا من السماء﴾ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَافِعُ بْنُ حرملة ووهب بْنُ زَيْدٍ: يَا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنَزِّلُهُ علينا من السماء نقرؤه، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتْبَعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ؟ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ (أخرجه محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس) ⦗١٠٦⦘
وقال مجاهد: سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، قَالَ: «نَعَمْ وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل» فأبوا ورجعوا، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ ﷺ عَنْ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ كَمَا سَأَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى عليه السلام تَعَنُّتًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ أَيْ ومن يشترِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لَهُمْ، إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْأَسْئِلَةِ التِي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾.
- ١٠٩ - وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- ١١٠ - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ أَن اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يُحذِّر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سُلُوكِ طريق الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَمَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضْلِهِمْ وَفَضْلِ نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال ابن عباس: كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرِ بْنُ أخطب من أشد يهود العرب حَسَدًا، إِذْ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِرَسُولِهِ ﷺ، وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَطَاعَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم﴾ الآية. روي أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ ﷺ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ قال تَعَالَى: ﴿كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ يَقُولُ مِنْ بَعْدِ مَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ لَمْ يَجْهَلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْحَسَدَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْجُحُودِ فعيَّرهم وَوَبَّخَهُمْ وَلَامَهُمْ أَشَدَّ الْمَلَامَةِ وَشَرَعَ لَنَبِيِّهِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا أُنْزِلَ الله عَلَيْهِمْ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِكَرَامَتِهِ وَثَوَابِهِ الجزيل ومعونته له. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس ﴿مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ مِّن قِبَل أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَفَرُوا بِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر﴾، وكذا قال أبو العالية وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَيُرْشِدُ إلى ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾ يحثهم تَعَالَى عَلَى الِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَتَعُودُ عَلَيْهِمْ عَاقِبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، حَتَّى يمكَّن لَهُمُ اللَّهُ النَّصْرَ فِي ⦗١٠٧⦘ الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفَلُ عَنْ عَمَلِ عَامِلٍ، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَإِنَّهُ سَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بعمله. وقال ابن جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هذا الْخَبَرُ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أو شر، سرًا وعلانية فَهُوَ بِهِ بَصِيرٌ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ خَيْرًا وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، وَهَذَا الكلام وإن كان قد خرج مخرج فَإِنَّ فِيهِ وَعْدًا وَوَعِيدًا، وَأَمْرًا وَزَجْرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْلَمَ الْقَوْمَ أَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ ليجدّوا في طاعته إذ كان مذخورًا لَهُمْ عِنْدَهُ حَتَّى يُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾ وَلِيَحْذَرُوا مَعْصِيَتَهُ. قَالَ وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿بَصِيرٌ﴾ فإنه (مبصر) صرف إلى بصر كما صرف (مبدع) إلى بديع و(مؤلم) إلى أليم، والله أعلم.
- ١١١ - وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- ١١٢ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- ١١٣ - وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
يُبَيِّنُ تَعَالَى اغْتِرَارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا هُمْ فِيهِ، حَيْثُ ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم الله تعالى كما تَقَدَّمَ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى التِي ادَّعَوْهَا بِلَا دليل ولا حجة ولا بينة ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ قال أَبُو الْعَالِيَةِ: أَمَانِيُّ تَمَنَّوْهَا عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حق، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ أي حجتكم ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي فيما تَدَّعُونَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيْ مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ ومن اتبعن﴾ الآية. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ﴾ أَخْلَصَ ﴿وَجْهَهُ﴾ قَالَ: دِينَهُ ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيْ اتبع فِيهِ الرَّسُولَ ﷺ، فإنَّ لِلْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، فَمَتَى كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُتَقَبَّلْ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حديث عائشة مرفوعا)» فَعَمَلُ الرُّهْبَانِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ - وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِيهِ لِلَّهِ - فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ حتى يكون ذلك متابعًا للرسول ﷺ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَفِيهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئا﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ ⦗١٠٨⦘ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تسقى مِنْ عَيْنٍ آنية﴾ وروي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ تَأَوَّلَهَا فِي الرُّهْبَانِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِصْ عَامِلُهُ الْقَصْدَ لِلَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ وَهَذَا حَالُ المرائين والمنافقين، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًَا﴾ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ضَمِنَ لَهُمْ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ تَحْصِيلَ الْأُجُورِ وَآمَنَهُمْ مِمَّا يَخَافُونَهُ مِنَ الْمَحْذُورِ ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ، ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على ما مضى مما يتركونه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب﴾ بيَّن بِهِ تَعَالَى تَنَاقُضَهُمْ وَتَبَاغُضَهُمْ وَتَعَادِيَهِمْ وَتَعَانُدَهُمْ، كَمَا قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس: لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقال رافع بن حرملة: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى لِلْيَهُودِ: مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَجَحَدَ نُبُوَّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتَّوْرَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ قَالَ: إِنَّ كُلًّا يَتْلُو في كتابه تصديق من كفر به، أن يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِالتَّصْدِيقِ بِعِيسَى، وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى بِتَصْدِيقِ مُوسَى وَمَا جَاءَ مِنَ التَّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكُلٌّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صاحبه. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ صَدَقَتْ فِيمَا رَمَتْ بِهِ الطَّائِفَةَ الأُخرى، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ فِيمَا قَالُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً في وقت، ولكنهم تَجَاحَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنَادًا وَكُفْرًا وَمُقَابَلَةً لِلْفَاسِدِ بالفاسد وقوله: ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ بيَّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به مِنَ الْقَوْلِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى: ﴿الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ قال ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ؟ قَالَ: أُمم كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَالَ السُّدي: ﴿كَذَلِكَ قال الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ هم الْعَرَبُ قَالُوا لَيْسَ مُحَمَّدٌ عَلَى شَيْءٍ، وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا عَامَّةٌ تَصْلُحُ لِلْجَمِيعِ وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعَيِّنُ وَاحِدًا من هذه الأقوال والحمل عَلَى الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِقَضَائِهِ الْعَدْلِ الذِي لَا يَجُورُ فِيهِ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وهذه الآية كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ والذن هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركون إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾.
- ١١٤ - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وَسَعَوْا فِي خَرَابِهَا على قولين: أحدهما: هُمُ النُّصَّارَى كَانُوا يَطْرَحُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. قال قتادة: أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى حَمَلَهُمْ بُغْضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَنَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ السُّدي: كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتَنَصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى خَرَّبَهُ وأمر أن يطرح فِيهِ الْجِيَفُ، وَإِنَّمَا أَعَانَهُ الرُّومُ عَلَى خَرَابِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بن زكريا. (القول الثاني): ما رواه ابن جرير عن ابن زيد قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ بِذِي طُوَى وَهَادَنَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَلَا يَصُدُّهُ» فَقَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا مَنْ قَتَلَ آبَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِينَا بَاقٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ﴾ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا مَنَعُوا النَّبِيَّ ﷺ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ثُمَّ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَسَعَوْا فِي تَخْرِيبِ بَيْتِ المقدس. (قلت): والذي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْقَوْلُ الثَّانِي كَمَا قَالَهُ ابن زيد فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَجَّهَ الذَّمَّ فِي حَقِّ اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذي أَخْرَجُوا الرَّسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهِ مِنْ مَكَّةَ وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَسْعَ فِي خَرَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَيُّ خَرَابٍ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلُوا؟ أَخْرَجُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ وَاسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا بِأَصْنَامِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الحرام﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عِمَارَتِهَا زَخْرَفَتَهَا وَإِقَامَةَ صُورَتِهَا فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وفي إقامة شَرْعِهِ فِيهَا، وَرَفْعِهَا عَنِ الدَّنَسِ وَالشَّرَكِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الطَّلَبُ أَيْ لَا تُمَكِّنُوا هَؤُلَاءِ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِهَا إِلَّا تَحْتَ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ أَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ فِي سَنَةِ تسع أن ينادي برحاب مِنى: «ألا يحجنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يطوفنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ أَجْلٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مدته»، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ يَنبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا خَائِفِينَ عَلَى حَالِ التهيب وارتعاد الفرائض مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ، فَضْلًا أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ الْحَقُّ وَالْوَاجِبُ إِلَّا ذَلِكَ لَوْلَا ظُلْمُ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ سَيُظْهِرُهُمْ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّهُ يُذِلُّ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا خَائِفًا يَخَافُ أَنْ يُؤْخَذَ فَيُعَاقَبَ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ هَذَا الْوَعْدَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ لَا يَبْقَى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَشْرِيفُ أَكْنَافِ ⦗١١٠⦘ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَطْهِيرُ البقعة التِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا رَسُولَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بَشِيرًا وَنَذِيرًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَكَمَا صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صُدُّوا عَنْهُ، وَكَمَا أَجْلَوْهُمْ من مكة أُجلوا عنها ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ عَلَى مَا انْتَهَكُوا مِنْ حُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَامْتَهَنُوهُ مِنْ نَصْبِ الأصنام حوله، ودعاء غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَهُ، وَالطَّوَافِ بِهِ عُرْيًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَاعِيلِهِمُ التِي يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ (كَعْبُ الْأَحْبَارِ) إِنَّ النَّصَارَى لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَّبُوهُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾ الْآيَةَ فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ نَصْرَانِيٌّ يَدْخُلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خائفًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مُسَارَقَةً.
- ١١٥ - وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن مَكَّةَ وَفَارَقُوا مَسْجِدَهُمْ وَمُصَلَّاهُمْ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وُجِّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدُ، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَهْلُهَا الْيَهُودَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يحب قبلة إبراهيم، وكان يَدْعُو وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، وَقَالَ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ قَالَ: قِبْلَةُ اللَّهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا، وَقَالَ: مُجَاهِدٌ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا الْكَعْبَةُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ التَّوَجُّهَ إلى الكعبة، وإنما أنزلها لِيُعْلِمَ نَبِيَّهُ ﷺ وَأَصْحَابَهُ أن له التَّوَجُّهَ بِوُجُوهِهِمْ لِلصَّلَاةِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ نَوَاحِي المشرق والمغرب، لأنه لَا يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ وَجْهًا مِنْ ذَلِكَ وَنَاحِيَةً إِلَّا كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتِلْكَ النَّاحِيَةِ، لِأَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وأنه لا يخلوا مِنْهُ مَكَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أينما كانوا﴾ قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ الذِي فَرَضَ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هَكَذَا قَالَ، وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلوا مِنْهُ مَكَانٌ؛ إِنْ أَرَادَ عِلْمَهُ تَعَالَى فَصَحِيحٌ، فإنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَمَّا ذاته فَلَا تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْنًا من الله إِن يصلي (المتطوع) حَيْثُ تَوَجَّهَ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ فِي سفره لما روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ ⦗١١١⦘ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله (رواه مسلم والترمذي والنسائي)﴾
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآي في قوم عميت عليه القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلُّو على أنحاء مختلفة، فقال الله تعالى: لي المشارق والمغارب، فأين وليتم وجوهكم فهناك وَجْهِي وَهُوَ قِبْلَتُكُمْ فَيُعْلِمُكُمْ بِذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَكُمْ ماضية، لما روي عن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا إلىغير الْقِبْلَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله (رواه التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وليس إسناده بذاك)﴾ الآية
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ سَرِيَّةً فَأَخَذَتْهُمْ ضَبَابَةٌ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشَّمْسِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حدثوه فأنزل الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وجه الله﴾ (رواه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وفيه ضعف)
قال بن جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي دُعَائِكُمْ لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ ومعنى قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ يَسَعُ خَلْقَهُ كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله: ﴿عَلِيمٌ﴾ فإنه يعن عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ مَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ بَلْ هُوَ بِجَمِيعِهَا عليم.
- ١١٦ - وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
- ١١٧ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالتِي تَلِيهَا عَلَى الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ وَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ وَقَوْلِهِمْ إِنَّ لِلَّهِ وَلَدًا فَقَالَ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا افْتَرَوْا، وَإِنَّمَا له ملك السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَمُقَدِّرُهُمْ ومسخِّرهم ومسيِّرهم وَمُصَرِّفُهُمْ كَمَا يَشَاءُ، وَالْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِنْهُمْ، وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَهُوَ تبارك وتعالى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مُشَارِكٌ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿بديع السموات وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾، فَقَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الذِي ⦗١١٢⦘ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَهُ مَخْلُوقَةٌ لَهُ مَرْبُوبَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؟ ولهذا قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَيَزْعُمُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدًا، فسبحاني أن أتخذ صاحبه أو ولدًا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ».
وَقَوْلُهُ ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ مقرّون له بالعبودية. وقال السدي: أي مطيعون يوم القيامة، وقال مجاهد: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ مطيعون. قال: طَاعَةُ الْكَافِرِ فِي سُجُودِ ظِلِّهُ وَهُوَ كَارِهٌ، وهذا القول - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ - يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال تعالى: ﴿لله يَسْجُدُ مَن فِي السموات ومن في الأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بالغدو والآصال﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ خَالِقُهُمَا على غير مثال سبق وَهُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُحْدَثِ بدعة كما جاء في صحيح مسلم «فإن كل محدثة بدعة» وَالْبِدْعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: تَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً شَرْعِيَّةً، كَقَوْلِهِ: «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَتَارَةً تَكُونُ بِدْعَةً لُغَوِيَّةً كَقَوْلِ أَمِيرِ المؤمنين عمر ابن الخطاب عَنْ جَمْعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ: «نعمت البدعة هذه» وقال ابن جرير: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مُبْدِعُهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ (مُفْعِل) فَصُرِفَ إِلَى فَعِيلٍ كَمَا صُرِفَ الْمُؤْلِمُ إِلَى الْأَلِيمِ، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث مالا يَسْبِقْهُ إِلَى إِنْشَاءِ مِثْلِهِ وَإِحْدَاثِهِ أَحَدٌ. قَالَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمُبْتَدِعُ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعًا لِإِحْدَاثِهِ فيه ما لم يسبق إليه غيره.
قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان الله إن يكون له وَلَدٌ وَهُوَ مَالِكٌ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَشْهَدُ لَهُ جَمِيعُهَا بِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتُقِرُّ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَهُوَ بَارِئُهَا وَخَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ احْتَذَاهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا إعلامٌ من الله لعباده أَنَّ مِمَّنْ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ (الْمَسِيحُ) الذِي أَضَافُوا إِلَى اللَّهِ بُنُوَّتَهُ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ الذِي ابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أصل وعلى غير مثلا، هُوَ الذِي ابْتَدَعَ الْمَسِيحَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ وَالدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا مِنَ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله كَلَامٌ جَيِّدٌ وَعِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يبيّن بذلك كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَدَّرَ أَمْرًا وَأَرَادَ كَوْنَهُ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ﴿كُنْ﴾ أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً ﴿فَيَكُونُ﴾ أَيْ فَيُوجَدُ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ له كن فيكون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا * يَقُولُ له كن قولة فيكون
- ١١٨ - وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لقوم يوقنون ⦗١١٣⦘
قال ابن عباس: قال رافع بن حرملة لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تقول، فقل لله فيكلمنا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ من قوله: ﴿وقال الذي لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آية﴾ (أخرجه محمد بن إسحاق عن ابن عباس) وقال مجاهد: النصارى تقوله، وقال قتادة والسُّدي: هَذَا قَوْلُ كُفَّارِ الْعَرَبِ، ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ من قبلهم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ قال: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنَّ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعا﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رسولا﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ الآية إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ وَالْمُعَانَدَةُ كَمَا قَالَ مَن قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم.
وقوله تعالى: ﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ أَشْبَهَتْ قُلُوبُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلُوبَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالْعُتُوِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أتواصوا بِهِ﴾؟ الآية. وقوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أَيْ قَدْ أوضحنا الدَّلَالَاتِ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ، وَزِيَادَةٍ أُخرى لِمَنْ أَيْقَنَ وَصَدَّقَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ وَفَهِمَ مَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تبارك وتعالى، وَأَمَّا مَنْ خَتَمَ الله على قلبه وسمعه وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة فأولئك قال الله فِيهِمْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾.
- ١١٩ - إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أصحاب الجحيم
عن ابن عباس قَالَ: «بَشِيرًا بِالْجَنَّةِ وَنَذِيرًا مِنَ النَّارِ»، وَقَوْلُهُ: ﴿ولا تسئل عن أصحاب الجحيم﴾ قراءة أكثرهم ﴿ولا تسئل﴾ بضم التاء على الخبر، وفي قراءة ابن مسعود ﴿ولن تسئل﴾ عن أصحاب الجحيم أَيْ لَا نَسْأَلُكَ عَنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ بك، كقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وعلينا الحساب﴾.
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ؛ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا) (رواه البخاري وأحمد)
- ١٢٠ - وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ ⦗١١٤⦘ الذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
- ١٢١ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وَلَيْسَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا، فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضَا اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قل إن هدى اللهو الْهُدَى﴾ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذِي بَعَثَنِي بِهِ هُوَ الْهُدَى، يَعْنِي هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعدما عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ - عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَ الرَّسُولِ وَالْأَمْرَ لِأُمَّتِهِ، وقد استدل كثير من الفقهاء بقول: ﴿حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ حَيْثُ أَفْرَدَ الْمِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَارَثُ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، وكلٌ مِنْهُمْ يَرِثُ قَرِينَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ أَمْ لَا لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾، قَالَ قتادة: هم اليهود والنصارى وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنْ يُحِلَّ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَقْرَأَهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلَا يَتَأَوَّلَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى غير تأويله، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود في قوله: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ يتبعونه حق اتباعه. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَعَنْ عُمَرَ بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآيى رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ تَعَوَّذَ. وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ خبر، أَيْ مَنْ أَقَامَ كِتَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَقَّ إِقَامَتِهِ آمَنَ بِمَا أَرْسَلْتُكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أرجلهم﴾ الآية. وَقَالَ: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، أَيْ إِذَا أَقَمْتُمُوهَا حَقَّ الْإِقَامَةِ، وَآمَنْتُمْ بِهَا حَقَّ الْإِيمَانِ، وَصَدَّقْتُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، قَادَكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ويدرؤون بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بصير ⦗١١٥⦘ بالعباد﴾، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فأنار موعده﴾ وَفِي الصَّحِيحِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النار» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا).
- ١٢٢ - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ١٢٣ - وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ في صدر السورة، وكررت ههنا لِلتَّأْكِيدِ وَالْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُمي الذِي يَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَنَعْتَهُ وَاسْمَهُ وأمره وأُمته فحذرهم مِنْ كِتْمَانِ هَذَا، وَكِتْمَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَلَا يَحْسُدُوا بَنِي عَمِّهِمْ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُهُمْ ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عَنْ مُوَافَقَتِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
- ١٢٤ - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى منبِّهًا عَلَى شَرَفِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عليه السلام، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ يُقْتَدَى به في التوحيد، حين قام به كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، ولهذا قال: ﴿وَإِذَا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ أَيْ وَاذْكُرْ يَا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذي ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها .. اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختاره لهم بِمَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أي قام بهن كلهن كما قالت تعالى ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَّى﴾ أَيْ وفَّى جَمِيعَ مَا شَرَعَ لَهُ فَعَمِلَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ من المشركين * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ المؤمنين﴾. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿بِكَلِمَاتٍ﴾ أَيْ بِشَرَائِعَ وَأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ أَيْ قَامَ بِهِنَّ، قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ أَيْ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ كَمَا قَامَ بِالْأَوَامِرِ وَتَرَكَ الزَّوَاجِرَ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُحْتَذَى حَذْوَهُ.
وقد اختلف في تعيين الْكَلِمَاتِ التِي اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام، فروي عن ابن عباس قال: ابتلاه الله بالمناسك، وروي عنه قال: ابتلاه بِالطَّهَارَةِ خمسٌ فِي الرَّأْسِ، وخمسٌ فِي الْجَسَدِ، فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَفَرْقُ الرَّأْسِ، وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ والبول بالماء. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ ⦗١١٦⦘ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ».
وقال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا ابْتُلِيَ بِهَذَا الدِّينِ أَحَدٌ فَقَامَ بِهِ كُلِّهِ إلا إبراهيم، قال الله تعالى: ﴿وإذا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِهِنَّ فَأَتْمَهُنَّ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَلَاثُونَ سَهْمًا مِنْهَا عَشْرُ آيات في براءة: ﴿التائبون العابدون﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَعَشْرُ آيَاتٍ فِي أَوَّلِ سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ وعشر آيات من الأحزاب: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ إلى آخر الآية فأتمهن كلهم فكتبت له براءة. قال الله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ التِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِنَّ إِبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ: فِرَاقُ قَوْمِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أُمِرَ بِمُفَارَقَتِهِمْ، وَمُحَاجَّتُهُ نُمْرُوذَ فِي اللَّهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَرِ الْأَمْرِ الذِي فِيهِ خِلَافُهُ، وَصَبْرُهُ عَلَى قَذْفِهِ إِيَّاهُ فِي النَّارِ لِيَحْرِقُوهُ فِي اللَّهِ عَلَى هَوْلِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَالْهِجْرَةُ بعد ذلك من ووطنه وَبِلَادِهِ فِي اللَّهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُمْ، وما أمر بِهِ مِنَ الضِّيَافَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كُلِّهِ وَأَخْلَصَهُ لِلْبَلَاءِ قَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمينْ﴾ عَلَى مَا كَانَ مِنْ خِلَافِ النَّاسِ وَفِرَاقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان الحسن يقول: إي والله، لقد ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، فَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالْهِجْرَةِ فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ حَتَّى لَحِقَ بِالشَّامِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَلَاهُ بِالنَّارِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وابتلاه بذبح ابنه، والختان فصبر على ذلك. وعن الربيع بن أنس قَالَ: الْكَلِمَاتُ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿واخذوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القوعد مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَذَلِكَ كُلُّهُ من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم. وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عليه السلام أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ ضاف الضيف، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رب زدني وقارًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ جَمِيعُ ما ذكر، وجاز أَنْ يَكُونَ بَعْضَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ إِجْمَاعٍ. قَالَ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ وَلَا بِنَقْلِ الْجَمَاعَةِ الذي يجب التسليم له. ولما جَعَلَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَأُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ، وَأُخْبِرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ظَالِمُونَ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُهُمْ عَهْدُ اللَّهِ، وَلَا يكونون أئمةً فلا يقتدي بهم ﴿قَالَ وَمِن ذريَّتي، قَالَ لاَ ينالُ عَهْدِي الظالمين﴾، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل اللَّهُ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَفِي ذُرِّيَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فقال مجاهد: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.، وعنه قال: أما من كان منهم صالحًا فأجعله إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ ظَالِمًا فلا ولا نعمة عين. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ، ثُمَّ قَالَ ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ وروي عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي ⦗١١٧⦘ الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ: لَا يَنَالُ عهدُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظالم فأمن به وأكل وعاش وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: عهدُ اللَّهِ الذِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ دينهُ، يَقُولُ: لَا يَنَالُ دِينُهُ الظَّالِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحق وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ يَقُولُ لَيْسَ كُلُّ ذُرِّيَّتِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى الحق. وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ: «لَا طَاعَةَ إِلَّا في المعروف» (أخرجه ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مرفوعًا) وَقَالَ السُّدي ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾: يَقُولُ عَهْدِي نُبُوَّتِي. فَهَذِهِ أَقْوَالُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وقال ابن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكمًا ولا مفتيًا ولا شاهدًا ولا راويًا.
- ١٢٥ - وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود
عن ابن عباس ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾ قَالَ: يَثُوبُونَ إليه ثم يرجعون. وحدث عبدة بن أبي لبابة قَالَ: لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ مُنْصَرِفٌ وَهُوَ يَرَى أنه قد قضى منه وطرًا قال الشاعر:
جُعِلَ الْبَيْتُ مَثَابًا لَهُمْ * لَيْسَ مِنْهُ الدهرَ يَقْضُونَ الوَطَر
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة ﴿مَثَابَةً لِّلنَّاسِ﴾: أي مجمعًا ﴿أمنًا﴾ أي أمنًا للناس، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وهم آمنون لا يُسبون.
ومضمون هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ شَرَفَ الْبَيْتِ، وَمَا جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ كَوْنِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، أَيْ جَعَلَهُ مَحَلًّا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ وَتَحِنُّ إِلَيْهِ، وَلَا تَقْضِي مِنْهُ وَطَرًا وَلَوْ تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، اسْتِجَابَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِدُعَاءِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فِي قَوْلِهِ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿رَبَّنَا وتقبل دعائي﴾، وَيَصِفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَمْنًا مَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ثم دخله كان آمنًا. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وَمَا هَذَا الشَّرَفُ إِلَّا لِشَرَفِ بَانِيهِ أَوَّلًا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى: ﴿وإذا بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بي شيئا﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبَّهَ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس: مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل: مقام إبراهيم الحج كله (منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة (ذكره عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سفيان الثوري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ قَالَ: الْحَجَرُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيِّ اللَّهِ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً فَكَانَ يَقُومُ عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَقَامُ الْحَجَرُ الذِي وَضَعَتْهُ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى غَسَلَتْ رَأْسَهُ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: سَمِعَ جَابِرًا يُحَدِّثُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لَهُ عُمَرُ: هَذَا مقام أبينا؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى﴾ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِهِ ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلى﴾ مثابة يثوبون: يرجعون. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ⦗١١٨⦘ ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمهات الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آية الحجاب. قال: وَبَلَغَنِي مُعَاتِبَةُ النَّبِيِّ ﷺ بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ فَقُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أتيت إحدى نسائه قالت: يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ﴾ الآية.
وقال أنَس: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَافَقْتُ رَبِّي عز وجل فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أزاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ فنزلت كذلك (رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحِجَابِ، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم.
وروى ابن جريج عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعًا حَتَّى إِذَا فَرَغَ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى﴾ وقال ابن جرير عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرُّكْنَ فَرْمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أربعًا ثم نفذ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الذي رواه مسلم في صحيحه. فهذا كلهم مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَجَرُ، الذِي كَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يَقُومُ عَلَيْهِ لِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، لَمَّا ارْتَفَعَ الْجِدَارُ أَتَاهُ إِسْمَاعِيلُ عليه السلام بِهِ لِيَقُومَ فَوْقَهُ، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كَمَّلَ نَاحِيَةً انْتَقَلَ إِلَى النَّاحِيَةِ الأُخرى يَطُوفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ جِدَارٍ نَقَلَهُ إِلَى النَّاحِيَةِ التِي تَلِيهَا وهكذا حتى تم جدران الْكَعْبَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإسماعيل وَكَانَتْ آثَارُ قَدَمَيْهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مَعْرُوفًا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ اللَّامِيَّةِ:
وموطىء إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غير ناعل
وقد كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة وَمَكَانُهُ مَعْرُوفٌ الْيَوْمَ إِلَى جَانِبِ الْبَابِ، مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ يُمْنَةَ الدَّاخِلِ مِنَ الْبَابِ، فِي الْبُقْعَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ هُنَاكَ، وَكَانَ الْخَلِيلُ عليه السلام لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَضَعَهُ إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، أَوْ أَنَّهُ انْتَهَى عِنْدَهُ الْبِنَاءُ فَتَرَكَهُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أُمِرَ بِالصَّلَاةِ هناك عند الفراغ من الطَّوَافِ، وَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ انْتَهَى بِنَاءُ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ أميرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، الَّذِينَ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «اقْتَدَوْا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان)، وهو الذي نزل القرآن يوافقه فِي الصَّلَاةِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
⦗١١٩⦘ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الْمَقَامَ كان زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وزمان أبي بكر رضي الله عنه مُلْتَصِقًا بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَخَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه (رواه البهيقي قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح) وعن مجاهد قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ، فأنزل ﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مصلّى﴾ فكام؟؟ الْمَقَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ فحوَّله رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى موضعه هذا (رواه ابن مردويه عن مجاهد. قال ابن كثير: هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لرواية عبد الرزاق عنه) وهو مخالف لما تقدم أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أخَّر الْمَقَامَ إِلَى مَوْضِعِهِ الْآنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَعَ اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
تتمة الآية (١٢٥): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
- ١٢٦ - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
- ١٢٧ - وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- ١٢٨ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنْتَ التواب الرحيم
التفسير: قال الحسن البصري: قوله تعالى ﴿وَعَهِدْنَآ إلى إبراهيم وإسماعيل﴾: أمرهما الله أن يطهرهاه مِنَ الْأَذَى وَالنَّجَسِ، وَلَا يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ مَا عهده؟ قال أمره. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا عُدِّيَ بِإِلَى لأنه في معنى أوحينا.
قوله: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين﴾ أي مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّفَثِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَالرِّجْسِ. قَالَ مجاهد وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ أَيْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنَ الشِّرْكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ فَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مَعْرُوفٌ، وَعَنْ سَعِيدِ بن جبير أنه قال: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ يَعْنِي مَنْ أَتَاهُ مِنْ غُرْبَةٍ ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ الْمُقِيمِينَ فِيهِ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس أنَّهما فسَّرا الْعَاكِفِينَ بِأَهْلِهِ الْمُقِيمِينَ فيه وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا كَانَ جَالِسًا فَهُوَ من العاكفين، وعن ثَابِتٌ قَالَ: قُلْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مَا أُرَانِي إِلَّا مُكَلِّمٌ الْأَمِيرَ أَنْ أَمْنَعَ الَّذِينَ يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُمْ يَجْنُبُونَ وَيُحْدِثُونَ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْهُمْ فَقَالَ: هُمُ الْعَاكِفُونَ (رواه ابن أبي حاتم عن حماد بن سلمة عن ثابت)
(قُلْتُ): وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنَامُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ وَهُوَ عَزَبٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿والركع السجود﴾ فقال عطاء عن ابن عباس إِذَا كَانَ مُصَلِّيًا فَهُوَ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ.
قال ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَأَمَرْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ، والتطهيرُ الذِي أَمَرَهُمَا بِهِ فِي الْبَيْتِ هُوَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عند البيت
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الذِي أُمِرَ بِتَطْهِيرِهِ مِنْهُ؟ فالجواب من وجهين: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ أَمَرَهُمَا بِتَطْهِيرِهِ مِمَّا كَانَ يُعْبَدُ عِنْدَهُ زَمَانَ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمَا إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ إِمَامًا يُقْتَدَى به. (قُلْتُ): وَهَذَا الْجَوَابُ مفرّعٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ عِنْدَهُ أَصْنَامٌ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ هَذَا إِلَى دَلِيلٍ عَنِ الْمَعْصُومِ محمد ﷺ (الثَّانِي): أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يُخْلِصَا فِي بِنَائِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَبْنِيَاهُ مُطَهَّرًا مِنَ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿أفمن أسس بنانه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾؟ قال فكذلك قوله: ﴿وعهدنا إلى إبرهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَن طهِّرا بَيْتِيَ﴾ أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام أَنْ يَبْنِيَا الْكَعْبَةَ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لِلطَّائِفِينَ بِهِ وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ وَالْمُصَلِّينَ إِلَيْهِ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الْآيَاتِ.
وقد اختلف الفقهاء أيَّهمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَتَوْجِيهُ كُلٍّ مِنْهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ عِنْدَ بَيْتِهِ، الْمُؤَسَّسِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَصُدُّونَ أَهْلَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ به وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أليم﴾، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَيْتَ إِنَّمَا أُسِّسَ لِمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِمَّا بِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَجْزَاءَهَا الثَّلَاثَةَ (قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا) وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَاكِفِينَ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ﴿سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ، واكتفى بِذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنِ الْقِيَامِ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ إِلَّا بَعْدَ قِيَامٍ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى مَنْ لَا يَحُجُّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فَضِيلَةَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وإسماعيل وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَنَى هَذَا الْبَيْتَ لِلطَّوَافِ فِي الحج والعمرة وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ مُقْتَدِينَ بِالْخَلِيلِ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ؟ وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ مُوسَى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْمَعْصُومُ الذِي لَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾.
وتقدير الكلام إذن: ﴿وعهدنا إلى إبرهيم﴾ أي تقدمنا بوحينا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أَيْ طَهِّرَاهُ مِنَ الشِّرْكِ والريب وابنياه خالصًا لله معقالًا لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَتَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ مَأْخُوذٌ من هذه الآية الكريمة وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾، وَمِنَ السُّنَةِ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا وَتَطْيِيبِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِيَانَتِهَا مِنَ الْأَذَى وَالنَّجَاسَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ»، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ مَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ؟ فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ قبل آدم ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَحَكَى لَفْظَهُ وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَقِيلَ آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضًا. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ عليه السلام، وَغَالِبُ مَنْ يَذْكُرُ هَذَا إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مَنْ كُتِبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهِيَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِهَا. وَأَمَّا إِذَا صَحَّ حَدِيثٌ فِي ذَلِكَ فَعَلَى الرَّأْسِ والعين.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قَالَ ابن جرير عن جابر بن عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حرَّم بَيْتَ اللَّهِ وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بَيْنَ لَابَتَيْهَا، فَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا وَلَا يُقْطَعُ عضاهها (رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخَرَ)» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدّنا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ» ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثمر (رواه مسلم، وفي لفظٍ له «بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ» ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ حضر من الولدان). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدِمُنِي»، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يَرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كُلَّمَا نَزَلَ.
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ أقبل حتى بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: «هَذَا جبلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ»، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مدهم» زاد البخاري يعني: أهل المدينة. وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جعلته بمكة من البركة» (رواه البخاري ومسلم) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَإِنِّي حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها، أن لَا يَهْرَاقُ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطُ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدّنا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بِرْكَتَيْنِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)»، وَالْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لِمَكَّةَ لِمَا فِي ذَلِكَ من مُطَابَقَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مُنْذُ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى والله أعلم.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ أُخر تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا»، فَقَالَ العباس: يا رسول الله الإذخر فإنه لقّيْنهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِّيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سمعْته أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخَّص بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم،
وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب (رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي) " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فارًا بدم ولا فارًا بخربة.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام حَرَّمَهَا، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ حُكْمَهُ فِيهَا، وَتَحْرِيمَهُ إِيَّاهَا وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ بَلَدًا حَرَامًا عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكْتُوبًا عِنْدَ اللَّهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَمَعَ هَذَا قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وابعث فيه رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِمَا سبق في علمه وقدره.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَتْبَاعِهِ، فَتُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَدِلَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثقة. وقوله تعالى أخبارا عن الخليل: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أَيْ مِنَ الخوف أي لَا يُرْعَبُ أَهْلَهُ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمنًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ويُتخطف الناس مِنْ حولهم﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الأحاديث في تحريم القتال فيه، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ»، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾ أَيِ اجْعَلْ هَذِهِ الْبُقْعَةَ بَلَدًا آمِنًا وناسب هُنَاكَ لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَأَنَّهُ وَقَعَ دُعَاءً مرة ثانية بَعْدَ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَاسْتِقْرَارِ أَهْلِهِ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ الذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْ إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا فِي آخِرِ الدُّعَاءِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وأسحق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قَالَ: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ﴾ الآية هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ الذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله قَالَ: وَقَرَأَ آخَرُونَ: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَحْجُرُهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَنْ كَفَرَ أَيْضًا أَرْزُقُهُمْ كَمَا أَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ، أَأَخْلُقُ خَلْقًا لَا أَرْزُقُهُمْ؟ أُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿كُلًاّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (أخرجه ابن مردويه وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾، وكقوله تَعَالَى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ ثُمَّ أُلْجِئُهُ بَعْدَ مَتَاعِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَسْطِنَا عَلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْظرهم وَيُمْهِلُهُمْ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ أَخْذَ
عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير﴾. وفي الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ تعالى: ﴿كذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أليم شديد﴾.
(يتبع ...)
(تابع ... ١): تتمة الآية (١٢٥): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفين ... ...
وأما قوله تعالى: ﴿وإذا يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾ فَالْقَوَاعِدُ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ السَّارِيَةُ وَالْأَسَاسُ، يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام الْبَيْتَ، وَرَفْعَهُمَا الْقَوَاعِدَ مِنْهُ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فَهُمَا فِي عَمَلٍ صَالِحٍ وَهُمَا يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، وَقَالَ بَعْضُ المفسِّرين: الذِي كَانَ يَرْفَعُ القواعدَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ، وَالدَّاعِي إِسْمَاعِيلُ، والصحيحُ أَنَّهُمَا كَانَا يَرْفَعَانِ وَيَقُولَانِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدْ رَوَى البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النساء المِنطَق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أَثَرَهَا عَلَى سَارَّةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وبإبنها إسماعيل وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يومئذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هنالك ووضع عندها جِرابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قفّى إبراهيم مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الذِي لَيْسَ فيه أنيس وَلَا شَيْءَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رجعت فانطلق إبراهيم حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فَقَالَ: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ حتى بلغ ﴿يَشْكُرُونَ﴾.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابنُّها، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِي رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِي، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فقامت عليها فنظرت هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صوتًا فقال: «صَهٍ» - تُرِيدُ نَفْسَهَا - ثُمَّ تسمَّعت فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بالمَلَك عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا».
قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتًا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأن الله لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وشماله، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسولا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وأُم إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قالت: نعم
ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ «فَأَلْفَى ذَلِكَ أُم إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ»، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وأنفسَهم وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زوَّجوه امْرَأَةً منهم.
وماتت (أُم إسماعيل) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فقالت: خرج يبتعي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نحن بشرِّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه، قال: إذا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السلام وَقُولِي لَهُ يغيِّر عتبةَ بابه، فلما جاء إسماعيل كَأَنَّهُ أَنِسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مَنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ غَيَّر عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبِي وقد أمرني أن أٌن أُفارقك فالحقي بأهلك، وطلَّقها وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ بأُخرى. فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ على الله عز وجل، قال: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يومئذٍ حَب وَلَوْ كَانَ لَهُمْ لَدَعَا لَهُمْ فِيهِ»، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السلام وَمُرِيهِ يثبِّت عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جاء إسماعيل قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مَنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أنَّا بخير، قال أنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شاء الله ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أمرني أن أبني ههنا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وأُم إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَتْ أُم إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى قدم مكة فوضعهما تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى بَلَغُوا كَدَاءَ نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله. قال: فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها عَلَى صَبِيِّهَا حَتَّى لَمَّا فَنِيَ الْمَاءُ. قَالَتْ: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا؟ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، فَلَمَّا بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطًا حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فنظرت ما فعل الصَّبِيَّ، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا، فَقَالَتْ: لو ذهبت
فنظرتُ لعلي أحس أحدًا، فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسْ أَحَدًا حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ، فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقَالَتْ: أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِذَا جِبْرِيلُ عليه السلام قَالَ: فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا وَغَمَزَ عَقِبَهُ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ: فَانْبَثَقَ الْمَاءُ فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: «لَوْ تَرَكَتْهُ لَكَانَ الْمَاءُ ظَاهِرًا» قَالَ: فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ ويدرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا. قَالَ: فَمَرَّ نَاسٌ مَنْ جُرْهُمَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إِلَّا عَلَى مَاءٍ، فَبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالْمَاءِ فَأَتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَتَوْا إِلَيْهَا فَقَالُوا: يَا أُمَّ إِسْمَاعِيلَ أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكِ وَنُسْكِنَ مَعَكِ؟
فَبَلَغَ ابْنُهَا ونكح منهم امْرَأَةً. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ ﷺ فَقَالَ لأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تركتي، قال: فجاءهم فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غيَّرْ عتبةَ بابك، فلما أَخْبَرَتْهُ قَالَ: أنتِ ذَاكِ فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ، فَجَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَنْزِلَ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ﷺ: «بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ». قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ ﷺ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: إني مطلع تركتي فجأة فوفق إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ عز وجل أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، فَقَالَ: أَطِعْ ربك عز وجل، قال: إنه أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِذَنْ أَفْعَلُ - أو كما قال - فقام فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قَالَ: حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَيَقُولَانِ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾.
قال محمد بن إسحاق عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الله بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ يَدُلُّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَمَعَالِمِ الحرم، فَكَانَ لَا يَمُرُّ بِقَرْيَةٍ إِلَّا قَالَ: أَبِهَذِهِ أُمرتُ يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: امْضِهِ، حَتَّى قَدِمَ بِهِ مَكَّةَ وَهِيَ إِذْ ذَاكَ عِضَاةُ (سَلْمٍ وَسَمُرٍ) وَبِهَا أُنَاسٌ يُقَالُ لَهُمُ الْعَمَالِيقُ خَارِجَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَالْبَيْتُ يومئذٍ رَبْوَةٌ حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أُمِرْتُ أَنْ أَضَعَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَمَدَ بِهِمَا إِلَى مَوْضِعِ الْحِجْرِ فَأَنْزَلَهُمَا فِيهِ، وَأَمَرَ (هَاجَرَ) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عرشًا فَقَالَ: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ إِلَى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يشكرون﴾ وقال عبد الرزاق عن مجاهد: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ وَأَرْكَانُهُ فِي الْأَرْضِ السابعة.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِذْ يرفع إبراهيم القوعد مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ الْآيَةَ: الْقَوَاعِدُ أَسَاسُهُ، وَاحِدُهَا قاعدة، والقواعد مِنَ النسآء واحدتها قاعدة، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَلَمْ تريْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْبَيْتَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدَّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ»، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواع إبراهيم عليه السلام. ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ - أَوْ قَالَ
بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْر».
(ذِكْرُ بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام وَقَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسٍ سنين)
وقد نقل معهم الْحِجَارَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، اجْتَمَعَتْ قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ، فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَ الكعبة. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مَنْ تُجَّارِ الرُّومِ فَتَحَطَّمَتْ، فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ قِبْطِيٌّ نَجَّارٌ فَهَيَّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا يُصْلِحُهَا، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احزألت (إحْزأَلَّتْ: ارتفعت واستعدث للوثوب) وَكَشَّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا فَكَانُوا يَهَابُونَهَا، فَبَيْنَا هِيَ يومًا تشرف عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ وَعِنْدَنَا خَشَبٌ وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب (خال والد النبي، وكان شريفًا ممدوحًا) بن عمرو بن عائذ فَتَنَاوَلَ مِنَ الْكَعْبَةِ حَجَرًا فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قريش لا تدخلوا في بنانها مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيٍّ، وَلَا بَيْعُ رِبًا، وَلَا مَظْلِمَةُ أحد من الناس.
ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَجَزَّأَتِ الْكَعْبَةَ فَكَانَ شِقُّ الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمٍ، وَكَانَ شَقُّ الْحِجْرِ لبني عبد الدار ابن قُصَيٍّ وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَهُوَ الْحَطِيمُ، ثُمَّ إِنِ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرَقُوا مِنْهُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تَرُعِ، اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ، فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالُوا: نَنْظُرُ فَإِنْ أُصيب لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ مَا صَنَعْنَا، فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ. فَهَدَمَ، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الْأَسَاسِ - أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسِنَّةِ آخِذٌ بَعْضُهَا بعضاَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا أَدْخَلَ عَتَلَةً بين حجرين منها ليقلع بها أيضًا أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
(يتبع ...)
(تابع ... ٢): تتمة الآية (١٢٥): وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفين ... ...
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ يَعْنِي (الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ) فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الأُخرى، حَتَّى تَحَاوَرُوا وَتَخَالَفُوا وَأَعَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي
ابن كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمُّوا «لَعَقَة الدَّمِ» فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أن أبا أُمية بن المغيرة - وَكَانَ عامئذٍ أسنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ - قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلُ دَاخِلٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ... هَذَا مُحَمَّدٌ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال ﷺ: «هلمَّ إليَّ بثوب، فأُتي بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ - يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ - فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ:»لِتَأْخُذْ كُلُّ قبيلة بناحية من الثوب ثم ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ ﷺ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عليه الوحي (الأمين).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ ثماني عشر ذراعًا، وكان تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كُسِيَتْ بعدُ الْبُرُودَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ (قُلْتُ): ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت فِي أَوَّلِ إِمَارَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ وَفِي آخِرِ وِلَايَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَاصَرُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَحِينَئِذٍ نَقَضَهَا (ابْنُ الزُّبَيْرِ) إِلَى الْأَرْضِ وَبَنَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحِجْرَ وَجَعَلَ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا مُلْصَقَيْنِ بِالْأَرْضِ كَمَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ أُم المؤمنين عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ إِمَارَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ، فَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا قال مسلم عن عطاء: «لمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ (يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ) حين غزاها أهل الشام فكان مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ تَرَكَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلِيَّ فِي الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْنِي بِنَاءَهَا أَوْ أُصْلِحُ مَا وهَى منها؟
قال ابن عباس: إنه قد خرق لِي رَأْيٌ فِيهَا أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وهَى مِنْهَا وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وأحجارًا أسلم الناس عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوْ كَانَ أَحَدُهُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يجدِّده فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ عز وجل؟ إِنِّي مُسْتَخِيرٌ رَبِّي ثَلَاثًا ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي. فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثٌ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقُضَهَا، فَتَحَامَاهَا النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بِأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً.
فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصَابَهُ شَيْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْأَرْضَ. فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمِدَةً يَسْتُرُ عَلَيْهَا السُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بناؤهه. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حديثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّينِي عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابً يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ»، قَالَ: فَأَنَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ. قال: فزاد خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى لَهُ أسًا فنظر النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِل ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إلى عبد الملك يستجيزه بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أهل المكة. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَهُ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الحِجْر فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ وَسُدَّ الْبَابَ الذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ» (رواه مسلم والنسائي عن عطاء، واللفظُ لمسلم)
وَقَدْ كَانَتِ السُنَّة إِقْرَارَ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما لِأَنَّهُ هُوَ الذِي وَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ تُنْكِرَهُ قُلُوبُ بَعْضِ النَّاسِ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَقُرْبِ عَهْدِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ خَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ على (عبد الملك بن مروان) وَلِهَذَا لَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَوَتْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَاهُ وَمَا تولى. فَدَلَّ هَذَا عَلَى صَوَابِ مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزبير، فلو ترك لكان جيدًا.
ولكنْ بعدما رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَالِ فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يغيَّر عَنْ حَالِهِ، كَمَا ذُكِرَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ أَوْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ مَالِكًا عَنْ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَرَدِّهَا إِلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَجْعَلْ كَعْبَةَ اللَّهِ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يَهْدِمَهَا إِلَّا هَدَمَهَا!! فَتَرَكَ ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي. وَلَا تَزَالُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - هَكَذَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ إِلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا (ذُو السُّويقتين) مِنَ الْحَبَشَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حجرًا حجرًا» وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ابن الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كُسْوَتِهَا، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلع، أُفَيْدع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله» (رواه أحمد. والفَدْع: زيغٌ بَيْنَ الْقَدَمِ وَعَظْمِ السَّاقِ)
وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لما جاء في صحجيح الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ وَاجْعَلْنَا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِكَ، خَاضِعِينَ لِطَاعَتِكَ، لَا نُشْرِكُ مَعَكَ فِي الطَّاعَةِ أَحَدًا سِوَاكَ، وَلَا فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ يَعْنِيَانِ الْعَرَبَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.
(قُلْتُ) وَهَذَا الذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفقي مَنْ عَدَاهُمْ، وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويعلِّمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا منهم﴾، ومع هذا لا ينفي رسلاته إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
وَهَذَا الْقَدْرُ مَرْغُوبٌ فِيهِ شَرْعًا فإنَّ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِهِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ قَالَ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام﴾ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
﴿وأرنا ناسكنا﴾ قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: ﴿أرنا مَنَاسِكَنَا﴾ مذابحنا. وقال أبو داود الطيالسي عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُري أَوَامِرَ الْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَابَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ (مِنًى) فقال: هذا مناخ الناس، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى (جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) تَعَرَّضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذهب، ثم أتى به إلى (الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى) فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، فَأَتَى بِهِ جَمْعًا فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ فَقَالَ: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟» (أخرجه الطيالسي عن ابن عباس).
- ١٢٩ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ تَمَامِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَافَقَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُسْتَجَابَةُ قَدَرَ اللَّهِ السَّابِقَ فِي تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه رسولًا في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجميين مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وكذلك أُمَّهات النبيين يرين» (رواهما الإمام أحمد في مسنده)
وقال أبو أمامة قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى بِي، وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نورٌ أضاءت له قصور الشام» (رواهما الإمام أحمد في مسنده) وَالْمُرَادُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَشَهَرَهُ فِي النَّاسِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَلَمْ يَزَلْ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ مَذْكُورًا مَشْهُورًا سَائِرًا، حَتَّى أَفْصَحَ بِاسْمِهِ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسَبًا وهو (عيسى بن مَرْيَمَ) عليه السلام حَيْثُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، وَقَالَ: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أحمد﴾، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَعْوَةُ أَبِي إبراهيم وبشرى عيسى بن مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ: «وَرَأَتْ أُمي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ» قِيلَ: كَانَ مَنَامًا رَأَتْهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وقصَّته عَلَى قَوْمِهَا، فَشَاعَ فِيهِمْ وَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً! وتخصيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نُورِهِ إِشَارَةٌ ⦗١٣٠⦘ إِلَى استقرار دينه ونبوته بِبِلَادِ الشَّامِ، وَلِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِهَا يَنْزِلُ (عِيسَى ابن مريم) إذا نزل بدمشق بمنارة الشَّرْقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ مِنْهَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» وَفِي صحيح البخاري «وهم بالشأم».
قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي أُمّة مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقِيلَ له: قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ يعني السنة، قاله الحسن وقتادة، وَقِيلَ: الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، وَلَا مُنَافَاةَ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ، وَقَالَ محمد بن إسحاق: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾: يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أَيِ الْعَزِيزُ الذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.
- ١٣٠ - وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
- ١٣١ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٣٢ - وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مسلمون
يقول تعابرك وَتَعَالَى رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، الْمُخَالِفِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، فَإِنَّهُ جرَّد تَوْحِيدَ رَبِّهِ تبارك وتعالى فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ سَائِرَ قَوْمِهِ، حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فطر السموات والأرض حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تبيَّن لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مستقيم﴾، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾؟ أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِسَفَهِهِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ، بِتَرْكِهِ الْحَقَّ إِلَى الضَّلَالِ، حَيْثُ خَالَفَ طَرِيقَ مَنِ اصْطُفِيَ فِي الدُّنْيَا لِلَّهِدَايَةِ وَالرَّشَادِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِّهِ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا وملكه وَمِلَّتَهُ، وَاتَّبَعَ طُرُقَ الضَّلَالَةِ وَالْغَيِّ فأيُّ سَفَهٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟ أَمْ أَيُّ ظُلْمٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ قال أبو العالية وقتادة: نزلت فِي الْيَهُودِ أَحْدَثُوا طَرِيقًا لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إن أولى اللناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين﴾.
⦗١٣١⦘ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَقَدَرًا وَقَوْلُهُ: ﴿وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ أَيْ وَصَّى بِهَذِهِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ، أَوْ يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِمْ لَهَا حَافَظُوا عَلَيْهَا إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ وَوَصَّوْا أبناءهم مِنْ بَعْدِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ إِسْحَاقَ وُلِدَ لَهُ (يَعْقُوبُ) فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ وَسَارَّةُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وقعت بهما في قوله: ﴿فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب﴾، أيضا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أسحق ويعقوب نافلة﴾، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَانِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ»، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا: قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» الْحَدِيثَ فَزَعَمَ ابْنُ حبان أن بين سليمان الذي اعتقد بأنه باني بيت المقدس إنما كَانَ جَدَّدَهُ بَعْدَ خَرَابِهِ وَزَخْرَفَهُ - وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا مِمَّا أُنْكِرَ عَلَى (ابْنِ حيان) فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين والله أعلم، وأيضًا فإن وَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا قَرِيبًا، وَهَذَا يدل على أنه ههنا مِنْ جُمْلَةِ الْمُوصِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي أحسنوا في حلا الْحَيَاةِ، وَالزَمُوا هَذَا لِيَرْزُقَكُمُ اللَّهُ الْوَفَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَمُوتُ غَالِبًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْكَرِيمُ عَادَتَهُ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ وُفِّق لَهُ وَيُسِّرَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَوَى صَالِحًا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا»، لِأَنَّهُ قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث: ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وبعمل أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بالحسنى فسنيسره للعسرى﴾.
- ١٣٣ - أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
- ١٣٤ - تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَى الْكُفَّارِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بأن يعقوب لما حضرته والوفاة، وَصَّى بَنِيهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ لَهُمْ: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وإسحق﴾، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَمُّهُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ⦗١٣٢⦘ الْعَمَّ أَبًا نَقَلَهُ القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة مِنْ جَعَلَ الْجِدَّ أَبًا وَحَجَبَ بِهِ الْإِخْوَةَ - كَمَا هُوَ قَوْلُ الصَّدِيقِ - حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَهًا وَاحِدًا﴾ أَيْ نُوَحِّدُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا غَيْرُهُ، ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ مُطِيعُونَ خَاضِعُونَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وإليه يرجعون﴾. وَالْإِسْلَامُ هُوَ مِلَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَاطِبَةً وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ وقال ﷺ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أَيْ مَضَتْ، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ أَيْ إِنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَالِحِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا خَيْرًا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَعْمَالَهُمُ التِي عملوها ولكم أعمالكم ﴿ولا تسئلون عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عمله لم يسرع به نسبه (قد يطلق الأثر على ما يشمل الحديث المرفوع لأنه رواه مسلم مرفوعًا من حديث طويل عن أبي هريرة».
- ١٣٥ - وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا الْأَعْوَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا الْهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تهتدِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ (رواه ابن اسحق عن عكرمة عن ابن عباس)﴾، وقوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أَيْ لَا نُرِيدُ ما دعوتمونا إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بَلْ نَتَّبِعُ ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ أي مستقيمًا، وقال مجاهد: مخلصًا، وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: الْحَنِيفُ الذِي يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ كلهم من أولهم إلى آخرهم.
- ١٣٦ - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُفَصَّلًا وما أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُجْمَلًا، وَنَصَّ عَلَى أَعْيَانٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَجْمَلَ ذِكْرَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسروها بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ الله» (رواه البخاري عن أبي هريرة.) ⦗١٣٣⦘ وقال أبو العالية وَقَتَادَةُ: (الْأَسْبَاطُ) بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَلَدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ فسموا الأسباط وقال الخليل بن أحمد: الأسباط من بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ الزمخشري: الأسباط حفدة يعقوب ذراري أَبْنَائِهِ الِاثْنَى عَشَرَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنْهُ وَقَرَّرَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْأَسْبَاطُ قَبَائِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله مِنَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ مُوسَى لَهُمْ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وجعلكم ملوكا﴾ الآية. وقال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أسباطا﴾ قال الْقُرْطُبِيُّ: وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السِّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ فهم جماعة، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ السَبَط بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الشَّجَرُ أي فِي الْكَثْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ، الواحدةُ سَبْطَةٌ. قَالَ الزجاج: ويبين لك هذا ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةً: (نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وشعيب، وإبراهيم، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَمُحَمَّدٌ) عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالسِّبْطُ الْجَمَاعَةُ وَالْقَبِيلَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيُصَدِّقُوا بِكُتُبِهِ كُلِّهَا وَبِرُسُلِهِ.
- ١٣٧ - فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- ١٣٨ - صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون
يقول تعالى: ﴿فإن آمَنُواْ﴾ يعني الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ﴿بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ يا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ أَيْ فَقَدْ أَصَابُوا الْحَقَّ وَأَرْشَدُوا إِلَيْهِ. ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ﴿فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فسيكفيكم اللَّهُ﴾ أَيْ فَسَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُظْفِرُكَ بِهِمْ ﴿وَهُوَ السميع العليم﴾.
﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: دين الله وقد ورد عن ابن عباس أَنَّ نبيَّ اللَّهِ ﷺ قال: «إن بني إسرائيل قالوا يا رسول الله هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَصْبُغُ رَبُّكَ؟ فَقُلْ نَعَمْ: أَنَا أَصْبُغُ الْأَلْوَانَ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ والأسود والألوان كلها من صبغي»، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا وَهُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مَوْقُوفٌ وَهُوَ أَشْبَهُ إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ١٣٩ - قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
- ١٤٠ - أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- ١٤١ - تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُرْشِدًا نَبِيَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى دَرْءِ مُجَادِلَةِ الْمُشْرِكِينَ: ﴿قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ﴾ ⦗١٣٤⦘ أَيْ تناظروننا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ، وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ ﴿وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ الْمُتَصَرِّفُ فِينَا وَفِيكُمُ، الْمُسْتَحِقُّ لِإِخْلَاصِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الخرى: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعني﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجوني في الله﴾ الآية. وقال تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في ربه﴾ الآية. وقال في هذه الآية الكريمة: ﴿ولنا أعمالكنا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ أَيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ كَمَا أَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَيْ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ. ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَسْبَاطِ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِمْ، إِمَّا الْيَهُودِيَّةُ وَإِمَّا النَّصْرَانِيَّةُ فَقَالَ: ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله﴾؟ يعين بَلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يكونوا هودًا ولا نصارى كما كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ من المشركين﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله﴾ قال الحسن البصري: كانوا يقرأون فِي كِتَابِ اللَّهِ الذِي أَتَاهُمْ إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا بُرَآءَ مِنَ اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم الله، فكتموا شهادة الله عنهم مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ: أَيْ أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بعلمكم وسيجزيكم ليه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾ أَيْ قَدْ مَضَتْ ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ﴾ أَيْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴿ولا تسئلون عما كانوا يعلمون﴾ وليس بغني عَنْكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مُتَابِعَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِمُجَرَّدِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ حَتَّى تكونوا منقادين مثلهم لأوام الله، واتباع رسله الذي بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ وَاحِدٍ فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الرُّسُلِ، وَلَا سِيَّمَا بِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَرَسُولِ رَّبِّ الْعَالَمِينَ إلى جميع الإنس والجن من الْمُكَلَّفِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ.
- ١٤٢ - سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عَلَيْهَا قُل للَّهِ المشرق وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- ١٤٣ - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بالناس لرؤوف رحيم
قيل: المراد بالسفهاء ههنا مُشْرِكُو الْعَرَبِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: أَحْبَارُ يَهُودَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ قَالَهُ السُّدي، وَالْآيَةُ عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. عن البراء رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ ⦗١٣٥⦘ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَل مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قَبِلَ الْبَيْتِ وَكَانَ الذِي قد مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَل الْبَيْتِ رِجَالًا قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فيهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رحيم (رواه البخاري وأخرجه مسلم من وجه آخر)﴾
وعن الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُكْثِرُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ الله: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شرط الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: وَدِدْنَا لَوْ عَلِمْنَا عِلْمَ مَنْ مَاتَ مِنَّا قَبْلَ أَنْ نُصْرف إِلَى الْقِبْلَةِ، وَكَيْفَ بِصَلَاتِنَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ - وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - مَا ولاَّهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ الناس (رواه ابن أبي حاتم)﴾ إلى آخر الآية. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أَيْ نَحْوَهُ، فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم)﴾ وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُمِر بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فَتَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْكَعْبَةُ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مقدمه ﷺ المدينة واستمر الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَالِابْتِهَالَ أَنْ يُوَجَّه إِلَى الْكَعْبَةِ التِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ فأعلمهم بِذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَيْهَا صَلَاةُ العصر كما تقدم في الصحيحين. وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة: فسمي (مسجد القبلتين) وَأَمَّا أَهْلُ قُبَاءَ فَلَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصبح إذا جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أُنْزِل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمر أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ» (أخرجه الشيخان عن ابن عمر) وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا حَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو: ﴿مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾ أي قالوا: مَا لِهَؤُلَاءِ تَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا وَتَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ أَيِ الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ وَالْأَمْرُ كله لله، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ أَيِ الشَّأْنُ، كُلُّهُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا وَجَّهْنَا تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مراتٍ إِلَى جهات متعددة فنحن عبيده، وَهُوَ تَعَالَى لَهُ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ ⦗١٣٦⦘ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وأُمته عِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، وَجَعَلَ توجههم إلى الكعبة أَشْرَفَ بُيُوتِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ هِيَ بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: «إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لَهَا، وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمين (رواه الإمام أحمد عن عائشة مرفوعًا)»
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، يَقُولُ تَعَالَى إِنَّمَا حولناكم على قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَاخْتَرْنَاهَا لَكُمْ لَنَجْعَلَكُمْ خِيَارَ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَآءَ عَلَى الأُمم، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُعْتَرِفُونَ لَكُمْ بِالْفَضْلِ، والوسطُ ههنا: الْخِيَارُ وَالْأَجْوَدُ، كَمَا يُقَالُ: قُرَيْشٌ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا أَيْ خَيْرُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَسَطًا فِي قَوْمِهِ، أي أشرفهم نسبًا، ومنه (الصلاة الوسطى) وهي العصر، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا خصَّها بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ الْمَذَاهِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بلَّغت؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال: والوسط الْعَدْلُ فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عليكم (رواه البخاري والترمذي والنسائي)» وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يجيء النبي يوم القيامة وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فيقال: هَلْ بلَّغكم هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا فَيُقَالُ لَهُ: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم: فيقال مَنْ يَشْهَدُ لَكَ، فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُدْعَى محمد وَأُمَّتِهِ: فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُقَالُ وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ جَاءَنَا نبينا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قَالَ عَدْلًا ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهيدا﴾ (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري مَرْفُوعًا)» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَنَا وأُمتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا ودَّ أَنَّهُ مِنَّا، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ إِلَّا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رسالة ربه عز وجل» (رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾، يَقُولُ تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعْنَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ التَّوَجُّهَ أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَرَفْنَاكَ ⦗١٣٧⦘ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، لِيَظْهَرَ حَالُ مَنْ يَتَّبِعُكَ وَيُطِيعُكَ وَيَسْتَقْبِلُ مَعَكَ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، أَيْ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِهِ ﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً﴾ أَيْ هذه الفعلة وهي صَرْفُ التَّوَجُّهِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَيْ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ عَظِيمًا فِي النُّفُوسِ، إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَيْقَنُوا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَيَنْسَخَ مَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا حَدَثَ أَمْرٌ أَحْدَثَ لَهُمْ شَكًّا، كَمَا يَحْصُلُ لِلَّذِينِ آمَنُوا إيقانٌ وَتَصْدِيقٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عمى﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾، وَلِهَذَا كَانَ - مَنْ ثَبَتَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ وَاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ - مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين. عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: قَدْ أُنْزِلَ عليَّ النَّبِيِّ ﷺ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمر أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة» (رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر) وفي رواية أَنَّهُمْ كَانُوا رُكُوعًا فَاسْتَدَارُوا كَمَا هُمْ إِلَى الكعبة وهم ركوع، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وَانْقِيَادِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ عز وجل رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أَيْ صَلَاتُكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: مَاتَ قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ ليضيع إيمانكم﴾ (رواه التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ)، وَقَالَ ابْنُ إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ أَيْ بِالْقِبْلَةِ الأُولى وَتَصْدِيقَكُمْ نَبِيَّكُمْ وَاتِّبَاعَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ الأُخرى، أَيْ لِيُعْطِيُكُمْ أَجْرَهُمَا جَمِيعًا ﴿أَنَّ الله باناس لرؤوف ررحيم﴾ وقال الحسن البصري: وما كان ليضيع إيمانكم: أي مان اللَّهُ لِيُضِيعَ مُحَمَّدًا ﷺ وَانْصِرَافَكُمْ مَعَهُ حَيْثُ انْصَرَفَ ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، فَجَعَلَتْ كُلَّمَا وَجَدَتْ صَبِيًّا مِنَ السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِصَدْرِهَا وَهِيَ تَدُورُ عَلَى وَلَدِهَا، فَلَمَّا وَجَدَتْهُ ضمته إليه وَأَلْقَمَتْهُ ثَدْيَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النار وهي تقدر على أن لا تَطْرَحَهُ»؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فواللهِ، للُّه أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
- ١٤٤ - قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ ⦗١٣٨⦘ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَانَ يَدْعُو اللَّهِ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فارتابت مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كَانُواْ عَلَيْهَا؟ قُل للَّهِ المشرق والمغرب﴾. وَقَالَ: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، وَقَالَ الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا القبلة لتي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَفَعَ رَأْسَهَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ إِلَى الْكَعْبَةِ، إِلَى الْمِيزَابِ يؤم به جبريل عليه السلام (أخرجه الحافظ ابن مردويه عن ابن عباس) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قَالَ: شَطْرَهُ قِبَله (أخرجه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال: صحيح الإسناد)، ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «البيت قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، والمسجدُ قبلةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا من أمتي». وعن الْبَرَاءِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ ممَّن كَانَ يُصَلِّي معه مر عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَل مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هم قِبَل البيت (أخرجه أبو نعيم عن البراء بن عازب).
وقال عبد الرزاق عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ أَنْ يُحَوَّلَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ فصرف إلى الكعبة. وعن أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَى قَالَ: «كُنَّا نَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنُصَلِّي فِيهِ، فَمَرَرْنَا يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقُلْتُ لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ فَجَلَسْتُ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي تَعَالَ نَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَنَكُونَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَتَوَارَيْنَا فَصَلَّيْنَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ وصلى للناس الظهر يومئذ (رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلّى)» وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا إِلَى الْكَعْبَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَلِهَذَا تَأَخَّرَ الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وقال الحافظ ابن مردويه عن نُوَيْلَةَ بِنْتِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: صَلَّيْنَا الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ، فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ (إِيلِيَاءَ) فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ مَنْ يُحَدِّثُنَا أن رسول الله ﷺ قَدِ اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب»، وقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أَمَرَ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْأَرْضِ، شَرْقًا وَغَرْبًا، وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيْءٌ سِوَى النَّافِلَةِ فِي حَالِ السَّفَرِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا حَيْثُمَا تَوَجَّهَ قَالَبُهُ وَقَلْبُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَكَذَا فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ فِي الْقِتَالِ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَا مَنْ جَهِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يُصَلِّي بِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.
⦗١٣٩⦘ (مَسْأَلَةٌ)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وأحمد وأبو حنيفة، قال المالكية بقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ وَهُوَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْظُرُ الْمُصَلِّي فِي قِيَامِهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي: يَنْظُرُ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخُضُوعِ وَآكَدُ فِي الْخُشُوعِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَأَمَّا فِي حَالِ رُكُوعِهِ فَإِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي حَالِ سُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ، وَفِي حَالِ قُعُودِهِ إلى حِجْره.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ أَيْ وَالْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا اسْتِقْبَالَكُمُ الْكَعْبَةَ وَانْصِرَافَكُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُوَجِّهُكَ إِلَيْهَا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ النَّعْتِ وَالصِّفَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأُمَّتِهِ، وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وشرَّفه مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَّةِ الْعَظِيمَةِ، ولكنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَكَاتَمُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حسدًا وكفرًا وعنادًا ولهذا تهددهم تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
- ١٤٥ - وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ كُلَّ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ لَمَا اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾، ولهذا قال ههنا: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ إِخْبَارٌ عَنْ شِدَّةِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا هُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَمْسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، ولا كونه متوجهًا إلى بيت المقدس لكونها قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالى، ثم حذَّر تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ الذِي يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ إِلَى الْهَوَى، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَقْوَمُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ به الأمة: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذًَا لَّمِنَ الظالمين﴾.
- ١٤٦ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
- ١٤٧ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ صِحَّةَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ كَمَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ وَلَدَهُ، وَالْعَرَبُ ⦗١٤٠⦘ كَانَتْ تَضْرِبُ الْمِثْلَ فِي صِحَّةِ الشَّيْءِ بِهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ صَغِيرٌ: «ابْنُكُ هَذَا»؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ به، قال: «أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه» ويروى عن عمر أنه قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نظل الْأَمِينُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَمِينِ فِي الْأَرْضِ بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه (قُلْتُ): وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أَبْنَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا التَّحَقُّقِ وَالْإِتْقَانِ الْعِلْمِيِّ، ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أَيْ لَيَكْتُمُونِ النَّاسَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ثم ثبَّت تعالى نبيّه ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ فَقَالَ: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.
- ١٤٨ - وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ
عن ابن عباس: ﴿وَلِكُلٍّ وجهة هو مولياها﴾ يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل قبيلة قبلةٌ يَرْضَوْنَهَا، وَوِجْهَةُ اللَّهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْمُؤْمِنُونَ، وقال أبو العالية: لليهود وجهة هو موليها، وللنصارى وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَهَدَاكُمْ - أَنْتُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ - إلى القبلة التي هي القبلة. وقال الحسن: أَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ أَنْ يُصَلُّوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليبلوكم فيما آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾، وقال ههنا: ﴿أينما تكونوا يأتب بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ وَأَبْدَانُكُمْ.
- ١٤٩ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- ١٥٠ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
هَذَا أَمْرٌ ثَالِثٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْتِقْبَالِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّكْرَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقِيلَ: تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَاسِخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى أَحْوَالِ، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ مُشَاهِدٌ الْكَعْبَةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي مَكَّةَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالثَّالِثُ لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الْبُلْدَانِ هَكَذَا وجَّهه فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوَّلُ لِمَنْ هُوَ بِمَكَّةَ، وَالثَّانِي لِمَنْ هُوَ فِي بَقِيَّةِ الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، فَقَالَ أَوَّلًا: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، فَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِجَابَتَهُ إِلَى طَلَبَتِهِ وَأَمْرِهِ بِالْقِبْلَةِ ⦗١٤١⦘ التِي كَانَ يَوَدُّ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا وَيَرْضَاهَا وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، فذكر إِنَّهُ الحق مِن الله وارتقاءه الْمَقَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ كَانَ مُوَافِقًا لِرِضَا الرَّسُولِ ﷺ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْحَقُّ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ حِكْمَةُ قَطْعِ حُجَّةِ الْمُخَالَفِ مِنَ اليهود الذين كان يَتَحَجَّجُونَ بِاسْتِقْبَالِ الرَّسُولِ إِلَى قِبْلَتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ سَيُصْرَفُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ لَمَّا صُرِفَ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ التِي هِيَ أَشْرَفُ، وَقَدْ كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إِلَيْهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنْ حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ أَيْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَإِذَا فَقَدُوا ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهَا رُبَّمَا احْتَجُّوا بِهَا عَلَى المسلمين، ولئلا يَحْتَجُّوا بِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا أَظْهَرُ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ حِينَ قَالُوا: صُرِفَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَالُوا: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ. وَكَانَ حُجَّتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ انْصِرَافَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنْ قَالُوا: سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إلى قبلتنا. قَوْلِهِ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ حُجَّةَ الظَّلَمَةِ وَهِيَ دَاحِضَةٌ أَنْ قَالُوا: إنَّ هَذَا الرَّجُلُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ كَانَ تَوَجُّهُهُ إِلَى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عَنْهُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا، لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَأَطَاعَ رَبَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ، فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأُمَّتُهُ تبعٌ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ أَيْ لَا تَخْشَوْا شُبَهَ الظَّلَمَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ وَأَفْرِدُوا الْخَشْيَةَ لِي، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ أَهْلُ أَنْ يُخْشَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلَى ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾، أي لأتم نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعْتُ لَكُمْ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ لِتَكْمُلَ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أَيْ إِلَى مَا ضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ هَدَيْنَاكُمْ إِلَيْهِ وَخَصَصْنَاكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَشْرَفَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلَهَا.
- ١٥١ - كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
- ١٥٢ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
يذكِّر تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بِعْثَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَيْهِمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَدَنَسِ النُّفُوسِ وَأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَالْحِكْمَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ، ويعلِّمهم مَا لَمْ يَكُونُواْ يَعْلَمُونَ، فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءَ يُسفِّهون بالقول القُرّاء، فَانْتَقَلُوا بِبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ، وَيُمْنِ سِفَارَتِهِ، إِلَى حَالِ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَجَايَا الْعُلَمَاءِ، فَصَارُوا أَعْمَقَ النَّاسِ عِلْمًا، وَأَبَرَّهُمْ قُلُوبًا، وَأَقَلَّهُمْ تَكَلُّفًا، وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً. وَقَالَ تعالى: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا ⦗١٤٢⦘ مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ الآية. وَذَمَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِنِعْمَةِ اللَّهِ مُحَمَّدًا ﷺ وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَمُقَابَلَتِهَا بِذِكْرِهِ وشكره. وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ﴾ يقول: كما فعلتُ فاذكروني.
قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: «تَذْكُرُنِي وَلَا تَنْسَانِي فَإِذَا ذَكَرْتَنِي فَقَدْ شكرتني، وإذ نسيتني فقد كفرتني» قال الحسن البصري: إِنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَيَزِيدُ مَنْ شَكَرَهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ في قوله تعالى: ﴿اتقوو الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ هُوَ «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، ويُذكر فَلَا يُنْسى، ويُشْكَر فلا يُكْفر» وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ اذكروني فيما افترضت عليكم اذكركم فيا أوجبت لكم على نفسي، عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي، وفي رواية برحمتي. وفي الصَّحِيحِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَن ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير منه» وعن أنَس قال: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ - أَوْ قَالَ فِي مَلَأٍ خير منه - وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا دنوتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولةً» (أخرجه البخاري من حديث قتادة، ورواه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك) " قال قتادة: الله أقرب بالرحمة وقوله: ﴿واشكروا لِي وَلاَ تكفرون﴾ أم الله تعالى بشكره ووعد عَلَى شُكْرِهِ بِمَزِيدِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لئن شركتم لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ روى أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا (عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى خلقه (أخرجه الإمام أحمد عن ابي رجاء العطاردي)» وروي: على عبده.
- ١٥٣ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
- ١٥٤ - وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ
لَمَّا فَرَغَ تَعَالَى مِنْ بيان الأمر بالشكر، شرع في بينان الصبر والإرشاد والاستعانة بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نِعْمَةٍ فَيَشْكُرُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي نِقْمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ». وبيَّن تَعَالَى أَنَّ أَجْوَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلا على الخاشعين﴾ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كان إذا حز به أمر صلّى» والصبر صبران: فصبرك عَلَى تَرْكِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، وَصَبْرٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالثَّانِي أَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ، ⦗١٤٣⦘ وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضًا واجب كالاستغفار من المعايب. قال زَيْنُ الْعَابِدِينَ: إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الصَّابِرُونَ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ قَبْلَ الحساب؟ قال: فيقوم عُنُق (جماعة متقدمة، وزين العابدين هو (علي بن الحسين) رضي الله عنه مِنَ النَّاسِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ يَا بَنِي آدَمَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: مَن أنتم؟ قالوا: نحن الصابرون، قالوا: وما كان صبكم؟ قَالُوا: صَبَرْنَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرْنَا عَنْ معصية الله حتى توفانا الله، قالو: أَنْتُمْ كَمَا قُلْتُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. (قُلْتُ): وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حساب﴾، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّبْرُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِمَا أَصَابَ مِنْهُ، وَاحْتِسَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَجْزَعُ الرَّجُلُ وَهُوَ مُتَجَلِّدٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الصَّبْرُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ فِي بَرْزَخِهِمْ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طيور خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَاطَّلَعَ عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ قالوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ نَبْغِي وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ ثُمَّ عاد عليهم بِمِثْلِ هَذَا فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ من أن يسألوا، قالو: نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى نُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخرى - لما يرون من ثواب الشاهدة - فَيَقُولُ الرَّبُّ ﷻ: إِنِّي كَتَبْتُ أَنَّهُمْ إليها لا يرجعون» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ تَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» فَفِيهِ دَلَالَةٌ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الشُّهَدَاءُ قَدْ خُصِّصُوا بِالذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا.
- ١٥٥ - وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
- ١٥٦ - الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
- ١٥٧ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم، كما قال تعالى: ﴿ولنبونكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ فَتَارَةً بِالسَّرَّاءِ، وَتَارَةً بِالضَّرَّاءِ مِنْ خَوْفٍ وَجُوعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ والخوف﴾، فَإِنَّ الْجَائِعَ وَالْخَائِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ وَقَالَ ههنا: ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ أَيْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ﴾ أَيْ ذَهَابُ بَعْضِهَا ﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ كَمَوْتِ الْأَصْحَابِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَحْبَابِ، ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ أَيْ لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فَكَانَتْ بَعْضُ النَّخِيلِ لَا تثمر غير واحة، وَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَخْتَبِرُ اللَّهُ بِهِ عباده، فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصابرين﴾
ثمَّ بيَّن تَعَالَى مَنِ الصَّابِرُونَ الَّذِينَ شَكَرَهُمْ فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ⦗١٤٤⦘ أَيْ تَسَلَّوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا عَمَّا أَصَابَهُمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَضِيعُ لَدَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَحْدَثَ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي ثناء من الله عليهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نِعْمَ العِدْلان وَنَعِمَتِ العِلاوة ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ هذان الْعَدْلَانِ ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ فَهَذِهِ الْعِلَاوَةُ، وَهِيَ مَا تُوضَعُ بَيْنَ الْعَدْلَيْنِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الحمل فكذلك هَؤُلَاءِ أُعْطُوا ثَوَابَهُمْ وَزِيدُوا أَيْضًا.
وَقَدْ وَرَدَ في ثواب الاسترجاع عِنْدَ الْمَصَائِبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمى يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْلًا سُرِرْتُ بِهِ، قَالَ: «لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إِلَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ» قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخَلُفْ لي خيرًا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أن لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ فَلَمَّا انْقَضَتْ عدتي استأذن ليَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي، فَغَسَلْتُ يَدِي مِنَ الْقَرَظِ وأذْنت لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَقَعَدَ عَلَيْهَا فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ما بي أن لا يَكُونَ بِكَ الرَّغْبَةُ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخَافَ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ: «أَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَوْفَ يُذهبها اللَّهُ عز وجل عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذكرتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي»، قَالَتْ: فَقَدْ سلَّمتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدُ: أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وعن أم سلمة قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عبدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ ﴿إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ: رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «(رَوَاهُ مسلم عن أُم سلمة).
وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسَلَمَةَ يُصاب بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وإن طال عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا إِلَّا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أصيب» (رواه أحمد وابن ماجة) وعن أَبِي سِنَانٍ قَالَ: دَفَنْتُ ابْنًا لِي فَإِنِّي لَفِي الْقَبْرِ إِذْ أَخَذَ بِيَدِي أَبُو طَلْحَةَ (يَعْنِي الْخَوْلَانِيُّ) فَأَخْرَجَنِي وَقَالَ لِي: أَلَا أبشِّرك؟ قلت: بلى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:»قَالَ اللَّهُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ قَبَضْتَ وَلَدَ عَبْدِي؟ قَبَضْتَ قُرَّةَ عَيْنِهِ وَثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا قَالَ؟ قَالَ: حَمِدَكَ واسترجع، قال: ابنوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ" (رواه أحمد والترمذي)
- ١٥٨ - إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عليم
⦗١٤٥⦘
روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قال، قلتُ: أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أحدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يتطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ فَلَا جُناح عليه أن لا يطَّوف بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا كَانُوا يهلِّون لِمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدونها عن الْمُشَلَّلِ، وَكَانَ مَنْ أهلَّ لَهَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يطَّوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نطَّوف بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ قَدْ سنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطَّوَافَ بِهِمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطواف بهما (رواه الشيخان وأحمد). وقال أنَس: كنا نرى أنهما مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّفَا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله﴾ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ إِسَافٌ عَلَى الصَّفَا وَكَانَتْ نَائِلَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ، وَكَانُوا يَسْتَلِمُونَهُمَا فَتَحَرَّجُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ عَادَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَهُوَ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ﴾، ثُمَّ قَالَ: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (رواه مسلم من حديث جابر الطويل) وعن حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءَهُمْ وَهُوَ يَسْعَى، حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «اسْعَوْا فإن الله كتب عليكم السعي» (أخرجه الإمام أحمد) وقد استدل بهذا الحديث مَنْ يَرَى أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا جَبَرَهُ بِدَمٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عن أحمد. وقيل: بل مستحب. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ عليه السلام طَافَ بينهما وقال: «خذوا عني مناسككم» بيَّن تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ﴿مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ﴾ أَيْ مِمَّا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لأبراهيم فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ طواف هَاجَرَ، وَتَرْدَادِهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي طَلَبِ الماء لولدها لمّا نفد ماؤهما وزادهما، فلم تزل تتردد فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُشَرَّفَةِ بَيْنَ (الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) متذللة خائفة وجلة حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ كُرْبَتَهَا، وَآنَسَ غُرْبَتَهَا، وفرَّج شِدَّتَهَا وَأَنْبَعَ لَهَا زَمْزَمَ التِي مَاؤُهَا «طَعَامُ طَعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ»، فَالسَّاعِي بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فَقْرَهُ وَذُلُّهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى اللَّهِ فِي هِدَايَةِ قَلْبِهِ، وَصَلَاحِ حَالِهِ، وَغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وأن يلتجىء إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ قِيلَ: زَادَ فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ ثَامِنَةً وَتَاسِعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقِيلَ: يَطُوفُ بَيْنَهُمَا فِي حَجَّةِ تَطَوُّعٍ أَوْ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَطَوَّعَ خيرًا في سائر العبادات. وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ يُثِيبُ عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ ﴿عَلِيمٌ﴾ بِقَدْرِ الْجَزَاءِ فَلَا يَبْخَسُ أَحَدًا ثَوَابَهُ وَ﴿لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عظيما﴾.
- ١٥٩ - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
- ١٦٠ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
- ١٦١ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
- ١٦٢ - خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الدَّلَالَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْهُدَى النَّافِعِ لِلْقُلُوبِ، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، فِي كُتُبِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، وقد نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وفي الحديث: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلجم يَوْمَ القيامة بلجام من نار» (أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة) وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حدَّثت أَحَدًا شَيْئًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ والهدى﴾ الآية. قال أبو العالية: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون﴾ يعني تلعنهم الملائكة وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْعَالِمَ يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر»، وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون. ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ﴾ أَيْ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَأَصْلَحُوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه ﴿فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَةَ إِلَى كَفْرٍ أَوْ بِدْعَةٍ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَاسْتَمَرَّ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَمَاتِهِ بِأَنَّ ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ فِي اللَّعْنَةِ التَّابِعَةِ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ الْمُصَاحِبَةِ لَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ فِيهَا أَيْ لَا يَنْقُصُ عَمَّا هُمْ فِيهِ ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أَيْ لَا يُغَيَّرُ عَنْهُمْ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا يُفَتَّرُ، بَلْ هُوَ مُتَوَاصِلٌ دَائِمٌ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ من ذلك. قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: إِنَّ الْكَافِرَ يُوقَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ، ثُمَّ تَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ يَلْعَنُهُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ.
(فَصْلٌ)
لَا خِلَافَ فِي جواز لعن الكفار، فَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ لِأَنَّا لَا ندري بما يختم الله له. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: بَلْ يَجُوزُ لَعْنُ الْكَافِرِ المعين، واختاره ابن العربي وَلَكِنَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بقوله عليه السلام: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» (قاله عليه السلام فِي قِصَّةِ الذِي كَانَ يُؤْتَى بِهِ سَكْرَانَ فَيَحُدُّهُ فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ ما يؤتى به .. الحديث) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ ورسوله يلعن، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ومن بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي الْقُنُوتِ وغيره، واستدل بعضهم بالآية ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ والله أعلم.
- ١٦٣ - وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ لَهُ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرحيم، وقد تقدَّم تفسير هذين القسمين في أول الفاتحة. وفي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ وَ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾» (أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت؟؟ السَّكن مرفوعًا) ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية، بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، مِمَّا ذَرَأَ وَبَرَأَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فَقَالَ:
- ١٦٤ - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يقول تعالى: ﴿إِنَّ في خلق السموات والأرض﴾ تلك في ارتفاعها ولطافتها وَاتِّسَاعِهَا، وَكَوَاكِبِهَا السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ وَدَوْرَانِ فَلَكِهَا، وَهَذِهِ الأرض في كثافتها وانخفاضها، وجبالها وبحارها، وقفارها وَعُمْرَانِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، هَذَا يَجِيءُ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ وَيَعْقُبُهُ، لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَحْظَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وَتَارَةً يَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا، وَتَارَةً يَأْخُذُ هذا من هذا، ثم يتعاوضان كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل﴾ أَيْ يَزِيدُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا، ﴿وَالْفُلْكِ التِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ أَيْ فِي تَسْخِيرِ البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب، لمعايش النَّاسِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند ألئك إِلَى هَؤُلَاءِ: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾، ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ أَيْ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْزُقُهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين﴾ ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾ أي فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارةً تَأْتِي مُبَشِّرَةً بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ، وَتَارَةً تَسُوقُهُ وَتَارَةً تُجَمِّعُهُ، وَتَارَةً تفرِّقه، وَتَارَةً تُصَرِّفُهُ، ثُمَّ تارة تأتي من الجنوب وتارة تأتي من ناحية اليمن ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ سَائِرٌ بين السماء والأرض، مسخر إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ كَمَا يُصَرِّفُهُ تَعَالَى: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أَيْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ فَقَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ ⦗١٤٨⦘ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (رواه ابن أبي حاتم عن عطاء) فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِلَهُ كل شيء وخالق كل شيء. وقال أبو الضحى: لما نزلت ﴿وإلهكم إله واحد﴾ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿يَعْقِلُونَ﴾.
- ١٦٥ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ
- ١٦٦ - إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ
- ١٦٧ - وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كما تبرأوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ
يُذْكُرُ تَعَالَى حَالَ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ أَندَادًا أَيْ أَمْثَالًا وَنُظَرَاءَ، يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الذنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا هو خَلَقَكَ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ﴾ وَلِحُبِّهِمْ لِلَّهِ وَتَمَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَتَوْقِيرِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ لَهُ لَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، بَلْ يَعْبُدُونَهُ وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَيْهِ.
ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِهِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعًا، أَيْ إِنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ يقول: لو يعلمون مَا يُعَايِنُونَهُ هُنَالِكَ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، الْمُنْكَرِ الْهَائِلِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، لا نتهوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عن كفرهم بأوثانهم، وتبري الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعَيْنِ فَقَالَ: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾، تَبَرَّأَتْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يعبدونهم في الدار الدُّنْيَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾، وَيَقُولُونَ: ﴿سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾. وَالْجِنُّ أَيْضًا تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ وقال تَعَالَى: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ أَيْ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْحِيَلُ وَأَسْبَابُ الْخَلَاصِ وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ مَعْدِلًا وَلَا مصرفًا، قال ابن عباس: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب﴾ المودة، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ ⦗١٤٩⦘ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كما تبرؤا مِنَّا﴾ أَيْ لَوْ أَنَّ لَنَا عَوْدَةً إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا، حَتَّى نَتَبَرَّأَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، فَلَا نَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ بَلْ نُوَحِّدُ اللَّهَ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هَذَا بَلْ لو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، كا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ أي تذهب وتضمحل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ الآية. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن ماء﴾ الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار﴾
- ١٦٨ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
- ١٦٩ - إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
لَمَّا بيَّن تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ، شَرَعَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ الرزاق لجميع خلقه، فذكر فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فِي حَالِ كَوْنِهِ حَلَالًا مِنَ اللَّهِ طَيِّبًا أَيْ مُسْتَطَابًا فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ ضَارٍّ لِلْأَبْدَانِ وَلَا لِلْعُقُولِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ طَرَائِقُهُ وَمَسَالِكُهُ فِيمَا أَضَلَّ أَتْبَاعَهُ فِيهِ، مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ السوائب والوصائل ونحوها، مما كان زَيَّنَهُ لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ عياض بن حماد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ كُلَّ مال منحته عِبَادِي فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ - وَفِيهِ - وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» (رواه مسلم ومعنى (اجتالتهم): صرفتهم عن الهدى إلى الضلالة) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُلَيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا﴾ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» (رواه الحافظ ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ تَنْفِيرٌ عَنْهُ وَتَحْذِيرٌ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ قال قتادة والسُّدي: كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وقال مَسْرُوقٍ: أُتي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِضَرْعٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَاوِلُوا صَاحِبَكُمْ، فَقَالَ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَ ضَرْعًا أَبَدًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ (رَوَاهُ ابْنُ أبي حاتم عن أبي الضحى عن مسروق) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ فِي غَضَبٍ، فَهُوَ مِنْ خُطُوَاتِ الشيطان، وكفارتُه كفارة يمين. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ عَدُوُّكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْأَفْعَالِ ⦗١٥٠⦘ السَّيِّئَةِ وَأَغْلَظُ مِنْهَا الْفَاحِشَةُ كَالزِّنَا وَنَحْوَهُ، وأغلظُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَيَدْخُلُ فِي هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا (رواه ابن أبي حاتم).
- ١٧٠ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
- ١٧١ - وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ للكفرة الْمُشْرِكِينَ: ﴿اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ عَلَى رَسُولِهِ، واتركوا مآ أنتم عليه مِنَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، قَالُوا فِي جَوَابِ ذَلِكَ: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا﴾ أي ما وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَيْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ والأنداد. قال الله تعالى منكرًا عليهم: ﴿أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ أي الذي يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ ﴿لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ فَهْمٌ وَلَا هداية، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية (رواه ابن إسحاق عن ابن عباس) ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ تَعَالَى مَثَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ فَقَالَ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، كَالدَّوَابِّ السَّارِحَةِ التِي لَا تَفْقَهُ مَا يُقال لَهَا، بَلْ إِذَا نَعَقَ بِهَا رَاعِيهَا، أَيْ دَعَاهَا إِلَى مَا يُرْشِدُهَا لَا تَفْقَهُ مَا يَقُولُ وَلَا تَفْهَمُهُ بَلْ إِنَّمَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَقَطْ، هَكَذَا روي عن ابن عباس. وَقِيلَ: إِنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لَهُمْ فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ التِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ولا تعقل شيئًا، واختاره ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُهُ وَلَا تُبْصِرُهُ وَلَا بَطْشَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أَيْ صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، بُكْمٌ لَا يَتَفَوَّهُونَ بِهِ، عُمْيٌ عَنْ رُؤْيَةِ طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ ﴿فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أَيْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَفْهَمُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مستقيم﴾.
- ١٧٢ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
- ١٧٣ - إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلَا إِثْمَ عليه إِنَّ الله غَفُورٌ رحيم
يأمر تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك أن كانوا عُبَّاده، وَالْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِتَقَبُّلِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَرَامِ يَمْنَعُ قَبُولَ الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا ⦗١٥١⦘ أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وَقَالَ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومطعَمُه حرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك؟» (رواه أحمد ومسلم والترمذي) وَلَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِرِزْقِهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ طيِّبه، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمِيتَةَ، وَهِيَ التِي تَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَسَوَاءً كَانَتْ مُنْخَنِقَةً أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نطيحة أو عدا عليها السبع، وقد خصص الجمهو مِنْ ذَلِكَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ﴾ وقوله عليه السلام فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحل ميتته» (رواه مالك وأصحاب السنن) وسيأتي تقرير ذلك إِن شَآءَ الله في سورة المائدة.
ثُمَّ أَبَاحَ تَعَالَى تَنَاوُلَ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ فقال: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ باع وَلاَ عَادٍ﴾ أي من غَيْرِ بَغْيٍ وَلَا عُدْوَانٍ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أَيْ فِي أَكْلِ ذَلِكَ. ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ قال مجاهد: ﴿غير باغ ولا عَادٍ﴾ من خَرَجَ بَاغِيًا أَوْ عَادِيًا أَوْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وقال مقاتل بْنُ حَيَّانَ: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ يَعْنِي غَيْرَ مُسْتَحِلِّهِ، وقال السُّدي: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس: لا يشبع منها وعنه: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ قَالَ: ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ فِي الْمَيْتَةِ، وَلَا عادٍ فِي أَكْلِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ قال: غير باغ في الميتة أي فِي أَكْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ هو يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ أَيْ أُكْرِهَ عَلَى ذلك بغير اختياره.
(مسألة)
إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، بِحَيْثُ لَا قَطْعَ فِيهِ وَلَا أَذًى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، بَلْ يَأْكُلُ طَعَامَ الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل الْعَنْزِيِّ قَالَ: أَصَابَتْنَا عَامًا مخمصةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ حَائِطًا، فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ وَجَعَلْتُ مِنْهُ فِي كِسَائِي، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مَا أَطْعَمْتَهُ إذ كان جائعًا ولا سَاعِيًا، وَلَا علَّمته إِذْ كَانَ جَاهِلَا» فَأَمَرَهُ فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق (رواه ابن ماجة وإسناده قوي جدا) وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: فِي قَوْلِهِ ﴿فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فِيمَا أَكَلَ مِنَ اضْطِرَارٍ، وَبَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿غَفُورٌ﴾ لِمَا أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ ﴿رَّحِيمٌ﴾ إذ أحل له الحرام في اضطرار، وقال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ثُمَّ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَكْلَ الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، وهذا هو الصحيح كالإفطار للمريض.
- ١٧٤ - إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- ١٧٥ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
- ١٧٦ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فِي كُتُبِهِمُ التِي بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا تَشْهَدُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا تَذْهَبَ رِيَاسَتُهُمْ، وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ عَلَى تَعْظِيمِهِمْ آباءهم، فَخَشُوا - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ أَنْ يَتَّبِعَهُ النَّاسُ وَيَتْرُكُوهُمْ، فَكَتَمُوا ذَلِكَ إِبْقَاءً عَلَى مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ، فَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ، وَاعْتَاضُوا عَنِ الهدى بذلك النزر اليسر، فَخَابُوا وَخَسِرُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ لِعِبَادِهِ صِدْقَ رَسُولِهِ، بِمَا نَصَبَهُ وَجَعَلَهُ مَعَهُ مِنَ الْآيَاتِ الظَّاهِرَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، فَصَدَّقَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَصَارُوا عَوْنًا لَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ في غير موضع، فمن ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ وَهُوَ عَرَضُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي مُقَابَلَةِ كِتْمَانِ الْحَقِّ نَارًا تَأَجَّجُ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وسيصلون سعيرا﴾ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إن الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ».
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ولهم عذاب إليهم﴾، وذلك لأنه تعالى غَضْبَانُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا وَقَدْ عَلِمُوا فَاسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ، فَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أَيْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُهُمْ بَلْ يُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر» (رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أَيِ اعْتَاضُوا عَنِ الْهُدَى - وَهُوَ نَشْرُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ وَذِكْرِ مَبْعَثِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ - اسْتَبْدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عنه الضلالة، وَهُوَ تَكْذِيبُهُ وَالْكُفْرُ بِهِ وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ فِي كُتُبِهِمْ ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ أَيِ اعْتَاضُوا عَنِ الْمَغْفِرَةِ بِالْعَذَابِ وَهُوَ مَا تَعَاطَوْهُ مِنْ أَسْبَابِهِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي عَذَابٍ شَدِيدٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ، يَتَعَجَّبُ مَنْ رَآهُمْ فِيهَا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ⦗١٥٣⦘ ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي فما أَدْوَمَهُمْ لِعَمَلِ الْمَعَاصِي التِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى النار. وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كُتُبَهُ بِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، فَكِتَابُهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَهَذَا الرَّسُولُ الْخَاتَمُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ، وَيَجْحَدُونَهُ وَيَكْتُمُونَ صِفَتَهُ، فَاسْتَهْزَأُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ وَالنَّكَالَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.
- ١٧٧ - لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جمل عظيمة، وقواعد عميقة وعقيدة مستقيمة، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بالتوجُّه إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حَوَّلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، شقَّ ذَلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ عز وجل، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَالتَّوَجُّهُ حَيْثُمَا وجَّه، وَاتِّبَاعُ مَا شَرَعَ، فَهَذَا هُوَ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَ في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو الْمَغْرِبِ برٌّ وَلَا طَاعَةٌ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم﴾ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَيْسَ الْبَرَّ أن تصلُّوا ولا تعلموا، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُقْبل قِبَلَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُقبل قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَقَالَ الله تعالى ﴿ليس البر أن تولو وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الإيمان وحقيقته العمل، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي القلوب من طاعة الله عز وجل، ﴿وَالْكِتَابِ﴾ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ من السامء عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى خُتِمَتْ بِأَشْرَفِهَا وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، الذِي انْتَهَى إِلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ، وَاشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ بِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ وَآمَنَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وقوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَيْ أَخْرَجَهُ وَهُوَ محبٌ له راغب فيه، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تصدَّق وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تأمل الغنى وتخشى الفقر»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَنْ تُعْطِيَهُ وَأَنْتَ صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر» (رواه الحاكم عن ابن مسعود مرفوعًا وقال: صحيح على شرط الشيخين) ⦗١٥٤⦘
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ نمط آخر أرفع من هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ آثَرُوا بِمَا هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْطَوْا وَأَطْعَمُوا مَا هُمْ مُحِبُّونَ له.
وقوله تعالى: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وَهُمْ قَرَابَاتُ الرَّجُلِ، وَهُمْ أَوْلَى مَنْ أَعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الحديث: والصدقة عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذَوِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، فَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِكَ وبِبرَّك وَإِعْطَائِكَ» وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ﴿وَالْيَتَامَى﴾ هُمُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ وَقَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَهُمْ ضُعَفَاءُ صِغَارٌ دُونَ الْبُلُوغِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَسُّبِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ»، ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾ وَهُمُ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ سكناهم، فيُعْطون مَا تُسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُمْ وَخَلَّتُهُمْ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بهذ الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ الذِي قَدْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَذَا الذِي يُرِيدُ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذهابه وغيابه، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس ﴿ابن السبيل﴾: هو الضيف الذي ينزل، ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وَهُمُ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلطَّلَبِ فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزكوات والصدقات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» (رَوَاهُ أحمد وأبو دَاوُدَ) ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ ما يؤدونه في كتابتهم، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي الْمَالِ حق سوى الزكاة»، ثم قرأ: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والمغرب - إلى قوله - وَفِي الرقاب﴾ (رواه ابن ماجة والترمذي)
وقوله تعالى: ﴿أقام الصلاة﴾ أَيْ وَأَتَمَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَطُمَأْنِينَتِهَا وَخُشُوعِهَا، عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِيِّ، وقوله: ﴿وَآتَى الزكاة﴾ كقوله: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة﴾ والمراد زَكَاةَ الْمَالِ كَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِعْطَاءِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، إِنَّمَا هُوَ التَّطَوُّعُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سوى الزكاة، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ كقوله: ﴿الذين يفون بِعَهْدِ الله وَلاَ ينقضون الميثاق﴾ وَعَكْسُ هَذِهِ الصِّفَةِ النِّفَاقُ كَمَا صَحَّ فِي الحديث: «آية حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خان» (رواه الشيخان) وفي الحديث الآخر: «وإذا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فجر» وقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أَيْ فِي حَالِ الْفَقْرِ وَهُوَ الْبَأْسَاءُ، وَفِي حَالِ الْمَرَضِ وَالْأَسْقَامِ وَهُوَ ⦗١٥٥⦘ الضَّرَّاءُ، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أَيْ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَالْتِقَاءِ الْأَعْدَاءِ قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس. وإنما نصب ﴿الصابرين﴾ عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم. وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ.
- ١٧٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- ١٧٩ - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْعَدْلُ فِي الْقِصَاصِ - أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ - حُرُّكُمْ بَحُرِّكُمْ، وَعَبْدُكُمْ بِعَبْدِكُمْ، وَأُنْثَاكُمْ بِأُنْثَاكُمْ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا وَتَعْتَدُوا كَمَا اعْتَدَى مَنْ قَبْلَكُمْ وَغَيَّرُوا حكم الله فيهم، وسبب ذلك (قريظة والنضير) فَكَانَ إِذَا قَتَلَ النَّضَرِيُّ الْقُرَظِيَّ لَا يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفادى بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ، وإذا قتل القرظي النضري قتل، وَإِنْ فَادَوْهُ فَدَوْهُ بِمِائَتَيْ وَسْقٍ مِنَ التَّمْرِ، ضعف دية القرظي، فأمر الله تعالى بِالْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ، وَلَا يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ، الْمُخَالَفِينَ لِأَحْكَامِ اللَّهِ فِيهِمْ كُفْرًا وَبَغْيًا فقال تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ وَذُكِرِ عن سعيد ابن جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ يَعْنِي إِذَا كَانَ عَمْدًا الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى قَتَلُوا الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعُدَّةِ وَالْأَمْوَالِ، فَحَلَفُوا أن لا يَرْضَوْا حَتَّى يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرُّ مِنْهُمْ، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فِيهِمْ: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ (رواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) وعن ابن عباس في قوله: ﴿والأنثى بالأنثى﴾ إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِي النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستويين فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾.
(مسألة)
ذهب أبو حنيفة إلى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ وهو مروي عن (علي) و(ابن مسعود) قال البخاري: يقتل السيد بعبده لعموم حديث: «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه»
وخالفهم الجمهور فقالوا: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ⦗١٥٦⦘ ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بالكافر لما ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالَفُ هَذَا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِعُمُومِ آيَةِ الْمَائِدَةِ (أقول ما ذهب إليه أبو حنيفة ضعيف وفي النفس منه شيء، وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح والله أعلم وانظر تفصيل المسألة في كتابنا (تفسير آيات الأحكام الجزء الأول، ص ١٧٧)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَلِقَوْلِهِ عليه السلام: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»، وَقَالَ اللَّيْثُ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا خَاصَّةً.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر فِي غُلَامٍ قَتَلَهُ سَبْعَةٌ فَقَتَلَهُمْ وَقَالَ: (لَوْ تَمَالْأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ)، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي زَمَانِهِ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ، وَحُكِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يَقْتُلُ بِالنَّفْسِ إلا نفس واحدة. وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بإحسانْ قال مجاهد: العفو: أن يقبل الدية في العمد. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ يعني فَمَنْ تُرِكَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّمِ وَذَلِكَ الْعَفْوُ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يَقُولُ: فَعَلَى الطَّالِبِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا قَبِلَ الدِّيَةَ ﴿وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ يَعْنِي من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعَ لَكُمْ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ، تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً بكم، مما كان محتومًا على أمم قَبْلَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْعَفْوِ، كَمَا قَالَ مجاهد عن ابن عباس: كُتِبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَّاصُ فِي الْقَتْلَى وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْعَفْوُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخيه شي﴾ فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ، ذَلِكَ تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كَانَ قَبْلَكُمْ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ رَحِمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَأَطْعَمَهُمُ الدِّيَةَ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُمْ، فَكَانَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ. وَعَفْوٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ أَرْشٌ، وَكَانَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ أُمِرُوا بِهِ، وَجَعَلَ لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
وقوله تعالى: ﴿فَمَن اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى فَمَنْ قَتَل بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ قَبُولِهَا فَلَهُ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، أَلِيمٌ: موجع شديد، لحديث: «مَنْ أُصِيبَ بِقَتْلٍ أَوْ خَبَلٍ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فله النار جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا» (رواه أحمد عن أبي شريح الخزاعي مرفوعًا) ⦗١٥٧⦘
وقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: وَفِي شَرْعِ الْقِصَاصِ لَكُمْ وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ، حِكْمَةٌ عظيمة وَهِيَ بَقَاءُ الْمُهَجِ وَصَوْنُهَا، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ القاتل أنه يقتل، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، واشتهر قولهم: «الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي الْقُرْآنِ أَفْصَحُ وَأَبْلَغُ وَأَوْجَزُ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: جَعَلَ اللَّهُ الْقِصَاصَ حَيَاةً، فَكَمْ مِنْ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَقْتُلَ فتمنعه مخافة أن يقتل، ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يَقُولُ يَا أولي العقول والأفهام والنهى، لعلكم تنزجرون وتتركون مَحَارِمَ اللَّهِ وَمَآثِمَهُ. وَالتَّقْوَى: اسْمٌ جَامِعٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكِرَاتِ.
- ١٨٠ - كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المتقين
- ١٨١ - فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ١٨٢ - فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وقد كان ذلك واجبًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ نَسَخَتْ هَذِهِ، وَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ الْمُقَدَّرَةُ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ، يَأْخُذُهَا أَهْلُوهَا حَتْمًا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا تَحْمِلُ مِنَّة الْمُوصِي، وَلِهَذَا جَاءَ في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حقه فلا وصية لوارث» (رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾ (رواه ابن أبي حاتم) والعجب من الرازي كيف حكي عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُفَسَّرَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَمَعْنَاهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخًا في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إِنَّمَا رَفَعَتْ حُكْمَ بَعْضِ أَفْرَادِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ آيَةِ الْوِصَايَةِ، لِأَنَّ الْأَقْرَبِينَ أَعَمُّ مِمَّنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، فَرُفِعَ حُكْمُ مَنْ يَرْثُ بِمَا عُيِّنَ لَهُ وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْوِصَايَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا حَتَّى نُسِخَتْ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ المفسرين.
فَإِنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فلا وصية لوارث» بَقِيَ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصَى لَهُمْ مِنَ الثُّلُثِ، اسْتِئْنَاسًا بآية الوصية وشمولها، ولما ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «ما حق امرىْ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا ووصيته مكتوبة عنده» (رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلِيَّ لَيْلَةً مُنْذُ ⦗١٥٨⦘ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك إلا وعندي وصيتي ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ أَيْ مَالًا، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ سَوَاءٌ قل المال أو كثر، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُوصِي إِذَا تَرَكَ مالًا كثيرًا. قِيلَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: إِنَّ رَجُلًا من قريش قد مات وترك ثلثمائة دِينَارٍ أَوْ أَرْبَعَمِائَةٍ وَلَمْ يُوصِ، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ إذا تركت شيئًا يسيرًا فاتركه لولدك. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينَارًا لم يترك خيرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ أَلْفًا فَمَا فَوْقَهَا، وقوله: ﴿بالمعروف﴾ أي بالرفق والإحسان، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مَالًا وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَبِالشَّطْرِ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فبالثلث؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كثير».
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، يَقُولُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ وحرَّفها فغيَّر حُكْمَهَا وَزَادَ فِيهَا أَوْ نَقَصَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكِتْمَانُ لَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ﴾ قال ابن عباس: وَقَعَ أَجْرُ الْمَيِّتِ عَلَى اللَّهِ، وتعلَّق الْإِثْمُ بِالَّذِينِ بَدَّلُوا ذَلِكَ. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَلِكَ وَبِمَا بَدَّلَهُ الموصَى إليهم. وقوله تعالى: ﴿فَمَن خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ قال ابن عباس: الْجَنَفُ: الْخَطَأُ، وَهَذَا يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ كُلَّهَا، بأن زادوا وَارِثًا بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، كَمَا إِذَا أَوْصَى لِابْنِ ابْنَتِهِ لِيَزِيدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، إِمَّا مُخْطِئًا غَيْرَ عَامِدٍ بَلْ بِطَبْعِهِ وَقُوَّةِ شَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَبَصُّرٍ، أَوْ مُتَعَمِّدًا آثِمًا فِي ذَلِكَ، فَلِلْوَصِيِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يُصْلِحَ الْقَضِيَّةَ وَيُعَدِّلَ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَيَعْدِلَ عَنِ الذِي أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ وَأَشْبَهُ الْأُمُورِ بِهِ، جَمْعًا بَيْنَ مَقْصُودِ الْمُوصِي وَالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذَا الْإِصْلَاحُ وَالتَّوْفِيقُ لَيْسَ مِنَ التَّبْدِيلِ في شيء، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك، لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ بِسَبِيلٍ، والله أعلم. وفي الحديث: «الجنف في الوصية من الكبائر» (رواه ابن مردويه مرفوعًا، قال ابن كثير: وفي رفعه نظر) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافٍ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فلا تعتدوها﴾ الآية. (أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعًا).
- ١٨٣ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
- ١٨٤ - أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تعلمون
يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة، آمرًا إياهم بِالصِّيَامِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْوِقَاعِ، بِنِيَّةٍ خالصةٍ لِلَّهِ عز وجل، لِمَا فِيهِ من زكاة النفوس وَطَهَارَتِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلَاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الْفَرْضِ أَكْمَلَ مما فعله أولئك كما قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾، ولهذا قال ههنا: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلْبَدَنِ، وَتَضْيِيقٌ لِمَسَالِكِ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ .. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، ثُمَّ بيَّن مِقْدَارَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى النُّفُوسِ، فَتَضْعُفَ عَنْ حَمْلِهِ وَأَدَائِهِ، بَلْ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، يَصُومُونَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصِّيَامَ كَانَ أَوَّلًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَنَا، مِنْ كُلِّ شهر ثلاثة أيام ولم يَزَلْ هَذَا مَشْرُوعًا مِنْ زَمَانِ نُوحٍ، إِلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وقال الحسن البصري: لَقَدْ كُتِبَ الصِّيَامُ عَلَى كُلِّ آُمّة قَدْ خَلَتْ كَمَا كُتِبَ عَلَيْنَا، شَهْرًا كَامِلًا وَأَيَّامًا معدودات عددًا معلومًا. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «صِيَامُ رَمَضَانَ كتبه الله عليَّ الأمم قبلكم» (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا).
وقال عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ يعني بذلك أهل الكتاب، ثُمَّ بيَّن حُكْمَ الصِّيَامِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أَيِ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ لَا يَصُومَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمَا، بَلْ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ بِعِدَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَيَّامٍ أُخر، وَأَمَّا الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الذِي يُطِيقُ الصِّيَامَ، فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِطْعَامِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ ⦗١٥٩⦘ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تعلمون﴾.
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَنْزَلَ الْآيَةَ الأُخرى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فَأَثْبَتَ اللَّهُ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، ورخَّص فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَثَبَتَ الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ (صِرْمَةُ) كَانَ يَعْمَلُ صائمًا، حتى أمسى فجاء إلى أهل فصلَّى العِشاء ثُمَّ نَامَ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ، ⦗١٦٠⦘ فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ جَهِدَ جهدًا شديدًا، فقال: «مالي أَرَاكَ قَدْ جَهِدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ، فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ، فَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صائمًا، قال: وكان عم قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ له ذلك فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ (أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم)
وروى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ السُّدي: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وأطعم مسكينًا فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى نَسَخَتْهَا: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فليصمه﴾ وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الْكَبِيرِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا (أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ ثُمَّ ضَعُفَ، فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مسكينًا، وعن ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى (عَطَاءٍ) فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عباس: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَنَسَخَتِ الْأُولَى، إِلَّا الْكَبِيرَ الْفَانِيَ إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مسكينا وأفطر (أخرجه ابن مردويه عن ابن أبي ليلى)
فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّسْخَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، بِإِيجَابِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وَأَمَّا الشَّيْخُ الْفَانِي الْهَرِمُ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَلَهُ أَنْ يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليه يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَفْطَرَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا إِذَا كَانَ ذَا جِدَةٍ؟ فِيهِ قولان، أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْهُ لِسِنِّهِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ كَالصَّبِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ عن كل يوم، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ، فَقَدْ أَطْعَمَ أنَسٌ بعد ما كبر عامًا أو عامين، عن كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا وأفطر، ومما يلتحق بهذا المعنى (الحامل) و(المرضع) إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا، فَفِيهِمَا خِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُفْطِرَانِ وَيَفْدِيَانِ وَيَقْضِيَانِ، وَقِيلَ: يَفْدِيَانِ فَقَطْ وَلَا قَضَاءَ، وَقِيلَ: يَجِبُ الْقَضَاءُ بِلَا فِدْيَةٍ، وَقِيلَ: يفطران ولا فدية ولا قضاء.
- ١٨٥ - شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
⦗١٦١⦘
يَمْدَحُ تَعَالَى شَهْرَ الصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، بِأَنِ اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِهِنَّ لإنزال القرآن العظيم، بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الذِي كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَنْزِلُ فيه على الأنبياء، قال الإمام أحمد عن واثلة بن الْأَسْقَعِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: وأنزلت صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لثلاث عشر خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ لِأَرْبَعٍ وعشرين خلت من رمضان، وأما الصُّحُفُ وَالتَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالْإِنْجِيلُ، فَنَزَلَ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى النَّبِيِّ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، وَقَالَ: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ مُفَرَّقًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، هَكَذَا وري من غير وجه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَطِيَّةُ بْنُ الأسود فقال: وقع في قلبي الشك قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وَقَدْ أُنْزِلَ فِي شَوَّالَ، وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ، وَفِي الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَشَهْرِ رَبِيعٍ!! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ ترتيلًا في الشهور والأيام.
وقوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ هَذَا مَدْحٌ لِلْقُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هَدًى لِقُلُوبِ الْعِبَادِ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ أي دلائل وَحُجَجٌ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِمَنْ فَهِمَهَا وَتَدَبَّرَهَا، دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى الْمُنَافِي لِلضَّلَالِ، وَالرُّشْدِ الْمُخَالَفِ لِلْغَيِّ، وَمُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ: (رمضان) وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وقد انتصر البخاري لِهَذَا فَقَالَ: بَابٌ - يُقَالُ رَمَضَانُ - وَسَاقَ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، ونحو ذلك.
وقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ هَذَا إِيجَابُ حتمٌ عَلَى مَنْ شَهِدَ اسْتِهْلَالَ الشَّهْرِ، أَيْ كَانَ مُقِيمًا فِي الْبَلَدِ حِينَ دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَصُومَ لَا مَحَالَةَ، وَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لِمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ بيناه. ولما ختم الصِّيَامَ أَعَادَ ذِكْرَ الرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ بِشَرْطِ الْقَضَاءِ فَقَالَ: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ مَعْنَاهُ: وَمَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ فِي بَدَنِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ مَعَهُ أَوْ يُؤْذِيهِ، أَوْ كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة مَا أَفْطَرَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أَيْ إِنَّمَا رَخَّصَ لَكُمْ فِي الفطر في حال المرض والسفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيرًا عليكم ورحمة بكم.
وههنا مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، (إِحْدَاهَا): أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وَإِنَّمَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ لِمُسَافِرٍ اسْتَهَلَّ الشَّهْرَ وهو مسافر، وهذا قول غريب نقله ابن حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (الْمُحَلَّى) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ ⦗١٦٢⦘ الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ خَرَجَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِغَزْوَةِ الْفَتْحِ فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر (الحديث في الصحيحين)، (الثَّانِيَةُ): ذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ إِلَى وجوب الإفطار في السفر لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَيْسَ بِحَتْمٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ: فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ هُوَ الْوَاجِبُ لَأُنْكِرَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ، بَلِ الَّذِي ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ صَائِمًا، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. (الثَّالِثَةُ): قَالَت طَّآئِفَةٌ، مِّنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْطَارِ لفعل الني ﷺ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَتْ طائفة بل الإفطار أفضل أخذًا بالرخصة، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كَثِيرُ الصِّيَامِ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (رواه البخاري ومسلم) وَقِيلَ: إِنْ شقَّ الصِّيَامُ فَالْإِفْطَارُ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا»؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: «لَيْسَ مِنَ البر الصيام في السفر» أخرجاه. (الرَّابِعَةُ): الْقَضَاءُ هَلْ يَجِبُ مُتَتَابِعًا أَوْ يَجُوزُ فِيهِ التَّفْرِيقُ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ يَجِبُ التَّتَابُعُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، (وَالثَّانِي): لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بَلْ إِنَّ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَعَلَيْهِ ثَبَتَتِ الدَّلَائِلُ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ إِنَّمَا وَجَبَ فِي الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ أَدَائِهِ فِي الشَّهْرِ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ رَمَضَانَ فَالْمُرَادُ صِيَامُ أَيَّامٍ عِدَّةَ مَا أَفْطَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، ثم قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ أن رسول الله ﷺ قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ﴾ أَيْ إِنَّمَا أرخص لكم في الإفطار لمرض وَالسَّفَرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَعْذَارِ، لِإِرَادَتِهِ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِالْقَضَاءِ لِتُكْمِلُوا عِدَّةَ شَهْرِكُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ أَيْ وَلِتَذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عِبَادَتِكُمْ، كَمَا قَالَ: ﴿فَإِذَا قضيت مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذكرا﴾، وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تفلحون﴾ وَلِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ بِاسْتِحْبَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ، وَلِهَذَا أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَشْرُوعِيَّةَ التَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ الله على ما هَدَاكُمْ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ إِذَا قُمْتُمْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ مِنْ طَاعَتِهِ، بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَتَرْكِ مَحَارِمِهِ، وَحِفْظِ حُدُودِهِ، فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الشَّاكِرِينَ بِذَلِكَ. ⦗١٦٣⦘
- ١٨٦ - وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون
روي أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وليؤمنوا﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم) وعن الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ الْآيَةَ. وقال عَطَاءٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قَالَ النَّاسُ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ سَاعَةٍ نَدْعُو؟ فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ﴾. وعن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلَا نَعْلُو شَرَفًا، وَلَا نَهْبِطُ وَادِيًا، إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ. قَالَ: فَدَنَا مِنَّا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّ الذين تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بالله» (رواه أحمد والشيخان).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» (رواه أحمد عن أبي هريرة)
(قُلْتُ): وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾، وقوله لِمُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى﴾ والمراد من هذا أنه تعالى لا يجيب دعاء داع، ولا شغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء، ففيه ترغيبٌ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ لَدَيْهِ تعالى، كما قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليستحي أَنْ يَبْسُطَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ فِيهِمَا خيرًا فيردهما خائبتين» (رواه أحمد عن سلمان الفارسي) وعن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ عز وجل بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا»، قالوا: إذن نكثر، قال: «الله أكثر» (رواه أحمد عن أبي سعيد) وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ عز وجل بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» (رواه الترمذي) وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وما الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: «يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ ويدع الدعاء».
وقال ﷺ: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، ⦗١٦٤⦘ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظهر قلب غافل» (رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو) وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، وإرشاد إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ، بل وعند كل فطر، كما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عند فطره دعوة ما ترد» قال عبيد اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسألك برحمتك التي وسعت كل شي أن تغفر لي (رواه ابن ماجة وأخرجه الطيالسي بنحوه) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا تَرُدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حتى يفطر، ودعوة الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ دُونَ الْغَمَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ بِعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين» (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة).
- ١٨٧ - أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَفْعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُهُمْ إِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ يَنَامُ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَتَى نَامَ أَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، فَوَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً كَبِيرَةً، والرفثُ هُنَا هُوَ الْجِمَاعُ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وَقَوْلُهُ: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ قال ابن عباس: يَعْنِي هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ سَكَنٌ لَهُنَّ، وقال الربيع: هُنَّ لِحَافٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُخَالِطُ الْآخَرَ وَيُمَاسُّهُ وَيُضَاجِعُهُ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُجَامَعَةِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ لِئَلَّا يَشُقَّ ذَلِكَ عليهم ويحرجوا.
وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي إِنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَى مِثْلَهَا، وَإِنَّ (قَيْسَ بْنَ صرمة) الأنصاري كان صائمًا وكان يومه ذلك يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا ولكنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةٌ لَكَ أَنِمْتَ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرفث إلى نِسَآئِكُمْ - إلى قوله - وكلو وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شديدًا، ولفظ البخاري عن الْبَرَاءَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ⦗١٦٥⦘ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا صلُّوا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ إِنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ﴾ الآية.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ إِذَا صلُّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وإن (صرمة بن قيس) الأنصاري غلبته عيناه بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَنَامَ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الطَّعَامِ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعِشَاءَ فَقَامَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾ يَعْنِي بِالرَّفَثِ مُجَامَعَةُ النِّسَاءِ، ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يَعْنِي تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ وَتَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عنك فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ يَعْنِي جَامِعُوهُنَّ ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يَعْنِي الْوَلَدُ، ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ فَكَانَ ذَلِكَ عفوًا من الله ورحمة، وقال ابن جرير: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ سَمُرَ عِنْدَهُ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ فَأَرَادَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ، فَقَالَ: مَا نِمْتِ، ثُمَّ وَقَعَ بِهَا. وَصَنَعَ (كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) مِثْلَ ذَلِكَ فَغَدَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ﴾ (أخرجه ابن جرير عن كعب بن مالك) الآية. فَأَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ رحمة ورخصة ورفقًا.
وقوله تعالى: ﴿وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَّكُمْ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يعني الولد، وقال عبد الرحمن ابن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يعني الجماع، وقال قتادة: ابتغوا الرخصة التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يَقُولُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لكم. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ هذا كله.
قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، أَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَةِ الْجِمَاعِ، فِي أَيِّ اللَّيْلِ شَاءَ الصَّائِمُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ضِيَاءُ الصَّبَاحِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَرَفَعَ اللبس بقوله: ﴿مِنَ الفجر﴾، كان رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بعدُ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ والنهار (أخرجه البخاري عن سهل بن سعد) وعن عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ، قَالَ: فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بالذي صنعت فقال: «إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض ⦗١٦٦⦘ النهار من سواد الليل» (أخرجاه في الصحيحين) وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» ففسره بعضهم بالبلادة، ويفسره رواية البخاري أيضًا قَالَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وبياض النهار».
(فصل)
وَفِي إِبَاحَتِهِ تَعَالَى جَوَازَ الْأَكْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذُ بِهَا مَحْبُوبٌ وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بالحث على السحور. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكتاب أكلة السحور»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعوه وَلَوْ أَنَّ أحدكم تجرَّع جرعة مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» (رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري) ويستحب تأخيره كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة، فقال أنَس قُلْتُ لزيدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وأخروا السحور» (رواه أحمد عن أبي ذر الغفاري).
وحكى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ بِغُرُوبِهَا. (قُلْتُ): وَهَذَا الْقَوْلُ مَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَقِرُّ لَهُ قَدَمٌ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكُلُواْ واشربوا حتى يتبين لكن الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَمْنَعُكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ سُحُورِكُمْ فَإِنَّهُ يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يؤذِّن حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ - لعمود الصبح - حتى يستطير» (رواه مسلم عن سمرة بن جندب) وعن عطاء: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُمَا فَجْرَانِ فَأَمَّا الذِي يَسْطَعُ فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ يُحِلُّ وَلَا يحرم شيئًا، ولكن الفجر الذي يستنير عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ هُوَ الذِي يُحَرِّمُ الشَّرَابَ، وقال عَطَاءٌ: فَأَمَّا إِذَا سَطَعَ سُطُوعًا فِي السَّمَاءِ وَسُطُوعُهُ أَنْ يَذْهَبَ فِي السَّمَاءِ طُولًا فَإِنَّهُ لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج، وَلَكِنْ إِذَا انْتَشَرَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ حَرَّمَ الشَّرَابَ لِلصِّيَامِ وَفَاتَ الْحَجُّ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ رحمهم الله.
(مَسْأَلَةٌ) وَمِنْ جعْله تَعَالَى الفجرَ غَايَةً لِإِبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِمَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ، يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلْيَغْتَسِلْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ⦗١٦٧⦘ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وأُم سَلَمَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَتَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جماع من غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ، وَفِي حَدِيثِ (أُم سَلَمَةَ) عِنْدَهُمَا ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يقضي.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ يقتضي الإفطار عند غروب الشمس كما جاء في الصحيحين: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» (أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «يقول الله عز وجل: أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا» (أخرجه أحمد والترمذي) وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّهْيُ عَنِ الوصال، وهو أن يصل يومًا بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُوَاصِلُوا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: «فَإِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي». قال فلم ينتهو عَنِ الْوِصَالِ فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم (أخرجه أحمد والشيخان) وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»، فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَنَّهُ كَانَ يُقَوَّى عَلَى ذَلِكَ وَيُعَانُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي حَقِّهِ إِنَّمَا كَانَ (مَعْنَوِيًّا) لَا (حِسِّيًّا) وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ مُوَاصِلًا مَعَ الْحِسِّيِّ وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا * عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمْسِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ فَلَهُ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ» قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبَيْتُ لِي مطعمٌ يُطْعِمُنِي وساقٍ يَسْقِينِي» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ لَيْلًا أو نهارا حَتَّى يَقْضِيَ اعْتِكَافَهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا اعْتَكَفَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ جامَع إِنْ شَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ أَيْ لَا تَقْرَبُوهُنَّ مَا دُمْتُمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وهذا الذي حكاه هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مَا دَامَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِهِ وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ لَا بُدّ لَهُ مِنْهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أن يثبت فِيهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَفْرَغُ مِنْ حَاجَتِهِ تلك، من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يقبِّل امرأته، ولا أن يَضُمَّهَا إِلَيْهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ سِوَى اعْتِكَافِهِ، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه هو مارّ في طريقه، وللإعكاف أحكام مفصلة في بابها، مِنْهَا مَا هُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ومنها ما هو مختلف فيه.
⦗١٦٨⦘ وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ بَعْدَ الصِّيَامِ، إِرْشَادٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الصِّيَامِ أَوْ فِي آخر شهر الصيام، كما ثبت في السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ اعتكف أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ كَانَتْ تَزُورُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُعْتَكَفٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ لِتَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فقام النبي ﷺ يمشي مَعَهَا حَتَّى تَبْلُغَ دَارَهَا، وَكَانَ مَنْزِلُهَا فِي دار أسامة بن زيد في جانب الميدينة، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النبيَّ ﷺ أَسْرَعَا (وَفِي رِوَايَةٍ) تَوَارَيَا - أَيْ حَيَاءً مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِكَوْنِ أهله معه - فقال لهما ﷺ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» (أَيْ لَا تُسْرِعَا وَاعْلَمَا أَنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ أَيْ زَوْجَتِي) فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شيئًا أو قال شرًا» (رواه ابخاري ومسلم) قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَرَادَ عليه السلام أَنْ يعلِّم أُمَّتَهُ التَّبَرِّيَ مِنَ التُّهْمَةِ فِي مَحَلَهَا، لِئَلَّا يَقَعَا فِي مَحْذُورٍ، وَهُمَا كَانَا أتقى لله من أَنْ يَظُنَّا بِالنَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمُرَادُ (بِالْمُبَاشِرَةِ) إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ مِنْ تَقْبِيلٍ وَمُعَانَقَةٍ وَنَحْوِ ذلك، فأما معاطاة الشي وَنَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُدْنِي إليَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ كَانَ الْمَرِيضُ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ.
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أَيْ هَذَا الذِي بَيَّنَّاهُ وَفَرَضْنَاهُ وَحَدَّدْنَاهُ مِنَ الصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا أَبَحْنَا فيه وما حرمنا وذكرنا غَايَاتِهِ وَرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أَيْ شَرَعَهَا اللَّهُ وبيَّنها بِنَفْسِهِ ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ أَيْ لَا تجاوزوها وتتعدوها. وقيل في قوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أَيِ الْمُبَاشَرَةُ فِي الِاعْتِكَافِ، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أَيْ كَمَا بيَّن الصِّيَامَ وَأَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ وَتَفَاصِيلَهُ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يَهْتَدُونَ وَكَيْفَ يُطِيعُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الذِي ينزِّل عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بينا لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لرؤوف رحيم﴾.
- ١٨٨ - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ بَيِّنَةٌ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُ إِلَى الْحُكَّامِ، وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تخاصمْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ ظَالِمٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ وَإِنَّمَا يَأْتِينِي الْخِصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ فَلْيَحْمِلَهَا أَوْ لِيَذَرْهَا»، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يُحِلُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا هُوَ حَرَامٌ، وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا هو حلال وإنما هو ملزم فِي الظَّاهِرِ. فَإِنْ طَابَقَ ⦗١٦٩⦘ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلِلْحَاكِمِ أَجْرُهُ وَعَلَى الْمُحْتَالِ وِزْرُهُ، ولهذا قال تعالى: ﴿وتُدلوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ تَعْلَمُونَ بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم.
- ١٨٩ - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون
سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْأَهِلَّةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ يَعْلَمُونَ بِهَا حِلَّ دَيْنِهِمْ وَعِدَّةَ نِسَائِهِمْ، ووقتَ حجهم، وقال الربيع: بَلَغَنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ خُلِقَتِ الْأَهِلَّةُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ يَقُولُ جَعَلَهَا اللَّهُ مَوَاقِيتَ لِصَوْمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْطَارِهِمْ، وَعِدَّةِ نِسَائِهِمْ، وَمَحَلِّ دينهم. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنَّ غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا» (رواه الحاكم في المستدرك).
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، قال البخاري عن البراء: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَتَوُا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا، وَخَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ سَفَرَهُ الذِي خَرَجَ لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يُقِيمَ وَيَدَعَ سَفَرَهُ لَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ، وَلَكِنْ يَتَسَوَّرُهُ مِنْ قِبَلَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا﴾ الآية وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أَيِ اتَّقَوُا اللَّهَ فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ غَدًا إِذَا وَقَفْتُمْ بين يديه فيجازيكم عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.
- ١٩٠ - وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
- ١٩١ - وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ
- ١٩٢ - فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
- ١٩٣ - وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظالمين
هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يقاتل من قاتله وكف عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٍ كذا قال ابن أَسْلَمَ حَتَّى قَالَ: هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَاقْتُلُوا المشركين حَيْثُ وجدتموهم﴾ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذي هِمَّتُهُمْ قِتَالُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، ⦗١٧٠⦘ أَيْ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ فاقتلوهم أَنْتُمْ، كَمَا قَالَ: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثقفتموهم وأخجروهم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما هِمَّتَهُمْ مُنْبَعِثَةٌ عَلَى قِتَالِكُمْ وَعَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصًا.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أَيْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَعْتَدُوا فِي ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ الْمَنَاهِي مِنَ الْمَثُلَةِ وَالْغُلُولِ وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَتَحْرِيقِ الْأَشْجَارِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مصلحة وَلِهَذَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ أن رسول الله ﷺ كَانَ يَقُولُ: «اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قال: «اخرجوا باسم اللَّهِ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بالله، لا تعتدوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ ولا أصحاب الصوامع» (رواه أحمد وأبو داود) وفي الصحيحين عن ابن عمر قافل: وُجِدَتِ امْرَأَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ﷺ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قتل النساء والصبان.
وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ إِزْهَاقُ النُّفُوسِ وَقَتْلُ الرِّجَالِ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْلَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ الصد عَنْ سَبِيلِهِ أبلغُ وأشدُّ وَأَعْظَمُ وَأَطَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قال أبو العالية ومجاهد وعكرمة: الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القيامة، ولم يحل إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَهَارٍ - وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ - فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم» (أخرجه الشيخان) يَعْنِي بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قِتَالَهُ أهله يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقُتِلَتْ رِجَالٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَمَةِ وَقِيلَ صُلْحًا لِقَوْلِهِ: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سفيان فهو آمن» وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين﴾ يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يَبْدَأُوكُمْ بِالْقِتَالِ فِيهِ فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعًا للصائل، كَمَا بَايَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ لَمَّا تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِ بُطُونُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ ثَقِيفٍ وَالْأَحَابِيشِ عَامَئِذٍ ثُمَّ كَفَّ اللَّهُ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الذِي كفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَإِن انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ فَإِنْ تَرَكُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ وَأَنَابُوا إِلَى الإسلام والتوبة فإن الله يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ إِلَيْهِ، ثم أمر الله بِقِتَالِ الْكُفَّارِ ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أَيْ شرك قاله ابن عباس والسدي ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ﴾ أَيْ يَكُونَ دِينُ اللَّهِ هُوَ الظَّاهِرُ الْعَالِي عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فهو في سبيل الله». ⦗١٧١⦘
وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، يقول تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا على الظالمين، وهذا معنى قول (مجاهد) أن لَا يُقَاتَلُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ، أَوْ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ فَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الظُّلْمِ والشرك فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْعُدْوَانِ ههنا الْمُعَاقَبَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها﴾، ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الظَّالِمُ الذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إن الناس ضيعوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تخرج؟ فقال: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي. قَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾؟ فقال: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فتنة وحتى يكون الدين لغير الله. وعن نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أن تحج عامًا وتقيم عامًا وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: الإيمان بالله ورسوله، والصلاة الْخَمْسُ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ. قالوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهُ﴾، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ قَالَ: فعلنا على عهد رسوله ﷺ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فكان الرجل يفتن في دينه وإما قَتَلُوهُ أَوْ عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا (عُثْمَانُ) فَكَانَ اللَّهُ عَفَا عنه وأما أنتم فكرهتم أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا (عَلِيٌّ) فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَخَتَنُهُ، فأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون (الحديث من رواية البخاري).
- ١٩٤ - الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين
قال ابن عباس: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُعْتَمِرًا فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَحَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الدُّخُولِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَصَدُّوهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ قَابِلٍ، فَدَخَلَهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ هو ومن كان مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ والحرمات قِصَاصٌ﴾ وعن جابر بن عبد لله قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا ان يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ (رواه أحمد، قال ابن كثير: إسناده صَحِيحٌ) وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، بَايَعَ أَصْحَابَهُ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ وَجَنَحَ إِلَى الْمُسَالِمَةِ وَالْمُصَالِحٍةِ، فَكَانَ مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ (هَوَازِنَ) يَوْمَ حُنَيْنٍ وَتَحَصَّنَ فَلُّهُمْ بِالطَّائِفِ عَدَلَ إِلَيْهَا فَحَاصَرَهَا وَدَخَلَ ذو القعدة وهو محاصر لها بِالْمَنْجَنِيقِ ⦗١٧٢⦘ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى كَمَالِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ، فَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ انْصَرَفَ عَنْهَا وَلَمْ تُفْتَحْ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَيْضًا عَامَ ثَمَانٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾ أَمَرَ بِالْعَدْلِ حَتَّى فِي الْمُشْرِكِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾، وقال: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثلها﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أَمْرٌ لَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ، وإخبارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
- ١٩٥ - وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
قال البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ: ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ نزلت في النفقة. وعن أسلم أبي عمران قال: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ (عُقْبَةُ بْنُ عامر) وعلى أهل الشام رجل (يزيد بن فضالة ابن عُبَيْدٍ) فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ فَصَفَفْنَا لَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَصَاحَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأنصار، إنا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا: لَوْ أَقْبَلْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَاهَا، فأنزل الله هذه الآية (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، واللفظ لأبي داود)
وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة﴾ قال: لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقِتَالِ، إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ أَنْ تُمْسِكَ بِيَدِكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ، وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ أَنْ يُذْنِبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ لَا يُغفر لِي فَأَنْزَلَ الله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ وقيل: إِنَّهَا فِي الرَّجُلِ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. وقيل: أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِغَيْرِ نفقة، فأما أن يُقْطَعُ بِهِمْ وَإِمَّا كَانُوا عِيَالًا، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَلَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، والتهلُكة أَنْ يَهْلَكَ رِجَالٌ من الجوع والعطش أَوْ مِنَ الْمَشْيِ، وَقَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ فَضْلٌ ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وَمَضْمُونُ الْآيَةِ الأمرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَوُجُوهِ الطَّاعَاتِ، وَخَاصَّةً صَرْفُ الْأَمْوَالِ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، وَبَذْلُهَا فِيمَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ تَرْكِ فِعْلِ ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لَزِمَهُ وَاعْتَادَهُ، ثُمَّ عَطَفَ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يحب المحسنين﴾.
- ١٩٦ - وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر من الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ ⦗١٧٣⦘ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَعَطَفَ بِذِكْرِ الْجِهَادِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَنَاسِكِ فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وظاهرُ السِّيَاقِ إِكْمَالُ أَفْعَالِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أَيْ صُدِدْتُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَمُنِعْتُمْ مِنْ إِتْمَامِهِمَا، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَوْ باستحبابها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ﴾ قَالَ: أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أهلك. وعن سفيان الثوري أنه قال: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِكَ لَا تُرِيدُ إِلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَتُهِلُّ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَيْسَ أَنْ تَخْرُجَ لِتِجَارَةٍ وَلَا لِحَاجَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنْتَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ قُلْتَ: لَوْ حَجَجْتُ أو اعتمرت وذلك يجزىء وَلَكِنَّ التَّمَامَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُ وَلَا تَخْرُجَ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ: إِتْمَامُهُمَا إِنْشَاؤُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الميقات، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مِنْ تَمَامِهِمَا أَنْ تُفرد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ معلومات﴾ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ (عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سنة ست و(عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ و(عمرة الجعرانة) في ذي القعدة سنة ثمان و(عمرته التِي مَعَ حَجَّتِهِ) أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا فِي ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ، وَلَكِنْ قَالَ لأم هانىء: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» وَمَا ذاك إلا لأنها قَدْ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ مَعَهُ عليه السلام فَاعْتَاقَتْ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الطُّهْرِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَنَصَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا. وَاللَّهُ أعلم.
وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُلَّ حَتَّى يُتِمَّهُمَا، تَمَامُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ أنَس وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ»، وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وقوله تعالى: ﴿فَإِن أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ سُورَةَ الْفَتْحِ بِكَمَالِهَا، وَأَنْزَلَ لَهُمْ رُخْصَةً أَنْ يَذْبَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ سَبْعِينَ بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وَأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فَلَمْ يَفْعَلُوا انْتِظَارًا لِلنَّسْخِ حَتَّى خَرَجَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَفَعَلَ النَّاسُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قصَّر رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْلِقْهُ فَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَالْمُقَصِّرِينَ»، وَقَدْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي هَدْيِهِمْ ذَلِكَ كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا على طرف الحرم. فالله أعلم.
⦗١٧٤⦘ وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - هَلْ يُخْتَصُّ الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ؟ فَلَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا مَنْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ، لَا مَرَضٌ ولا غيره - على قولين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ ضَلَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ﴾ فَلَيْسَ الأمن حصرًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَصْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ضَلَالٍ وَهُوَ التوهان عن الطريق لحديث: «من كسر أو وجع أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخرى» (رواه أحمد) وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أو كسر. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حبستني».
وقوله تعالى: ﴿فَمَا استيسر من الهدي﴾ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يقول: ﴿فَمَا استيسر من الهدي﴾ شاة، والهدي مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ والضأن) وهو مذهب الأئمة الأربعة. وروي عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير.
(قُلْتُ): وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إليه قصة الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أنه ذبح في تحلله ذلك شَاةً وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ قَالَ: بِقَدْرِ يَسَارَتِهِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَمِنَ الْإِبِلِ، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِجْزَاءِ ذَبْحِ الشَّاةِ فِي الْإِحْصَارِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ ذَبْحَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أَيْ مَهْمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا، والهديُ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ (الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ) كَمَا قَالَهُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وابن عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً غَنَمًا.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ﴾ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا حَصَرَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ، حَلَقُوا وَذَبَحُوا هَدْيَهُمْ خَارِجَ الْحَرَمِ، فأما في حالة الْأَمْنِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ وَيَفْرَغُ النَّاسِكُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ قَارِنًا، أَوْ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأس وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» (أخرجه البخاري)
وقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾. روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يعني مسجد الكوفة، فسألته عن فدية مِنْ صِيَامٍ فَقَالَ: حُملتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: «مَا كنتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ هَذَا أَمَا تَجِدُ شَاةً؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ ⦗١٧٥⦘ طَعَامٍ وَاحْلِقْ رَأْسَكَ» فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عامة، وعن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ، والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي أَوْ قَالَ حَاجِبِي فَقَالَ: «يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْلِقْهُ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسَكْ نَسِيكَةً»، قَالَ أَيُّوبُ: لا أدري بأيتهن بدأ (رواه الإمام أحمد).
وروى مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، قَالَ: إِذَا كَانَ (أَوْ) فَأَيُّهَ أَخَذْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ. وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس نحو ذلك. (قلت): وهو مذهب الأئمة الأربعو وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقُ بِفَرَقٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ آصُعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهُوَ مُدَّانِ، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، أيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الرُّخْصَةِ جَاءَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ وَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ (كعب ابن عُجْرَةَ) بِذَلِكَ أَرْشَدَهُ إِلَى الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ فَقَالَ: «انْسُكْ شَاةً، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ صم ثلاثة أيام». وقال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ قَالَ: إِذَا كَانَ بِالْمُحْرِمِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ حَلَقَ وَافْتَدَى بِأَيِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ، وَالصِّيَامُ عشرةُ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ مَكُّوكَيْنِ مَكُّوكًا مِنْ تَمْرٍ وَمَكُّوكًا مِنْ بُرٍّ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ. وقال الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ قَالَ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ قَوْلَانِ غَرِيبَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ (كَعْبِ بْنِ عجرة) الصيام ثلاثة أيام لَا سِتَّةَ أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ نُسُكُ شَاةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا هَذَا التَّرْتِيبُ فَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَاكَ بخلاف هذا، والله أعلم. وقال طاووس: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ، وما كان من صيام فحيث شاء، وقال عطاء: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ من طعام وصيام فحيث شاء.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا استيسر من الهدي﴾: أي فإذا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَالتَّمَتُّعُ الْعَامُّ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصحاح. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهديْ أَيْ فَلْيَذْبَحْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ وَلَهُ أَنْ يَذْبَحَ الْبَقَرَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ، وفي هذا دليل على مشروعية التَّمَتُّعِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ ابن حُصَيْنِ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثم لم ينزل قرآن يحرمها وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ إِنَّهُ عُمَرُ، وَهَذَا الذِي قَالَهُ الْبُخَارِيُّ قَدْ جَاءَ مصرحًا به أن عمر كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ التَّمَتُّعِ وَيَقُولُ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ﴾ وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ رضي الله عنه يَنْهَى عَنْهَا محرِّمًا لَهَا إِنَّمَا كَانَ يَنْهَى عَنْهَا لِيَكْثُرَ قَصْدُ النَّاسِ لِلْبَيْتِ حَاجِّينَ وَمُعْتَمِرِينَ كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ رضي الله عنه.
وقوله تَعَالَى: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾، ⦗١٧٦⦘ معناه فَمَن لَّمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَيَّامِ الْمَنَاسِكِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَصُومَهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ في العشر، أو حين يحرم، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ صِيَامَهَا مَنْ أَوَّلِ شَوَّالَ، وَجَوَّزَ الشَّعْبِيُّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَقَبْلَهُ يَوْمَيْنِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ الثَّالِثُ فَقَدْ تَمَّ صَوْمُهُ وَسَبْعَةٌ إِذَا رجع إلى أهله، وعن ابن عمر قال: يصوم يومًا قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة. فلو لم يصمها أو بعضها قبل الْعِيدِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا فِي أَيَّامِ التشريق؟ فيه قولان للعلماء، الأول: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ صِيَامُهَا لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَابْنِ عمر: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلا لمن لا يجد الهدي (رواه البخاري) وعن عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ فَاتَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ صَامَهُنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ﴾ والثاني: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِمَا رواه مسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل»
وقوله تعالى: ﴿وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): إِذَا رجعتم إلى رحالكم، و(الثاني): إذا رجعتم إلى أوطانكم. وقد روى البخاري عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الحليفة، فأهلَّ بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وليقصِّر وليحلِّل ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إلى أهله». وَقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ قِيلَ: تَأْكِيدٌ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، وَكَتَبْتُ بِيَدِي. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾، وقال: ﴿وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾، وَقَالَ: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾. وقيل: معنى (كَامِلَةٌ) الأمر بإكمالها وإتمامها واختاره ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: مَعْنَى (كَامِلَةٌ) أَيْ مُجْزِئَةٌ عن الهدي.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الحرام﴾، قال ابن جرير: واختلف أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ مَعْنِيُّونَ بِهِ وَأَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، عُنِيَ بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. قال ابن عباس: هم أهل الحرم. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا مُتْعَةَ لَكُمْ، أُحِلَّتْ لِأَهْلِ الْآفَاقِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا يَقْطَعُ أَحَدُكُمْ وَادِيًا أَوْ قَالَ: يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَادِيًا ثُمَّ يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المواقيت - كما قال عطاء - مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمَوَاقِيتِ فَهُوَ كَأَهْلِ مَكَّةَ لَا يَتَمَتَّعُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المبارك: من كان دون الميقات، وقال عبد الرزاق: مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمَتَّعَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُ عَلَى مَسَافَةٍ لا يقصر فيها الصَّلَاةُ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُعَدُّ حَاضِرًا لَا مُسَافِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي فيما آمركم ونهاكم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَارْتَكَبَ مَا عَنْهُ زَجَرَهُ.
- ١٩٧ - الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُهُ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فِيمَا عَدَاهَا، وَإِنْ كَانَ ذَاكَ صَحِيحًا، وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مَذْهَبُ مالك وأبي حنيفة وأحمد وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ وَبِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ فصحَّ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي جميع السنة كالعمرة، وذهب الشافعي إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِهِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَهَا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ بِهِ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ عُمْرَةً؟ فِيهِ قَوْلَانِ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بالحج إلى فِي أَشْهُرِهِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ ومجاهد رحمهم الله، والدليل عليه قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ وَظَاهِرُهُ التَّقْدِيرُ الْآخَرُ الذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ النُّحَاةُ، وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَخَصَّصَهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ قبلها كميقات الصلاة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي شُهُورِ الحج، من أجل قول الله تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، وعنه أنه قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا في أشهر الحج، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فِي حَكَمِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُ ابْنِ عباس تفسيرًا للقرآن وهو ترجمانه.
وقوله تعالى: ﴿أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، قل الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ (شَوَّالٌ وَذُو القعدة وعشر من ذي الحجة) وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: وَصَحَّ إِطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ لِلتَّغْلِيبِ، كما تقول العرب رأيته الْعَامَ وَرَأَيْتُهُ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي بعض العام واليوم، وقال الإمام مالك وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عمر أيضًا. وَفَائِدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْحَجِّ، فَيُكْرَهُ الِاعْتِمَارُ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْحِجَّةِ، لَا أَنَّهُ يَصِحُّ الحج بعد ليلة النحر، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا كَانَا يُحِبَّانِ الِاعْتِمَارَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الحج، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ أي وأجب بإحرامه حجًا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام، وقال ابن عباس: ﴿فمن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج﴾ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الفرض الإحرام، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلاَ رَفَثَ﴾ أَيْ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، فَلْيَجْتَنِبِ الرَّفَثَ وَهُوَ الْجِمَاعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نسائكم﴾ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ تَعَاطِي دَوَاعِيهِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيلِ ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء. قال عبد الله بن عمر: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
⦗١٧٨⦘ وقال ابن عباس: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَقَالَ طاووس: سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ﴾ قَالَ: الرَّفَثُ التَّعْرِيضُ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ وَهِيَ الْعَرَابَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وهو أدنى الرفث، وقال عطاء: الرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْفُحْشِ، وقال أبو العالية عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ فُسُوقَ﴾ عن ابن عباس: هي المعاصي، وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْفُسُوقُ مَا أُصِيبَ مِنْ معاصي الله صيدًا أو غيره، وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد وَالْحَسَنُ، وَقَدْ يَتَمَسَّكُ لِهَؤُلَاءِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصحيح: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفُسُوقُ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هو جميع المعاصي الصواب معهم، كَمَا نَهَى تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم آكَدُ - وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ - وَقَالَ فِي الْحَرَمِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا هُوَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وما ذكرناه أولى، وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذنوبه كيوم ولدته أمه» (رواية الصحيحين «رجع كيوم ولدته أمه» وليس فيها خرج من ذنوبه. ولفظ مسلم في أوله «من أتى هذا البيت»، وفي رواية للبخاري «من حج لله»)
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ فِيهِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا): ولا مجادلة في وقت الحج في مَنَاسِكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ أَتَمَّ بَيَانٍ وَوَضَّحَهُ أكمل إيضاح (والقول الثاني): أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة. قال ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ قَالَ: أَنْ تُمَارِيَ صاحبك حتى تغضبه. وقال ابن عباس: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك. وعن نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: الْجِدَالُ في الحج: السباب والمراء والخصومات. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَضَى نُسُكَهُ وَسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (أَخْرَجَهُ عبد بن حميد في مسنده عن جابر)
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾: لَمَّا نهاهم عن إيتان الْقَبِيحِ قَوْلَا وَفِعْلًا، حَثَّهُمْ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾، عن عكرمة أن أناسًا كَانُوا يَحُجُّونَ بِغَيْرِ زَادٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ (رواه البخاري وأبو داود)
وقوله تعالى: ﴿فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالزَّادِ للسفر في الدنيا، فأرشدهم إِلَى زَادِ الْآخِرَةِ وَهُوَ ⦗١٧٩⦘ اسْتِصْحَابُ التَّقْوَى إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ: ﴿وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾، لَمَّا ذَكَرَ اللَّبَاسَ الْحِسِّيَّ، نَبَّهَ مُرْشِدًا إِلَى اللَّبَاسِ الْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ الْخُشُوعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّقْوَى، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا وَأَنْفَعُ. قَالَ عَطَاءٌ: يعني زاد الْآخِرَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَتَزَوَّدُواْ﴾ قَامَ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المسليمن فقال: يا رسول الله ما نجد ما نَتَزَوَّدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تزودْ مَا تَكُفُّ بِهِ وَجْهَكَ عَنِ النَّاسِ وَخَيْرُ مَا تَزَوَّدْتُمُ التَّقْوَى» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، يَقُولُ: وَاتَّقُوا عِقَابِي وَنَكَالِي وَعَذَابِي، لِمَنْ خَالَفَنِي وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِأَمْرِي، يَا ذَوِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ.
- ١٩٨ - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ (رواه البخاري عن ابن عباس) في مواسم الحج، وَلِبَعْضِهِمْ: فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عن ذلك فأنزل الله هذه الآية. وروى أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ الْبُيُوعَ وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ وَالْحَجِّ يَقُولُونَ أَيَّامُ ذِكْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾. وقال ابن جرير: سمعت ابن عمر سئل عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ فَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وَهَذَا مَوْقُوفٌ وَهُوَ قَوِيٌّ جَيِّدٌ، وقد روي مرفوعًا. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نُكْرِي فَهَل لَّنَا مِن حَجٍّ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ؟؟، وَتَرْمُونَ الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال، قلنا: بلى، فقلنا ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الذِي سَأَلْتَنِي فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآية: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «أنتم حجاج» (رواه أحمد عن أبي أمامة التيمي«وعن أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُمْ تَتَّجِرُونَ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: وَهَلْ كَانَتْ مَعَايِشُهُمْ إِلَّا فِي الْحَجِّ؟.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ إِنَّمَا صَرَفَ عَرَفَاتٍ - وَإِنْ كَانَ عَلَمًا عَلَى مُؤَنَّثٍ - لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ جَمْعٌ كَمُسْلِمَاتٍ وَمُؤْمِنَاتٍ، سُمِّيَ بِهِ بقعةٌ مُعَيَّنَةٌ فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَصْلُ فَصُرِفَ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وعرفة موضع الوقوف فِي الْحَجِّ، وَهِيَ عُمْدَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلِهَذَا روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «الْحَجُّ عَرَفَاتٌ - ثَلَاثًا - فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ، وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» (رواه أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح) وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنَ الزَّوَالِ يَوْمَ ⦗١٨٠⦘ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رحمهم الله، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ من أول يوم عرفة واحتج بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطَّائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي جِئْتُ مِنْ جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبد نفسي، والله ما تركت من جبل إلى وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «من شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» (رَوَاهُ أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي).
وتسمى عرفات (المشعر الحرام) والمشعر الأقصى و(إلال) عَلَى وَزْنِ هِلَالُ وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ فِي وَسَطِهَا جَبَلُ الرَّحْمَةِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إِذَا قَصَدُوا لَهُ * إِلَالُ إلى تلك الشراج القوابل
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا الْعَمَائِمُ عَلَى رُؤُوسِ الرِّجَالِ دَفَعُوا، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الدَّفْعَةَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. وَفِي حَدِيثِ (جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الطَّوِيلِ الذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ فِيهِ: (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا يَعْنِي بِعَرَفَةَ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وبدت الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنَ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما (ولم يسبّح بينهما: المراد به لم يتنقل أثناء الجمع بين الفريقين) شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى طَلُعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللَّهَ وكبَّره وهلَّله وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قبل أن تطلع الشمس». وفي الصحيحين عن أسامة ابن زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، وَالْعَنَقُ هُوَ انْبِسَاطُ السَّيْرِ، وَالنَّصُّ فَوْقَهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا، وعنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المشعر الحرام﴾ فقال: هذا الجبل وما حوله. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحسن وقتادة أنه قَالُوا: هُوَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ جرير: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيْنَ الْمُزْدَلِفَةُ؟ قَالَ: إِذَا أَفَضْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ فَذَلِكَ إِلَى مُحَسَّرٍ، قَالَ: وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مَأْزِمَا عَرَفَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَكِنْ مفضاهما، قَالَ: فَقِفْ بَيْنَهُمَا إِنْ شِئْتَ، قَالَ: وَأُحِبُّ أَنْ تَقِفَ دُونَ قُزَحَ هَلُمَّ إِلَيْنَا مِنْ أَجْلِ طَرِيقِ النَّاسِ. (قُلْتُ): وَالْمَشَاعِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ الظَّاهِرَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ لِأَنَّهَا داخل الحرم، وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وارفعوا عن عرفة، وجمعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا مُحَسَّرًا» هَذَا حَدِيثٌ مرسل، وقد قال الإمام أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وارفعوا عن عرفات، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ مُحَسَّرٍ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» (الحديث رواه أحمد وإسناده منقطع) ⦗١٨١⦘
وقوله تعالى: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ تنبيه لهم على ما أنعم الله بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى مشاعر الحج، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الْخَلِيلُ عليه السلام وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ قِيلَ: مِنْ قَبْلِ هذا الهدي، وقيل: القرآن، وقيل: الرَّسُولِ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ وَمُتَلَازِمٌ وَصَحِيحٌ.
- ١٩٩ - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون (الحُمْس) وسائر الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهَا ثُمَّ يَفِيضُ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾، والمراد بالإفاضة ههنا هِيَ الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى لِرَمْيِ الجمار.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كَثِيرًا مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثَلَاثًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ نَدَبَ إِلَى التَّسْبِيحِ والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، وقد روى ابن جرير استغفاره ﷺ لأُمته عشية عرفة. وعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سيِّد الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عهدك ووعدك ما اتسطعت، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا فِي لَيْلَةٍ فَمَاتَ فِي لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا فِي يَوْمِهِ فَمَاتَ دَخَلَ الجنة» (أخرجه البخاري وابن مردويه) وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، وَالْأَحَادِيثُ فِي الِاسْتِغْفَارِ كَثِيرَةٌ.
- ٢٠٠ - فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
- ٢٠١ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
- ٢٠٢ - أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
يَأْمُرُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَفَرَاغِهَا. وَقَوْلُهُ ﴿كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ﴾ اختلفوا في معناه فقال عطاء: هو كَمَا يَلْهَجُ الصَّبِيُّ بِذِكْرِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ فَالْهَجُوا بِذِكْرِ اللَّهِ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ. وقال ابن عباس: كان أهل الجاهليلة يَقِفُونَ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ، وَيَحْمِلُ الْحَمَالَاتِ، وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ غَيْرُ فِعَالِ آبَائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ⦗١٨٢⦘ ذِكْرًا﴾، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ لِلَّهِ عز وجل، و(أو) ههنا لِتَحْقِيقِ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قسوة﴾ فليست ههنا للشك قطعًا وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كَذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْشَدَ إِلَى دُعَائِهِ بَعْدَ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ، وَذَمَّ مَنْ لَا يَسْأَلُهُ إِلَّا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ أُخْرَاهُ فَقَالَ: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ أَيْ مِنْ نَصِيبٍ وَلَا حَظٍّ، وتضمَّنَ هَذَا الذَّمُّ التَّنْفِيرَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِمَنْ هُوَ كذلك، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَامَ غَيْثٍ، وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ، لَا يَذْكُرُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى، فقال: ﴿ومنهم من يقور رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فَجَمَعَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَصَرَفَتْ كُلَّ شَرٍّ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا تَشْمَلُ كُلَّ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ عَافِيَةٍ، وَدَارٍ رَحْبَةٍ، وَزَوْجَةٍ حَسَنَةٍ، وَرِزْقٍ وَاسِعٍ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَرْكَبٍ هين، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا الْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ فَأَعْلَى ذَلِكَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ فِي الْعَرَصَاتِ، وَتَيْسِيرِ الْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الصَالِحٍةِ، وَأَمَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ وَالْآثَامِ، وَتَرْكِ الشُّبَهَاتِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ أو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَنْ أُعْطِيَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَجَسَدًا صَابِرًا فَقَدْ أُوتِيَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَوُقِيَ عَذَابَ النَّارِ. وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالتَّرْغِيبِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ. فقال البخاري عن أنَس بن مالك: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَكَانَ أنَس إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فيه. وعن أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فعجِّلْه لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، فَهَلَّا قُلْتَ ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وقنا عَذَابَ النار﴾ قال: فدعا الله فشاه (قال ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم)
- ٢٠٣ - وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأيام المعدودات (أيام التشريق) والأيام المعلومات (أيام العشر) قال عكرمة: يعني التكبير في ⦗١٨٣⦘ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ (اللَّهُ أَكْبَرُ، الله أكبر)، لحديث: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ» (رواه مسلم وأحمد) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ فِي مِنًى: «لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل». وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن صوم أيام التشريق وقال: «هي أيام أكل وشرب وذكر الله» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة بعده وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ ثَلَاثَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، اذْبَحْ فِي أَيِّهِنَّ شِئْتَ، وأفضلُها أَوَّلُهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَيْثُ قَالَ: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ من تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ فَدَلَّ عَلَى ثَلَاثَةٍ بَعْدَ النَّحْرِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ﴾ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْأَضَاحِيِّ وَقَدْ تقدم أن الرَّاجِحَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا الذَّكَرُ الْمُؤَقَّتُ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَالْمُطْلَقُ فِي سَائِرِ الأحوال، وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ آخِرُ النَّفْرِ الْآخِرِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ، فَيُكَبِّرُ أَهْلُ السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيرًا وقد جاء في الحديث: «إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بن الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل» (رواه أبو داود) وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ - وَهُوَ تَفَرُّقُ النَّاسِ مِنْ مَوْسِمِ الْحَجِّ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَشَاعِرِ وَالْمَوَاقِفِ - قَالَ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
- ٢٠٤ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
- ٢٠٥ - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ
- ٢٠٦ - وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
- ٢٠٧ - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَفِي بَاطِنِهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَكَلَّمُوا فِي (خُبَيْبٍ) وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي الْمُنَافِقِينَ كُلِّهِمْ وفي المؤمنين كلهم وهو الصحيح، وروى ابن جرير قال: حدثني محمد بن أبي معشر، وأخبرني أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيَّ يُذَاكِرُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ: إن في بعض الكتب: (إن عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ من الصبر، لبسو لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، ⦗١٨٤⦘ يَجْتَرُّونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِيَّ تَجْتَرِئُونَ وَبِي تَغْتَرُّونَ؟ وَعِزَّتِي لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ فِتْنَةً تُتْرَكُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ)، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَأَيْنَ هُوَ من كتاب الله؟ قال، قوله اللَّهِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الْآيَةَ. فَقَالَ سَعِيدٌ: قَدْ عَرَفْتُ فِيمَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ الْآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تكون عامة بعد (أخرجه ابن جرير عن سعيد المقبري موقوفًا) وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح.
وأما قوله تعالى: ﴿وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ﴾ فمعناه أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الْإِسْلَامَ، وَيُبَارِزُ اللَّهَ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ الآية. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْإِسْلَامَ حَلَفَ وَأَشْهَدَ اللَّهَ لَهُمْ إِنَّ الذِي فِي قَلْبِهِ موافق للسانه وهذا المعنى صحيح وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَلَدُّ الخصام﴾ الألد في اللغة: الأعوج، ﴿وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾ أَيْ عُوجًا، وَهَكَذَا الْمُنَافِقُ فِي حَالِ خُصُومَتِهِ، يَكْذِبُ وَيَزْوَرُّ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ، بَلْ يَفْتَرِي وَيَفْجُرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». وفي الحديث: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» (رواه البخاري عن عائشة مرفوعًا)
وقوله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أي هو أعوج المقال سيء الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ. كَلَامُهُ كَذِبٌ، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. والسعي ههنا هُوَ الْقَصْدُ كَمَا قَالَ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿ثم أبدر يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ وقال تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أَيِ اقْصُدُوا وَاعْمَدُوا نَاوِينَ بِذَلِكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، فَإِنَّ السَّعْيَ الْحِسِّيَّ إِلَى الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بالسنة النبوية: «إذا أتتيتم الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ». فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ، وَهُوَ مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالنَّسْلِ: وَهُوَ نِتَاجُ الحيوانات الذي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا سعى في الأرض إفسادًا مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ أَيْ لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾ أَيْ إِذَا وُعظ هَذَا الْفَاجِرُ فِي مَقَالِهِ وَفِعَالِهِ، وَقِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَانْزَعْ عَنْ قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، وَارْجِعْ إِلَى الْحَقِّ، امْتَنَعَ وَأَبَى، وَأَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ وَالْغَضَبُ بِالْإِثْمِ، أَيْ بِسَبَبِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَامِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذي كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ. النَّارُ وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وبئس المصير﴾ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد﴾ أي هي كفايته عقوبة في ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمُ الذَّمِيمَةِ، ذَكَرَ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَمِيدَةَ فَقَالَ: ﴿ومِنَ النَّاسِ من يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ قال ابن عباس وجماعة: نزلت في (صهيب الرُّومِيِّ) وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ مَنَعَهُ النَّاسُ أَنْ يُهَاجِرَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْهُ ⦗١٨٥⦘ وَيُهَاجِرَ فَعَلَ، فَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ إِلَى طَرَفِ الْحَرَّةِ، فَقَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ، فَقَالَ: وَأَنْتُمْ فَلَا أَخْسَرَ اللَّهُ تِجَارَتَكُمْ، وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال له: «ربح البيع صهيب» وروي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: لَمَّا أَرَدْتُ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ لِي قُرَيْشٌ: يَا صُهَيْبُ قَدِمْتَ إِلَيْنَا وَلَا مَالَ لَكَ، وَتَخْرُجُ أَنْتَ وَمَالُكَ؟ وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ مَالِي تخلُّون عَنِّي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِمْ مَالِي فَخَلَّوْا عَنِّي، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» (رواه ابن مردويه عن صهيب الرومي) مرتين وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قال الله تعالى: ﴿إن لله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، وَلَمَّا حُمِلَ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا وَتَلَوْا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مرضات الله والله رَؤُوفٌ بالعباد﴾.
- ٢٠٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
- ٢٠٩ - فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
يأمر الله تعالى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْمُصَدِّقِينَ بِرَسُولِهِ، أَنْ يَأْخُذُوا بجمع عُرَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَالْعَمَلِ بِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ جَمِيعِ زَوَاجِرِهِ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ العوفي عن ابن عباس: ﴿ادخلو فِي السلم﴾ يعني الإسلام، وقال الضحّاك وأبو العالية: يعني الطاعة، وقوله ﴿كَآفَّةً﴾ قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة: جَمِيعًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيِ اعْمَلُوا بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ ووجوه البر.
ومن المفسرين من يجعل قوله تعالى ﴿كَآفَّةً﴾ حالًا من الداخلين، أي ادخلوا الْإِسْلَامِ كُلُّكُمْ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا كُلُّهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِجَمِيعِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَا اسْتَطَاعُوا مِنْهَا، كما قال عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخلو فِي السلم كَآفَّةً﴾ يعني مؤمنين أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْلَّهِ مستمسكين ببعض أُمور التَّوْرَاةِ وَالشَّرَائِعِ التِي أُنزلت فِيهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿ادخلو فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾ يَقُولُ: ادْخُلُوا فِي شَرَائِعِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلَا تدعوا منها شيئًا، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله تعالى: ﴿ولا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي اعملوا بالطاعات، وَاجْتَنِبُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ فَ ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وَ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، ولهذا قال: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ أَيْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ مَا قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ، فَاعْلَمُوا إِنَّ اللَّهَ ﴿عَزِيزٌ﴾ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ لَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي أَحْكَامِهِ وَنَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، ولهذا قال أبو العالية وقتادة: عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْعَزِيزُ فِي نَصْرِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إِذَا شَاءَ، الْحَكِيمُ فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ.
- ٢١٠ - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
يَقُولُ تَعَالَى مُهَدِّدًا لِلْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿وقضي الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾، وَقَالَ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ الآية.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ههنا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ مِنْ أَوَّلِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ سَاقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا اهْتَمُّوا لِمَوْقِفِهِمْ فِي الْعَرَصَاتِ، تَشَفَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى محمد ﷺ فَإِذَا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا»، فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ وَيَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ بَعْدَ مَا تَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا وَيَنْزِلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ ثُمَّ الثَّالِثَةُ إِلَى السَّابِعَةِ، وَيَنْزِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْكَرُوبِيُّونَ. قَالَ: وَيَنْزِلُ الْجَبَّارُ عز وجل فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذي العزة والجبروت، سُبْحَانَ الْحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ، سُبْحَانَ الذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والروح، سبوح قُدُّوسٌ سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى، سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَانِ والعظمة، سبحانه سبحانه، أبدًا أبدًا.
- ٢١١ - سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
- ٢١٢ - زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
يخبر تعالى عن بني إسرائيل كم شَاهَدُوا مَعَ مُوسَى مِنْ آيَةً بَيِّنَةً، أَيْ حجة قاطعة بصدقه فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، كَيَدِهِ وَعَصَاهُ وَفَلْقِهِ الْبَحْرَ وَضَرْبِهِ الْحَجَرَ، وَمَا كَانَ مِنْ تَظْلِيلِ الْغَمَامِ عليهم من شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمِنْ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِدْقِ مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا أَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْهَا، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، أَيِ اسْتَبْدَلُوا بِالْإِيمَانِ بِهَا الْكُفْرَ بِهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾، كما قال تعالى إِخْبَارًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَزْيِينِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِلْكَافِرِينَ، الَّذِينَ رَضُوا بِهَا وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا الْأَمْوَالَ وَمَنَعُوهَا عَنْ مَصَارِفِهَا التِي أُمروا بِهَا، مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ عَنْهُمْ، وَسَخِرُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَأَنْفَقُوا مَا حَصَلَ لهم منها طاعة ربهم، وبذلوه ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَلِهَذَا فَازُوا بِالْمَقَامِ الْأَسْعَدِ وَالْحَظِّ الْأَوْفَرِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ، فَكَانُوا فَوْقَ ⦗١٨٧⦘ أُولَئِكَ في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقورا فِي الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَخُلِّدَ أُولَئِكَ في الدركات في أسفل سافلين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أَيْ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعْطِيهِ عَطَاءً كَثِيرًا جَزِيلًا، بِلَا حَصْرٍ وَلَا تَعْدَادٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «ابْنَ آدَمَ أنفقْ أُنفقْ عَلَيْكَ»، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أنفقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالَا»، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾. وَفِي الصَّحِيحِ:»أَنَّ مَلَكَيْنِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ صبيحة كل يوم فيقول أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا، وَفِي الصَّحِيحِ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، وَمَا لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، وَمَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ»، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ».
- ٢١٣ - كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
قال ابن جرير: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ﴿كان الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا﴾، قال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى جَمِيعًا ﴿فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ الله النبيين﴾ فكان أول من بعث نوحًا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يَقُولُ: كَانُوا كُفَّارًا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ سَنَدًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا على ملة آدم حَتَّى عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا عليه السلام، فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى أهل الأرض، ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا قَامَتْ الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلى الْبَغْيُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وبعد غدٍ للنصارى».
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ فَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَالْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي ⦗١٨٨⦘ الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَتَكَلَّمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بَعْضَ النَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ عَنْ بَعْضِ الطَّعَامِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عليه السلام، فَكَذَّبَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رُوحَهُ وَكَلِمَتُهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ للحق من ذلك. وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي بعلمه بهم وبما هَدَاهُمْ لَهُ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ﴾ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي وله الحكمة وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، وَلَا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».
- ٢١٤ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تدخلو الْجَنَّةَ﴾ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلُوا وَتُخْتَبَرُوا وَتُمْتَحَنُوا، كَمَا فُعِلِ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ والآلام، والمصائب والنوائب. قال ابن مسعدود: ﴿البأسآء﴾ الفقر، ﴿الضراء﴾ السقم، ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ خوفوا مِنَ الْأَعْدَاءِ زِلْزَالًا شَدِيدًا وَامْتُحِنُوا امْتِحَانًا عَظِيمًا، كما جاء في الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: قُلْنَا يَا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا اللَّهَ لَنَا فَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كان أخدهم يوضع الميشار؟؟ عَلَى مِفْرَقِ رَأْسِهِ فَيَخْلُصُ إِلَى قَدَمَيْهِ، لَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا بَيْنَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، لَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون» (رواه البخاري)
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ وَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا جَانِبٌ عَظِيمٌ لِلصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ ⦗١٨٩⦘ بِالْلَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قال: نعم، قال: فكيف كانت الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ؟ قَالَ: سِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لها العاقبة.
وقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أَيْ سُنَّتُهُمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ وقوله: ﴿وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسل وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ أَيْ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَدْعُونَ بِقُرْبِ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ عِنْدَ ضِيقِ الْحَالِ وَالشِّدَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، كَمَا قَالَ ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا﴾ وَكَمَا تَكُونُ الشِّدَّةُ يَنْزِلُ مِنَ النَّصْرِ مِثْلُهَا ولهذا قال: ﴿ألا إِنَّ نَصْرَ الله قريب﴾.
- ٢١٥ - يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عليم
قال مقاتل: هذه الآية في نفقة التطوع، وَمَعْنَى الْآيَةِ: يَسْأَلُونَكَ كَيْفَ يُنْفِقُونَ؟ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَبَيَّنَ لَهُمْ تَعَالَى ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ أَيِ اصْرِفُوهَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أَيْ مَهْمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنْ فِعْلِ مَعْرُوفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
- ٢١٦ - كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
هَذَا إِيجَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُفُّوا شَرَّ الْأَعْدَاءِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ غَزَا أَوْ قَعَدَ، فَالْقَاعِدُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعِينَ أَنْ يُعِينَ، وَإِذَا اسْتُغِيثَ أَنْ يُغِيثَ، وَإِذَا اسْتُنْفِرَ أَنْ يَنْفِرَ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَعَدَ. (قُلْتُ) وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». وَقَالَ عليه السلام يَوْمَ الفتح: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ أَيْ شَدِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمَشَقَّةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُجْرَحَ، مَعَ مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَمُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أَيْ لِأَنَّ الْقِتَالَ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ﴿وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. قَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ خِيَرَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقُعُودُ عَنِ الْقِتَالِ قَدْ يَعْقُبُهُ اسْتِيلَاءُ العدوا عَلَى الْبِلَادِ وَالْحُكْمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْكُمْ، ⦗١٩٠⦘ وَأَخْبَرُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وأُخراكم، فَاسْتَجِيبُوا لَهُ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ لعلكم ترشدون.
- ٢١٧ - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- ٢١٨ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ
عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ رَهْطًا وبعث عليهم (أبا عبيدة بن الجراح) فَلَمَّا ذَهَبَ يَنْطَلِقُ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ الله ﷺ، فحبسه، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ) وكتب له كتابًا وأمره أن لا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: «لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ» فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سمعًا وطاعة لله لرسوله، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشهر الحرام! فأنزل الله: ﴿يسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ الآية. أي لَا يَحِلُّ، وَمَا صَنَعْتُمْ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد ﷺ وَأَصْحَابَهُ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ حِينَ أَخْرَجُوا مُحَمَّدًا ﷺ وأصحابه أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْقِتَالَ فِي شهر حرام، فقال الله تَعَالَى ﴿وصدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكفرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحرام وإخراج أهل مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله﴾ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ بعث سرية، فلقوا (عمروا بْنَ الْحَضْرَمِيِّ) وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَأَنَّ المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك، فقال الله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ﴾ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ مِنَ الذِي أَصَابَ أصحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، والشرك أشد منه
وقال ابن هشام في كتاب (السيرة): وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عبد الله بن جحش فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أن لا يَنْظُرَ فِيهِ ⦗١٩١⦘ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فيه فيمضي كما أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَوْمَيْنِ فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي في هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ (نَخْلَةَ) بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ تَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةَ أَرْصُدُ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فماضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الفرع يقال له نجران أضلَّ (سعد بن أبي وقاص) و(عتبة بن غزوان) بعيرًا لهما كانا يتعقبانه فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بن الحضرمي، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا منهم فأشرف لهم (عكاشة ابن مِحْصَنٍ) وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا وَقَالُوا: عُمَّار لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وتشارو الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ عليهم وأجمعوا قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، واستأسَر (عُثْمَانَ بن عبد الله) و(الحكم بْنَ كَيْسَانَ) وَأَفْلَتَ الْقَوْمَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المدينة. فقال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِمَّا غَنِمْنَا الخُمس، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ الخُمس مِنَ الْمَغَانِمِ فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خُمس الْعِيرِ وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بقتالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وإخراجكُم مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ ﴿أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أَيْ قد كانوا يفتنون المسلم عن دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ فَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ﴾ أَيْ ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الْأَمْرِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فيه من الشدة قبض رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا نفديكموها حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا» يَعْنِي (سَعْدَ بْنَ أَبِي وقاص) و(عتبة بْنَ غَزْوَانَ) فَإِنَّا ⦗١٩٢⦘ نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة ففداهما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ ما كان حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يرجون رحمة الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فوضع اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش، ويقال: بعل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ قَالَهَا حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ قَدْ أَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً * وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمُ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ * وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ * لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ في البيت ساجد (قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جحش)
٢١٩ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
- ٢٢٠ - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حكيم
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية التي في سورة الْبَقَرَةِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي النِّسَاءِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا قام الصلاة نادى: أن لا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا بَلَغَ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ؟﴾ قال عمر: انتهينا انتهينا (أخرجه الإمام أحمد عن أبي ميسرة) أَمَّا الْخَمْرُ فَكَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أنه كل ما خامر العقل، والميسر: وهو القمار.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، أَمَّا إِثْمُهُمَا فَهُوَ فِي الدِّينِ، وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَدُنْيَوِيَّةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهَا نَفْعَ الْبَدَنِ، وَتَهْضِيمَ الطعام، وإخراج الفضلات، تشحيذ بَعْضِ الْأَذْهَانِ، وَلَذَّةَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، التِي فِيهَا كَمَا قَالَ (حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ) فِي جَاهِلِيَّتِهِ:
ونشربها فتتركنا ملوكًا * وأُسْدًا لا يُنَهْنهنا اللقاء
⦗١٩٣⦘ وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما يربحه بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَيْسِرِ فَيُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحِ لَا تُوَازِي مَضَرَّتُهُ وَمَفْسَدَتُهُ الرَّاجِحَةُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُمَهِّدَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْبَتَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً بَلْ مُعَرِّضَةً، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ بيِّن لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا حَتَّى نَزَلَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: إن هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْخَمْرِ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ ثُمَّ نَزَلَتِ الْآيَةُ التِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر.
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ روي أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَثَعْلَبَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَا: يَا رَسُولَ الله: إن لنا أرقاء وأهلين مِنْ أَمْوَالِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ﴾، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ قال: ما يفضل عن أهلك، ﴿قُلِ العفو﴾ يعني الفضل، وعن طاووس: اليسير من كل شيء، وعن الربيع: أَفْضَلُ مَالِكَ وَأَطْيَبُهُ، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْفَضْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ»، قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ: «فَأَنْتَ أَبْصَرُ» (رواه ابن جرير وأخرجه مسلم بنحوه) وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضُلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ فَإِنْ فَضُلَ شَيْءٌ عَنْ أَهْلِكَ فَلِذِي قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضُلَ عَنْ ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» (رواه مسلم أيضا)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بمن تعول» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة)، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلِ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لك ولا تلام على كفاف»، ثم قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل: مبينة بآية الزكاة وهو أوجه.
وقوله تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أَيْ كَمَا فَصَّلَ لكم هذه الأحكام وبينها أوضحها، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَكُمْ سَائِرَ الْآيَاتِ فِي أَحْكَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا وإقبال الآخرة وبقائها. وقال الحسن: هِيَ وَاللَّهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ فِيهَا، لِيَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ثُمَّ دَارُ فَنَاءٍ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارُ بَقَاءٍ.
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ﴾ الْآيَةَ قَالَ ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وَ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ⦗١٩٤⦘ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل لَهُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بطعامهم وشرابهم وبشرابهم (رواه أبو داود النسائي والحاكم) وقالت عائشة رضي الله عنها: إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدِي على حدة، حَتَّى أَخْلِطَ طَعَامَهُ بِطَعَامِي وَشَرَابَهُ بِشَرَابِي فَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ أَيْ عَلَى حِدَةٍ، ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أَيْ وَإِنْ خَلَطْتُمْ طَعَامَكُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَكُمْ بِشَرَابِهِمْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أَيْ يَعْلَمُ مَنْ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ الْإِفْسَادَ أَوِ الْإِصْلَاحَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ وَلَوْ شَآءَ الله لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَأَحْرَجَكُمْ، وَلَكِنَّهُ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ عَنْكُمْ وَأَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ بل جَوَّزَ الْأَكْلَ مِنْهُ لِلْفَقِيرِ بِالْمَعْرُوفِ، إِمَّا بِشَرْطِ ضَمَانِ الْبَدَلِ لِمَنْ أَيْسَرَ، أَوْ مَجَّانًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
- ٢٢١ - وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
هَذَا تَحْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُشْرِكَاتِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ عُمُومُهَا مُرَادًا وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مُشْرِكَةٍ مِنْ كِتَابِيَّةٍ وَوَثَنِيَّةٍ، فَقَدْ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ نساء أهل الكتاب بقوله: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ نساء أهل الكتاب، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَمْ يُرِدْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمَعْنَى قريب من الأول، والله أعلم. وإنما كره عمر نكاح الكتابيات لِئَلَّا يَزْهَدَ النَّاسُ فِي الْمُسَلَّمَاتِ، أَوْ لِغَيْرِ ذلك من المعاني، كما روي عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ يَهُودِيَّةً فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: خلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَتَزْعُمُ أنها حرام فأخلي. فَقَالَ: لَا أَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أن تعاطوا المؤمنات منهن (قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح)
وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَأَوَّلَ: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا أَعْلَمَ شِركًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: ربها عيسى. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ كَانَتْ لَهُ أَمَة سَوْدَاءُ فَغَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا، ثُمَّ فَزِعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ لَهُ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: تَصُومُ وَتَصِلِي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ ⦗١٩٥⦘ اللَّهِ فَقَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ»، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأُعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ المسلمين وقالوا: نكح أمته، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ويُنْكحوهم رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾، ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خير من مشرك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَنْكِحُوهُنَّ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تطغيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل» (رواه عبد بن حميد وفي إسناده ضعف) وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فاظفر بذات الدين تربت يداك» وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدنيا المرأة الصالحة» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمر)
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ﴾ أَيْ لَا تُزَوِّجُوا الرِّجَالَ الْمُشْرِكِينَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لهن﴾ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ أي لرجلٌ مُؤْمِنٌ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ، وَإِنْ كَانَ رَئِيسًا سَرِيًّا، ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أَيْ مُعَاشَرَتُهُمْ وَمُخَالَطَتُهُمْ تَبْعَثُ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاقْتِنَائِهَا وَإِيثَارِهَا عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ أَيْ بِشَرْعِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
- ٢٢٢ - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
- ٢٢٣ - نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين
عن أنَس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت (المراد بالمجامعة هنا الإجتماع بهن لا الوقاع وهو المعنى الحقيقي واستعماله بالمعنى الآخر كناية اهـ) فسأل أصحاب النَّبِيِّ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿ويسئلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ﴾ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ (أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عليهما، فخرجا فاستقبلهما هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ والإمام أحمد) فقوله: ﴿فاعتزلوا النسآء فِي المحيض﴾ يعني الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ⦗١٩٦⦘ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إلى أنه يجوز مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ فِيمَا عَدَا الْفَرْجِ، قَالَ أَبُو داود عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْحَائِضِ شَيْئًا ألقى على فرجها ثوبًا.
وعن مَسْرُوقٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد والحسن. وروى ابن جرير عن عائشة قالتك له ما فوق الإزار، (قلت): ويحل مضاجعتها ومواكلتها بِلَا خِلَافٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُنِي فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ وأنا حائض، وكان يتكىء فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَفِي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرق العرق (عرق اللحم وتعرقه واعتراقه تناوله بفمه من العظم) وَأَنَا حَائِضٌ فَأُعْطِيهِ النَّبِيَّ ﷺ فَيَضَعُ فَمَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعْتُ فَمِي فِيهِ، وَأَشْرَبُ الشَّرَابَ فَأُنَاوِلُهُ فَيَضَعُ فَمَهُ في الموضع الذي كنت أشرب منه. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا تَحِلُّ لَهُ مُبَاشَرَتُهَا فِيمَا عَدَا مَا تَحْتَ الْإِزَارِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين عن ميمونة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أمرها فاتزرت وهي حائض. وروى الإمام أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ما يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: «ما فوق الإزار» ولأبي داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَمَّا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ: «مَا فوق الإزار والتعففُ عن ذلك أفضل».
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا شَابَهَهَا حُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ مِنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، الَّذِي رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَأْخَذُهُمْ أَنَّهُ حَرِيمُ الْفَرْجِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ إِلَى تَعَاطِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل، الَّذِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهُوَ الْمُبَاشِرَةُ فِي الْفَرْجِ، ثُمَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَثِمَ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، (أَحَدُهُمَا): نَعَمْ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَ فِي الْحَائِضِ تُصَابُ دِينَارًا فَإِنْ أَصَابَهَا وَقَدْ أَدْبَرَ الدَّمُ عَنْهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَنِصْفُ دِينَارٍ، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): وَهُوَ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عز وجل، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ وَنَهْيٌ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ بِالْجِمَاعِ مَا دَامَ الْحَيْضُ مَوْجُودًا وَمَفْهُومُهُ حِلُّهُ إِذَا انقطع.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فِيهِ نَدْبٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى غِشْيَانِهِنَّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى وُجُوبِ الْجِمَاعِ بَعْدَ كُلِّ حَيْضَةٍ لِقَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مستند لأن هذا أمر بعد الحظر، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ أَوْ تَتَيَمَّمَ. إِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِشَرْطِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ إِنَّهَا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ، ولا تفتقر إلى غسل وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ أَيْ مِنَ الدَّمِ ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أَيْ بِالْمَاءِ، وكذا قال مجاهد وعكرمة. ⦗١٩٧⦘
وقوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْفَرْجِ وَلَا تَعَدَّوه إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَدَى، وَقَالَ ابن عباس ومجاهد وعكرمة: ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ أَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ حِينَئِذٍ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الدبر كما سيأتي قريبًا إن شاء الله، وقال الضحاك: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ يَعْنِي طَاهِرَاتٌ غير حيّض، ولهذا قال: ﴿إِنْ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ أَيْ مِنَ الذَّنْبِ وَإِنَّ تَكَرَّرَ غِشْيَانُهُ، ﴿وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ أَيِ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْأَقْذَارِ وَالْأَذَى، وَهُوَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ إِتْيَانِ الْحَائِضِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى.
وقوله تعالى ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَرْثُ مَوْضِعُ الْوَلَدِ، ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ، كما ثبتت بذلك الأحاديث. قال البخاي: عن جابر قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لكم فأتو حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ وعن جابر بن عبد الله أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَتَى امْرَأَةً وَهِيَ مُدْبِرَةٌ جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ» (رواه مسلم وأبو داود) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنزلت هَذِهِ الْآيَةُ ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ في أناس من الأنصار، أتو النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ النبي ﷺ: «ائتها عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ» (رواه أحمد)
قال الإمام أحمد: عن عبد الله بن سابط قال: دخلتُ على (حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) فقلت: إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت: فلا تستحي يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي أَمُّ سَلَمَةَ أَنَّ الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أحبى امرأته كان ولده أَحْوَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ نَكَحُوا فِي نساء الأنصار، فأَحْبَوْهن فَأَبَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا وَقَالَتْ: لَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَدَخَلَتْ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتِ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله ﷺ فخرجت فسألته أم سلمة فقال: ادعي «الأنصارية» فدعتها، فَتَلَا عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ «صمامًا واحدًا» (رواه أحمد الترمذي)
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ! قَالَ: «مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلَيِ الْبَارِحَةَ، قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هذه الآية: ﴿نساؤوكم حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾: «أَقْبِلْ وأدبر واتق الدبر والحيضة» (رواه أحمد).
وعن نَافِعٍ قَالَ: قَرَأْتُ ذَاتَ يَوْمٍ ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فَقَالَ ابْنُ عمر: أتدري فيما نزلت؟ قالت: لَا، قَالَ: نَزَلَتْ فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أدبارهن. وهذا الحديث مَحْمُولٌ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ أَنَّهُ يَأْتِيهَا في قبلها من دبرها لما روى كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ قَدْ أَكْثَرَ ⦗١٩٨⦘ عَلَيْكَ الْقَوْلَ إِنَّكَ تَقُولُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِنَّهُ أَفْتَى أَنْ تُؤْتَى النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهِنَّ قَالَ: كَذَبُوا عَلَيَّ وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ؛ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ الْمُصْحَفَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَ ﴿نِسَآؤُكُمْ حرث لكم فأتو حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ فَقَالَ: يَا نَافِعُ، هَلْ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قُلْتُ: لَا، قال إنا كنا معشر قريش نحبي النِّسَاءَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ أردنا منهن مثل ما كنا نريد، فآذاهن فكرهن ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذْنَ بِحَالِ الْيَهُودِ إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جَنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ الله: ﴿نِسَآؤُكُمْ حرث لكم فأتو حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ (رواه النسائي) وهذا إسناد صحيح وَإِنْ كَانَ قَدْ نُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى طائفة من فقهاء الميدنة وَغَيْرِهِمْ، وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ السِّرِّ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَنْكَرُ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِالزَّجْرِ عن فعله وتعاطيه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿استحيوا إن الله لا يستحي من الحق، لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» وعن خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ امرأته في دبرها (رواه الإمام أحمد) وفي رواية قال: «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أو امرأة في الدبر» (رواه الترمذي والنسائي) عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وقال: كنت أتى أهلي في دبرها وسمعت قول الله ﴿نِسَآؤُكُمْ حرث لكم فأتو حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ فظننت أن ذلك لي حلال، فقال: يا لكع إنما قوله ﴿فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ﴾ قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره. وقال عُمَرُ رضي الله عنه: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ فإنَّ الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أبدراهن. وعن أبو جويرة قال: سأل رجل عليًا عن إتيان المراة فِي دُبُرِهَا فَقَالَ: سَفَلْتَ سَفَّلَ اللَّهُ بِكَ ألم تسمع قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العالمين﴾؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهُوَ الثَّابِتُ بِلَا شَكٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه يرحمه. عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: مَا تَقُوُلُ فِي الْجَوَارِي أيحمض لَهُنَّ؟ قَالَ: وَمَا التَّحْمِيضُ؟ فَذَكَرَ الدُّبُرَ فَقَالَ: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ (رواه الدرامي في مسنده) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم، وروي معمر بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ.
وقال أبو بكر النيسابوري بسنده عن إسرائيل بْنُ رَوْحٍ سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ انَس: مَا تقول في إيتان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلى قَوْمٌ عَرَبٌ، هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا مَوْضِعَ الزرع؟ لا تعدوا الْفَرْجَ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: يَكْذِبُونَ عليَّ فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمْ قَاطِبَةً وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ وعكرمة، وطاووس، وعطاء، وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء. ⦗١٩٩⦘ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ مِنْ فِعْلِ الطاعات مع امتثال مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ﴾ أَيْ فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أعمالكم جميعها ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيِ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، التَّارِكِينَ مَا عَنْهُ زَجَرَهُمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس ﴿وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ قال: تقول بِاسْمِ اللَّهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْجِمَاعِ، وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح البخار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لو أن أحدكم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّر بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا».
- ٢٢٤ - وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ٢٢٥ - لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
ومعناه: لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِالْلَّهِ تَعَالَى مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تركها كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى والمساكين والمهاجرين فِي سبيل الله﴾، فَالِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْيَمِينِ آثَمُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْخُرُوجِ منها بالتكفير كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يعطى كفارته التي افترض الله عليه». وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تجعلو اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ﴾ قَالَ: لَا تَجْعَلَنَّ عُرْضَةً ليمينك أن لا تَصْنَعَ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ وَاصْنَعِ الخير، ويؤيده مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا»، وَثَبَتَ فِيهِمَا أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعنت عَلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلت إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ على يمين فرأيت غيرها خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عن يمينك». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فليكفِّر عَنْ يَمِينِهِ وليفعل الذي هو خير» (رواه مسلم)
وقوله تَعَالَى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ أَيْ لَا يُعَاقِبُكُمْ وَلَا يُلْزِمُكُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ اللَّاغِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ، بَلْ تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ عَادَةً مِنْ غَيْرِ تَعْقِيدٍ وَلَا تَأْكِيدٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فقال في حلفه باللات وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَهَذَا قَالَهُ لِقَوْمٍ حَدِيثِي عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، قَدْ أَسْلَمُوا وَأَلْسِنَتُهُمْ قَدْ أَلِفَتْ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَلِفِ بِالْلَّاتِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَأُمِرُوا أَنَّ يلفظوا بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، كَمَا تَلَفَّظُوا بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ الآية، وفي الآية الأُخرى: ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ قَالَتْ: هُمُ القوم يتدارأون فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُ هَذَا: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى والله وكلا ⦗٢٠٠⦘ والله يتدارأون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم. عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمُزَاحَةِ وَالْهَزْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لا الله، وَبَلَى وَاللَّهِ، فَذَاكَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، إِنَّمَا الْكُفَّارَةُ فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثم لا يفعله.
(الوجه الثاني): عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالْلَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ وَتَقُولُ: هُوَ الشَّيْءُ يَحْلِفُ عَلَيْهِ أَحَدُكُمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدْقَ، فيكون على غير ما حلف عليه. وعن عطاء عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: هُوَ قَوْلُهُ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ. (أَقْوَالٌ أُخر): قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَاهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرِي إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنْ مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غَدًا فَهُوَ هَذَا، قَالَ طاووس عن ابن عباس: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ أَنْ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فَذَلِكَ مَا لَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ (بَابُ الْيَمِينِ في الغضب): عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَخَوَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ فَسَأَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ الْقِسْمَةَ فَقَالَ: إِنْ عُدْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْقِسْمَةِ فَكُلُّ مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ غَنِيَّةٌ عَنْ مَالِكَ، كفِّر عَنْ يَمِينِكَ وَكَلِّمْ أَخَاكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
ﷺ يَقُولُ: «لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ عز وجل وَلَا فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ» وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَهِيَ كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ الآية، ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أَيْ غَفُورٌ لِعِبَادِهِ ﴿حَلِيمٌ﴾ عليهم.
- ٢٢٦ - لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فإن فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- ٢٢٧ - وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
الْإِيلَاءُ: الْحَلِفُ، فَإِذَا حلف الرجل أن لا يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ مُدَّةً، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَلَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ ثُمَّ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَصْبِرَ وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَيْئَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وقال: «الشهر تسع وعشرون»، فَأَمَّا إِنْ زَادَتِ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِمَّا أَنْ يَفِيءَ: أَيْ يُجَامِعُ، وَإِمَّا أَنَّ يُطَلِّقَ، فَيَجْبُرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى هَذَا أَوْ هَذَا لِئَلَّا يَضُرَّ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ أَيْ يَحْلِفُونَ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ مِنْ نِسَائِهِمْ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيلَاءَ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
﴿تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ أَيْ يَنْتَظِرُ الزَّوْجُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْحَلِفِ، ثُمَّ يوقَف ويطالَب بِالْفَيْئَةِ أو الطلاق، ولهذا قال: ﴿فإن فاؤوا﴾ أي رجعوا إلى ما كانواعليه - وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ - قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لِمَا سَلَفَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِنَّ بِسَبَبِ اليمين. وقوله: ﴿فَإِنْ فاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ لِأَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْقَدِيمُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّ الْمُولِيَ إِذَا فَاءَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ⦗٢٠١⦘ وَيَعْتَضِدُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الحديث: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فتركُها كفارتُها»، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود والترمذي، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي: أن عليه التكفير لِعُمُومِ وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى كُلِّ حَالِفٍ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق﴾ فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب أخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أَشْهُرٍ تطليقةٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عمر وعثمان وابن عباس، ثم قيل: إنها تطلق الأربعة أشهر طلقة رجعية قال سعيد بن المسيب، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُطَلُّقُ طَلْقَةً بَائِنَةً رُوِيَ عَنْ علي وابن مسعود وإليه ذهب أو حنيفة.
فكل مَنْ قَالَ إِنَّهَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَهُوَ قول الشافعي، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب: إما بهذا، وإما بهذا، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ مُضِيِّهَا طَلَاقٌ. وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى يُوقَفَ فَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ، وَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ (رواه مالك عن عبد الله بن عمر) وقال الشافعي رحمه الله بسنده إلى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كلهم يوقف المولي.
وعن سهيل ابن أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي مِنَ امْرَأَتِهِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق (أخرجه الدارقطني ورواه ابن جرير) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمْ رحمهم الله وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أيضًا، وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفيء أُلْزِمَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَالطَّلْقَةُ تَكُونُ رَجْعِيَّةً لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ، وَانْفَرَدَ مَالِكٌ بِأَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ رَجْعَتُهَا حَتَّى يُجَامِعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَهَذَا غريب جدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي مُنَاسَبَةِ تَأْجِيلِ الْمُولِي بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الْأَثَرَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ مالك رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بْنِ دِينَارٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ اللَّيْلِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقُولُ:
تَطَاوَلَ هَذَا الليل واسود جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا أَنِّي أُرَاقِبَهْ * لَحُرِّكَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ رضي الله عنها: كَمْ أَكْثَرَ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَحْبِسُ أَحَدًا مِنَ الْجُيُوشِ أَكْثَرَ من ذلك (رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار)
- ٢٢٨ - وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ⦗٢٠٢⦘ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ
هذا أمر مِنَ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِلْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، بِأَنْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَيْ بِأَنْ تَمْكُثَ إِحْدَاهُنَّ بَعْدَ طَلَاقِ زَوْجِهَا لَهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ إِنَّ شَاءَتْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْأَمَةَ إِذَا طُلِّقَتْ فَإِنَّهَا تُعْتَدُّ عِنْدَهُمْ بقرأين لِأَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ، وَالْقُرْءُ لَا يتبعض فكمل لها قرآن لحديث: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابن عمر مرفوعًا والصحيح أنه موقوف من قول ابن عمر)
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَلْ عِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر. وروي عن أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةَ قَالَتْ: طُلِّقْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل حِينَ طلِّقت (أسماءُ) الْعِدَّةَ لِلطَّلَاقِ فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَتْ فِيهَا الْعِدَّةُ لِلطَّلَاقِ يَعْنِي: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ (قال ابن كثير: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَقْرَاءِ مَا هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ، (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا (الْأَطْهَارُ) وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ عروة عن عائشة أنها انْتَقَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثالثة، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَةُ، وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقْتُمْ وَتَدْرُونَ مَا الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ منها، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عَنْ أَحْمَدَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أَيْ فِي الْأَطْهَارِ، وَلَمَّا كَانَ الطُّهْرُ الَّذِي يُطَلَّقُ فِيهِ مُحْتَسَبًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَتَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا بالطعن في الحيضة الثالثة، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى:
مورثة مالًا وفي الأصل رِفْعَةٌ * لَمَّا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
يَمْدَحُ أَمِيرًا مِنْ أُمراء الْعَرَبِ آثَرَ الْغَزْوَ عَلَى الْمَقَامِ حَتَّى ضَاعَتْ أَيَّامَ الطُّهْرِ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يُوَاقِعْهُنَّ فِيهَا. (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ (الْحَيْضُ) فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تُطْهُرَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، زَادَ آخَرُونَ وَتَغْتَسِلَ منها، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عن الْأَثْرَمُ أَنَّهُ قَالَ: الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الّه ﷺ يَقُولُونَ الْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهَا: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»، فَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْحَيْضُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ الْقُرْءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْوَقْتُ لِمَجِيءِ الشَّيْءِ الْمُعْتَادِ مَجِيئُهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَلِإِدْبَارِ الشَّيْءِ ⦗٢٠٣⦘ الْمُعْتَادِ إِدْبَارُهُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأصوليين والله أَعْلَمُ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الْوَقْتُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَيْضَ قُرْءًا، وَتُسَمِّي الطُّهْرَ قُرْءًا وَتُسَمِّي الطهر والحيض جميعًا قرءًا وقال ابن عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلِسَانِ العرب والفقهاء أن القرء أَنَّ الْقُرْءَ يُرَادُ بِهِ الْحَيْضَ، وَيُرَادُ بِهِ الطُّهْرَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ ما هو على قولين.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ أَيْ مِنْ حَبَلٍ أَوْ حَيْضٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِن كُنَّ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ تهديد لهن على خِلَافِ الْحَقِّ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إِلَيْهِنَّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ إلا من جهتهن، ويتعذر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ غَالِبًا عَلَى ذَلِكَ فَرَدَّ الْأَمْرَ إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِمَّا اسْتِعْجَالًا مِنْهَا لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَوْ رَغْبَةً مِنْهَا فِي تَطْوِيلِهَا لِمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ، فَأُمِرَتْ أَنْ تُخْبِرَ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقصان.
وقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا﴾ أي زوجها الذي طلقها أحق بردها مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، إِذَا كَانَ مُرَادُهُ بردها الْإِصْلَاحَ وَالْخَيْرَ، وَهَذَا فِي الرَّجْعِيَّاتِ، فَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ الْبَوَائِنُ فَلَمْ يَكُنْ حَالَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثَّلَاثِ، فَأَمَّا حَالُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ أَحَقَّ بِرَجْعَةِ امْرَأَتِهِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا قُصِرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، صَارَ لِلنَّاسِ مُطَلَّقَةٌ بَائِنٌ وغير بائن.
وقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فَلْيُؤَدِّ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عليهن أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (رواه مسلم عن جابر مرفوعًا) وفي حديث عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي البيت». وقال ابن عباس: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِيَ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ) وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ في الخَلق والخُلق، وَالْمَنْزِلَةِ وَطَاعَةِ الْأَمْرِ، وَالْإِنْفَاقِ وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحٍ، وَالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ وشرعه وقدره.
- ٢٢٩ - الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
- ٢٣٠ - فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ رَافِعَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت فِي الْعِدَّةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ على الزوجات قصرهم الله إِلَى ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ، وَأَبَاحَ الرَّجْعَةَ فِي الْمَرَّةِ وَالثِّنْتَيْنِ، وَأَبَانَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ قَالَ أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾ الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَنُسِخَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ الآية.
وعن (هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا وَلَا آوِيكِ أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ له فأنزل الله عز وجل: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ﴾ (رواه النسائي).
وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا مَا لَمْ تَنْقُضِ الْعِدَّةُ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أهله بعض ما يكون بين الناس قال: "وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ فوقَّت الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره (رواه ابن مردويه والحاكم) وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ أَيْ إِذَا طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِيهَا مَا دَامَتِ عِدَّتُهَا بَاقِيَةً، بَيْنَ أَنْ تَرُدَّهَا إِلَيْكَ نَاوِيًا الْإِصْلَاحَ بِهَا وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ مِنْكَ، وَتُطْلِقَ سَرَاحَهَا مُحْسِنًا إِلَيْهَا لَا تَظْلِمُهَا من حقها شيئًا ولا تُضارَّ بها. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي فِي الثَّالِثَةِ فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ فَيَحْسُنُ صحابتها، أو يسرها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا، وعن أنَس ابن مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: ﴿إمساك ⦗٢٠٥⦘ بمعروف أو تسريح بإحسان﴾ (رواه ابن مردويه وأحمد وعبد بن حميد)
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتيتموهن شَيْئًا﴾ أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُضَاجِرُوهُنَّ وَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ، لِيَفْتَدِينَ مِنْكُمْ بِمَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مِنَ الْأَصْدِقَةِ أَوْ بِبَعْضِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبينة﴾ فَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْهُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا عَنْ طِيبِ نفسٍ منها فقد قال تعالى ﴿فإن طلبن لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مريئًا﴾ وَأَمَّا إِذَا تَشَاقَقَ الزَّوْجَانِ وَلَمْ تَقُمِ الْمَرْأَةُ بِحُقُوقِ الرَّجُلِ وَأَبْغَضَتْهُ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مُعَاشَرَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا وَلَا حرج عليه في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك مها، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتيتموهم شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فال جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ الْآيَةَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ وَسَأَلَتِ الِافْتِدَاءَ منه فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيما امرأة سالت زوجها طلاقها فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجنة» (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المختلعات هن المنافقات» (رواه الترمذي وقال: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) (حَدِيثٌ آخَرُ) وَقَالَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «المختلعات والمنتزعات هن المنافقات» وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَسْأَلُ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ فَتَجِدَ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لُيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ثُمَّ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشِّقَاقُ وَالنُّشُوزُ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ حِينَئِذٍ قَبُولُ الْفِدْيَةِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتيتموه شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾، قَالُوا: فَلَمْ يَشْرَعِ الْخُلْعَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابن عباس وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ مَضَارٌّ لَهَا وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الخلع في حال الشِّقَاقِ وَعِنْدَ الِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَهَذَا قول جميع أصحابه قاطبة، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ هذه الآية نزلت في شأن (ثابت بان قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) وَامْرَأَتِهِ (حَبِيبَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ).
قَالَ البخاري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أعيب عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أقبل الحديقة وطلقها تطليقة»، وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفى بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضًا. وفي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى (ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ) في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: «تردِّين عَلَيْهِ حديقته؟» قالت: نعم، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يأخذ ما ساق ولا يزداد. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ⦗٢٠٦⦘ فَنَشَزَتْ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: «يَا جَمِيلَةُ مَا كَرِهْتِ مِنْ ثابت؟» قالت: الله مَا كَرِهْتُ مِنْهُ دِينًا وَلَا خُلُقًا إِلَّا أني كرهت دمامته، فقال لها: «أتردين عليه الْحَدِيقَةَ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتِ الْحَدِيقَةَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
وأول خُلْعٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أُخْتِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ أبداُ، إني رفعت جانت الخباء فرأيته قد أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ فَإِذَا هُوَ أَشُدُّهُمْ سَوَادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاُ، فقال زوجها: يارسول اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهَا أَفْضَلَ مَالِي حَدِيقَةً لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال: «ماذا تَقُولِينَ؟» قَالَتْ: نَعَمْ وَإِنْ شَاءَ زِدْتُهُ، قَالَ: ففرق بينهما.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رحمهم الله فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ وعن كثير مولى ابن سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتٍ كَثِيرِ الزِّبْلِ، ثُمَّ دَعَا بِهَا فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ؟ فَقَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ التي كنت حَبَسْتَنِي، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا (رواه عبد الرزاق وابن جرير) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قَالَتْ: كَانَ لِي زَوْجٌ يُقلُّ عليَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَنِي، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ عَنِّي، قَالَتْ: فكانت مني زلة يومًا فقلت: أَخْتَلِعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ: نَعَمْ، قالت: ففعلت فَخَاصَمَ عَمِّي (مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ) إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَ الْخُلْعَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِي فَمَا دُونَهُ، أَوْ قَالَتْ: مَا دُونُ عِقَاصَ الرَّأْسِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا كُلَّ مَا بِيَدِهَا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلَا يَتْرُكُ لَهَا سِوَى عِقَاصَ شَعْرِهَا، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد وهذا مذهب مالك والشافعي وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ قِبَلِهَا جَازَ أَنْ يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِنِ ازْدَادَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يُجِزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا فَإِنْ أَخَذَ جَازَ في القضاء، وقال الإمام أحمد: لا يجوز أن يأخذ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المسيب وعطاء، وقال معمر: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ فوق ما أعطاها. (قُلْتُ): وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رواية ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ (ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ) فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْحَدِيقَةَ وَلَا يَزْدَادَ، وَبِمَا روي عن عطاء عن النَّبِيَّ ﷺ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا يَعْنِي الْمُخْتَلِعَةَ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ أَيْ مِنَ الَّذِي أعطاها لتقدم قوله: ﴿وَلاَ تأخذوا ممآ آتيتموهن شَيْئًا﴾ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
(فَصْلٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الخلع، فعن عِكْرِمَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بطلاق، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَهُ فَقَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ أَيَتَزَوَّجُهَا؟ ⦗٢٠٧⦘ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ الْخُلْعُ بِطَلَاقٍ، ذَكَرَ اللَّهُ الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا، وَالْخُلْعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْخُلْعُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تسريح بإحسان﴾، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْخُلْعِ إِنَّهُ (طَلَاقٌ بَائِنٌ) إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْثَرَ مِنْ ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عِنْدَهُمْ أنه متى نوى المخلع بِخُلْعِهِ تَطْلِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنَّ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْخُلْعِ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَيْسَ لِلْمُخَالِعِ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُخْتَلِعَةَ فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ العلماء، لأنه قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا. بِمَا بَذَلَتْ لَهُ مِنَ العطاء، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَهُوَ فُرْقَةٌ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عليها؟ وإن كان يسمى طَلَاقًا فَهُوَ أَمَلَكُ لَرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي العدة وبه يقول داود الظَّاهِرِيُّ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لِلْمُخْتَلِعِ أَنْ يتزوجها في العدة، وحكى ابن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَلْ لَهُ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا آخَرَ فِي الْعِدَّةِ؟ فِيهِ ثلاثة أقول للعلماء. (أحدها): لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وبانت منه، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل. (وَالثَّانِي): قَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَتْبَعَ الْخُلْعَ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَقَعَ، وَإِنْ سَكْتَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقَعْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه. (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بكل حال مادامت فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ والثوري والأوزاعي.
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أَيْ هَذِهِ الشَّرَائِعُ الَّتِي شَرَعَهَا لَكُمْ هِيَ حُدُودُهُ فَلَا تَتَجَاوَزُوهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَفَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ مَحَارِمَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عن أشياء رحمة لكم غير نسيان؟؟ فلا تسألو عَنْهَا»، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ حَرَامٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وإنما السنة عندهم أن يطلق وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾ الآية. أُخبر رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رسول الله ألا أقتله؟ (رواه النسائي، قال ابن كثير: وفيه انقطاع)
(يتبع ...)
(تابع ... ١): ٢٢٩ - الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أن ... ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ أَيْ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً ثَالِثَةً بَعْدَ مَا أَرْسَلَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، أَيْ حَتَّى يَطَأَهَا زَوْجٌ آخَرُ، فِي نِكَاحٍ
صحيح، فلو وطئها واطىء فِي غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَوْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ لم تحل للأول، لحديث ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الْبَتَّةَ، فَيَتَزَوَّجُهَا زَوْجٌ آخَرُ فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لَا حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عسيلتها» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا، حَتَّى يَكُونَ الْآخَرُ قَدْ ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته. قال مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُلُ فيطلقها فتتزوج رجلًا آخر فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الأول قال: «لا حتى يذوق عسيلتها». وعن عَائِشَةَ أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طلقها، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: «لَا، حَتَّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا عِنْدُهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا - وخالد ابن سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ - فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عما تجهر به بين يدي رسول بالله ﷺ؟ فَمَا زَادَ رَسُولُ الله ﷺ عن التبسم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَأَنَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».
(فَصْلٌ) وَالْمَقْصُودُ مِنَ الزَّوْجِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي الْمَرْأَةِ، قَاصِدًا لِدَوَامِ عَشَرَتِهَا كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ مِنَ التَّزْوِيجِ، وَاشْتَرَطَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مُبَاحًا، فَلَوْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُحْرمة أَوْ صَائِمَةٌ أَوْ مُعْتَكِفَةٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ، أَوْ الزوج صَائِمٌ أَوْ مُحْرِمٌ أَوْ مُعْتَكِفٌ، لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي ذِمِّيًّا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ بِنِكَاحِهِ، لَأَنَّ أنكحة الكفار باطلة عنده، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّانِي إِنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَهَذَا هُوَ (الْمُحَلِّلُ) الَّذِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَمِّهِ وَلَعْنِهِ، وَمَتَى صَرَّحَ بِمَقْصُودِهِ فِي الْعَقْدِ بِطَلَ النِّكَاحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ.
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ)
(الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ والمحلَّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله (تفرد به البخاري من هذا الوجه)
(الْحَدِيثُ الثَّانِي): عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ
وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ لِلْحُسْنِ وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له، وكان ينهى عن النوح (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة)
(الحديث الثالث) عن جابر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ والمحلل له» (رواه الترمذي)
(الحديث الرابع): عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» (تفرد به ابن ماجة).
(الحديث الخامس) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ قَالَ: «لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ الله، ثم يذوق عسيلتها» (رواه الجوزجاني السعدي)
(الحديث السادس): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المحلل والمحلل له (رواه أحمد)
(الحديث السابع): عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رجُل إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (رَوَاهُ الحاكم في المستدرك).
وقوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ أَيِ الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ﴾ أَيِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ ﴿إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ أي يتعاشرا بالمعروف، قال مُجَاهِدٌ: إِنَّ ظَنًّا أَنَّ نِكَاحَهُمَا عَلَى غَيْرِ دُلْسَةٍ ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أَيْ شَرَائِعُهُ وَأَحْكَامُهُ ﴿يُبَيِّنُهَا﴾ أَيْ يُوَضِّحُهَا ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رحمهم الله فِيمَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ هَلْ تَعُودُ إِلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، أَوْ يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي قَدْ هَدَمَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الطَّلَاقِ فَإِذَا عَادَتْ إِلَى الْأَوَّلِ تَعُودُ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، حجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلا يَهْدِمَ مَا دُونَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَاللَّهُ أعلم
- ٢٣١ - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ ⦗٢١٠⦘ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل لِلرِّجَالِ: إِذَا طَلَّقَ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ طَلَاقًا لَهُ عَلَيْهَا فِيهِ رَجْعَةٌ، أَنْ يُحْسِنَ فِي أَمْرِهَا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ فِيهِ رَجْعَتُهَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا أَيْ يَرْتَجِعَهَا إِلَى عِصْمَةِ نِكَاحِهِ بِمَعْرُوفٍ وَهُوَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا وَيَنْوِيَ عِشْرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُسَرِّحَهَا أَيْ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِ شِقَاقٍ وَلَا مُخَاصَمَةٍ وَلَا تَقَابُحٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ﴾ قال ابن عباس ومجاهد: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ الْمَرْأَةَ فَإِذَا قَارَبَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ضِرَارًا لِئَلَّا تَذْهَبَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَعْتَدُّ فَإِذَا شَارَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلَّقَ لِتَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أَيْ بِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ الله تعالى.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ قَالَ مَسْرُوقٌ: هُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ وَيُضَارُّ امْرَأَتَهُ بِطَلَاقِهَا وَارْتِجَاعِهَا لِتَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وقال الحسن وقتادة: هُوَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، أَوْ يُعْتِقُ أَوْ يَنْكِحُ وَيَقُولُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَأَنْزَلَ الله: ﴿وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُوًا﴾، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهُوَ يلعب ولا يُرِيدُ الطَّلَاقَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ فَأَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الطلاق. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ جدهنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، والرجعة» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ الترمذي: حسن غريب)
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ فِي إِرْسَالِهِ الرَّسُولَ بِالْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ إِلَيْكُمْ ﴿وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾ أَيِ السُّنَّةُ ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أَيْ يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ وَيَتَوَعَّدُكُمْ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ فِيمَا تَأْتُونَ وَفِيمَا تَذَرُونَ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمْ﴾ أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمُ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ وَسَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ.
- ٢٣٢ - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا ثم يبدوا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَأَنْ يُرَاجِعَهَا وَتُرِيدَ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهَا أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَنَهَى اللَّهُ أن يمنعوها، والذي قاله ظَاهِرٌ مِنَ الْآيَةِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا، وَأَنَّهُ لا بد في النكاح من ولي، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مُحَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
⦗٢١١⦘ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي (معقل بن يسار المزني﴾ وأُخته. روى الترمذي عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ مَا كَانَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انقضت عدتها، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقَالَ له: يا لكع ابن لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا، وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا آخِرُ مَا عَلَيْكَ، قَالَ فَعَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعٌ لِرَبِّي وَطَاعَةٌ ثُمَّ دَعَاهُ فقال: أزوجك وأكرمك (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي نَهَيْنَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَنْعِ الْوَلَايَا أَنْ يَتَزَوَّجْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، يَأْتَمِرُ بِهِ وَيَتَّعِظُ بِهِ وَيَنْفَعِلُ لَهُ ﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ أَيُّهَا النَّاسُ ﴿يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ يُؤْمِنُ بِشَرْعِ اللَّهِ وَيَخَافُ وَعِيدَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجَزَاءِ ﴿ذَلِكُمْ أزكى لَكُمْ وأطهر﴾ أي اتبعاكم شَرْعَ اللَّهِ فِي رَدِّ الْمُولِيَاتِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَتَرْكِ الحَمِيَّة فِي ذَلِكَ ﴿أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ لِقُلُوبِكُمْ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أَيْ مِنَ الْمَصَالِحِ فِيمَا يأمر به وينهى عنه ﴿وأنت لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيِ الْخَيْرَةُ فِيمَا تَأْتُونَ وَلَا فيما تذرون.
- ٢٣٣ - وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
هذا إرشاد من الله تعالى للوادات أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ (سَنَتَانِ) فَلَا اعْتِبَارَ بِالرَّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا كَانَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَوِ ارْتَضَعَ المولود وعمره فوقهما لم يحرم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» (رواه الترمذي عن أم سلمة وقال: حديث حسن صحيح) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «إِلاَّ مَا كَانَ فِي الثَّدْيِ» أي في محالّ الرضاعة قبل الحولين لحديث: «إن ابني مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة» (رواه أحمد عن البراء بن عازب وقد قاله عليه السلام عند موت ولده إبراهيم) وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام ذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مَاتَ وَلَهُ سَنَةٌ وَعَشَرَةُ أشهر، فقال: إن له مرضعًا يعني تكمل رضاعته ويؤيده ما رواه الدارقطني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرضاع إلا ما كان في الحولين» (رواه مالك في الموطأ أخرجه الدارقطني واللفظ له) ⦗٢١٢⦘
وقال الطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، وَلَا يُتْمَ (١) بَعْدَ احْتِلَامٍ»، وَتَمَامُ الدَّلَالَةِ من هذا الحديث في قوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي﴾، وقال: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شهرا﴾ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تُحَرِّمُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر. وقد روى عن عمر وعلي أنهما قال: لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا أَرَادَا الْحَوْلَيْنِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُمَا أَرَادَا الْفِعْلَ كَقَوْلِ مَالِكٍ، والله أعلم.
وقد روي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى رِضَاعَ الْكَبِيرِ يُؤَثِّرُ فِي التحريم، وهو قول عطاء وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بِمَنْ تَخْتَارُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ لِبَعْضِ نِسَائِهَا فَتُرْضِعُهُ، وَتَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ (سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ) حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ وَكَانَ كَبِيرًا، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ وَرَأَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «انْظُرْنَ مِنْ إخوانُكنَّ! فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ».
وقوله تعالى: ﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَيْ وَعَلَى وَالِدِ الطِّفْلِ، نَفَقَةُ الْوَالِدَاتِ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِنَّ فِي بَلَدِهِنَّ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا إِقْتَارٍ، بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فِي يَسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ وَإِقْتَارِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عسر يسرا﴾، قال الضحّاك: إذا طلق زَوَّجْتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَأَرْضَعَتْ لَهُ وَلَدَهُ وَجَبَ عَلَى الْوَالِدِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ أي بأن تَدْفَعُهُ عَنْهَا لِتَضُرَّ أَبَاهُ بِتَرْبِيَتِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الَّذِي لَا يَعِيشُ بِدُونِ تَنَاوُلِهِ غَالِبًا، ثُمَّ بعد هذا لها دفعه عَنْهَا إِذَا شَاءَتْ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَتْ مُضَارَّةً لِأَبِيهِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا لِمُجَرَّدِ الضِّرَارِ لَهَا وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أَيْ بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَنْتَزِعَ الْوَلَدَ مِنْهَا إِضْرَارًا بها قاله مجاهد وقتادة.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ قِيلَ: فِي عَدَمِ الضرار لقريبه، قاله مجاهد وَالضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَى وَالِدِ الطِّفْلِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَالِدَةِ الطِّفْلِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدِ اسْتَقْصَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وجمهور السلف، ويُرجَّح ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ» وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ رُبَّمَا ضَرَّتِ الولد إما في بدنه أو في عقله.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي فإن اتفق والد الطِّفْلِ عَلَى فِطَامِهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَرَأَيَا فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُ، وَتَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ وَأَجْمَعَا عَلَيْهِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ لَا يَكْفِي، وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، ⦗٢١٣⦘ وَهَذَا فِيهِ احْتِيَاطٌ لِلطِّفْلِ، وَإِلْزَامٌ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِ، وَهُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ حَجَرَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ فِي تَرْبِيَةِ طِفْلِهِمَا، وَأَرْشَدَهُمَا إلى ما يصلحهما ويصلحه كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَإِن أرادتم أن تسترضعوا أولدادكم فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف﴾ أي إذا أنفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد، إما لعذر منها أو لعذر منه، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي بَذْلِهِ وَلَا عَلَيْهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهَا إِذَا سَلَّمَهَا أُجْرَتَهَا الْمَاضِيَةَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَاسْتَرْضَعَ لِوَلَدِهِ غَيْرَهَا بِالْأُجْرَةِ بالمعروف، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ ﴿واعلموا أَنَّ الله بما تعملون بصر﴾ أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِكُمْ وأقوالكم.
(١) لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام
- ٢٣٤ - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ أَنْ يَعْتَدِدْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الزَّوْجَاتِ الْمَدْخُولَ بِهِنَّ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا عُمُومُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امرأة فمات عنها وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، فَتَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ منه: لَهَا الصَّدَاقَ كَامِلًا - وَفِي لَفْظٍ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ - وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، ولها الميراث، فقام (معقل بن يسار الْأَشْجَعِيُّ) فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِهِ فِي (بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ) فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا (أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي).
وَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَوْ لَمْ تَمْكُثْ بَعْدَهُ سِوَى لَحْظَةٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿وَأُوْلاَتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنْ عَلَيْهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ: مِنَ الْوَضْعِ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا مَأْخَذٌ جَيِّدٌ وَمَسْلَكٌ قَوِيٌّ، لَوْلَا مَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ (سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ) الْمُخَرَّجِ فِي الصحيحين من غير وجه، أنها تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا (سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا (أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ) فَقَالَ لَهَا: مَالِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عليَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ سُبَيْعَةَ، يَعْنِي لَمَّا احْتُجَّ عَلَيْهِ بِهِ، قَالَ: وَيُصَحِّحُ ذَلِكَ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَهُ أَفْتَوْا بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَاطِبَةً، وَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا كَانَتْ أَمَةً، فَإِنَّ عدتها على النصف من عدة الحرة عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَلَى النصف من الحرة فكذلك في العدة، ومن ⦗٢١٤⦘ العلماء مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيه الخليقة. وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشرا، احتمال اشْتِمَالِ الرَّحِمِ عَلَى حَمْلٍ، فَإِذَا انْتَظَرَ بِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ظَهَرَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الصحيحين: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» فَهَذِهِ ثَلَاثُ أَرْبَعِينَاتٍ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالِاحْتِيَاطُ بِعَشْرٍ بَعْدَهَا لِمَا قَدْ يَنْقُصُ بَعْضُ الشُّهُورِ، ثُمَّ لِظُهُورِ الْحَرَكَةِ بَعْدَ نَفْخِ الرَّوْحِ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف﴾ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا وُجُوبُ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عنها مدة عدتها، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى ميت فوق ثلاث إلى عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوَفِّي عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: «لَا» كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ - لَا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَمْكُثُ سَنَةً» قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تفتض بشي إلا مات (أي من نتنها والإفتضاض مسح الفرج به) ومن ههنا ذهب كثيرون مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعًا إِلَى الحول غير إخراج﴾ الآية كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَفِي هَذَا نظر كما سيأتي تقريره، والغرض من الْإِحْدَادَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الزِّينَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَلُبْسِ مَا يَدْعُوهَا إِلَى الْأَزْوَاجِ مِنْ ثِيَابٍ وَحُلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجِبُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَجِبُ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ فِيهِ قَوْلَانِ: وَيَجِبُ الْإِحْدَادُ عَلَى جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ، وَالْآيِسَةُ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَالْمُسَلَمَةَ، وَالْكَافِرَةُ لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا حداد عَلَى الْكَافِرَةِ، وَبِهِ يَقُولُ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَحَجَّةُ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَوْلُهُ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث إلى عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»، قَالُوا: فَجَعَلَهُ تعبدًا، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصَّغِيرَةَ بِهَا لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَأَلْحَقَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَمَةَ الْمُسَلَمَةَ لِنَقْصِهَا، وَمَحَلُّ تَقْرِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي انقضت عدتهن ﴿فال جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَيْ عَلَى أَوْلِيَائِهَا ﴿فِيمَا فَعَلْنَ﴾ يَعْنِي النِّسَاءُ اللَّاتِي انْقَضَّتْ عِدَّتُهُنَّ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا طُلقت الْمَرْأَةُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِذَا انْقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَصَنَّعَ وَتَتَعَرَّضَ لِلتَّزْوِيجِ فَذَلِكَ المعروف. وقد روى عن مقاتل، وقال مجاهد: ﴿بالمعروف﴾ النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، والله أعلم.
- ٢٣٥ - وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أَنْ تُعَرِّضُوا بِخِطْبَةِ النِّسَاءِ فِي عِدَّتِهِنَّ، مِنْ وَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ غَيْرِ تصريح، قال ابن عباس: التعريض أن يقول إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنِّي أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا وَمِنْ أَمْرِهَا - يُعرِّض لَهَا بِالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ - وفي رواية وودت أن الله رزقني امرأة. وعن مجاهد عن ابن عباس هُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ وَإِنَّ النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة (رواه البخاري تعليقًا) مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لَهَا بِالْخِطْبَةِ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُطْلِقَةِ الْمَبْتُوتَةِ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لَهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قيس، حين طلقها زوجها أو عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ، آخَرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ (ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَقَالَ لَهَا: فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا حَلَّتْ خَطَبَ عَلَيْهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ فَزَوَّجَهَا إياه، فأما المطلقة فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا وَلَا التَّعْرِيضُ لَهَا، وَاللَّهُ أعلم.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ أَضْمَرْتُمْ فِي أنفسكم من خِطْبَتَهُنَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ أَيْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْكُمْ فِي ذَلِكَ، ثم قال: ﴿ولكن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ واختاره ابن جرير، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ لَا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تَتَزَوَّجِي غَيْرِي، وَنَحْوَ هَذَا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سعيد بن جبير والضحاك، وَعَنْ مُجَاهِدٍ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ: لَا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، فنهى الله عن ذلك وشدَّد فِيهِ وَأَحَلَّ الْخِطْبَةَ وَالْقَوْلَ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ سِرًّا فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلَّا أَن تَقُولُواْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ قال ابن عباس: يَعْنِي بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَةِ التَّعْرِيضِ كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أجله﴾ يعني ولا تعقدوا العقدة بِالنِّكَاحِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ يَعْنِي وَلَا تَعْقِدُوا العقد بالنكاح حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا فَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَبَدًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا تحرم عليه على التأبيد، وَمَأْخَذُ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا اسْتَعْجَلَ مَا أحل اللَّهُ، عُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَحَرُمَتْ عَلَيْهِ عَلَى التأبيد كالقاتل يحرم الميراث. ⦗٢١٦⦘
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى مَا يَقَعُ فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِضْمَارِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهم مَنْ رَحِمَتْهُ وَلَمْ يُقْنِطْهُمْ مِنْ عَائِدَتِهِ فَقَالَ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
- ٢٣٦ - لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
أَبَاحَ تبارك وتعالى طَلَاقَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَقَبْلَ الدُّخُولِ بها، قال ابن عباس: المس النكاح، وَيَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالْفَرْضِ لَهَا إِنْ كَانَتْ مُفَوَّضَةً، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا انْكِسَارٌ لِقَلْبِهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى بِإِمْتَاعِهَا وَهُوَ تَعْوِيضُهَا عَمَّا فَاتَهَا بِشَيْءٍ تُعْطَاهُ مِنْ زَوْجِهَا، بِحَسْبَ حَالِهِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ، وقال ابن عباس: مُتْعَةُ الطَّلَاقِ أَعْلَاهُ الْخَادِمُ، وَدُونَ ذَلِكَ الْوَرِقُ، ودون ذلك الكسوة، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَوْسَطُ ذَلِكَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وجلباب، ومتَّع الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَيُرْوَى أَنَّ الْمَرْأَةَ قَالَتْ: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مفارق) (سبب فراقه لها أنه لما أصيب عليُّ وبويع الحسن بالخلافة قالت له زوجته: لتَهْنَك الخلافة، فقال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنتِ طالق ثلاثًا، ثم بعث إليها بالمتعة عشرة آلاف درهم فقالت ذلك. وانظر الجزء الأول من كتابنا (تفسير آيات الأحكام) ص ٣٧٦)، وذهب أبو حنيفة إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي مِقْدَارِ الْمُتْعَةِ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وقال الشافعي: لَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ إِلَّا عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتْعَةِ، وَأَحَبُّ ذَلِكَ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ مَا تجزىء فِيهِ الصَّلَاةُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا أَعْرِفُ فِي الْمُتْعَةِ قَدْرًا إِلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ ثَلَاثِينَ درهمًا كما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا: هَلْ تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، أَوْ إِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا عَلَى أقوال:
(أحدها): أنها تَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين﴾ ولقوله تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ وَقَدْ كُنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ وَمَدْخُولًا بِهِنَّ، وَهَذَا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي.
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِنْ كَانَتْ مَفْرُوضًا لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جميلا﴾ قال سعيد بن المسيب: نسخت الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَحْزَابِ، الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (أُميمة بنت شرحبيل)، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا ويكسوها ثوبين أزرقين
(القول الثَّالِثُ): أَنَّ الْمُتْعَةَ إِنَّمَا تَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا كَانَتْ مُفَوَّضَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَضَ لَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ شَطْرُهُ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا اسْتَقَرَّ الْجَمِيعُ وَكَانَ ذَلِكَ عِوَضًا لَهَا عَنِ الْمُتْعَةِ، وَإِنَّمَا الْمُصَابَةُ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَهَذِهِ الَّتِي ⦗٢١٧⦘ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى وُجُوبِ مُتْعَتِهَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنِ اسْتَحَبَّهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، مِمَّنْ عَدَا الْمُفَوَّضَةَ الْمُفَارِقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهَذَا لَيْسَ بِمَنْكُورٍ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ آيَةُ التَّخْيِيرِ فِي الأحزاب، ولهذا قال تعالى: ﴿عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بالمعروف حَقًّا عَلَى المحسنين﴾. وقال تَعَالَى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا.
- ٢٣٧ - وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
هذه الآية الكريمة تدل عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُتْعَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الأولى، حيث أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ إذا طَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ وَاجِبٌ آخَرُ مِنْ مُتْعَةٍ لَبَيَّنَهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَهَا بِمَا قَبْلَهَا مِنَ اخْتِصَاصِ المتعة بتلك الآية، وَتَشْطِيرُ الصَّدَاقِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهَا نِصْفُ مَا سَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَجِبُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إِذَا خَلَا بِهَا الزَّوْجُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال ابن عباس: فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَخْلُو بِهَا وَلَا يَمَسُّهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، لَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ قال الشافعي: بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ﴾ أَيِ النِّسَاءُ عَمَّا وَجَبَ لها على زوجها فلا يجب لها عليه شَيْءٍ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿إِلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يعفو الذي بيده عقدة النكاح﴾ المراد به (الزوج) عن عيسى بن عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ شُرَيْحًا يَقُولُ: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ فَقُلْتُ لَهُ: هُوَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ علي: لا، بل هو الزوج، وهذا هو الجديد من قول الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ حَقِيقَةً الزوجُ فَإِنَّ بِيَدِهِ عَقْدَهَا وَإِبْرَامَهَا وَنَقْضَهَا وَانْهِدَامَهَا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مال المولية للغير، فكذلك في الصداق. الوجه الثاني أنه أَبُوهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ مَنْ لَا تُنْكَحُ إلا بإذنه وروى عن الحسن وعطاء وطاووس: أَنَّهُ (الْوَلِيُّ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَمَأْخَذُهُ أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَهَا إِيَّاهُ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ مالها، وقال عكرمة: أَذِنَ اللَّهُ فِي الْعَفْوِ وَأَمَرَ بِهِ، فَأَيُّ امرأة عفت جاز عفوها.
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تعفو أَقْرَبُ للتقوى﴾ خوطب به الرجال والنساء، قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو، ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ﴾ الْمَعْرُوفُ يَعْنِي لَا تُهْمِلُوهُ بَلِ اسْتَعْمَلُوهُ بَيْنَكُمْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُؤْمِنُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَيَنْسَى الْفَضْلَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ⦗٢١٨⦘ ﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ «شِرَارٌ يبايعون كل مضطر» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وقد نهى رسول بالله ﷺ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يحزنه ولا يحرمه، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
- ٢٣٨ - حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ
- ٢٣٩ - فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تعلمون
يأمر تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَحِفْظِ حُدُودِهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أفضل؟ قال: «الصلاة في وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الوالدين:»وفي الحديث: «إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لأول وقتها» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وَخَصَّ تَعَالَى مِنْ بَيْنِهَا بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ (الصَّلَاةَ الْوُسْطَى) وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِيهَا أَيُّ صلاة هي؟ فقيل: (الصبح) حكاه مالك لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ فَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله محتجًا بقوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ وَالْقُنُوتُ عِنْدَهُ فِي صَلَاةِ الصبح، ومنهم من قال: هي وسطى بِاعْتِبَارٍ أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ وَهِيَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ رباعيتين مقصورتين وقيل: إنها (صلاة الظهر) روي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشُدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا فَنَزَلَتْ: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ وقيل: إنها (صلاة العصر) وهو قول أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين.
قال الإمام أحمد بسنده عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصلاة الوسطة صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهام نَارًا» ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (رواه أحمد وأخرجه الشيخان وأبو داود اوالترمذي) ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قَوْلِهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «من فاتته صلاة العصر فكأنهما وُتِرَ أهله وماله»، وفي الصحيح أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ». وعن أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا قَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ فَآذِنِّي، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ عليَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَتْ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (رواه أحمد واللفظ له وأخرجه مسلم في صحيحه) وَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
وَقِيلَ: بَلِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى مَجْمُوعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا ضَعْفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التي قبلها وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا الْعَصْرُ فتعيَّن الْمَصِيرُ إليها.
⦗٢١٩⦘ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ أَيْ خَاشِعِينَ ذَلِيلِينَ مُسْتَكِينِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُسْتَلْزِمٌ تَرْكَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ لِمُنَافَاتِهِ إِيَّاهَا، وَلِهَذَا لَمَّا امْتَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الرَّدِّ عَلَى (ابْنِ مَسْعُودٍ) حِينَ سَلَّمَ عليه وهو في الصلاة قال: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وذكر الله» وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَاجَةِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ فَأُمِرْنَا بالسكوت (رواه الجماعة سوى ابن ماجة).
وقوله تعالى: ﴿فَإِن خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهَا، وَشَدَّدَ الْأَمْرَ بِتَأْكِيدِهَا ذَكَرَ الحال الذي يَشْتَغِلُ الشَّخْصُ فِيهَا عَنْ أَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَهِيَ حَالُ الْقِتَالِ وَالْتِحَامِ الْحَرْبِ فَقَالَ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ أَيْ فصلُّوا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ رِجَالًا أَوْ رُكْبَانَا يَعْنِي مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، كَمَا قَالَ مالك عن ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانَا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا مِنْ رُخَصِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لِعِبَادِهِ ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُصَلِّي الرَّاكِبُ عَلَى دَابَّتِهِ وَالرَّاجِلُ عَلَى رِجْلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تُفْعَلُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ رَكْعَةً وَاحِدَةً إِذَا تَلَاحَمَ الْجَيْشَانِ، وَعَلَى ذلك ينزل الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ ﷺ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: (بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ) وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلُّوا إِيمَاءً كل امرىء لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبر ويؤخرونها حتى يأمنوا، وقال أنَس ابن مَالِكٍ: حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ (حِصْنِ تُسْتَرُ) عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا، قَالَ أنَس: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وما فيها. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ في سورة النساء. والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ أَيْ أَقِيمُوا صَلَاتَكُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَأَتِمُّوا رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَقِيَامَهَا وَقُعُودَهَا وَخُشُوعَهَا وَهُجُودَهَا ﴿كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ مِثْلَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَهَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَابِلُوهُ بِالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابًا موقوتا﴾ وَسَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصِفَاتِهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ الآية إن شاء الله تعالى.
- ٢٤٠ - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- ٢٤١ - وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
- ٢٤٢ - كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾ قَدْ نَسَخَتْهَا الآية الأُخرى فلم نكتبها أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَا أغيِّر شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ، وَمَعْنَى هَذَا الْإِشْكَالِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِعُثْمَانَ إِذَا كَانَ حُكْمُهَا قَدْ نُسِخَ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِبْقَاءِ رَسْمِهَا مَعَ زَوَالِ حُكْمِهَا، وَبَقَاءِ رَسْمِهَا بَعْدَ الَّتِي نَسَخَتْهَا يُوهِمُ بَقَاءَ حُكْمِهَا؟ فَأَجَابَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ وَأَنَا وَجَدْتُهَا مُثَبَّتَةً فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ فَهَذِهِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَقَالَ: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ، فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم﴾، فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
وقال عطاء، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ﴾، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا، ثُمَّ أَسْنَدَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ مَا تقدم عنه بهذا الْقَوْلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ سَنَةً كَمَا زَعَمَهُ الْجُمْهُورُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ وَعَشْرٍ وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْوَصَاةِ بِالزَّوْجَاتِ أَنْ يُمكَنَّ مِنَ السُّكْنَى فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ حَوْلًا كَامِلًا إِنِ اخْتَرْنَ ذلك ولهذا قال تعالى: ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ﴾ أَيْ يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِهِنَّ وَصِيَّةً كقوله: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ الآية. ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فَأَمَّا إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ بِالْأَرْبَعَةِ أشهر وَالْعَشْرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَاخْتَرْنَ الْخُرُوجَ وَالِانْتِقَالَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُنَّ لَا يُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾، وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ اتِّجَاهٌ وَفِي اللَّفْظِ مُسَاعَدَةٌ لَهُ وَقَدِ اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية،، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ إِنْ أَرَادُوا مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ فمسلَّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وَعَشْرٍ لَا تَجِبُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَهَذَا مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي موطئه أَنَّ (الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ) ⦗٢٢١⦘ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعبْدٍ لَهُ أَبَقوا حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقُدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إن أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيْتُ لَهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ (عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) أَرْسَلَ إليَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح).
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، لما نزل قوله تعالى: ﴿مَتَاعًا بالمعروف حَقًّا على المحسنين﴾ قَالَ رَجُلٌ: إِنْ شِئْتُ أَحْسَنْتُ فَفَعَلْتُ وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مفوضة أو مفروضًا لها، أو مطلقة قَبْلَ الْمَسِيسِ، أَوْ مَدْخُولًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ عن الشافعي رحمه الله، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهَا مُطْلَقًا يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بالمعروف حَقًّا عَلَى المحسنين﴾.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أَيْ فِي إِحْلَالِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَفُرُوضِهِ وَحُدُودِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، بيَّنه وَوَضَّحَهُ وفسَّره، وَلَمْ يَتْرُكْهُ مُجْمَلًا فِي وَقْتِ احْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ تَفْهَمُونَ وَتَتَدَبَّرُونَ.
- ٢٤٣ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
- ٢٤٤ - وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ٢٤٥ - مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَنْهُ كَانُوا ثمانية آلاف، وقال وهب بن منبه: كانوا بضعة وثلاثين ألفًا، قال ابن عباس: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ، قَالُوا: نَأْتِي أَرْضًا لَيْسَ بِهَا مَوْتٌ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: ﴿مُوتُوا﴾ فَمَاتُوا، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ يُحْيِيَهُمْ فَأَحْيَاهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ الْآيَةَ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا أَهْلَ بَلْدَةٍ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَوْخَمُوا أَرْضَهُمْ، وَأَصَابَهُمْ بِهَا وَبَاءٌ شديد فخرجوا فرارًا من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح فملأوا مَا بَيْنَ عُدْوَتَيْهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَلَكَيْنِ أَحَدَهُمَا ⦗٢٢٢⦘ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَالْآخَرَ مِنْ أَعْلَاهُ، فَصَاحَا بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ مَوْتَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَحِيزُوا إِلَى حَظَائِرَ وَبُنِي عليهم جدران، وَفَنُوا وَتَمَزَّقُوا وَتَفَرَّقُوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ دَهْرٍ مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ (حزقيل) فسأله اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَاجْتَمَعَ عِظَامُ كُلِّ جَسَدٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَعَصَبًا وَجِلْدًا، فَكَانَ ذَلِكَ وَهُوَ يشاهد، ثُمَّ أَمَرَهُ فَنَادَى: أَيَّتُهَا الْأَرْوَاحُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعَ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْجَسَدِ الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ، فَقَامُوا أَحْيَاءً يَنْظُرُونَ، قَدْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ رَقْدَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: سبحانك لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَكَانَ فِي إِحْيَائِهِمْ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أَيْ فِيمَا يُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّامِغَةِ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أَيْ لَا يَقُومُونَ بِشُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَأَنَّهُ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ، فإن هؤلاء خرجوا فرارًا مِنَ الْوَبَاءِ طَلَبًا لِطُولِ الْحَيَاةِ، فَعُومِلُوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ وَجَاءَهُمُ الْمَوْتُ سَرِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي كما أن الحذرلا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، كَذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ الْجِهَادِ وتجنبه لا يقرب أجلًا ولا يبعده، بَلِ الْأَجَلُ الْمَحْتُومُ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ مُقَدَّرٌ مُقَنَّنٌ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ كَمَا قال تعالى: ﴿قل فادرؤا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، وروينا عن أمير الجيوش وسيف الله المسلول على أعدائه خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ: (لَقَدْ شَهِدْتُ كَذَا وَكَذَا مَوْقِفًا وَمَا مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِي إِلَّا وَفِيهِ رَمْيَةٌ أَوْ طَعْنَةٌ أَوْ ضَرْبَةٌ وَهَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كما يموت البعير فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ) يَعْنِي أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ لِكَوْنِهِ مَا مَاتَ قَتِيلًا فِي الْحَرْبِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَلَّمُ أَنْ يَمُوتَ عَلَى فِرَاشِهِ.
وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ يَحُثُّ تَعَالَى عِبَادَهُ على الإنفاق في سبيل الله، وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَفِي حَدِيثِ النُّزُولِ أَنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ ولا ظلوم»، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رسول الله وإن الله عز وجل لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ» قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ ربي عز وجل حَائِطِي - قَالَ: وَحَائِطٌ لَهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا - قَالَ: فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَنَادَاهَا: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، قَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عز وجل (رواه ابن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ) وَقَوْلُهُ: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ هُوَ النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ وَقَوْلُهُ: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ كما قال تَعَالَى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ الآية، وسيأتي الكلام عليها. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ⦗٢٢٣⦘ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» فَنَزَلَتْ: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، قَالَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي»، فنزلت: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (رواه ابن أبي حاتم عن نافع عن ابن عمر) فَالْكَثِيرُ مِنَ اللَّهِ لَا يُحْصَى، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ أَيْ أَنْفِقُوا وَلَا تُبَالُوا فَاللَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فِي الرِّزْقِ وَيُوَسِّعُهُ عَلَى آخَرِينَ، لَهُ الحكمة والبالغة فِي ذَلِكَ ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
- ٢٤٦ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين
قال وهب بن منبه وغيره: كان بنوا إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام عَلَى طَرِيقِ الاستقامة مدة من الزَّمَانِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا الْأَحْدَاثَ وَعَبَدَ بَعْضُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَلَمْ يَزَلْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى مَنْهَجِ التَّوْرَاةِ إِلَى أَنْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَأَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُقَاتِلُهُمْ إِلَّا غَلَبُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ وَالتَّابُوتُ الَّذِي كَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا لِخَلَفِهِمْ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ عليه الصلاة والسلام، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ تَمَادِيهِمْ عَلَى الضَّلَالِ حَتَّى اسْتَلَبَهُ مِنْهُمْ بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ، وَأَخَذَ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ يبق من يحفظها فيهم إلى الْقَلِيلُ، وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ أَسْبَاطِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ سِبْطِ (لَاوِي) الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا امْرَأَةٌ حَامِلٌ مِنْ بَعْلِهَا، وَقَدْ قُتِلَ فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ وَاحْتَفَظُوا بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُهَا غُلَامًا يَكُونُ نَبِيًّا لَهُمْ، وَلَمْ تزل المرأة تدعوا اللَّهَ عز وجل أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا فَسَمِعَ اللَّهُ لَهَا وَوَهَبَهَا غُلَامًا فَسَمَّتْهُ (شَمْوِيلَ) أَيْ سمع الله دعائي ومنهم من يقول (شمعون) (روي عن قتادة أن النَّبِيُّ هُوَ (يُوشَعُ بْنُ نُونَ) قَالَ ابْنُ كثير: هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، وكان ذلك في زمن (داود) عليه السلام، وقد كان بين (داود) و(موسى) ما يزيد على ألف سنة، وروي عن السدي أنه (شمويل)، وقال مجاهد: هو (شمعون) والله أعلم.) وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فَشَبَّ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَنَشَأَ فِيهِمْ وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، فَلَمَّا بَلَغَ سِنَّ الْأَنْبِيَاءِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ أَعْدَاءَهُمْ، وَكَانَ الْمُلْكُ أَيْضًا قَدْ بَادَ فِيهِمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن أَقَامَ اللَّهُ لَكُمْ ملكًا ألا تقاتلوا وتفوا بِمَا الْتَزَمْتُمْ مِنَ الْقِتَالِ مَعَهُ؟ ﴿قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾ أَيْ وَقَدْ أُخِذِتْ مِنَّا الْبِلَادُ وَسُبِيَتِ الْأَوْلَادُ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ أَيْ مَا وَفَوْا بِمَا وَعَدُوا بَلْ نَكَلَ عَنِ الْجِهَادِ أَكْثَرُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِمْ.
- ٢٤٧ - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
أَيْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا مِنْهُمْ فَعَيَّنَ لَهُمْ (طَالُوتَ) وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَجْنَادِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بيت الملك فيهم لأن الملك كَانَ فِي سِبْطِ (يَهُوذَا) وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ ذَلِكَ السِّبْطِ فَلِهَذَا قَالُوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾؟ أَيْ كَيْفَ يَكُونُ مَلِكًا عَلَيْنَا ﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال﴾ أي هُوَ مَعَ هَذَا فَقِيرٌ لَا مَالَ لَهُ يَقُومُ بِالْمُلْكِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ سَقَّاءً، وَقِيلَ: دَبَّاغًا وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَتَعَنُّتٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ، ثُمَّ قَدْ أَجَابَهُمُ النَّبِيُّ قَائِلًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ أَيِ اخْتَارَهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ، يَقُولُ: لَسْتُ أَنَا الَّذِي عَيَّنْتُهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي بَلِ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِ لَمَّا طَلَبْتُمْ مِنِّي ذَلِكَ ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ أَيْ وَهُوَ مَعَ هَذَا أَعْلَمُ مِنْكُمْ وَأَنْبَلُ وَأَشْكَلُ مِنْكُمْ، وَأَشَدُّ قُوَّةً وَصَبْرًا فِي الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةً بِهَا، أي أتم علمًا وقامة منكم، ومن ههنا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ ذَا عِلْمٍ وَشَكْلٍ حَسَنٍ وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ فِي بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ﴾ أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي مَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يسأل عما فعل وَهُمْ يُسْأَلُونَ، لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ هُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ.
- ٢٤٨ - وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ مؤمنين
يقول لهم نبيهم: إِنَّ عَلَّامَةَ بَرَكَةِ مُلْكِ طَالُوتَ عَلَيْكُمْ أَنْ يرد الله عليكم التابوت الذي أُخِذَ مِنْكُمْ ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، قِيلَ: معناه فيه وقار وجلالة، وقال الربيع: رحمة، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ قال: ما تعرفون مِنْ آيَاتِ الله فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري.
وقوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هرون﴾، عن ابن عباس قَالَ: عَصَاهُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ والسدي، وَقَالَ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ: عَصَا مُوسَى وَعَصَا هَارُونَ وَثِيَابُ مُوسَى وَثِيَابُ هَارُونَ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَأَلْتُ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وآل هرون﴾ فَقَالَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ.
وقوله تعالى: ﴿تَحْمِلُهُ الملائكة﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُ التَّابُوتَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ طَالُوتَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصْبَحَ التَّابُوتُ فِي دَارِ طَالُوتَ فَآمَنُوا بِنُبُوَّةِ شَمْعُونَ وَأَطَاعُوا طالوت. ⦗٢٢٥⦘
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ﴾ أَيْ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَفِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ طَالُوتَ ﴿إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
- ٢٤٩ - فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قال الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين
يخبر الله تعالى عَنْ (طَالُوتَ) مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ خَرَجَ فِي جُنُودِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَيْشُهُ يَوْمَئِذٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ - ثَمَانِينَ أَلْفًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ﴾ أي مختبركم بنهر، وَهُوَ نَهْرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، يَعْنِي نَهْرُ الشَّرِيعَةِ الْمَشْهُورُ ﴿فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ أَيْ فَلَا يَصْحَبُنِي الْيَوْمَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، ﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ أَيْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ روي، ومن شرب منه لم يرو، فشرب منه سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَتَبَقَّى مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ (هذا قول السدي) وروى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَازُوا مَعَهُ النَّهْرَ وَمَا جَازَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ لِقَاءِ عدوّهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد اللَّهِ حَقٌّ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عِدَدٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
- ٢٥٠ - وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
- ٢٥١ - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ٢٥٢ - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أَيْ لَمَّا وَاجَهَ حِزْبُ الْإِيمَانِ - وَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِ طَالُوتَ - لِعَدُوِّهِمْ أَصْحَابِ جَالُوتَ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ ﴿قَالُواْ ⦗٢٢٦⦘ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أَيْ أَنْزِلْ عَلَيْنَا صَبْرًا مِنْ عِنْدِكَ، ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أَيْ فِي لِقَاءِ الْأَعْدَاءِ وَجَنَّبْنَا الْفِرَارَ وَالْعَجْزَ ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ غَلَبُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُمْ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾ وَكَانَ طَالُوتُ قَدْ وَعَدَهُ إِنْ قَتَلَ جَالُوتَ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، وَيُشَاطِرَهُ نِعْمَتَهُ، وَيُشْرِكَهُ فِي أَمْرِهِ، فَوَفَى لَهُ ثُمَّ آلَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عليه السلام مَعَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتَاهُ الله الملك﴾ الذي كان بد طَالُوتَ، ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ أَيِ النُّبُوَّةُ بَعْدَ شَمْوِيلَ، ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ﴾ أَيْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ بِهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض﴾، أي لولا أن الله يَدْفَعُ عَنْ قَوْمٍ بِآخَرِينَ، كَمَا دَفَعَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمُقَاتَلَةِ طَالُوتَ وَشَجَاعَةِ دَاوُدَ لَهَلَكُوا، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا﴾ الآية. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصالح عن مائة أهل بيت جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ»، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده ضغف) وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْأَبْدَالُ فِي أُمَّتِي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصورن» (أخرجه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت مرفوعا) قال قتادة: إني لأرجوا أن يكون الحسن منهم.
وقوله تعالى: ﴿ولكنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ ذو مَنٌّ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ، يَدْفَعُ عَنْهُمْ بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَلَهُ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ عَلَى خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي قَصَصْنَاهَا عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْوَاقِعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ الْمُطَابِقُ لِمَا بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْحَقِّ، الَّذِي يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿وَإِنَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وَهَذَا تَوْكِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِلْقَسَمِ.
- ٢٥٣ - تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَضَّلَ بعض الرسل على بعض كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا داود زبورا﴾، وقال ههنا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله﴾ يعني موى ومحمدًا صلى الله عليهما وكذلك آدم كما ورد به حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حِينَ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْبِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الثابت في الصحيحين: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى ⦗٢٢٧⦘ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ فَلَا تُفَضِّلُونِي على الأنبياء» (الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ: استبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ اليهودي: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي ... الخ) وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، (أَحَدُهَا): أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، (الثَّانِي): أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، (الثَّالِثُ): أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا عِنْدَ التخاصم التشاجر، (الرَّابِعُ): لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ، (الْخَامِسُ): لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ والإيمان به.
وقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أَيِ الْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاطِعَاتُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِمْ ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ بِجِبْرِيلَ عليه السلام، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله ما اقتتلوا﴾ أي كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
- ٢٥٤ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي سَبِيلِهِ سَبِيلِ الْخَيْرِ، لِيَدَّخِرُوا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَلِيكِهِمْ، وَلْيُبَادِرُوا إِلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ أَيْ لَا يُبَاعُ أحد من نفسه ولا يفادى بمال ولو بَذَلَهُ، وَلَوْ جَاءَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَا تَنْفَعُهُ خُلَّةُ أَحَدٍ يَعْنِي صَدَاقَتُهُ بَلْ وَلَا نَسَابَتُهُ كَمَا قَالَ: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ وَلَا شَفَاعَةٌ: أَيْ وَلَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ.
وقوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ مُبْتَدَأٌ مَحْصُورٌ فِي خَبَرِهِ، أَيْ وَلَا ظَالِمَ أَظْلَمَ مِمَّنْ وَافَى اللَّهَ يومئذٍ كافرًا. وقد روى عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي قَالَ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وَلَمْ يَقِلْ ﴿وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
- ٢٥٥ - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ⦗٢٢٨⦘
هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ ولها شأن عظيم، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ آيَةٍ فِي كِتَابِ الله. وقال الإمام أحمد: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَهُ: «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدَهَا مِرَارًا، ثُمَّ قال: آية الكرسي قال: «ليهنك العلم يا أَبَا الْمُنْذِرِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لسانًا وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش».
(حديث آخر): عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَأَلَ رَجُلًا مِنْ صَحَابَتِهِ فَقَالَ: «أَيْ فُلَانُ هَلْ تَزَوَّجْتَ؟» قَالَ: لَا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ، قَالَ: «أَوَلَيَسَ مَعَكَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ: «أَلَيْسَ مَعَكَ: قُلْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قال: «أَلَيْسَ مَعَكَ: إِذَا زُلْزِلَتِ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ»، قَالَ: «أَلَيْسَ معك: إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «رُبُعُ الْقُرْآنِ» قَالَ:»أَلَيْسَ مَعَكَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إلى هو؟ «قال: بلى، قال: «ربع القرآن» (رواه أحمد عن انَس بن مالك).
(حديث آخَرَ): عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ صَلَّيْتَ؟» قُلْتُ: لَا، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ»، قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو للإنس شَيَاطِينُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الصَّلَاةُ! قَالَ: «خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ أقلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ» قَالَ، قُلْتُ: يَا رسول الله فالصوم؟ قال: «فرض مجزي وَعِنْدَ اللَّهِ مَزِيدٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصَّدَقَةُ، قَالَ: «أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّهَا أَفْضَلُ، قَالَ: «جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ، أَوْ سرٌّ إِلَى فَقِيرٍ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ، قَالَ: «آدَمُ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيٌّ كَانَ، قَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مكلم»، قلت: يا رسول الله كم المرسولن، قَالَ: «ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» وَقَالَ مَرَّةً: «وَخَمْسَةَ عشر»، قلت: يا رسول الله أي ما أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ:»آيَةُ الْكُرْسِيِّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (رواه أحمد والنسائي عن أبي ذر الغفاري).
(حديث آخر): وقد ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وعليَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ»؟ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شديدةٌ وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «إِنَّهُ سَيَعُودُ» فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقال: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ:؟ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهَذَا آخَرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. ⦗٢٢٩⦘ فَقَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: وما هي؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تعلم من تخاطب من ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قُلْتُ: لَا، قال: «ذاك شيطان».
(حديث آخر): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيةٌ سيدةُ آيِ الْقُرْآنِ لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ: آيَةُ الكرسي» (رواه الحاكم) وقد رواه الترمذي وَلَفْظُهُ: «لِكُلِّ شَيْءٍ سِنَامٌ وَسِنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي».
(حديث آخر): عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ سَمَاطَاتٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُخْبِرُنِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (رواه ابن مردويه)»
(حَدِيثٌ آخَرُ): فِي اشْتِمَالِهِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الأعظم، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وَ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾: «إن فيهما اسم الله الأعظم» (رواه أحمد)
(حديث آخر): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أجاب في ثلاث: سورة القرة وآل عمران وطه»، وقال هشام أَمَّا الْبَقَرَةُ فَ ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وَفِي آلِ عِمْرَانَ ﴿الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وفي طه ﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم﴾.
(حديث آخر): عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَمْ يَمْنَعْهُ من دخول الجنة إلا أن يموت» (رواه ابن مردويه والنسائي)
(حديث آخَرَ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ؟؟ إِلَى ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ» (رواه الترمذي وقال: حديث غريب) وقد ورد في فضلها أَحَادِيثُ أُخَرُ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا وَضَعْفِ أسانيدها. ⦗٢٣٠⦘
«وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ»
فقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ أَيِ الْحَيُّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا، الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ. وَكَانَ عُمَرُ يَقْرَأُ (القيَّام) فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا، وَلَا قَوَامَ لَهَا بِدُونِ أَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ أَيْ لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَلَا ذُهُولٌ عَنْ خلْقه، بَلْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَمِنْ تَمَامِ الْقَيُّومِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعْتَرِيهِ سِنة وَلَا نَوْمٌ. فَقَوْلُهُ: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ﴾ أَيْ لَا تَغْلِبُهُ ﴿سِنَةُ﴾ وَهِيَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿وَلاَ نَوْمٌ﴾ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنة. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفع إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ». وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: يَا مُوسَى هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ عز وجل: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هل ينام ربك؟ خذ زُجَاجَتَيْنِ فِي يَدَيْكَ فَقُمِ اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَ مُوسَى، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثٌ نَعَسَ فَوَقَعَ لِرُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ انْتَعَشَ فَضَبَطَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ نَعَسَ فَسَقَطَتِ الزُّجَاجَتَانِ فَانْكَسَرَتَا، فَقَالَ: يا موسى لو كنت أنا لسقطت السماوات والأرض فهلكت، كما هلكت الزجاجتان في يديك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ آيَةَ الكرسي (رواه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وفي ملكه وتحت قهر وسلطانه كقوله: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عبدًا﴾.
وقوله تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، كقوله: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى﴾، وكقوله: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ وَهَذَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ عز وجل، أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ لأحد عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ، واشفَع تُشَفَّعْ - قَالَ - فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ».
وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، كَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نسيًا﴾.
وقوله تَعَالَى: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ﴾ أَيْ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عز وجل وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ كقوله: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ علمًا﴾.
⦗٢٣١⦘ وقوله تعالى: ﴿وَسِعَ كرسيه السموات والأرض﴾، عن ابن عباس قال: علمه، وقال آخرون: الكرسي موضع القدين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وسع كرسيه السموات وَالْأَرْضَ﴾ قَالَ: «كُرْسِيُّهُ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عز وجل» وقال السدي: الكرسي تحت العرش قال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سِعَةِ الْكُرْسِيِّ إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما السموات السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ في ترس» قال، قال أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض» (روى هذه الآثار ابن جرير رحمة الله تعالى)
وعن أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْكُرْسِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بيده ما السموات السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»، وعن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إلى رسول الله ﷺ فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: فَعَظَّمَ الرَّبَّ تبارك وتعالى، وَقَالَ: «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وسع السموات وَالْأَرْضَ وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ من ثقله»، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ غَيْرُ الْعَرْشِ وَالْعَرْشَ أَكْبَرُ مِنْهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآثَارُ والأخبار.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي لا يثقله ولا يُعجزه حِفْظُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِمَا وَمَنْ بَيْنَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا حَقِيرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَاضِعَةٌ ذَلِيلَةٌ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، مُحْتَاجَةٌ فَقِيرَةٌ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، الْفَعَّالُ لَمَّا يُرِيدُ الَّذِي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَهُوَ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْحَسِيبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الرَّقِيبُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. فَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ العظيم﴾، كقوله: ﴿وهو الكبير المتعال﴾ وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الْأَجْوَدُ فِيهَا طَرِيقَةُ السَّلَفِ الصَالِحٍ إِمْرَارُهَا كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه.
- ٢٥٦ - لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ بيِّن وَاضِحٌ، جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ ونوَّر بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا. وقال ابن جرير عَنِ ⦗٢٣٢⦘ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ مقلاة فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (أخرجه ابو داود والنسائي) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقَالُ لَهُ الْحُصَيْنِيُّ، كَانَ لَهُ ابْنَانِ نَصْرَانِيَّانِ، وَكَانَ هُوَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ﴿أَلَا أَسْتَكْرِهَهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا إِلَّا النَّصْرَانِيَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ذَلِكَ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ والسدي) وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلالا عن أسبق، قَالَ: كُنْتُ فِي دِينِهِمْ مَمْلُوكًا نَصْرَانِيًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَ يَعْرِضُ عليَّ الْإِسْلَامَ فَآبَى، فَيَقُولُ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وَيَقُولُ: يَا أسبق لَوْ أَسْلَمْتَ لَاسْتَعَنَّا بِكَ عَلَى بَعْضِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دخل دِينِهِمْ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُدْعَى جَمِيعُ الْأُمَمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ الْحَنِيفِ (دِينِ الْإِسْلَامِ)، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمُ الدُّخُولَ فِيهِ وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ، أَوْ يَبْذُلِ الْجِزْيَةَ، قُوتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهَذَا مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مع المتقين﴾. وَفِي الصَّحِيحِ: «عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ»، يَعْنِي الْأَسَارَى الَّذِينَ يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق وَالْأَغْلَالِ وَالْقُيُودِ وَالْأَكْبَالِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْلِمُونَ وَتَصْلُحُ أَعْمَالُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ فَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ»، قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا»، فَإِنَّهُ ثلاثي صحيح، لكن لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْرِهْهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ بل دعاه إليه، فأخبره أَنَّ نَفْسَهُ لَيْسَتْ قَابِلَةً لَهُ بَلْ هِيَ كَارِهَةٌ، فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُكَ حُسْنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِالْلَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ مَنْ خَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللَّهِ، ووحَّد اللَّهَ فَعَبَدَهُ وَحْدَهُ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، أَيْ فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَمْرِهِ وَاسْتَقَامَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالصِّرَاطِ المستقيم. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّ الْجِبْتَ السحر، والطاغوت الشيطان، وَإِنَّ كَرَمَ الرَّجُلِ دِينُهُ، وَحَسَبَهُ خُلُقُهُ وَإِنْ كان فارسيًا أو نبطيًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الطَّاغُوتِ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ، قَوِيٌّ جِدًّا فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ شَرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهَا، والاستنصار بها.
وقوله تعالى: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا﴾، أَيْ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ مِنَ الدِّينِ بِأَقْوَى سَبَبٍ، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي فِي نَفْسِهَا مُحْكَمَةٌ مُبْرَمَةٌ قَوِيَّةٌ، وَرَبْطُهَا قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفصام لَهَا﴾ الآية، قال مجاهد: العروة الْوُثْقَى يَعْنِي الْإِيمَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي ﴿لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ وَعَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ⦗٢٣٣⦘ ابن أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: هُوَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحَةٌ ولا تنافي بينها.
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وجهه أثر من خشوع، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْجَزَ فِيهِمَا، فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا خَرَجَ اتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَدَخَلْتُ مَعَهُ فَحَدَّثْتُهُ، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لمَ؟ إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ فَذَكَرَ مِنْ خُضْرَتِهَا وَسِعَتِهَا - وفي وَسَطُهَا عَمُودُ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِيَ: اصْعَدْ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَا أَسْتَطِيعُ، فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ هُوَ الْوَصِيفُ - فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَقَالَ: اصْعَدْ، فَصَعِدْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَالَ: اسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «أَمَّا الرَّوْضَةُ فَرَوْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَعَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ (الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى) أَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تموت» (رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر) قال: وهو عبد الله ابن سلام.
- ٢٥٧ - اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَهْدِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، فَيُخْرِجُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ وَالرَّيْبِ إِلَى نور الحق الوضح الْجَلِيِّ الْمُبِينِ السَّهْلِ الْمُنِيرِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ إِنَّمَا وليهم الشيطان يزين لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ وَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَحِيدُونَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِفْكِ ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وَلِهَذَا وَحَّدَ تَعَالَى لَفْظَ (النُّورِ) وَجَمَعَ (الظُّلُمَاتِ) لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَالْكُفْرَ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا قَالَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فتقرق بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تتقون﴾، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾، وقال تعالى: ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا إِشْعَارٌ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ، وَانْتِشَارِ الْبَاطِلِ وَتَفَرُّدِهِ وتشعبه.
- ٢٥٨ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
هَذَا الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هو ملك بابل (نمرود بن كنعان)، قال مجاهد: ملك الدُّنْيَا مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ⦗٢٣٤⦘ أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ (سليمان بن داود) و(ذو القرنين) والكافران (نمرود) و(بختنصر)، والله أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أَيْ بِقَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي ربه﴾ أي وُجُودِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ إِلَهٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ بَعْدَهُ فِرْعَوْنُ لِمَلَئِهِ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ وَالْمُعَانَدَةِ الشَّدِيدَةِ إِلَّا تَجَبُّرُهُ وَطُولُ مُدَّتِهِ فِي الْمُلْكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سنة في ملكه، قال: ﴿أَنْ آتَاهُ الله الملك﴾، وكان طَلَبَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي إنما الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ حُدُوثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، ضَرُورَةً لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهَا، وَهُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ المحاج - وهو النمرود -: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾، قال قتادة: وذلك أني أوتي بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عَنِ الْآخَرِ فَلَا يُقْتَلُ، فَذَلِكَ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ مَا أَرَادَ هَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَلَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ يَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ هَذَا الْمَقَامَ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَيُوهِمُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ كَمَا اقْتَدَى بِهِ فِرْعَوْنُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا ادَّعَى هَذِهِ الْمُكَابَرَةَ: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فأتب بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ أَيْ إِذَا كُنْتَ كَمَا تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويمت هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْوُجُودِ، فِي خَلْقِ ذواته تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كانت إِلَهًا كَمَا ادَّعَيْتَ تُحْيِي وَتُمِيتُ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ؟ فَلَمَّا عَلِمَ عَجْزَهُ وَانْقِطَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بُهِتَ، أَيْ أُخْرِسَ فَلَا يَتَكَلَّمُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ لَا يُلْهِمُهُمْ حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا بَلْ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بين إبراهيم ونمرود بَعْدَ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِالْمَلِكِ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَجَرَتْ بينهما هذه المناظرة، وروى زيد بن أسلم أن النمرود كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَكَانَ النَّاسُ يَغْدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ، فَوَفِدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَفِدَ لِلْمِيرَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ، وَلَمْ يُعْطِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أَعْطَى النَّاسَ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَدَ إِلَى كَثِيبٍ مِنَ التُّرَابِ فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ، وَقَالَ: أَشْغَلُ أَهْلِي عَنِّي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَّةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا، فَعَمِلَتْ طَعَامًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ وَجَدَ الَّذِي قَدْ أَصْلَحُوهُ فَقَالَ: أَنَّى لَكَمَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم اللَّهُ عز وجل. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ مَلَكَا يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْلَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَبَى، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَأَبَى وَقَالَ: اجْمَعْ جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جَيْشَهُ وَجُنُودَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ، وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلْتُ لُحُومَهُمْ ودماءهم، وتركتهم عظامًا بادية، دخلت وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي مَنْخَرَيِ الْمَلِكِ، فَمَكَثَتْ فِي منخري الملك أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِهَا، فَكَانَ يَضْرِبُ رأسه بالمرازب في المدة حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا.
- ٢٥٩ - أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حاج إبراهيم في ربه﴾ وَهُوَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا المار من هو؟ فروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: هو عزيز، ورواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا القول هو المشهور، وقيل: اسمه (حزقيل بن بوار) وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل، وَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا (بَيْتُ الْمَقْدِسِ) مَرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ تَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ لَهَا وَقَتْلِ أَهْلِهَا ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ أَيْ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ قولهم خوت الدار تخوي خويًا.
وقوله تعالى: ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ أَيْ سَاقِطَةٌ سُقُوفُهَا وَجُدْرَانُهَا عَلَى عَرَصَاتِهَا، فَوَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِيمَا آلَ أَمْرُهَا إِلَيْهِ بعد العمارة العظيمة، وقال: ﴿أنَّى يحي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؟ وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ دُثُورِهَا وَشِدَّةِ خَرَابِهَا، وَبُعْدِهَا عَنِ الْعَوْدِ إلى ما كنت عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾. قَالَ: وَعَمُرَتِ الْبَلْدَةُ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِهِ، وَتَكَامَلَ سَاكِنُوهَا، وتراجع بنوا إِسْرَائِيلَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ عز وجل بَعْدَ مَوْتِهِ، كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْيَا اللَّهُ فِيهِ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا إِلَى صُنْعِ اللَّهِ فِيهِ، كَيْفَ يُحْيِي بَدَنَهُ. فَلَمَّا اسْتَقَلَّ سَوِيًّا ﴿قَالَ﴾ اللَّهُ لَهُ، أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ: ﴿كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾. قال: وَذَلِكَ أَنَّهُ مَاتَ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَعَثَهُ الله في آخر النهار، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَاقِيَةً ظَنَّ أَنَّهَا شَمْسُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِيمَا ذُكِرَ عِنَبٌ وَتِينٌ وَعَصِيرٌ فَوَجَدَهُ كَمَا تقدم لم يغير مِنْهُ شَيْءٌ، لَا الْعَصِيرُ اسْتَحَالَ، وَلَا التِّينُ حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص: ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾ أَيْ كَيْفَ يُحْيِيهِ اللَّهُ عز وجل وَأَنْتَ تَنْظُرُ، ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ أي دليلًا على المعاد ﴿ونظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ أي نرفعها فيركب بَعْضَهَا على بَعْضٍ، وقرىء ﴿نُنْشِرُهَا﴾ أَيْ نُحْيِيهَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾.
قال السدي: تَفَرَّقَتْ عِظَامُ حِمَارِهِ حَوْلَهُ يَمِينًا وَيَسَارًا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَلُوحُ مِنْ بَيَاضِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَجَمَعَتْهَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحِلَّةِ، ثُمَّ رَكِبَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى صَارَ حِمَارًا قَائِمًا مِنْ عِظَامٍ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَسَاهَا اللَّهُ لَحْمًا وَعَصَبًا وَعُرُوقًا وَجِلْدًا، وَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَنَفَخَ فِي منخري الحمار فنهق بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْأَى مِنَ الْعُزَيْرِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ هَذَا كُلُّهُ: ﴿قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كل شيء قَدِيرٌ﴾ أي أنا أعلم بِهَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ عَيَانًا فَأَنَا أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِي بِذَلِكَ، وَقَرَأَ آخَرُونَ: «قَالَ إعْلَم» عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالْعِلْمِ.
- ٢٦٠ - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهن جزء ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ذَكَرُوا لِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أسبابًا، منها أنه لما قال لنمرود: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى من (علم اليقين) بذلك إِلَى (عَيْنِ الْيَقِينِ) وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهِدَةً، فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى! قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن! قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ فَأَمَّا الحديث الذي رواه الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى، قال: أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بلى، وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري) فليس المراد ههنا بِالشَّكِّ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عنده، بلا خلاف.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ لَا طَائِلَ تَحْتَ تَعْيِينِهَا، إِذْ لو كان في ذلك مهم لَنَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: أَخَذَ وَزًّا وَرَأْلًا وَهُوَ (فَرْخُ النَّعَامِ) وَدِيكًا وطاووسًا، وقال مجاهد: كانت حمامة وديكًا وطاووسًا وغرابًا، وقوله: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ أي وقطعهن. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ أَوْثِقْهُنَّ، فَلَمَّا أَوْثَقَهُنَّ ذَبَحَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، فَذَكَرُوا أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطَّيْرِ فَذَبَحَهُنَّ ثُمَّ قَطَّعَهُنَّ وَنَتَفَ رِيشَهُنَّ وَمَزَّقَهُنَّ وخلط بعضهن ببعض، ثُمَّ جَزَّأَهُنَّ أَجْزَاءً وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهن جزءًا ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل أَنْ يَدْعُوَهُنَّ فَدَعَاهُنَّ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الرِّيشِ يَطِيرُ إِلَى الرِّيشِ، وَالدَّمِ إِلَى الدَّمِ، وَاللَّحْمِ إِلَى اللَّحْمِ، وَالْأَجْزَاءِ مِنْ كُلِّ طَائِرٍ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى قَامَ كُلُّ طَائِرٍ عَلَى حِدَتِهِ وَأَتَيْنَهُ يَمْشِينَ، سَعْيًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ لَهُ فِي الرُّؤْيَةِ الَّتِي سألها.
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَمْتَنِعُ من شَيْءٌ، وَمَا شَاءَ كَانَ بِلَا مُمَانِعٍ لِأَنَّهُ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وشرعه وقدره.
- ٢٦١ - مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ لِمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَأَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، فَقَالَ: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ يَعْنِي بِهِ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ، وَإِعْدَادِ السلاح وغير ذلك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْجِهَادُ وَالْحَجُّ يضعَّف الدِّرْهَمَ فِيهِمَا إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تَعَالَى: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾، وَهَذَا الْمَثَلُ أَبْلَغُ فِي النُّفُوسِ مِنْ ذِكْرِ عَدَدِ السَّبْعِمِائَةِ، فَإِنَّ هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَالِحٍةَ يُنَمِّيهَا اللَّهُ عز وجل ⦗٢٣٧⦘ لِأَصْحَابِهَا، كَمَا يُنَمِّي الزَّرْعَ لِمَنْ بَذَرَهُ فِي الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.
كما روى الإمام أحمد عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَطِيفٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه، وامرأته قاعدة عن رَأْسِهِ قُلْنَا: كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَاتَ بِأَجْرٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا بَتُّ بِأَجْرٍ، وَكَانَ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ عَلَى الْحَائِطِ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ أَلَا تَسْأَلُونِي عَمَّا قُلْتُ! قَالُوا: مَا أَعْجَبَنَا مَا قَلْتَ فَنَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ أَنْفَقَ نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ أَوْ عَادَ مريضًا أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة مالم يَخْرُقْهَا، وَمَنِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ عز وجل بِبَلَاءٍ في جسده فهو له حِطَّة» أي كفارة لذنوبه.
(حديث آخر): عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رجلاُ تَصَدَّقَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَتَأْتِيَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بسبعمائة ناقة مخطومة» (رواه أحمد وأخرجه مسلم بلفظ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ»). (حَدِيثٌ آخَرُ): عن ابن عبد الله ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف غلا الصَّوْمَ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ريح المسك». (رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود).
(حديث آخر): عن ابن عمر لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي»، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال: «رب زد أمتي»، فقال، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (أخرجه ابن مردويه ورواه أبو حاتم وابن حبان) وقوله: ﴿والله يُضَاعِفُ لم يَشَآءُ﴾ أَيْ بِحَسْبِ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ فَضْلُهُ وَاسِعٌ كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ خَلْقِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ وَمَنْ لَا يستحق سبحانه وبحمده.
- ٢٦٢ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- ٢٦٣ - قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
- ٢٦٤ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الكافرين ⦗٢٣٨⦘
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ مَنَّا عَلَى مَنْ أَعْطَوْهُ فَلَا يمنُّون به عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَمُنُّونَ بِهِ لَا بِقَوْلٍ ولا فعل.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ أَذًى﴾ أَيْ لَا يَفْعَلُونَ مَعَ مَنْ أَحْسَنُوا إِلَيْهِ مَكْرُوهًا يُحْبِطُونَ بِهِ مَا سَلَفَ من الإحسان ثم وعدهم الله تَعَالَى الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ ثَوَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ﴿ولاهم يَحْزَنُونَ﴾ أَيْ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، ولا ما فَاتَهُمْ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، لَا يَأْسَفُونَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ أَيْ مِنْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَدُعَاءٍ لمسلم، ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي عفو وغفر عَنْ ظُلْمٍ قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، ﴿خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾، ﴿والله غَنِيٌّ﴾ عَنْ خَلْقِهِ، ﴿حَلِيمٌ﴾ أَيْ يَحْلُمُ وَيَغْفِرُ وَيَصْفَحُ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ» (رواه ابن مردويه وأخرجه أحمد وابن ماجه) وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾، فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ بِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، فما يفي ثواب الصدقة يخطيئة الْمَنِّ وَالْأَذَى، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ﴾، أَيْ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمن الأذى، كَمَا تَبْطُلُ صَدَقَةُ مَنْ رَاءَى بِهَا النَّاسَ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ مَدْحُ النَّاسِ لَهُ، أَوْ شُهْرَتُهُ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ لِيُشْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ يُقَالَ إِنَّهُ كَرِيمٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ ذلك المرائي بإنفاقه، فقال: ﴿فمثل كَمَثَلِ صَفْوَانٍ﴾ وَهُوَ الصَّخْرُ الْأَمْلَسُ ﴿عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ﴾ وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، ﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾ أَيْ فَتَرَكَ الوابلُ ذَلِكَ الصفوانَ صَلْدًا: أَيْ أَمْلَسَ يَابِسًا، أَيْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ كُلُّهُ، أَيْ وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْمُرَائِينَ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ عِندِ اللَّهِ، وَإِن ظَهَرَ لَهُمْ أَعْمَالٌ فِيمَا يَرَى النَّاسُ كَالتُّرَابِ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
- ٢٦٥ - ومثل الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابتغآء مرضات اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
⦗٢٣٩⦘
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات اللَّهِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ ﴿وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، أي وهم متحققون ومتثبتون أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ. ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحتسابًا» الحديث أَيْ يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ الله وثوابه، قَالَ الشَّعْبِيُّ: ﴿وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ تَصْدِيقًا ويقينًا.
وقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ أَيْ كَمَثَلِ بُسْتَانٍ بِرَبْوَةٍ، وهو عند الجمهور المكان المرتفع مِنَ الْأَرْضِ وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَتَجْرِي فيه الأنهار.
وقوله تعالى: ﴿أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾ وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَآتَتْ ﴿أُكُلَهَا﴾ أَيْ ثَمَرَتَهَا، ﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَانِ، ﴿فَإِن لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الرَّذَاذُ وَهُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْمَطَرِ، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ لَا تَمْحُلُ أَبَدًا لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَصُبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كِفَايَتُهَا، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنُ لَا يَبُورُ أَبَدًا بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ وَيُكَثِّرُهُ وينميِّه، كُلُّ عَامِلٍ بِحَسْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ شيء.
- ٢٦٦ - أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقْتُ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أولا نَعْلَمُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ، فَقَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلاُ بعمل، قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لرجل غني يعمل بسعة؟؟ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بالمعاصي حتى أغرق أعماله. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ كِفَايَةٌ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَبْيِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَثَلِ بِعَمَلِ من أحسن العمل أولًا، بَعْدَ ذَلِكَ انْعَكَسَ سَيْرُهُ فَبَدَّلَ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، عِيَاذًا بِالْلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبْطَلَ بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أَسْلَفَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصَالِحٍ، وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَوَّلِ فِي أَضْيَقِ الْأَحْوَالِ فلم يحصل مِنْهُ شَيْءٌ، وَخَانَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ. ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ﴾ وَهُوَ الرِّيحُ الشَّدِيدُ ﴿فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ أَيْ أَحْرَقَ ثِمَارَهَا وَأَبَادَ أَشْجَارَهَا فَأَيُّ حَالٍ يَكُونُ حاله؟.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ الله مثلاُ حَسَنًا - وَكُلُّ أَمْثَالِهِ حَسَنٌ - قَالَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات﴾، يقول: صنعه فِي شَيْبَتِهِ، ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ وَوَلَدُهُ وَذُرِّيَّتُهُ ضِعَافٌ عِنْدَ آخَرِ عُمُرِهِ، فَجَاءَهُ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترق بُسْتَانَهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قُوَّةً أَنْ يَغْرِسَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَسْلِهِ خَيْرٌ يَعُودُونَ به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إِلَى اللَّهِ عز وجل لَيْسَ لَهُ خير فسيعتب، كَمَا لَيْسَ لِهَذَا قُوَّةٌ فَيَغْرِسُ مِثْلَ بُسْتَانِهِ، وَلَا يَجِدُهُ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ خَيْرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُغْنِ عَنْ هَذَا ⦗٢٤٠⦘ وَلَدُهُ وَحُرِمَ أَجْرَهُ عِنْدَ أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهِ، كَمَا حرم هذا جنته عندما كان أَفْقَرِ مَا كَانَ إِلَيْهَا عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِ ذريته.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عليَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمُرِي»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ تَعْتَبِرُونَ وَتَفْهَمُونَ الْأَمْثَالَ وَالْمَعَانِي وتنزلونها الْمُرَادِ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾.
- ٢٦٧ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
- ٢٦٨ - الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
- ٢٦٩ - يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولوا الْأَلْبَابِ
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ وَالْمُرَادُ به الصدقة ههنا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكتسبوها، يَعْنِي التِّجَارَةَ بِتَيْسِيرِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالسُّدِّيُّ: ﴿مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ يَعْنِي الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ الَّتِي أَنْبَتَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ أَطِيبِ الْمَالِ وَأَجْوَدِهِ وَأَنْفَسِهِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التصدق برذالة المال ودنيئه وَهُوَ خَبِيثُهُ فَإِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلا طيبًا، ولهذا قال: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ أَيْ تَقْصِدُوا الْخَبِيثَ، ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ﴾: أَيْ لَوْ أُعْطِيتُمُوهُ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا أَنْ تتغاضوا فيه، فالله أغنى مِنْكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَقِيلَ معناه: لَا تَعْدِلُوا عَنِ الْمَالِ الْحَلَالِ وَتَقْصِدُوا إِلَى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ - قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: غِشُّهُ وَظُلْمُهُ - وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» (رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا) قال ابن كثير: والصحيح القول الأول.
قال ابن جرير رحمه الله: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ الآية، قال نزلت في الأنصار، كات الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها الْبُسْرِ فَعَلَّقُوهُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَأْكُلُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُ، فَيَعْمِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِلَى الْحَشَفِ فَيُدْخِلُهُ مَعَ أَقْنَاءِ الْبُسْرِ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَنْ فَعَلَ ذلك: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ (أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين) وقال ابن أبي حاتم: عن البراء رضي الله عنه ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن ⦗٢٤١⦘ تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ بِقَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، فَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالْقِنْوِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط مِنْهُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، فَيَأْكُلُ وَكَانَ أُنَاسٌ مِمَّنْ لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلاَ تَيَمَّموا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ له مثل ما أعطى ما أخذ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يجيء الرجل منا بصالح ما عنده (رواه ابن أبي حاتم والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب)
وعن عبد الله بن مغفل فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ قَالَ: (كَسْبُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ خَبِيثًا، وَلَكِنْ لَا يصَّدق بِالْحَشَفِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ وَمَا لا خير فيه) (رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مغفل)، وقال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضَبٍّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ؟ قَالَ: «لَا تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا لَا تَأْكُلُونَ». وعن الْبَرَاءِ ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَدْ نَقَصَهُ مِنْ حَقِّهِ؟ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن البراء بن عازب)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ حَقٌّ فَجَاءَكُمْ بِحَقٍّ دُونَ حَقِّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوهُ بِحِسَابِ الجيد حتى تنقصوه فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه؟.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أَيْ وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَاتِ وَبِالطَّيِّبِ مِنْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا، وما ذاك إلا أن يساوي الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وجميعُ خَلْقِهِ فَقُرَاءُ إِلَيْهِ. وَهُوَ وَاسِعُ الْفَضْلِ لَا يَنْفَدُ مَا لَدَيْهِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ وَاسِعُ الْعَطَاءِ كريم؛ جواد، وسيجزيه بِهَا وَيُضَاعِفُهَا لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، مَنْ يُقْرَضُ غَيْرُ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ، وَهُوَ الْحَمِيدُ: أَيِ الْمَحْمُودُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ
وقوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، قَالَ ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «إن للشيطان لمة بِابْنِ آدَمَ وللمَلك لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا﴾ (رواه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن حبان) الآية. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾ أَيْ يُخَوِّفُكُمُ الْفَقْرَ لِتُمْسِكُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ فَلَا تُنْفِقُوهُ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، ﴿وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾: أَيْ مَعَ نَهْيِهِ إِيَّاكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، يَأْمُرُكُمْ بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاّق، قال تعالى: ﴿والّه يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ﴾ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَمَرَكُمُ الشَّيْطَانُ بِالْفَحْشَاءِ، ﴿وَفَضْلًا﴾ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا خَوَّفَكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْفَقْرِ ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وقوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يشاء﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ ⦗٢٤٢⦘ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَأَمْثَالِهِ. وقال مجاهد: ﴿الْحِكْمَةَ﴾ لَيْسَتْ بِالنُّبُوَّةِ وَلَكِنَّهُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقُرْآنُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْحِكْمَةُ خَشْيَةُ اللَّهِ، فَإِنَّ خَشْيَةَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مردويه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله»، وقال أبو مالك: الحكمة السنّة. وقال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحِكْمَةُ الْعَقْلُ. قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ الْحِكْمَةَ هُوَ الفقه في دين الله، وأمر يدخله فِي الْقُلُوبِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَمِمَّا يُبَيَّنُ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدنيا إذا نَظَرٍ فِيهَا، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَحْرِمُهُ هَذَا، فَالْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَالَ السُّدي: الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ. وَالصَّحِيحُ أن الحكمة لَا تَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْهَا وَأَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، وَالرِّسَالَةُ أَخَصُّ، وَلَكِنْ لِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ حَظٌّ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ» (رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ في تفسيره عن عبد الله بن عمر) وقال ﷺ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (رواه البخاري ومسلم والنسائي)
وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أَيْ وَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالتِّذْكَارِ إِلَّا مَنْ لَهُ لُبٌّ وَعَقْلٌ، يَعِي بِهِ الْخِطَابَ وَمَعْنَى الْكَلَامِ.
- ٢٧٠ - وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
- ٢٧١ - إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامِلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ مُجَازَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ لِلْعَامِلِينَ لِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ وَرَجَاءَ مَوْعُودِهِ. وَتَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ بَلْ خَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب خَبَرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنْصَارٍ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عذاب الله ونقمته.
وقوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ أَيْ إِنْ أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إِسْرَارَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، لِأَنَّهُ أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْإِظْهَارِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِهِ، فَيَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ والمسرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ». وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْإِسْرَارَ أَفْضَلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ ⦗٢٤٣⦘ فَقَالَ: إِنِّي أخاف الله رب العالمين وَرَجُلٌ تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تنفق يمينه».
وفي الحديث المروي: «صدقة السر تطفىء غَضَبَ الرَّبِّ عز وجل»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، أما عُمَرُ فَجَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا خلَّفت وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا عُمَرُ؟» قَالَ: خلَّفتُ لَهُمْ نِصْفَ مَالِي، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَكَادُ أَنْ يُخْفِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا خَلَّفْتَ وَرَاءَكَ لِأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فَقَالَ: عِدَةُ اللَّهِ وَعِدَةُ رَسُولِهِ، فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه وقال: (بأبي أنت وأمي يَا أَبَا بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا اسْتَبَقْنَا إِلَى باب خير قط إلا كنت سابقًا) ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ سَوَاءً كَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ مَنْدُوبَةً. لكن روى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تفضل علانيتها بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفًا.
وقوله تعالى: ﴿وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أَيْ بَدَلَ الصَّدَقَاتِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ سِرًّا يَحْصُلُ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمُ السَّيِّئَاتِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ.
- ٢٧٢ - لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَآ تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
- ٢٧٣ - لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
- ٢٧٤ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يرضخوا لأنسابهم من المشركين فَرَخَّصَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء﴾ (رواه النسائي) الآية. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يأمر بأن لا يُتَصَدَّقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ إِلَى آخِرِهَا، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ من كل دين (رواه ابن أبي حاتم)
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فلنفسه﴾ وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ ⦗٢٤٤⦘ كَثِيرَةٌ وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَنْفَقَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يَعْنِي إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا عليك ما كان من عَمَلُهُ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَنْ أَصَابَ: أَلِبر أَوْ فاجرٍ، أَوْ مستحق أو غيره، وهو مُثَابٌ عَلَى قَصْدِهِ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا تَمَامُ الْآيَةِ: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾، والحديث المخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قال رحل لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّق عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ! لأتصدقن الليلة بصدقة، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّق على غني، قال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ! لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ فخرج فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ، فأُتي فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبلت، وَأَمَّا الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ» (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة)
وقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قَدِ انْقَطَعُوا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَسَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ سَبَبٌ يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا يُغْنِيهِمْ، وَ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ يَعْنِي سَفَرًا لِلتَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: هُوَ السَّفَرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة﴾، وقال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أَيِ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ وَحَالِهِمْ، يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنْ تَعَفُّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ليس المسكين بهذا الطوّاف التي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا».
وقوله تعالى: ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾: أَيْ بِمَا يَظْهَرُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ من صفاتهم، كما قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾، وقال: ﴿ولتعرفنَّهم فِي لَحْنِ القول﴾. وفي الحديث: «اتقو فِراسة الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، ثُمَّ قرأ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للمتوسمين﴾ (رواه أصحاب السنن).
وقوله تعالى ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أَيْ لَا يلِّحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلحافا﴾ (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري) وقال الإمام أحمد عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: أَلَا تَنْطَلِقَ فَتَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا يَسْأَلُهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقْتُ أَسْأَلُهُ فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يَخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: «وَمَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ، ⦗٢٤٥⦘ وَمَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ وَلَهُ عَدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلحافًا»، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ، وَلِغُلَامِهِ نَاقَةٌ أُخْرَى فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أسأل. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ؟ قَالَ: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أو حسابها من الذهب» (رواه أحمد وأصحاب السنن) وقوله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وسيُجزى عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أحوج ما يكون إليه.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، هَذَا مَدْحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ سر وجهر، حَتَّى إِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ عَادَهُ مَرِيضًا عَامَ الْفَتْحِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى ما تجعل في فيّ امرأتك». وعن النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يحتسبها كانت له صدقة» (رواه أحمد والشيخان) وقال ابن جبير عن أبيه: كَانَ لِعَلِيٍّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ دِرْهَمًا لَيْلًا وَدِرْهَمًا نَهَارًا، وَدِرْهَمًا سِرًّا وَدِرْهَمًا عَلَانِيَةً، فَنَزَلَتْ: ﴿الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سرًا علانية﴾ (رواه ابن أبي وابن مردويه) وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الطاعات، ﴿ولا خوف عليهم لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
- ٢٧٥ - الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَبْرَارَ المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر والصدقات لذو الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والأوقات، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَكَلَةِ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بالباطل وأنواع الشبهات، وأخبر عَنْهُمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْهَا إِلَى بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ، فَقَالَ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ حال صرعه وتخبط الشيطن لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ قِيَامًا مُنْكَرًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مجنونًا يخنق، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ والحسن وقتادة أنهم قالوا في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ⦗٢٤٦⦘ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، يَعْنِي لا يقومون يوم القيامة، وقال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكل الربا خذ سلاحك للحرب، وقرأ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ وذلك حين يقوم من قبره. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كالبيوت فيها الحيات تجري مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكْلَةُ الربا» (رواه ابن أبي حاتم وأحمد) وعن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ: (فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ - وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السابح يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ الْحِجَارَةَ عِنْدَهُ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا - وذكر في تفسيره - أنه آكل الربا) (رواه البخاري)
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، أَيْ إِنَّمَا جُوزُوا بِذَلِكَ لِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لَقَالُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ أَيْ هُوَ نَظِيرُهُ، فَلِمَ حَرَّمَ هَذَا وَأُبِيحَ هَذَا؟ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، أَيْ هَذَا مِثْلُ هَذَا وَقَدْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تمام الكلام ردًا عليهم، أي على ما قالواه مِنَ الِاعْتِرَاضِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ هذا وهذا حكمًا، وهو العليم الحكيم الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يسالون، وهو العالم يحقائق الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا يَنْفَعُ عِبَادَهُ فَيُبِيحُهُ لَهُمْ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الطِّفْلِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ مَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللَّهِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهَى حَالَ وُصُولِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ، لقوله: ﴿عَفَا الله عما سلف﴾ وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «وَكُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيْ هَاتَيْنِ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ»، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الزِّيَادَاتِ الْمَأْخُوذَةِ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ عَفَا عَمَّا سَلَفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدي: ﴿فله ما سلف﴾ مَا كَانَ أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وقال ابن أبي حاتم عن أم يونس العالية بنت أبقع، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ لها (أم بحنة) أم ولد زيد بْنِ أَرْقَمَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَتَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْتُهُ عَبْدًا إِلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةٍ، فَاحْتَاجَ إِلَى ثَمَنِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قد بطل إِنْ لَمْ يَتُبْ. قَالَتْ، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتِ إِنْ تَرَكَتُ الْمِائَتَيْنِ وَأَخَذَتُ السِّتَّمِائَةِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ﴿فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، وَهَذَا الْأَثَرُ مَشْهُورٌ. وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ حرم (مسألة العينة) (العينة: أن يبيعه شيئًا إلى أجل، ثم يشتريه منه نقدًا بأقل مما باعه، وفي هذا شبهة التحايل على أكل الربا نسأله تعالى السلامة) مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة الْمُقَرِّرَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ أَيْ إِلَى الربا ففعله بعد بلوغه نهى الله عَنْهُ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ ⦗٢٤٧⦘ الْحُجَّةُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقد قال أبو داود، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَذْرِ المخابرة فليؤذن بحرب مِّنَ الله وَرَسُولِهِ»،،إنما حُرِّمَتِ (الْمُخَابَرَةُ) وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ من الأرض، و(المزابنة) وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ على وجه الارض و(المحاقلة) وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سَنْبُلِهِ فِي الْحَقْلِ بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْلَ الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْجَهْلُ بِالْمُمَاثِلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوُتِ نَظَرِهِمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليم﴾
وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَلِ الْأَبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: (ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا)، يَعْنِي بذلك بعض المسائل التي فيه شَائِبَةُ الرِّبَا، وَالشَّرِيعَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ كُلَّ حَرَامٍ فَالْوَسِيلَةُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَقَدْ ثَبَتَ في الصحيحين عن النعمان ابن بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ». وَفِي السُّنَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «دع ما يريبك إلى مالا يربك»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَتْ فِيهِ النَّفْسُ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «استفتِ قلبَك وَإِنْ أفتاك الناس وأفتوك». وقال ابن عباس: آخِرُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ آية الربا وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: (إِنِّي لعلِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ تَصْلُحُ لَكُمْ، وَآمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَصْلُحُ لَكُمْ، وَإِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يريبكم) (رواه ابن ماجة وابن مردويه) وعن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الرِّبَا ثلاثة وسبعون بابًا». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «الربا سبعون جزءًا أيسرها أن ينحك الرجل أمه» (رواه ابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود وزاد الحاكم: وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ) وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا». قَالَ، قِيلَ لَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ مِنْهُمْ ناله من غباره».
ومن هذا القبيل تَحْرِيمُ الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ الْحَدِيثُ الَّذِي روي عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ) قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْأَئِمَّةِ: لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا وَوَسَائِلَهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ عليه السلام فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا (أجملوه وجملوه أي أذابوه) فباعوها وأكلوا ⦗٢٤٨⦘ أثمانها» وقوله ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ"، قَالُوا: وَمَا يُشْهد عَلَيْهِ ويُكْتب، إِلَّا إِذَا أُظْهِرَ فِي صُورَةِ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ دَاخِلُهُ فَاسِدًا، فَالِاعْتِبَارُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ (ابْنُ تَيْمِيَّةَ) كِتَابًا فِي إِبْطَالِ التَّحْلِيلِ، تَضَمَّنَ النَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي الْوَسَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى كُلِّ بَاطِلٍ، وَقَدْ كَفَى فِي ذَلِكَ وَشَفَى، فَرَحِمَهُ اللَّهُ ورضي عنه.
- ٢٧٦ - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
- ٢٧٧ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
يخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبَا أَيْ يُذْهِبُهُ إِمَّا بِأَنْ يُذْهِبَهُ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، أَوْ يَحْرِمَهُ بَرَكَةَ مَالِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَلْ يعدمه بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾، وقال: ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ الآية. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ وَهَذَا نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ) وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مسنده عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فإن عاقبته تصير إلى قل»، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ كَمَا قال ﷺ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بالإفلاس والجذام».
وقوله تعالى: ﴿وَيُرْبِي الصدقات﴾ قرىء بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو أي كثّره ونمّاه، وقرىء (يُربي) بالضم والتشديد من التربية. قال الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «من تصدق بعدل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمنيه ثم يربّيها لصاحبها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الجبل» (رواه البخاري في كتاب الزكاة وأخرجه مسلم بنحوه) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحد» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿يَمْحَقُ الله الربا ويربي الصدقات﴾ (رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ طَيِّبٍ يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ، فَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا فِي يَدِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: فِي كَفِّ الله، حتى تكون مثل أحد فتصدقوا» (رواه أحمد قال ابن كثير صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب) وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «إن الله يربي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى يكون مثل أحد» (رواه أحمد وقد تفرد به من هذا الوجه) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ ⦗٢٤٩⦘ لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فلوه أو وصيفه» (رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعًا).
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ أَيْ لَا يُحِبُّ كَفُورَ الْقَلْبِ، أَثِيمَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ فِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرَابِيَ لَا يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب الْمُبَاحِ، فَهُوَ يَسْعَى فِي أَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ، فَهُوَ جَحُودٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ، ظَلُومٌ آثِمٌ بِأَكْلِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ، الْمُطِيعِينَ أَمْرَهُ، الْمُؤَدِّينَ شُكْرَهُ، الْمُحْسِنِينَ إِلَى خَلْقِهِ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مُخْبِرًا عَمَّا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَنَّهُمْ يَوْمَ القياة مِنَ التَّبِعَاتِ آمِنُونَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
- ٢٧٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
- ٢٧٩ - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ
- ٢٨٠ - وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- ٢٨١ - وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، نَاهِيًا لَهُمْ عَمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى سَخَطِهِ وَيُبْعِدُهُمْ عن رضاه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا تَفْعَلُونَ، ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أَيِ اتْرُكُوا مَا لَكَمَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ هَذَا الْإِنْذَارِ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ بِمَا شرع الله لكم من تحليل البيع وتحرم الربا وغير ذلك. وقد ذكروا أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ نَزَلَ فِي (بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ) مِنْ ثَقِيفٍ (وَبَنِي الْمُغِيرَةِ) مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَيْنَهُمْ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلُوا فِيهِ طَلَبَتْ ثَقِيفٌ أَنْ تَأْخُذَهُ مِنْهُمْ، فَتَشَاوَرُوا وَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ (عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ) نَائِبُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِ: ﴿يا أيها الذن آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فَقَالُوا: نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَنَذَرُ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فتركوه كلهم (ذكره ابن جريج ومقاتل والسدي) وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَعَاطِي الرِّبَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ﴾ أَيِ اسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ، وتقدم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الربا لا ينزع عنه كان حقًا عَلَى ⦗٢٥٠⦘ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ وإلا ضرب عنقه. وقال قتادى: أو عدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجًا (أي دماؤهم مهدورة) أين ما ما أتو، فإياكم ومخالطة هَذِهِ الْبُيُوعَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ)
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلمون﴾ أَيْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ ﴿وَلاَ تُظْلمون﴾ أَيْ بِوَضْعِ رُؤُوسِ الْأَمْوَالِ أَيْضًا بَلْ لَكُمْ مَا بَذَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ ولا نقص منه، خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ عَنْكُمْ كُلُّهُ، لَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظلمون وَلَا تُظلمون، وَأَوَّلُ رِبًا مَوْضُوعٍ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب موضوع كله» (رواه ابن أبي حاتم)
وقوله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، يَأْمُرُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يجد وقاء، فَقَالَ: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ لَا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِمَدِينِهِ إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، ثُمَّ يَنْدُبُ إِلَى الْوَضْعِ عَنْهُ وَيَعِدُ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ، فَقَالَ: ﴿وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ وَأَنْ تَتْرُكُوا رَأْسَ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَضَعُوهُ عَنِ الْمَدِينِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ.
(فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ فَلْيُيَسِّرْ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ لِيَضَعْ عَنْهُ» (رواه الطبراني)
(حديث آخر): عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، وَكَانَ يأتيه تقاضاه فيختبىء مِنْهُ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَخَرَجَ صَبِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي الْبَيْتِ يَأْكُلُ خزيرة، فناداه فقال: يا فلان اخرج فقد اخبرت أنك ها هنا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا يُغَيبك عَنِّي؟ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ وَلَيْسَ عِنْدِي، قَالَ: آللَّهَ إِنَّكَ مُعْسِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَكَى أَبُو قَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ القيامة» (رواه أحمد والإمام مسلم)
(حَدِيثٌ آخَرُ): عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَتَى اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ: مَاذَا عَمِلْتَ لِي فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: مَا عَمِلْتُ لَكَ يَا رَبِّ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الدُّنْيَا أَرْجُوكَ بِهَا - قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ الْعَبْدُ عِنْدَ آخِرِهَا: يَا رَبِّ إِنَّكَ كنت أَعْطَيْتَنِي فَضْلَ مَالٍ، وكنتُ رَجُلًا أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الموسر وأنظر المعسر، فقال، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَنَا أَحَقُّ مَنْ ييسر، أدخل الجنة» (أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة) ولفظ البخاري عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ»
(حَدِيثٌ آخَرُ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ سَهْلًا حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ ⦗٢٥١⦘ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سبيل الله أو عازيًا أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رقبته أظله اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظله» (رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد)
(حديث آخر): أخرج مسلم في صحيحه من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلَكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَنَا (أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضَمامة (مجموعة) مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ (ثوب ينسب إلى حي في همدان) وعلى غالمه بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيٌّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ، إني أرى في وجهك سَعْفة (طبيعة من غضب) مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فلان بن فلان الرامي مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَسَلَّمْتُ فَقُلْتُ أثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْر (كرش واسع) فَقُلْتُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أريكة (سرير فاخر) أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إليَّ فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثثك فأكذبك أو أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا قَالَ، قلت: الله. قال: الله؟ ثم قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حل، فأشهدُ: أبصَر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمعَ أذناي هاتان ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قَلْبِهِ - رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عنه أظله الله في ظله».
(حديث آخر) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يقول بيده هكذا - وأومأ أبو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ -: «مَنْ أَنْظَرَ معسرا أو وضع عنه وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عمل الجنة حَزْن (ما غلظ من الأرض) بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بسهوة (أرض لينة ملائمة) وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ الله جوفه إيمانًا» (تفرد به أحمد)
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم وزوال الدُّنْيَا وَفَنَاءَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَإِتْيَانَ الْآخِرَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَمُحَاسَبَتُهُ تَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمُجَازَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَسَبُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَتُهُ فَقَالَ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ آية نزلت من القرآن العظيم، فقال سعيد بن جبير: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، وَعَاشَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، ثُمَّ مَاتَ ⦗٢٥٢⦘ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الْآيَةَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاشَ بَعْدَهَا تسع ليال وبدىء يوم السبت ومات يوم الإثنين.
- ٢٨٢ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ أَحْدَثَ القرآن بالعرش آية الدَّين.
فقوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إذا تداينم بدين أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، هَذَا إِرْشَادٌ مِنْهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا تَعَامَلُوا بِمُعَامَلَاتٍ مُؤَجَّلَةٍ أَنْ يَكْتُبُوهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لِمِقْدَارِهَا وَمِيقَاتِهَا وَأَضْبُطَ لِلشَّاهِدِ فِيهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أن لا ترتابوا﴾، وقال مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾. قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي السَّلَمِ إلى أجل معلوم، وقال قتادة عن ابن عباس: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثمار السنة والسنتين وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، وَقَوْلُهُ: ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أمر منه تعالى بالكتابة لِلتَّوْثِقَةِ وَالْحِفْظِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الدِّين مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ ⦗٢٥٣⦘ أَصْلًا، لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِكِتَابَتِهِ إِنَّمَا هُوَ أَشْيَاءُ جُزْئِيَّةٌ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ، فَأُمِرُوا أَمْرَ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ إِيجَابٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَنِ ادَّانَ فَلْيَكْتُبْ وَمَنِ ابْتَاعَ فليُشْهد، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ (أَبَا سُلَيْمَانَ الْمَرْعَشِيَّ) كَانَ رَجُلًا صَحِبَ كَعْبًا فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ فَلَمْ يُشْهد وَلَمْ يَكْتُبْ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى رَبَّهُ، وقال الحسن وابن جريج: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فليؤد الذي ائتمن أمانته﴾. والدليل على ذلك أيضًا الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقررًا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد.
قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أن يسلفه ألف دينار، فقال: أئتن بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ؟ قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زجَّج (أصلح موضع ما نقره) مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللهم إنك قد علمت أين اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا تَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مركبًا قبل الذي أتت فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إليَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ؟ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ في الخشبة فانصرف بألفك راشدًا (قال ابن كثير: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الجزم)
وقوله تعالى: ﴿فليكتب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ أَيْ بِالْقِسْطِ وَالْحَقِّ وَلَا يَجُرْ فِي كِتَابَتِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَكْتُبْ إِلَّا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يكتب أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ أَيْ وَلَا يَمْتَنِعْ مَنْ يَعْرِفُ الْكِتَابَةَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ وَلَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَمَا علَّمه اللَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلْيَكْتُبْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُعِينَ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعَ لِأَخْرَقَ»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، أَيْ وَلْيُمْلِلِ الْمَدِينُ عَلَى الْكَاتِبِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ أَيْ لَا يَكْتُمُ مِنْهُ شَيْئًا، ⦗٢٥٤⦘ ﴿فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا﴾ محجورًا عليه بتبذيره وَنَحْوِهِ ﴿أَوْ ضَعِيفًا﴾ أَيْ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ﴿أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ﴾ إِمَّا لِعَيٍّ أَوْ جَهْلٍ بِمَوْضِعِ صَوَابِ ذَلِكَ مِنْ خطئه ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل﴾.
وقوله تعالى: ﴿واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رجالكم﴾ أم بالاستشهاد مَعَ الْكِتَابَةِ لِزِيَادَةِ التَّوْثِقَةِ، ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ لِنُقْصَانِ عَقْلِ الْمَرْأَةِ كَمَا قال مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: «أَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهَا فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نقصان الدين».
وقوله تعالى: ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ، وَهَذَا مقيَّد حكَم بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى كُلِّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ، وَقَدِ استدل من رد المستور بهذه الآية الدلالة عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَدْلًا مُرْضِيًا. وَقَوْلُهُ: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾ يَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا نَسِيَتِ الشَّهَادَةَ ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ أَيْ يَحْصُلُ لَهَا ذكر بما وقع به من الإشهاد.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ﴾، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ فَعَلَيْهِمُ الْإِجَابَةُ، وَهُوَ قول قتادة والربيع، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ﴾، ومن ههنا استفيد أن تحمُّل الشهادة فرض كفاية، قيل: هو مذهب الجمهور والمراد بِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ﴾ لِلْأَدَاءِ لِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ: ﴿الشُّهَدَاءُ﴾ وَالشَّاهِدُ حَقِيقَةً فِيمَنْ تَحَمَّلَ فَإِذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ، وَإِلَّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وقال مجاهد: إِذَا دُعِيتَ لِتَشْهَدَ فَأَنْتِ بِالْخِيَارِ، وَإِذَا شَهِدْتَ فَدُعِيتَ فَأَجِبْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْألها»، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُستشهَدوا»، وَكَذَا قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ تَسْبِقُ أَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ وَتَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ ولا يستشهدون» فهؤلاء شهود الزور.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلىأجله﴾ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِرْشَادِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِكِتَابَةِ الْحَقِّ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، فَقَالَ: ﴿وَلاَ تسأموا﴾ أي لا تملوا أن تكبوا الْحَقَّ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ إِلَى أَجَلِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ لِلْحَقِّ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، هُوَ ﴿أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ أي أعدل، ﴿،أقوم لِلشَّهَادَةِ﴾ أي أثبت للشاهد إذا ووضع خَطَّهُ ثُمَّ رَآهُ تَذَكَّرَ بِهِ الشَّهَادَةَ لِاحْتِمَالِ إنه لو لم يكتبه أن نساه كما هو الواقع غالبًا، ﴿وأدنى أن لا تَرْتَابُوا﴾ وَأَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الرِّيبَةِ بَلْ تَرْجِعُونَ عند التنازع إلى الكتب الَّذِي كَتَبْتُمُوهُ فَيَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِلَا رِيبَةٍ.
⦗٢٥٥⦘ وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حاضرة تديرونا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا﴾ أَيْ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِالْحَاضِرِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِعَدَمِ الْكِتَابَةِ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ فِي تَرْكِهَا.
فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَدْ قال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ يَعْنِي أَشْهَدُوا عَلَى حَقِّكُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ أَجَلٌ أَوَ لَمْ يَكُن فيه أجل، فأشهدوا على حقكم على كل حال، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ: هَذَا الْأَمْرُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذي ائتمن أَمَانَتَهُ﴾، وَهَذَا الْأَمْرُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ ليقضيه ثم فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ابْتَاعَهُ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمُ الْأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ النبي ﷺ، فنادى الأعربي النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ، وَإِلَّا بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ منه؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلْ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ»، فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَالْأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، فَطَفِقَ الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني بايعتك. فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: وَيْلَكَ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ فَاسْتَمَعَ لِمُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمُرَاجَعَةِ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بعايعتك، قَالَ خُزَيْمَةُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ «بِمَ تَشْهَدُ»؟ فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين (رواه الإمام أحم) ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَرَجُلٌ أقرض رجلا مالًا فلم يُشهد» (قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولم يخرجاه).
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَلَا الشَّاهِدُ فَيَكْتُبُ هَذَا خِلَافَ مَا يُمْلَى، وَيَشْهَدُ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَمِعَ، أَوْ يَكْتُمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقتادة، وقيل: معناه لا يُضِر بهما.
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ أَيْ إِنْ خالفتم ما أمرتم به، أو فعلتم مَا نَهِيتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ فِسْقٌ كَائِنٌ بِكُمْ، أَيْ لَازِمٌ لَكُمْ لَا تَحِيدُونَ عَنْهُ وَلَا تَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ خَافُوهُ وَرَاقِبُوهُ وَاتَّبِعُوا أَمْرَهُ وَاتْرُكُوا زَجْرَهُ، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فرقانا﴾ وَكَقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تمشون به﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَعَوَاقِبِهَا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميع الكائنات.
- ٢٨٣ - وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ⦗٢٥٦⦘ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
يقول تعالى: ﴿إن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أَيْ مُسَافِرِينَ وَتَدَايَنْتُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، ﴿وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا﴾ يَكْتُبُ لَّكُمْ، قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسًا أو دواة أو قلمًا ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ أَيْ فَلْيَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾، على أنالرهن لَا يُلْزِمُ إِلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ، وَاسْتَدَلَّ آخَرُونَ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّهْنُ مَشْرُوعًا إِلَّا فِي السَّفَرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ وَسْقًا من شعير رهنها قوتًا لأهله.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بعضاَ فَلْيُؤَدِّ الذي ائتمن أَمَانَتَهُ﴾ روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا ائْتَمَنَ بعضكم بعضًا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا، وقوله: ﴿وليتقي اللَّهَ رَبَّهُ﴾ يُعْنَى الْمُؤْتَمَنُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وأهل السنن عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حتى تؤديه».
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ﴾ أَيْ لَا تُخْفُوهَا وتغلُّوها وَلَا تُظْهِرُوهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَكِتْمَانُهَا كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ قَالَ السُّدي: يعن فَاجْرٌ قَلْبُهُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهولى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ وهكذا قال ههنا: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
- ٢٨٤ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهم، وَأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِيهِنَّ لَا تَخْفَى عليه الظواهر ولا السارئر والضمائر وإن دقت خفيت، وأخبر سَيُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا فَعَلُوهُ وَمَا أَخْفَوْهُ في صدورهم، كماقال تعالى: ﴿قل إن تخفوا مافي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يعلمه الله﴾، وقال: ﴿يَعْلَمُ السر وأخفى﴾، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذِهِ بِمَزِيدٍ عَلَى الْعِلْمِ وَهُوَ (الْمُحَاسَبَةُ) على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه اظلاية اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَخَافُوا مِنْهَا وَمِنْ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى جَلِيلِ الْأَعْمَالِ وَحَقِيرِهَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ إِيمَانِهِمْ وإيقانهم.
⦗٢٥٧⦘ روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ثم جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفنا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، فَلَمَّا أقرَّ بِهَا الْقَوْمُ وذلَّت بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ فَلَمَّا فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل قوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ الله نفسًا إلى وُسْعَهَا لَهَا مَا كسبت وعليها ما اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إلى آخره، ورواه مسلم عن أبي هريرة وَلَفْظُهُ: فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ الله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعليها ما اكتسبت، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قَالَ: نَعَمْ، ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾، قَالَ: نَعَمْ ﴿رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، قَالَ: نَعَمْ ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فاصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ قال: نعم.
(طريق أخرى): قال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ الْآيَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ وَاخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى ابْنُ عُمَرَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ، قَالَ ابْنُ مَرْجَانَةَ: فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَا فَعَلَ حِينَ تَلَاهَا فقال ابن عَبَّاسٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَعَمْرِي لَقَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا حِينَ أُنْزِلَتْ مِثْلَ مَا وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَهَا: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة لمسلمين بِهَا، وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ قَضَى اللَّهُ عز وجل أَنَّ لِلنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
(طَرِيقٌ أُخرى): عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ قَرَأَ: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله﴾ فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه بان عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَقَدْ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُنْزِلَتْ فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمُ الستة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَالَ اللَّهُ إِذَا همَّ عبيد بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرًا». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ ⦗٢٥٨⦘ سَيِّئَةٍ تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عز وجل» (رواه مسلم) وقال مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ - ثُمَّ بيَّن ذَلِكَ - فَمَنْ همَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ همَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنهد سيئة واحدة» (أخرجهما مسلم) وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فسألوه فقالوا: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان». وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن الوسوسة، قال: «تلك صريح الإيمان» (أخرجهما مسلم).
وروى ابن جرير عن مجاهد والضحّاك أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمُحَاسِبَةِ الْمُعَاقِبَةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُحَاسِبُ وَيَغْفِرُ، وَقَدْ يُحَاسِبُ وَيُعَاقِبُ، بِالْحَدِيثِ الَّذِي رواه قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وهو يطوف إذا عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول في النجوى؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: "يدنوا الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى يَضَعَ عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وإني أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، قَالَ: فَيُعْطَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ أَوْ كِتَابُهُ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بهم على رؤوس الأشهاد ﴿هؤلاء الذي كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظالمين﴾ (الحديث مخرج في الصحيحين من طرق متعددة)
- ٢٨٥ - آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
- ٢٨٦ - لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وعليها ما اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمَا)
(الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ): قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ - مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ في ليلة كفتاه»
⦗٢٥٩⦘ (الحديث الثاني)، قال الإام أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نبي قبلي».
(الحديث الثالث): قال مسلم عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يعرج مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يهبط مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المقحمات.
(الحديث الرابع﴾: قال أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقرأ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنِّي أُعْطِيتُهُمَا من كنز تحت العرش»
(الحديث الخامس): قال ابن مردوية عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ أوتيت هذه الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ قَبْلِي ولا يعطاها أحد بعدي»، الحديث.
(الحديث السادس) قال ابن مردوية عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا أَرَى أحدًا عقل الْإِسْلَامُ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمَ سورة البقرة فإنها من كَنْزٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ من تحت العرش.
(الحديث السابع) قال الترمذي عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كتابًا قبل أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليلا فيقر بها شيطان»، ثم قال هذا حديث غريب.
(الحديث الثامن﴾: قال ابن مردوية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ضَحِكَ وَقَالَ: «إِنَّهُمَا مِنْ كَنْزِ الرَّحْمَنِ تَحْتَ الْعَرْشِ» وَإِذَا قَرَأَ: ﴿ومن يعمل سوءًا يجز به﴾، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ اسْتَرْجَعَ وَاسْتَكَانَ ..
(الْحَدِيثُ التَّاسِعُ) قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أُعْطِيتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَالْمُفَصَّلَ نَافِلَةً».
(الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ): قَدْ تَقَدَّمَ فِي فضائل الفاتحة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعِنْدَهُ جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا فَوْقَهُ فَرَفَعَ جِبْرِيلُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ قَدْ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ فَنَزَلَ مِنْهُ ملك فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُوتِيتُهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنسائي.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ إِخْبَارٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ. روى الحاكم في مستدركه عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ﴾ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ «حُقَّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ» ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
⦗٢٦٠⦘ وقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ عَطْفٌ عَلَى الرَّسُولُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَقَالَ: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ فَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ، فَرْدٌ صَمَدٌ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، لَا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببععض وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، بَلِ الْجَمِيعُ عِنْدَهُمْ صَادِقُونَ بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بع بِإِذْنِ اللَّهِ حَتَّى نُسِخَ الْجَمِيعُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِي تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أَيْ سَمِعْنَا قَوْلَكَ يَا رَبَّنَا وَفَهِمْنَاهُ وَقُمْنَا بِهِ وَامْتَثَلْنَا الْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ سؤال للمغفرة والرحمة واللطف.
قال ابن جرير: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أَيْ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَةُ الرَّافِعَةُ لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾، أَيْ هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا بِمَا يَمْلِكُ الشخص دفعه، فأما مَا لاَ يَمْلِكُ دَفْعُهُ مِنْ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَحَدِيثِهَا فَهَذَا لَا يُكَلِّفُ بِهِ الْإِنْسَانَ، وَكَرَاهِيَةُ الْوَسْوَسَةِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنْ خَيْرٍ، ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنْ شَرٍّ، وَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُرْشِدًا عِبَادَهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَقَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْإِجَابَةِ كَمَا أَرْشَدَهُمْ وعلَّمهم أن يقولوا: ﴿بنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ أي إن تركنا فرضنا عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، أَوْ فَعَلْنَا حَرَامًا كَذَلِكَ، أَوْ أَخْطَأْنَا أَيِ الصَّوَابَ فِي الْعَمَلِ جَهْلًا منه بوجهه الشرعي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:»إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (رواه ابن ماجه وابن حبان) وعن أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثلاث: الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ وَالِاسْتِكْرَاهِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ: أَجَلْ أَمَا تَقْرَأُ بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (رواه ابن أبي حاتم)
وقوله تعالى: ﴿ربنا لوا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كما حملت عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا﴾ أَيْ لَا تُكَلِّفُنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإِنْ أَطَقْنَاهَا، كَمَا شَرَعْتَهُ للأمم الماضية قلنا مِنَ الْأَغْلَالِ وَالْآصَارِ، الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الَّتِي بَعَثْتَ نَبِيَّكَ مُحَمَّدًا ﷺ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ بِوَضْعِهِ، فِي شَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ به من الدين الحنيفي السهل السمح. وجاء في الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السمحة».
⦗٢٦١⦘ وقوله تعالى: ﴿بنا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ أَيْ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ لَا تَبْتَلِينَا بِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، وَقَدْ قَالَ مكحول في قوله: ﴿رَبَّنَا لوا تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ قَالَ: العزبة والغلمة.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أَيْ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِمَّا تَعْلَمُهُ مِنْ تَقْصِيرِنَا وَزَلَلِنَا، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾ أَيْ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ عِبَادِكَ فَلَا تُظْهِرُهُمْ عَلَى مُسَاوِينَا وَأَعْمَالِنَا الْقَبِيحَةِ، ﴿وَارْحَمْنَا﴾ أَيْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا تُوقِعُنَا بِتَوْفِيقِكَ فِي ذَنْبٍ آخَرَ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِن الْمُذْنِبَ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنْ يَسْتُرَهُ عَنْ عِبَادِهِ فَلَا يَفْضَحُهُ بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُوقِعُهُ فِي نَظِيرِهِ.
وقوله تعالى: ﴿أَنتَ مَوْلاَنَا﴾ أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنَا وَنَاصِرُنَا وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ لنا ولا قوة إِلَّا بِكَ، ﴿فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ أَيِ الَّذِينَ جَحَدُوا دِينَكَ وَأَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّتَكَ وَرِسَالَةَ نَبِيِّكَ، وَعَبَدُوا غَيْرَكَ وَأَشْرَكُوا مَعَكَ مِنْ عِبَادِكَ، فَانْصُرْنَا عليهم.
قال ابن جرير عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ قال: آمين.