recent
آخر المقالات

سُورَةُ السَّجْدَةِ

 

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) .

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.

وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [٦٥ \ ١٢]، وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ»، أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَهُ تَعَالَى كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ النَّاسُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [٢٢ \ ٤٧]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «سَأَلَ سَائِلٌ»: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [٧٠ \ ٤] .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفَعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ»، هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَيَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ «السَّجْدَةِ»، هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَيَوْمَ الْخَمْسِينَ أَلْفًا هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [٧٤ \ ٩ - ١٠]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [٥٤ \ ٨] .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْوَجْهَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [٢٥ \ ٢٤]، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَضَرَ كُلًّا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهَا، وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.

ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِي يَقْبِضُ أَرْوَاحَ النَّاسِ مَلَكٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ اسْمَهُ عِزْرَائِيلُ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ النَّاسَ تَتَوَفَّاهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا مَلَكٌ وَاحِدٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [٤ \ ٩٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [٤٧ \ ٢٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [٦ \ ٩٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [٦ \ ٦١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَإِيضَاحُ هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُوَكَّلَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ مَلَكٌ وَاحِدٌ هُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَلَكِنْ لَهُ أَعْوَانٌ يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ يَنْتَزِعُونَ الرُّوحَ إِلَى الْحُلْقُومِ، فَيَأْخُذُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَوْ يُعِينُونَهُ إِعَانَةً غَيْرَ ذَلِكَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ فِيهِ: «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا أَخَذَ رُوحَ الْمَيِّتِ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ بِسُرْعَةٍ مَلَائِكَةٌ فَصَعِدُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ»، وَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ ﷺ مَا تُعَامَلُ بِهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ وَرُوحُ الْكَافِرِ بَعْدَ أَخْذِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ حِينَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْبَدَنِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ «الرُّوحِ» بُطْلَانَ تَضْعِيفِ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ مَلَائِكَةً آخَرِينَ يَأْخُذُونَ مِنْ يَدِهِ الرُّوحَ، حِينَ يَأْخُذُهُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [٣٩ \ ٤٢] فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَوَفَّوْا أَحَدًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [٣ \ ١٤٥] .

فَتَحَصَّلَ أَنَّ إِسْنَادَ التَّوَفِّي إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [٣٢ \ ١١]، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [٤٧ \ ٢٧]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [٣٩ \ ٤٢]، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ الْآيَةَ [٧ \ ٥٣]، وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [١٩ \ ٣٨] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [١٠ \ ٩٩] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ بَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِعْرَاضِ، عَنِ التَّذْكِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [١٨ \ ٥٧] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.

قَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [١٩ \ ٩٨] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٢٧) .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [٢٠ \ ٥٣ - ٥٤]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَفْسِيرَ الْأَرْضِ الْجُرُزِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [١٨ \ ٨] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) .

أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي هُوَ أَنَّ الْفَتْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَتَّاحَ: الْقَاضِي، وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَالْفَتَاحَةُ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ عَمْرًا رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ.

وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْحَ الْحُكْمُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [٧ \ ٨٩]، أَيِ: احْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا الْآيَةَ [٢٦ \ ١١٧ - ١١٨]، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [٣٤ \ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [٨ \ ١٩]، أَيْ: إِنْ تَطْلُبُوا الْحُكْمَ بِهَلَاكِ الظَّالِمِ مِنْكُمْ وَمِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، أَيِ: الْحُكْمُ بِهَلَاكِ الظَّالِمِ وَهُوَ هَلَاكُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ، جَاءَ أَبُو جَهْلٍ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا قُطَّانُ بَيْتِكَ نَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَفْعَلُ وَنَفْعَلُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَطَّعَ الرَّحِمَ وَفَرَّقَ الْجَمَاعَةَ، وَعَابَ الدِّينَ، وَشَتَمَ الْآلِهَةَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَ الْآبَاءَ، اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الظَّالِمَ مِنَّا وَمِنْهُ، فَطَلَبَ الْحُكْمَ عَلَى الظَّالِمِ، فَجَاءَهُمُ الْحُكْمُ عَلَى الظَّالِمِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، وَصَارُوا إِلَى الْخُلُودِ فِي النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهَلَاكِ الْكُفَّارِ، كَمَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ، أَيْ: إِذَا عَايَنُوا الْمَوْتَ وَشَاهَدُوا الْقَتْلَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [٤٠ \ ٨٤ - ٨٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الْآيَةَ [٤ \ ١٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [١٠ \ ٩٠ - ٩١] . وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْفَتْحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتْحُ مَكَّةَ أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَا يَمْنَعُ انْتِفَاعَ الْمُؤْمِنِ فِي وَقْتِهِ بِإِيمَانِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [٥٢ \ ٣٠ - ٣١]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَبُّصَ هُوَ الِانْتِظَارُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [٦ \ ١٥٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

google-playkhamsatmostaqltradent