recent
آخر المقالات

[تفسير سورة الفلق]

 

تفسير سورة«الفلق» وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وهي خمس آيات. وَهَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ«النَّاسِ» وَ«الْإِخْلَاصِ»: تَعَوَّذَ بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَانَ يُقَالُ لَهُمَا الْمُقَشْقِشَتَانِ أَيْ تُبْرِئَانِ مِنَ النِّفَاقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا دُعَاءٌ تَعَوَّذَ بِهِ، وَلَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسْمِعُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُوذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ- رضي الله عنهما بِهِمَا، فَقَدَّرَ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ: أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ، لِأَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْمُعْجِزِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَ«أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ بَيِّنٌ. وَكَلَامُ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَحُجَّةٌ لَهُ بَاقِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، لَا يَلْتَبِسُ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، عَلَى مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْفَصِيحِ اللِّسَانِ، الْعَالِمِ بِاللُّغَةِ، الْعَارِفِ بِأَجْنَاسِ الْكَلَامِ، وَأَفَانِينِ الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِنَ النِّسْيَانِ، فَأَسْقَطَهُمَا وَهُوَ يَحْفَظُهُمَا، كَمَا أَسْقَطَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مِنْ مُصْحَفِهِ، وَمَا يُشَكُّ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ لَهَا. فَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى قَائِلِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، وَ(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، وَ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَهُنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي أَنَّهُنَّ غَيْرُ طِوَالٍ، وَالْحِفْظُ إِلَيْهِنَّ أَسْرَعُ، وَنِسْيَانُهُنَّ مَأْمُونٌ، وَكُلُّهُنَّ يُخَالِفُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، إِذِ الصَّلَاةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِقِرَاءَتِهَا. وَسَبِيلُ كُلِّ رَكْعَةٍ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَةُ فِيهَا قَبْلَ مَا يَقْرَأُ مِنْ بَعْدِهَا، فَإِسْقَاطُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنَ الْمُصْحَفِ، عَلَى مَعْنَى الثِّقَةِ بِبَقَاءِ حِفْظِهَا، وَالْأَمْنِ مِنْ نِسْيَانِهَا، صَحِيحٌ، وَلَيْسَ مِنَ السُّوَرِ مَا يَجْرِي فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجْرَاهَا، وَلَا يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ«الْفَاتِحَةِ» «١». وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.



(١). راجع ج ١ ص ١١٤ طبعه أو ثالثة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى [سورة الفلق (١١٣): الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى قَدَمِهِ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ [هُودٍ «١»] أَقْرِئْنِي سُورَةَ يوسف. فقال لي: [ولن تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)]. وَعَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ، إِذْ غَشَتْنَا رِيحٌ مُظْلِمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ بِ (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وَ(أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وَيَقُولُ: [يَا عُقْبَةُ، تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا]. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَصَابَنَا طَشٌّ «٢» وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ «٣». ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [لَيُصَلِّي بِنَا «٤»]، فَقَالَ: (قُلْ). فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ ثلاثا، يكفك كل شي) وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [قُلْ]. قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ). (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) - فَقَرَأَهُنَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَتَعَوَّذِ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ، أَوْ لَا يَتَعَوَّذُ النَّاسُ بِمِثْلِهِنَّ (. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قُلْ أَعُوذُ برب الفلق)


(١). زيادة عن سنن النسائي.
(٢). الطش (بفتح الطاء وتشديد الشين): المطر الضعيف.
(٣). الذي في سنن النسائي: (فَانْتَظَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُصَلِّي بنا، ثم ذكر ... إلخ).
(٤). زيادة عن سنن النسائي. [.....]

و(قل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ». وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا اشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، كُلَّمَا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. النَّفْثُ: النَّفْخُ لَيْسَ مَعَهُ رِيقٌ. الثَّانِيَةُ- ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَحَرَهُ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ- فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: سَنَةً- ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ أُشْعِرْتُ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ. أَتَانِي مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ [الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلِي «١»]: مَا شَأْنُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ «٢». قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ. قَالَ فِي مَاذَا؟ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ «٣» وَجُفِّ طَلْعَةِ «٤» ذكر، تحت راعوفة في بئر ذي أوران «٥» فَجَاءَ الْبِئْرَ وَاسْتَخْرَجَهُ. انْتَهَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «٦»: (أَمَا شَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنِي بِدَائِي). ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وعمار ابن يَاسِرٍ، فَنَزَحُوا مَاءَ تِلْكَ الْبِئْرِ كَأَنَّهُ نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، ثُمَّ رَفَعُوا الصَّخْرَةَ وَهِيَ الرَّاعُوفَةُ- صَخْرَةٌ تُتْرَكُ أَسْفَلَ الْبِئْرِ يَقُومُ عَلَيْهَا الْمَائِحُ»
، وَأَخْرَجُوا الْجُفَّ، فَإِذَا مُشَاطَةُ رَأْسِ إِنْسَانٍ، وَأَسْنَانٌ مِنْ مُشْطٍ، وَإِذَا وَتَرٌ مَعْقُودٌ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً مُغْرَزَةً بِالْإِبَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَهُمَا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً عَلَى عَدَدِ تِلْكَ الْعُقَدِ، وَأَمَرَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بِهِمَا، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ خِفَّةً، حَتَّى انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ، وَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَرْقِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَقُولُ: [بِاسْمِ الله


(١). زيادة عن الصحيحين.
(٢). المطبوب: المسحور.
(٣). في بعض نسخ الأصل وبعض كتب الحديث: (ومشاقة) بالقاف بدل الطاء وهو ما يستخرج من الكتان. والمشط: الآلة التي يمشط بها الشعر.
(٤). الجف (بضم الجيم وتشديد الفاء): الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى فلذا قيده بقوله (ذكر).
(٥). ويقال: (بئر ذروان)، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق.
(٦). أي في روايته.
(٧). في بعض نسخ الأصل: (الماتح) بالتاء المثناة من فوق وهو المستقي. من البئر بالدلو. من أعلى البئر. أما المائح بالهمز فهو: الذي يكون في أسفل البئر يملأ الدلو.

أرقيك، من كل شي يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، وَاللَّهُ يَشْفِيكَ]. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُ الْخَبِيثَ. فَقَالَ: [أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا]. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ: أَنَّ غُلَامًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَدَسَّتْ «١» إِلَيْهِ الْيَهُودُ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطَةَ رَأْسِ النَّبِيِّ ﷺ. وَالْمُشَاطَةُ (بِضَمِّ الْمِيمِ): مَا يَسْقُطُ مِنَ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمَشْطِ. وَأَخَذَ عِدَّةً مِنْ أَسْنَانِ مُشْطِهِ، فَأَعْطَاهَا الْيَهُودَ، فَسَحَرُوهُ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيَّ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثَةُ- تَقَدَّمَ فِي الْبَقْرَةِ الْقَوْلُ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الْآلَامِ وَالْمَفَاسِدِ، وَحُكْمِ السَّاحِرِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ «٢». الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: الْفَلَقِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ إِذَا فُتِحَ صَاحَ أَهْلُ النَّارِ مِنْ حَرِّهِ. وَقَالَ الْحُبُلِّيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ «٣»: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وقال عبد الله ابن عُمَرَ: شَجَرَةٌ فِي النَّارِ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: جُبٌّ فِي النَّارِ. النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِمَا اطْمَأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ فَلَقٌ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: الْفَلَقُ، الصُّبْحُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ: هُوَ أَبْيَنُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ وَفَرَقِ الصُّبْحِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرْتَفِقًا «٤» ... أَرْعَى النُّجُومَ إِلَى أَنْ نور الفلق
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بِالْمِيَاهِ، أَيْ تَتَشَقَّقُ. وَقِيلَ: هُوَ التَّفْلِيقُ بَيْنَ الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ، لِأَنَّهَا تَتَشَقَّقُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ عز وجل. قَالَ زُهَيْرٌ:
مَا زِلْتُ أَرْمُقُهُمْ حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ ... أَيْدِي الرِّكَابِ بِهِمْ مِنْ راكس فلقا


(١). في نسخة: فدنت.
(٢). راجع ج ٢ ص ٤٣ فما بعدها طبعه ثانية.
(٣). هو عبد الله بن يزيد المعافري.
(٤). المرتفق: المتكئ على مرفق يده.

الرَّاكِسُ: بَطْنُ الْوَادِي. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِ النابغة:
أَتَانِي وَدُونِي رَاكِسُ فَالضَّوَاجِعُ «١»

وَالرَّاكِسُ أَيْضًا: الْهَادِي، وَهُوَ الثَّوْرُ وَسَطَ الْبَيْدَرِ «٢»، تَدُورُ عَلَيْهِ الثِّيرَانُ فِي الدِّيَاسَةِ. وَقِيلَ: الرَّحِمُ تَنْفَلِقُ بِالْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ جَمِيعِ مَا خُلِقَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، وَكُلُّ شي مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَلَقُ الْخَلْقُ كُلُّهُ، قَالَ:
وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الْفَلَقْ ... سِرًّا وَقَدْ أَوَّنَ تَأْوِينَ الْعُقَقْ «٣»
قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ يَشْهَدُ لَهُ الِاشْتِقَاقُ، فَإِنَّ الْفَلَقَ الشَّقُّ. فَلَقْتُ الشَّيْءَ فَلْقًا أَيْ شَقَقْتُهُ. وَالتَّفْلِيقُ مِثْلُهُ. يُقَالُ: فَلَقْتُهُ فَانْفَلَقَ وَتَفَلَّقَ. فكل ما انفلق عن شي مِنْ حَيَوَانٍ وَصُبْحٍ وَحَبٍّ وَنَوًى وَمَاءٍ فَهُوَ فلق، قال الله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ «٤» [الانعام: ٩٦] قال: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «٥» [الانعام: ٩٥]. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ:
حَتَّى إِذَا مَا انْجَلَى «٦» عَنْ وَجْهِهِ فَلَقٌ ... هَادِيهِ فِي أُخْرَيَاتِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ
يَعْنِي بِالْفَلَقِ هُنَا: الصُّبْحَ بِعَيْنِهِ. وَالْفَلَقُ أَيْضًا: الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ الرَّبْوَتَيْنِ، وَجَمْعُهُ: فُلْقَانُ، مِثْلُ خَلَقٍ وَخُلْقَانُ، وربما قالوا: كَانَ ذَلِكَ بِفَالِقِ كَذَا وَكَذَا، يُرِيدُونَ الْمَكَانَ المنحدر


(١). صدر البيت:
وعبد أبي قابوس في غير كنهه

والضواجع: جمع ضاجعه وهي منحني الوادي.
(٢). البيدر: الموضع الذي يداس فيه الحبوب.
(٣). ورد هذا البيت في الأصول محرفا. وهو من أرجوزة رؤبة بن العجاج التي مطلعها:
وقائم الأعماق خاوى المخترق

وقوله: (أون) أي أكل وشرب حتى امتلأ بطنه. والعقق: جمع عقوق كرسول ورسل وهي التي تكامل حملها، وقرب ولادها. وصف صائدا لما أحس بالصيد- وهي الأتن التي وردت الماء فشربت حتى امتلأت خواصرها- وأراد رؤبة: وسوس نفسه بالدعاء حذر الخيبة. [.....]
(٤). آية ٩٦ سورة الانعام.
(٥). آية ٩٥ سورة الانعام.
(٦). كذا في الأصول واللسان. والذي في الديوان: (ماجلا). وقال ابن بري: الرواية الصحيحة:
حتى إذا ما جلا عن وجهه شفق

وقوله تعالى (هاديه) أي أوله مأخوذ من الهادي وهو مقدم العنق.

بَيْنَ الرَّبْوَتَيْنِ، وَالْفَلَقُ أَيْضًا مِقْطَرَةُ «١» السَّجَّانِ. فَأَمَّا الْفِلْقُ (بِالْكَسْرِ): فَالدَّاهِيَةُ وَالْأَمْرُ الْعَجَبُ، تَقُولُ مِنْهُ: أَفْلَقَ الرَّجُلُ وَافْتَلَقَ. وَشَاعِرٌ مُفْلِقٌ، وَقَدْ جَاءَ بِالْفِلْقِ [أَيْ بِالدَّاهِيَةِ]. وَالْفِلْقُ أَيْضًا: الْقَضِيبُ يُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، فَيُعْمَلُ مِنْهُ قَوْسَانِ، يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِلْقٌ، وَقَوْلُهُمْ: جَاءَ بِعُلَقَ فُلَقَ، وَهِيَ الدَّاهِيَةُ، لَا يُجْرَى [مُجْرَى عُمَرَ «٢»]. يُقَالُ مِنْهُ: أَعْلَقْتُ وَأَفْلَقْتُ، أَيْ جِئْتُ بِعُلَقَ فُلَقَ. وَمَرَّ يَفْتَلِقُ فِي عَدْوِهِ، أَيْ يَأْتِي بِالْعَجَبِ مِنْ شِدَّتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) قِيلَ: هُوَ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَقِيلَ جَهَنَّمُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ، أَيْ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ خَلَقَهُ اللَّهُ عز وجل. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ اللَّيْلُ. وَالْغَسَقُ: أَوَّلُ ظُلْمَةِ الليل، يقال منه: غسقا اللَّيْلُ يَغْسِقُ أَيْ أَظْلَمَ. قَالَ [ابْنُ] قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا
وَقَالَ آخَرُ:
يَا طَيْفَ هِنْدٍ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِي أَرَقًا ... إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. ووَقَبَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: أَظْلَمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالضَّحَّاكُ: دَخَلَ. قَتَادَةُ: ذَهَبَ. يَمَانُ بْنُ رِئَابٍ: سَكَنَ. وَقِيلَ: نَزَلَ، يُقَالُ: وَقَبَ الْعَذَابُ عَلَى الْكَافِرِينَ، نَزَلَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَبَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمُ فَكَأَنَّهُمْ ... لَحِقَتْهُمُ نَارُ السَّمُومِ فَأُحْصِدُوا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ اللَّيْلُ غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدَ مِنَ النَّهَارِ. وَالْغَاسِقُ: الْبَارِدُ. وَالْغَسَقُ: الْبَرْدُ، وَلِأَنَّ فِي اللَّيْلِ تَخْرُجُ السِّبَاعُ مِنْ آجَامِهَا، وَالْهَوَامُّ مِنْ أَمَاكِنَهَا، وينبعث أهل الشر على العيث


(١). المقطرة (بكسر الميم): خشية فيها خروق كل خرق على قدر سعة الساق يدخل فيها أرجل المحبوسين مشتق من قطار الإبل.
(٢). زيادة من اللسان مادة (علق) يقتضيها السياق. وفي الأساس مادة (فلق): (وجاء بعلق) على التركيب كخمسة عشر.

وَالْفَسَادِ. وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الثُّرَيَّا، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا سَقَطَتْ كَثُرَتِ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ، وَإِذَا طَلَعَتِ ارْتَفَعَ ذلك، قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هُوَ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَمَرُ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: إِذا وَقَبَ الْقَمَرُ: إِذَا دَخَلَ فِي سَاهُورِهِ، وَهُوَ كَالْغِلَافِ لَهُ، وَذَلِكَ إذا خسف به. وكل شي أَسْوَدُ فَهُوَ غَسَقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذا وَقَبَ إِذَا غَابَ. وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّ فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ، فَقَالَ: [يَا عَائِشَةُ، اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ]. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الرِّيَبِ يَتَحَيَّنُونَ وَجْبَةَ الْقَمَرِ. وَأَنْشَدَ:
أَرَاحَنِي اللَّهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَكْرَهُهَا ... مِنْهَا الْعَجُوزُ وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْقَمَرُ
هَذَا يَبُوحُ وَهَذَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَهَذِهِ ضِمْرِزٌ قَوَّامَةُ السَّحَرِ «١»
وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الْحَيَّةُ إِذَا لَدَغَتْ. وَكَأَنَّ الْغَاسِقَ نَابُهَا، لِأَنَّ السُّمَّ يَغْسِقُ مِنْهُ، أَيْ يَسِيلُ. وَوَقَبَ نَابُهَا: إِذَا دَخَلَ فِي اللَّدِيغِ. وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: كُلُّ هَاجِمٍ يَضُرُّ، كَائِنًا مَا كَانَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَتِ الْقُرْحَةُ: إِذَا جَرَى صَدِيدُهَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) يَعْنِي السَّاحِرَاتِ اللَّائِي يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ حِينَ يَرْقِينَ عَلَيْهَا. شَبَّهَ النَّفْخَ كَمَا يَعْمَلُ مَنْ يَرْقِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ فِي عِضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ «٢»
وَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
نَفَثْتُ فِي الْخَيْطِ شَبِيهَ الرُّقَى ... مِنْ خَشْيَةِ الْجِنَّةِ وَالْحَاسِدِ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَإِنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أُنْفِثْ عَلَيْهِ ... وَإِنْ يَفْقِدْ فَحُقَّ لَهُ الفقود


(١). الضمرز (كزبرج): الناقة المسنة. ومن النساء الغليظة. وقد وردت هذه الكلمة في نسخ الأصل محرفة، ففي بعضها (صمود) في بعضها الآخر: (ضمور) وهو تحريف. وفي البيت إقواء وهو اختلاف حركات الروى.
(٢). العضة (كعنب): الكذب والسحر والبهتان. والعاضه: الساحر.

السابعة- روى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا، فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ «١» شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ]. وَاخْتُلِفَ فِي النَّفْثِ عِنْدَ الرُّقَى فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَأَجَازَهُ آخَرُونَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَنْفُثَ، وَلَا يَمْسَحَ وَلَا يَعْقِدَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ النَّفْثَ فِي الرُّقَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ وَجِعٌ، فَقُلْتُ: أَلَا أُعَوِّذُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: بلى، وَلَكِنْ لَا تَنْفُثْ، فَعَوَّذْتُهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الْقُرْآنُ يُنْفَخُ بِهِ أَوْ ينفث؟ قال: لا شي مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ تَقْرَؤُهُ هَكَذَا. ثُمَّ قَالَ بعد: انفث إن شئت. وسيل مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ الرُّقْيَةِ يُنْفَثُ فِيهَا، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ بِهَا بَأْسًا، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَالْحَاكِمُ بَيْنَهُمُ السُّنَّةُ. رَوَتْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَنْفُثُ فِي الرُّقْيَةِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوَّلَ السُّورَةِ وَفِي«سُبْحَانَ» «٢». وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ يَدَهُ احْتَرَقَتْ فَأَتَتْ بِهِ أُمُّهُ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَعَلَ يَنْفُثُ عَلَيْهَا وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ، زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ: ذُهِبَ بِي إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَفِي عَيْنِي سُوءٌ، فَرَقَتْنِي وَنَفَثَتْ. وأما ما روي عن عكرمة من قول: لَا يَنْبَغِي لِلرَّاقِي أَنْ يَنْفُثَ، فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ النَّفْثَ فِي الْعُقَدِ مِمَّا يُسْتَعَاذُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ عُوذَةً. وَلَيْسَ هَذَا هَكَذَا، لِأَنَّ النَّفْثَ فِي الْعُقَدِ إِذَا كَانَ مَذْمُومًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ النَّفْثُ بِلَا عُقَدٍ مَذْمُومًا. وَلِأَنَّ النَّفْثَ فِي الْعُقَدِ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السِّحْرُ الْمُضِرُّ بِالْأَرْوَاحِ، وَهَذَا النَّفْثُ لِاسْتِصْلَاحِ الْأَبْدَانِ، فَلَا يُقَاسُ مَا يَنْفَعُ بِمَا يَضُرُّ. وَأَمَّا كَرَاهَةُ عِكْرِمَةَ الْمَسْحَ فَخِلَافُ السُّنَّةِ. قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: اشْتَكَيْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَاشْفِنِي وَعَافِنِي، وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فَصَبِّرْنِي. فقال النبي صلى الله عليه


(١). أي من علق شيئا من التعاويذ والتمائم معتقدا أنها تجلب إليه نفعا أو تدفع عنه ضررا. وقيل: المراد تمائم الجاهلية مثل الخرزات وأظفار السباع. أما ما يكون من القرآن والأسماء الإلهية فهو خارج عن هذا الحكم. (شرح سنن النسائي).
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣١٥ فما بعدها.

وَسَلَّمَ [كَيْفَ قُلْتَ]؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَمَسَحَنِي بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ اشْفِهِ] فَمَا عَادَ ذَلِكَ الْوَجَعُ بَعْدُ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ ورويس عن يعقوب مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي وَزْنِ (فَاعِلَاتٍ). وَرُوِيَتْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما. وَرُوِيَ أَنَّ نِسَاءً سَحَرْنَ النَّبِيَّ ﷺ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُنَّ مِنَ الْيَهُودِ، يَعْنِي السَّوَاحِرَ الْمَذْكُورَاتِ. وَقِيلَ: هُنَّ بَنَاتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ«النِّسَاءِ» مَعْنَى الْحَسَدِ «١»، وَأَنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا. وَالْمُنَافَسَةُ هِيَ تَمَنِّي مِثْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَزُلْ. فَالْحَسَدُ شَرٌّ مَذْمُومٌ. وَالْمُنَافَسَةُ مُبَاحَةٌ وَهِيَ الْغِبْطَةُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: [الْمُؤْمِنُ يَغْبِطُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ [. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: [لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ] يُرِيدُ لَا غِبْطَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ«النِّسَاءِ» «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قُلْتُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَاسِدُ لَا يَضُرُّ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ حَسَدُهُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ الْحَسَدُ عَلَى إِيقَاعِ الشَّرِّ بِالْمَحْسُودِ، فَيَتْبَعُ مَسَاوِئَهُ، وَيَطْلُبُ عَثَرَاتِهِ. قَالَ ﷺ: [إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ ...] الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَحَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ، وَحَسَدَ قَابِيلُ هَابِيلَ. وَالْحَاسِدُ مَمْقُوتٌ مَبْغُوضٌ مَطْرُودٌ مَلْعُونٌ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
قُلْ لِلْحَسُودِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَةً ... يَا ظَالِمًا وَكَأَنَّهُ مَظْلُومُ
التَّاسِعَةُ- هَذِهِ سُورَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنْ جَمِيعِ الشُّرُورِ. فَقَالَ: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَجَعَلَ خَاتِمَةَ ذَلِكَ الحسد،


(١). معنى الحسد تقدم في سورة البقرة ج ٢ ص ٧١ طبعه ثانية. وراجع أيضا سورة النساء ج ٥ ص (٢٥١)
(٢). هذا مذكور في سورة النساء. فليراجع.

تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِهِ، وَكَثْرَةِ ضَرَرِهِ. وَالْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بَارَزَ الْحَاسِدُ رَبَّهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ أَبْغَضَ كُلَّ نِعْمَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَثَانِيهَا- أَنَّهُ سَاخِطٌ لِقِسْمَةِ رَبِّهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَ قَسَمْتَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ؟ وَثَالِثُهَا- أَنَّهُ ضَادَّ فِعْلَ اللَّهِ، أَيْ إِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَبْخَلُ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَرَابِعُهَا- أَنَّهُ خَذَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، أَوْ يُرِيدُ خِذْلَانَهُمْ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ. وَخَامِسُهَا- أَنَّهُ أَعَانَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ. وَقِيلَ: الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ فِي الْمَجَالِسِ إِلَّا نَدَامَةً، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبَغْضَاءَ، وَلَا يَنَالُ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَالُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا حُزْنًا وَاحْتِرَاقًا، وَلَا يَنَالُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا وَمَقْتًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ: آكِلُ الْحَرَامِ، وَمُكْثِرُ الْغِيبَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ أَوْ حَسَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ). وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

 


google-playkhamsatmostaqltradent