بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ
﴿حم
(١)
عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)﴾
﴿حم
عسق﴾ سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِمَ يُقَطَّعُ حم عسق وَلَمْ يُقَطَّعْ
كهيعص؟ فَقَالَ: لِأَنَّهَا سُورَةٌ أَوَائِلُهَا حم، فَجَرَتْ مَجْرَى
نَظَائِرِهَا، فَكَانَ «حم» مبتدأ و«عسق» خَبَرَهُ، وَلِأَنَّهُمَا عُدَّا
آيَتَيْنِ، وَأَخَوَاتُهَا مثل: «كهيعص» و«المص» و«المر» عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ
التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي «كهيعص» وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ
التَّهَجِّي لَا غَيْرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي «حم» فَأَخْرَجَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ
حَيِّزِ الْحُرُوفِ وَجَعَلَهَا فِعْلًا وَقَالَ: مَعْنَاهَا حَمَّ أَيْ: قَضَى مَا
هُوَ كَائِنٌ. (٢)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: ح حِلْمُهُ، م مَجْدُهُ، ع عِلْمُهُ، س سَنَاؤُهُ، ق قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا.
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ح حَرْبٌ يَعِزُّ فِيهَا الذَّلِيلُ وَيَذِلُّ فِيهَا الْعَزِيزَ مِنْ قُرَيْشٍ، م مُلْكٌ يَتَحَوَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، ع عَدُوٌّ لِقُرَيْشٍ يقصدهم، س سيء، يَكُونُ فِيهِمْ، ق قُدْرَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ فِي خَلْقِهِ.
(١) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن
الزبير- رضي الله
عنهم: نزلت (حم
عسق) بمكة. وذكر صاحب البحر المحيط: ٧ / ٥٠٧ «أنها مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة
وجابر. وقال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات من قوله:»قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى«إلى آخر الأربع آيات فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل: فيها مدني
قوله»ذلك الذي يبشر الله عباده«إلى»الصدور«، انظر: الدر المنثور: ٧ / ٣٣٥.
(٢)
انظر: القرطبي: ١٦ / ١، وراجع فيما سبق: ١ / ٥٨-٥٩. وفي هذا الجزء ص»١٤٢«تعليق»٤".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ
أُوحِيَتْ إِلَيْهِ «حم عسق». (١) فَلِذَلِكَ قَالَ:
﴿كَذَلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ﴾ . ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «يُوحَى»
بِفَتْحِ الْحَاءِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ» (الزُّمَرِ-٦٥)، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ،
﴿اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [تَبْيِينٌ لِلْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ
يُوحِي؟ فَقِيلَ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] . (٢)
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ «يُوحِي»
بِكَسْرِ الْحَاءِ، إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
الله عنهما: يُرِيدُ
أَخْبَارَ الْغَيْبِ.
﴿لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (٧)﴾
﴿لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ منها تتفطر
١١٤/ب فَوْقَ
الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدَا»
نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ
جِئْتُمْ شَيْئًا إدا تكاد السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» (مَرْيَمَ ٨٨-٩٠) .
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ﴿أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ﴾ .
﴿وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ يَحْفَظُ
أَعْمَالَهُمْ وَيُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا، ﴿وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ لَمْ يُوَكِّلْكَ اللَّهُ بِهِمْ حَتَّى تُؤْخَذَ بِهِمْ.
﴿وَكَذَلِكَ﴾
مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ
أُمَّ الْقُرَى﴾ مَكَّةَ، يَعْنِي: أَهْلَهَا، ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يَعْنِي قُرَى
الْأَرْضِ كُلَّهَا، ﴿وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾ أَيْ: تُنْذِرُهُمْ بِيَوْمِ
الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرين
وأهل السموات وَأَهْلَ الْأَرْضِينَ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لَا شَكَّ
(١) انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٧١.
(٢)
ما بين القوسين ساقط من «أ».
فِي الْجَمْعِ أَنَّهُ كَائِنٌ ثُمَّ
بَعْدَ الْجَمْعِ يَتَفَرَّقُونَ. ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ﴾ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْخَشْمَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ،
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي
الزَّاهِرِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ كُرَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ، قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ،
حَدَّثَنِي أَبُو قُبَيْلٍ الْمُعَافِرِيُّ عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ
يَوْمٍ قَابِضًا عَلَى كَفَّيْهِ وَمَعَهُ كِتَابَانِ، فَقَالَ: «أَتُدْرُونَ مَا
هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟» قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «لِلَّذِي
فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ
أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا
نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ فَلَيْسَ
بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، [ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: هَذَا كِتَابٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ
وَعَشَائِرِهِمْ وَعِدَّتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي
الْأَصْلَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِذْ هُمْ
فِي الطِّينَةِ مُنْجَدِلُونَ، فَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِيهِمْ وَلَا بِنَاقِصٍ
مِنْهُمْ، إِجْمَالٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] (١)،
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ:»اعْمَلُوا وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ
يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ
صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ
عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ» فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، «وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ»، عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل«. (٢)
﴿وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي
رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨)﴾
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما: عَلَى
دِينٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:»وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى«(الْأَنْعَامِ-٣٥)،
﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ،
﴿وَالظَّالِمُونَ﴾ الْكَافِرُونَ، ﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ﴾ يَدْفَعُ عَنْهُمُ
الْعَذَابَ، ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّارِ.
(١) ما بين القوسين ساقط من»ب".
(٢)
أخرجه الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن: ٦ / ٣٥٠-٣٥٢،
والنسائي في التفسير: ٢ / ٢٦٥، وابن أبي عاصم في السنة: ١ / ١٥٤، والإمام أحمد: ٢
/ ١٦٧، والطبري: ٢٥ / ٩، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٣٧ لابن المنذر وابن
مردويه. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (٨٤٨) .
﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٩)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ
شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)﴾
﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ يُنِيبُ (١٣)﴾
﴿أَمِ
اتَّخَذُوا﴾ [بَلِ اتَّخَذُوا، أَيْ: الْكَافِرُونَ] (١)، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ [أَيْ:
مِنْ دُونِ اللَّهِ] (٢)، ﴿أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ [قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما] (٣):
وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ
مَنِ اتَّبَعَكَ، ﴿وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
﴿وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، ﴿فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ﴾ يَقْضِي فِيهِ وَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَصْلِ الَّذِي
يُزِيلُ الرَّيْبَ، ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ
هُوَ، ﴿رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ .
﴿فَاطِرُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ مِنْ
مِثْلِ خَلْقِكُمْ حَلَائِلَ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ «مِنْ أَنْفُسِكُمْ»
لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾
أَصْنَافًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يَخْلُقُكُمْ، ﴿فِيهِ﴾ أَيْ: فِي
الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ
الْخِلْقَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَسَلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: «فِي»، بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُكَثِّرُكُمْ بِالتَّزْوِيجِ. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
«مِثْلُ» صِلَةٌ، أَيْ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ، فَأَدْخَلَ الْمِثْلَ
لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ»
(الْبَقَرَةِ-١٣٧)، وَقِيلَ: الْكَافُ صِلَةٌ، مَجَازُهُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾ .
﴿لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مَفَاتِيحُ الرِّزْقِ فِي السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ. ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ بِيَدِهِ، ﴿إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ بَيَّنَ وَسَنَّ لَكُمْ، ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ وَهُوَ
أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْصَيْنَاكَ وَإِيَّاهُ يَا
مُحَمَّدُ دِينًا وَاحِدًا. ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ مِنْ
(١) ما بين القوسين ساقط من «ب».
(٢)
ما بين القوسين ساقط من «ب».
(٣)
ما بين القوسين ساقط من «ب».
الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ
الْإِسْلَامِ، ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَتَادَةُ: تَحْلِيلُ الْحَلَالِ
وَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ
وَالْأَخَوَاتِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ
اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
وَالْإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ لَهُ، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ
لَهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ
وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ. (١) وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ بَعَثَ اللَّهُ
الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ
وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ.
﴿كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ
الْأَوْثَانِ ثُمَّ قَالَ: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يَصْطَفِي
إِلَيْهِ (٢) مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾
يُقْبِلُ إِلَى طَاعَتِهِ.
﴿وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)﴾
﴿وَمَا
تَفَرَّقُوا﴾ يَعْنِي أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَ فِي
سُورَةِ الْمُنْفَكِّينَ. ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ بِأَنَّ
الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ، ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ:
لِلْبَغْيِ، قَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ،
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ،
﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾
بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَكَفَرَ، يَعْنِي أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْمُكَذِّبِينَ فِي
الدُّنْيَا، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ﴾ يعني ١١٥/أالْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى، ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ مِنْ بَعْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ
بَعْدِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ. ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ أَيْ: مَنَّ
مُحَمَّدٍ ﷺ.
﴿فَلِذَلِكَ
فَادْعُ﴾ أَيْ: فَإِلَى ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَعَوْتُ إِلَى فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ،
وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ التَّوْحِيدِ،
﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ،
(١) انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٧٦، القرطبي: ١٦
/ ١١.
(٢)
في «ب» لدينه.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ أَيْ: آمَنْتُ بِكُتُبِ اللَّهِ
كُلِّهَا، ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ] (١)،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أُمِرْتُ أَنْ لَا أَحِيفَ عَلَيْكُمْ بِأَكْثَرَ
مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: لِأَعْدِلَ
بَيْنَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ، ﴿اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ يَعْنِي: إِلَهُنَا
وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُنَا، فَكَلٌّ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، ﴿لَا
حُجَّةَ﴾ لَا خُصُومَةَ، ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ
(٢)، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيبُ خُصُومَةٌ، ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ فِي
الْمَعَادِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ .
(١) زيادة من «ب».
(٢)
انظر فيما سبق: ٣ / ٣٣ تعليق (١) .
﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ
فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)﴾
﴿وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ قَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ،
وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، فَهَذِهِ
خُصُومَتُهُمْ. (١) ﴿مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ [أَيْ: اسْتَجَابَ لَهُ]
(٢) النَّاسُ فَأَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي دِينِهِ لِظُهُورِ مُعْجِزَتِهِ،
﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ خُصُومَتُهُمْ بَاطِلَةٌ، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ فِي الْآخِرَةِ. ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ:
سُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ
وَالتَّسْوِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ الْبَخْسِ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ﴾ وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةً لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ،
وَمَجَازُهُ: الْوَقْتُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ. قَالَ
مُقَاتِلٌ: ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ السَّاعَةَ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا تَكْذِيبًا: مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾
ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ﴾
أَيْ: خَائِفُونَ، ﴿مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ أَنَّهَا آتِيَةٌ
لَا رَيْبَ فِيهَا،
(١) انظر: الطبري: ٢٥ / ١٩.
(٢)
زيادة من «ب».
﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ﴾
يُخَاصِمُونَ، وَقِيلَ: تَدْخُلُهُمُ الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ، ﴿فِي السَّاعَةِ
لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾
﴿اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)﴾
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حَفِيٌّ بِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ:
بَارٌّ بِهِمْ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: رَفِيقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بِالْبَرِّ
وَالْفَاجِرِ حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ:
قَوْلُهُ «يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ» (الْبَقَرَةِ-٢١٢)، وَكُلُّ مَنْ رَزَقَهُ
اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَذِي رُوحٍ فَهُوَ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ
يَرْزُقَهُ. قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: اللُّطْفُ فِي الرِّزْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقَكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ
لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْكَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. (١) ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ﴾ . ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ الْحَرْثُ فِي اللُّغَةِ:
الْكَسْبُ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ، ﴿نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ﴾ بِالتَّضْعِيفِ بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الزِّيَادَةِ، ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا﴾ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ
الدُّنْيَا، ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: نُؤْتِهِ بِقَدْرِ مَا
قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا قَالَ: «عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ» (الْإِسْرَاءِ-١٨) . ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ لِأَنَّهُ
لَمْ يَعْمَلْ لِلْآخِرَةِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو
عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ
الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى
بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ الْعَبْدِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ
الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُشِّرَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ
وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ
الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» (٢)
.
(١) انظر: القرطبي: ١٦ / ١٦.
(٢)
أخرجه الإمام أحمد: ٥ / ١٣٤، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ١٠ / ٢٢٠ «رواه أحمد
وابنه من طرق، ورجال أحمد رجال الصحيح». وابن حبان في موارد الظمآن برقم: (٢٥٠١) ص
٦١٨، والحاكم: ٤ / ٣١١ وصححه ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٣٣٥.
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ
مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)﴾
﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ
لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)﴾
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾
يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، يَقُولُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ سَنُّوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
شَرَعُوا لَهُمْ دِينًا غَيْرَ دِينِ
الْإِسْلَامِ.
﴿وَلَوْلَا
كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي كَلِمَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ
الْخَلْقِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ
قَالَ: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ» (الْقَمَرِ-٤٦)، ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾
لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ فِي الدُّنْيَا، ﴿وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فِي الْآخِرَةِ.
﴿تَرَى
الظَّالِمِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿مُشْفِقِينَ﴾ وَجِلِينَ،
﴿مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ جَزَاءُ كَسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ،
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ .
﴿ذَلِكَ
الَّذِي﴾ ذَكَرْتُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، ﴿يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ، ﴿قُلْ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ قال: سمعت طاووسًا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما-أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي
الله عنهما: عَجِلْتَ،
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ
قَرَابَةٌ، فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ
الْقَرَابَةِ. (١)
وَكَذَلِكَ روى الشعبي وطاووس عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»
(١) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة
(حم عسق)، باب: «إلا المودة في القربى» ٨ / ٥٦٤.
يَعْنِي: أَنْ تحفظوا قرابتي وتودوتي
وَتَصِلُوا رَحِمِي. (١) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ،
وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، رضي الله عنهم.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَحْفَظُونِي
فِي قَرَابَتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (٢)، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْكَذَّابُونَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا
اللَّهَ وَتَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ (٣)، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ،
قَالَ: هُوَ الْقُرْبَى إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ: إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى
اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ
إِلَّا أن تودوا ١١٥/ب قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي وَتَحْفَظُونِي فِيهِمْ، وَهُوَ
قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَرَابَتِهِ
قِيلَ: هُمْ فَاطِمَةُ وَعَلِيٌّ وَأَبْنَاؤُهُمَا، وَفِيهِمْ نَزَلَ: «إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ»
(الْأَحْزَابِ-٣٣) .
وَرُوِّينَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ
حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ
فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ
فِي أَهْلِ بَيْتِي»، قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ قَالَ:
هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. (٤)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ قَالَ: ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ. (٥)
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَحْرُمُ
عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَيُقَسَّمُ فِيهِمُ الْخُمْسُ، وَهُمْ
بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ. (٦)
وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ الْآيَةُ
مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَهُمْ فِيهَا
بِمَوَدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَصِلَةِ رَحِمِهِ (٧)، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ وَآوَاهُ
(١) عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح.
انظر: المطالب العالية: ٣ / ٣٦٨.
(٢)
عزاه ابن حجر لأحمد بن منيع بإسناد صحيح. انظر: المطالب العالية: ٣ / ٣٦٨.
(٣)
انظر: الطبري: ٢٥ / ٢٣.
(٤)
أخرجه الإمام أحمد: ١ / ٢٦٨. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ٧ / ١٠٣ «رواه أحمد
والطبراني ورجال أحمد فيهم قزعة بن سويد، وثقه ابن معين وغيره، وفيه ضعف، وبقية
رجاله ثقات»، والحاكم: ٢ / ٤٤٣-٤٤٤ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه،
ووافقه الذهبي، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٤٧ عزوه لابن أبي حاتم وابن
مردويه.
(٥)
قطعة من حديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة: باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، برقم: (٢٤٠٨): ٤ / ١٨٧٣.
(٦)
أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة رسول الله ﷺ: ٧ / ٧٨.
(٧)
انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٨٥.
الْأَنْصَارُ وَنَصَرُوهُ أَحَبَّ
اللَّهُ عز وجل أَنْ يُلْحِقَهُ بِإِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام حَيْثُ
قالوا: «وما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ» (الشُّعَرَاءِ-١٠٩) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «قُلْ مَا
سَأَلَتْكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ»،
فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ: «قل ما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (الزُّمَرِ-٨٦)، وَغَيْرِهَا مِنَ
الْآيَاتِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ
الْفَضْلِ.
وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛
لِأَنَّ مَوَدَّةَ النَّبِيِّ ﷺ وَكَفَّ الْأَذَى عَنْهُ وَمَوَدَّةَ أَقَارِبِهِ،
وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ
فَرَائِضِ الدِّينِ، وَهَذِهِ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَلَا
يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى نَسْخِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: «إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى»، لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ
ذَلِكَ أَجْرًا فِي مُقَابَلَةِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ،
وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنِّي أُذَكِّرُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى
وَأُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي مِنْكُمْ، كَمَا رُوِّينَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ: «أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي».
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ أَيْ: مَنْ يَزِدْ (١) طَاعَةً
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا بِالتَّضْعِيفِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لِلذُّنُوبِ،
﴿شَكُورٍ﴾ لِلْقَلِيلِ حَتَّى يُضَاعِفَهَا.
﴿أَمْ
يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤)﴾
﴿أَمْ
يَقُولُونَ﴾ بَلْ يَقُولُونَ يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ:
يَرْبُطُ عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ أَذَاهُمْ،
وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُفْتَرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي يَطْبَعُ عَلَى قَلْبِكَ
فَيُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَمَا أَتَاكَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ لَفَعَلَ بِهِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ
ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ: وَاللَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ. وَهُوَ فِي
مَحَلِّ رَفْعٍ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ الْوَاوَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى
اللَّفْظِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: «وَيَدْعُ الإنسان» (الإسراء-١١) و«سندع
الزَّبَانِيَةَ» (الْعَلَقِ-١٨)، أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ
يَمْحُوهُ اللَّهُ، ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ أَيِ: الْإِسْلَامَ بِمَا
أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فَمَحَا بَاطِلَهُمْ
وَأَعْلَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، وَقَعَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنْهَا شَيْءٌ
وَقَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَحُثَّنَا عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ،
فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟
فَنَزَلَ:
﴿وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ .
(١) في «ب»: يكتسب.
﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥)﴾
﴿وَهُوَ
الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ (١) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما: يُرِيدُ
أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ، قِيلَ التَّوْبَةُ تَرْكُ الْمَعَاصِيَ نِيَّةً
وَفِعْلًا وَالْإِقْبَالُ عَلَى الطَّاعَةِ نِيَّةً وَفِعْلًا قَالَ سَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: التَّوْبَةُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَذْمُومَةِ
إِلَى الْأَحْوَالِ الْمَحْمُودَةِ. ﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ إِذَا تَابُوا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ،
أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ
بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوِيدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ
أَعُودُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ
بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ، أَظُنُّهُ قَالَ: [فِي بَرِّيَّةٍ] (٢)
مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَزَلَ فَنَامَ
فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ضَلَّتْ (٣) رَاحِلَتُهُ، فَطَافَ عَلَيْهَا حَتَّى
أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، فَقَالَ: أَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ كَانَتْ رَاحِلَتِي
فَأَمُوتُ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ فَأَغْفَى فَاسْتَيْقَظَ فَإِذْ هُوَ بِهَا عِنْدَهُ
عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ». (٤)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الصَّبَاحِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ،
حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمُّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ
أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ
وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً
فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ
مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ
مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ». (٥)
﴿وَيَعْفُو
عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ فَيَمْحُوهَا إِذَا تَابُوا. ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ «تَفْعَلُونَ» بِالتَّاءِ، وَقَالُوا:
هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ بَيْنَ
خَبَرَيْنِ عَنْ قَوْمٍ، فَقَالَ: قَبْلَهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَبَعْدَهُ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
(١) انظر: القرطبي: ١٦ / ٢٦.
(٢)
في «ب» بدوية.
(٣)
في «ب» هلكت.
(٤)
أخرجه البخاري في الدعوات، باب التوبة: ١١ / ١٠٢، ومسلم في التوبة، باب في الحض
على التوبة والفرح بها، برقم: (٢٧٤٤): ٤ / ٢١٠٣، واللفظ له، والمصنف في شرح السنة:
٥ / ٨٤-٨٥.
(٥)
أخرجه مسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم: (٢٧٤٧) ٤ / ٢١٠٤،
والمصنف في شرح السنة: ٥ / ٨٧-٨٨.
﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ (٢٦)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ
إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)﴾
﴿وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ١١٦/أ [أَيْ: وَيُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا] (١)، ﴿وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ﴾ إِذَا دَعَوْهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيُثِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا. ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ سِوَى ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ
تَفَضُّلًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنْهُ: يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ،
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ: فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ.
﴿وَالْكَافِرُونَ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ .
﴿وَلَوْ
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾ قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي
قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةَ (٢) «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ» وَسَّعَ
اللَّهُ الرِّزْقَ ﴿لِعِبَادِهِ﴾ ﴿لَبَغَوْا﴾ لَطَغَوْا وَعَتَوْا، ﴿فِي
الْأَرْضِ﴾ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ
طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا
بَعْدَ مَلْبَسٍ. ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ﴾ أَرْزَاقَهُمْ ﴿بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾
كَمَا يَشَاءُ نَظَرًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ، ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾
.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَفِيدُ
الْعَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي
الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ جِبْرِيلَ عَنِ اللَّهِ عز وجل قَالَ: «يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ،
وَإِنِّي لَأَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرْدُ، وَمَا
تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي الْمُؤْمِنُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا
وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ،
وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رُوحِ
عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا
بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَسْأَلُنِي
الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ عَجَبٌ
فَيُفْسِدُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ
إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ
مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ
وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لِأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ
لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ
(١) زيادة من»ب".
(٢)
ذكره الواحدي في أسباب النزول ص ٤٣٤.
وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ
ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ
إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ
أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ». (١)
﴿وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى
جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)﴾
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ الْمَطَرَ، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ يَعْنِي:
مِنْ بَعْدِ مَا يَئِسَ النَّاسُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى
الشُّكْرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَبَسَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سَبْعَ
سِنِينَ حَتَّى قَنِطُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ
نِعْمَتَهُ، ﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ يَبْسُطُ مَطَرَهُ، كَمَا قَالَ: «وَهُوَ
الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ».
(الْأَعْرَافِ-٧٥) ﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ﴾ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، ﴿الْحَمِيدُ﴾ عِنْدَ
خَلْقِهِ.
﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ «بِمَا كَسَبَتْ» بِغَيْرِ فَاءٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
مَصَاحِفِهِمْ، فَمَنْ حَذَفَ الْفَاءَ جَعَلَ «مَا» فِي أَوَّلِ الْآيَةِ
بِمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ بِمَا كسبت أيديكم. ﴿وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾
قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ وَلَا عَثْرَةِ
قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ
أَكْثَرُ». (٢)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ
الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ
الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنِي الْأَزْهَرُ بْنُ
رَاشِدٍ الْبَاهِلِيُّ عَنِ الْخَضِرِ بْنِ الْقَوَّاسِ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي
سُخَيْلَةَ قَالَ:
(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٥٣
لابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه
وأبي نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخه، وانظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص
(٣٣٨) .
(٢)
أخرجه هناد مرسلا في الزهد: ١ / ٥١٩، وله شواهد عند الترمذي من حديث أبي موسى
الأشعري وعند الطبراني من حديث البراء. انظر: التعليق على كتاب الزهد في الموضع
السابق. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٥٤ لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد،
وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل حَدَّثَنَا بِهَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كسبت أيديكم ويعفوا
عَنْ كَثِيرٍ»، قَالَ: وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: «مَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ،
وَاللَّهُ عز وجل أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةَ فِي
الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ
أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ». (١)
قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا مِنْ نَكْبَةٍ
أَصَابَتْ عَبْدًا فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُ إِلَّا بِهَا، أَوْ دَرَجَةٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُبَلِّغَهَا
إِلَّا بِهَا.
﴿وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١)﴾
(١) أخرجه الإمام أحمد: ١ / ٨٥، والحاكم: ٤ /
٣٨٨، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٥٤ عزوه لابن راهويه وابن منيع وعبد بن
حميد والحكيم الترمذي وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وقال
الهيثمي (٧ / ١٠٤): «فيه أزهر بن راشد وهو ضعيف».
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلَامِ (٣٢)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ
(٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
(٣٥)﴾
﴿وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بِفَائِتِينَ، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ هَرَبًا يَعْنِي لا
تعجزونني حيث ما كُنْتُمْ وَلَا تَسْبِقُونَنِي، ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ .
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ الْجَوَارِي﴾ يَعْنِي: السُّفُنَ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ وَهِيَ
السَّائِرَةُ، ﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ أَيِ: الْجِبَالِ، [قَالَ
مُجَاهِدٌ: الْقُصُورُ، وَاحِدُهَا عَلَمٌ] (١)، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ عَلَمٌ.
﴿إِنْ
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ الَّتِي تُجْرِيهَا، ﴿فَيَظْلَلْنَ﴾ يَعْنِي:
الْجَوَارِيَ، ﴿رَوَاكِدَ﴾ ثَوَابِتَ، ﴿عَلَى ظَهْرِهِ﴾ عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ
لَا تَجْرِي، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أَيْ: لِكُلِّ
مُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ الصَّبْرُ فِي الشِّدَّةِ وَالشُّكْرُ فِي
الرَّخَاءِ.
﴿أَوْ
يُوبِقْهُنَّ﴾ يُهْلِكْهُنَّ وَيُغْرِقْهُنَّ، ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ أَيْ: بِمَا
كَسَبَتْ رُكْبَانُهَا مِنَ الذُّنُوبِ، ﴿وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ مِنْ ذُنُوبِهِمْ
[فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا] (٢) .
﴿وَيَعْلَمَ﴾
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: «وَيَعْلَمُ» بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ عز وجل فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: «وَيَتُوبُ اللَّهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ» (التَّوْبَةِ-١٥)، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى
الصَّرْفِ، وَالْجَزْمُ
(١) ساقط من «أ».
(٢)
ساقط من «ب».
إِذَا صُرِفَ عَنْهُ مَعْطُوفُهُ
نُصِبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (آلِ
عِمْرَانَ-١٤٢)، صُرِفَ مَنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى النَّصْبِ اسْتِخْفَافًا
وَكَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ. ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا
لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا
صَارُوا إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ.
﴿فَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾
﴿فَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا] (١)، ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا﴾ لَيْسَ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [مِنَ
الثَّوَابِ] (٢)، ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي
أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَهُمَا يَتَمَتَّعَانِ بِهَا فَإِذَا صَارَا
إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ.
﴿وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «كَبِيرَ
الْإِثْمِ» عَلَى الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: «كَبَائِرَ» بِالْجَمْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْكَبَائِرِ فِي
سُورَةِ النِّسَاءِ (٣) ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ قَالَ الْسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ﴾ يَحْلُمُونَ وَيَكْظِمُونَ الغيظ ويتجاوزون. ١١٦/ب
﴿وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ
طَاعَتِهِ، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾
يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ وَلَا يَعْجَلُونَ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ﴾ .
﴿وَالَّذِينَ
إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، ﴿هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾
يَنْتَقِمُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنْ
ظَالِمِيهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ»، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ
ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
قَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ
مَكَّنَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُوا مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ (٤)
.
(١) زيادة من «ب».
(٢)
زيادة من «ب».
(٣)
انظر فيما سبق: ٢ / ٢٠١-٢٠٤.
(٤)
انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٩١.
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ
لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)﴾
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ
فَقَالَ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [سَمَّى الْجَزَاءَ
سَيِّئَةً] (١) وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً لِتَشَابُهِهِمَا فِي الصُّورَةِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْقِصَاصَ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ. (٢)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ: هُوَ
جَوَابُ الْقَبِيحِ إِذَا قَالَ: أَخْزَاكَ اللَّهُ تَقُولُ: أَخْزَاكَ اللَّهُ،
وَإِذَا شَتَمَكَ فَاشْتُمْهُ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَدِيَ. (٣)
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ:
قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَا قَوْلُهُ عز وجل: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا»؟ قَالَ: أَنْ يَشْتُمَكَ رَجُلٌ فَتَشْتُمَهُ، وَأَنْ يَفْعَلَ بِكَ
فَتَفْعَلَ بِهِ، فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَسَأَلَتْ هِشَامَ بْنَ
حُجَيْرَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: الْجَارِحُ إِذَا جَرَحَ يُقْتَصُّ
مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ أَنْ يَشْتُمَكَ فَتَشْتُمَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْعَفْوَ فَقَالَ:
﴿فَمَنْ عَفَا﴾ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ﴿وَأَصْلَحَ﴾ بِالْعَفْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ظَالِمِهِ، ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ.
فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. (٤) ﴿إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عباس: الذين يبدؤون بِالظُّلْمِ.
﴿وَلَمَنِ
انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ أَيْ: بَعْدَ ظُلْمِ الظَّالِمِ إِيَّاهُ،
﴿فَأُولَئِكَ﴾ يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ، ﴿مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾
بِعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ.
﴿إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ﴾ يبدؤون بِالظُّلْمِ،
﴿وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي،
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
﴿وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ فَلَمْ يَنْتَصِرْ، ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الصَّبْرَ وَالتَّجَاوُزَ،
﴿لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ حَقِّهَا وَجَزْمِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ
الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّابِرُ يُؤْتَى
بِصَبْرِهِ الثَّوَابَ فَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ أَتَمُّ عَزْمًا.
(١) زيادة من «ب».
(٢)
انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٩٣.
(٣)
انظر: البحر المحيط: ٧ / ٥٢٣، زاد المسير: ٧ / ٢٩٣.
(٤)
ذكره السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٥٩.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)﴾
﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَكِيرٍ (٤٧)﴾
﴿وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ﴾ فَمَا لَهُ مِنْ أَحَدٍ
يَلِي هِدَايَتَهُ بَعْدَ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
﴿يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فِي
الدُّنْيَا. ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ أَيْ: عَلَى النَّارِ،
﴿خَاشِعِينَ﴾ خَاضِعِينَ مُتَوَاضِعِينَ، ﴿مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ﴾ خَفِيِّ النَّظَرِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ يُسَارِقُونَ
النَّظَرَ إِلَى النَّارِ خَوْفًا مِنْهَا وَذِلَّةً فِي أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ:
«مِنْ» بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِطَرْفٍ خَفِيٍّ ضَعِيفٍ مِنَ الذُّلِّ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» لِأَنَّهُ لَا يَفْتَحُ عَيْنَهُ
إِنَّمَا يَنْظُرُ بِبَعْضِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ
بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَالنَّظَرُ بِالْقَلْبِ خَفِيٌّ.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قِيلَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ صَارُوا
إِلَى النَّارِ، وَأَهْلِيهِمْ بِأَنْ صَارُوا لِغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ.
﴿أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ .
﴿وَمَا
كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ طَرِيقٍ إِلَى الصَّوَابِ وَإِلَى
الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى، قَدِ
انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْخَيْرِ.
﴿اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ﴾ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى
دَفْعِهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴿مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ﴾ تلجأون إِلَيْهِ
﴿يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾ مِنْ مُنْكِرٍ يُغَيِّرُ مَا بِكُمْ.
﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ
مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)﴾
﴿فَإِنْ
أَعْرَضُوا﴾ عَنِ الْإِجَابَةِ، ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ
عَلَيْكَ﴾ مَا عَلَيْكَ، ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغِنَى
وَالصِّحَّةَ. ﴿فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ قَحْطٌ، ﴿بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ أَيْ: لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ يَنْسَى وَيَجْحَدُ بِأَوَّلِ شِدَّةٍ جَمِيعَ مَا
سَلَفَ مِنَ النِّعَمِ.
﴿لِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا بِمَا يُرِيدُ،
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ
ذَكَرٌ، قِيلَ: مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ
الذَّكَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ، ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ فَلَا يَكُونُ لَهُ أُنْثَى.
﴿أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا فَيُولَدُ لَهُ
الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ فَلَا يَلِدُ وَلَا
يُولَدُ لَهُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ﴿يَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ يَعْنِي: لُوطًا لَمْ يُولَدْ لَهُ ذَكَرٌ إِنَّمَا وُلِدَ لَهُ
ابْنَتَانِ، ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ عليه
السلام لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾
يَعْنِي: مُحَمَّدًا ﷺ وُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ
عَقِيمًا﴾ يَحْيَى وَعِيسَى عليهما السلام لَمْ يُولَدْ لَهُمَا، وَهَذَا عَلَى
وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ. ﴿إِنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ .
قَوْلُهُ عز وجل:
﴿وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ
الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ،
إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ
يَنْظُرْ مُوسَى إِلَى اللَّهِ عز وجل، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا» (١) يُوحِي إِلَيْهِ فِي
الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ، ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ يُسْمِعُهُ
كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ، كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام،
(١) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص
(١٤٦): لم أجده.
﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ إِمَّا جِبْرِيلَ
أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ:
يُوحِيَ ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا
يَشَاءُ.
قَرَأَ نَافِعٌ: «أَوْ يُرْسِلُ»
بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، «فَيُوحِي» سَاكِنَةَ الْيَاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِنَصْبِ اللَّامِ وَالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْوَحْيِ
لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ
يُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ .
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
(٥٣)﴾
﴿وَكَذَلِكَ﴾
أَيْ: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى سَائِرِ رُسُلِنَا، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِنْ أَمْرِنَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُبُوَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَحْمَةً.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: وَحْيًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: جِبْرِيلَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَعْنِي
الْقُرْآنَ. ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي﴾ قَبْلَ الْوَحْيِ، ﴿مَا الْكِتَابُ وَلَا
الْإِيمَانُ﴾ يَعْنِي شَرَائِعَ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمَهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: (١) «الْإِيمَانُ» فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الصَّلَاةُ،
وَدَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عز وجل: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ»
(الْبَقَرَةِ ١٤٣) .
وَأَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ ﷺ يَعْبُدُ اللَّهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ
يَتَبَيَّنْ لَهُ شَرَائِعُ دِينِهِ.
﴿وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْإِيمَانَ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. ﴿نَهْدِي بِهِ﴾ نُرْشِدُ بِهِ، ﴿مَنْ نَشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ أَيْ لَتَدْعُو، ﴿إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ يَعْنِي الْإِسْلَامَ.
﴿صِرَاطِ
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى
اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ أَيْ: أُمُورُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا فِي الْآخِرَةِ.
(١) انظر: صحيح ابن خزيمة: ٢ / ١٦٠.