- ١ - بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ
- ٢ - فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كما قال البراء بن عازب: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة﴾، وآخر سورة نزلت: براءة (أخرجه البخاري عن البراء بن عازب). وإنما لم يُبَسْمَلُ فِي أَوَّلِهَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكْتُبُوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، بل اقتدوا فِي ذَلِكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وأرضاه. وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمَّا رَجَعَ من غزوة تبوك، وبعث أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه أَمِيرًا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَأَنْ يُنَادِيَ فِي الناس: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾، فلما قفل أتبعه بعلي ابن أَبِي طَالِبٍ لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كما سيأتي بيانه. فقوله تعالى ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ أَيْ تَبَرُّؤٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أشهر﴾. اختلف المفسرون ههنا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مدتهم﴾ الآية، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ؛ وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.
وَقَالَ ابن عباس: حدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يسيحون في الأرض حيث شَاءُوا، وأجلَّ أَجَلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انسلاخ الأشهر الحرم، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِذَا انْسَلَخَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضًا حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مُجَاهِدٍ: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجٍ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أو غيرهم، فقفل رسول الله ﷺ من تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْحَجُّ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا يَحْضُرُ الْمُشْرِكُونَ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ»،
فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا رضي الله عنهما فِي ذِي الْمَجَازِ وَبِأَمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهِيَ الْأَشْهُرُ الْمُتَوَالِيَاتُ عِشْرُونَ مِنْ ذي الحجة إلى عشر تخلو مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَآذَنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِالْقِتَالِ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ.
- ٣ - وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِعْلَامٌ ﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وَتَقَدُّمٌ، وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ أَيْ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضًا. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: ﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾ أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أَيِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾، بَلْ هو قادر عليكم وَأَنْتُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا بالخزي والنكال، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال. روى البخاري عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر يؤذن فيمن يؤذن يوم النحر بِمِنَى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ، مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مشرك (أخرجه البخاري في كتاب الجهاد). وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة قَالَ: كُنْتُ مَعَ (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ فَقَالَ: مَا كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي أنه لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ فإن أجله أو مدته إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مُشْرِكٌ، قَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ ببراءة مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: «لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه (رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب). وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حين بعثه ببراءة قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَسْتُ بِاللَّسِنِ ولا بالخطيب، قال: «لا بد لي أن أذهب بها أَوْ تَذْهَبَ بِهَا أَنْتَ» قَالَ: فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَسَأَذْهَبُ أَنَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَإِنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ»، قَالَ: ثُمَّ وَضَعَ يده على فيه. وقال محمد بن إسحاق: نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ بَعَثْتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، ثم دعا عليًا فقال: "اذهب بهذ القصة من سورة بَرَاءَةَ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إِذَا اجتمعوا بمنى أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ فَخَرَجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْعَضْبَاءِ، حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: أَمِيرٌ أو مأمور؟ فقال: بَلْ مَأْمُورٌ، ثُمَّ مَضَيَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ للناس الحج إِذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بن أبي طالب فأذن بالناس بِالَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ثُمَّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةَ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ وَأَهْلِ المدة إلى الأجل المسمى.
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا يُصَومَنَّهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَحَجَجْتُ بَعْدَ أَبِي فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِهَا، فَقَالُوا: (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ عَنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي مِائَةَ ضِعْفٍ (عُمَرُ) أو (ابن عمر) كان ينهى صَوْمِهِ، وَيَقُولُ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَكَذَا رُوِيَ عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاووس وغيرهم). والقول الثاني: أنه يوم النحر، قال الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَقَالَ: هُوَ يَوْمُ النحر. وقال عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقَالَ عبد الله بن سنان خَطَبَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَوْمَ الْأَضْحَى عَلَى بَعِيرٍ فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْأَضْحَى، وَهَذَا يَوْمُ النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَأَخَذَ بِخِطَامِهِ أَوْ زِمَامِهِ فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالَ: فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ هَذَا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟» (رواه ابن جرير قال ابن كثير: إسناده صحيح وأصله مخرج في الصحيحين).
- ٤ - إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بؤقت، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ، إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ) وَذَلِكَ بشرط أن لا يَنْقُضَ الْمُعَاهَدُ عَهْدَهُ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أحدًا، أي يماليء عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بذمته وعهده إلى مدته، ولهذا حرض تَعَالَى عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ.
- ٥ - فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في المراد بالأشهر الحرم ههنا مَا هِيَ؟ فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّهَا المذكروة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم﴾ الآية، ولكن قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: آخِرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي حقهم المحرم، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ ما ذهب إليه ابن عباس (وهو قول مجاهد وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وهو الأرجح) في رواية العوفي عنه، أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَشْهُرُ التَّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عليها بقوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أربعة أشهر﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ أَيْ إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ فِيهَا قِتَالَهُمْ وَأَجَّلْنَاهُمْ فِيهَا فَحَيْثُمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، لِأَنَّ عَوْدَ الْعَهْدِ عَلَى مَذْكُورٍ أَوْلَى مِنْ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَشْهُرَ الْأَرْبَعَةَ الْمُحَرَّمَةَ سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهَا فِي آيَةٍ أُخرى بَعْدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَشْهُورُ تَخْصِيصُهُ بِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ أَيْ وَأْسِرُوهُمْ، إِنْ شِئْتُمْ قَتْلًا وَإِنْ شِئْتُمْ أَسْرًا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أَيْ لَا تَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِكُمْ لَهُمْ، بَلِ اقْصِدُوهُمْ بِالْحِصَارِ فِي مَعَاقِلِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَالرَّصْدِ فِي طُرُقِهِمْ وَمَسَالِكِهِمْ، حَتَّى تُضَيِّقُوا عَلَيْهِمُ الْوَاسِعَ وَتَضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وَلِهَذَا اعْتَمَدَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي قِتَالِ مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، حيث حرمت قتالهم بشرط الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامُ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ، وَنَبَّهَ بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ عز وجل، وَبَعْدَهَا أَدَاءُ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، وَهِيَ أَشْرَفُ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عبد الله ابن مسعود: أمرتم بلإقام الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صلاة له، وقال ابن أَسْلَمَ: أَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بالزكاة وقال: يرحم الله ما كان أفقهه!
وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، وَصَلُّوا صَلَاتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم». قال أنس: تَوْبَتُهُمْ خَلْعُ الْأَوْثَانِ وَعِبَادَةُ رَبِّهِمْ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ الَّتِي قال فيها الضحاك: إِنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ عَهْدٍ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وكل عقد وكل مدة. وقال ابن عباس في هذه الآية: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدَ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَنَقْضِ مَا كَانَ سَمَّى لهم من العهد والمواثيق، وأذهب الشرط الأول. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي آيَةِ السَّيْفِ هَذِهِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء﴾ وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْعَكْسِ.
- ٦ - وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكَ اسْتِبَاحَةَ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ أَيْ اسْتَأْمَنَكَ فَأَجِبْهُ إِلَى طِلْبَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، أَيْ الْقُرْآنَ تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ، وَتَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدين تقيم به عليه حُجَّةَ اللَّهِ ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ أَيْ وَهُوَ آمِنٌ مُسْتَمِرُّ الْأَمَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ وَدَارِهِ وَمَأْمَنِهِ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا شَرَعْنَا أَمَانَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ لِيَعْلَمُوا دِينَ اللَّهِ وَتَنْتَشِرَ دَعْوَةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدًا، كما جاء يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَرَأَوْا مِنْ إِعْظَامِ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا بَهَرَهُمْ، وَمَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا قَيْصَرَ، فَرَجَعُوا إِلَى قومهم وأخبروهم بِذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ هِدَايَةِ أَكْثَرِهِمْ. وَلِهَذَا أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لا تقتل لضربت عنقك»، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تجارة أو طلب صلح أو نحو ذلك من الأسباب وطلب مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ، لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمكِّن مِنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله.
- ٧ - كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
يُبَيِّنُ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَنَظْرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ السَّيْفُ الْمُرْهَفُ أَيْنَ ثُقِفُوا، فَقَالَ تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ أي إمان وَيُتْرَكُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَافِرُونَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المسجد الحرام﴾ يعني يوم الحديبية، ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ أَيْ مَهْمَا تَمَسَّكُوا بِمَا عَاقَدْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَعَاهَدْتُمُوهُمْ مِنْ تَرْكِ الحرب بينكم وبينهم ﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وَقَدْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، اسْتَمَرَّ الْعَقْدُ وَالْهُدْنَةُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ إلى أن انقضت قريش العهد ومالأوا حلفاءهم، وهم (بنو بَكْرٍ) عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَتَلُوهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَرَمِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَلَدَ الْحَرَامَ وَمَكَّنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَأَطْلَقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ
عَلَى كُفْرِهِ وَفَرَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَالتَّسْيِيرِ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، ومنهم (صفوان بن أُمية) و(عكرمة بْنُ أَبِي جَهْلٍ) وَغَيْرُهُمَا ثُمَّ هَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ التَّامِّ، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.
- ٨ - كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وأكثرهم فاسقون
يقول تعالى محرضًا المؤمنين على معاداتهم وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ، وَمُبَيِّنًا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَن يَكُونَ لَهُمُ عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله ﷺ، ولأنهم لو ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأُدِيلُوا عَلَيْهِمْ لَمْ يُبْقُوا وَلَمْ يَذَرُوا وَلَا رَاقَبُوا فِيهِمْ إِلًّا وَلَا ذمة، قال ابن عباس: الإل القرابة، والذمة العهد (وهو قول الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ كَمَا قَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ: أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا: قَطَعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرحم)، وقال مجاهد: الإل: الله أي لا يرقبون الله ولا غيره، والقول الأول أظهر وأشهر وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْإِلُّ الْعَهْدُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْإِلُّ الْحِلْفُ.
- ٩ - اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- ١٠ - لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
- ١١ - فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ وَحَثًّا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِهِمْ: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يَعْنِي أَنَّهُمُ اعْتَاضُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ بِمَا الْتَهَوْا بِهِ مِنْ أُمور الدُّنْيَا الْخَسِيسَةِ ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أَيْ مَنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ تقدم تفسيرها وكذا الآية التي بعدها.
- ١٢ - وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتم أَيْمَانَهُمْ أَيْ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ
﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي عابوه وانتقصوه، ومن ههنا أُخِذَ قَتْلُ مَنْ سَبَّ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَوْ مَنْ طَعَنَ فِي دِينِ الإسلام أو ذكره بنقص، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ أَيْ يَرْجِعُونَ عَمَّا هم فيه من الكفر والعناد والضلال، قال قتادة: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بن خلف، قال ابن مردوية: مرَّ (سعد بن أبي وقاص) بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، فَقَالَ سَعْدٌ: كَذَبْتَ بَلْ أَنَا قاتلت أئمة الكفر، والآية عامة وإن كان سبب نزولها في مشركي قريش والله أعلم.
- ١٣ - أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرسول وهم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- ١٤ - قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
- ١٥ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وَهَذَا أَيْضًا تَهْيِيجٌ وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يخرجوك﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ منها﴾ الآية، وقوله: ﴿وَهُم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ حين خرجوا لنصر غيرهم، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ وَقِتَالُهُمْ مَعَ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ لِخُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ وكان ما كان، وَقَوْلُهُ: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾، يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ يَخْشَى الْعِبَادُ مِنْ سَطْوَتِي وعقوبتي، ثم قال تعالى بيانًا لِحِكْمَتِهِ فِيمَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، مَعَ قدرته على إهلاك العدو ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ وَهَذَا عَامٌّ فِي المؤمنين كلهم، وقال مجاهد وعكرمة: ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ يعني خزاعة، ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ﴾ أَيْ مِنْ عِبَادِهِ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أَيْ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الحاكم الذي لا يجور أبدًا.
- ١٦ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أي ظننتم أَنْ نَتْرُكَكُمْ مُهْمَلِينَ، لَا نَخْتَبِرُكُمْ بِأُمُورٍ يَظْهَرُ فيها الصَّادِقِ مِنَ الْكَاذِبِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ أَيْ بِطَانَةً وَدَخِيلَةً، بَلْ هُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا * أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يليني
وقال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾؟ وقال تعالى: ﴿ما اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ الآية، والحاصل: أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أَنَّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةً وَهُوَ اخْتِبَارُ عَبِيدِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَهُوَ تَعَالَى العالم بما كان وما يَكُونُ، فَيَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ١٧ - مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار
هُمْ خَالِدُونَ
- ١٨ - إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: مَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ بِحَالِهِمْ وَقَالِهِمْ: كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَوْ سَأَلْتَ النَّصْرَانِيَّ ما دينك؟ لقال: نصراني، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال: يهودي، ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أَيْ بِشِرْكِهِمْ ﴿وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾، ولهذا قال تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فَشَهِدَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ لِعُمَّارِ المساجد. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ (رواه أحمد والترمذي وابن مردويه والحاكم). وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا عُمَّارُ الْمَسَاجِدِ هُمْ أهل الله»،
وعن أَنَسٍ مَرْفُوعًا يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي لَأَهِمُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ عَذَابًا، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى عُمَّارِ بُيُوتِي، وَإِلَى الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَإِلَى الْمُسْتَغْفِرِينَ بالإسحار، صرفت ذلك عنهم (قال ابن عساكر: حديث غريب). وقال عبد الرزاق عن عمر بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد ﷺ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسَاجِدَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ زَارَهُ فِيهَا، وقال المسعودي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ ولم يأت الْمَسْجِدَ وَيُصَلِّي، فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (أخرجه ابن مردويه)، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ أَيْ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ أَيْ الَّتِي هِيَ أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق، وقوله: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ أَيْ وَلَمْ يَخَفْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَخْشَ سِوَاهُ ﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾، قَالَ ابن عباس: من وحّد الله وآمن باليوم الآخر ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ يَقُولُ لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ ﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾، يَقُولُ تعالى إِنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكُلُّ «عَسَى» فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وعسى مِنَ اللَّهِ حَقٌّ.
- ١٩ - أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لا يستوون عند الله والله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- ٢٠ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
- ٢١ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
- ٢٢ - خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تفسير هذه الآية: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أسر ببدر قَالَ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ - إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾، يعني أن ذلك كله كَانَ فِي الشِّرْكِ وَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ في الشرك، وقال الضحاك: أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نُعَمِّرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، وَنَحْجُبُ الْبَيْتَ، وَنَسْقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾ الآية. وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ما أبالي أن لا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَقَالَ: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد - إِلَى قَوْلِهِ - وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (أخرجه عبد الرزاق ورواه مسلم وأبو داود وابن مردويه وابن حبان وابن جرير وهذا لفظه).
- ٢٣ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
- ٢٤ - قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين
أمر تعالى بمباينة الكفار، وَإِنْ كَانُوا آبَاءً أَوْ أَبْنَاءً، وَنَهَى عَنْ موالاتهم إن اسْتَحَبُّوا أَيْ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَعَّدَ على ذلك، كقوله تَعَالَى: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَعَّدَ مَنْ آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَقَالَ: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ أَيْ اكْتَسَبْتُمُوهَا وَحَصَّلْتُمُوهَا ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ﴾ أَيْ تُحِبُّونَهَا لِطِيبِهَا وَحُسْنِهَا أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ﴾ أَيْ فَانْتَظِرُوا مَاذَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ بِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾. وروى الإمام أحمد عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَّتْ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ»، فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الآن يا عمر» (انفرد بإخراجه البخاري). وقد ثبت
في الصحيح عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أجمعين». وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى ترجعوا إلى دينكم» (رواه الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له عن ابن عمر مرفوعًا).
- ٢٥ - لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وليِتُم مُّدْبِرِينَ
- ٢٦ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ
- ٢٧ - ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يشآء والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَذْكُرُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ لَدَيْهِمْ فِي نَصْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَبِتَأْيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا بِعَدَدِهِمْ وَلَا بِعُدَدِهِمْ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ سَوَاءٌ قَلَّ الْجَمْعُ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ أعجبتهم كثرتهم (أخرج البيهقي: أن رجلًا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة؟ وكانوا اثني عشر ألفًا، فشق ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فأنزل الله: ﴿ويوم حنين ...﴾ الآية)، وَمَعَ هَذَا مَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ وَتَأْيِيدَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين معه، لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَبِإِمْدَادِهِ، وَإِنَّ قَلَّ الْجَمْعُ، ﴿فَكَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصابرين﴾،
وقد كانت وقعة حنين (حنين: اسم موضع بأوطاس، عرف باسم رجل اسمه: حنين بن قانية بن مهلائيل من العماليق، كما في معجم البكري) بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ من الهجرة، وذلك لما فرغ ﷺ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمَهَّدَتْ أُمُورُهَا، وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، وَأَطْلَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فبلغه أن (هوزان) جَمَعُوا لَهُ لِيُقَاتِلُوهُ، وَأَنَّ أَمِيرَهُمْ (مَالِكَ بْنَ عوف النضري) ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ وَالشَّاءَ وَالنَّعَمَ، وَجَاءُوا بِقَضِّهِمْ وقَضِيضِهِمْ؛ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي جَيْشِهِ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ لِلْفَتْحِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَمَعَهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وهم الطلقاء في ألفين، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْعَدُوِّ، فَالْتَقَوْا بِوَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ يُقَالُ لَهُ حُنَيْنٌ، فَكَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فِي غَلَسِ الصُّبْحِ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوزان، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم وقد بادروهم، وَرَشَقُوا بِالنِّبَالِ، وَأَصْلَتُوا السُّيُوفَ، وَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَمَرَهُمْ مَلِكُهُمْ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو راكب يومئذ بغلته الشبهاء، يَسُوقُهَا إِلَى نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ آخِذٌ بركابها الأيمن، وَيَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبدِ الْمُطَّلِبْ»، وَثَبَتَ مَعَهُ من أصحابه قريب من مائة، ثُمَّ أَمَرَ ﷺ عَمَّهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ أَنْ يُنَادِيَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ يَعْنِي شَجَرَةَ بَيْعَةِ
الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تحتها، على أن لا يَفِرُّوا عَنْهُ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِمْ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ، وَيَقُولُ تَارَةً: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فجعلوا يقولون: لبيك لبيك، وانعطف الناس، فتراجعوا إلى رسول الله ﷺ، حتى إن الرجل منهم إن لَمْ يُطَاوِعُهُ بَعِيرُهُ عَلَى الرُّجُوعِ لَبِسَ دِرْعَهُ، ثُمَّ انْحَدَرَ عَنْهُ وَأَرْسَلَهُ، وَرَجَعَ بِنَفْسِهِ إِلَى رسول الله ﷺ، فلما اجتمعت شرذمة منهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَمَرَهُمْ عليه السلام، أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ، وَأَخَذَ قبضة من تراب بَعْدَمَا دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَهُ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، ثُمَّ رَمَى الْقَوْمَ بِهَا، فَمَا بَقِيَ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَهُ مِنْهَا فِي عَيْنَيْهِ وَفَمِهِ مَا شَغَلَهُ عَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ أَقْفَاءَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وقال الإمام أحمد عن (يزيد بن أسيد) قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي
غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ الشجر، فما زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رسول الله ورحمة الله وبركاته، حَانَ الرَّوَاحُ، فَقَالَ: «أَجَلْ» فَقَالَ: «يَا بِلَالُ»، فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظِلُّ طَائِرٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَأَنَا فِدَاؤُكَ، فَقَالَ: «أَسْرِجْ لِي فَرَسِي»، فَأَخْرَجَ سَرْجًا دَفَّتَاهُ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ، قَالَ فَأَسْرَجَ فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا، فَصَافَفْنَاهُمْ عَشِيَّتَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَتَشَامَّتِ الْخِيلَانِ، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ وليِتُم مُّدْبِرِينَ﴾، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» قَالَ: ثُمَّ اقتحم عَنْ فَرَسِهِ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَأَخْبَرَنِي الَّذِي كَانَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ ضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تعالى، قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إلا امتلأت عينيه وَفَمُهُ تُرَابًا، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كإمرار الحديد على الطست الجديد (رواه الإمام أحمد والحافظ البيهقي). وفي الصحيحين عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما أن رجلًا قال له: يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يفر، إن هوزان كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ وَحَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ أخذ بلجام بغلته الْبَيْضَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب» (أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب). قال تعالى: ﴿ثُمَّ أنزل سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أَيْ طُمَأْنِينَتَهُ وَثَبَاتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ الَّذِينَ مَعَهُ ﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَوْلَى ابْنِ بُرْثُنٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ كان مع المشركين يوم حنين قال: فلما الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يوم حنين، لو يقوموا لنا حلب شاة، قال: لما كَشَفْنَاهُمْ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَتَلَقَّانَا عِنْدَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُوا لَنَا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا، قَالَ: فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا، فكانت إياها.
وقال ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يوم حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَدِمْنَا وَلَمْ نولهم الدبرن وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ
على بغلته البيضاء يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بَغْلَتُهُ، فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَقُلْتُ ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ، قَالَ: «نَاوِلْنِي كَفًّا مِنَ التُّرَابِ» فَنَاوَلْتُهُ قَالَ: فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ: «أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ؟» قُلْتُ: هُمْ هُنَاكَ، قَالَ: «اهْتِفْ بِهِمْ» فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، كَأَنَّهَا الشُّهُبُ، وَوَلَّى المشركون أدبارهم (رواه الحافظ البيهقي والإمام أحمد في مسنده بنحوه). وعن شيبة بن عثمان قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْهُ قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَكْشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ، قَالَ: فَجِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ، فَجِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ، إِذْ رُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقال: «يا شيبة يا شيبة ادْنُ مِنِّي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ» قَالَ: فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي وَلَهُو أَحَبُّ إليَّ مِنْ سمعي وبصري، فقال: «يا شيبة قاتل الكفار» (أخرجه الحافظ البيهقي). قال محمد بن إسحاق عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ، حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الملائكة، وفي صحيح مسلم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ قَدْ تَابَ اللَّهُ على بقية هوازن فأسلموا وَقَدِمُوا عَلَيْهِ مُسْلِمِينَ وَلَحِقُوهُ، وَقَدْ قَارَبَ مَكَّةَ عِنْدَ الْجِعْرَانَةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ خيَّرهم بَيْنَ سَبْيِهِمْ وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا سنة آلَافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسًا من الطلقاء، لكي يتألف قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُمْ مِائَةً مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُعْطِيَ مِائَةً (مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ) وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا كَانَ، فَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ * فِي الناس كلهم بمثل محمد
فكأنه ليث على أشباله * وسط المباءة خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
- ٢٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- ٢٩ - قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغرون
أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَيْنِ الطَّاهِرِينَ دِينًا وَذَاتًا، بنفي المشركين الذين هم نجس عَنِ المسجد الحرام، وأن لا يَقْرَبُوهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ نُزُولُهَا في سنة تسعن وَلِهَذَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عليًا صحبة أبي بكر وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يَحُجَّ بعد هذا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَأَتَمَّ الله ذلك وحكم به شرعًا وقدرًا، وكتب عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه أَنِ امْنَعُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ مَسَاجِدِ المسلمين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على نجاسة المشرك، كما ورد في الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ»، وَأَمَّا نَجَاسَةُ بَدَنِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْبَدَنِ وَالذَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ
طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ أَبْدَانِهِمْ، وَقَالَ أشعث عن الحسن مَن صافحهم فليتوضأ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِّن فَضْلِهِ﴾، قال محمد بن إسحاق: قال الناس: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق، فأنزل الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (في اللباب: أخرج أبي حاتم: كان المشركون يجيئون إلى البيت بالطعام يتجرون فيه، فلما نهوا عن إتيان البيت، قال المسلمون: أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: ﴿وَإِنْ خفتم ...﴾ الآية. وأخرج ابن جرير: لما نزلت ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ..﴾ شقّ ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام وبالمتاع؟ فأنزل الله الآية) مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ ﴿إِن شَآءَ﴾، إِلَى قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي هَذَا عِوَضُ مَا تَخَوَّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ تِلْكَ الأسواق، فعوضهم الله مما قطع أَمْرِ الشِّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الكتاب من الجزية، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ أَيْ بِمَا يُصْلِحُكُمْ ﴿حَكِيمٌ﴾ أي فيما يأمر وَيَنْهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، الْعَادِلُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ تبارك وتعالى، وَلِهَذَا عَوَّضَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ بِأَمْوَالِ الْجِزْيَةِ الَّتِي يأخذونها من أهل الذمة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ لَمْ
يَبْقَ لَهُمْ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمَا بِأَيْدِيهِمْ إِيمَانًا صَحِيحًا لَقَادَهُمْ ذَلِكَ
إِلَى الْإِيمَانِ بمحمد ﷺ، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه، فلما جاءوا كفروا به وهو أشرف الرسل على أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ لِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَلِهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ بِبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِسَيِّدِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ وَأَكْمَلِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ أَوَّلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أهل الكتاب بعدما تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ الله أفواجا واستقامت جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ؛ وَلِهَذَا تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ لَهُمْ، وَبَعَثَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حول المدينة فندبهم، واجتمع من المقاتلة نحو ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ جَدْبٍ، وَوَقْتِ قَيْظٍ وَحَرٍّ، وَخَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ الشَّامَ لِقِتَالِ الرُّومِ فَبَلَغَ تَبُوكَ فَنَزَلَ بها
وأقام بها قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ فَرَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ، وَضَعْفِ النَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى. وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ﴾ أَيْ إِنْ لَمْ يُسْلِمُوا ﴿عَن يَدٍ﴾: أَيْ عَنْ قَهْرٍ لَهُمْ وهم غلبة ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إِعْزَازُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رَفْعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ أَذِلَّاءُ صَغَرَةٌ أَشْقِيَاءُ، كما جاء في صحيح مسلم: «لا تبدأوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طريق فاضطروهم إِلَى أَضْيَقِهِ» وَلِهَذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةَ فِي إِذْلَالِهِمْ وَتَصْغِيرِهِمْ وَتَحْقِيرِهِمْ، وَذَلِكَ مِمَّا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ مِنْ رِوَايَةِ (عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ) قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا، إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِينَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أن لا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا ولا كنسية وَلَا قِلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا، وَلَا نُحْيِيَ مِنْهَا مَا كان خططًا للمسلمين، وأن لا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا للمارة وابن السبيل، وأن ننزل مَنْ مَرَّ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نطعمهم، ولا نؤوي فِي كَنَائِسِنَا وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا، وَلَا نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الإِسلام إِنْ أَرَادُوهُ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ نَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ، وَلَا نَكْتَنِيَ بِكُنَاهُمْ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ، وَلَا نَحْمِلَهُ معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعريبة، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَنْ نَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نُظْهِرَ صُلُبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طريق الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا فِي كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، وأن لا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ من حضرة المسلمين، ولا نحرج شعانين ولا بعوثًا، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا
مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا، وَلَا نَتَّخِذَ مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ نُرْشِدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عُمَرَ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ: «وَلَا نَضْرِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» شَرَطْنَا لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا فِي شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ وَوَظَّفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ».
- ٣٠ - وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
- ٣١ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
وَهَذَا إِغْرَاءٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين على قتال الْكُفَّارِ مِنَ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) لِمَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ وَالْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْيَهُودُ فقالوا في العزيز إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ علوًا كبيرًا، وَأَمَّا ضَلَالُ النَّصَارَى
فِي الْمَسِيحِ فَظَاهِرٌ، وَلِهَذَا كَذَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ: ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أَيْ لَا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلافهم، ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ أَيْ يُشَابِهُونَ ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ ضَلُّوا كما ضل هؤلاء ﴿قَاتَلَهُمُ الله﴾ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؟ أَيْ كَيْفَ يَضِلُّونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَعْدِلُونَ إِلَى الْبَاطِلِ؟ وَقَوْلُهُ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾، رَوَى
الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَّ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أُخْتِهِ وَأَعْطَاهَا، فَرَجَعَتْ إلى أخيها فرغبته فِي الْإِسْلَامِ وَفِي الْقُدُومِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فقدم عدي إلى الْمَدِينَةَ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ
طَيِّئٍ وَأَبُوهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْكَرَمِ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفِي عُنُقِ عَدِيٍّ صَلِيبٌ مِنْ فِضَّةٍ، وهو يقرأ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ فَقَالَ: «بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا عدي ما تقول؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أكبر من الله؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَلْ تعلم إلهًا غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام، وفأسلم وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ». وَهَكَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسِيرِ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلها وَاحِدًا﴾ أي الذي ما شَرَعَهُ اتُّبِعَ، وَمَا حَكَمَ بِهِ نُفِّذَ ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَوْلَادِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ٣٢ - يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
- ٣٣ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ﴿أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ﴾: أي ما بعث بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ أَوْ نُورَ الْقَمَرِ بِنَفْخِهِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ وَيَظْهَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقَابِلًا لَهُمْ فِيمَا رَامُوهُ وَأَرَادُوهُ: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وَالْكَافِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ فَالْهُدَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ الصَّادِقَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ النافع (ودين الحق) هو الأعمال الصَّحِيحَةُ النَّافِعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾: أَيْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لي منها». وعن تميم الدارمي رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ هذا الدين يعز عزيزًا ويذل ذليلًا، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر»،
فكان تميم الدارمي يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ
بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافرًا منهم الذل والصغار والجزية (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وفي المسند أيضًا عن عدي بن حاتم قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا عَدِيُّ أَسْلِمْ تَسْلَمْ» فَقُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ»، فَقُلْتُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ أَلَسْتَ مَنِ الرَّكُوسِيَّةِ وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟» قُلْتُ بَلَى! قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا لاَّ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ» قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا، قَالَ: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، تَقُولُ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ، أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حتى تطوف بالبيت من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ». قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قد قالها (أخرجه أحمد في المسند). وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الآية، أَنَّ ذَلِكَ تَامٌّ، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَيَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إلى دين آبائهم» (رواه مسلم في صحيحه).
- ٣٤ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
- ٣٥ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ الْأَحْبَارَ هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ وَالرُّهْبَانُ: عُبَّادُ النَّصَارَى، وَالْقِسِّيسُونَ: عُلَمَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورهبانا﴾ وَالْمَقْصُودُ التَّحْذِيرُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَعُبَّادِ الضَّلَالِ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» قَالُوا: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟»، وَفِي رِوَايَةٍ فَارِسَ وَالرُّومَ؟ قال: «فمن النَّاسُ إِلَّا هَؤُلَاءِ؟». وَالْحَاصِلُ التَّحْذِيرُ مِنَ التَّشَبُّهِ بهم في أقوالهم وأحوالهم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ،
وَمَنَاصِبِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمْ فِي النَّاسِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا كَانَ لِأَحْبَارِ الْيَهُودِ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ خراج وَهَدَايَا وَضَرَائِبُ تَجِيءُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ طَمَعًا مِنْهُمْ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الرِّيَاسَاتُ، فَأَطْفَأَهَا اللَّهُ بنور النبوة وسلبهم إياها، وعوضهم الذل والصغار، وباؤوا بغضب من الله تعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أَيْ وَهُمْ مَعَ أَكْلِهِمُ الْحَرَامَ، يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَيُلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيُظْهِرُونَ لِمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَلَيْسُوا كَمَا يَزْعُمُونَ، بَلْ هُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله﴾ الآية، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس النَّاسِ، فَإِنَّ النَّاسَ عَالَةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى العبّاد، وعلى أرباب الأموال، فإن فَسَدَتْ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ كَمَا قال ابن المبارك:
وَهَلْ أفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ * وَأَحْبَارُ سُوءٍ ورهبانها
وأما الكنز، فقال ابن عمر: هو المال الذي لا تؤدي زكاته، وعنه قَالَ: مَا أُدي زَكَاتُهُ فَلَيْسَ
بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا لا تؤدي زكاته فهو كنز (وروي هَذَا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وغيرهم)، وقال عمر بن الخطاب: أَيُّمَا مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَأَيُّمَا مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طهرة لِلْأَمْوَالِ، وَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعراك ابن مَالِكٍ نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿خُذِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ الآية.
قال الإمام أحمد عن ثوبان قال: لما نزل في الذهب والفضة مَا نَزَلَ قَالُوا: فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قَالَ عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرٍ فَأَدْرَكَهُ وَأَنَا فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قال: «قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ على أمر الآخرة». (حديث آخر): رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ الْآيَةَ، كَبُرَ ذلك على المسلمون وقالوا: ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالًا يَبْقَى بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَفُرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ وَاتَّبَعَهُ ثَوْبَانُ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرضت الْمَوَارِيثَ مِنْ أَمْوَالٍ تَبْقَى بَعْدَكُمْ»، قَالَ فَكَبَّرَ
عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حفظته» (رواه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ تَبْكِيتًا وَتَقْرِيعًا وتهكمًا، كما في قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ أي هذا بذاك وهذا الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ لِأَنْفُسِكُمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَقَدَّمَهُ عَلَى طَاعَةِ
اللَّهِ عُذّب بِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ جَمْعُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ آثَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ رِضَا اللَّهِ عنهم عذبوا بها، وكانت أَضَرَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَنَاهِيكَ بِحَرِّهَا، فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجنوبهم وظهورهم، قال عبد الله بن مسعود: والذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُكْوَى عَبْدٌ بِكَنْزٍ فيمس دينارًا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمٌ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَنْزَ يَتَحَوَّلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ لَا يُدْرِكُ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى
يُقْضَى بَيْنَ العباد ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلى النار».
- ٣٦ - إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ
اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جمادى وشعبان» (رواه الإمام أحمد وأخرجه البخاري في التفسير بتمامه) الحديث. وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أَوَّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الحجة والمحرم» (أخرجه ابن جرير وابن مردويه). وقال سعيد بن منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ قَالَ: مُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» تَقْرِيرٌ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَلَا نَسِيءٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، كَمَا قَالَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات الأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة»، وهكذا قال ههنا: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعًا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «قَدِ اسْتَدَارَ كهيئته يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ» أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّ حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ نَسَأَتِ النَّسِيءَ يَحُجُّونَ فِي كَثِيرٍ مِّن السِّنِينَ بَلْ أَكْثَرِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَزَعَمُوا أَنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، كَمَا سنبينه إذا تكلمنا على النسيء.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ فَهَذَا مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ أَيْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَرِّمُهُ، وَهُوَ الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله ﷺ: «ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى مُضَرَ لِيُبَيِّنَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ فِي رَجَبٍ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، لا كما تَظُنُّهُ رَبِيعَةُ مِنْ أَنَّ رَجَبَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ وَهُوَ رَمَضَانُ اليوم، فبين ﷺ أَنَّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ؛ وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ، وَحَرُمَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِيهِ الْحَجَّ وَيَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَحَرُمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ لِيَرْجِعُوا فِيهِ إلى أَقْصَى بِلَادِهِمْ آمِنِينَ، وَحَرُمَ رَجَبُ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ لِأَجْلِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَالِاعْتِمَارِ بِهِ لِمَنْ يَقْدُمُ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَيَزُورُهُ ثم يعود إلى وطنه آمنًا، وقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أَيْ هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُسْتَقِيمُ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا جَعَلَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْحَذْوُ بِهَا عَلَى مَا سبق من كتاب الله الأول، قال تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ فِي هذه الأشهر المحرمة لأنها آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أليم﴾، وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ؛ وَلِهَذَا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ كثيرة من العلماء، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ قال في الشهور كلها، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الحُرُم أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تعظيم الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الفهم وأهل العقل، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا وَلَا حلالها حرامًا كما فعل أهل الشرك، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ أَيْ جَمِيعَكُمْ ﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ أي جميعًا ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ تعالى قال: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عامًا، ولو كَانَ مُحَرَّمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيحين أنه خرج إلى هوزان فِي شَوَّالَ فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ وَرَجَعَ فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف، فحاصرهم أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حاصر في الشهر الحرام (القول الْآخَرُ): أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، وَقَالَ: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، وَقَالَ: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية، وأما في قوله: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ
التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ، أَيْ كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حاربكم فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ بقتال المشركين في الشهر الحرم إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ الْآيَةَ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَهْلَ الطَّائِفِ وَاسْتِصْحَابِهِ الْحِصَارَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ مِنْ تتمة قتال هوزان وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا الْقِتَالَ وَجَمَعُوا الرِّجَالَ وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فعندها قَصَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا تَحَصَّنُوا بِالطَّائِفِ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ فَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالْمَجَانِيقِ وَغَيْرِهَا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ، وَدَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَاسْتَمَرَّ فِيهِ أَيَّامًا ثُمَّ قَفَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لا يغتفر في الابتداء، وهذا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ واللَّهُ أَعْلَمُ.
- ٣٧ - إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
هَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي شَرْعِ الله بآرائهم الفاسدة، وَتَحْلِيلِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَتَحْرِيمِهِمْ مَا أَحَلَّ الله، فإنهم كان فيهم من القوة والعصبية مَا اسْتَطَالُوا بِهِ مُدَّةَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فِي التحريم، المانع لهم مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ أَحْدَثُوا قَبْلَ الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إِلَى صَفَرٍ، فَيُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الحلال، ليواطئوا عدة ما حرم الله. قال ابن عباس: النسيء أن جنادة الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ، فَيُنَادِي: أَلَا إِنَّ أبا ثمامة لا يجاب وَلَا يُعَابُ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرَ الْعَامَ الْأَوَّلَ العام حَلَالٌ فَيَحِلُّهُ لِلنَّاسِ، فَيُحَرِّمُ صَفَرًا عَامًا، وَيُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ عَامًا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾ يقول: يتركون عامًا وعامًا يحرمونه. وعن مُجَاهِدٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يَأْتِي كل عام إلى المواسم على حمار له فيقول أيها الناس: إني لا أعاب ولا أجاب وَلَا مَرَدَّ لِمَا أَقُولُ، إِنَّا قَدْ حَرَّمْنَا المحرم وأخرنا صفر؛ ثُمَّ يَجِيءُ الْعَامُ الْمُقْبِلُ بَعْدَهُ، فَيَقُولُ مِثْلَ مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ قَالَ: يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ فَيُحِلُّوا مَا حرم الله بتأخير هذا الشهر الحرام، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم يحرمون عوضه صفرًا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بِحَالِهَا عَلَى نِظَامِهَا وَعِدَّتِهَا وَأَسْمَاءِ شُهُورِهَا، ثُمَّ في السنة الثانية يُحَرِّمُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَتْرُكُونَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَبَعْدَهُ صَفَرٌ وَرَبِيعٌ وَرَبِيعٌ إِلَى آخِرِهَا فَيُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ﴿لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾: أَيْ فِي تَحْرِيمِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ تَارَةً يُقَدِّمُونَ تَحْرِيمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَتَارَةً يَنْسَئُونَهُ إِلَى صَفَرٍ أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ ﷺ: «إن الزمان قد استدار» الحديث: أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي عِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَحْرِيمِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْهَا، عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالتَّوَالِي، لَا كما تعتمده جَهَلَةُ الْعَرَبِ مِنْ فَصْلِهِمْ تَحْرِيمَ بَعْضِهَا بِالنَّسِيءِ عن بعض والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق: كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ فَأَحَلَّ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمَ مِنْهَا ما أحل الله عز وجل (القلمس)، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عَبَّادٍ ابْنُهُ قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ، ثُمَّ ابنه
عَوْفُ بْنُ أُمية، ثُمَّ ابْنُهُ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ آخِرَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَحَرَّمَ رَجَبًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ، وَيُحِلُّ الْمُحَرَّمَ عَامًا، ويجعل مكانه صفر، وَيُحَرِّمُهُ عَامًا لِيُوَاطِئَ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فيحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، والله أعلم. (أخرج ابن جرير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيحلون المحرم صفرًا، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله ﴿إِنَّمَا النسيء ...﴾ الآية).
- ٣٨ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
- ٣٩ - إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هَذَا شُرُوعٌ فِي عِتَابِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وحَمَارَّةِ الْقَيْظِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا
قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴿اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾: أَيْ تَكَاسَلْتُمْ وَمِلْتُمْ إِلَى الْمَقَامِ فِي الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾؟ أَيْ ما لكم فعلتم هكذا رضًا مِنْكُمْ بِالدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ؛ ثُمَّ زهَّد تبارك وتعالى فِي الدُّنْيَا، ورغَّب فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ»، وأشار بالسبابة (أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في المسند). وقال الأعمش ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ قَالَ: كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَقَالَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ:
لَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ الْوَفَاةُ، قَالَ: ائْتُونِي بِكَفَنَيِ الَّذِي أُكَفَّنُ فِيهِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَمَا لي من كبير ما أخاف مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذَا؟ ثُمَّ وَلَّى ظَهْرَهُ فَبَكَى، وَهُوَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكِ مِنْ دَارٍ إِنْ كَانَ كَثِيرُكِ لَقَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلُكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا مِنْكِ لَفِي غُرُورٍ. ثُمَّ توعد تعالى من تَرْكِ الْجِهَادِ فَقَالَ: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ فَكَانَ عَذَابَهُمْ ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾: أَيْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وإقامة دينه كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ * ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾: أَيْ وَلَا تَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بِتَوَلِّيكُمْ عَنِ الْجِهَادِ، ونُكُولِكُمْ وَتَثَاقُلِكُمْ عَنْهُ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أَيْ قَادِرٌ على الانتصار من الأعداء بدونكم.
- ٤٠ - إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ﴾ أَيْ تَنْصُرُوا رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ وَحَافِظُهُ كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين﴾ أَيْ عَامَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا هَمَّ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ هَارِبًا صُحْبَةَ صِدِّيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بكر، فَلَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَرْجِعَ الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَجْزَعُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، فَيَخْلُصَ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مِنْهُمْ أَذًى، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا». كَمَا قَالَ الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ قَالَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» (أخرجه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ أَيْ تَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ (في الأشهر وروي عن ابن عباس وغيره أن الضمير يعود على (أبي بكر) لأن الرسول ﷺ لم تزل معه سكينة قال ابن كثير وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة)، وقيل: على أبي بكر، لأن الرسول ﷺ لم تزل معه سكينة، ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾: أَيِ الْمَلَائِكَةِ ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العليا﴾ قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا - الشرك، وكلمة اللَّهِ هِيَ ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. وَفِي الصحيحين: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ أَيْ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ، مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، وَاحْتَمَى بِالتَّمَسُّكِ بِخِطَابِهِ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
- ٤١ - انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
أمر الله تعالى بالنفير العام مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الرُّومِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَحَتَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، فَقَالَ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ وقال أبو طلحة: كهولًا وشبانًا (قال ابن عباس والحسن البصري وعكرمة ومقاتل والضحّاك وغير واحد ﴿انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ أي شبابًا وكهولًا) ما سمع الله عذر أحد، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَرَأَ أَبُو طَلْحَةَ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَقَالَ: أرى ربنا استنفرنا شيوخًا وشبانًا، جَهِّزُونِي يَا بنَّي، فَقَالَ بَنُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ قد غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى مَاتَ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَعَ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ، فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْكَ، فَأَبَى، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَمَاتَ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَةً يَدْفِنُوهُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، فلم يتغير فدفنوه فيها. وقال مجاهد: شبانًا وشيوخًا وأغنياء ومساكين، وقال الحكم: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مَشَاغِيلَ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ يَقُولُ: انْفَرُوا نَشَاطًا وَغَيْرَ نشاط؛ وقال الحسن البصري: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعُمُومِ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا
اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وقال الإمام الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى دُرُوبِ الرُّومِ نَفَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا خِفَافًا وَرُكْبَانًا، وَإِذَا كَانَ النَّفِيرُ إِلَى هَذِهِ السَّوَاحِلِ نَفَرُوا إِلَيْهَا خِفَافًا وَثِقَالًا وَرُكْبَانًا وَمُشَاةً؛ وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ وَقَالَ السُّدِّيُّ قَوْلُهُ ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ يَقُولُ: غَنِيًّا وَفَقِيرًا وَقَوِيًّا وَضَعِيفًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الْمِقْدَادُ وَكَانَ عَظِيمًا سَمِينًا، فَشَكَا إليه،
وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشتد على الناس، فَنَسَخَهَا اللَّهُ فَقَالَ: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قَالَ: وَافَيْتُ (الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ) فَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَالِسًا عَلَى تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عَنْهَا مِنْ عِظَمِهِ يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَقُلْتُ لَهُ: قد أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ البعوث: ﴿انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾، وقال ابن جرير عن حبان بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ قَالَ: نَفَرْنَا مَعَ (صَفْوَانَ بن عمرو) وكان واليًا على حمص، فرأيت شيخًا كبيرًا قد سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ على راحلته فيمن أغار فأقلبت إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا عَمِّ لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ: فَرَفَعَ حَاجِبَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالًا، إلا إِنَّهُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ فَيُبْقِيهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ وَذَكَرَ، وَلَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ عز وجل. ثُمَّ رَغَّبَ تَعَالَى فِي النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ وَبَذْلِ الْمُهَجِ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: ﴿وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، لأنكم تَغْرَمُونَ فِي النَّفَقَةِ قَلِيلًا، فَيُغْنِمُكُمُ اللَّهُ أَمْوَالَ عَدُوِّكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تكفل اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ إِنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يدخله الجنة، أو يرده إلى منزلة بما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ الآية، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَسْلِمْ» قَالَ أَجِدُنِي كَارِهًا، قَالَ: أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا».
- ٤٢ - لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُوَبِّخًا لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي غزوة تبوك وقعدوا بعدما اسْتَأْذَنُوهُ فِي ذَلِكَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ ذَوُو أَعْذَارٍ وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ أَيْ قَرِيبًا أَيْضًا ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾: أَيْ لَكَانُوا جَاءُوا مَعَكَ لِذَلِكَ ﴿وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾: أَي الْمَسَافَةُ إِلَى الشَّامِ ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾: أَيْ لَكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا معكم﴾: أي لو لم يكن لَنَا أَعْذَارٌ لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
- ٤٣ - عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
- ٤٤ - لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
- ٤٥ - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
قَالَ عون: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ ناداه بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ، فَقَالَ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لم أذنت
لهم﴾ (أخرج ابن جرير: اثنان قبلهما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فأنزل الله: ﴿عَفَا الله عَنكَ﴾ اللباب)، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَاتَبَهُ كَمَا تَسْمَعُونَ، ثُمَّ أَنْزَلَ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي أن يأذن لهم إن شاء، فقال: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ منهم﴾ الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُنَاسٍ قالوا: اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ فَاقْعُدُوا، وَلِهَذَا
قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ أَيْ فِي إِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ ﴿وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: هَلَّا تَرَكْتَهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوكَ فَلَمْ تَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْقُعُودِ، لِتَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنْهُمْ فِي إِظْهَارِ طَاعَتِكَ مِنَ الْكَاذِبِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ أَحَدٌ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ﴾ أَيْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ لأنهم يَرَوْنَ الْجِهَادَ قُرْبَةً وَلَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ بَادَرُوا وَامْتَثَلُوا ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ﴾: أَيْ فِي الْقُعُودِ مِمَّنْ
لَا عُذْرَ لَهُ ﴿الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أَيْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ شَكَّتْ فِي صِحَّةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾: أَيْ يَتَحَيَّرُونَ، يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى وَلَيْسَتْ لَهُمْ قَدَمٌ ثَابِتَةٌ فِي شَيْءٍ، فَهُمْ قَوْمٌ حَيَارَى هَلْكَى، لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ، وَمَنْ يضلل الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سبيلا.
- ٤٦ - وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ. - ٤٧ - لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ﴾ أَيْ مَعَكَ إِلَى الْغَزْوِ ﴿لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾ أَيْ لَكَانُوا تَأَهَّبُوا لَهُ ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ أَيْ أَبْغَضَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَكَ قَدَرًا ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أَيْ أَخَّرَهُمْ، ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعدين﴾ أي قدرًا، ثم بين تَعَالَى وَجْهَ كَرَاهِيَتِهِ لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا﴾ أَيْ لِأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ أَيْ وَلَأَسْرَعُوا السَّيْرَ وَالْمَشْيَ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْفِتْنَةِ، ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ وَمُسْتَحْسِنُونَ لِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ يَسْتَنْصِحُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إِلَى وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَسَادٍ كَبِيرٍ. وقال مجاهد ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾: أَيْ عُيُونٌ يَسْمَعُونَ لَهُمُ
الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لَا يَبْقَى لَهُ اخْتِصَاصٌ بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ، بَلْ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِالسِّيَاقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وقال محمد ابن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سلول) و(الجد بْنُ قَيْسٍ) وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ، وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ،
فَقَالَ: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ فَقَالَ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالظالمين﴾،
فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا﴾ فَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ خَرَجُوا وَمَعَ هَذَا مَا خَرَجُوا، كما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تثبيتًا﴾.
- ٤٨ - لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُحَرِّضًا لِنَبِيِّهِ عليه السلام عَلَى الْمُنَافِقِينَ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ﴾ أَيْ لَقَدْ أَعْمَلُوا فِكْرَهُمْ وَأَجَالُوا آرَاءَهُمْ فِي كَيْدِكَ وَكَيْدِ أَصْحَابِكَ وخذلان دينك وإخماده مُدَّةً طَوِيلَةً، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ رَمَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَحَارَبَتْهُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقُوهَا فَلَمَّا نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، ثُمَّ كُلَّمَا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ غَاظَهُمْ ذَلِكَ وَسَاءَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
- ٤٩ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿ائْذَنْ لِي﴾ فِي الْقُعُودِ، ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ بِالْخُرُوجِ مَعَكَ بِسَبَبِ الْجَوَارِي مِنْ نساء الروم، قال تَعَالَى: ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ﴾ أَيْ قَدْ سَقَطُوا فِي الْفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ هَذَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ (لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ): «هَلْ لَكَ يَا جَدُّ الْعَامَ فِي جِلَادِ بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أو تأذن لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي مَا رَجُلٌ أَشَدُّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، فَفِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ (أخرجه محمد بن إسحاق عن الزهري وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وكان الجد بن قيس من أشراف بني سلمة) الآية: أي إن كان يَخْشَى مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ به، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ وَلَا مَهْرَبَ.
- ٥٠ - إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
- ٥١ - قُلْ لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون
يعلم تبارك وتعالى نبيَّه ﷺ بعدواة هَؤُلَاءِ لَهُ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَصَابَهُ مِنْ حَسَنَةٌ، أَيْ فَتْحٍ وَنَصْرٍ وَظَفَرٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَيَسُرُّ أَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: جعل المنافقون المتخلفون بالمدينة يخبرون عن النبي ﷺ أخبار السوء، ويقولون: إنه هو وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله: ﴿إن تصبك حسنة ...﴾ الآية) أي قد احترزنا ⦗١٤٨⦘ من متابعته قَبْلِ هَذَا، ﴿وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ فَأَرْشَدَ اللَّهُ تعالى رسول الله ﷺ إلى جَوَابِهِمْ فِي عَدَاوَتِهِمْ هَذِهِ التَّامَّةِ، فَقَالَ ﴿قُل﴾ أَيْ لَهُمْ، ﴿لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ أي نحن تحت مشيئته وَقَدَرِهِ، ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ أَيْ سَيِّدُنَا وَمَلْجَؤُنَا، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ وَنَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
- ٥٢ - قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
- ٥٣ - قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ
- ٥٤ - وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، ﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ﴾ أَيْ تَنْتَظِرُونَ بِنَا ﴿إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين﴾ شهادة أو ظفر بكم، ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ﴾ أي ننتظر بِكُمْ ﴿أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ أي ننتظر بكم هذا بِسَبْيٍ أَوْ بِقَتْلٍ، ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أو كرها﴾ (في اللباب: أخرج ابن جرير: قال الجد بن قيس: إني رأيت لم أصبر ولكن أعينك بمالي، فنزلت فيه: ﴿أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كرها ...﴾ الآية) أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ ﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ﴾ أي وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ بِالْإِيمَانِ، ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كسالى﴾ أي ليس لهم قدم صَحِيحٌ وَلَا هِمَّةٌ فِي الْعَمَلِ، ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ﴾ نَفَقَةً ﴿إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾، وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ المصدوق ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يمل حتى تملوا» و«إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا»، فَلِهَذَا لَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ هَؤُلَاءِ نَفَقَةً وَلَا عَمَلًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
- ٥٥ - فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾، كقوله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بِزَكَاتِهَا وَالنَّفَقَةِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ تَقْدِيرُهُ: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَوِيُّ الْحَسَنُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أَيْ وَيُرِيدُ أَنْ يُمِيتَهُمْ - حِينَ يُمِيتُهُمْ - عَلَى الْكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنَكَى لَهُمْ وَأَشَدَّ لِعَذَابِهِمْ؛ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاجِ لهم فما هم فيه.
- ٥٦ - وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
- ٥٧ - لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
يخبر تعالى نبيه محمدًا ﷺ عَنْ جَزَعِهِمْ وَفَزَعِهِمْ وَفَرَقِهِمْ وَهَلَعِهِمْ أَنَّهُمْ ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ يَمِينًا مُؤَكَّدَةً ﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ أَيْ فَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْحَلِفِ، ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ أَيْ حِصْنًا يَتَحَصَّنُونَ بِهِ وحرزًا يتحرزون بِهِ، ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ وَهِيَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ ﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾ وَهُوَ السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ وَالنَّفَقُ، ﴿لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أَيْ يُسْرِعُونَ فِي ذَهَابِهِمْ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَالِطُونَكُمْ كرهًاَ لَا محبة، وَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ وَغَمٍّ، لأن الإسلام وأهله لا يزالون في عز ونصر ورفعة.
- ٥٨ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
- ٥٩ - وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ﴾ أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ ﴿مَّن يَلْمِزُكَ﴾ أَيْ يَعِيبُ عَلَيْكَ ﴿فِي﴾ قَسْمَ ﴿الصَّدَقَاتِ﴾ إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ، وَهُمُ الْمُتَّهَمُونَ المأبونون، ومع هَذَا لَا يُنْكِرُونَ لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ لِحَظِّ أنفسهم، ولهذا ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ أَيْ يَغْضَبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، قال قتادة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَذُكِرَ لنا أن رجلًا من أهل البادية أَتَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ مَا عَدَلْتَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «ويلك فمن الذي يعدل عليك بعدي؟»، وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ (ذِي الْخُوَيْصِرَةِ) لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ: اعدل، فإنك لن تَعْدِلْ، فَقَالَ: «لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ رَآهُ مُقَفِّيًا: «إِنَّهُ يخرج من ضِئْضِيء (أي من أصله ومعدنه أو من نسله) هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهِ مَعَ صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ»، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى ما هو خير لهم من ذلك ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ
إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالتَّوَكُّلَ على الله وحده، في قَوْلُهُ ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ﴾، وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى الله وحده، في التوفيق لطاعة الرسول ﷺ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
- ٦٠ - إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
لما ذكر تَعَالَى اعْتِرَاضَ الْمُنَافِقِينَ الْجَهَلَةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَلَمْزَهُمْ إِيَّاهُ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، بيَّن تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَسَمَهَا وَبَيَّنَ حُكْمَهَا وَتَوَلَّى أَمْرَهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْ قَسْمَهَا إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، فَجَزَّأَهَا لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، هل يجب استيعاب الدفع لها أَوْ إِلَى مَا أَمْكَنَ مِنْهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أحدهما) أنه يجب ذلك، وهو الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، (وَالثَّانِي): أَنَّهُ لَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بل يجوز الدفع إلى واحد منها، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (منهم عمر وابن عباس وحذيفة وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون ابن مهران وغيرهم). وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور، ولشدة فَاقَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أحمد، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: الْفَقِيرُ لَيْسَ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْفَقِيرَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ؛ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْمُحَارَفُ عِنْدَنَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَالْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ وَيَطُوفُ وَيَتَّبِعُ النَّاسَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ، وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ.
وَلْنَذْكُرْ أَحَادِيثَ تَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فأما الفقراء فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرّةٍ سَوِيٍّ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو داود والترمذي).
وعن عبيد الله ابن عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ يَسْأَلَانِهِ من الصدقة فقلّب فيهما الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قوي)، وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ» قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسُ شَيْئًا» (رواه الشيخان). وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمُ الْجُبَاةُ وَالسُّعَاةُ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا قِسْطًا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَن يَكُونُواْ مِنَ أَقْرِبَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِمَا ثبت عن عبد المطلب بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ انْطَلَقَ هُوَ وَالْفَضْلُ بْنُ العباس يَسْأَلَانِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أوساخ
الناس» (رواه مسلم). وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَأَقْسَامٌ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيُسْلِمَ، كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ (صَفْوَانَ بْنَ أُمية) مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وقد كان شهدهًا مشركًا، كما قال الإمام أحمد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إليَّ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حتى إنه لأحب الناس إلي (رواه أحمد ومسلم والترمذي). وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَحْسُنَ إِسْلَامُهُ وَيَثْبُتَ قَلْبُهُ، كَمَا أَعْطَى يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ صَنَادِيدِ الطُّلَقَاءِ وَأَشْرَافِهِمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَقَالَ: «إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أحب إليَّ منه خشية أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
بذهبيه فِي تُرْبَتِهَا مِنَ الْيَمَنِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ، وَزَيْدِ الْخَيْرِ، وَقَالَ: «أَتَأَلَّفُهُمْ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِمَا يُرْجَى مِنْ إِسْلَامِ نُظَرَائِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى لِيَجْبِيَ الصَّدَقَاتِ مِمَّنْ يَلِيهِ أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْ حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرَ من أطراف البلاد.
وَهَلْ تُعْطَى الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ؟ فِيهِ خِلَافٌ، فَرُوِيَ عن
عمر وعامر والشعبي وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَأَذَلَّ لَهُمْ رِقَابَ الْعِبَادِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعْطَوْنَ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوزان، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الرِّقَابُ فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُقَاتِلِ وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون؛ وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ لَا بَأْسَ أَنْ تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك أَيْ إِنَّ الرِّقَابَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُعْطَى المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالًا؛ وفي الحديث: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الذي يريد العفاف» (رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ). وَفِي الْمُسْنَدِ عَنِ أبي الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ: «أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو ليسا وَاحِدًا؟ قَالَ: «لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَهُمْ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً أَوْ ضَمِنَ دَيْنًا فَلَزِمَهُ فَأَجْحَفَ بِمَالِهِ أَوْ غَرِمَ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ أَوْ فِي معصية ثم
تاب فهؤلاء يدفع إليهم، لما روي عن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ»، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عليه فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذلك» (أخرجه مسلم في صحيحه). وَأَمَّا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَمِنْهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لا حق لهم في الديون. وعند الحسن: والحج من سبيل الله وَكَذَلِكَ ﴿ابْنُ السَّبِيلِ﴾ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَفَرِهِ، فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يَكْفِيهِ إِلَى بلده وإن كان له مال، لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوكَ» (رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري). وَقَوْلُهُ: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾ أَيْ حُكْمًا مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ وَقَسْمِهِ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: أَيْ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا وَبِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يقوله وَيَشْرَعُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ٦١ - وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
⦗١٥٢⦘
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ قَوْمٌ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بالكلام فيه (قيل: هو عتاب بن قشير، وقيل هو نبتل بن الحارث) وَيَقُولُونَ ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ أَيْ مَنْ قَالَ لَهُ شيئًا صدقة فينا، ومن حدّثه صدقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي هو أذن يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ أي وهو حجة على الكافرينن وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
- ٦٢ - يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ
- ٦٣ - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
قال قتادة: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، قَالَ: فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ أَشَرُّ مِنَ الْحِمَارِ، قَالَ: فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟» فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ألم يتحققوا أنه مَنْ حَآدَّ الله عز وجل أي شاقه وحاربه وخالفه ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا﴾ أَيْ مهانًا معذبًا، و﴿ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ أَيْ وَهَذَا هُوَ الذُّلُّ الْعَظِيمُ وَالشَّقَاءُ الْكَبِيرُ.
- ٦٤ - يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بما فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ استهزؤوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللَّهُ أَن لا يُفْشِيَ عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير﴾، وقال في هذه الآية: ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ عَلَى رَسُولِهِ مَا يفضحكم به ويبين له أمركم، كقوله تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ﴾، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ الفاضحة فضحت المنافقين.
- ٦٥ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ
- ٦٦ - لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا أَرَى قُرَّاءَنَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ؛ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقد ارتحل نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَقَالَ: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تستهزئون - إلى قوله - كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ وإن رجليه لتسفعان الحجارة
وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو متعلق بسيف رَسُولَ اللَّهِ ﷺ (ذَكَرَهُ الْمَدِينِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ). وقال ابن إسحاق: كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ (وَدِيعَةُ بْنُ ثابت) ورجل من أشجع يقال له (مخشى بن حمير) يسيرون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الحبال، إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احترقوا فاسألهم عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فقال مخشى بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَعَدَ بِيَ اسْمِي وَاسْمُ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفي عَنْهُ في هذه الآية (مخشى بْنُ حُمَيِّرٍ) فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يوم اليمامة
(رواه ابن إسحاق). وقال قتادة بينما النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وركبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ: «عليَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ» فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا»، فَحَلَفُوا مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أَيْ بِهَذَا الْمَقَالِ الَّذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ، ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾ أَيْ لَا يُعْفَى عَنْ جَمِيعِكُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ بَعْضِكُمْ ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ أَيْ مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاجِرَةِ الْخَاطِئَةِ.
- ٦٧ - الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
- ٦٨ - وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى خِلَافِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ هَؤُلَاءِ ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ أَيْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ﴿نَسُواْ اللَّهَ﴾ أَيْ نَسُوا ذِكْرَ اللَّهِ ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ أَيْ
عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: ﴿فاليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الدَّاخِلُونَ فِي طَرِيقِ الضَّلَالَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي ذُكِرَ عَنْهُمْ، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ هُمْ وَالْكُفَّارُ ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ أَيْ كِفَايَتُهُمْ فِي الْعَذَابِ، ﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾.
- ٦٩ - كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: أَصَابَ هَؤُلَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تعالى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ، ﴿بِخَلاقِهِمْ﴾ قال الحسن: بدينهم، ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ أَيْ فِي الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أَيْ بَطَلَتْ مَسَاعِيهِمْ فَلَا ثَوَابَ لَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ، ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لهم عليها ثواب. عن ابن عباس قال: مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّهُمْ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (أخرجه ابن جرير عن عطاء بن عكرمة عن ابن عباس). وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَبَاعًا بِبَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قال: «فمن؟»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْخَلَاقُ الدِّينُ، ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا صَنَعَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: «فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ؟» (قال ابن كثير: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ).
- ٧٠ - أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ أَلَمْ تُخْبَرُوا خَبَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْغَرَقِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ آمَنَ بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام، ﴿وَعَادٍ﴾ كَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ لَمَّا كَذَّبُوا هُودًا عليه السلام، ﴿وَثَمُودَ﴾ كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لَمَّا كَذَّبُوا صَالِحًا عليه السلام وَعَقَرُوا النَّاقَةَ، ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ﴾ كَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ عليهم وأهلك ملكهم نمرود لَعَنَهُ اللَّهُ، ﴿وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عليه السلام وكيف أصابتهم
الرجفة وَعَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾ قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ كانوا يسكنون في مدائن، وقال ﴿والمؤتفكة أهوى﴾، وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّ اللَّهِ لُوطًا عليه السلام، وَإِتْيَانِهِمُ الْفَاحِشَةَ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أَيْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ، فَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالدَّمَارِ.
- ٧١ - وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ حكيم
لما ذكر تَعَالَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الذَّمِيمَةَ عَطَفَ بِذِكْرِ صِفَاتِ المؤمنين المحمودة، فقال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أَيْ يَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضًا» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وينهون عن المنكر﴾، كقوله تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أَيْ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَيُحْسِنُونَ إِلَى خَلْقِهِ، ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ فِيمَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زَجَرَ، ﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ سَيَرْحَمُ اللَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات، ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ أي يعز من أطاعه، فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي قِسْمَتِهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِهَؤُلَاءِ، وَتَخْصِيصِهِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ تبارك وتعالى.
- ٧٢ - وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ أَيْ حَسَنَةَ الْبِنَاءِ طَيِّبَةَ الْقَرَارِ، كَمَا جَاءَ في الصحيحين: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»، وقال ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» (أخرج الشيخان عن أبي هريرة). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكواكب في السماء» أخرجاه في الصحيحين. وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ»، وعند الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لغرفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هِيَ؟ فَقَالَ: «لِمَنْ طيَّب الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وصلى بالليل والناس نيام»، وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا هَلْ من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا حظر لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَقَالَ الْقَوْمُ» إِنْ شاء الله (رواه ابن ماجه عن أسامة بن زيد)،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أَيْ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، مِمَّا هم فيه من النعيم، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ والخير في يديك، فيقول: هل
رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ لكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» (رواه الشيخان ومالك عن أبي سعيد الخدري).
- ٧٣ - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
- ٧٤ - يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَخْفِضَ جَنَاحَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَصِيرَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إِلَى النَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ: سَيْفٍ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾، وَسَيْفٍ لِلْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر﴾ وسيف للمنافقين ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾، وَسَيْفٍ لِلْبُغَاةِ ﴿فَقَاتِلُواْ التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله﴾،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُجَاهَدُونَ بِالسُّيُوفِ إِذَا أَظْهَرُوا النفاق). قال ابن مسعود ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾ قال: بيده قإن لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَكْفَهِرَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ، وَأَذْهَبَ الرِّفْقَ عَنْهُمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْكَلَامِ وهو مجاهدتهم. وقال الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم؛ ولا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُؤَاخِذُهُمْ بِهَذَا وَتَارَةً بِهَذَا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ واللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) وَذَلِكَ أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجني عَلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِلْأَنْصَارِ أَلَا تنصرون أَخَاكُمْ؟ وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَقَالَ: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل﴾، فَسَعَى بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ، فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيه هذه الآية.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسًا فِي ظِلِّ شجرة، فقال: «إنه يسأتيكم إنسان فينظر إِلَيْكُمْ - بِعَيْنَيِ الشَّيْطَانِ - فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ» فلم يلبثوا أن طلع عليهم رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟» فانطلق الرجل، فجاءه بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا حَتَّى تَجَاوُزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالوا﴾ (أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس) الآية، وقوله: ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وقيل: في (عبد الله
بن أبي) همَّ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي ﷺ وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلًا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية، روى الحافظ البيهقي في كتاب «دلائل النبوة» عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَقُودُ بِهِ، وَعَمَّارٌ يسوق الناقة، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عشر راكبًا قد اعترضوه فيها، قال: فانتهرهم رسول الله ﷺ، وصرخ بهم، فولوا مُّدْبِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟» قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكَّابَ، قَالَ: «هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أَرَادُوا؟» قُلْنَا: لَا، قال: «أرادوا أن يزاحموا رسول الله ﷺ في العقبة فليقوه منها»، قلنا يا رسول الله أفلا نبعث إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: «لَا، أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ العرب بينها أن محمدًا قاتل، حتى إذا أظهره الله أقبل عليهم يقتلهم». وقوله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِّن فَضْلِهِ﴾ أَيْ وَمَا لِلرَّسُولِ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إلاّ أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته، وَلَوْ تَمَّتْ عَلَيْهِمُ السَّعَادَةُ لَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِمَا جاء به كما قال ﷺ لِلْأَنْصَارِ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا: قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُقَالُ حَيْثُ لَا ذنب، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ﴾ الآية، ثم دعاهم تبارك وتعالى إِلَى التَّوْبَةِ فَقَالَ: ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أَيْ وَإِنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقِهِمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا: أَيْ بِالْقَتْلِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَالْآخِرَةِ: أَيْ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْهَوَانِ وَالصَّغَارِ ﴿وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ أَيْ وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم، لا يحصِّلُ لَهُمْ خَيْرًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ شَرًّا.
- ٧٥ - وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
- ٧٦ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
- ٧٧ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
- ٧٨ - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ لئن أغناه الله مِن فَضْلِهِ لَيَصَّدَّقَنَّ مِنْ مَالِهِ وَلَيَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَمَا وَفَّى بِمَا قَالَ، وَلَا صَدَقَ فِيمَا ادَّعَى، فَأَعْقَبَهُمْ هَذَا الصَّنِيعُ نِفَاقًا سَكَنَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ اللَّهَ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وقد ذكر كثير من المفسرين أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي (ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ) الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حديث رواه ابن جرير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مالًا، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» قَالَ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو شئت أن تسير الجبال معي ذَهَبًا
وَفِضَّةً لَسَارَتْ» قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَرَزَقَنِي مَالًا لأعطينَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا»، قال: فاتخذ غنمًا، فنمت كما ينمي الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا، حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ والعصر في
جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكَ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ، فَتَنَحَّى حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تنمى كما ينمى الدُّودُ، حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، فَطَفِقَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ يوم الجمعة ليسألهم عَنِ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟» فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ غَنَمًا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا ويح ثعلبة»، وأنزل الله عز وجل ثناؤه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة﴾ الآية، ونزلت فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رجلين على الصدقة من المسلمين، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: «مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ - فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا»، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ، فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، وَمَآ أَدْرِي مَا هَذَا! انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ عُودَا إليَّ، فَانْطَلَقَا، وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ، فَعَزْلَهَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ استقبلهما بهما، فَلَمَّا رَأَوْهَا، قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْكَ هَذَا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه، ومرا على الناس، فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما، فقرأه فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ! انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ»، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ الآية. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان (أخرجه ابن جرير بتمامه وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لم يقبل صدقته في حياته فلما قبض ﷺ عرضها على أبي بكر فلم يقبلها ثم عرضها على عمر فلم يقبلها حتى هلك في زمن عثمان، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم بنحوه). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾ الآية، أَيْ أَعْقَبَهُمُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمُ الوعد وكذبهم، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ الآية، يخبر تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِضَمَائِرِهِمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ لَهُمْ أموال تصدقوا
منها وشكروا عليها، فإن الله أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أَيْ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ وَشَهَادَةٍ وَكُلَّ سِرٍّ وَنَجْوَى، وَيَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ.
- ٧٩ - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وهذا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ من عيبهم ولمزهم في جيمع الأحوال، وإن جَاءَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَالٍ جَزِيلٍ قَالُوا؛ هَذَا مِرَاءٌ، وَإِنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ قَالُوا: إِنَّ الله لغني عن صدقة هذا، كما روى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل (أي نؤاجر أنفسنا في الحمل، وفي رواية عنده في التفسير: نتحامل، أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة) عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فقالوا: مراء، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المطوعين﴾ الآية. وقال ابن عباس: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ مَا جاء عبد الرحمن بما جاء إلا رياء، وقالوا: إن
الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع. وقال ابن إسحاق: كان من المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عوف) تصدق بأربعة آلاف درهم، و(عاصم بن عدي) أخو بَنِي الْعَجْلَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رغب في الصدقة وَحَضَّ عَلَيْهَا، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بِمِائَةِ وَسَقٍ مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا رِيَاءٌ، وَكَانَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِجُهْدِهِ (أبو عقيل) حليف بني عمرو ابن عَوْفٍ، أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهُ فِي الصدقة، فتضاحكوابه، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ أَبِي عقيل. وقال الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا»، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَلْفَيْنِ أُقْرِضُهُمَا رَبِّي وَأَلْفَيْنِ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ» وَبَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَصَابَ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَصَبْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، صَاعٌ أُقْرِضُهُ لِرَبِّي وَصَاعٌ لِعِيَالِي، قَالَ: فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا أَعْطَى الَّذِي أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ إِلَّا رِيَاءً، وَقَالُوا: أَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ منهم﴾ (أخرج الحافظ البزار) الآية، وقوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ هذا مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ
جَنْسِ الْعَمَلِ، فَعَامَلَهُمْ معاملة من سخر منهم انْتِصَارًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعَدَّ لِلْمُنَافِقِينَ فِي الآخرة عذابًا أليمًا، لأن الجزاء من جنس العمل.
- ٨٠ - اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ سبعين مرة فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ السَّبْعِينَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي أَسَالِيبِ كَلَامِهَا تَذْكُرُ السَّبْعِينَ فِي مُبَالَغَةِ كَلَامِهَا، وَلَا تُرِيدُ التَّحْدِيدَ بِهَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِخِلَافِهَا؛ وَقِيلَ: بَلْ لَهَا مفهوم كما روي، لما نزلت هذه الآية قال ﷺ: «أن رَبِّي قَدْ رَخَّصَ لِي فِيهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لهم أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يغفر لهم»، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا ثَقُلَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) انْطَلَقَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إن أبي يحتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فانطلق معه حتى شهده، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه؟ فقال: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مرة﴾، ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين» (رواه ابن جرير بسنده).
- ٨١ - فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
- ٨٢ - فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَآءً
بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بَعْدَ خُرُوجِهِ ﴿وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ﴾ مَعَهُ ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ﴾ - أَيْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ - ﴿لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ﴾، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، عِنْدَ طِيبِ الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ، فَلِهَذَا قَالُوا: ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿نَارُ جَهَنَّمَ﴾ الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا بمخالفتكم ﴿أَشَدُّ حَرًّا﴾ مِمَّا فَرَرْتُمْ مِنْهُ مِنَ الْحَرِّ بَلْ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نار بني آدم التي توقدنها جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ، فَقَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم ومالك عن أبي هريرة)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَضُرِبَتْ في البحر مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا منفعة لأحد» (أخرجه أحمد قال ابن كثير: إسناده صحيح). وروى الترمذي وَابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أوقد الله عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سوداء كالليل المظلم». وعن أنَس قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿نَارًا وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ قَالَ: «أُوقِدُ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا» (أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك)، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً للشوى﴾، وقال تعالى: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ من حديد﴾، وقال تعالى: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليذوقوا العذاب﴾، وقال تعالى هنا: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يفقهون﴾ (في اللباب: أخرج ابن جرير: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، في حر شديد، إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر، فنزلت: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ ...﴾ الآية) أي أنهم لو يَفْقَهُونَ وَيَفْهَمُونَ لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ الله في الحر، ليتقوا به من حَرَّ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا، ولكنهم كما قال الشاعر:
* كالمستجير من الرمضاء بالنار *
ثم قال تعالى ﷻ متوعدًا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا﴾ الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الدُّنْيَا قَلِيلٌ، فَلْيَضْحَكُوا فِيهَا مَا شَاءُوا، فَإِذَا انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَصَارُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل اسْتَأْنَفُوا بُكَاءً لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وقال الحافظ الموصلي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، كَأَنَّهَا جَدَاوِلُ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فَتَسِيلَ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أزجيت فيها لجرت» (رواه ابن ماجة والحافظ الموصلي).
- ٨٣ - فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ﴾ أَيْ رَدَّكَ اللَّهُ مِنْ غَزْوَتِكَ هَذِهِ ﴿إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾: أَيْ مَعَكَ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا﴾، أَيْ تعزيزًا لَهُمْ وَعُقُوبَةً، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ الآية، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزَاةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ أَيْ مَعَ النِّسَاءِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ جَمْعَ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ، وَلَوْ أُرِيدُ النِّسَاءُ لَقَالَ: فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَوَالِفِ أَوِ الْخَالِفَاتِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
- ٨٤ - وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يَبْرَأَ من المنافقين، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات، وأن لا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ؛ وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي (عبد الله بن أبي سلول) رأس المنافقين. كما قال البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا توفي عبد الله ابْنُ أُبَيٍّ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فسأله أن يعيطه قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنما خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لهم﴾ وسأزيده على سبعين»، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل آيَةَ: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ (أخرجه البخاري ومسلم).
وعن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وقف يريد الصلاة عليه تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي) القائل يوم كَذَا وَكَذَا - يُعَدِّدُ أَيَّامَهُ -؟ قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَبَسَّمُ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآية، لو أعلم أني لو زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ»، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى مَعَهُ، وَقَامَ عَلَى قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ ما كان يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا﴾ الآية، فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قبره حتى قبضه الله عز وجل (رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح)، وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَتَى ابْنُهُ النَّبِيَّ ﷺ
فقال: يا رسول الله إنك لَمْ تَأْتِهِ لَمْ نَزَلْ نُعَيَّرُ بِهَذَا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ فَوَجَدَهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ، فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلُوهُ»، فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ مِنْ ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه. وقال البخاري: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي بعدما أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قميصه، والله أعلم.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إلى رسول الله ﷺ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، ثُمَّ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ
إِيَّاهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا﴾ (أخرجه ابن جرير الطبري) الآية، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ لَا يُصَلِّي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا يقوم على قبره، كما قال قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا دعي إلى جنازة سَأَلَ عَنْهَا، فَإِنْ أُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا قَامَ فصلى عليها، وإن كان غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ لِأَهْلِهَا: «شَأْنُكُمْ بِهَا»، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةِ مَنْ جُهِلَ حَالُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أعيان المنافقين، قَدْ أَخْبَرَهُ بِهِمْ رسولُ اللَّهِ ﷺ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: (صَاحِبُ السر) الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، وَلَمَّا نَهَى اللَّهُ عز وجل عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِلِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْ أَكْبَرِ الْقُرُبَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ فَشَرَعَ ذَلِكَ، وَفِي فِعْلِهِ الْأَجْرُ الجزيل، كما ثبت في الصحاح: «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُد»؛ وَأَمَّا الْقِيَامُ عِنْدَ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ فروى أبو داود عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا فرغ من دفن الميت وقف على قبره وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآن يسأل» (أخرجه أبو داود في سننه).
- ٨٥ - وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلِلَّهِ الحمد والمنة.
- ٨٦ - وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
- ٨٧ - رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا وَذَامًّا لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ، النَّاكِلِينَ عَنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُودِ السَّعَةِ وَالطَّوْلِ، وَاسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ وَقَالُوا: ﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ﴾ وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْعَارِ وَالْقُعُودِ فِي الْبَلَدِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُنَّ الْخَوَالِفُ بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ، فَإِذَا وَقَعَ الْحَرْبُ كَانُوا أَجْبَنَ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ أَمْنٌ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ كَلَامًا كَمَا قَالَ تعالى عنهم: ﴿فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذَا ذَهَبَ
الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ أَيْ عَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْكَلَامِ الْحَادِّ الْقَوِيِّ فِي الأمن، كما قَالَ الشَّاعِرُ:
أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارًا: جَفَاءً وَغِلْظَةً * وَفِي الحرب أشباه النساء الفوارك؟
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ بِسَبَبِ نُكُولِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ مَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ فَيَفْعَلُوهُ، وَلَا مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فَيَجْتَنِبُوهُ.
- ٨٨ - لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- ٨٩ - أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
لَمَّا ذكر تعالى ذنب المنافقين، بيّن ثناءه على الْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ فَقَالَ: ﴿لَكِنِ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ﴾ لبيان حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ وَالدَّرَجَاتِ العلي.
- ٩٠ - وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثُمَّ بيَّن تَعَالَى حَالَ ذَوِي الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ الَّذِينَ جُاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يعتذرون إليه، وَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بني غفار، وهذا القول هو الأظهر (روى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ﴿وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَيَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ وقراءة الجمهور بالتشديد)، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذَا: ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ لَمْ يَأْتُوا فَيَعْتَذِرُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٍ: ﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ قَالَ: نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، جَاءُوا فَاعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذِرْهُمُ الله؛ وكذا قال الحسن وقتادة: ثُمَّ أَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَالَ: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
- ٩١ - لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
- ٩٢ - وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
- ٩٣ - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
ثُمَّ بيَّن تَعَالَى الْأَعْذَارَ الَّتِي لَا حَرَجَ على من قعد معها على الْقِتَالِ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلشَّخْصِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَهُوَ الضَّعْفُ فِي التَّرْكِيبِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِلَادَ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْهُ الْعَمَى وَالْعَرَجُ وَنَحْوُهُمَا؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِهِ، ومنها ما هو عارض بسبب مرض فِي بَدَنِهِ شَغَلَهُ عَنِ الْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ الله، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز لِلْحَرْبِ، فَلَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَرَجٌ إِذَا قَعَدُوا وَنَصَحُوا فِي حَالِ قُعُودِهِمْ، وَلَمْ يُرْجِفُوا بِالنَّاسِ، وَلَمْ يُثَبِّطُوهُمْ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ فِي حَالِهِمْ هَذَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قال قتادة: نزلت هذه الآية في عائذ ابن عمرو المزني، وروي عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ بَرَاءَةَ، فَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ينظر ما نزل عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أَعْمَى فَقَالَ: كَيْفَ بِي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَى الضعفآء﴾ الآية. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمر النَّاسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا غَازِينَ مَعَهُ، فَجَاءَتْهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: «وَاللَّهِ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ»، فتولوا وهم يبكون، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْلِسُوا عَنِ الْجِهَادِ وَلَا يَجِدُونَ نَفَقَةً وَلَا مَحْمَلًا، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ حِرْصَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ أَنْزَلَ عُذْرَهُمْ في كتابه فقال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء﴾ إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ نزلت في بني مقرن من مزينة، كانوا سبعة نفر، فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ: ﴿لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾. وفي حديث أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْتُمْ واديًا ولا سرتم سيرًا
إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ» قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نعم حبسهم العذر» (أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك). وعن جَابِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سَلَكْتُمْ طَرِيقًا إِلَّا شَرَكُوكُمْ في الأجر حبسهم المرض» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه)، ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى الْمَلَامَةَ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْقُعُودِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَأَنَّبَهُمْ فِي رِضَاهُمْ بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرجال: ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
- ٩٤ - يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
- ٩٥ - سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- ٩٦ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لَنْ نُصَدِّقَكُمْ ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ أَيْ قَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ، ﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أَيْ سَيُظْهِرُ أَعْمَالَكُمْ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ
خَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَيُجْزِيكُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أنهم سيحلفون لكم مُعْتَذِرِينَ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَلَا تُؤَنِّبُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ احتقارًا لهم ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ أي خبث نجس بواطنهم واعتقادتهم، وَمَأْوَاهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ جَهَنَّمُ، ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ مِنَ الْآثَامِ وَالْخَطَايَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إن رَضُوا عَنْهُمْ بِحَلِفِهِمْ لَهُمْ، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ أَيِ الْخَارِجِينَ عَنْ طاعة الله وطاعة رسوله.
- ٩٧ - الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- ٩٨ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ٩٩ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ وَمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ كُفْرَهُمْ وَنِفَاقَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَشَدُّ، ﴿وَأَجْدَرُ﴾ أَيْ أَحْرَى ﴿أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رسوله﴾، كما قال الاعمش: جَلَسَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ قَدْ أُصِيبَتْ يَوْمَ (نَهَاوَنْدَ) فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّ حَدِيثَكَ لَيُعْجِبُنِي، وَإِنَّ يَدَكَ لَتُرِيبُنِي، فَقَالَ زَيْدٌ: مَا يُرِيبُكَ مِنْ يَدِي إِنَّهَا الشِّمَالُ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي الْيَمِينَ يَقْطَعُونَ أَوِ الشِّمَالَ! فَقَالَ زيد صَدَقَ اللَّهُ: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾، وفي الحديث: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غفل، ومن أتى السلطان افتتن» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس مرفوعًا)، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَلَمَّا كَانَتِ الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولًا، وَإِنَّمَا كَانَتِ البعثة مِّنْ أَهْلِ القرى، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن، فَهُمْ أَلْطَفُ أَخْلَاقًا مِنَ الْأَعْرَابِ لِمَا فِي طباع الأعراب من الجفاء، وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ على رسول الله ﷺ فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، قالوا: لكنا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وأملك (وفي البخاري أو أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة) أَنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ»؟ وَقَالَ ابن نميرة: «مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ». وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْإِيمَانَ والعلم، ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما قسم بين عباده، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِعَلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مِنْهُمْ: ﴿مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ﴾ أَيْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴿مَغْرَمًا﴾ أَيْ غَرَامَةً وَخَسَارَةً، ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ أَيْ يَنْتَظِرُ بِكُمُ الْحَوَادِثَ وَالْآفَاتِ، ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ﴾ أَيْ هِيَ مُنْعَكِسَةٌ عَلَيْهِمْ وَالسَّوْءُ دَائِرٌ عَلَيْهِمْ، ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ سَمِيعٌ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْخُذْلَانَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْمَمْدُوحُ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَيَبْتَغُونَ بِذَلِكَ
دُعَاءَ الرَّسُولِ لَهُمْ، ﴿أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ أَيْ أَلَا إِنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُمْ، ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
- ١٠٠ - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقَيْنِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لهم بإحسان، ورضاهم بما أعد لهم من جنات النعيم، قال الشعبي: السابقون الأولون مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَالَ الحسن وَقَتَادَةُ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ الْعَظِيمُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَيَا وَيْلُ مَنْ أَبْغَضَهُمْ أَوْ سَبَّهُمْ أَوْ أَبْغَضَ أَوْ سَبَّ بَعْضَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا سَيِّدُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَعْنِي الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ، وَالْخَلِيفَةَ الْأَعْظَمَ (أَبَا بَكْرِ) رضي الله عنه، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمَخْذُولَةَ مِنَ الرَّافِضَةِ يُعَادُونَ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَيُبْغِضُونَهُمْ وَيَسُبُّونَهُمْ، عِياذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُقُولَهُمْ مَعْكُوسَةٌ، وَقُلُوبَهُمْ مَنْكُوسَةٌ، فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ إِذْ يَسُبُّونَ مَنْ رضي الله عنهم، وَأَمَّا أَهْلُ السنَّة فَإِنَّهُمْ يَتَرَضُّونَ عَمَّنْ رضي الله عنه، وَيَسُبُّونَ مَنْ سَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُوَالُونَ مَنْ يُوَالِي اللَّهَ، وَيُعَادُونَ مَنْ يعادي الله، ومهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون.
- ١٠١ - وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ مِمَّنْ حَوْلَ المدينة منافقون، وَفِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْضًا مُنَافِقُونَ، ﴿مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ﴾ أَيْ مَرَنُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ، وَيُقَالُ تَمَرَّدَ فُلَانٌ عَلَى اللَّهِ أَيْ عَتَا وَتَجَبَّرَ، وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم﴾ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ﴾، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ بِصِفَاتٍ يعرفون بها، لا لأنه يَعْرِفُ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ والريب على التعيين؛ قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ يَعْنِي الْقَتْلَ والسبي، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: بِالْجُوعِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ في القبر، وقال ابن زيد: أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قوله تَعَالَى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فَهَذِهِ الْمَصَائِبُ لَهُمْ عَذَابٌ وَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَجْرٌ، وَعَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ قال: النار.
- ١٠٢ - وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ المنافقين المتخلفين عن الغزو تكذيبًا وشكًا، شرع في بيان حال المكذبين الذين تأخروا عن الجهاد
كسلًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أَيْ أَقَرُّوا بِهَا وَاعْتَرَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ أُخَرُ صَالِحَةٌ خَلَطُوا هَذِهِ بِتِلْكَ، فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ، إِلَّا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْمُذْنِبِينَ الخطائين، وقد قال ابن عباس: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غزوة تبوك، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا ألا يَحُلُّهُمْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أطلقهم رسول الله ﷺ وعفا عنهم، وروى البخاري عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَنَا: «أَتَانِي الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قالا: وأما الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُواْ شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سيئًا تجاوز الله عنهم».
- ١٠٣ - خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ١٠٤ - أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التواب الرحيم.
أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بأن يأخذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يطهرهم بها وَيُزَكِّيهِمْ بِهَا، وَهَذَا عَامٌّ وَإِنْ أَعَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمِيرَ فِي ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (في اللباب: أخرج ابن جرير: وجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا، فتصدق بها واستغفر لنا، فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا»، فأنزل الله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ الآية. وعن قتادة: أن هذه الآيات نزلت في سبعة: أربعة منهم ربطوا أنفسهم، وهم أبو لبابة، ومرداس، وأوس ابن خزان، وثعلبة بن وديعة). ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة أَنَّ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وإنما كان خاصًا بالرسول ﷺ، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ الآية، وقد رد عليهم أبو بكر الصدّيق وقاتلهم حتى أدوا الزكاة كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: وَاللَّهِ لو منعوني عناقًا - وفي رواية عقالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أُتي بِصَدَقَةِ قَوْمٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي، فَقَالَ: «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ»، وقوله: ﴿إن صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقَارٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ أَيْ لِدُعَائِكَ ﴿عَلِيمٌ﴾ أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْكَ ومن هو أهل له، ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾، هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ اللَّتَيْنِ كَلَّ مِنْهَا يَحُطُّ الذُّنُوبَ وَيُمَحِّصُهَا وَيَمْحَقُهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ من كسب حلال فإن الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ مثل أُحد، كما جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى
أن اللقمة لتكون مِثْلَ أُحد»، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات﴾.
- ١٠٥ - وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تعملون
قال مجاهد: هذا وعيد مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُخَالِفِينَ أَوَامِرَهُ، بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، وَقَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تبلى السرائر﴾، وقال: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور﴾، وقد يظهر الله تعالى ذَلِكَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ»، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْعَشَائِرِ فِي الْبَرْزَخِ، كما ورد عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قال: «إِنْ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حتى تهديهم كما هديتنا» (أخرجه أحمد والطيالسي). وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فَقُلْ: ﴿اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، وفي الحديث الصحيح: «إذا أراد الله بعبده خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثم يقبضه عليه» (أخرجه أحمد عن أنس ابن مالك).
- ١٠٦ - وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد: هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وهم (مرارة بن الربيع) و(كعب بن مالك) و(هلال بْنُ أُمَيَّةَ)، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكًا ولا نفاقًا، فَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذلك، وهم الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ، فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَأَرْجَى هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النبي والمهاجرين والأنصار﴾ الآية، ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بما رحبت﴾ الآية، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ هُمْ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ ذاك، ولكن رحمته تغلب غضبه، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَفْوَ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
- ١٠٧ - وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
- ١٠٨ - لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ (أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ) وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وقرأ علم أهل الكتاب، وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ، وَأَظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ اللَّعِينُ (أَبُو عَامِرٍ) بِرِيقِهِ، وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مشركي قريش، يمالئهم عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ما كان وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العالقبة لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ،
فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأُصِيبَ ذَلِكَ اليوم فجرح وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى، وَشُجَّ رَأْسُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ (أَبُو عَامِرٍ) فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وسبوه، فرجع وهو يقول: والله قد أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ فِرَارِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَتَمَرَّدَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَمُوتَ بعيدًا طريدًا، فنالته هذه الدعوة. وذلك لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ أُحُدٍ، وَرَأَى أَمْرَ الرسول ﷺ فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى (هِرَقْلَ) مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَوَعَدَهُ ومنَّاه وَأَقَامَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ أَنَّهُ سَيَقَدَمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ من يقدم عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبِهِ، وَيَكُونُ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ وَفَرَغُوا منه قبل خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّا عَلَى سَفَرٍ، وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَلَمَّا قَفَلَ عليه السلام رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، نَزَلَ عليه جبريل بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم عَلَى التَّقْوَى، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ مَنْ هَدَمَهُ قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا مَسْجِدًا وَاسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَآتِي بجنود مِنَ الرُّومِ وَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْجِدِهِمْ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: قَدْ فَرَغْنَا مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تُصَلِيَ فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾: أَيْ الَّذِينَ بَنَوْهُ، ﴿إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ الحسنى﴾ أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا
بالناس، قال تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ فِيمَا قَصَدُوا وَفِيمَا نَوَوْا، وَإِنَّمَا بَنُوهُ ضِرَارًا لِمَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَفْرًا بِاللَّهِ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الفاسق لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ نهي له ﷺ وَالْأُمَّةُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنْ تقوم فيه: أي يصلي أبدًا، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وجمعًا لكلمة المؤمنين وَمَوْئِلًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾، وَالسِّيَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كَعُمْرَةٍ»، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ وَنُزُولِهِ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَ لَهُ جِهَةَ القبلة والله أعلم.
قال الإمام أحمد، عن عويم بن ساعدة الأنصاري أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَهَّرُونَ بِهِ؟» فَقَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فغسلنا كما غسلوا. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ جَمَاعَةٌ مِنَ السلف (منهم ابن عباس وعروة بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ والحسن البصري وسعيد بن حبان وقتادة وغيرهم). وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي في جوف المدنية هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؛ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التقوى، أحدهما قال: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: «هو مسجدي هذا». وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هو مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هو مسجدي هذا» (رواهما الإمام أحمد رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد، عن أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هو مسجدي». (رواه أحمد والترمزي والنسائي).
(طريق آخَرُ): قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أنيس بن يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ الْعَمْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ»، لَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء، وَقَدْ قَالَ: بِأَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ
يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْقَدِيمَةِ الْمُؤَسَّسَةِ مِنْ أَوَّلِ بِنَائِهَا عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ مَعَ الجماعة الصَّالِحِينَ، وَالْعِبَادِ الْعَامِلِينَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الإمام أحمد: عن رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فَأَوْهَمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّهُ يَلْبَسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، إِنْ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا، فَلْيُحْسِنِ الوضوء»، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ إِكْمَالَ الطَّهَارَةِ يُسَهِّلُ الْقِيَامَ فِي الْعِبَادَةِ وَيُعِينُ عَلَى إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا وَالْقِيَامِ بِمَشْرُوعَاتِهَا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ إِنَّ الطَّهُورَ بِالْمَاءِ لَحَسَنٌ وَلَكِنَّهُمُ الْمُطَّهِّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك.
- ١٠٩ - أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- ١١٠ - لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، ومن بنى مسجد
ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، فإنما يبني هَؤُلَاءِ بُنْيَانَهُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، أَيْ طرف حفيرة فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، قَالَ جابر: رَأَيْتُ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ضِرَارًا يَخْرُجُ مِنْهُ الدخان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رجالًا حفروا فوجدوا الدخان الذي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَالَ خَلَفُ الْكُوفِيُّ: رَأَيْتُ مَسْجِدَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَفِيهِ جَحَرٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الدخان وهو اليوم مزبلة، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ شَكًّا وَنِفَاقًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ، أَوْرَثَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أُشرِب عَابِدُو العجلِ حبَّه، وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ بِمَوْتِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد وغير واحد من السَّلَفِ، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أَيْ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي مُجَازَاتِهِمْ عَنْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
- ١١١ - إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم
يخبر تعالى أنه عاوض من عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ - إِذْ بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ - بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ قَبِلَ العَوْض عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تفضل به على عبيده الْمُطِيعِينَ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَقَتَادَةُ: بَايَعَهُمْ وَاللَّهِ فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ، وَقَالَ شَمِرُ بْنُ عَطِيَّةَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عز وجل فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ وَفَّى بِهَا أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وقال (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ) رضي الله عنه لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَعْنِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ فَقَالَ: «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ»، قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ»، قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ﴾ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ أَيْ سَوَاءٌ قَتَلوا أَوْ قُتلوا، أَوِ اجْتَمَعَ لَهُمْ هَذَا وَهَذَا، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُمُ الجنة، ولهذا جاء في الصحيحين: «تكفل اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إلا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي بِأَنْ تَوَفَّاهُ أَنْ يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل وَالْقُرْآنِ﴾ تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْوَعْدِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وأنزله على رسله في كتبه العظيمة وهي ﴿التوراة﴾ المنزلة على موسى، و﴿الإنجيل﴾ المنزل على عيسى، و﴿القرآن﴾ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حديثا﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أَيْ فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ قَامَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْعَقْدِ، وَوَفَى بِهَذَا الْعَهْدِ، بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
- ١١٢ - التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
هَذَا نَعْتُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِلَالِ الْجَلِيلَةِ، ﴿التَّائِبُونَ﴾ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ، ﴿الْعَابِدُونَ﴾ أَيْ الْقَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُحَافِظِينَ عليها، ومن أخصها الحمد لله، ولهذا قَالَ: ﴿الْحَامِدُونَ﴾، وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصِّيَامُ، وَهُوَ تَرْكُ الْمَلَاذِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ المراد بالسياحة ههنا، قَالَ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ كَمَا وَصَفَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَائِحَاتٍ﴾ أَيْ صَائِمَاتٍ، وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَنْفَعُونَ خَلْقَ اللَّهِ وَيُرْشِدُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَيَجِبُ تَرْكُهُ، وَهُوَ حِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَقَامُوا بِعِبَادَةِ الْحَقِّ وَنُصْحِ الْخُلُقِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ به، والسياحة يراد بها الصيام فقد سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ السائحين؟ فقال: «هم الصائمون»، وهذا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَشْهَرُهَا. وَجَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أن السياحة الجهاد، وهو ما رواه أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سِيَاحَةُ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سبيل الله». وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وقال ابن أسلم: هم المهاجرون، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاحَةِ مَا قَدْ يَفْهَمُهُ بَعْضُ مَنْ يَتَعَبَّدُ بِمُجَرَّدِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّفَرُّدِ فِي شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، وَالْكُهُوفِ وَالْبَرَارِي، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ فِي الدِّينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يتبع بها شعف الجبال (شعف الجبال: أي رؤوس الْجِبَالِ) وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ قَالَ: الْقَائِمُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ البصري، وعنه قال: لفرائض الله، والقائمون عَلَى أَمْرِ اللَّهِ.
- ١١٣ - مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
- ١١٤ - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَعِنْدَهُ أَبُو جهل وعبد الله ابن أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عبد المطلب؟ فقال: أنا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَنَزَلَتْ: ﴿مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾، قَالَ، وَنَزَلَتْ فِيهِ: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشاء﴾ (أخرجه الشيخان وأحمد عن ابن المسيب). وقال الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ونحن في سفر، فنزل بنا ونحن قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَدَاهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا لِتُذَكِّرَكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرًا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا شِئْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ في الاوعية فاشريوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرًا».
وقال ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَاتَّبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا لبكائه، ثم قام إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَدَعَاهُ ثُمَّ دَعَانَا فَقَالَ: «مَا أَبْكَاكُمْ»؟ فَقُلْنَا: بَكَيْنَا لِبُكَائِكَ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرَ آمِنَةَ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي»، ثم أورده من وجه آخر وَفِيهِ: "وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَأَنْزَلَ عليَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا﴾ الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تذكر الآخرة.
وقال ابن عباس في هذه الرواية: كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْأَحْيَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ قتادة في الْآيَةِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ، وَيَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُوفِي بِالذِّمَمِ، أَفَلَا نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لأستغفر
لِأَبِي كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ﴾، ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ الثوري، عن ابن عباس: مَاتَ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ وَيَدْفِنَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ بِالصَّلَاحِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ وَكَلَهُ إِلَى شَأْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ - إلى قوله - تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وغيره عن علي رضي الله عنه: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تأتيني»، فذكر تمام الحديث. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَالَ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ الله تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عدو الله، وكذا قال مجاهد والضحاك، وقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، قال ابن مسعود: الأواه الدعَّاء؛ وقال ابن جرير: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْأَوَّاهُ؟ قال: «المتضرع»، وقال الثوري: سئل ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْأَوَّاهِ، فَقَالَ: هُوَ الرَّحِيمُ أي بعباد الله، وقال ابن عباس: الأواه الموقن، بلسان الحبشة. وعنه: الأواه المؤمن. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: الْأَوَّاهُ الْمُسَبِّحُ، وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: لَا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه، وعن مجاهد: الأواه الحفيظ، الرجل يُذْنِبُ الذَّنْبَ سِرًّا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ سِرًّا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ رحمه الله. وقال ابن جرير: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُسَبِّحُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فقال: «إنه أواه»، وقال أيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَفَنَ مَيِّتًا فَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ إن كنت لأواهًا» يعني تلاءً للقرآن، قال ابن جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الدَّعَّاءُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلسِّيَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لأبيه مع شدة أذاه له فِي قَوْلِهِ: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حفيا﴾ فَحَلُمَ عَنْهُ مَعَ أَذَاهُ لَهُ وَدَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.
- ١١٥ - وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- ١١٦ - أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَحُكْمِهِ العادل، إنه لا يضل قومًا إلا بعد إبلاغ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ الآية، قال ابن جرير: يقول تَعَالَى: وَمَآ كَانَ اللَّهُ لِيَقْضِيَ عَلَيْكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ الْمُشْرِكِينَ بِالضَّلَالِ بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الْهِدَايَةَ وَوَفَّقَكُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ
يبين كم كراهة ذلك فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالضَّلَالِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ وَلَمْ يُنْهَ فَغَيْرُ كَائِنٍ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ ولم ينه عنه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا تَحْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِ المشركين وملوك الكفر، وأنهم يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض، ولا يَرْهَبُوا مِنْ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ، وَلَا نَصِيرَ لَهُمْ سِوَاهُ. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟»، قالوا:
مَا نَسْمَعُ مِن شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ، وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مَوْضِعِ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قائم».
- ١١٧ - لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أنهم خرجوا إليها في سنة مجبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فقال عمر خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا ستنقطع، وحتى وإن كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَا يَرْجِعُ حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فقال: «تُحِبُّ ذَلِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت،
فَمَلَؤُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نجدها جاوزت العسكر (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ أَيْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ وَالزَّادِ وَالْمَاءِ، ﴿مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ، وَيَشُكُّ فِي دين الرسول ﷺ، ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم، ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ يَقُولُ: ثُمَّ رَزَقَهُمُ الْإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ وَالرُّجُوعَ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ ﴿إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ﴾.
- ١١٨ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
- ١١٩ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ
قَالَ الْإِمَامُ أحمد، عن عبيد اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غزاة غزاها قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غير معاد، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ليلة العقبة حين تواثقنا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي الناس منها وأشهر. وكان خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا ورَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ وَجْهَهُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ -. قال كَعْبٌ: فقلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظن أن ذلك سيخفى عليه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل؛ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ الْغَزَاةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلال، وَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَأَقُولُ لِنَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي، حَتَّى استمر بِالنَّاسِ الْجَدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ من جهازي شيئًا، وقلت: أتجهز بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُ، فَغَدَوْتُ بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وَلَيْتَ أَنِّي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يحزنني أني لا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَهُ اللَّهُ عز وجل، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالك»؟ فقال رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: حَبَسَهُ يَا رَسُولَ الله برداه والنظر في عطفيه، فقال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رسول الله ما علمنا عنه إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بثي، وطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غدًا، وأستعين على ذلك بكل ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رسول الله ﷺ قد أظل قادمًا راح عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أَنْجُ مِنْهُ بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُتَخَلِّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فيقبل مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَ»، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: «ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهرًا؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَوْ جَلَسْتُ عند غيرك
من الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ، لقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسْخِطُكَ عَلِيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ بِصِدْقٍ تَجِدُ عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك مِنَ اللَّهِ عز وجل؛ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَفْرَغُ وَلَا أَيْسَرُ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت، وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هذا، ولقد عجزت أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ مِنْ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قال: والله مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي معي هذا أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مثل مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لك، فقلت: فَمَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمية الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي؛
قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خمسين ليلة. ثم ذكر تتمة الحديث (أخرجه الشيخان وأحمد، وله تتمة طويلة في توبة الله عز وجل عليه يرجع إليها في الصحيحين).
قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا فَرَّجَ بِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الضِّيقِ وَالْكَرْبِ مِنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رحبت أي مع سعتها، فسدت عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكُ وَالْمَذَاهِبُ، فَلَا يَهْتَدُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَكَانُوا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَثَبَتُوا حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ صِدْقِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَاقِبَةُ صِدْقِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَتَوْبَةً عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ» ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ أَيْ اصْدُقُوا وَالْزَمُوا الصدق تكونوا من أَهْلِهِ وَتَنْجُوَا مِنَ الْمَهَالِكِ، وَيَجْعَلُ لَكُمْ فَرَجًا من أموركم ومخرجًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قال: الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مع الصادقين فعليك بالزهذ فِي الدُّنْيَا وَالْكَفِّ عَنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ.
- ١٢٠ - مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سبيل الله ولا يطؤون مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار ولاينالون مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين
يعاتب تبارك وتعالى الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَرَغْبَتَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ عن مواساته فيما حصل له مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَإِنَّهُمْ نَقَصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، لِأَنَّهُمْ ﴿لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ وَهُوَ الْعَطَشُ ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ وَهُوَ التَّعَبُ ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ وَهِيَ الْمَجَاعَةُ ﴿ولا يطؤون مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار﴾ أي ينزلوا مَنْزِلًا يُرْهِبُ عَدُوَّهُمْ، ﴿وَلاَ يَنَالُونَ﴾ مِنْهُ ظَفَرًا وغلبة عليه، ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قدرهم وَإِنَّمَا هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ أَفْعَالِهِمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً وَثَوَابًا جَزِيلًا، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾.
- ١٢١ - وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى وَلَا يُنْفِقُ هَؤُلَاءِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴿نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً﴾ أَيْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ
وَادِيًا﴾ أَيْ فِي السَّيْرِ إِلَى الْأَعْدَاءِ، ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾، ولم يقل ههنا بِهِ لِأَنَّ هَذِهِ أَفْعَالٌ صَادِرَةٌ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا قال: ﴿وليجزيهم اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وَقَدْ حَصَلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَظٌّ وَافِرٌ ونصيب عظيم؛ وذلك أنه أفق فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ النَّفَقَاتِ الْجَلِيلَةَ وَالْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، كما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خطب فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه: عليَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا قَالَ: ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بن عفان: عليَّ مائة بعير أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ مَرْقَاةً مِنَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال بيده هكذا يحركها، «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا». وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ ﷺ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فرأيت النَّبِيُّ ﷺ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» يُرَدِّدُهَا مِرَارًا، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ الآية، ما ازداد قوم في سبيل الله بعدًا من أهليهم إلا ازدادوا قربًا من الله.
- ١٢٢ - وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا أراد من نفير الأحياء مع الرسول ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، عن ابن عباس في الآية: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَآفَّةً﴾، يَقُولُ: مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ ﷺ وَحْدَهُ: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ يَعْنِي عُصْبَةً، يَعْنِي السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ تَعَلَّمَهُ الْقَاعِدُونَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عليَّ نَبِيِّكُمْ قُرْآنًا، وَقَدْ تَعَلَّمْنَاهُ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ بِعَدَهُمْ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخْرَى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ يقول: ليعلموا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا السَّرَايَا إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ خَرَجُوا فِي الْبَوَادِي، فَأَصَابُوا مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفًا، وَمِنَ الْخِصْبِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَدَعَوْا مَنْ وَجَدُوا مِنَ النَّاسِ إلى الهدى، فقال لهم الناس: مَا نَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ تَرَكْتُمْ أَصْحَابَكُمْ وَجِئْتُمُونَا، فوجدوا من أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ تَحَرُّجًا، وَأَقْبَلُوا مِنَ الْبَادِيَةِ كُلُّهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ يبغون الخير ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ وليستمعوا إلى ما أنزل الله، ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾ النَّاسَ كُلَّهُمْ ﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لعلهم يحذرون﴾، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا أهل الأعذار، وكان إذا أقام وأرسل السَّرَايَا لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَنْطَلِقُوا إِلَّا بإذنه، وكان الرجل إذا غزا فنزل بعده قرآن وتلاه نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَصْحَابِهِ الْقَاعِدِينَ مَعَهُ، فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرِيَّةُ قَالَ لَهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ بَعْدَكُمْ عَلَى نَبِيِّهِ قُرْآنًا فَيُقْرِئُونَهُمْ وَيُفَقِّهُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾، يقول: إذا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ يعني ذلك أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا، وَنَبِيُّ اللَّهِ ﷺ قَاعِدٌ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا
وقعد معه معظم الناس. وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، ﴿وما كَانَ لأَهْلِ المدينة﴾ الآية، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو والذين تَخَلَّفُوا عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ يَنْفِرُوا مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ خَرَجُوا إِلَى الْبَدْوِ إِلَى قَوْمِهِمْ يفقونهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾.
- ١٢٣ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أن يقاتلوا الكفار الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقَالِيمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا شَرَعَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فتجهز لغزو الروم لأنهم أَهْلَ الْكِتَابِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ هِجْرَتِهِ عليه السلام. ثُمَّ اشتغل في السنة العاشرة بحجة الْوَدَاعِ، ثُمَّ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه بعد حجته بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، فَاخْتَارَهُ اللَّهُ لِمَا عِنْدَهُ، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فأدى عَنِ الرَّسُولِ مَا حَمَلَهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الرُّومِ عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، وَإِلَى الفُرس عَبَدَةِ النِّيرَانِ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ سفارته البلاد، وأرغم أنف كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُمَا مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رسول الله، وَكَانَ تَمَامُ الْأَمْرِ عَلَى يَدِي وَصِيِّهِ مِنْ بعده، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا، ثم لما مات أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى خِلَافَةِ عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار، فكسى الإسلام حُلَّةٍ سَابِغَةً، وَأُمِدَّتْ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الْإِسْلَامُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَعَلَتْ كَلِمَةُ الله وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفة من أعداء الله غاية مآربها، وكلما عَلَوْا أُمَّةً انْتَقَلُوا إِلَى مِن بَعْدِهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنَ الْعُتَاةِ الْفُجَّارِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفَّار﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ أَيْ وَلِيَجِدَ الْكُفَّارُ مِنْكُمْ غِلْظَةً عَلَيْهِمْ فِي قِتَالِكُمْ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ هُوَ الذي يكون رفيقًا بأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كقوله تَعَالَى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بينهم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «أنا الضحوك القتال» يعين أَنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وَجْهِ وَلِيِّهِ، قَتَّالٌ لِهَامَةِ عَدُوِّهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ أَيْ قَاتِلُوا الْكُفَّارَ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الله معكم إذا اتَّقَيْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ لَمَّا كَانَتِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَالُوا ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ كثيرة، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ وَالْأَهْوَاءُ وَالِاخْتِلَافَاتُ بَيْنَ الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا حَتَّى اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ من بلاد الإسلام، ولله الأمر مِن قَبْلُ وَمَن بعد.
- ١٢٤ - وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
- ١٢٥ - وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ ﴿مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَانًا﴾ أي يقول بعضهم لبعض، وفي الآية الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ العلماء، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ أَيْ زَادَتْهُمْ شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ وريبًا إلى ريبهم، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾، وهذه مِنْ جُمْلَةِ شَقَائِهِمْ أَنَّ مَا يَهْدِي الْقُلُوبَ يكون سببًا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء الْمِزَاجِ لَوْ غُذِّيَ بِمَا غُذِّيَ بِهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا خَبَالًا وَنَقْصًا.
- ١٢٦ - أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
- ١٢٧ - وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: أَوَلَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، ﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ﴾ أَيْ يُخْتَبَرُونَ، ﴿فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي لا يتوبون عن ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ، وَلَا هُمْ يَذْكُرُونَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ، وَقَالَ قَتَادَةُ بِالْغَزْوِ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مرتين، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ تَلَفَّتُوا ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ أَيْ تَوَلَّوْا عَنِ الْحَقِّ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَهَذَا حالهم في الدنيا لَا يَثْبُتُونَ عِنْدَ الْحَقِّ وَلَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يفهمونه كقوله تَعَالَى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ﴾، قوله: ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ لَا يَفْهَمُونَ عن الله خطابه، ولا يتصدون لفهمه ولا يريدونه، بَلْ هُمْ فِي شغل عَنْهُ وَنُفُورٍ مِنْهُ، فَلِهَذَا صَارُوا إِلَى مَا صاروا إليه.
- ١٢٨ - لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رؤوف رَحِيمٌ
- ١٢٩ - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمْ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أنفسهم﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي منكم وبلغتكم، وقوله تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ أَيْ يَعِزُّ عَلَيْهِ الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، وَشَرِيعَتَهُ كُلَّهَا سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ كَامِلَةٌ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ عَلَى هِدَايَتِكُمْ وَوُصُولِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ إليكم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَطَّلِعُهَا مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ، أَلَا وَإِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تَهَافَتُوا فِي النار كتهافت الفراش والذباب» (أخرجه الإمام أحمد). وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَاهُ مَلَكَانِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إلى رأس مفازة ولم يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رِوَاءً تَتَّبِعُونِي؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ أَلْقَكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رِوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ فقالوا: بلى، فقال: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا هِيَ أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ لنتبعنَّه، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ (رواه أحمد). وقوله: ﴿بالمؤمنين رؤوف رَّحِيمٌ﴾ كقوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أَيْ تَوَلَّوْا عَمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ، ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أَيْ اللَّهُ كَافِيَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾،
﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ أَيْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقِهِ، لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا تَحْتَ الْعَرْشِ، مَقْهُورُونَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدَرُهُ نَافِذٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، وقد روى أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: حَسْبِيَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهمه.