وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون: على أنّ هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال:
(١٥٣٨) أحدها: أنّ اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الرّوح، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
والثاني: لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم «١» . والثالث:
لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم «٢» .
وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم «٣» .
(١٥٣٩) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال: قالت امرأة من قريش
تقدم في سورة الكهف، وأنكر الحافظ في «الفتح» ٨/ ٧١٠ كون نزول الضحى، كان بسبب سؤالهم عن ذي القرنين، وقال ما معناه: الزمن بين نزول السورة، وسؤالهم إياه غير متحد، ويجوز أن يكون قريبا.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٥٠ والبغوي في «التفسير» ٢٣٤٩ بترقيمنا عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري ١١٢٥ و١١٢٤ و٤٩٨٣ والترمذي ٣٣٤٥ والطبري ٣٧٥٠٤ وابن حبان ٦٥٦٦ والطبراني ١٧٠٩ والبيهقي ٣/ ١٤ وفي «الدلائل» ٧/ ٥٨ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٥٠٧ وفي «أسباب النزول» ٨٥٨ من طرق عن سفيان عن الأسود بن قيس به. وأخرجه البخاري ٤٩٥١ ومسلم ١٧٩٧ ح ١١٥-
_________
(١) مريم: ٦٥، وتقدّم الحديث، وهو حديث ضعيف، والصواب ما رواه الشيخان وهو الآتي من حديث جندب البجلي.
(٢) ضعيف جدا، هو مرسل، وله علة ثانية، وهي كونه من رواية ابنه عبد الرحمن، وهو واه.
وصح هذا السياق، لكن ليس فيه نزول سورة الضحى عقب ذلك. فقد أخرج مسلم ٢١٠٥ وأبو داود ٤١٥٧ والنسائي ٧/ ١٨٦ وأحمد ٦/ ٣٣٠ وأبو يعلى ٧٠٩٣ و٧١١٢ من طريق الزهري عن ابن السباق عن ابن عباس عن ميمونة: «أن رسول الله ﷺ أصبح يوما واجما فقالت ميمونة: يا رسول الله! لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله ﷺ: «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني» فظل رسول الله ﷺ يومه ذاك على ذلك، ثم وقع في نفسه جر وكلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني في البارحة قال: «أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة» . وأخرجه مسلم ٢١٠٤ وأحمد ٦/ ١٤٢- ١٤٣ وأبو يعلى ٤٥٠٨ من حديث عائشة بنحوه.
(٣) مريم: ٦٦.
للنبيّ ﷺ: ما أرى شيطانك إلّا قد ودعك، فنزلت وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، جندب: هو ابن سفيان، والمرأة: يقال لها: أمّ جميل امرأة أبي لهب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (٩٣): الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًاّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال: أحدها: ضوء النهار، قاله مجاهد. والثاني: صدر النهار، قاله قتادة. والثالث: أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل. والرابع: النهار كلُّه، قاله الفراء.
وفي معنى «سجى» خمسة أقوال «١»: أحدها: أظلم. والثاني: ذهب، رويا عن ابن عباس.
والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير. والرابع: سكن، قاله عطاء، وعكرمة، وابن زيد. فعلى هذا: في معنى «سكن» قولان: أحدهما: استقرّ ظلامه، قال الفرّاء: «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما يقال: بَحْرٌ سَاجٍ، ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم. ومعنى: ركد: سكن. قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة. قال الحادي:
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّساجْ
قال ابن قتيبة: «سجى» بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده.
والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي.
والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي.
قوله عز وجل: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وقرأ عمر بن الخطاب، وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم. قال أبو عبيدة: «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و«مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه وَما قَلى أي:
أبغض.
قوله عز وجل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال عطاء، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره:
الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
قوله عز وجل: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الخير فَتَرْضى بما تعطى. قال عليّ
والطبري ٣٧٥٠٥ والطبراني ١٧١٠ و١٧١١ وأحمد ٤/ ٣١٢ والبيهقي ٣/ ١٤ من طريقين عن الأسود بن قيس به. وفي الباب أحاديث، وهذا الحديث أصحها إسنادا وأحسنها متنا.
_________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٦٢٢: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه:
والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج أي ساكنا.
والحسن: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى.
(١٥٤٠) قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله ﷺ ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرًَا كفرا، فسرّ بذلك، فأنزل الله عز وجل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
قوله عز وجل: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فيه قولان: أحدهما: جعل لك مأوى إذ ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله مقاتل. والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي طالب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: ضالًا عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله الجمهور منهم الحسن، والضحاك. والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه بذلك قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب. والخامس: ووجدك نِسْيًَا، فهداك إلى الذِّكْر. ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «١» قاله ثعلب. والسادس:
ووجدك خاملًا لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن عليّ التّرمذيّ.
قوله عز وجل: وَوَجَدَكَ عائِلًا قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر. وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ «٢»
أي: يفتقر. قال ابن قتيبة: العائل: الفقير، كان له عيال، أو لم يكن يقال: عال الرجل: إذا افتقر. وأعال: إذا كثر عياله.
وفي قوله: فَأَغْنى قولان: أحدهما: أرضاك بما أعطاك من الرزق، قاله ابن السائب، واختاره الفرّاء فقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه. والثاني: فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسّرين.
قوله عز وجل: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فيه قولان: أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد. والثاني: لا تقهره على ماله، قاله الزّجّاج.
ضعيف. أخرجه الطبري ٣٧٥١٣ من طريق الأوزاعي يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، وإسناده ضعيف الأوزاعي لم يسمعه من إسماعيل كما يدل على ذلك عبارة الراوي عنه، وكرره ٣٧٥١٤ وفيه رواد بن الجراح ضعيف.
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٥٧٦ عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول، والموقوف أصح من المرفوع، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٧٤٦ بتخريجنا.
_________
(١) البقرة: ٢٨٢.
(٢) البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسي، وهو في «جمهرة أشعار العرب» ١٢٥ و«اللسان» - عيل-.
قوله: وَأَمَّا السَّائِلَ فيه قولان: أحدهما: سائل البِر، قاله الجمهور. والمعنى: إذا جاءك السائل، فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردًَّا لينًا. ومعنى فَلا تَنْهَرْ لا تنهره، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. والثاني: أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين.
قوله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ في النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: النُبُوَّة. والثاني: القرآن، رويا عن مجاهد. والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل.
(١٥٤١) وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس. فلما بلغت «والضحى» قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم. وقرأت على أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك.
(١٥٤٢) قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله ﷺ، وقال المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل «والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله ﷺ فرحا بنزول الوحي، فاتّخذه الناس سنّة.
ضعيف جدا. وله علتان، ابن أبي بزة، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله ضعيف منكر الحديث، وشيخه عكرمة مجهول، لم يرو عنه غيره، ولم يوثقه أحد، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ٧/ ١١ من غير جرح أو تعديل، حتى ابن حبان لم يدخله في الثقات. أخرجه الحاكم ٣/ ٣٠٥ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٥١٤ والذهبي في «الميزان» ١/ ١٤٥/ ٥٦٤ والبغوي في «التفسير» ٢٣٦٢ بترقيمنا. كلهم من طريق أحمد البزي به. وقال الذهبي في «الميزان» في البزي: إمام في القراءة ثبت، ثم ذكر له حديثا غير هذا فقال: قال أبو حاتم: هذا حديث باطل. وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم ضعيف الحديث، لا أحدث عنه- وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكرا. ثم أسند الذهبي هذا الحديث، وقال: هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال العقيلي في «الضعفاء» ١/ ١٢٧: منكر الحديث، يوصل الأحاديث.
قلت: وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم، لم يوثقه أحمد، ولا روى عنه سوى البزي، وهو ضعيف، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله ٤/ ٦٢٠: أحمد البزي ضعفه أبو حاتم، لكن ورد عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي، في «شرح الشاطبية»، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه الله؟!! ولعل هذا لا يصح عن الشافعي، فإن خبرا واهيا، لا يصلح للاحتجاج به، وبخاصة إدخال شيء في الصلاة، ليس منها، والدليل على عدم صحته عن الشافعي، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى، والأشبه أن هذه السنة هي سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول، فحملها عنه البزي، ثم حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو السنن أو الأم، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم لاشتهاره، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول، والله أعلم.
والخلاصة: الإسناد ضعيف، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره، وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق علم أنه شبه موضوع.
تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير، انظر الحديث رقم ١٥٣٩ ولا أصل له بهذا اللفظ- قال ابن كثير رحمه الله ٤/ ٦٢١: لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله، الكلام على التكبير مما يغني عن الإعادة هنا.