بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَتُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ بِسَبَبِ مَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ «١» بِهِ«الْآيَةَ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ. وَغَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «٢»«. وَغَيْرَ قَوْلِهِ:» ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «٣» «الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:» وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا «٤» «فَمَكِّيٌّ، فِي شَأْنِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتْلِ حَمْزَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ:» وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا- إِلَى قَوْلِهِ- بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «٥» «
[سورة النحل (١٦): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قِيلَ:» أَتى «بِمَعْنَى يَأْتِي، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ:» وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «٦»«. وَ» أَمْرُ اللَّهِ" عِقَابُهُ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ فَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كفار قريش
(١). راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص
١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٢).
راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٣).
راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٤).
راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٥).
راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٦).
راجع ج ٧ ص ٢٠٩.
وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ
النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ:» اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ«الْآيَةَ، فَاسْتَعْجِلَ الْعَذَابَ. قُلْتُ قَدْ يَسْتَدِلُّ
الضَّحَّاكُ بِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ، خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ «١». وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى كُفْرِهِمْ،
وَهُوَ كَقَوْلِهِ:» حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ «٢»«. وَقِيلَ:
هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِهَا مِنْ أَشْرَاطِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتِ» اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ «٣» «قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ
قَرُبَتْ، فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَأَمْسَكُوا
وَانْتَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَتْ»
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «٤» «الْآيَةَ. فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا قُرْبَ
السَّاعَةِ، فَامْتَدَّتِ الْأَيَّامُ فَقَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَتْ»
أَتى أَمْرُ اللَّهِ«فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ وَخَافُوا،
فَنَزَلَتْ:» فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ«فَاطْمَأَنُّوا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:»
بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ«وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ: السَّبَّابَةِ
وَالَّتِي تَلِيهَا. يَقُولُ: إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقَنِي فَسَبَقْتُهَا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ
جِبْرِيلَ لما مر بأهل السموات مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ قَالُوا: اللَّهُ
أَكْبَرُ، قَدْ قَامَتِ السَّاعَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ
لَا يَقْدِرُ عَلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا
يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى بَعْثِ الْأَمْوَاتِ، فَوَصَفُوهُ بِالْعَجْزِ الَّذِي لَا
يُوصَفُ بِهِ إِلَّا الْمَخْلُوقُ، وَذَلِكَ شِرْكٌ. وَقِيلَ:» عَمَّا
يُشْرِكُونَ«أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ. وَقِيلَ:» مَا" بِمَعْنَى الَّذِي أَيِ
ارْتَفَعَ عن الذين أشركوا به.
(١). راجع ج ٢ ص ١١٢.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٣٠.
(٣).
راجع ج ١٧ ص ١٢٥.
(٤).
راجع ج ١١ ص ٢٦٦.
[سورة النحل (١٦): آية ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ
إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
قَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ
عَاصِمٍ«تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ» وَالْأَصْلُ تَتَنَزَّلُ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ
إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ
بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَالْأَعْمَشُ«تُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ» غَيْرُ مُسَمَّى
الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ
الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي بكر عن عاصم«تنزل الْمَلَائِكَةَ» بِالنُّونِ مُسَمَّى
الْفَاعِلِ، الْبَاقُونَ«يُنَزِّلُ» بِالْيَاءِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ
فِيهِ لِاسْمِ اللَّهِ عز وجل. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ«تُنْزِلُ
الْمَلَائِكَةَ» بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ«تَنْزِلُ»
بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، مِنَ النُّزُولِ.«الْمَلَائِكَةُ» رَفْعًا
مِثْلَ«تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ «١»». (بِالرُّوحِ) أَيْ بِالْوَحْيِ وَهُوَ
النُّبُوَّةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. نَظِيرُهُ«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ
عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «٢»». الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِكَلَامِ اللَّهِ
وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: هُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ.
وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْخَلْقِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا
وَمَعَهُ رُوحٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ عز وجل كَصُوَرِ ابْنِ آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ
إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ بِالرَّحْمَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: بِالْهِدَايَةِ، لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ كَمَا
تَحْيَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَبْدَانُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: الرُّوحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَيَاةً
بِالْإِرْشَادِ إِلَى أَمْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرُّوحُ هُنَا
جِبْرِيلُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:«بِالرُّوحِ» بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِكَ: خَرَجَ
بِثِيَابِهِ، أَيْ مَعَ ثِيَابِهِ. (مِنْ أَمْرِهِ) أَيْ بِأَمْرِهِ. (عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أَيْ عَلَى الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ للنبوة. وهذا رد
لقولهم:«لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
«٣»». (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) تَحْذِيرٌ
مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْإِنْذَارُ، لِأَنَّ أَصْلَهُ
التَّحْذِيرُ مِمَّا يُخَافُ منه. ودل على ذلك قوله:«فَاتَّقُونِ». و «أَنْ» فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَنْ أَنْذِرُوا أَهْلَ الْكُفْرِ
بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ف«أن» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِسُقُوطِ الْخَافِضِ
أَوْ بِوُقُوعِ الإنذار عليه.
(١). راجع ج ٢٠ ص ١٣٣.
(٢).
راجع ج ١٥ ص ٢٩٩. [.....]
(٣).
راجع ج ١٦ ص ٨٢.
[سورة النحل (١٦): آية ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أَيْ لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ. وَقِيلَ:»
بِالْحَقِّ«أَيْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ
الْعِبَادَ بِالطَّاعَةِ وَأَنْ يُحْيِيَ الْخَلْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ. (تَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تقدر على خلق شي.
[سورة
النحل (١٦): آية ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ ذَكَرَ
بَعْدَهُ الْإِنْسَانَ وَمُنَاكَدَتَهُ وَتَعَدِّيَ طَوْرِهِ.» والْإِنْسانَ«اسْمٌ
لِلْجِنْسِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ،
جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ فَقَالَ: أَتَرَى يُحْيِي اللَّهُ
هَذَا بَعْدَ مَا قَدْ رَمَّ. وَفِي هَذَا أَيْضًا نَزَلَ:» أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ«أَيْ
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ،
فَنَقَّلَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ وُلِدَ وَنَشَأَ بِحَيْثُ يُخَاصِمُ فِي
الْأُمُورِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّعَجُّبُ مِنَ الْإِنْسَانِ» وَضَرَبَ لَنا
مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ»
" وقوله:
(فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أَيْ مُخَاصِمٌ، كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبِ. أَيْ
يُخَاصِمُ اللَّهَ عز وجل فِي قدرته. و(مُبِينٌ) أَيْ ظَاهِرُ الْخُصُومَةِ.
وَقِيلَ: يُبِينُ عَنْ نَفْسِهِ الْخُصُومَةَ بِالْبَاطِلِ. وَالْمُبِينُ: هُوَ
الْمُفْصِحُ عَمَّا في ضميره بمنطقه.
[سورة
النحل (١٦): آية ٥]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها
دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْسَانَ
ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ. وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ
وَالْغَنَمُ. وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: نَعَمٌ وَأَنْعَامٌ لِلْإِبِلِ، وَيُقَالُ
لِلْمَجْمُوعِ وَلَا يُقَالُ لِلْغَنَمِ مفردة. قال حسان:
(١). راجع ج ١٥ ص ٥٧، ٥٨.
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ
فَالْجِوَاءُ ... إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ «١»
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ
قَفْرٌ ... تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ «٢»
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَالنَّعَمُ هُنَا الْإِبِلُ
خَاصَّةً. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّعَمُ وَاحِدُ الْأَنْعَامِ وَهِيَ
الْمَالُ الرَّاعِيَةُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْإِبِلِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ ذَكَرٌ لَا يُؤَنَّثُ، يَقُولُونَ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ،
وَيُجْمَعُ عَلَى نُعْمَانِ مِثْلَ حَمَلٍ وَحُمْلَانٍ. وَالْأَنْعَامُ تُذَكَّرُ
وَتُؤَنَّثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«مِمَّا فِي بُطُونِهِ «٣»». وَفِي
مَوْضِعٍ«مِمَّا فِي بُطُونِها «٤»». وَانْتَصَبَ الْأَنْعَامُ عَطْفًا على
الإنسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه. الثانية- قوله تعالى: (دِفْءٌ) الدِّفْءُ:
السَّخَانَةُ، وَهُوَ مَا اسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا، مَلَابِسُ وَلُحُفٌ وَقُطُفٌ «٥». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
دِفْؤُهَا نَسْلُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ:
الدِّفْءُ نِتَاجُ الْإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:«لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ». وَفِي الْحَدِيثِ«لَنَا مِنْ دِفْئِهِمْ
مَا سَلَّمُوا بِالْمِيثَاقِ». وَالدِّفْءُ أَيْضًا: السُّخُونَةُ، تَقُولُ مِنْهُ:
دَفِئَ الرَّجُلُ دَفَاءَةً مِثْلَ كَرِهَ كَرَاهَةً. وَكَذَلِكَ دَفِئَ دَفَأً
مِثْلُ ظَمِئَ ظَمَأً. وَالِاسْمُ الدِّفْءُ (بِالْكَسْرِ) وَهُوَ الشَّيْءُ
الَّذِي يُدْفِئُكَ، وَالْجَمْعُ الْأَدْفَاءُ. تَقُولُ: مَا عَلَيْهِ دِفْءٌ،
لِأَنَّهُ اسْمٌ. وَلَا تَقُولُ: مَا عَلَيْكَ دَفَاءَةٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ.
وَتَقُولُ: اقْعُدْ فِي دِفْءِ هَذَا الْحَائِطِ أَيْ كِنِّهِ. وَرَجُلٌ دَفِئٌ
عَلَى فَعِلٍ إِذَا لَبِسَ مَا يُدْفِئُهُ. وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَفْآنُ وَامْرَأَةٌ
دَفْأَى. وَقَدْ أَدْفَأَهُ الثَّوْبُ وَتَدَفَّأَ هُوَ بِالثَّوْبِ وَاسْتَدْفَأَ
بِهِ، وَأَدَّفَأَ بِهِ وَهُوَ افْتَعَلَ، أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم
دفئ عَلَى فَعِيلٍ وَلَيْلَةٌ دَفِيئَةٌ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ وَالْبَيْتُ.
وَالْمُدْفِئَةُ الْإِبِلُ الْكَثِيرَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهَا يُدْفِئُ بَعْضًا
بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفئة الْإِبِلُ الْكَثِيرَةُ الْأَوْبَارُ وَالشُّحُومُ،
عَنِ الْأَصْمَعِيِّ. وَأَنْشَدَ الشَّمَّاخُ:
وَكَيْفَ يَضِيعُ صَاحِبُ مُدْفَآتٍ
... عَلَى أَثْبَاجِهِنَّ من الصقيع «٦»
(١). ذات الأصابع والجوزاء: موضعان بالشام.
وعذراء: قرية بغوطة دمشق.
(٢).
الحساس: اسم رجل. والروامس: الرياح التي تثير التراب وتدفن الآثار.
(٣).
راجع ص ١٢٢ من هذا الجزء.
(٤).
راجع ج ١٢ ص ١١٧.
(٥).
القطف (جمع قطيفة) كساء له خمل، أي وبر.
(٦).
أثباج: جمع ثبج، وهو أوسطها. وقيل: ما بين كلها وظهرها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنافِعُ)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَنَافِعُ نَسْلُ كُلِّ دَابَّةٍ. مُجَاهِدٌ: الرُّكُوبُ
وَالْحَمْلُ وَالْأَلْبَانُ وَاللُّحُومُ وَالسَّمْنُ. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ)
أَفْرَدَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الْمَنَافِعِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمِنْ لحومها تأكلون عند الذبح. الثانية: دَلَّتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ، وَقَدْ لَبِسَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ كَمُوسَى وَغَيْرِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ:
فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ شَامِيَّةٍ ضَيِّقَةِ
الْكُمَّيْنِ ... الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ وَلِبَاسُ الصَّالِحِينَ وَشَارَةُ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاخْتِيَارُ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَهُوَ
يَلْبَسُ لَيِّنًا وَخَشِنًا وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا «١» وَرَدِيئًا، وَإِلَيْهِ
نَسَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ الصُّوفِيَّةَ، لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ فِي
الْغَالِبِ، فَالْيَاءُ لِلنَّسَبِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْنِيثِ. وَقَدْ أَنْشَدَنِي
بَعْضُ أَشْيَاخِهِمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ:
تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ
وَاخْتَلَفُوا ... فِيهِ وَظَنُّوهُ مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذ الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى
... صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصوفي
[سورة
النحل (١٦): آية ٦]
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ
تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
الْجَمَالُ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ
وَيُتَزَيَّنُ. وَالْجَمَالُ: الْحُسْنُ. وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُلُ (بِالضَّمِّ)
جَمَالًا فَهُوَ جَمِيلُ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَجَمْلَاءُ أَيْضًا، عَنِ
الْكِسَائِيِّ. وَأَنْشَدَ:
فهي جملاء كبدر طالع ... بذت
الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
جَمَالَكَ أَيُّهَا الْقَلْبُ
الْقَرِيحُ «٢»
يُرِيدُ: الْزَمْ تَجَمُّلَكَ
وَحَيَاءَكَ ولا تجزع جزع اقبيحا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي
الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ،
وَيَكُونُ فِي الافعال. فأما جمال الخلقة فهو
(١). شي مقارب (بكسر الراء): وسط بين الجيد
والردى.
(٢).
هذا صدر البيت، وعجزه كما في اللسان:
سنلقي من تحب فتستريح
أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ
وَيُلْقِيهِ إِلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ
غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا نِسْبَتِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَكَوْنُهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنَ
الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ
وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ
وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَقَاضِيَةً لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ
فِيهِمْ وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ. وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ
جَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ.
وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا وَقَوْلُ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهَا هَذِهِ نَعَمُ
فُلَانٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَلِأَنَّهَا إِذَا رَاحَتْ تَوَفَّرَ حُسْنُهَا
وَعَظُمَ شَأْنُهَا وَتَعَلَّقَتِ الْقُلُوبُ بِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ
أَعْظَمُ مَا تكون أسمنه وَضُرُوعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى
قَدَّمَ الرَّوَاحَ عَلَى السَّرَاحِ لِتَكَامُلِ دَرِّهَا وَسُرُورِ النَّفْسِ بِهَا
إِذْ ذَاكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل» وَلَكُمْ
فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ«وَذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي
حِينَ تَرُوحُ إِلَى الْمَرْعَى وَتَسْرَحُ عَلَيْهِ. وَالرَّوَاحُ رُجُوعُهَا
بِالْعَشِيِّ مِنَ الْمَرْعَى، وَالسَّرَاحُ بِالْغَدَاةِ، تَقُولُ: سَرَحْتِ
الْإِبِلُ أَسْرَحُهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا إِذَا غَدَوْتُ بِهَا إِلَى الْمَرْعَى
فَخَلَّيْتُهَا، وَسَرَحَتْ هي. المتعدي واللازم واحد.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ
لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (٧)
فيه ثلاث مسائل: قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الْأَثْقَالُ أَثْقَالُ النَّاسِ مِنْ مَتَاعٍ
وَطَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يُثْقِلُ الْإِنْسَانَ حَمْلُهُ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ أَبْدَانُهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:» وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها «١» «وَالْبَلَدُ مَكَّةُ، فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ:
هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَسْلَكُهُ عَلَى الظَّهْرِ.
وَشِقُّ الْأَنْفُسِ: مَشَقَّتُهَا وَغَايَةُ جَهْدِهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ
بِكَسْرِ الشِّينِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:» لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ"
(١). راجع ج ٢٠ ص ١٤٧، ولعل الأثقال في
الزلزلة: الكنوز.
وَهَذَا قَدْ يُفْتَحُ، حَكَاهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَسْرُ الشِّينِ وَفَتْحُهَا
فِي«شِقٍّ» مُتَقَارِبَانِ، وَهُمَا بِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مِنَ الشِّقِّ
فِي الْعَصَا وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ يَنَالُ مِنْهَا كَالْمَشَقَّةِ مِنَ الْإِنْسَانِ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ«إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ»
وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ رِقٍّ وَرَقٍّ وَجِصٍّ وَجَصٍّ وَرِطْلٍ وَرَطْلٍ.
وَيُنْشَدُ قَوْلُ الشَّاعِرِ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا:
وَذِي إِبِلٍ يَسْعَى «١»
وَيَحْسِبُهَا له ... أخى نصب من شقه ودءوب
ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت
عليه شَقًّا. وَالشِّقُّ أَيْضًا بِالْكَسْرِ النِّصْفِ، يُقَالُ: أَخَذْتُ شِقَّ
الشَّاةِ وَشِقَّةَ الشَّاةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا
الْمَعْنَى، أَيْ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِنَقْصٍ مِنَ الْقُوَّةِ
وَذَهَابِ شِقٍّ مِنْهَا، أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَبْلُغُوهُ إِلَّا بِنِصْفِ قُوَى
أَنْفُسِكُمْ وَذَهَابِ النِّصْفِ الْآخَرِ. وَالشِّقُّ أَيْضًا النَّاحِيَةُ مِنَ
الْجَبَلِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ. وَالشِّقُّ أَيْضًا: الشَّقِيقُ،
يُقَالُ: هُوَ أَخِي وَشِقِّ نَفْسِي. وَشِقٌّ اسْمُ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ
الْعَرَبِ. وَالشِّقُّ أَيْضًا: الْجَانِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا مَا بَكَى مَنْ خَلْفِهَا
انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ
فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. الثَّانِيَةُ-
مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا، وَخَصَّ الْإِبِلَ هُنَا
بِالذِّكْرِ فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ
الْغَنَمَ لِلسَّرْحِ وَالذَّبْحِ، وَالْبَقَرَ لِلْحَرْثِ، وَالْإِبِلَ لِلْحَمْلِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتْ
إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا
خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فَقَالَ الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم»؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«وإني أو من به وأبو بكر وعمرو». فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ
عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَلَا تُرْكَبُ، وَإِنَّمَا هِيَ
لِلْحَرْثِ وللأكل والنسل «٢» والرسل.
(١). هو النمر بن تولب، كما في السان مادة
شقيق: وفى جوى: يقنى.
(٢).
الرسل بالسر (: اللبن.)
في الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ
الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ بِالدَّوَابِّ وَحَمْلِ الْأَثْقَالِ
عَلَيْهَا. وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ فِي
الْحَمْلِ مَعَ الرِّفْقِ فِي السَّيْرِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالرِّفْقِ
بِهَا وَالْإِرَاحَةِ لَهَا وَمُرَاعَاةَ التَّفَقُّدِ لِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا.
وَرَوَى مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:»
إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ
وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا «١» «رَوَاهُ
مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ.
وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ قَالَ كَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ جَمَلٌ
يُقَالُ لَهُ دَمُّونُ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا دَمُّونُ، لَا تُخَاصِمْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ. فَالدَّوَابُّ عُجْمٌ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَالَ لِنَفْسِهَا مَا
تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْصِحَ بِحَوَائِجِهَا، فَمَنِ
ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِهَا ثُمَّ ضَيَّعَهَا مِنْ حَوَائِجِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ
الشُّكْرَ وَتَعَرَّضَ لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى
مَطَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ
خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ آدَمَ قَالَ. رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه ضَرَبَ جَمَّالًا وَقَالَ: تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:» وَالْخَيْلَ«بِالنَّصْبِ مَعْطُوفٌ، أَيْ وَخَلَقَ الْخَيْلَ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ» وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ«بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا. وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْلًا
لِاخْتِيَالِهَا فِي الْمِشْيَةِ. وَوَاحِدُ الْخَيْلِ خَائِلٌ، كَضَائِنٍ وَاحِدُ
ضَيْنٍ. وَقِيلَ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ «٢»،
وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ هُنَاكَ. وَلَمَّا أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ الْخَيْلَ
والبغال والحمير بالذكر
(١). قوله» في السنة" أي في القحط
وأنعباد نبات الأرض في يبسها. والنقي) بكسر النون وسكون القاف) هو المخ. ومعناه:
أسرعوا في السير بالإبل لتسلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها، إذ ليس في الأرض
ما يقويها على السير. [.....]
(٢).
راجع ج ٤ ص ٣٢.
دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ
تَحْتَ لَفْظِ الانعام. وقيل: دخلت ولكن أردها بِالذِّكْرِ لِمَا يَتَعَلَّقُ
بِهَا مِنَ الرُّكُوبِ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْحَمِيرِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَلَّكَنَا اللَّهُ تَعَالَى
الْأَنْعَامَ وَالدَّوَابَّ وَذَلَّلَهَا لَنَا، وَأَبَاحَ لَنَا تَسْخِيرَهَا
وَالِانْتِفَاعَ بِهَا رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى لَنَا، وَمَا مَلَكَهُ
الْإِنْسَانُ وَجَازَ لَهُ تَسْخِيرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ فَكِرَاؤُهُ لَهُ
جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَحُكْمُ كِرَاءِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
الثَّالِثَةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ في اكتراء الدواب والرواحل
عَلَيْهَا وَالسَّفَرِ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ»
الْآيَةَ. وَأَجَازُوا أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ وَالرَّاحِلَةَ إِلَى
مَدِينَةٍ بِعَيْنِهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ أَيْنَ يَنْزِلُ مِنْهَا، وَكَمْ مِنْ
مَنْهَلٍ «١» يَنْزِلُ فِيهِ، وَكَيْفَ صِفَةُ سَيْرِهِ، وَكَمْ يَنْزِلُ فِي
طَرِيقِهِ، واجتزوا بِالْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ. قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَالْكِرَاءُ يَجْرِي مَجْرَى الْبُيُوعِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ
وَيَحْرُمُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنِ اكْتَرَى دَابَّةً إِلَى مَوْضِعِ
كَذَا بِثَوْبٍ مَرْوِيٍّ وَلَمْ يَصِفْ رُقْعَتَهُ وَذَرْعَهُ: لَمْ يَجُزْ،
لِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يجيز هَذَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُجِيزُ فِي ثَمَنِ
الْكِرَاءِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ. قُلْتُ: وَلَا يُخْتَلَفُ
فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِجَارَةٍ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى
أَنَّ مَنِ اكْتَرَى دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ قَمْحٍ
فَحَمَلَ عَلَيْهَا مَا اشترط فتلفت أن لا شي عَلَيْهِ. وَهَكَذَا إِنْ حَمَلَ
عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ شَعِيرٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً
لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ
قَفِيزًا، فَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولَانِ: هُوَ ضَامِنٌ
لَقِيمَةِ الدَّابَّةِ وَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:
عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ- وَهُوَ أَنَّ
عَلَيْهِ الْكِرَاءُ وَعَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ أَجْرٍ وَجُزْءٌ مِنْ قِيمَةِ
الدَّابَّةِ بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنَ الْحِمْلِ، وَهَذَا قَوْلُ النُّعْمَانِ
وَيَعْقُوبَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ: لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ إِذَا كَانَ الْقَفِيزُ الزَّائِدُ لَا يَفْدَحُ
الدَّابَّةَ، ويعلم أن مثله
(١). المنهل: المشرب، ثم كثر ذلك حتى سميت
منازل السفارة على المياه مناهل.
لَا تَعْطَبُ فِيهِ الدَّابَّةُ،
وَلِرَبِّ الدَّابَّةِ أَجْرُ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ مَعَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ،
لِأَنَّ عَطَبَهَا لَيْسَ مِنْ أَجْلِ الزِّيَادَةِ. وَذَلِكَ بِخِلَافِ
مُجَاوَزَةِ الْمَسَافَةِ، لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَسَافَةِ تَعَدٍّ كُلُّهُ
فَيَضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَالزِّيَادَةُ عَلَى
الْحِمْلِ الْمُشْتَرَطِ اجْتَمَعَ فِيهِ إِذْنٌ وَتَعَدٍّ، فَإِذَا كَانَتِ
الزِّيَادَةُ لَا تَعْطَبُ فِي مِثْلِهَا عُلِمَ أَنَّ هَلَاكَهَا مِمَّا أُذِنَ
لَهُ فِيهِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَكْتَرِي
الدَّابَّةَ بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذَلِكَ الْمَكَانَ ثُمَّ
يَرْجِعُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: إِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ ضَمِنَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي
التَّعَدِّي كِرَاءٌ، هَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
الْأَجْرُ لَهُ فِيمَا سَمَّى، وَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا لَمْ يُسَمِّ، لِأَنَّهُ
خَالَفَ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَبِهِ قَالَ يَعْقُوبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ
الْكِرَاءُ الَّذِي سَمَّى، وَكِرَاءُ الْمِثْلِ فِيمَا جَاوَزَ ذَلِكَ، وَلَوْ
عَطِبَتْ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا. وَنَحْوَهُ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ،
مَشْيَخَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: إِذَا بَلَغَ الْمَسَافَةَ ثُمَّ زَادَ
فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الزِّيَادَةِ إِنْ سَلِمَتْ وَإِنْ هَلَكَتْ ضَمِنَ. وَقَالَ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ الْكِرَاءُ وَالضَّمَانُ. قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا بَلَغَ
الْمُكْتَرِي الْغَايَةَ الَّتِي اكْتَرَى إِلَيْهَا ثُمَّ زَادَ مِيلًا
وَنَحْوَهُ أَوْ أَمْيَالًا أَوْ زِيَادَةً كَثِيرَةً فَعَطِبَتِ الدَّابَّةُ،
فَلِرَبِّهَا كِرَاؤُهُ الْأَوَّلُ وَالْخِيَارُ فِي أَخْذِهِ كِرَاءَ الزَّائِدِ
بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَوْ قِيمَةَ الدَّابَّةِ يَوْمَ التَّعَدِّي. ابْنُ
الْمَوَّازِ: وَقَدْ رَوَى أَنَّهُ ضَامِنٌ وَلَوْ زَادَ خُطْوَةً. وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي زِيَادَةِ الْمِيلِ وَنَحْوِهِ: وَأَمَّا مَا
يَعْدِلُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي الْمَرْحَلَةِ فَلَا يَضْمَنُ. وَقَالَ ابْنُ
حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ: إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ
يَسِيرَةٌ أَوْ جَاوَزَ الْأَمَدَ الَّذِي تَكَارَاهَا إِلَيْهِ بِيَسِيرٍ، ثُمَّ
رَجَعَ بِهَا سَالِمَةً إِلَى مَوْضِعٍ تَكَارَاهَا إِلَيْهِ فَمَاتَتْ، أَوْ
مَاتَتْ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكَارَاهَا إِلَيْهِ، فَلَيْسَ
لَهُ إِلَّا كِرَاءُ الزِّيَادَةِ، كَرَدِّهِ لِمَا تَسَلَّفَ مِنَ الْوَدِيعَةِ.
وَلَوْ زَادَ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ مَقَامُ الْأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي
يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهَا سَوْقُهَا فَهُوَ ضَامِنٌ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ فِي
مُجَاوَزَةِ الْأَمَدِ أَوِ الْمَسَافَةِ، لِإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ زِيَادَةٌ
يَسِيرَةٌ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُعِنْ عَلَى قَتْلِهَا
فَهَلَاكُهَا بَعْدَ رَدِّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهِ
كَهَلَاكِ مَا تَسَلَّفَ مِنَ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ رَدِّهِ لَا مَحَالَةَ. وَإِنْ
كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةٌ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ قَدْ أَعَانَتْ عَلَى
قَتْلِهَا.
الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» فَجَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ
وَالزِّينَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِلْأَكْلِ، وَنَحْوِهِ عَنِ أَشْهَبَ. وَلِهَذَا
قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْحَمِيرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى الرُّكُوبِ والزينة دل
على مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ. وَقَالَ فِي الْأَنْعَامَ:«وَمِنْها تَأْكُلُونَ»
مَعَ مَا امْتَنَّ اللَّهُ مِنْهَا مِنَ الدِّفْءِ وَالْمَنَافِعِ، فَأَبَاحَ
لَنَا أَكْلَهَا بِالذَّكَاةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا. وَبِهَذِهِ الْآيَةِ
احْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ الْحَكَمُ: لُحُومُ
الْخَيْلِ حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي قبلها
وقال: هذه للأكل وهذه للركوب. وسيل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ
فَكَرِهَهَا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ، وَقَرَأَ
الْآيَةَ التي قبلها«وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ»
ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِلْأَكْلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُمَا وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما
أخرجه أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ
صَالِحِ بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَكْلِ
لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ
أَوْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ
أَيْضًا عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ:«لَا
يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ». وَقَالَ
الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ: هِيَ مُبَاحَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ بِالتَّحْرِيمِ، مِنْهُمُ
الْحَكَمُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. حَكَى الثَّلَاثَ
رِوَايَاتٍ عَنْهُ الرُّويَانِيُّ فِي بَحْرِ الْمَذْهَبِ عَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ
وَالْخَبَرُ جَوَازُ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَأَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ لَا
حُجَّةَ فِيهِمَا لَازِمَةً. أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى
تَحْرِيمِ الْخَيْلِ. إِذْ لَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ
لُحُومِ الْحُمُرِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَأَيُّ حَاجَةٍ كَانَتْ
إِلَى تَجْدِيدِ تحريم لحوم الحمر
عام يبر وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ تَحْلِيلُ الْخَيْلِ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَنْعَامَ ذَكَرَ الْأَغْلَبَ مِنْ
مَنَافِعِهَا وَأَهَمُّ مَا فِيهَا، وَهُوَ حَمْلُ الْأَثْقَالِ وَالْأَكْلُ،
وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّكُوبَ وَلَا الْحَرْثَ بِهَا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا
بِهِ، وَقَدْ تُرْكَبُ وَيُحْرَثُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ
لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ «١»». وَقَالَ فِي
الْخَيْلِ:«لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» فَذَكَرَ أَيْضًا أَغْلَبَ مَنَافِعِهَا
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ حَمْلَ الْأَثْقَالِ عَلَيْهَا، وَقَدْ
تُحْمَلُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأَكْلَ. وَقَدْ
بَيَّنَهُ عليه السلام الَّذِي جَعَلَ إِلَيْهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا
يَأْتِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا خُلِقَتْ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ أَلَّا
تُؤْكَلَ، فَهَذِهِ الْبَقَرَةُ قَدْ أَنْطَقَهَا خَالِقُهَا الَّذِي أَنْطَقَ
كُلَّ شي فَقَالَتْ: إِنَّمَا خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ. فَيَلْزَمُ مِنْ عَلَّلَ أَنَّ
الْخَيْلَ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلرُّكُوبِ وألا تُؤْكَلَ الْبَقَرُ
لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ
أَكْلِهَا، فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِيهَا. رَوَى
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٌ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ
عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. وَقَالَ
النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ: أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ
لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ. فَإِنْ قِيلَ: الرِّوَايَةُ عَنْ جَابِرٍ بِأَنَّهُمْ أَكَلُوهَا فِي خَيْبَرَ
حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا ذَبَحُوا
لِضَرُورَةٍ، وَلَا يُحْتَجُّ بِقَضَايَا الْأَحْوَالِ. قُلْنَا: الرِّوَايَةُ
عَنْ جَابِرٍ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُزِيلُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، ولين سَلَّمْنَاهُ
فَمَعَنَا حَدِيثُ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَكُلُّ
تَأْوِيلٍ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّمَا هُوَ
دَعْوًى، لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَلَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ زِيَادَةً حَسَنَةً تَرْفَعُ كُلَّ تَأْوِيلٍ فِي حَدِيثِ
أَسْمَاءَ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: كَانَ لَنَا فَرَسٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
أَرَادَتْ أَنْ تَمُوتَ فَذَبَحْنَاهَا فَأَكَلْنَاهَا. فَذَبْحُهَا إِنَّمَا
كَانَ لِخَوْفِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: حَيَوَانٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَوَافِرِ
فَلَا يُؤْكَلُ كَالْحِمَارِ؟ قُلْنَا: هَذَا قِيَاسُ الشَّبَهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ
أَرْبَابُ الْأُصُولِ فِي الْقَوْلِ به، ولين سَلَّمْنَاهُ فَهُوَ مُنْتَقِضٌ
بِالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ ذُو ظِلْفٍ وَقَدْ بَايَنَ ذَوَاتَ الْأَظْلَافِ،
وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدُ
الْوَضْعِ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي إِجْمَاعِهِمْ
عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ مَا ذُكِرَ لِلْأَكْلِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا
ذُكِرَ لِلرُّكُوبِ.
(١). راجع ج ١٥ ص ٣٣٤.
السَّادِسَةُ- وَأَمَّا الْبِغَالُ
فَإِنَّهَا تُلْحَقُ بِالْحَمِيرِ، إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَيْلَ لَا تُؤْكَلُ،
فَإِنَّهَا تَكُونُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ عَيْنَيْنِ لَا يُؤْكَلَانِ. وَإِنْ
قُلْنَا إِنَّ الْخَيْلَ تُؤْكَلُ، فَإِنَّهَا عَيْنٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ
مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ فَغُلِّبَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا يَلْزَمُ فِي
الْأُصُولِ. وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْمَوْلُودِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ
أَهْلِ الذَّكَاةِ وَالْآخَرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، لَا تَكُونُ ذَكَاةً وَلَا
تَحِلُّ بِهِ الذَّبِيحَةُ. وَقَدْ مَضَى فِي» الْأَنْعَامِ «١» «الْكَلَامُ في
تحريم الخمر فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَقَدْ عُلِّلَ تَحْرِيمُ أَكْلِ
الْحِمَارِ بِأَنَّهُ أَبْدَى جَوْهَرَهُ الْخَبِيثَ حَيْثُ نَزَا عَلَى ذَكَرٍ
وَتَلَوَّطَ، فَسُمِّيَ رِجْسًا. السَّابِعَةُ- فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْخَيْلَ لَا زَكَاةَ فِيهَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَنَّ عَلَيْنَا بِمَا
أَبَاحَنَا مِنْهَا وَكَرَّمَنَا بِهِ مِنْ مَنَافِعِهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يُلْزَمَ فِيهَا كُلْفَةٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:» لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ
فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ«. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال:» لَيْسَ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ
زَكَاةٌ إِلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ«. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلُّهَا أَوْ ذُكُورًا
وَإِنَاثًا، فَفِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، وَإِنْ شَاءَ
قَوَّمَهَا فَأَخْرَجَ عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَاحْتَجَّ بِأَثَرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:» فِي الْخَيْلِ
السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٍ«وَبِقَوْلِهِ ﷺ:» الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ ...
«الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:» وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا
ظُهُورِهَا«. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا
غُورَكُ «٢» السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَابِرٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، تَفَرَّدَ بِهِ غُورَكُ عَنْ جَعْفَرٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمَنْ دُونَهُ ضُعَفَاءُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْحَقُّ
الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَ النَّفِيرُ
وَتَعَيَّنَ بِهَا لِقِتَالِ الْعَدُوِّ إِذَا تَعَيَّنَ» ذَلِكَ عَلَيْهِ،
وَيَحْمِلُ الْمُنْقَطِعِينَ عَلَيْهَا إِذَا احْتَاجُوا لِذَلِكَ، وَهَذَا
وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ، كَمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ
يُطْعِمَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَهَذِهِ حُقُوقُ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا. فإن
قيل، هذا هو
(١). راجع ج ٧ ص ١١٥ فما بعد.
(٢).
هو غورك بن الحضري أبو عبد الله. (عن الدارقطني).
الْحَقُّ الَّذِي فِي ظُهُورِهَا
وَبَقِيَ الْحَقُّ الَّذِي فِي رِقَابِهَا، قِيلَ: قَدْ رُوِيَ» لَا يَنْسَى حَقَّ
اللَّهِ فِيهَا«وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ:» حَقَّ اللَّهِ فِيهَا«أَوْ» فِي
رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا«فإن المعنى يرجع إلى شي وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْحَقَّ
يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَتِهَا. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ
الْحَقَّ هُنَا حُسْنُ مِلْكِهَا وَتَعَهُّدُ شِبَعِهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهَا
وَرُكُوبُهَا غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ» لَا
تَتَّخِذُوا ظُهُورَهَا كَرَاسِيَّ«. وَإِنَّمَا خَصَّ رِقَابَهَا بِالذِّكْرِ
لِأَنَّ الرِّقَابَ وَالْأَعْنَاقَ تُسْتَعَارُ كَثِيرًا فِي مَوَاضِعِ الْحُقُوقِ
اللَّازِمَةِ وَالْفُرُوضِ الْوَاجِبَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:»
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ «١» «وَكَثُرَ عِنْدَهُمُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ
وَاسْتِعَارَتُهُ حَتَّى جَعَلُوهُ فِي الرِّبَاعِ وَالْأَمْوَالِ، أَلَا تَرَى
قَوْلَ كُثَيِّرٍ:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ
ضَاحِكًا ... غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ «٢»
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَيَوَانَ
الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَمَّا خَرَجَتِ
الْخَيْلُ عَنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا سُقُوطَ الزَّكَاةِ فِيهَا. وَأَيْضًا
فَإِيجَابُهُ الزَّكَاةَ فِي إِنَاثِهَا مُنْفَرِدَةً دُونَ الذُّكُورِ تَنَاقُضٌ
مِنْهُ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ فَصْلٌ بَيْنَهُمَا. وَنَقِيسُ الْإِنَاثَ عَلَى
الذُّكُورِ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُقْتَنًى لِنَسْلِهِ لَا
لِدَرِّهِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِهِ فَلَمْ تَجِبْ فِي إِنَاثِهِ
كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي
إِنَاثِهَا وَإِنِ انْفَرَدَتْ كَذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً: وَهَذَا الَّذِي
عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْخَبَرُ فِي صَدَقَةِ
الْخَيْلِ عَنْ عُمَرَ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ جُوَيْرِيَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَبِي يُقَوِّمُ الْخَيْلَ
ثُمَّ يَدْفَعُ صَدَقَتَهَا إِلَى عُمَرَ. وَهَذَا حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَشَيْخِهِ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْخَيْلِ غَيْرَهُمَا. تَفَرَّدَ بِهِ
جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ ثِقَةٌ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:»
وَزِينَةً«مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، الْمَعْنَى: وَجَعَلَهَا زِينَةً.
وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. وَالزِّينَةُ: مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ،
وَهَذَا الْجَمَالُ وَالتَّزْيِينُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَقَدْ
أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ فِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:» الإبل عز
(١). راجع ج ٥ ص
(٢).
الغمر: الماء الكثير. ورجل الغمر الرداء، وغمر الخلق، أي واسع الخلق. كثير المعروف
سخى.
لِأَهْلِهَا وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ
وَالْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ». خَرَّجَهُ الْبُرْقَانِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ
النَّبِيُّ ﷺ الْعِزَّ فِي الْإِبِلِ، لِأَنَّ فِيهَا اللِّبَاسَ وَالْأَكْلَ
وَاللَّبَنَ وَالْحَمْلَ وَالْغَزْوَ وَإِنْ نَقَصَهَا الْكَرُّ وَالْفَرُّ.
وَجَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي الْغَنَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، فَإِنَّهَا تَلِدُ فِي الْعَامِ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ إِلَى مَا يَتْبَعُهَا مِنَ السَّكِينَةِ، وَتَحْمِلُ صَاحِبَهَا
عَلَيْهِ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ وَلِينِ الْجَانِبِ، بِخِلَافِ الْفَدَّادِينَ
«١» أَهْلِ الْوَبَرِ. وَقَرَنَ النَّبِيُّ ﷺ الْخَيْرُ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ
بَقِيَّةَ الدَّهْرِ لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعايش، وَمَا يُوصَلُ
إِلَيْهِ مِنْ قَهْرِ الْأَعْدَاءِ وَغَلَبِ الْكُفَّارِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) قَالَ
الْجُمْهُورُ، مِنَ الْخَلْقِ. وَقِيلَ، مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ
فِي أَسَافِلِ الْأَرْضِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِمَّا لَمْ يَرَهُ الْبَشَرُ
وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِ. وَقِيلَ:«وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» مِمَّا أَعَدَّ
اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا، مِمَّا لَمْ
تَرَهُ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ خَلْقُ السُّوسِ فِي الثِّيَابِ وَالدُّودِ
فِي الْفَوَاكِهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: عَيْنٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، حَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيُّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ
نهر من النور مثل السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَالْبِحَارِ
السَّبْعِ سَبْعِينَ مَرَّةً، يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلُّ سَحَرٍ فَيَغْتَسِلُ
فَيَزْدَادُ نُورًا إِلَى نُورِهِ وَجَمَالًا إِلَى جَمَالِهِ وَعِظَمًا إِلَى
عِظَمِهِ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رِيشَةٍ سَبْعِينَ
أَلْفَ قَطْرَةٍ، وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ سَبْعَةَ آلَافِ مَلَكٍ،
يَدْخُلُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى الْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ، وفى الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ «٢» - وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
أَنَّهَا«أَرْضٌ بَيْضَاءُ، مَسِيرَةَ الشَّمْسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَشْحُونَةً
خَلْقًا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْصَى فِي الْأَرْضِ» قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ وَلَدِ آدَمَ؟ قَالَ:«لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
خَلَقَ آدَمَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ إِبْلِيسُ مِنْهُمْ؟
قَالَ:«لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِبْلِيسَ»- ثُمَّ تَلَا«وَيَخْلُقُ
ما لا تَعْلَمُونَ» ذكره الماوردي. (هامش)
(١). الفدادون: أصحاب الإبل الكثيرة الذين
يملك أحدهن المائتين من الإبل إلى الالف، في ى: أهل الإبل.
(٢).
كذا في الأصول. والمتبادر سادس.
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا مِنْ وراء
الأندلس كما بينا وَبَيْنَ الْأَنْدَلُسِ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ عَصَاهُ
مَخْلُوقٌ، رَضْرَاضُهُمُ «١» الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ وَجِبَالُهُمُ الذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ، لَا يَحْرُثُونَ «٢» وَلَا يَزْرَعُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا،
لَهُمْ شَجَرٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ لَهَا ثَمَرٌ هِيَ طَعَامُهُمْ وَشَجَرٌ لَهَا
أَوْرَاقٌ عِرَاضٌ هِيَ لِبَاسُهُمْ، ذَكَرَهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ (كِتَابِ
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ). وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ
أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ
مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ
إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام».
[سورة
النحل (١٦): آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ
وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ) أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السبيل، فحذف المضاف وهو
البيان. والسبيل: السلام، أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُهُ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ
وَالْبَرَاهِينِ. وَقَصْدُ السَّبِيلِ: اسْتِعَانَةُ الطَّرِيقِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ
قَاصِدٌ أَيْ يُؤَدِّي إِلَى الْمَطْلُوبِ. (وَمِنْها جائِرٌ) أَيْ وَمِنَ
السَّبِيلِ جَائِرٌ، أَيْ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُهْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمِنَ الطَّرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدًى
... قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلَ
وَقَالَ طَرَفَةُ:
عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ
ابْنِ يَامِنِ ... يَجُورُ بِهَا الْمَلَّاحُ طَوْرًا
ويهتدي العدولية سفينة منسوبة إلى عد
ولى قَرْيَةٍ بِالْبَحْرَيْنِ. وَالْعَدَوْلِيُّ: الْمَلَّاحُ، قَالَهُ فِي
الصِّحَاحِ. وَفِي التَّنْزِيلِ«وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ». وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَقِيلَ: الْمَعْنَى
وَمِنْهُمْ جَائِرٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ عَادِلٌ عَنْهُ فَلَا يَهْتَدِي
إِلَيْهِ. وَفِيهِمْ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ
الْمُخْتَلِفَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثاني- ملل الكفر من اليهودية
والمجوسية
(١). الرضاض: الحصى.
(٢).
في ى: يحترثون.
(٣).
راجع ج ٧ ص ١٣٧
وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَفِي مُصْحَفِ
عَبْدِ اللَّهِ«وَمِنْكُمْ جَائِرٌ» وَكَذَا قَرَأَ عَلِيٌّ«وَمِنْكُمْ»
بِالْكَافِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى وَعَنْهَا جَائِرٌ، أَيْ عَنِ السَّبِيلِ. فَ«-
مِنْ» بِمَعْنَى عَنْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ أَنْ
يَهْدِيَهُ سَهَّلَ لَهُ طَرِيقَ الْإِيمَانِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ
ثَقَّلَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى«قَصْدُ السَّبِيلِ»
مَسِيرُكُمْ وَرُجُوعُكُمْ. وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ،
وَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فَقَالَ:«وَمِنْها» وَالسَّبِيلُ مُؤَنَّثَةٌ فِي
لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ) بَيَّنَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُصَحِّحُ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَيَرُدُّ عَلَى
الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهَا كما تقدم.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٠]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)
الشَّرَابُ مَا يُشْرَبُ،
وَالشَّجَرُ مَعْرُوفٌ. أَيْ يُنْبِتُ مِنَ الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا.
و(تُسِيمُونَ) تَرْعَوْنَ إِبِلَكُمْ، يُقَالُ: سَامَتِ السَّائِمَةُ تَسُومُ
سَوْمًا أَيْ رَعَتْ، فَهِيَ سَائِمَةٌ. وَالسَّوَامُ وَالسَّائِمُ بِمَعْنًى،
وَهُوَ الْمَالُ الرَّاعِي. وَجَمْعُ السَّائِمِ وَالسَّائِمَةِ سَوَائِمُ.
وَأَسَمْتُهَا أَنَا أَيْ أَخْرَجْتُهَا إِلَى الرَّعْيِ، فَأَنَا مُسِيمٌ وَهِيَ
مُسَامَةٌ وَسَائِمَةٌ. قَالَ:
أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ
الْأَجْمَالِ «١»
وَأَصْلُ السَّوْمِ الْإِبْعَادُ فِي
الْمَرْعَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُخِذَ مِنَ السُّومَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ،
أَيْ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ بِرَعْيِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا
تُعَلَّمُ لِلْإِرْسَالِ فِي الْمَرْعَى. قُلْتُ: وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ
تَكُونُ الْمَرْعِيَّةُ. وَتَكُونُ الْمُعَلَّمَةُ. وَقَوْلُهُ:«مُسَوِّمِينَ»
قَالَ الْأَخْفَشُ تَكُونُ مُعَلَّمِينَ وَتَكُونُ مُرْسَلِينَ، مِنْ قَوْلِكَ:
سَوَّمَ فِيهَا الْخَيْلَ أَيْ أَرْسَلَهَا، وَمِنْهُ السَّائِمَةُ، وَإِنَّمَا
جَاءَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ لان الخيل سومت وعليها ركبانها.
(١). هذا عجر بيت، وصدره كما في تفسير الطبري:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله
[سورة النحل (١٦): آية ١١]
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنْبِتُ لَكُمْ
بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ«نُنْبِتُ» بِالنُّونِ عَلَى
التَّعْظِيمِ. الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى يُنْبِتُ الله لكم، يقال:
ينبت الْأَرْضُ وَأَنْبَتَتْ بِمَعْنًى، وَنَبَتَ الْبَقْلُ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى.
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ
بُيُوتِهِمْ ... قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
أَيْ نَبَتَ. وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ
فَهُوَ مَنْبُوتٌ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَأَنْبَتَ الْغُلَامُ نَبَتَتْ
عَانَتُهُ. وَنَبَتَ الشَّجَرُ غَرْسَهُ «١»، يُقَالُ: نَبَتَ أَجَلُكَ بَيْنَ
عَيْنَيْكَ. وَنَبَّتُّ الصَّبِيَّ تَنْبِيتًا رَبَّيْتُهُ. وَالْمَنْبَتُ مَوْضِعُ
النَّبَاتِ، يُقَالُ: مَا أَحْسَنَ نَابِتَةُ بَنِي فُلَانٍ، أَيْ مَا يَنْبُتُ
عَلَيْهِ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ. وَنَبَتَتْ لَهُمْ نَابِتَةٌ إِذَا
نَشَأَ لَهُمْ نَشْءٌ صِغَارٌ. وَإِنَّ بَنِي فلان لنابتة شر. والنوابت من الاحادث
الْأَغْمَارُ. وَالنَّبِيتُ حَيٌّ «٢» مِنَ الْيَمَنِ. وَالْيَنْبُوتُ «٣» شَجَرٌ،
كُلُّهُ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. (وَالزَّيْتُونَ) جَمْعُ زَيْتُونَةٍ. وَيُقَالُ
لِلشَّجَرَةِ نَفْسِهَا: زَيْتُونَةٌ، وَلِلثَّمَرَةِ زَيْتُونَةٌ. وَقَدْ مَضَى
فِي سُورَةِ«الْأَنْعَامِ» «٤» حُكْمُ زَكَاةِ هَذِهِ الثِّمَارِ فلا معنى
للإعادة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الْإِنْزَالِ وَالْإِنْبَاتِ. (لَآيَةً) أَيْ
دَلَالَةً (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أَيْ لِلسُّكُونِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا
قَالَ:«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «٥»». (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ) أَيْ مُذَلَّلَاتٌ لِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَنُضْجِ الثِّمَارِ
وَالزَّرْعِ والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرا (ابن عباس «٦» و) ابْنُ عَامِرٍ
وَأَهْلُ الشَّامِ«وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مسخرات»
(١). في ج: بنبت الشجر غرسته.
[.....]
(٢).
أبو حي من اليمن واسمه عمرو بن مالك.
(٣).
الذي في القاموس: الينبوت شجر الخشخاش أو شجر آخر الخروب.
(٤).
راجع ج ٧ ص ٩٩ فما بعدها.
(٥).
راجع ج ١٣ ص ٣٠٨.
(٦).
في ج.
بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ
وَالْخَبَرِ. الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ
حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ برفع«وَالنُّجُومُ»،«مُسَخَّراتٌ» خبره. وقرى«وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ» بالنصب. (عطفا على الليل والنهار، ورفع والنجوم على
الابتداء «١».«مُسَخَّراتٌ» بِالرَّفْعِ، وَهُوَ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ)
أَيْ في مُسَخَّرَاتٌ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَهَا حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ،
كَقَوْلِهِ:«وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا «٢»». (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) أي عَنِ اللَّهِ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَوَفَّقَهُمْ لَهُ.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما ذَرَأَ) أَيْ وَسَخَّرَ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ
لَكُمْ.«ذَرَأَ» أَيْ خَلَقَ، ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا
خَلَقَهُمْ، فَهُوَ ذَارِئٌ، وَمِنْهُ الذُّرِّيَّةُ وَهِيَ نَسْلُ الثَّقَلَيْنِ،
إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ تَرَكَتْ هَمْزَهَا، وَالْجَمْعُ الذَّرَارِيُّ. يُقَالُ:
أَنْمَى اللَّهُ ذَرْأَكَ وَذَرْوَكَ، أَيْ ذُرِّيَّتَكَ. وَأَصْلُ الذَّرْوِ
وَالذَّرْءِ التَّفْرِيقُ عَنْ جَمْعٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «٣» «ذَرْءُ النَّارِ»
أَيْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا لَهَا. الثَّانِيَةُ- مَا ذَرَأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مِنْهُ مُسَخَّرٌ مُذَلَّلٌ كَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَشْجَارِ
وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ
فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ
لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ
بِوَجْهِ اللَّهِ العظيم الذي ليس شي أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ
التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ
اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ
شَرٍّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ. وَفِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ
قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ
بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هذا الموضع.
(١). من ج.
(٢).
راجع ج ٢ ص ٢٩.
(٣).
أي في حديث عمر رضى الله وقد كتب إلى خالد:. إنا أظنكم آل المغيرة ذرء النار.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ) «مُخْتَلِفًا» نُصِبَ على الحال. و «أَلْوانُهُ»
هَيْئَاتُهُ وَمَنَاظِرُهُ، يَعْنِي الدَّوَابَّ وَالشَّجَرَ وَغَيْرَهَا. (إِنَّ
فِي ذلِكَ) أَيْ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا. (لَآيَةً) أَيْ لَعِبْرَةً.
(لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أَيْ يَتَّعِظُونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ فِي تَسْخِيرِ
هَذِهِ الْمُكَوَّنَاتِ لَعَلَامَاتٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذلك أحد غيره.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) تَسْخِيرُ الْبَحْرِ هُوَ
تَمْكِينُ الْبَشَرِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَذْلِيلِهِ بِالرُّكُوبِ
وَالْإِرْفَاءِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا،
فَلَوْ شَاءَ سَلَّطَهُ عَلَيْنَا وَأَغْرَقَنَا وَقَدْ مَضَى الكلام في البحر «١»
وفى صيده. سَمَّاهُ هُنَا لَحْمًا وَاللُّحُومُ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثَةُ
أَجْنَاسٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ جِنْسٌ، وَلَحْمُ ذَوَاتِ الرِّيشِ
جِنْسٌ، وَلَحْمُ ذَوَاتِ الْمَاءِ جِنْسٌ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ مِنْ
جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْبَقَرِ وَالْوَحْشِ بِلَحْمِ
الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ مُتَفَاضِلًا، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الطَّيْرِ بِلَحْمِ
الْبَقَرِ وَالْوَحْشِ وَالسَّمَكِ يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: اللَّحْمُ كُلُّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ كَأُصُولِهَا، فَلَحْمُ
الْبَقَرِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْغَنَمِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْإِبِلِ صِنْفٌ،
وَكَذَلِكَ الْوَحْشُ مُخْتَلِفٌ، كَذَلِكَ الطَّيْرُ، وَكَذَلِكَ السَّمَكُ،
وَهُوَ جحد قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ
النَّعَمِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيْرِ وَالسَّمَكِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ
التَّفَاضُلُ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ
عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ
أَسْمَاءِ الْأَنْعَامِ فِي حَيَاتِهَا فَقَالَ:«ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ «٢»»
(١). راجع ج ١ ص ٢٨٨.
(٢).
راجع ج ٧ ص ١١٣.
ثُمَّ قَالَ:» وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ«فَلَمَّا أَنْ أَمَّ بِالْجَمِيعِ «١» إِلَى
اللَّحْمِ قَالَ:» أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ«فَجَمَعَهَا بِلَحْمٍ
وَاحِدٍ لِتَقَارُبِ مَنَافِعهَا كَتَقَارُبِ لَحْمِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:» وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ «٢» «وَهَذَا
جَمْعُ طَائِرٍ الَّذِي هُوَ الْوَاحِدُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:» وَلا طائِرٍ
يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «٣» «فَجَمَعَ لَحْمَ الطَّيْرِ كُلَّهُ بِاسْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ هُنَا:» لَحْمًا طَرِيًّا«فَجَمَعَ أَصْنَافَ السَّمَكِ بِذِكْرٍ وَاحِدٍ،
فَكَانَ صِغَارُهُ كَكِبَارِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْمَعْزِ بِلَحْمِ الْكِبَاشِ أَشَيْءٌ
وَاحِدٌ؟ فَقَالَ لَا، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَلَا حُجَّةَ لِلْمُخَالِفِ فِي نَهْيِهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ
إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنَّ الطَّعَامَ فِي الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ
الْحِنْطَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَلَا يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ، أَلَا
تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: أَكَلْتُ الْيَوْمَ طَعَامًا لَمْ يَسْبِقِ
الْفَهْمُ مِنْهُ إِلَى أَكْلِ اللَّحْمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ
بِقَوْلِهِ ﷺ:» إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ«وَهَذَانِ
جِنْسَانِ، وَأَيْضًا فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِلَحْمِ
«٤» الطَّيْرِ مُتَفَاضِلًا لَا لِعِلَّةِ أَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ لَا زَكَاةَ
لَهُ بِيعَ بِلَحْمٍ لَيْسَ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ السَّمَكِ
بِلَحْمِ الطَّيْرِ مُتَفَاضِلًا. الثَّانِيَةُ- وَأَمَّا الْجَرَادُ
فَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا جَوَازُ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا.
وَذُكِرَ عَنْ سُحْنُونٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضَ
الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَآهُ مِمَّا يدخر. الثالثة- لاختلف الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ
حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَحْنَثُ بِكُلِّ
نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الأنواع الاربعة. وقال أشهب في المجموعة. يَحْنَثُ إِلَّا
بِكُلِّ لُحُومِ الْأَنْعَامِ دُونَ الْوَحْشِ وَغَيْرِهِ، مُرَاعَاةً لِلْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ، وَتَقْدِيمًا لَهَا عَلَى إِطْلَاقِ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ
«٥» أَحْسَنُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها يَعْنِي بِهِ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:»
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٦»«. وَإِخْرَاجُ الْحِلْيَةِ
إِنَّمَا هِيَ فِيمَا عُرِفَ مِنَ الْمِلْحِ فَقَطْ. وَقَالَ: إِنَّ فِي
الزُّمُرُّدِ بَحْرِيًّا. وَقَدْ خُطِّئَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي وصف الدرة:
(١). في الأصول:» فلما أن أم الجميع".
يريد: فلما أن قصد بالجميع إلى اللحم.
(٢).
راجع ج ١٧ ص ٢٠٢ فما بعد وص ١٦١ فما بعد.
(٣).
راجع ج ٦ ص ٤١٩ فما بعد.
(٤).
في ج وى: اللبن. [.....]
(٥).
في ى: وهذا حسن.
(٦).
راجع ج ١٧ ص ٢٠٢ فما بعد وص ١٦١ فما بعد.
فَجَاءَ بِهَا مِنْ دُرَّةٍ
لَطَمِيَّةٍ ... عَلَى وَجْهِهَا مَاءُ الْفُرَاتِ يَدُومُ «١»
فَجَعَلَهَا مِنَ الْمَاءِ
الْحُلْوِ. فَالْحِلْيَةُ حَقٌّ وَهِيَ نِحْلَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ
وَوَلَدِهِ. خُلِقَ آدَمُ وَتُوِّجَ وَكُلِّلَ بِإِكْلِيلِ الْجَنَّةِ، وَخُتِمَ
بِالْخَاتَمِ الَّذِي وَرِثَهُ عَنْهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ خاتم العز فيما روى. الخامسة- لأمتن اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ امْتِنَانًا عَامًّا بِمَا يَخْرُجُ
مِنَ الْبَحْرِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ شي مِنْهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى الرِّجَالِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ: رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ
فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ».
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ«الْحَجِّ» الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ «٢».
وَرَوَى الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اتَّخَذَ
خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَاطِنَ كَفِّهِ، وَنَقَشَ
فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ
قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ:«لَا أَلْبَسْهُ أَبَدًا» ثُمَّ اتَّخَذَ
خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ. قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ
عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ «٣». قَالَ أَبُو
دَاوُدَ: لَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ حَتَّى سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ
يَدِهِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءَ عَلَى جَوَازِ التَّخَتُّمِ بِالْوَرَقِ عَلَى
الْجُمْلَةِ لِلرِّجَالِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ. وَكُرِهَ لِلنِّسَاءِ
التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الرِّجَالِ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْنَ ذَهَبًا فَلْيُصَفِّرْنَهُ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ بِشَبَهِهِ. وَجُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ الرِّجَالِ
خَاتَمَ الذَّهَبِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَخَبَّابٍ، وَهُوَ خِلَافٌ شَاذٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَمْ يَبْلُغْهُمَا
النَّهْيُ وَالنَّسْخُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا
وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِمَ، مِنْ وَرِقٍ
وَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَاتَمَهُ فَطَرَحَ النَّاسُ
خَوَاتِيمَهُمْ- أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ واللفظ للبخاري- فهو عند العلماء
(١). اللطيمة: الجمال التي تحمل العطر. وقيل:
اللطيمة العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها، وهى اللطيمة.
(٢).
راجع ج ١٢ ص ٢٨.
(٣).
حديقة بالقرب من مسجد قباء.
وَهْمٌ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ، لِأَنَّ
الَّذِي نَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا هُوَ خَاتَمُ الذَّهَبِ. رَوَاهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَقَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْجُمْلَةِ عَلَى
الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَهَا، مَعَ مَا يَشْهَدُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ. السَّادِسَةُ- إِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّخَتُّمِ لِلرِّجَالِ بِخَاتَمِ
الْفِضَّةِ وَالتَّحَلِّي بِهِ، فَقَدْ كَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ نَقْشَهُ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ. وَأَجَازَ نَقْشَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ إِذَا نُقِشَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ أَوْ
كَلِمَةُ حِكْمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ،
فَهَلْ يَدْخُلُ بِهِ الْخَلَاءَ وَيَسْتَنْجِي بِشِمَالِهِ؟ خَفَّفَهُ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمَالِكٌ. قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنْ كَانَ فِي الْخَاتَمِ ذِكْرُ
اللَّهِ وَيَلْبَسُهُ فِي الشِّمَالِ أَيُسْتَنْجَى بِهِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ
يَكُونَ خَفِيفًا. وَرُوِيَ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ وَهُوَ الْأَوْلَى. وَعَلَى
الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ رَوَى هَمَّامٌ عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا
دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ
مُنْكَرٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ ابن سَعْدٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ
أَلْقَاهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذَا إِلَّا هَمَّامٌ.
السَّابِعَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ«مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ» وَقَالَ:«إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَنَقَشْتُ فِيهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ». قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْشِ اسْمِ صَاحِبِ الْخَاتَمِ
عَلَى خَاتَمِهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ شَأْنِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ نَقْشُ
أَسْمَائِهِمْ عَلَى خَوَاتِيمِهِمْ، وَنَهْيُهُ عليه السلام: لَا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِ
خَاتَمِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ وَصِفَتُهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ لَهُ
إِلَى خَلْقِهِ. وَرَوَى أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الخاتم لغير ذى
سلطان. ورووا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا. عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ لَا
حُجَّةَ فِيهِ لِضَعْفِهِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام:«لَا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى
نَقْشِهِ» يَرُدُّهُ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْخَاتَمِ لِجَمِيعِ
النَّاسِ، إِذَا لَمْ يُنْقَشْ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِهِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ
الزُّهْرِيِّ«مُحَمَّدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ». وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ
مَالِكٍ«حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ». وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرُ الْأُصُولِ) أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ مُوسَى عليه السلام
«لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ». وَقَدْ
مَضَى فِي الرَّعْدِ «١». وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنَهُ
اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ بَلَغَنِي
أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبِعْهُ وَأَطْعِمْ مِنْهُ
أَلْفَ جَائِعٍ، وَاشْتَرِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ بِدِرْهَمٍ، وَاكْتُبْ
عَلَيْهِ«رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ». الثَّامِنَةُ- مَنْ
حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا لَمْ يَحْنَثْ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ
الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ يَتَنَاوَلُهُ فَلَمْ يَقْصِدْهُ بِالْيَمِينِ،
وَالْأَيْمَانُ تُخَصُّ بِالْعُرْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَلَّا
يَنَامَ عَلَى فِرَاشٍ فَنَامَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ لا
يستضئ بِسِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَا يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ
تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالشَّمْسَ سِرَاجًا. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَسَ حُلِيًّا
وَلَبِسَ اللُّؤْلُؤَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» وَالَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ: اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجَانُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ
فِيهِ) قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْفُلْكِ وَرُكُوبُ الْبَحْرِ فِي«الْبَقَرَةِ «٢»»
وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ:«مَواخِرَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَوَارِيَ، مِنْ جَرَتْ
تَجْرِي. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُعْتَرِضَةً. الْحَسَنُ: مَوَاقِرَ. قَتَادَةُ
وَالضَّحَّاكُ: أَيْ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ، مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ.
وَقِيلَ:«مَواخِرَ» مُلَجِّجَةً فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ، وَأَصْلُ الْمَخْرِ شَقُّ
الْمَاءِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. مَخَرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخَرُ وَتَمْخُرُ
مَخْرًا وَمُخُورًا إِذَا جَرَتْ تَشُقُّ الْمَاءَ مَعَ صَوْتٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:«وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» يَعْنِي جَوَارِيَ. وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَمَخَرَ السَّابِحُ إِذَا شَقَّ الْمَاءَ بِصَدْرِهِ، وَمَخَرَ
الْأَرْضَ شَقَّهَا لِلزِّرَاعَةِ، وَمَخَرَهَا بِالْمَاءِ إِذَا حَبَسَ الْمَاءَ
فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ أَرِيضَةً، أَيْ خَلِيقَةً بِجَوْدَةِ نَبَاتِ الزَّرْعِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَخْرُ فِي اللُّغَةِ صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ، وَلَمْ
يُقَيِّدْ كَوْنَهُ فِي مَاءٍ، وَقَالَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ وَاصِلٍ مَوْلَى
أَبِي عُيَيْنَةَ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فَلْيَتَمَخَّرِ الرِّيحَ،
أَيْ لِيَنْظُرَ فِي صَوْتِهَا فِي الْأَجْسَامِ مِنْ أَيْنَ تَهُبُّ،
فَيَتَجَنَّبُ اسْتِقْبَالَهَا لِئَلَّا تَرُدَّ عَلَيْهِ بَوْلَهُ.
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أَيْ وَلِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجَارَةِ
وَطَلَبِ الرِّبْحِ. (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) تَقَدَّمَ جَمِيعُ هذا في«البقرة» والحمد لله.
(١). راجع ج ٩ ص ٣٢٩.
(٢).
راجع ج ١ ص ٣٨٨ وج ٢ ص ١٩٤.
[سورة النحل (١٦): آية ١٥]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ) أَيْ جِبَالًا ثَابِتَةً. رَسَا يَرْسُو إِذَا ثَبُتَ
وَأَقَامَ. قَالَ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ
حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ «١»
(أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ) أَيْ لِئَلَّا تَمِيدَ، عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَكَرَاهِيَةَ
أَنْ تَمِيدَ، عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالْمَيْدُ: الِاضْطِرَابُ يَمِينًا
وَشِمَالًا، مَادَ الشَّيْءُ يَمِيدُ مَيْدًا إِذَا تَحَرَّكَ، وَمَادَتِ
الْأَغْصَانُ تَمَايَلَتْ، وَمَادَ الرَّجُلُ تَبَخْتَرَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَجَعَلَتْ تَمِيدُ وَتَمُورُ، فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُقِرَّةٍ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِهَا
فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، وَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ
خُلِقَتِ الْجِبَالُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه:
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ
قَمَصَتْ وَمَالَتْ وَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ! أَتَجْعَلُ عَلَيَّ مَنْ يَعْمَلُ
بِالْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا، وَيُلْقِي عَلَيَّ الْجِيَفَ وَالنَّتْنَ! فَأَرْسَى
اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ (كِتَابِ التَّفْسِيرِ): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ
حَوْشَبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ
النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:«لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ
الْجِبَالَ فَعَادَ بها عليها فاستقرت فعجب الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب
هل من خلقك شي أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ قَالَ نَعَمِ الْحَدِيدُ قَالُوا يا رب فهل
من خلقك شي أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ قَالَ نَعَمِ النَّارُ فَقَالُوا يا رب فهل من
خلقك شي أَشَدُّ مِنَ النَّارِ قَالَ نَعَمِ الْمَاءُ قَالُوا يا رب فهل من خلقك
شي أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ قَالَ نَعَمِ الرِّيحُ قَالُوا يا رب فهل من خلقك شي
أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ قَالَ نَعَمِ ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ
يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا
نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هذا الوجه.
(١). البيت لعنترة العبسي. يقول: حبست نفسا
عارفة، أي صابرة. وقبله:
وعلمت أن منيتي إن تأتني ... لا
ينجني منها الفرار الاسرع
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى
سُكُونِهَا دُونَ الْجِبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. (وَأَنْهارًا)
أَيْ وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا، أَوْ أَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا. (وَسُبُلًا)
أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِكَ. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أَيْ إِلَى حَيْثُ
تَقْصِدُونَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا تضلون ولا تتحيرون.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٦]
وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ (١٦)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلاماتٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَلَامَاتُ مَعَالِمُ
الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، أَيْ جَعَلَ لِلطَّرِيقِ عَلَامَاتٍ يَقَعُ الِاهْتِدَاءُ
بِهَا. (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وَالنَّجْمُ
يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ«وَبِالنُّجُمِ». الْحَسَنُ:
بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ جَمِيعًا وَمُرَادُهُ النُّجُومُ، فَقَصَرَهُ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْفَقِيرَ بَيْنَنَا قَاضٍ
حَكَمْ ... أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِمَنْ
قَرَأَ«النُّجْمُ» إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ اسْتِخْفَافًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
النُّجُمُ جَمْعُ نَجْمٍ كَسُقُفٍ وَسَقْفٍ. وَاخْتُلِفَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ
الْفَرَّاءُ: الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ. وَقِيلَ: الثُّرَيَّا. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ
النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ «١»
أَيْ مِنْهُ مَلْوِيٌّ وَمِنْهُ
مَحْصُودٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا يَكُونُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ النُّجُومُ، لِأَنَّ مِنَ
النُّجُومِ مَا يُهْتَدَى بِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً لَا يُهْتَدَى
بِهَا، وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ
قَوْلِهِ:«وَعَلاماتٍ» ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ:«وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ».
وَعَلَى الْأَوَّلِ: أي وجعل لكم علامات ونجو ما تَهْتَدُونَ بِهَا. وَمِنَ
الْعَلَامَاتِ الرِّيَاحُ يُهْتَدَى بِهَا. وَفِي الْمُرَادِ بِالِاهْتِدَاءِ
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- فِي الْأَسْفَارِ،
(١). البيت لذي الرمة. ومعنى«استقل» طلع في
آخر الليل. وفى ديوانه:«أحصد» بدل«غودر». وأحصد: حان حصاده.
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
الثَّانِي- فِي الْقِبْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
عَنْ تَعَالَى:«وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» قَالَ:«هُوَ الْجَدْيُ يا بن
عَبَّاسٍ، عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ»
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا
جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا
وَمَغَارِبِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا،
وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخَرِينَ. وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا
إِلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ. وَإِنَّمَا الْهُدَى لِكُلِ أَحَدٍ
بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ، لِأَنَّهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ
الْمَطَالِعِ الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ، فَإِنَّهَا
تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا، فَهِيَ أَبَدًا هُدَى
الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إِذَا عَمِيَتِ الطُّرُقُ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى
السُّفُنِ، وَفِي الْقِبْلَةِ إِذَا جُهِلَ السَّمْتُ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ
بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِكَ الْأَيْسَرِ فَمَا
اسْتَقْبَلْتَ فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ. قُلْتُ: وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ عَنِ النَّجْمِ فَقَالَ:«هُوَ الْجَدْيُ عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ وَبِهِ
تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ». وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْجَدْيِ بَنَاتُ
نَعْشٍ الصُّغْرَى وَالْقُطْبُ الَّذِي تَسْتَوِي عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بَيْنَهَا.
الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَحُكْمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَرَاهَا وَيُعَايِنَهَا فَيَلْزَمُهُ
اسْتِقْبَالُهَا وَإِصَابَتُهَا وَقَصْدُ جِهَتِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ.
وَالْآخَرُ- أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا فَيَلْزَمُهُ
التَّوَجُّهُ نَحْوَهَا وَتِلْقَاءَهَا بِالدَّلَائِلِ، وَهِيَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالرِّيَاحُ وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ بِهِ مَعْرِفَةُ
جِهَتِهَا، وَمَنْ غَابَتْ عَنْهُ وَصَلَّى مُجْتَهِدًا إِلَى غَيْرِ نَاحِيَتِهَا
وَهُوَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الِاجْتِهَادُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَإِذَا صَلَّى
مُجْتَهِدًا مُسْتَدِلًّا ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ
أَنَّهُ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِهَا،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى مَا
أُمِرَ به. عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي«الْبَقَرَةِ»
«١» مُسْتَوْفًى والحمد لله:
(١). راجع ج ٢ ص ١٦٠
[سورة النحل (١٦): آية ١٧]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا
يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:» أَفَمَنْ
يَخْلُقُ«هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. (كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) يُرِيدُ الْأَصْنَامَ.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أَخْبَرَ عَنِ الْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تضر
ولا تنفع، كما يخبر عمن يعمل عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ،
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَذُكِرَتْ بِلَفْظِ» مَنْ«كَقَوْلِهِ:»
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ «١»«. وَقِيلَ: لِاقْتِرَانِ الضَّمِيرِ فِي الذِّكْرِ
بِالْخَالِقِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ
الرَّاكِبُ وَجَمَلُهُ فَلَا أَدْرِي مَنْ ذَا وَمَنْ ذَا، وَإِنْ كَانَ
أَحَدُهُمَا غَيْرُ إِنْسَانٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُسْأَلُ بِ» مَنْ«عَنِ
الْبَارِئِ تَعَالَى وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِ» مَا«، لِأَنَّ» مَا«إِنَّمَا
يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْأَجْنَاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِذِي جِنْسٍ،
وَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عليه السلام حين قال له:» فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى
«٢» «وَلَمْ يُجِبْ حِينَ قَالَ لَهُ:» وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «٣» «إِلَّا
بِجَوَابِ» مَنْ«وَأَضْرَبَ عَنْ جَوَابِ» مَا«حِينَ كَانَ السُّؤَالُ فَاسِدًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ
الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ كَانَ بِالْعِبَادَةِ أَحَقُّ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ
لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ،» هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «٤» «» أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «٥»".
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١٨ الى ١٩]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ
لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها) تقدم في إبراهيم «٦». (إِنَّ اللَّهَ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أَيْ مَا
تُبْطِنُونَهُ وَمَا تظهرونه. وقد تقدم جميع هذا مستوفى.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ
أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
(١). راجع ج ٧ ص ٣٤٢.
(٢).
راجع ج ١١ ص ٢٠٣.
(٣).
راجع ج ١٣ ص ٩٨.
(٤).
راجع ج ١٤ ص ٥٨ وص ٣٥٥. [.....]
(٥).
راجع ج ١٦ ص ١٧٩.
(٦).
راجع ج ٩ ص ٣٦٧.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ«تَدْعُونَ» بِالتَّاءِ
لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خِطَابٌ. رَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَهُبَيْرَةَ عَنْ
حَفْصٍ«يَدْعُونَ» بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ:«مَا
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» فَكُلُّهُمْ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، إِلَّا
مَا رَوَى هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ. (لَا
يَخْلُقُونَ شَيْئًا) أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خلق شي (وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أَيْ هُمْ أَمْوَاتٌ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، لَا
أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، أَيْ هِيَ جَمَادَاتٌ فَكَيْفَ
تَعْبُدُونَهَا وَأَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْهَا بِالْحَيَاةِ. (وَما يَشْعُرُونَ)
يَعْنِي الْأَصْنَامَ. (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ،«إِيَّانَ»
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مَوْضِعُهُ نُصِبَ بِ«يُبْعَثُونَ»
وَهِيَ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَدْرُونَ مَتَى
يُبْعَثُونَ. وَعَبَّرَ عَنْهَا كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ
زَعَمُوا أَنَّهَا تَعْقِلُ عَنْهُمْ وَتَعْلَمُ وَتَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى، فَجَرَى خِطَابُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَا أَرْوَاحٌ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ
عِبَادَتِهِمْ، وَهِيَ فِي الدُّنْيَا جَمَادٌ لَا تَعْلَمُ مَتَى تُبْعَثُ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، تُبْعَثُ الْأَصْنَامُ وَتُرَكَّبُ فِيهَا الْأَرْوَاحُ وَمَعَهَا
شَيَاطِينُهَا فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ عَبَدَتِهَا، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِالشَّيَاطِينِ
وَالْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ تُطْرَحُ فِي
النَّارِ مَعَ عَبَدَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، دَلِيلُهُ«إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «١»». وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ
عِنْدَ قَوْلِهِ:«لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ» ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَوَصَفَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَهَذَا الْمَوْتُ مَوْتُ
كُفْرٍ.«وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أَيْ وَمَا يَدْرِي الْكُفَّارُ
مَتَى يُبْعَثُونَ، أَيْ وَقْتَ الْبَعْثِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْبَعْثِ حَثَى يَسْتَعِدُّوا لِلِقَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَيْ وَمَا
يُدْرِيهِمْ مَتَى السَّاعَةُ، وَلَعَلَّهَا تَكُونُ قَرِيبًا.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
(١). راجع ج ١١ ص ٣٤٣.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) لَمَّا بَيَّنَ اسْتِحَالَةَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ
أَنَّ الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ.
(فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أَيْ لا تقبل
الوعظ ولا ينجع فِيهَا الذِّكْرُ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. (وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ) أي مُتَكَبِّرُونَ مُتَعَظِّمُونَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي» الْبَقَرَةِ «١» «مَعْنَى الِاسْتِكْبَارِ. (لَا جَرَمَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أَيْ مِنَ الْقَوْلِ
وَالْعَمَلِ فَيُجَازِيهِمْ. قَالَ الْخَلِيلُ:» لَا جَرَمَ«كَلِمَةُ تَحْقِيقٍ
وَلَا تَكُونُ إِلَّا جَوَابًا، يُقَالُ: فَعَلُوا ذَلِكَ، فَيُقَالُ: لَا جَرَمَ
سَيَنْدَمُونَ. أَيْ حَقًّا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي
هَذَا فِي هُودٍ» «٢» «مُسْتَوْفًى. (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)
أَيْ لَا يُثِيبُهُمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ. وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
أَنَّهُ مَرَّ بِمَسَاكِينَ قَدْ قَدَّمُوا كِسَرًا بَيْنَهُمْ «٣» وَهُمْ يَأْكُلُونَ
فَقَالُوا: الْغِذَاءَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَنَزَلَ وَجَلَسَ مَعَهُمْ
وَقَالَ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: قَدْ
أَجَبْتُكُمْ فَأَجِيبُونِي، فَقَامُوا مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَطْعَمَهُمْ
وَسَقَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ وَانْصَرَفُوا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكُلُّ ذَنْبٍ
يُمْكِنُ التَّسَتُّرُ مِنْهُ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا الْكِبْرَ، فَإِنَّهُ فِسْقٌ
يَلْزَمُهُ الْإِعْلَانُ، وَهُوَ أَصْلُ الْعِصْيَانِ كُلِّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ
الصحيح» إن المتكبرين يُحْشَرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ لِتَكَبُّرِهِمْ«. أَوْ كَمَا قَالَ ﷺ:»
تُصَغَّرُ لَهُمْ أَجْسَامُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ حَتَّى يَضُرَّهُمْ صِغَرُهَا
وَتُعَظَّمُ لَهُمْ فِي النَّارِ حتى يضرهم عظمها«.
[سورة
النحل (١٦): آية ٢٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ
لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) يَعْنِي وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ
بِالْبَعْثِ» مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ". قِيلَ: الْقَائِلُ النَّضْرُ بْنُ
الْحَارِثِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَةِ
فَاشْتَرَى أَحَادِيثَ (كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ) فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى قُرَيْشٍ
وَيَقُولُ: مَا يَقْرَأُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَصْحَابِهِ إِلَّا أَسَاطِيرَ
الْأَوَّلِينَ، أي ليس هو من تنزيل
(١). راجع ج ١ ص ٢٩٦.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٢٠.
(٣).
في ج وى: لهم.
رَبِّنَا. وَقِيلَ: إِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْقَائِلُونَ لَهُمُ اخْتِبَارًا فَأَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ:»
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ«فَأَقَرُّوا بِإِنْكَارِ «١» شي هُوَ أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ. وَالْأَسَاطِيرُ: الْأَبَاطِيلُ وَالتُّرَّهَاتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي الْأَنْعَامِ «٢» وَالْقَوْلُ فِي» مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ«كَالْقَوْلِ
فِي» مَاذَا يُنْفِقُونَ «٣» «وَقَوْلُهُ: (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). خَبَرُ
ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: الَّذِي أَنْزَلَهُ أساطير الأولين.
[سورة
النحل (١٦): آية ٢٥]
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ) قِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا.
وَقِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ:» لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
«٤»«. أَيْ قَوْلُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ أَدَّاهُمْ إِلَى أن حملوا
أوزارهم، أي ذنوبهم. (كامِلَةً) لم يتركوا منها شي لنكبة أصابتهم في الدنيا
بكفرهم. وقيل: هي لام الامر، والمعنى التهدد. بِكُفْرِهِمْ. (وَمِنْ أَوْزارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُونَ وِزْرَ
مَنْ أَضَلُّوهُ وَلَا ينقص من إثم المضل شي. وَفِي الْخَبَرِ» أَيُّمَا دَاعٍ
دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ
اتَّبَعَهُ من غير أن ينقص من أوزارهم شي وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى
فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أجورهم
شي«خرجه مسلم بمعناه. و»من«لِلْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، فَدُعَاةُ الضَّلَالَةِ عَلَيْهِمْ
مِثْلُ أوزار من اتبعهم. وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ يُضِلُّونَ الْخَلْقَ
جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْآثَامِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا لَمَا
أَضَلُّوا. (أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ) أَيْ بِئْسَ الْوِزْرُ الَّذِي
يَحْمِلُونَهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ» وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ «٥»
وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ«وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ» الْأَنْعَامِ «٦»
«بَيَانُ قَوْلِهِ:» وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى".
(١). في ج وى: إنزال.
(٢).
راجع ج ٦ ص ٤٠٥.
(٣).
راجع ج ٣ ص ٣٦.
(٤).
راجع ج ١٣ ص ٢٥، ص ٣٣٠.
(٥).
راجع ج ١٣ ص ٢٥، ص ٣٣٠.
(٦).
راجع ج ٧ ص ١٥٧.
[سورة النحل (١٦): آية ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ سَبَقَهُمْ بِالْكُفْرِ أَقْوَامٌ مَعَ الرُّسُلِ
الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِلرُّسُلِ. (فَأَتَى
اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمَا: إنه
النمروذ بْنُ كَنْعَانَ وَقَوْمُهُ، أَرَادُوا صُعُودَ السَّمَاءِ وَقِتَالَ
أَهْلِهِ، فَبَنَوُا الصَّرْحَ لِيَصْعَدُوا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ صَنَعَ
بِالنُّسُورِ مَا صَنَعَ، فَخَرَّ. كَمَا تَقَدَّمَ بيانه في آخر سورة»
إِبْرَاهِيمَ «١»«. وَمَعْنَى» فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ«أَيْ أَتَى أَمْرُهُ
الْبُنْيَانَ، إِمَّا زَلْزَلَةً أَوْ رِيحًا فَخَرَّبَتْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ،
وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولَ
فَرْسَخَيْنِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَأَلْقَتْ رَأْسَهُ فِي الْبَحْرِ وَخَرَّ
عَلَيْهِمُ الْبَاقِي. وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ
مِنَ الْفَزَعِ يَوْمئِذٍ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا،
فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَابِلَ، وَمَا كَانَ لِسَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا
السُّرْيَانِيَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي» الْبَقَرَةِ «٢»
«وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ» السُّقُفُ«بِضَمِّ السِّينِ
وَالْقَافِ جَمِيعًا. وَضَمَّ مُجَاهِدٌ السِّينَ وَأَسْكَنَ الْقَافَ تَخْفِيفًا،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي» وَبِالنَّجْمِ«فِي الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ
يَكُونَ جَمْعَ سَقْفٍ. وَالْقَوَاعِدُ: أُصُولُ الْبِنَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَّتِ
الْقَوَاعِدُ سَقَطَ الْبِنَاءُ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ فَوْقِهِمْ) قَالَ ابْنُ
الْأَعْرَابِيِّ: وَكَّدَ لِيُعْلِمَكَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْتَهُ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا
كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ. فَجَاءَ بِقَوْلِهِ:» مِنْ
فَوْقِهِمْ«لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ:»
مِنْ فَوْقِهِمْ«أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَعَ وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا وَمَا
أُفْلِتُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّقْفِ السَّمَاءُ، أَيْ إِنَّ الْعَذَابَ
أَتَاهُمْ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ:» فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ"
(١). راجع ج ٩ ص ٣٨١.
(٢).
راجع ج ١ ص ٢٨٣. [.....]
تَمْثِيلٌ، وَالْمَعْنَى:
أَهْلَكَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ بُنْيَانُهُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ
بُنْيَانُهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَبْطَلَ مَكْرَهُمْ وَتَدْبِيرَهُمْ فَهَلَكُوا
كَمَا هَلَكَ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِ. وَعَلَى هَذَا
اخْتُلِفَ فِي الَّذِينَ خَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ زَيْدٍ مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إنه بخت نصر وَأَصْحَابُهُ، قَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ
اللَّهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ «١»، قَالَ الْكَلْبِيُّ. وَعَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ يَخْرُجُ وَجْهُ التَّمْثِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَتاهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) أَيْ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي
أَمَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْبَعُوضَةَ الَّتِي أهلك الله بها
نمرودا «٢».
[سورة
النحل (١٦): آية ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ
قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى
الْكافِرِينَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يُخْزِيهِمْ) أَيْ يَفْضَحُهُمْ بِالْعَذَابِ وَيُذِلُّهُمْ بِهِ وَيُهِينُهُمْ.
(وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) أَيْ بِزَعْمِكُمْ وَفِي دَعْوَاكُمْ، أَيِ
الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمْ دُونِي، وَهُوَ سُؤَالُ توبيخ. (الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ) أَيْ تُعَادُونَ أَنْبِيَائِي بِسَبَبِهِمْ، فَلْيَدْفَعُوا عَنْكُمْ
هَذَا العذاب. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ«شُرَكَايَ» بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غير
همز، والباقون بالهمز. نَافِعٌ«تُشَاقُّونِ» بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى
الْإِضَافَةِ، أَيْ تُعَادُونَنِي فِيهِمْ. وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. (قالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ
الْمُؤْمِنُونَ. (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ) أَيِ الْهَوَانَ وَالذُّلَّ يوم
القيامة. (وَالسُّوءَ) أي العذاب.«عَلَى الْكافِرِينَ».
[سورة
النحل (١٦): آية ٢٨]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
(١). راجع ص ج ٥٧ من هذا الجزء.
(٢).
رجح بعض اللغويين بالذال المعجمة وجوز بعضهم الوجهين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) هَذَا مِنْ صِفَةِ
الْكَافِرِينَ. وَ» ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ«نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ وَهُمْ
ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ إِذْ أَوْرَدُوهَا مَوَارِدَ الْهَلَاكِ. (فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ) أَيْ الِاسْتِسْلَامَ. أَيْ أَقَرُّوا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ
وَانْقَادُوا عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَالُوا: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أَيْ
مِنْ شِرْكٍ. فَقَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: (بَلى) قَدْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
الْأَسْوَاءَ. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا
بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَأَخْرَجَتْهُمْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ كَرْهًا
فَقُتِلُوا بِهَا، فَقَالَ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بِقَبْضِ
أَرْوَاحِهِمْ. (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فِي مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ وَتَرْكِهِمُ
الْهِجْرَةَ. (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) يَعْنِي فِي خُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ. وَفِيهِ
ثلاثة أوجه: أحدها- أنه الصلح، قال الأخفش. الثاني- الاستسلام، قال قُطْرُبٌ.
الثَّالِثُ- الْخُضُوعُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)
يَعْنِي مِنْ كُفْرٍ. (بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
يَعْنِي أَنَّ أَعْمَالَهُمْ «١» أَعْمَالُ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ
الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ رَجَعُوا إِلَى
الْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْرُجُ
كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْقَادَ وَيَسْتَسْلِمَ،
وَيَخْضَعَ وَيَذِلَّ، وَلَا تَنْفَعَهُمْ حِينَئِذٍ تَوْبَةٌ وَلَا إِيمَانٌ،
كَمَا قَالَ:» فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «٢»
«وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَتَقَدَّمَ فِي» الْأَنْفَالِ «٣» «أَنَّ
الْكُفَّارَ يُتَوَفَّوْنَ بِالضَّرْبِ وَالْهَوَانِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ
«٤».» وَقَدْ ذكرنا في كتاب التذكرة.
[سورة
النحل (١٦): آية ٢٩]
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: هُوَ
بِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، إِذْ هُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: لَا تَصِلُ أَهْلُ الدَّرَكَةِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا
مَثَلًا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّرَكَةِ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةِ ثُمَّ
الثَّالِثَةِ هَكَذَا. وقيل: لكل دركة
(١). كذا في ج وى. وفى أوو: أعمالهم.
(٢).
راجع ج ١٥ ص ٣٣٥.
(٣).
راجع ج ٨ ص ٢٨.
(٤).
راجع ج ٧ ص ١٤٤ وما بعدها.
بَابٌ مُفْرَدٌ، فَالْبَعْضُ
يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ وَالْبَعْضُ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ آخَرَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. (خالِدِينَ فِيها) أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا. (فَلَبِئْسَ مَثْوَى) أَيْ
مَقَامُ (الْمُتَكَبِّرِينَ) الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنْ
عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:«إِنَّهُمْ
كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ «١»».
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما
يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقِيلَ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْرًا) أَيْ قَالُوا:
أنزل خيرا، وتم الكلام. و «ماذا» عَلَى هَذَا اسْمٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ يَرِدُ
الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ مَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَيَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ
عَنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ
مَجْنُونٌ. وَيَسْأَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْخَيْرَ وَالْهُدَى، وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ
لِأَهْلِ الْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ:
لِمَ ارْتَفَعَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ:«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وَانْتَصَبَ
فِي قَوْلِهِ:«خَيْرًا»؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا
بِالتَّنْزِيلِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ. وَالْمُؤْمِنِينَ آمَنُوا بِالنُّزُولِ فَقَالُوا: أَنْزَلَ
خَيْرًا. وَهَذَا مَفْهُومٌ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قِيلَ:
هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا. وَالْحَسَنَةُ هُنَا: الْجَنَّةُ، أَيْ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَهُ
الْجَنَّةُ غَدًا. وَقِيلَ:«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» الْيَوْمَ حَسَنَةٌ فِي
الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالْغَنِيمَةِ: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ)
(١). راجع ج ١٥ ص ٧٥.
أَيْ مَا يَنَالُونَ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ ثَوَابِ الْجَنَّةِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، لِفَنَائِهَا
وَبَقَاءِ الْآخِرَةِ. (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) فِيهِ وَجْهَانِ- قَالَ
الْحَسَنُ: الْمَعْنَى وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ
نَالُوا بِالْعَمَلِ فِيهَا ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ الْآخِرَةُ، وَهَذَا قَوْلُ
الْجُمْهُورِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بَدَلًا مِنَ الدَّارِ
فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ. وَقِيلَ: ارْتَفَعَ عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ جَنَّاتٌ، فَهِيَ
مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ:«دارُ الْمُتَّقِينَ». أَوْ تَكُونُ مَرْفُوعَةٌ
بِالِابْتِدَاءِ، التَّقْدِيرُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
(يَدْخُلُونَها) فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ مَدْخُولَةٌ. وَقِيلَ:«جَنَّاتُ»
رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ«يَدْخُلُونَها» وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ قَوْلُ
الحسن. والله أعلم. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم معناه في البقرة
«١». (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أَيْ مِمَّا تَمَنَّوْهُ وَأَرَادُوهُ. (كَذلِكَ يَجْزِي
اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) أَيْ مِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ يَجْزِي اللَّهُ
الْمُتَّقِينَ. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) قَرَأَ
الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ«يَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ
بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ
فَذَكِّرُوهُمْ أَنْتُمْ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ به الجماعة
من الملائكة. و «طَيِّبِينَ» طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ. الثَّانِي- صَالِحِينَ.
الثَّالِثُ- زَاكِيَةٌ أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ. الرَّابِعُ- طَيِّبِينَ
الْأَنْفُسِ ثِقَةً بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْخَامِسُ- طَيِّبَةٌ نُفُوسُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ.
السَّادِسُ-«طَيِّبِينَ» أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُمْ طَيِّبَةً سَهْلَةً لَا
صُعُوبَةَ فِيهَا وَلَا أَلَمَ، بِخِلَافِ مَا تُقْبَضُ بِهِ رُوحُ الْكَافِرِ
وَالْمُخَلِّطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ إِنْذَارًا لَهُمْ
بِالْوَفَاةِ. الثَّانِي- أَنْ يَكُونَ تَبْشِيرًا لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، لِأَنَّ
السَّلَامَ أَمَانٌ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنِي حَيْوَةُ
قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ «٢» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ
قَالَ: إِذَا اسْتَنْقَعَتْ «٣» نَفْسُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ جَاءَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَلِيَّ اللَّهِ اللَّهُ يَقْرَأُ
عَلَيْكَ السَّلَامَ. ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ
(١). راجع ج ١ ص ٢٣٩.
(٢).
في الطبري: أبو صخر أنه سمع.
(٣).
استنقع الماء: اجتمع وثبت. أي إذا اجتمعت نفس المؤمن في فيه تريد الخروج، نما
يستقع الماء في قراره، وأراد بالنفس الروح.
«تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ». وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا جَاءَ
مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ قَالَ: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ
الَسَّلَامَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُبَشَّرُ بِصَلَاحِ وَلَدِهِ
مِنْ بَعْدِهِ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا فِي«(كِتَابِ
التَّذْكِرَةِ)» وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا
الْمَعْنَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) يَحْتَمِلُ
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَبْشِرُوا بِدُخُولِ
الْجَنَّةِ. الثَّانِي- أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. (بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يَعْنِي في الدنيا من الصالحات.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٣٣)
قوله تعالى: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)
هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ،
أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ
أَرْوَاحِهِمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ
وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ«يَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ»
بِالْيَاءِ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى مَا تقدم. َوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ)
أَيْ بِالْعَذَابِ مِنَ الْقَتْلِ
كَيَوْمِ بَدْرٍ، أَوِ الزَّلْزَلَةِ وَالْخَسْفِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْقَوْمُ لَمْ يَنْتَظِرُوا هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهَا، وَلَكِنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ
أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، فَأُضِيفَ ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. َذلِكَ
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
أَيْ أَصَرُّوا عَلَى الكفر فأتاهم
أمر الله فهلكوا. َ- ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ)
أي بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا
أنفسهم بالشرك.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٤]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا
وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا) قِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ:
كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
عَمِلُوا، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ،
فَأَصَابَهُمْ عقوبات كفرهم جزاء الْخَبِيثِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. (وَحاقَ بِهِمْ)
أَيْ أَحَاطَ بهم ودار.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا
حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)
أَيْ شَيْئًا، وَ«مِنْ» صِلَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً، وَلَوْ
قَالُوهُ عَنِ اعتاد لكانوا مؤمنين وقد مضى هـ افي سورة (الانعام) مبينا وإعرابا
فلا معنى للإعادة «١». (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ مِثْلَ
هَذَا التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالرُّسُلِ
فَأُهْلِكُوا. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أَيْ لَيْسَ
عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَأَمَّا الهداية فهي إلى الله تعالى.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى
اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ
بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أَيْ بِأَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَوَحِّدُوهُ. (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أَيِ اتْرُكُوا
كُلَّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّهِ كَالشَّيْطَانِ وَالْكَاهِنِ وَالصَّنَمِ، وَكُلَّ
مَنْ دَعَا إِلَى الضَّلَالِ. فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أي أرشده إلى دينه
وعبادته.
(١). راجع ج ٧ ص ١٢٨.
(وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ) أَيْ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ،
وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ هَدَى
النَّاسَ كُلَّهُمْ وَوَفَّقَهُمْ لِلْهُدَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:»
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ«وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) أَيْ فَسِيرُوا مُعْتَبِرِينَ فِي الْأَرْضِ. (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أَيْ كَيْفَ صَارَ آخِرُ أَمْرِهِمْ إِلَى الخراب
والعذاب والهلاك.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَحْرِصْ
عَلى هُداهُمْ) أَيْ إِنْ تَطْلُبْ يَا مُحَمَّدُ بِجَهْدِكَ هُدَاهُمْ. (فَإِنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أَيْ لَا يُرْشِدُ مَنْ أَضَلَّهُ، أَيْ مَنْ
سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الضَّلَالَةُ لَمْ يَهْدِهِ. وهذه قراءة ابن مسعود واهل
الكوفة. ف» يهدى«فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وَمَاضِيهِ هَدَى. وَ» مَنْ«فِي موضع نصب ب»
يَهْدِي«وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَدَى يَهْدِي بِمَعْنَى اهْتَدَى يَهْتَدِي،
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: كَمَا قُرِئَ» أَمَّنْ لَا
يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى «١» «بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا غَيْرُ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ
فِيمَا يَحْكِيهِ. النَّحَّاسُ. حُكِيَ لِي عَنْ محمد ابن يَزِيدَ كَأَنَّ
مَعْنَى» لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ«مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ وَسَبَقَ ذَلِكَ
لَهُ عِنْدَهُ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ
يَكُونَ يَهْدِي أَوْ يُهْدِي. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ» يَهْدِي«بِمَعْنَى
يَهْتَدِي، فَيَكُونُ» مَنْ«فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَائِدُ إِلَى» مَنْ«الْهَاءُ
الْمَحْذُوفَةُ مِنَ الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ إِلَى اسْمِ» إِنْ«الضَّمِيرُ
الْمُسْتَكِنُّ فِي» يُضِلُّ«. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ» لَا يُهْدَى«بِضَمِّ
الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، عَلَى
مَعْنَى مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَمْ يَهْدِهِ هَادٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:» مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ«و»مَنْ«فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ
اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ
عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ، وَالْعَائِدُ عَلَى اسْمِ إِنَّ مِنْ»
فَإِنَّ اللَّهَ«الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي» يُضِلُّ". (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
(١). راجع ج ص ٣٤٢.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٨]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، إِذْ أَقْسَمُوا
بِاللَّهِ وَبَالَغُوا فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ
مَنْ يَمُوتُ. وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَعْظِيمَ اللَّهِ
فَيُقْسِمُونَ بِهِ ثُمَّ يُعَجِّزُونَهُ عَنْ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: كَانَ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُشْرِكٍ دَيْنٌ
فَتَقَاضَاهُ، وَكَانَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: وَالَّذِي أَرْجُوهُ بَعْدَ
الْمَوْتِ إِنَّهُ لَكَذَا، فَأَقْسَمَ الْمُشْرِكُ بِاللَّهِ: لَا يَبْعَثُ
اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا
أَنَّ ابْنَ عباس قال له رجل: يا بن عَبَّاسٍ، إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ
عَلِيًّا مَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ السَّاعَةِ، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ
الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ أُولَئِكَ! إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ
عَامَّةٌ لِلنَّاسِ، لَوْ كَانَ عَلِيٌّ مَبْعُوثًا قَبْلَ الْقِيَامَةِ مَا
نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ. (بَلى) هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ،
أَيْ بَلَى لَيَبْعَثَنَّهُمْ. (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ،
لِأَنَّ قَوْلَهُ» يَبْعَثُهُمْ «١» «يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ، أَيْ وَعَدَ
الْبَعْثَ وَعْدًا حَقًّا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ ﷺ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ
فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وقد تقدم «٢»، ويأتي.
[سورة
النحل (١٦): آية ٣٩]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ
(٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُبَيِّنَ
لَهُمُ) أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمُ. (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أَيْ مِنْ أَمْرِ
الْبَعْثِ. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِالْبَعْثِ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ
(أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وَقِيلَ: المعنى (هامش)
(١). أي يبعثهم المقدر.
(٢).
راجع ج ٢ ص ٥٨ [.....]
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَالَّذِي
اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ أُمُورٌ: مِنْهَا الْبَعْثُ،
وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَمِنْهَا إِقْرَارُ قَوْمٍ بِأَنَّ مُحَمَّدًا
حَقٌّ وَلَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ التَّقْلِيدُ، كَأَبِي طَالِبٍ.
[سورة
النحل (١٦): آية ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
أَعْلَمَهُمْ سُهُولَةَ الْخَلْقِ
عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ مَنْ يَمُوتُ فَلَا تَعَبَ
عَلَيْنَا وَلَا نَصَبَ فِي إِحْيَائِهِمْ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
نُحْدِثُهُ، لِأَنَّا إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ
وَالْكِسَائِيُّ«فَيَكُونُ» نَصْبًا عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ«كُنْ». الْبَاقُونَ
بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى فَهُوَ يَكُونُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ
فِي«الْبَقَرَةِ» مُسْتَوْفًى «١». وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْقَعَ
لَفْظَ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ وَشُوهِدَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ:«كُنْ» مَخْلُوقًا
لَاحْتَاجَ إِلَى قَوْلٍ ثَانٍ، وَالثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ وَتَسَلْسَلَ وَكَانَ
مُحَالًا. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ
الْحَوَادِثِ كُلِّهَا خَيْرِهَا وَشَرِّهَا نَفْعِهَا وَضُرِّهَا، وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَرَى فِي سُلْطَانِهِ مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ
فَلِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ جَاهِلًا لَا يَدْرِي، وَإِمَّا
لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا لَا يُطِيقُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِ
سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِاكْتِسَابِ
الْعِبَادِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ
لَهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِنَا يَحْصُلُ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِنَا
وَإِرَادَتِنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُرِيدًا لَهَا
لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا قَوْلُ
الطَّبِيعِيِّينَ، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
[سورة
النحل (١٦): آية ٤١]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ
مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
(١). راجع ج ٢ ص ٩٠.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ
هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) قَدْ تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ»
معنى الهجرة «١»، هي تَرْكُ الْأَوْطَانِ وَالْأَهْلِ وَالْقُرَابَةِ فِي اللَّهِ
أَوْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ. وَقِيلَ:«فِي» بِمَعْنَى
اللَّامِ، أَيْ لِلَّهِ. مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَيْ عُذِّبُوا فِي اللَّهِ.
نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ، عَذَّبَهُمْ أَهْلُ
مَكَّةَ حَتَّى قَالُوا لَهُمْ مَا أَرَادُوا، فَلَمَّا خَلَّوْهُمْ هَاجَرُوا
إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَنْدَلِ
بْنِ سُهَيْلٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ظَلَمَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ وَأَخْرَجُوهُمْ حَتَّى لَحِقَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ بَوَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى دَارَ الْهِجْرَةِ وَجَعَلَ
لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْآيَةُ تَعُمُّ الْجَمِيعَ.
(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) فِي الْحَسَنَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ- نُزُولُ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ
وَقَتَادَةُ. الثَّانِي- الرِّزْقُ الْحَسَنُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الثَّالِثُ-
النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ- إِنَّهُ لِسَانُ
صِدْقٍ، حَكَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. الْخَامِسُ- مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ
فُتُوحِ الْبِلَادِ وَصَارَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ. السَّادِسُ: مَا
بَقِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الثَّنَاءِ، وَمَا صَارَ فِيهَا
لِأَوْلَادِهِمْ مِنَ الشَّرَفِ. وَكُلُّ ذَلِكَ اجْتَمَعَ لَهُمْ بِفَضْلِ
اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أَيْ وَلَأَجْرُ
دَارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أَيْ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَعْلَمَهُ أَحَدٌ قَبْلَ
أَنْ يُشَاهِدَهُ،«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا
«٢»». (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمُونَ
يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. قيل: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ لَوْ رَأَوْا
ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَعَايَنُوهُ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ حَسَنَةِ
الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ إِذَا
دَفَعَ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ الْعَطَاءَ قَالَ: هَذَا مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ أكثر، ثم تلا عليهم هذه الآية.
[سورة
النحل (١٦): آية ٤٢]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
قِيلَ: (الَّذِينَ) بَدَلٌ مِنَ
(الَّذِينَ) الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ فِي«لَنُبَوِّئَنَّهُمْ»
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ. (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ:
خِيَارُ الْخَلْقِ مَنْ إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ صَبَرَ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَمْرٍ
تَوَكَّلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ».
(١). راجع ج ٥ ص ٣٤٧ وما بعدها.
(٢).
راجع ج ١٩ ص ١٤٢.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
إِلاَّ رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ»
يُوحَى«بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ» نُوحِي
إِلَيْهِمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ
حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَقَالُوا: اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا، فَرَدَّ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ» إِلَى الْأُمَمِ
الْمَاضِيَةِ يَا مُحَمَّدُ«إِلَّا رِجالًا» آدميين. (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الكتاب. (إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ) يُخْبِرُونَكُمْ أَنَّ جَمِيعَ الأنبياء كانوا بشرا. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَهُمْ
مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ
الْقُرْآنِ وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) قيل:«بِالْبَيِّناتِ»
متعلق ب«أَرْسَلْنا». وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا- أَيْ غير
رجال، ف«إِلَّا» بِمَعْنَى غَيْرٍ، كَقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ- نُوحِي إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
دَلَّ عَلَيْهِ«أَرْسَلْنا» أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بالبينات والزبر. ولا
يتعلق«بِالْبَيِّناتِ» ب«أَرْسَلْنا» الْأَوَّلِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ
مَا قَبْلَ«إِلَّا» لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِأَرْسَلْنَا الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ:
مَفْعُولٌ بِ«تَعْلَمُونَ» وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ
أَعْنِي، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَلَيْسَ مُجِيرًا إِنْ أَتَى
الْحَيَّ خَائِفُ ... وَلَا قَائِلًا إِلَّا هُوَ المتعيبا
أَيْ أَعْنِي الْمُتَعَيَّبَ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ. وَالزُّبُرُ: الْكُتُبُ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ «١». (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يَعْنِي
الْقُرْآنَ. (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فِي هَذَا الْكِتَابِ
مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِقَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، فَالرَّسُولُ
ﷺ مُبَيِّنٌ عَنِ اللَّهِ عز وجل مُرَادَهُ مِمَّا أَجْمَلَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ
أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُفَصِّلْهُ. وقد
تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب، والحمد لله. (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٤٥ الى ٤٧]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أَيْ بِالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا وَعِيدٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ احْتَالُوا فِي إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ. (أَنْ يَخْسِفَ
اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ،
يُقَالُ: خَسَفَ الْمَكَانُ يَخْسِفُ خُسُوفًا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ، وَخَسَفَ
اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ خُسُوفًا أَيْ غَابَ بِهِ فِيهَا، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ:«فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «٢»». وَخَسَفَ هُوَ فِي
الْأَرْضِ وَخُسِفَ بِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ يَجِبُ
أَلَّا يَأْمَنُوا عُقُوبَةً تَلْحَقُهُمْ كَمَا لَحِقَتِ الْمُكَذِّبِينَ. (أَوْ
يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ
وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: يُرِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُمْ أُهْلِكُوا ذَلِكَ
الْيَوْمَ، وَلَمْ يَكُنْ شي مِنْهُ فِي حِسَابِهِمْ. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي
تَقَلُّبِهِمْ) أي في أسفارهم وتصرفهم، قاله قتادة. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي
سابقين لله ولا فائتيه. وَقِيلَ:«فِي تَقَلُّبِهِمْ» عَلَى فِرَاشِهِمْ أَيْنَمَا
كَانُوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد وغيرهما: أي على تنقص من أموالهم
(١). راجع ج ٤ ص ٢٩٦.
(٢).
راجع ج ١٣ ص ٣١٧.
وَمَوَاشِيهِمْ وَزُرُوعِهِمْ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ عَلَى تَنَقُّصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: هُوَ مِنَ الْخَوْفِ، الْمَعْنَى: يَأْخُذُ طَائِفَةً وَيَدَعُ
طَائِفَةً، فَتَخَافُ الْبَاقِيَةُ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا مَا نَزَلَ
بِصَاحِبَتِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ:«عَلى تَخَوُّفٍ» أَنْ يَأْخُذَ الْقَرْيَةَ
فَتَخَافُهُ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي
قَبْلَهُ بِعَيْنِهِ، وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَأَنَّ
التَّخَوُّفَ التَّنَقُّصَ، تَخَوُّفُهُ تَنَقُّصُهُ، وَتَخَوَّفَهُ الدَّهْرُ
وَتَخَوَّنَهُ- (بِالْفَاءِ وَالنُّونِ) بِمَعْنًى، يُقَالُ: تَخَوَّنَنِي فُلَانٌ
حَقِّي إِذَا تَنَقَّصَكَ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
لَا، بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دَارٍ
تَخَوَّنَهَا ... مَرًّا سَحَابٌ وَمَرًّا بَارِحٌ تَرِبُ «١»
وَقَالَ لَبِيَدٌ:
تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي
«٢»
أَيْ تَنَقَّصَ لَحْمَهَا
وَشَحْمَهَا. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: التَّخَوُّفُ (بِالْفَاءِ)
التَّنَقُّصُ، لُغَةٌ لِأَزْدِ شَنُوءَةَ. وَأَنْشَدَ:
تَخَوَّفَ غَدْرَهُمْ مَالِي
وَأَهْدَى ... سَلَاسِلُ فِي الْحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ»
فَسَكَتَ النَّاسُ، فَقَالَ شَيْخٌ مِنْ بَنِي هُذَيْلٍ: هِيَ لُغَتُنَا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ. فَخَرَجَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا
فُلَانُ، مَا فَعَلَ دَيْنُكَ؟ قَالَ: تَخَوَّفْتُهُ، أَيْ تَنَقَّصْتُهُ،
فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ: أَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي
أَشْعَارِهِمْ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا أَبُو كَبِيرٍ «٣» الْهُذَلِيُّ
يَصِفُ نَاقَةً تَنَقَّصَ السَّيْرُ سَنَامَهَا بَعْدَ تَمْكِهِ وَاكْتِنَازِهِ:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا
تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عود النبعة السفن «٤»
(١). البارح: الريح الحارة في الصيف التي
فيها تراب كثير.
(٢).
هذا عجز لبيت، وصدره كما في اللسان:
عذافرة تقمص بالردافي
(٣).
كذا في الأصول، والذي في اللسان أنه لابن مقبل وقيل: لذي الرمة.
(٤).
القرد: معناه هنا: المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال
يتخذ منها القسي.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ شِعْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ
تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ وَمَعَانِيَ كَلَامِكُمْ. تَمَكَ السَّنَامُ يَتْمِكُ
تَمْكًا، أَيْ طَالَ وَارْتَفَعَ، فَهُوَ تَامِكٌ. وَالسَّفَنُ وَالْمِسْفَنُ مَا
يُنْجَرُّ بِهِ الْخَشَبُ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ:«عَلى تَخَوُّفٍ» عَلَى
عَجَلٍ. وَقَالَ: عَلَى تَقْرِيعٍ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَهَذَا
مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ قَتَادَةُ:«عَلى تَخَوُّفٍ» أَنْ
يعاقب أو يتجاوز. (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي لا يعاجل بل يمهل.
[سورة
النحل (١٦): آية ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ
سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَخَلَفٌ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ«تَرَوْا» بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ
لِجَمِيعِ النَّاسِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ، وهو الاختيار. (مِنْ شَيْءٍ) يَعْنِي مِنْ جِسْمٍ قَائِمٍ لَهُ
ظِلٌّ مِنْ شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَتِ
الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا سَمِيعَةً مُطِيعَةً لله تعالى. (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ)
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَغَيْرُهُمَا بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ
الظِّلَالِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. أَيْ يَمِيلُ
مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَيَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ
وَيَتَقَلَّصُ ثُمَّ يَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى،
فَدَوَرَانُهَا وَمَيَلَانُهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودُهَا، وَمِنْهُ
قيل للظل بالعشي: في، لِأَنَّهُ فَاءَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، أَيْ
رجع. والفيء الرجوع، ومنه«حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «١»». رُوِيَ
مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ
مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ«الرَّعْدِ» «٢». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي
سُجُودَ الْجِسْمِ، وَسُجُودُهُ انْقِيَادُهُ وَمَا يُرَى فِيهِ مِنْ أَثَرِ
الصَّنْعَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ جسم. ومعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) أَيْ
خَاضِعُونَ صَاغِرُونَ. وَالدُّخُورُ: الصَّغَارُ والذل. يقال: دحر الرَّجُلُ
(بِالْفَتْحِ) فَهُوَ دَاخِرٌ، وَأَدْخَرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي
مخيس ... ومنحخر «٣» في غير أرضك في حجر
(١). راجع ج ١٦ ص ٣١٥.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٣٠٢.
(٣).
كذا في كتب اللغة. يقال: انجحر الضب إذا دخل الحجر. والذي في الأصول وديوان ذى
والبرمة:«متحجر في غير أرضك في حجر» بتقديم الحاء على الجيم في الكلمتين، وكذا في
ج.
كَذَا نَسَبَهُ الْمَاوَرْدِيُّ
لِذِي الرُّمَّةِ، وَنَسَبَهُ الْجَوْهَرِيُّ لِلْفَرَزْدَقِ وَقَالَ:
الْمُخَيِّسُ اسْمُ سِجْنٍ كَانَ بِالْعِرَاقِ، أَيْ مَوْضِعُ التَّذَلُّلِ،
وَقَالَ «١»:
أَمَا تَرَانِي كَيِّسًا مكيسا ...
بنيت بعد نافع مخيسا
وَوَحَّدَ الْيَمِينَ فِي
قَوْلِهِ:«عَنِ الْيَمِينِ» وَجَمَعَ الشِّمَالَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ
وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا الجمع. ولو قال «٢»: عن الايمان والشمائل، واليمين والشمال،
أو اليمين وَالشِّمَالِ لَجَازَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لِلْكَثْرَةِ. وَأَيْضًا
فَمِنْ شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شي وَاحِدٍ أَنْ تَجْمَعَ إِحْدَاهُمَا
وَتُفْرِدَ الْأُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَعَلى سَمْعِهِمْ «٣» وكقوله تعالى:» وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ «٤» وَلَوْ قَالَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَإِلَى الْأَنْوَارِ لَجَازَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى لَفْظٍ«مَا» وَالشِّمَالَ على
معناه. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَا
سَبَإٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ «٥»
وَلَمْ يَقُلْ جُلُودُ. وَقِيلَ: وحد
اليمين لام الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقِبْلَةِ
انْبَسَطَ الظِّلُّ عَنِ الْيَمِينِ ثُمَّ فِي حَالٍ يَمِيلُ إِلَى جِهَةِ
الشِّمَالِ ثُمَّ حَالَاتٍ «٦»، فَسَمَّاهَا شمائل.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ (٥٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أَيْ مِنْ كُلِّ
مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. (وَالْمَلائِكَةُ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ
فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ لاختصاصهم
(١). القائل هو سيدنا على رضى الله عنه.
ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء وكان من قصب، وكان المحبوسون يهربون
منه. وقيل: إنه نقب وأفلت منه المحبوسون، فهدمه على رضى الله عنه وبنى المخيس لهم
من مدر.
(٢).
أي قائل في غير القرآن. [.....]
(٣).
راجع ج ١ ص ١٨٩.
(٤).
راجع ج ٦ ص ١١٧.
(٥).
البيت لجرير. ورواية ديوانه:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبإ
إلخ
(٦).
هكذا وردت هذه الجملة في الأصول. ولعل صوابها: لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ
وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة
الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذي في البحر لابي حيان:«وقيل: وحد اليمين وجمع
الشمائل لان الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى
الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد تعدد الحالات».
بِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ،
فَمَيَّزَهُمْ مِنْ صِفَةِ الدَّبِيبِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ دَخَلُوا فِيهَا،
كَقَوْلِهِ:«فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «١»». وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ
مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدِبُّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْنِحَةِ، فَلَمْ
يَدْخُلُوا فِي الْجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرُوا. وَقِيلَ: أَرَادَ«وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ» مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَالنُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ،«وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ»
وَتَسْجُدُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) عَنْ عِبَادَةِ
رَبِّهِمْ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى قُرَيْشٍ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ
بَنَاتُ اللَّهِ. وَمَعْنَى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أَيْ عِقَابَ
رَبِّهِمْ وَعَذَابَهُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمُهْلِكَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ
السَّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَخَافُونَ قُدْرَةَ رَبِّهِمُ الَّتِي هِيَ
فَوْقَ قُدْرَتِهِمْ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى«يَخافُونَ
رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ وَهِيَ
مِنْ فَوْقِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَمَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ، فَلَأَنْ
يَخَافَ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى، دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) يعنى الملائكة.
[سورة
النحل (١٦): آية ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ اللَّهُ
لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) قِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوا
اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ. وَقِيلَ: جَاءَ قَوْلُهُ: «اثْنَيْنِ» تَوْكِيدًا. وَلَمَّا
كَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا يَتَعَدَّدُ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَعَدَّدُ
فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ نفي
التعدد. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يَعْنِي ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ. وَقَدْ
قَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالشَّرْعِيُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُهُ «٢» وَذَكَرْنَاهُ فِي اسْمِهِ الْوَاحِدِ
فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أَيْ
خَافُونِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي البقرة «٣».
[سورة
النحل (١٦): آية ٥٢]
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
(١). راجع ج ١٧ ص ١٨٥.
(٢).
راجع ج ٢ ص ١٩٠ وما بعدها.
(٣).
راجع ج ١ ص ٣٣٢.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ مَا فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا) الدين: الطاعة والإخلاص. و
«واصِبًا» معناه دائما، قال الْفَرَّاءُ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَصَبَ
الشَّيْءُ يَصِبُ وُصُوبًا، أَيْ دَامَ. وَوَصَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْأَمْرِ إِذَا
وَاظَبَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: طَاعَةُ اللَّهِ وَاجِبَةٌ أَبَدًا. وَمِمَّنْ
قَالَ وَاصِبًا دَائِمًا: الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ «١»» أي دائم. وقال الدولي:
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه ... بدم
يَكُونُ الدَّهْرَ أَجْمَعَ وَاصِبًا
أَنْشَدَ الْغَزْنَوِيُّ
وَالثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا:
مَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ
بَقَاؤُهُ ... يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبَا
وَقِيلَ: الْوَصَبُ التَّعَبُ
وَالْإِعْيَاءُ، أَيْ تَجِبُ طَاعَةُ اللَّهِ وَإِنْ تَعِبَ الْعَبْدُ فِيهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يُمْسِكُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ
وَلَا وَصَبٍ ... وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصُّفْرُ «٢»
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«واصِبًا»
وَاجِبًا. الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ: خَالِصًا. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)
أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَّقُوا غَيْرَ اللَّهِ.«فَغَيْرَ» نصب ب«تَتَّقُونَ».
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ
اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا
كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما بِكُمْ
مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) قَالَ الْفَرَّاءُ.«مَا» بِمَعْنَى الْجَزَاءِ.
وَالْبَاءُ فِي«بِكُمْ» مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا
يَكُنْ بِكُمْ.«مِنْ نِعْمَةٍ» أَيْ صِحَّةِ جِسْمٍ وَسَعَةِ رِزْقٍ وَوَلَدٍ
فَمِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله هي.
(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ)
(١). راجع ج ١٥ ص ٦٤.
(٢).
الشعر لأعشى باهله. والشطر الأول من بيت، والثاني من بيت آخر. والبيتان:
لا يتأرى لما في القير يرقبه ... ولا
يعض على شرسوفة الصفر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب ...
ولا يزال أمام القوم يقتفر
تأرى بالمكان: أمام به. والشرسوف:
غضروف كل عظم رخص يؤكل معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف. والشقر (بالتحريك): داء في
البطن يصفر منه الوجه. وقيل: الصفر هنا الجوع. وافتقر الأثر: تتبعه.
أي السقم والبلاء والقحط. فَإِلَيْهِ
تَجْئَرُونَ أَيْ تَضِجُّونَ بِالدُّعَاءِ. يُقَالُ: جَأَرَ يَجْأَرُ جُؤَارًا.
وَالْجُؤَارُ مِثْلُ الْخُوَارِ، يُقَالُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ، أَيْ صَاحَ.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ» عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَارٌ «١» «، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ.
وَجَأَرَ الرَّجُلُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ
الْأَعْشَى «٢» يَصِفُ بَقَرَةً:
فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ «٣» وَتَجْأَرَا
(ثُمَّ
إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أَيِ الْبَلَاءَ وَالسَّقَمَ. (إِذا فَرِيقٌ
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بَعْدَ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ وَبَعْدَ
الْجُؤَارِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّعْجِيبُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ
النَّجَاةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي» الْأَنْعَامِ «٤» وَيُونُسَ «٥» «، وَيَأْتِي فِي» سبحان«وغيرها.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَاصٌّ بِمَنْ كَفَرَ. (لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ) أَيْ لِيَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا
عَلَيْهِمْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ. أَيْ أَشْرَكُوا لِيَجْحَدُوا،
فَاللَّامُ لَامُ كَيْ. وَقِيلَ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقِيلَ:» لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ«أَيْ لِيَجْعَلُوا النِّعْمَةَ سَبَبًا لِلْكُفْرِ، وَكُلُّ هَذَا
فِعْلٌ خَبِيثٌ، كَمَا قَالَ:
وَالْكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ
الْمُنْعِمِ «٦»
(فَتَمَتَّعُوا)
أَمْرُ تَهْدِيدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ» قُلْ تمتعوا«. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)
أي عاقبة أمركم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ
نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ
تَفْتَرُونَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ
لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ
جَهَالَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَضُرُّ
وَيَنْفَعُ- وَهِيَ الْأَصْنَامُ- شَيْئًا من أموالهم يتقربون به إليه، قال
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. فَ» يَعْلَمُونَ«عَلَى هَذَا للمشركين. وقيل
هي
(١). راجع ج ٧ ص ٢٨٤ وص ٨ و٢٣٥ ج ١١.
(٢).
كذا في الأصول. والذي في اللسان مادة» ضيف«وكتاب سيبويه ج ٢ ص ١٧٤ أنه للنابغة
الجعدي.
(٣).
في الأصول:» تطيف" بالطاء. والتصويب عن اللسان وكتاب سيبويه. وتضيف: تشفق
ومحذر والنكير: الإنكار. والجؤار: الصياح. والمعنى: أن هذه البقرة فقدت ولدها
فطافت تطلبه ثلاث ليال وأيامها، ولا إنكار عندها ولا انتصار مما عدا على ولدها إلا
أن تشفق وتحذر وتصيح.
(٤).
راجع ج ٧ ص ٢٨٤ وص ٨ و٢٣٥ ج ١١.
(٥).
راجع ج ٨ ص ٣١٧. [.....]
(٦).
هذا عجز بيت من معلقة عنترة، وصدره:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
لِلْأَوْثَانِ، وَجَرَى بِالْوَاوِ
وَالنُّونِ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ، فَهُوَ رَدٌّ عَلَى» مَا«وَمَفْعُولُ يَعْلَمُ
مَحْذُوفٌ والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي تَعْلَمُ شَيْئًا نَصِيبًا.
وَقَدْ مَضَى فِي» الْأَنْعَامِ«تَفْسِيرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:»
فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «١» «ثم رَجَعَ مِنَ
الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ فَقَالَ: (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ) وَهَذَا سُؤَالُ
تَوْبِيخٍ. (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أَيْ تَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ
عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ أمركم بهذا.
[سورة
النحل (١٦): آية ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ
سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ أَلْحِقُوا
الْبَنَاتِ بِالْبَنَاتِ. (سُبْحانَهُ) نَزَّهَ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا عَمَّا
نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ اتِّخَاذِ الْأَوْلَادِ. (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) أَيْ
يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ وَيَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ.
وَمَوْضِعُ» مَا«رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ» لَهُمْ«وَتَمَّ الْكَلَامُ
عِنْدَ قَوْلِهِ:» سُبْحانَهُ«. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ كَوْنَهَا نَصْبًا، عَلَى
تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ
وَقَالَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَجْعَلُونَ لأنفسهم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٥٨]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أَيْ أُخْبِرَ أَحَدُهُمْ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ. (ظَلَّ
وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أَيْ مُتَغَيِّرًا، وَلَيْسَ يُرِيدُ السَّوَادَ الَّذِي
هُوَ ضِدُّ الْبَيَاضِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَمِّهِ بِالْبِنْتِ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا: قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ
غَمًّا وَحُزْنًا قال الزَّجَّاجُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ
سَوَادُ اللَّوْنِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أَيْ
مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَمِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَزِينٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
هُوَ الَّذِي يَكْظِمُ غَيْظَهُ فَلَا يُظْهِرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَغْمُومُ
الَّذِي يُطْبِقُ فَاهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْغَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ
الْكِظَامَةِ وَهُوَ شَدُّ فَمِ الْقِرْبَةِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ» يوسف «٢»".
(١). راجع ج ٧ ص ٨٩.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٢٤٩.
[سورة النحل (١٦): آية ٥٩]
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ
مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ
مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ) أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ. (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) أَيْ
مِنْ سُوءِ الْحُزْنِ وَالْعَارِ وَالْحَيَاءِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ
الْبِنْتِ. (أَيُمْسِكُهُ) ذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى» مَا«.
(عَلى هُونٍ) أَيْ هَوَانٍ. وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ» عَلى
هُونٍ«وَالْهُونُ الْهَوَانُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَحَكَاهُ
أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْقَلِيلُ
بِلُغَةِ تَمِيمٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ الْبَلَاءُ والمشقة. وقالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفوس ... يَوْمَ
الْكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ» أَيُمْسِكُهُ عَلَى
سُوءٍ«ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ» أَمْ يَدُسُّهَا فِي
التُّرَابِ«يَرُدُّهُ عَلَى قَوْلِهِ:» بِالْأُنْثى «وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ»
أَيُمْسِكُهَا «١»". وَقِيلَ: يَرْجِعُ الْهَوَانُ إِلَى الْبِنْتِ، أَيْ
أَيُمْسِكُهَا وَهِيَ مُهَانَةٌ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ، أَيُمْسِكُهُ عَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، وَهُوَ
مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ دَفْنِ الْبِنْتِ حَيَّةً. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ
مُضَرُ وَخُزَاعَةُ يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً، وَأَشَدُّهُمْ فِي هَذَا
تَمِيمٌ. زَعَمُوا خَوْفَ الْقَهْرِ عَلَيْهِمْ وَطَمَعَ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ
فِيهِنَّ. وكان صعصعة ابن نَاجِيَةَ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يَسْتَحْيِيهَا بِذَلِكَ.
فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ:
وَعَمِّي «٢» الَّذِي مَنَعَ
الْوَائِدَاتِ ... وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
وَقِيلَ: دَسُّهَا إِخْفَاؤُهَا عَنِ
النَّاسِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ، كَالْمَدْسُوسِ فِي التُّرَابِ لِإِخْفَائِهِ عَنِ
الْأَبْصَارِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ. مَسْأَلَةٌ- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ
عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ
لَهَا، فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ،
فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا
وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا،
فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ فحدثته «٣»
(١). قال محققة: في الشواذ أن الجحدري يقرأ
كذلك. كأن المصنف لم يقف عليها.
(٢).
الرواية: وجدي، وأن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق كما في الاستيعاب.
(٣).
في ج: فخبرته.
حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:»
مَنْ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ
سِتْرًا مِنَ النَّارِ«. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْبَنَاتِ بَلِيَّةٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ وَالْإِحْسَانِ
إِلَيْهِنَّ مَا يَقِي مِنَ النَّارِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا
قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا
ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ
إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ
التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي
شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ:» إِنَّ
اللَّهَ عز وجل قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ
النَّارِ«. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» مَنْ
عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا
وَهُوَ«وَضَمَّ أَصَابِعَهُ، خَرَّجَهُمَا أَيْضًا مُسْلِمٌ رحمه الله!
وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ
مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا
وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ
الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ«.
وَخُطِبَ إِلَى عَقِيلِ بْنِ عُلْفَةَ ابْنَتُهُ الْجَرْبَاءُ فَقَالَ:
إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ
الْمَهْرُ ... أَلْفٌ وَعُبْدَانٌ وَخُورٌ «١» عَشْرُ
أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ
الْقَبْرُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ:
لِكُلِّ أبى بنت يراعى شئونها ...
ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إِذَا حُمِدَ الصِّهْرُ
فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ
يُكِنُّهَا ... وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَخَيْرُهُمُ الْقَبْرُ
(أَلا
ساءَ مَا يَحْكُمُونَ) أَيْ فِي إِضَافَةِ الْبَنَاتِ إِلَى خَالِقِهِمْ
وَإِضَافَةِ الْبَنِينَ إِلَيْهِمْ. نَظِيرُهُ» أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى " أي جائرة، وسيأتي «٢».
(١). الخور: جمع خوارة على غير قياس،. هي
الناقة الغزيرة اللبن.
(٢).
راجع ج ١٧ ص ١٠٢.
[سورة النحل (١٦): آية ٦٠]
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْوَاصِفِينَ «١» لِلَّهِ الْبَنَاتِ
(مَثَلُ السَّوْءِ) أَيْ صِفَةُ السَّوْءِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ. وَقِيلَ:
هُوَ وَصْفُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقِيلَ: أَيِ
الْعَذَابُ وَالنَّارُ. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أَيِ الْوَصْفُ
الْأَعْلَى مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: أَيِ
الصِّفَةُ الْعُلْيَا بِأَنَّهُ خَالِقٌ رَازِقٌ قَادِرٌ وَمُجَازٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:» مَثَلُ السَّوْءِ«النَّارُ، وَ» الْمَثَلُ الْأَعْلى «شَهَادَةُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ:» لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٢»«. وَقِيلَ:»
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «كَقَوْلِهِ:» اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ «٣»«. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَضَافَ الْمَثَلَ هُنَا
إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ:» فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ «٤»
«فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ:» فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ«أَيِ
الْأَمْثَالَ الَّتِي تُوجِبُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّقَائِصَ، أَيْ لَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ
مَثَلًا يَقْتَضِي نَقْصًا وَتَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ. وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى
وَصْفُهُ بِمَا لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ
الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
تقدم معناه «٥».
[سورة
النحل (١٦): آية ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ،
وَعَاجَلَهُمْ. (مَا تَرَكَ عَلَيْها) أَيْ عَلَى الْأَرْضِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ
عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:» مِنْ دَابَّةٍ"
فَإِنَّ الدَّابَّةَ لَا تَدِبُّ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ
مِنْ دَابَّةٍ كَافِرَةٍ فَهُوَ خَاصٌّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ
أَهْلَكَ الْآبَاءَ بِكُفْرِهِمْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
بِالْآيَةِ الْعُمُومُ، أَيْ لَوْ أَخَذَ اللَّهُ الْخَلْقَ بما كسبوا ما ترك على
(١). في ج وو: الواضعين.
(٢).
راجع ج ١٦ ص ٧.
(٣).
راجع ج ١٢ ص و٢٢.
(٤).
راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٥).
راجع ج ١ ص ٢٨٧ وج ٢ ص ١٣١.
ظَهْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ
دَابَّةٍ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: لَوْ أَخَذَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ بِذُنُوبِ
الْمُذْنِبِينَ لَأَصَابَ الْعَذَابُ جَمِيعَ الْخَلْقِ حَتَّى الْجُعْلَانَ «١»
فِي حُجْرِهَا، وَلَأَمْسَكَ الْأَمْطَارَ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتِ مِنَ
الْأَرْضِ فَمَاتَ الدَّوَابُّ، وَلَكِنَّ الله يأخذ بالعفو والفضل، كما قال:»
وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «٢» «(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أَيْ أَجَلِ مَوْتِهِمْ
وَمُنْتَهَى أعمارهم. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وقد تقدم
«٣» فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَعُمُّ بِالْهَلَاكِ مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا
لَيْسَ بِظَالِمٍ؟ قِيلَ: يُجْعَلُ هَلَاكُ الظَّالِمِ انْتِقَامًا وَجَزَاءً،
وَهَلَاكُ الْمُؤْمِنِ مُعَوَّضًا بِثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:»
إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ
ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ «٤»«. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَسُئِلَتْ عَنِ
الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» يَعُوذُ بِالْبَيْتِ عَائِذٌ فَيُبْعَثُ
إِلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ
بِهِمْ«فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ:»
يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
نِيَّتِهِ«. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا فِي» كِتَابِ
التَّذْكِرَةِ«وَتَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ وَآخِرِ الْأَنْعَامِ «٥» مَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أَيْ فَإِذَا
جَاءَ يوم القيامة. والله أعلم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا
يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ
أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) أَيْ مِنَ الْبَنَاتِ. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ
الْكَذِبَ. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) قال مجاهدك هُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّ لَهُمُ
الْبَنِينَ وَلِلَّهِ الْبَنَاتِ.» الْكَذِبَ«مفعول» تصف«و»أَنَّ" فِي مَحَلِّ
نَصْبٍ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ
(١). الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل، كصرد):
دابة سوداء من دواب الأرض. [.....]
(٢).
راجع ج ١٦ ص ٣٠.
(٣).
راجع ج ٧ ص ٢٠٢.
(٤).
في صحيح مسلم «على أعمالهم».
(٥).
راجع ج ٦ ص ٣٥٢ وج ٧ ص ١٥٧.
بيان له. وقيل:» الْحُسْنى «الجزاء
الحسن، قال الزَّجَّاجُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ» الْكَذِبَ«بِرَفْعِ الْكَافِ وَالذَّالِ
وَالْبَاءِ نَعْتًا لِلْأَلْسِنَةِ، وَكَذَا» وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ «١»«. وَالْكُذُبُ جَمْعُ كَذُوبٍ، مِثْلَ رَسُولٍ ورسل
وصبور وصبر وشكور وشكر. (لا) رد لقولهم، وتم الكلام، أي ليس كما تزعمون. (جَرَمَ
أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي حقا أن لهم النار. وقد تقدم مستوفى «٢». (وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ) مُتْرَكُونَ مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ
الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ أَيْضًا: مُبْعَدُونَ. قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: مُعَجَّلُونَ إِلَى
النَّارِ مُقَدَّمُونَ إِلَيْهَا. وَالْفَارِطُ: الَّذِي يَتَقَدَّمُ إِلَى
الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ) أَيْ
مُتَقَدِّمُكُمْ. وَقَالَ الْقُطَامِيُّ:
فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ
صَحَابَتِنَا ... كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
وَالْفُرَّاطُ: الْمُتَقَدِّمُونَ
فِي طَلَبِ الْمَاءِ. وَالْوُرَّادُ: الْمُتَأَخِّرُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي
رِوَايَةِ وَرْشٍ» مُفْرَطُونَ«بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَهِيَ
قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْنَاهُ مُسْرِفُونَ
فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعْصِيَةِ، أَيْ أَفْرَطُوا فِيهَا. يُقَالُ: أَفْرَطَ
فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَرْبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا
قَالَ مِنَ الشَّرِّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ» مُفَرِّطُونَ"
بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، أَيْ مُضَيِّعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَهُوَ مِنَ
التَّفْرِيطِ فِي الْوَاجِبِ.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى
أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ
وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَاللَّهِ
لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ) أَيْ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ. هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ
بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كَفَرَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ.
(فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ)
(١). راجع ص ٩٥ من هذا الجزء.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٢٠
في الآخر وَقِيلَ:«فَهُوَ
وَلِيُّهُمُ» أَيْ قَرِينُهُمْ فِي النَّارِ.«الْيَوْمَ» يَعْنِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْيَوْمِ لِشُهْرَتِهِ. وَقِيلَ:
يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هذا وليكلم فَاسْتَنْصِرُوا بِهِ
لِيُنَجِّيَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، عَلَى جِهَةِ التوبيخ لهم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٤]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) أَيِ الْقُرْآنَ (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ) مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ
بِبَيَانِكَ. وعطفك«هُدىً وَرَحْمَةً» عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ:«لِتُبَيِّنَ»
لِأَنَّ مَحَلَّهُ نَصْبٌ. وَمَجَازُ الْكَلَامِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ
الكتاب إلا تبيانا للناس. (وَهُدىً) أي رشدا (وَرَحْمَةً) للمؤمنين.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٥]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ (٦٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أَيِ السَّحَابِ. (مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها) عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَعْدَادِ النِّعَمِ وبيان كمال القدرة. (إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة على البعث وعلى وَحْدَانِيَّتِهِ، إِذْ عَلِمُوا
أَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ شيئا، فتكون هذه الدلالة (لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُلُوبِ لَا بِالْآذَانِ، (فَإِنَّها لَا
تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «١»).
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا
خالِصًا سائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
(١). راجع ج ١٢ ص ٧٦.
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) قَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي الْأَنْعَامِ «١»، وَهِيَ هُنَا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ:
الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ.«لَعِبْرَةً» أَيْ دَلَالَةً عَلَى
قُدْرَةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَالْعِبْرَةُ أَصْلُهَا
تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لِتُعْرَفَ حَقِيقَتُهُ مِنْ طَرِيقِ
الْمُشَاكَلَةِ، وَمِنْهُ«فَاعْتَبِرُوا «٢»». وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ:
الْعِبْرَةُ فِي الْأَنْعَامِ تَسْخِيرُهَا لِأَرْبَابِهَا وَطَاعَتُهَا لَهُمْ،
وَتَمَرُّدُكَ على ربك وخلافك له في كل شي. ومن أعظم العبر برئ يَحْمِلُ
مُذْنِبًا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُسْقِيكُمْ) قِرَاءَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (بِفَتْحِ
النُّونِ) مِنْ سَقَى يَسْقِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ
(بِضَمِّ النُّونِ) مِنْ أَسْقَى يُسْقِي، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ
وَأَهْلِ مَكَّةَ. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ لَبِيَدٌ:
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ
وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
وَقِيلَ: يُقَالُ لِمَا كَانَ مِنْ
يَدِكَ إِلَى فِيهِ سَقَيْتَهُ، فَإِذَا جَعَلْتَ لَهُ شَرَابًا أَوْ عَرَضْتَهُ
لِأَنْ يَشْرَبَ بِفِيهِ أَوْ يَزْرَعَهُ قُلْتَ أَسْقَيْتُهُ، قَالَ ابْنُ
عُزَيْزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٣». وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ«تُسْقِيكُمْ» بِالتَّاءِ،
وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، يَعْنِي الانعام. وقرى بِالْيَاءِ، أَيْ يَسْقِيكُمُ اللَّهُ عز
وجل. وَالْقُرَّاءُ
عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، فَفَتْحُ النُّونِ لُغَةُ قُرَيْشٍ
وَضَمُّهَا لُغَةُ حِمْيَرَ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِمَّا فِي
بُطُونِها) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ:«مِمَّا فِي
بُطُونِهِ» عَلَى مَاذَا يَعُودُ. فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ
وَهُوَ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنِ
الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَرَاهُ
عَوَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ
وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ
اسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: هُوَ الْأَنْعَامُ وَهِيَ
الْأَنْعَامُ، جَازَ عود الضمير بالتذكير،
(١). راجع ج ٧ ص، ١١١.
(٢).
راجع ج ١٨ ص ٥.
(٣).
راجع ج ١ ص، ٤١٨
وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ عَائِدٌ
عَلَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ
شاءَ ذَكَرَهُ «١» «وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ
حَوَاصِلُهُ
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ:» مِمَّا فِي بُطُونِهِ«أَيْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، إِذِ
الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو
عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ
يُذَكَّرُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرَجَعَ
الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَامِ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا رَجَعَ التَّذْكِيرُ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ،
وَالتَّأْنِيثُ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ
الْجَمْعِ، وَأَنَّثَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ
الْجَمَاعَةِ فَقَالَ:» نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «٢» «وَبِهَذَا
التَّأْوِيلِ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى انْتِظَامًا. حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ
بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ
أَكْثَرَ من رمل «٣» يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
الْجِلَّةِ وَهُوَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنْ عَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ، أَنَّ
لَبَنَ الْفَحْلِ يُفِيدُ التحريم، وقال: إنما جئ بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ
رَاجِعٌ إِلَى ذِكْرِ النَّعَمِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَحْسُوبٌ،
وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يحرم حين أنكرته عائشة
[رضى الله عنها «٤»] فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ»
فَلِلْمَرْأَةِ السَّقْيُ وَلِلرَّجُلِ اللِّقَاحُ«فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ فِيهِ
بَيْنَهُمَا. وقد مضى قول فِي تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ فِي» النِّسَاءِ «٥»
" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا) نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ
بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَالْفَرْثُ: الزِّبْلُ
الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْكَرِشِ، فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يُسَمَّ فَرْثًا. يُقَالُ:
أَفْرَثْتُ الْكَرِشَ إِذَا أَخْرَجْتُ مَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ
الطَّعَامَ يَكُونُ فِيهِ مَا فِي الْكَرِشِ وَيَكُونُ مِنْهُ الدَّمُ، ثُمَّ
يُخَلَّصُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا
اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ. وَقَالَ
ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف
(١). راجع ج ٩١ ص ٢١٣.
(٢).
راجع ج ١٢ ص، ١١٨.
(٣).
رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الحجر اليمامة. (ياقوت).
(٤).
من ج. [.....]
(٥).
راجع ج ٥ ص ١١١.
فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي كِرْشِهَا
طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا وَأَعْلَاهُ دَمًا،
وَالْكَبِدُ مُسَلَّطٌ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَتَقْسِمُ الدَّمَ وَتُمَيِّزهُ
وَتُجْرِيهِ فِي الْعُرُوقِ، وَتُجْرِيَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى
الْفَرْثُ كَمَا هُوَ فِي الْكِرْشِ،» حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ «١»
النُّذُرُ«. (خالِصًا) يُرِيدُ مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ
وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: خَالِصًا بَيَاضُهُ.
قَالَ النَّابِغَةُ:
بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ «٢» خُضْرِ
الْمَنَاكِبِ
أَيْ بِيضُ الْأَكْمَامِ. وَهَذِهِ
قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كل شي بِالْمَصْلَحَةِ.
السَّادِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ
لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَقَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: كَمَا يَخْرُجُ
اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا كَذَلِكَ يَجُوزُ
أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ وَأَخْذٌ شَنِيعٌ، اللَّبَنُ جَاءَ
الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْقُدْرَةِ
لِيَكُونَ عِبْرَةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ،
وَلَيْسَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ
مَقِيسًا عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ مِنَّةٍ
أَعْظَمُ وَأَرْفَعُ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ
الْمُكَرَّمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:» يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ «٣» «، وَقَالَ:» وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «٤» "
وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَجَّسُ
بِخُرُوجِهِ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، قُلْنَا: هُوَ مَا أَرَدْنَاهُ،
فَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَأَصْلُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَخْرَجَهُ
غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، فَإِنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ
مِنْهَا وَمَخْرَجَ الْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى مَا قاله العلماء.
وقد تقدم في البقرة. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ دَمٌ فَهُوَ نَجِسٌ، قُلْنَا يَنْتَقِضُ
بِالْمِسْكِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ دَمٌ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ
بِطَهَارَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ،
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَابِسًا بِظُفُرِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُفْرَكْ
فَلَا بَأْسَ بِهِ. وكان سعد
(١). راجع ج ٧١ ص ١٢٨.
(٢).
الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.
(٣).
راجع ج ٢٠ ص ٤.
(٤).
راجع ص ١٤٢ من هذا الجزء.
ابن أَبِي وَقَّاصٍ يَفْرُكُ
الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ كَالنُّخَامَةِ أَمِطْهُ
عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ وَامْسَحْهُ بِخِرْقَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ
إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ. قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَسَلَتْهُ
اسْتِقْذَارًا كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي تزال من الثوب لا لنجاسة، وَيَكُونُ هَذَا
جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ
وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ نَجِسٌ. قَالَ مَالِكٌ: غَسْلُ الِاحْتِلَامِ مِنَ
الثَّوْبِ أَمْرٌ وَاجِبٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ
الْكُوفِيِّينَ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُمْ غَسَلُوهُ مِنْ ثِيَابِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَجَاسَةِ
الْمَنِيِّ وَطَهَارَتِهِ التَّابِعُونَ. السَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَلْبَانِ مِنَ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا
لَبَنُ الْمَيْتَةِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ
حَصَلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ ضَرْعَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَاللَّبَنَ
طَاهِرٌ فَإِذَا حُلِبَ صَارَ مَأْخُوذًا مِنْ وِعَاءٍ نَجِسٍ. فَأَمَّا لَبَنُ
الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ
الْإِنْسَانَ «١» طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ:
يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَهُوَ نَجِسٌ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَغْتَذِي بِهِ كَمَا يَغْتَذِي مِنَ
الْحَيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال:«الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ
اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ». وَلَمْ يَخُصَّ، وَقَدْ مَضَى فِي:«النِّسَاءِ
«٢»». الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (سائِغًا لِلشَّارِبِينَ) أَيْ لَذِيذًا
هَيِّنًا لَا يُغَصُّ بِهِ مَنْ شَرِبَهُ. يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ يَسُوغُ
سَوْغًا أَيْ سَهُلَ مَدْخَلُهُ فِي الْحَلْقِ، وَأَسَاغَهُ شَارَبُهُ، وَسُغْتُهُ
أَنَا أُسِيغُهُ وَأَسُوغُهُ، يَتَعَدَّى، وَالْأَجْوَدُ أَسَغْتُهُ إِسَاغَةً.
يُقَالُ: أَسِغْ لِي غُصَّتِي أَيْ أَمْهِلْنِي وَلَا تُعْجِلْنِي، وَقَالَ
تَعَالَى:«يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ «٣»». وَالسِّوَاغُ (بِكَسْرِ
السِّينِ) مَا أَسَغْتَ بِهِ غُصَّتَكَ. يُقَالُ: الْمَاءُ سِوَاغُ الْغُصَصِ،
ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جيزت بِغُصَّةٍ
وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّبَنَ لَمْ
يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
(١). أي المسلم.
(٢).
راجع ج ٥ ص ١١١.
(٣).
راجع ج ٩ ص ٣٤٩.
التَّاسِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَلَاوَةِ وَالْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ
وَتَنَاوُلِهَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ الزُّهْدَ أَوْ
يُبَاعِدُهُ، لَكِنْ إِذَا كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا
إِكْثَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي» الْمَائِدَةِ «١»
«وَغَيْرِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ
وَاللَّبَنَ وَالْمَاءَ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَكْلَ الْفَالُوذَجِ
«٢» وَاللَّبَنَ مِنَ الطَّعَامِ، وَأَبَاحَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَائِدَةٍ وَمَعَهُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ،
فَأُتِيَ بِفَالُوذَجٍ فَامْتَنَعَ عَنْ أَكْلِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: كُلْ! فَإِنَّ
عَلَيْكَ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. الْعَاشِرَةُ- رَوَى أَبُو
دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِلَبَنٍ
فَشَرِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا
فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَإِذَا
سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شي
يَجْزِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنَ«. قَالَ عُلَمَاؤُنَا:
فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَغْتَذِي بِهِ الْإِنْسَانُ
وَتَنْمَى بِهِ الْجُثَثُ وَالْأَبْدَانُ، فَهُوَ قُوتٌ خَلِيٌّ عَنِ الْمَفَاسِدِ
بِهِ قِوَامُ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً
لِجِبْرِيلَ عَلَى هِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ أُمَّةً،
فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ:» فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ
مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ
أَمَا إِنَّكَ لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ «٣» أُمَّتُكَ (. ثُمَّ إِنَّ فِي
الدُّعَاءِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهُ عَلَامَةَ الخصب وظهور الخيرات [وكثرة «٤»]
والبركات، فهو مبارك كله.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:«وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ» قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ، فَحَذَفَ«مَا» وَدَلَّ
عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ:«منه». وقيل:
(١). راجع ج ٦ ص ٢٦٠ وما بعدها، وج ٧ ص ١٩١.
(٢).
الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
(٣).
غوت: ضلت وفسدت.
(٤).
من ج.
المحذوف شي، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَى«مِنْهُ» أَيْ مِنَ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ
حَذْفٌ وَهُوَ أَوْلَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:«وَمِنْ ثَمَراتِ»
عَطْفًا عَلَى«الْأَنْعامِ»، أَيْ وَلَكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
عِبْرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى«مِمَّا» أَيْ وَنُسْقِيكُمْ
أَيْضًا مَشْرُوبَاتٍ مِنْ ثَمَرَاتٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَكَرًا)
السَّكَرُ مَا يُسْكِرُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَأَرَادَ
بِالسَّكَرِ الْخَمْرَ، وَبِالرِّزْقِ الْحَسَنِ جَمِيعَ مَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ
حَلَالًا مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ. وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ
جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ
السَّكَرَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ الطَّعَامُ.
وَقِيلَ: السَّكَرُ الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ سَكَرًا لِأَنَّهُ
قَدْ يَصِيرُ مُسْكِرًا إِذَا بَقِيَ، فَإِذَا بَلَغَ الْإِسْكَارَ حَرُمَ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَسَدُّ، هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ بِثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اعْتِدَاءً مِنْكُمْ، وَمَا أَحَلَّ لَكُمُ اتِّفَاقًا
أَوْ قَصْدًا إِلَى مَنْفَعَةِ أَنْفُسِكُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَكُونُ مَنْسُوخَةً، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ مَدَنِيٌّ.
قُلْتُ: فَعَلَى أن السكر الخمر أَوِ الْعَصِيرُ الْحُلْوُ لَا نَسْخَ، وَتَكُونُ
الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَهُوَ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَبَشَةُ يُسَمُّونَ
الْخَلَّ السَّكَرَ، إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ السَّكَرَ الْخَمْرُ،
مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ،
كُلُّهُمْ قَالُوا: السَّكَرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ ثَمَرَتَيْهِمَا.
وَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السَّكَرُ اسْمٌ لِلْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ،
وَأَنْشَدُوا:
بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ
الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ ... إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ
وَالرِّزْقُ الحسن: ما أحله الله من
مرتيهما. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ«تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا» خَبَرٌ مَعْنَاهُ
الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ أَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا
وَتَدَعُونَ رِزْقًا حَسَنًا الْخَلَّ وَالزَّبِيبَ
وَالتَّمْرَ، كَقَوْلِهِ:» فَهُمُ
الْخالِدُونَ «١» «أَيْ أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطُّعْمُ، يُقَالُ: هَذَا سَكَرٌ لَكَ أَيْ طُعْمٌ.
وَأَنْشَدَ:
جَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ
سَكَرَا
أَيْ جَعَلْتَ ذَمَّهُمْ طُعْمًا.
وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنَّ السَّكَرَ مَا يُطْعَمُ مِنَ الطَّعَامِ
وَحَلَّ شُرْبُهُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَهُوَ الرِّزْقُ
الْحَسَنُ، فَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ والمعنى واحد، مثل»نَّما أَشْكُوا بَثِّي
وَحُزْنِي
«٢»
لَى اللَّهِ«وَهَذَا حَسَنٌ وَلَا
نَسْخَ، إِلَّا أَنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا لَا
يُعْرَفُ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي
الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِفُ
أَنَّهَا تَتَخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ:» سَكَرًا«مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إِلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ،
فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ شُرْبِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ مِنَ
النَّبِيذِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ، وَعَضَّدُوا هَذَا
مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:» حَرَّمَ اللَّهُ
الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرَ مِنْ غَيْرِهَا«. وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو عِنْدَ الرُّكْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَدَحَ فَرَفَعَهُ
إِلَى فِيهِ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا فَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ
حِينَئِذٍ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ:»
عَلَيَّ بِالرَّجُلِ«فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدَحَ، ثُمَّ دَعَا
بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَقَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا
بِمَاءٍ أَيْضًا فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ:» إِذَا اغْتَلَمَتْ «٣» عَلَيْكُمْ
هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ". وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه
السلام كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِذَا كَانَ مِنَ
الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ سَقَاهُ الْخَادِمُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَلَوْ
كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَدْ رَوَى أَبُو
عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ
وَالسَّكَرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، خَرَّجَهُ الدارقطني أيضا.
(١). راجع ج ١١ ص ٢٨٧.
(٢).
راجع ج ٩ ص ٢٥١. [.....]
(٣).
الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ
مِثْلُهُ، أَنَّ غَيْرَ الْخَمْرِ لَمْ تُحَرَّمْ عَيْنُهُ كَمَا حُرِّمَتِ الخمر
بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خِلَافَ فِيهَا، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا مَا
رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ
عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّا
نَأْكُلُ لُحُومَ هَذِهِ الْإِبِلِ وَلَيْسَ يُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا إِلَّا
النَّبِيذُ. قَالَ شَرِيكٌ: وَرَأَيْتُ الثَّوْرِيَّ يَشْرَبُ النَّبِيذَ فِي
بَيْتِ حَبْرِ أَهْلِ زَمَانِهِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ
قَوْلَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ وَلَا يَكُونُ
امْتِنَانُهُ إِلَّا بِمَا أَحَلَّ فَصَحِيحٌ، بَيْدَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فَيَكُونُ
مَنْسُوخًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ قِيلَ كَيْفَ
يُنْسَخُ هَذَا وَهُوَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، قُلْنَا:
هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرِيعَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْخَبَرَ إِذَا كَانَ عَنِ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ عَنْ إِعْطَاءِ ثَوَابٍ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ، فَأَمَّا إِذَا
تَضَمَّنَ الْخَبَرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَالْأَحْكَامُ تَتَبَدَّلُ وَتُنْسَخُ،
جَاءَتْ بِخَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ، وَلَا يَرْجِعُ النَّسْخُ إِلَى نَفْسِ اللَّفْظِ
وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ، فَإِذَا فَهِمْتُمْ هَذَا خَرَجْتُمْ
عَنِ الصِّنْفِ الْغَبِيِّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ فِيهِ
بِقَوْلِهِ:«وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما
يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «١»».
الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ الرَّبَّ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ وَيُكَلِّفُ
مَا يَشَاءُ، ويرفع من ذلك بعدل مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَعِنْدَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ. قُلْتُ: هَذَا تَشْنِيعٌ شَنِيعٌ حَتَّى يَلْحَقَ فِيهِ
الْعُلَمَاءُ الْأَخْيَارُ فِي قُصُورِ الْفَهْمِ بِالْكُفَّارِ، وَالْمَسْأَلَةُ
أُصُولِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْأَخْبَارَ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ
يَجُوزُ نَسْخُهَا أَمْ لَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ
لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ
مَشْرُوعِيَّةِ حُكْمِ مَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ، وَذَلِكَ
الطَّلَبُ هُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يُسْتَدَلُّ عَلَى نَسْخِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ فَالْأَوَّلُ
وَالثَّانِي ضَعِيفَانِ، لِأَنَّهُ عليه السلام قَدْ رُوِيَ عَنْهُ بِالنَّقْلِ
الثَّابِتِ أَنَّهُ قَالَ:«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَقَالَ:«كُلُّ
مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَقَالَ:«مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ
فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». قَالَ النَّسَائِيُّ: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الثبت والعدالة
مشهورون
(١). راجع ص ١٧٦ من هذا الجزء
بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَعَبْدُ
الْمَلِكِ لَا يَقُومُ مَقَامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَوْ عَاضَدَهُ مِنْ
أَشْكَالِهِ جَمَاعَةٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَإِنْ
كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَسْقِيهِ لِلْخَادِمِ عَلَى أَنَّهُ مُسْكِرٌ،
وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقِيهِ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ. وَكَانَ ﷺ
يَكْرَهُ أَنْ تُوجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَبْهُ،
وَلِذَلِكَ تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بِأَنْ قِيلَ لَهُ: إِنَّا نَجِدُ مِنْكَ
رِيحَ مَغَافِيرَ، يَعْنِي رِيحًا مُنْكَرَةً، فَلَمْ يَشْرَبْهُ بَعْدُ.
وَسَيَأْتِي فِي التَّحْرِيمِ «١». وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِيَ
عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ
قَالَ:«مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وَرَوَاهُ عَنْهُ قَيْسُ
بْنُ دِينَارٍ. وَكَذَلِكَ فُتْيَاهُ فِي الْمُسْكِرِ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
والحديث الأول رواه عنه عبد الله ابن شَدَّادٍ وَقَدْ خَالَفَهُ الْجَمَاعَةُ،
فَسَقَطَ الْقَوْلُ بِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ يُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا إِلَّا النَّبِيذُ،
فَإِنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْمُسْكِرِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي
شَرِبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ خُلِّلَ. قَالَ النَّسَائِيُّ: وَمِمَّا
يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ السَّائِبِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ
قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلَانٍ
رِيحَ شَرَابٍ، فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابَ الطِّلَاءِ، وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا
شَرِبَ، فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا جَلَدْتُهُ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي
الله عنه الْحَدَّ تَامًّا. وَقَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ
الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالْعَسَلِ وَالتَّمْرِ
وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي«الْمَائِدَةِ «٢»». فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَحَلَّ شُرْبَهُ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ زَمَانِهِ،
وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَشْرَبُهُ. قُلْنَا: ذَكَرَ النَّسَائِيُّ فِي
كِتَابِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحَلَّ الْمُسْكِرَ مِنَ الْأَنْبِذَةِ
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَهَذِهِ زَلَّةٌ مِنْ عَالِمٍ وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ
زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ «٣».
وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَا وَجَدْتُ
الرُّخْصَةَ فِي الْمُسْكِرِ عَنْ أَحَدٍ صَحِيحًا إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ.
قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: ما رأيت
(١). راجع ج ١٨ ص ١٧٧.
(٢).
راجع ج ٢٨٥.
(٣).
لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد
الإسكار.
رَجُلًا أَطْلَبَ لِلْعِلْمِ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الشَّامَاتِ «١» وَمِصْرَ وَالْيَمَنَ
وَالْحِجَازَ. وَأَمَّا الطَّحَاوِيُّ وَسُفْيَانُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا
لَمْ يُحْتَجَّ بِهِمَا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَحْرِيمِ
الْمُسْكِرِ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ، عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ قَدْ
ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الِاخْتِلَافِ خِلَافَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ لَهُ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ إِذَا
اشْتَدَّ وَغَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدَ فَهُوَ خَمْرٌ وَمُسْتَحِلُّهُ كَافِرٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَقِيعِ التَّمْرِ إِذَا غَلَى وَأَسْكَرَ. قَالَ: فَهَذَا
يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:«الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ
النَّخْلَةِ وَالْعِنَبِ» غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ
قَبِلُوا الْحَدِيثَ لَأَكْفَرُوا مُسْتَحِلَّ نَقِيعِ التَّمْرِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ
لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ غَيْرُ عَصِيرِ الْعِنَبِ الَّذِي
قَدِ اشْتَدَّ وَبَلَغَ أَنْ يُسْكِرَ. قَالَ: ثُمَّ لَا يَخْلُوَ مِنْ أَنْ
يَكُونَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِهَا فَقَطْ غَيْرَ مَقِيسٍ عَلَيْهَا غَيْرُهَا
أَوْ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، فَوَجَدْنَاهُمْ جَمِيعًا قَدْ قَاسُوا
عَلَيْهَا نَقِيعَ التَّمْرِ إِذَا غَلَى وَأَسْكَرَ كَثِيرُهُ وَكَذَلِكَ نَقِيعُ
الزَّبِيبِ. قَالَ: فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ مَا
أَسْكَرَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ
قَالَ:«كُلُّ مُسْكِرٍ حرام» واستغنى عن سنده لِقَبُولِ الْجَمِيعِ لَهُ،
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ
بِهِ جِنْسَ مَا يُسْكِرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ السُّكْرُ
عِنْدَهُ كَمَا لَا يُسَمَّى قَاتِلًا إِلَّا مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ. قُلْتُ:
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ لِقَوْلِهِ،
فَوَجَبَ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ مَا أَسْكَرَ مِنَ
الْأَشْرِبَةِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي
الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا
وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا، فَكُلُّ شَرَابٍ يَكُونُ عَاقِبَتُهُ
كَعَاقِبَةِ الْخَمْرِ فَهُوَ حَرَامٌ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَجَاءَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِأَخْبَارٍ مَعْلُولَةٍ، وَإِذَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشَّيْءِ وَجَبَ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عليه السلام، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ
شَرِبَ الشَّرَابَ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَلِلْقَوْمِ ذُنُوبٌ
يَسْتَغْفِرُونَ
(١). في حاشية السندي على سنن النسائي:«قوله
الشامات، كأنه جمع على إرادة البلاد الشامية»:
اللَّهَ مِنْهَا، وَلَيْسَ يَخْلُو
ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مُخْطِئٌ أَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ
عَلَى حَدِيثٍ سَمِعَهُ، أَوْ رَجُلٌ أَتَى ذَنْبًا لَعَلَّهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ
الِاسْتِغْفَارِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالنَّبِيُّ ﷺ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ
الْآيَةِ: إِنَّهَا إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِلِاعْتِبَارِ، أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى
خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ لَا
يَخْتَلِفُ بِأَنْ كَانَتِ الْخَمْرُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، فَاتِّخَاذُ
السَّكَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:» قُلْ
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «١» «والله أعلم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٨]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ
أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(٦٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي
الْوَحْيِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى «٢» الْإِلْهَامِ، وَهُوَ مَا
يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ
ظَاهِرٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها
فُجُورَها «٣» وَتَقْواها«. وَمِنْ ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ فِيهَا مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهَا وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا
وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ عز وجل بِذَلِكَ عَنِ الْمَوَاتِ
فَقَالَ:» تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «٤»«. قَالَ
إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ. لِلَّهِ عز وجل فِي الْمَوَاتِ قُدْرَةٌ لَمْ يُدْرَ
مَا هِيَ، لَمْ يَأْتِهَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
عَرَّفَهَا ذَلِكَ، أَيْ أَلْهَمَهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِينَ
أَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ»
إِلَى النَّحَلِ" بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَسُمِّيَ نَحَلًا لِأَنَّ اللَّهَ عز
وجل نَحَلَهُ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّحْلُ وَالنَّحْلَةُ الدَّبْرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى، حَتَّى يُقَالَ: يَعْسُوبٌ. وَالنَّحْلُ يُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ
أَهْلِ الْحِجَازِ، وَكُلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا
الْهَاءُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
(١). راجع ج ٣ ص ٥١.
(٢).
راجع ج ٤ ص ٨٥.
(٣).
راجع ج ٢٠ ص ٧٥. وص ١٤٥.
(٤).
راجع ج ٢٠ ص ٧٥. وص ١٤٥.
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ:» الذِّبَّانُ كُلُّهَا فِي النَّارِ يَجْعَلُهَا عَذَابًا لِأَهْلِ
النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ«ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ
الْأُصُولِ). وَرُوِيَ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ
قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ «١»، خَرَّجَهُ أَبُو
دَاوُدَ أَيْضًا، وَسَيَأْتِي فِي» النَّمْلِ «٢» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ) هذا إذا لم يكن لها مليك «٣». (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)
جعل اللَّهُ بُيُوتَ النَّحْلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ، إِمَّا فِي
الْجِبَالِ وَكِوَاهَا، وَإِمَّا فِي مُتَجَوِّفِ الأشجار وام فِيمَا يَعْرِشُ
ابْنُ آدَمَ مِنَ الْأَجْبَاحِ «٤» وَالْخَلَايَا وَالْحِيطَانِ وَغَيْرِهَا.
وَعَرَشَ مَعْنَاهُ هُنَا هَيَّأَ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ
مِنْ إِتْقَانِ الْأَغْصَانِ وَالْخَشَبِ وَتَرْتِيبِ ظِلَالِهَا، وَمِنْهُ
الْعَرِيشُ الَّذِي صُنِعَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِنْ هَذَا
لَفْظَةُ الْعَرْشِ. يُقَالُ: عَرَشَ يعرش ويعرش (بكسر الراء وضمها)، وقرى
بِهِمَا. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالضَّمِّ وَسَائِرَهُمْ بِالْكَسْرِ، وَاخْتُلِفَ
فِي ذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ عَجِيبِ
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي النَّحْلِ أَنْ أَلْهَمَهَا لِاتِّخَاذِ بُيُوتِهَا
مُسَدَّسَةً، فَبِذَلِكَ اتَّصَلَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْقِطْعَةِ الْوَاحِدَةِ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْكَالَ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ يَتَّصِلْ وَجَاءَتْ بَيْنَهُمَا
فُرَجٌ، إِلَّا الشَّكْلَ الْمُسَدَّسَ، فَإِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى أَمْثَالِهِ
اتَّصَلَ كَأَنَّهُ كالقطعة الواحدة.
[سورة
النحل (١٦): آية ٦٩]
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
(١). الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقار له ريش
عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود يصيد صغار الطير.
(٢).
راجع ج ١٣ ص ١٦٩ فما بعد.
(٣).
كذا في ى. وفى أ: مالك.
(٤).
الاجباح: خلايا النحل في الجبل وفيها تعسل. [.....]
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ كُلِي
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وَذَلِكَ أَنَّهَا إِنَّمَا تَأْكُلُ النُّوَّارَ مِنَ
الْأَشْجَارِ. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أَيْ طُرُقَ رَبِّكِ. وَالسُّبُلُ:
الطُّرُقُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهَا. أَيِ ادْخُلِي طُرُقَ
رَبِّكِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ فِي الْجِبَالِ وَخِلَالِ الشَّجَرِ. (ذُلُلًا) جَمْعُ
ذَلُولٍ وَهُوَ الْمُنْقَادُ، أَيْ مُطِيعَةً مُسَخَّرَةً. فَ«ذُلُلًا» حَالٌ مِنَ
النَّحْلِ. أَيْ تَنْقَادُ وَتَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ صَاحِبُهَا، لِأَنَّهَا
تَتْبَعُ أَصْحَابَهَا حَيْثُ ذَهَبُوا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ«ذُلُلًا» السُّبُلِ. وَالْيَعْسُوبُ سَيِّدُ «١» النَّحْلِ،
إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ سَارَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:«(يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) فِيهِ تِسْعُ
مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) رَجَعَ
الْخِطَابُ إِلَى الْخَبَرِ عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ
عَلَى الْعِبْرَةِ فَقَالَ:» يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ«يَعْنِي الْعَسَلَ.
وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِ النَّحْلِ،
وَوَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي
تَحْقِيرِهِ لِلدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ،
وَأَشْرَفُ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ
الْفَمِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يُدْرَى مِنْ فِيهَا أَوْ
أَسْفَلَهَا، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ صَلَاحُهُ إِلَّا بِحَمِيِّ أَنْفَاسِهَا.
وَقَدْ صَنَعَ أَرِسْطَاطَالِيسُ بَيْتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرَ إِلَى
كَيْفِيَّةِ مَا تَصْنَعُ، فَأَبَتْ أَنْ تَعْمَلَ حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ
الزَّجَّاجِ بِالطِّينِ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَقَالَ:» مِنْ
بُطُونِها«لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْأَطْعِمَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ
مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ،
وَالْأُمَّ وَاحِدَةٌ وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ، كَمَا يَخْتَلِفُ
طَعْمُهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَرَاعِي، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ
زَيْنَبَ لِلنَّبِيِّ ﷺ:» جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ «٢» " حِينَ
شَبَّهَتْ رائحته برائحة المغافير.
(١). اليعسوب: هو الملكة وليس للنحل غيرها
رئيسا وذكر النخل هو الذي يلقح الملكة ثم يموت، هذا الذي يقرره العلماء بهذا الجنس.
(٢).
الجرس: الأكل. والعرفط (بالضم): شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته
النحل حصل في عسلها من ريحه. أي شربت عسلا أكلت نحلة من شجر الطلح.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) الضَّمِيرُ لِلْعَسَلِ، قَالَ الْجُمْهُورُ. أَيْ فِي
الْعَسَلِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ
وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْفَرَّاءِ وَابْنِ كَيْسَانَ: الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ،
أَيْ فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، أَوْ فِيمَا
قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ:
الْعَسَلُ فِيهِ شِفَاءٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَيِّنٌ أَيْضًا، لِأَنَّ أَكْثَرَ
الْأَشْرِبَةِ وَالْمَعْجُونَاتِ الَّتِي يُتَعَالَجُ بِهَا أَصْلُهَا مِنَ
الْعَسَلِ. قَالَ القاضي أبو بكر ابن الْعَرَبِيِّ: مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ
بَعِيدٌ مَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُمْ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ
عَقْلًا، فَإِنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ كُلُّهُ لِلْعَسَلِ، لَيْسَ لِلْقُرْآنِ
فِيهِ ذِكْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ
إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْبَيْتِ وَبَنُو هَاشِمٍ،
وَأَنَّهُمُ النَّحْلُ، وَأَنَّ الشَّرَابَ الْقُرْآنُ وَالْحِكْمَةُ، وَقَدْ
ذَكَرَ هَذَا بَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسِ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْعَبَّاسِيِّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامَكَ
وَشَرَابَكَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَضْحَكَ
الْحَاضِرِينَ وَبُهِتَ الْآخَرُ وَظَهَرَتْ سَخَافَةُ قَوْلِهِ. الرَّابِعَةُ-
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ هَلْ هُوَ
عَلَى عُمُومِهِ أَمْ لَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ
حَالٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْكُو
قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا، حَتَّى الدُّمَّلَ إِذَا
خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَى عَلَيْهِ عَسَلًا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي وَجْرَةَ
أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْعَسَلِ وَيَسْتَمْشِي بِالْعَسَلِ وَيَتَدَاوَى
بِالْعَسَلِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ
لَهُ: أَلَا نُعَالِجُكَ؟ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالْمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ:» وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً «١» مُبارَكًا«ثُمَّ قَالَ:
ائْتُونِي بِعَسَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:» فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ«وَائْتُونِي بِزَيْتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:» مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «٢» " فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَخَلَطَهُ جَمِيعًا
ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ إِذَا
خُلِطَ بِالْخَلِّ وَيُطْبَخُ فَيَأْتِي شَرَابًا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي كُلِّ
حَالَةٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ
وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ عِلَّةٍ وَفِي كُلِّ إِنْسَانٍ، بَلْ
إِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَنَّهُ يَشْفِي كَمَا يَشْفِي غَيْرُهُ مِنَ
(١). راجع ج ١٧ ص ٦. والظاهر أن المراد
بالمبارك ماء المطر فإنه في غاية النقاء فهو شفاء من الأمراض مطهر من الجراثيم.
محققة.
(٢).
راجع ج ١٢ ص ٢٦٢.
الْأَدْوِيَةِ فِي بَعْضٍ وَعَلَى
حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَفَائِدَةُ الْآيَةِ إِخْبَارٌ مِنْهُ فِي أَنَّهُ دَوَاءٌ
لَمَّا كَثُرَ الشِّفَاءُ بِهِ وَصَارَ خَلِيطًا وَمُعِينًا لِلْأَدْوِيَةِ فِي
الْأَشْرِبَةِ وَالْمَعَاجِينِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ خُصِّصَ
فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ
كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ. وَمِمَّا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ أَنَّ«شِفاءٌ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ
الْإِثْبَاتِ، وَلَا عُمُومَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَمُحَقِّقِي
أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُخْتَلِفِي أَهْلِ الْأُصُولِ. لَكِنْ قَدْ حَمَلَتْهُ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْعُمُومِ. فَكَانُوا
يَسْتَشْفُونَ بِالْعَسَلِ مِنْ كُلِّ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ، وَكَانُوا
يُشْفَوْنَ مِنْ عِلَلِهِمْ بِبَرَكَةِ الْقُرْآنِ وَبِصِحَّةِ التَّصْدِيقِ
وَالْإِيقَانِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى
الدِّينِ عَادَتُهُ أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْكُلُّ
مِنْ حِكَمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ. الْخَامِسَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ
رَأَيْنَا مَنْ يَنْفَعُهُ الْعَسَلُ وَمَنْ يَضُرُّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ شِفَاءً
لِلنَّاسِ؟ قِيلَ لَهُ: الْمَاءُ حياة كل شي وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ يَقْتُلُهُ
الْمَاءُ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى مَا يُضَادُّهُ مِنْ عِلَّةٍ فِي الْبَدَنِ، وَقَدْ
رَأَيْنَا شِفَاءَ الْعَسَلِ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، قَالَ مَعْنَاهُ
الزَّجَّاجُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى مَدْحِ
عُمُومِ مَنْفَعَةِ السَّكَنْجَبِينِ «١» فِي كُلِّ مَرَضٍ، وَأَصْلُهُ الْعَسَلُ
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْجُونَاتِ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَسَمَ دَاءَ
الْإِشْكَالِ وَأَزَاحَ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ حِينَ أَمَرَ الَّذِي يَشْتَكِي
بَطْنَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَخُوهُ بِأَنَّهُ لَمْ
يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا أَمَرَهُ بِعَوْدِ الشَّرَابِ لَهُ فَبَرِئَ،
وَقَالَ:«صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ». السَّادِسَةُ- اعْتَرَضَ
بَعْضُ زَنَادِقَةِ الْأَطِبَّاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: قَدْ
أَجْمَعَتِ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ يُسْهِلُ فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ
بِهِ الْإِسْهَالُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ
لِمَنْ حَصَلَ لَهُ التَّصْدِيقُ بِنَبِيِّهِ عليه السلام، فَيَسْتَعْمِلُهُ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي أَمَرَهُ بِعَقْدِ نِيَّةٍ
وَحُسْنِ طَوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَرَى مَنْفَعَتَهُ وَيُدْرِكُ بَرَكَتَهُ، كَمَا
قَدِ اتَّفَقَ لِصَاحِبِ هَذَا الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا
مَا حُكِيَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فَدَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ بِالنَّقْلِ حَيْثُ لَمْ
يُقَيِّدْ وَأَطْلَقَ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ:
يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْإِسْهَالَ يَعْرِضُ مِنْ ضُرُوبٍ كَثِيرَةٍ،
مِنْهَا الإسهال
(١). السكنجبين: شراب معرب، أي خل وعسل (عن
الألفاظ الفارسية المعربة)
الْحَادِثُ عَنِ التُّخَمِ
وَالْهَيْضَاتِ «١»، وَالْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنَّ
عِلَاجَهُ بِأَنْ يُتْرَكَ لِلطَّبِيعَةِ وَفِعْلِهَا، وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى
مُعِينٍ عَلَى الْإِسْهَالِ أُعِينَتْ مَا دَامَتِ الْقُوَّةُ بَاقِيَةٌ، فَأَمَّا
حَبْسُهَا فَضَرَرٌ، فَإِذَا وَضَحَ هَذَا قُلْنَا: فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ الرَّجُلُ أَصَابَهُ الْإِسْهَالُ عَنِ امْتِلَاءٍ وَهَيْضَةٍ فَأَمَرَهُ
النَّبِيُّ ﷺ بِشُرْبِ الْعَسَلِ فَزَادَهُ إِلَى أَنْ فَنِيَتِ الْمَادَّةُ
فَوَقَفَ الْإِسْهَالُ فَوَافَقَهُ شُرْبُ الْعَسَلِ. فَإِذَا خَرَجَ هَذَا عَنْ
صِنَاعَةِ الطِّبِّ أَذِنَ ذَلِكَ بِجَهْلِ الْمُعْتَرِضِ بِتِلْكَ الصِّنَاعَةِ.
قَالَ: وَلَسْنَا نَسْتَظْهِرُ عَلَى قَوْلِ نَبِيِّنَا بِأَنْ يُصَدِّقَهُ
الْأَطِبَّاءُ بَلْ لَوْ كَذَّبُوهُ لَكَذَّبْنَاهُمْ وَلَكَفَّرْنَاهُمْ
وَصَدَّقْنَاهُ ﷺ، فَإِنْ أَوْجَدُونَا بِالْمُشَاهَدَةِ صِحَّةَ مَا قَالُوهُ
فَنَفْتَقِرُ حِينَئِذٍ إِلَى تَأْوِيلِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَخْرِيجِهِ
عَلَى مَا يَصِحُّ إِذْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ. السَّابِعَةُ-
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
التَّعَالُجِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ
مِنْ جِلَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا إِذَا رَضِيَ بِجَمِيعِ مَا
نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ مُدَاوَاةً. وَلَا مَعْنَى
لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ:«لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ
بِإِذْنِ اللَّهِ». وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
شَرِيكٍ قَالَ قَالَتِ الْأَعْرَابُ: أَلَا نَتَدَاوَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ:«نَعَمْ. يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً
إِلَّا وَضَعَ لَهُ شفاء أو دواء إلا داء واحد» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا هُوَ؟ قَالَ:«الْهَرَمُ» لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ. ورو ي عَنْ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا
وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ
اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ:«هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا
يُعْرَفُ لِأَبِي خُزَامَةَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ﷺ:«إن كان في شي
مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ
أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَعَلَى إباحة
التداوي والاسترقاء
(١). الهيضات: جمع هيضة، وهى انطلاق البطن.
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. رُوِيَ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اكْتَوَى مِنَ اللَّقْوَةِ «١» وَرُقِيَ مِنَ الْعَقْرَبِ.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْقِي وَلَدَهُ التِّرْيَاقَ
«٢». وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ
بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«دَخَلَتْ أُمَّةٌ
بِقَضِّهَا «٣» وَقَضِيضَهَا الْجَنَّةَ كانوا لا يسرقون وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا
يَتَطَيَّرُونَ» وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ«. قَالُوا: فَالْوَاجِبُ عَلَى
الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ اعْتِصَامًا بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ
وَثِقَةً بِهِ وَانْقِطَاعًا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ
أَيَّامَ الْمَرَضِ وَأَيَّامَ الصِّحَّةِ فَلَوْ حَرَصَ الْخَلْقُ عَلَى
تَقْلِيلِ ذَلِكَ أَوْ زِيَادَتِهِ مَا قَدَرُوا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» مَا
أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «٤»«. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى ابْنِ
مَسْعُودٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا
تَشْتَكِي؟ قَالَ ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ رَحْمَةَ رَبِّي.
قَالَ: أَلَا أَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي ... وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي فَضْلِ الْوَاقِعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَذَكَرَ وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ قُرَّةَ قَالَ: مَرِضَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَعَادُوهُ وَقَالُوا: أَلَا
نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَضْجَعَنِي. وَإِلَى هَذَا ذهب الربيع
بن خيثم. وَكَرِهَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرُّقَى. وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ
شُرْبَ الْأَدْوِيَةِ كُلِّهَا إِلَّا اللَّبَنَ وَالْعَسَلَ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ
عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
قَصَدَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْكَيِّ مَكْرُوهٍ بِدَلِيلِ كَيِّ النَّبِيِّ ﷺ
أُبَيًّا يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ «٥» لَمَّا رُمِيَ. وَقَالَ:»
الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ«كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ
إِلَى الرُّقَى بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى:»
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا
هُوَ شِفاءٌ «٦» " عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَرَقَى أَصْحَابَهُ
وَأَمَرَهُمْ بِالرُّقْيَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بيانه.
(١). اللقوة (بالفتح): مرض يعرض للوجه فيميله
إلى أحد جانبيه.
(٢).
الترياق: ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والماجين، وهو معرب.
(٣).
أي دخلوا مجتمعين، ينقض آخرهم على أولهم. وقال ابن الاعرابي: إن القض الحصى
الصغار، أي دخلوا بالكبير والصغير.
(٤).
راجع ج ١٧ ص ١٩٤.
(٥).
الأكحل: عرق في وسط الذراع.
(٦).
راجع ص ٣١٥ من هذا الجزء.
الثَّامِنَةُ- ذَهَبَ مَالِكٌ
وَجَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْعَسَلِ وَإِنْ كَانَ
مَطْعُومًا مُقْتَاتًا. وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالَذَى قَطَعَ
بِهِ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْعَسَلِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، لِأَنَّ النِّصَابَ
عِنْدَهُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا شي فِيهِ
حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَةَ أَفْرَاقٍ «١»، وَالْفَرْقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ
رِطْلًا مِنْ أَرْطَالِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي كُلِّ عَشَرَةِ
أَزْقَاقٍ زِقٌّ، مُتَمَسِّكًا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ
زِقٌّ» قَالَ أَبُو عِيسَى: فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَا يَصِحُّ عَنِ
النَّبِيِّ ﷺ فِي هذا الباب كبير شي، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ
أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ
العلم: ليس في العسل شي. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ يَعْتَبِرُونَ، وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي النَّحْلِ
بِإِنْصَافِ النَّظَرِ وَإِلْطَافِ الْفِكْرِ فِي عَجِيبِ أَمْرِهَا. فَيَشْهَدُ
الْيَقِينَ بِأَنَّ مُلْهِمَهَا الصَّنْعَةَ اللَّطِيفَةَ مَعَ الْبِنْيَةِ
الضَّعِيفَةِ، وَحِذْقَهَا بِاحْتِيَالِهَا فِي تَفَاوُتِ أَحْوَالِهَا هُوَ
اللَّهُ سبحانه وتعالى، كَمَا قَالَ:«وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» الْآيَةَ.
ثُمَّ أَنَّهَا تَأْكُلُ الْحَامِضَ وَالْمُرَّ وَالْحُلْوَ وَالْمَالِحَ
وَالْحَشَائِشَ الضَّارَّةَ «٢»، فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَسَلًا حُلْوًا
وَشِفَاءً، وَفِي هذا دليل على قدرته.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ
يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بَيِّنٌ مَعْنَاهُ. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يَعْنِي أَرْدَأَهُ وَأَوْضَعَهُ. وَقِيلَ: الَّذِي
يُنْقِصُ قُوَّتَهُ وَعَقْلَهُ وَيُصَيِّرُهُ إِلَى الْخَرَفِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي إِلَى أَسْفَلِ الْعُمُرِ، يَصِيرُ كَالصَّبِيِّ الَّذِي
لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ يقول:
(١). في ج وى:«خمسة أفراق».
(٢).
لم يصح هذا عند النحالين. محققة. [.....]
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ وَأَعُوذُ
بِكَ مِنَ الْبُخْلِ». وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ«وَأَعُوذُ بِكَ
أَنْ أُرَدَّ إلى أرذل العمر» الحديث. خرجه البخار ي. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ
عِلْمٍ شَيْئًا) أَيْ يَرْجِعُ إِلَى حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ فَلَا يَعْلَمُ مَا
كَانَ يَعْلَمُ قَبْلُ مِنَ الْأُمُورِ لِفَرْطِ الْكِبَرِ. وَقَدْ قِيلَ: هَذَا
لَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ عِلْمُهُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لِكَيْلَا يَعْمَلَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، فَعَبَّرَ عَنِ الْعَمَلِ
بِالْعِلْمِ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكِبَرِ فِي عَمَلِهِ
أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي عِلْمِهِ. وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ الِاحْتِجَاجُ
عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيِ الَّذِي رَدَّهُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ قَادِرٌ
على أن يميته ثم يحييه.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى
بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
(٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أَيْ جَعَلَ مِنْكُمْ غَنِيًّا
وفقيرا وَحُرًّا وَعَبْدًا. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) أَيْ فِي الرِّزْقِ.
(بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أَيْ لَا يَرُدُّ الْمَوْلَى
عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا رُزِقَ شَيْئًا حَتَّى يَسْتَوِيَ
الْمَمْلُوكُ وَالْمَالِكُ فِي الْمَالِ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ
لِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَبِيدُكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءٌ
فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ عَبِيدِي مَعِي سَوَاءً، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُشْرِكُهُمْ
عَبِيدُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يُشَارِكُوا اللَّهَ
تَعَالَى فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْصَابِ وَغَيْرِهِمَا
مِمَّا عُبِدَ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ.
حَكَى مَعْنَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَغَيْرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى
نَجْرَانَ حِينَ قَالُوا عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ:«فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» أَيْ لَا يَرُدُّ
الْمَوْلَى عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا رُزِقَ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْلَى
وَالْعَبْدُ فِي الْمَالِ شَرَعًا سَوَاءً، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا
تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَجْعَلُونَ لِي وَلَدًا
مِنْ عَبِيدِي. وَنَظِيرُهَا» ضَرَبَ
لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ «١» «عَلَى مَا
يَأْتِي. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ، عَلَى مَا يَأْتِي
أنفا «٢».
[سورة
النحل (١٦): آية ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ
هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا) جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَقَدْ
تَقَدَّمَ.» مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا«يَعْنِي آدَمَ خَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ
وَنَوْعِكُمْ وَعَلَى خِلْقَتِكُمْ، كَمَا قَالَ:» لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ «٣» «أَيْ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ
الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا،
حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ «٤» تَزَوَّجَ منهم غولا وكان يخبؤها
عَنِ الْبَرْقِ لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي لَمَعَ الْبَرْقُ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ «٥» فَقَالَتْ: عَمْرٌو!
وَنَفَرَتْ، فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا. وَهَذَا مِنْ أَكَاذِيبِهَا، وَإِنْ كَانَ
جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ
الَّذِينَ ينكرون وجود الجان وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ. (أَزْواجًا) زَوْجُ
الرَّجُلِ هِيَ ثَانِيَتُهُ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ فَإِذَا انْضَافَتْ إِلَيْهِ كَانَا
زَوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ دُونَهَا لِأَنَّهُ
أَصْلُهَا في الوجود كما تقدم.
(١). راجع ج ١٤ ص ٢٢.
(٢).
يريد بعد قليل.» آنفا" إنما تستعمل في الماضي القريب لا في المستقبل القريب.
(٣).
راجع ج ٨ ص ٣٠١.
(٤).
كذا في نسخ الأصول وأحكام القرآن لابن العربي، والصواب أنه عمرو بن يربوع بن حنظلة
بن مالك بن مناة، قال علياء بن أرقم:
يا قبحا لله بنى السعلاة ... عمرو بن
يربوع شرار النات
راجع شرح التنوير على سقط الزند في
شرح بيت أبى العلاء المعرى:
إذا لاح إيماض شرت وجوهها ... كأني
عمرو والمطي سعالي
(٥).
السغلاة: أخبت الغيلان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) ظَاهِرٌ فِي
تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَوُجُودُ الْأَبْنَاءِ يَكُونُ
مِنْهُمَا مَعًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلْقُ الْمَوْلُودِ فِيهَا
وَانْفِصَالُهُ عَنْهَا أُضِيفَ إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ تَبِعَهَا فِي الرِّقِّ
وَالْحُرِّيَّةِ وَصَارَ مِثْلَهَا فِي الْمَالِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
سَمِعْتُ إِمَامَ الْحَنَابِلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ أَبَا الْوَفَاءِ عَلِيَّ
بْنَ عُقَيْلٍ يَقُولُ: إِنَّمَا تَبِعَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الْمَالِيَّةِ
وَصَارَ بِحُكْمِهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُ انْفَصَلَ عَنِ
الْأَبِ نُطْفَةً لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ،
وَإِنَّمَا اكْتَسَبَ مَا اكْتَسَبَ بِهَا وَمِنْهَا فَلِأَجْلِ ذَلِكَ تَبِعَهَا.
كَمَا لَوْ أكل رجل تمر فِي أَرْضِ رَجُلٍ وَسَقَطَتْ مِنْهُ نَوَاةٌ فِي
الْأَرْضِ مِنْ يَدِ الْآكِلِ فَصَارَتْ نَخْلَةً فَإِنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ
الْأَرْضِ دُونَ الْآكِلِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ لِأَنَّهَا انْفَصَلَتْ
عَنِ الْآكِلِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَحَفَدَةً»
رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى:«بَنِينَ وَحَفَدَةً» قَالَ: الْحَفَدَةُ الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ فِي
رَأْيِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَحَفَدَةً» قَالَ
هُمُ الْأَعْوَانُ، مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ. قِيلَ لَهُ: فَهَلْ تَعْرِفُ
العرب ذلك؟ قال نعم وتقول! أو ما سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ
وَأَسْلَمَتْ ... بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةَ الْأَجْمَالِ
أَيْ أَسْرَعْنَ الْخِدْمَةَ.
وَالْوَلَائِدُ: الْخَدَمُ، الْوَاحِدَةُ وَلِيدَةٌ، قَالَ الْأَعْشَى:
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا
يَمَانِيَةً ... إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا «١»
أَيْ أَسْرَعُوا. وَقَالَ ابْنُ
عَرَفَةَ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْأَعْوَانُ، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ
عَمَلًا أَطَاعَ فِيهِ وَسَارَعَ فَهُوَ حَافِدٌ، قَالَ: وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ«إِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ»، وَالْحَفَدَانُ السُّرْعَةُ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: الْحَفْدُ الْعَمَلُ وَالْخِدْمَةُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ: الْحَفَدَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْخَدَمُ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الْأَخْتَانِ، قَالَهُ ابْنُ مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن
جبير وإبراهيم،
(١). الاكساء: جمع كسى (بالضم) وهو مؤخر
العجز.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «١»:
فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي
لَأَصْبَحَتْ ... لَهَا حَفَدٌ مَا يُعَدُّ كَثِيرُ
وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ
أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لِإِصْهَارِ «٢» اللِّئَامِ قَذُورُ
وَرَوَى زِرٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: الْحَفَدَةُ الْأَصْهَارُ، وَقَالَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَتَنُ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ
الْمَرْأَةِ، مِثْلُ أَبِيهَا وَأَخِيهَا وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَالْأَصْهَارُ
مِنْهَا جَمِيعًا. يُقَالُ: أَصْهَرَ فُلَانٌ إِلَى بَنِي فُلَانٍ وَصَاهَرَ.
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ هُمُ الْأَخْتَانُ، يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا.
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَبَا الْمَرْأَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ
أَقْرِبَائِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ تُزَوِّجُونَهُنَّ، فَيَكُونُ لَكُمْ
بِسَبَبِهِنَّ أَخْتَانٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الحفدة من نفع الرجال مِنْ
وَلَدِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ حَفَدَ يَحْفِدُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي
وَكَسْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ) إِذَا أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ، كَمَا قَالَ
كَثِيرٌ «٣»:
حَفَدَ الْوَلَائِدُ بَيْنَهُنَّ
...
الْبَيْتَ.
وَيُقَالُ: حَفَدَتْ وَأَحْفَدَتْ،
لُغَتَانِ إِذَا خَدَمَتْ. وَيُقَالُ: حَافِدٌ وَحَفَدٌ، مِثْلَ خَادِمٍ وَخَدَمٌ،
وَحَافِدٌ وَحَفَدَةٌ مِثْلَ كَافِرٍ وَكَفَرَةٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ
جَعَلَ الْحَفَدَةَ الْخَدَمَ جَعَلَهُ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ يَنْوِي بِهِ
التَّقْدِيمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ حَفَدَةً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بنين. قلت: ما قال الْأَزْهَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْحَفَدَةَ أَوْلَادُ
الْأَوْلَادِ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ بَلْ نَصُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَالَ:«وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً» فَجَعَلَ
الْحَفَدَةَ وَالْبَنِينَ مِنْهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْأَظْهَرُ
عِنْدِي فِي قَوْلِهِ«بَنِينَ وَحَفَدَةً» أَنَّ الْبَنِينَ أَوْلَادُ الرَّجُلِ
لِصُلْبِهِ وَالْحَفَدَةَ أَوْلَادُ وَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ
أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَمِنَ الْبَنِينِ حَفَدَةً. وَقَالَ مَعْنَاهُ
الْحَسَنُ. الثَّالِثَةُ- إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَمَالِكٍ وَعُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْحَفَدَةَ الْخَدَمُ
وَالْأَعْوَانُ، فَقَدْ خَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ مِنَ
الْقُرْآنِ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ، قاله ابن العربي
(١). هو جميل.
(٢).
في البحر: لأصاب.
(٣).
تقدم استشهاد ابن عباس به فلا يصح أن يكون لكثير عزة.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ
سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ ﷺ
لِعُرْسِهِ فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ ... الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي سُورَةِ» هُودٍ «١»«. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا
فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ ﷺ بِيَدِي. الْحَدِيثَ. وَلِهَذَا قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: عَلَيْهَا أَنْ تَفْرِشَ الْفِرَاشَ وَتَطْبُخَ الْقِدْرَ وَتَقُمَّ
الدَّارَ، بِحَسَبِ حَالِهَا وَعَادَةِ مِثْلِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:»
وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها «٢» " فَكَأَنَّهُ جَمَعَ
لَنَا فِيهَا السَّكَنَ وَالِاسْتِمْتَاعَ وَضَرْبًا مِنَ الْخِدْمَةِ بِحَسَبِ
جَرْيِ الْعَادَةِ. الرَّابِعَةُ- وَيَخْدِمُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِيمَا خَفَّ
مِنَ الْخِدْمَةِ وَيُعِينُهَا، لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ
كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ. وَهَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ: وَيُعِينُهَا. وَفِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ
يَخْصِفُ النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَقَدْ قِيلَ لَهَا:
مَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ
الْبَشَرِ يَفْلِي «٣» ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ.
الْخَامِسَةُ- وَيُنْفِقُ عَلَى خَادِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: عَلَى أَكْثَرَ،
على قدر الثروة والمزلة. وَهَذَا أَمْرٌ دَائِرٌ عَلَى الْعُرْفِ الَّذِي هُوَ
أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَعْرَابِ وسكان البوادي
يخدمن أزواجهن (حتى «٤» فِي اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ وَسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ،
وَنِسَاءَ الْحَوَاضِرِ يَخْدُمُ الْمُقِلُّ مِنْهُمْ زَوْجَتَهُ فِيمَا خَفَّ
وَيُعِينُهَا، وأما أهل الثروة فيخدمون «٥» أزواجهم وَيَتَرَفَّهْنَ مَعَهُمْ
إِذَا كَانَ لَهُمْ مَنْصِبُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُشْكِلًا شَرَطَتْ
عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ، فَتُشْهِدُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا مِمَّنْ لا
تخدم نفسها فالتزم أحد أمها، فَيُنَفَّذُ ذَلِكَ وَتَنْقَطِعُ الدَّعْوَى فِيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أَيْ مِنَ الثِّمَارِ
وَالْحُبُوبِ وَالْحَيَوَانِ. (أَفَبِالْباطِلِ) يَعْنِي الْأَصْنَامَ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ. (يُؤْمِنُونَ) قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو
عَبْدِ الرحمن بالتاء (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ) أي بالإسلام. (هُمْ يَكْفُرُونَ).
(١). راجع ج ٩ ص ٦٨.
(٢).
راجع ج ٧ ص ٣٣٧.
(٣).
يفلي ثوبه مما يناله من بعض الجلساء أن عنصره صلوات الله عليه في غاية الصفا
والنقا الخالص.
(٤).
من ابن العربي.
(٥).
كذا في ابن العربي والعبارة له. [.....]
[سورة النحل (١٦): الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلا
يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
السَّماواتِ) يَعْنِي الْمَطَرَ. (وَالْأَرْضِ) يَعْنِي النَّبَاتَ. (شَيْئًا)
قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ
مَنْصُوبٌ بِإِيقَاعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، أَيْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ
يَرْزُقَهُمْ شَيْئًا. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شي،
يَعْنِي الْأَصْنَامَ. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أَيْ لَا
تُشَبِّهُوا بِهِ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ قادر لا مثل له. وقد
تقدم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا
مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا
فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى ضَلَالَةِ
الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُنْتَظِمٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ وَعُدْمِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ آلِهَتِهِمْ.«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا»
أَيْ بَيَّنَ شَبَهًا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: (عَبْدًا مَمْلُوكًا) أَيْ
كَمَا لَا يَسْتَوِي عِنْدَكُمْ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ مِنْ أمره على شي
وَرَجُلٌ حُرٌّ قَدْ رُزِقَ رِزْقًا حَسَنًا فَكَذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ
الْأَصْنَامُ. فَالَّذِي هُوَ مِثَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَبْدٌ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ مَمْلُوكٌ لا يقدر على شي مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُسَخَّرٌ بِإِرَادَةِ سَيِّدِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ
أَنَّ الْعَبِيدَ كُلَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي
الْإِثْبَاتِ لَا تَقْتَضِي الشُّمُولَ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَإِنَّمَا تُفِيدُ وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَتْ بَعْدَ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ
مُضَافَةً إِلَى مَصْدَرٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ الشُّيُوعِيِّ، كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ
رَجُلًا وَلَا تُهِنْ
رَجُلًا، وَالْمَصْدَرُ كَإِعْتَاقِ
رَقَبَةٍ، فَأَيُّ رَجُلٍ أَعْتَقَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْخِطَابِ،
وَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا الْمَثَلُ
لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ
هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ مِنْ
عِبَادَتِهِ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى» وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا
حَسَنًا«الْمُؤْمِنُ. وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ من أهل (العلم «١»
والتأويل. قَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي
رُبَّمَا يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ مَوْلَاهُ أَسْرًا «٢» وَأَنْضَرَ وَجْهًا، وَهُوَ
لِسَيِّدِهِ ذَلِيلٌ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى ضَرْبًا لِلْمِثَالِ. أَيْ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ
وَشَأْنُ عَبِيدِكُمْ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ أَحْجَارًا مَوَاتًا شُرَكَاءَ لِلَّهِ
تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَسْمَعُ.
الثَّانِيَةُ- فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِمَّا قَبْلَهَا
نُقْصَانَ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنِ الْحُرِّ فِي الْمِلْكِ، وَأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِنْ مَلَكَ. قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الرِّقُّ يُنَافِي
الْمِلْكَ، فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْلِكُ إِلَّا أَنَّهُ نَاقِصُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ
لِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ
أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عِبَادَةُ
الْأَمْوَالِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَاتٍ، وَلَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ مَا
يَقْطَعُهُ عَنْ خِدْمَةِ سَيِّدِهِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ مَلَّكَهُ جَارِيَةً جَازَ
لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ أَرْبَعِينَ مِنَ
الْغَنَمِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ تَجِبْ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهَا
لِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ
مُسْتَقِرٍّ. وَالْعِرَاقِيُّ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ
الْجَارِيَةَ، وَالزَّكَاةُ فِي النِّصَابِ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ كَمَا
كَانَتْ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي كُتُبِ
الْخِلَافِ. وَأَدَلُّ دَلِيلٍ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:» اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ «٣» «فَسَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي
الرِّزْقِ وَالْخَلْقِ. وَقَالَ عليه السلام: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ
...» فَأَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى عَبْدَهُ
يَتَسَرَّى فِي مَالِهِ فَلَا يَعِيبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدًا لَهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَتَيْنِ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَرْتَجِعَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا
بِيَدِهِ وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَفْعَلُ الْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ مَا لَمْ
يَنْتَزِعْهُ سيده. والله أعلم.
(١). من ى.
(٢).
الأسر: الخلق.
(٣).
راجع ج ١٤ ص ٤٠.
الثَّالِثَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ بِيَدِ
سَيِّدِهِ، وَعَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا، مُعَوِّلًا عَلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:«لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ». قَالَ: فَظَاهِرُهُ يفيد أنه لا يقدر على شي
أَصْلًا، لَا عَلَى الْمِلْكِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ،
إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَاللَّهُ تعالى أعلم.
والرابعة- قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ فِي عَقِيدَتِهِ «١»: الرِّزْقُ مَا وَقَعَ
الِاغْتِذَاءُ بِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «٢»». وَ«أَنْفِقُوا «٣»
مِمَّا رَزَقْناكُمْ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:«جُعِلَ رِزْقِي
تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» وَقَوْلُهُ:«أَرْزَاقُ أُمَّتِي فِي سَنَابِكِ خَيْلِهَا
وَأَسِنَّةِ رِمَاحِهَا». فَالْغَنِيمَةُ كُلُّهَا رِزْقٌ، وَكُلُّ مَا صَحَّ بِهِ
الِانْتِفَاعُ فَهُوَ رِزْقٌ، وَهُوَ مَرَاتِبُ: أَعْلَاهَا مَا يُغَذِّي. وَقَدْ
حَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وُجُوهَ الِانْتِفَاعِ فِي قَوْلِهِ:«يَقُولُ ابْنُ
آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ
أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ». وَفِي مَعْنَى
اللِّبَاسِ يَدْخُلُ الرُّكُوبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَفِي أَلْسِنَةِ
الْمُحَدِّثِينَ: السَّمَاعُ رِزْقٌ، يَعْنُونَ سَمَاعَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ
صَحِيحٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا
حَسَنًا) هُوَ الْمُؤْمِنُ، يُطِيعُ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَالْكَافِرُ
مَا لَمْ يُنْفِقْ فِي الطَّاعَةِ صَارَ كَالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ
شَيْئًا.«هَلْ يَسْتَوُونَ» أَيْ لَا يَسْتَوُونَ، وَلَمْ يَقُلْ يَسْتَوِيَانِ
لِمَكَانِ«مَنْ» لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقِيلَ: إِنَّ«عَبْدًا
مَمْلُوكًا»،«وَمَنْ رَزَقْناهُ» أُرِيدَ بِهِمَا الشُّيُوعُ فِي الْجِنْسِ.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ
لِلْحَمْدِ دُونَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، إِذْ لَا نِعْمَةَ لِلْأَصْنَامِ
عَلَيْهِمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ فَتُحْمَدَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْحَمْدُ
الْكَامِلُ لِلَّهِ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْخَالِقُ.«بَلْ أَكْثَرُهُمْ» أَيْ
أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ.«لَا يَعْلَمُونَ» أَنَّ الْحَمْدَ لِي، وَجَمِيعَ
النِّعْمَةِ مِنِّي. وَذَكَرَ الْأَكْثَرُ وَهُوَ يُرِيدُ الْجَمِيعَ، فَهُوَ
خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ التَّعْمِيمَ. وَقِيلَ: أَيْ بَلْ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا
يَعْلَمُونَ، وذلك أن أكثرهم المشركون.
(١). العقيدة: اسم كتاب لابي منصور
الماتريدى، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة ٣٣٣ هـ. راجع كشف الظنون
وتاج التراجم في زبقات الحنيفة.
(٢).
راجع ج ١ ص ١٧٧.
(٣).
راجع ج ٢ ص ٢٦٥.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ
أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) هَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ
اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَلِلْوَثَنِ، فَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ
على شي هُوَ الْوَثَنُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى،
قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَبْكَمُ عَبْدٌ كَانَ
لِعُثْمَانَ رضي الله عنه، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَيَأْبَى،
وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عُثْمَانُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَثَلٌ لِأَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمَوْلًى لَهُ كَافِرٌ. وَقِيلَ: الْأَبْكَمُ أَبُو جَهْلٍ،
وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَنْسِيُّ، وَعَنْسٌ
(بِالنُّونِ) حَيٌّ مِنْ مَذْحِجٍ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي مَخْزُومٍ رَهْطِ
أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُعَذِّبُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُعَذِّبُ
أُمَّهُ سُمَيَّةَ، وَكَانَتْ مَوْلَاةً لِأَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ لَهَا ذَاتَ
يَوْمٍ: إِنَّمَا آمَنْتِ بِمُحَمَّدٍ لِأَنَّكِ تُحِبِّينَهُ لِجَمَالِهِ، ثُمَّ
طَعَنَهَا بِالرُّمْحِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ مَاتَ فِي
الْإِسْلَامِ، رَحِمَهَا اللَّهُ. مِنْ كِتَابِ النَّقَّاشِ وَغَيْرِهِ.
وَسَيَأْتِي هَذَا فِي آيَةِ الْإِكْرَاهِ مُبَيَّنًا «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ لَا يَنْطِقُ
بِخَيْرٍ. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أَيْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ
يُؤْذِيهِمْ وَيُؤْذِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي
هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ كَافِرًا قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي
النَّبِيَّ ﷺ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَبْكَمَ الْكَافِرُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ الْمُؤْمِنُ جُمْلَةً بِجُمْلَةٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ
حَسَنٌ لِأَنَّهُ يَعُمُّ. وَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا نُطْقَ لَهُ. وَقِيلَ
الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَقِيلَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. وَفَى
التفسير إن الأبكم ها هنا الْوَثَنُ. بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا
أَمْرَ، وَأَنَّ غَيْرَهُ يَنْقُلُهُ وَيَنْحِتُهُ فَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ.
وَاللَّهُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ، الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شي. وقيل:«وَهُوَ كَلٌّ
عَلى مَوْلاهُ» أَيْ ثِقْلٌ عَلَى وَلِيِّهِ وَقَرَابَتِهِ، وَوَبَالٌ عَلَى
صَاحِبِهِ وَابْنِ عَمِّهِ. وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى
مَنْ يَكْفُلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ
شَبَابِهِ ... إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شديد
(١). راجع ص ١٨٠ وما بعدها من هذ الجزء.
وَالْكَلُّ أَيْضًا الَّذِي لَا
وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. وَالْكَلُّ الْعَيَّالُ، وَالْجَمْعُ الْكُلُولُ،
يُقَالُ مِنْهُ: كل السكين كَلًّا أَيْ غَلُظَتْ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ.
(أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ«يُوَجِّهْهُ»
وَهُوَ خَطُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ أَيْنَمَا يُرْسِلْهُ صَاحِبُهُ لَا يَأْتِ
بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ وَلَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يَفْهَمُ
عَنْهُ. وقرا يحيى بن وثاب«أَيْنَما يُوَجِّهْهُ» عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ.
(وَرُوِيَ «١» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) أَيْضًا«تَوَجَّهَ» عَلَى الْخِطَابِ. (هَلْ
يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ. وَهُوَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أَيْ هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْأَبْكَمُ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعدل وهو على الصراط
المستقيم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ
غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ «٢» وَهَذَا مُتَّصِلٌ
بِقَوْلِهِ:«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» أَيْ شَرْعَ
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مِمَّنْ يُحِيطُ بِالْعَوَاقِبِ
وَالْمَصَالِحِ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تُحِيطُونَ بِهَا فَلِمَ
تَتَحَكَّمُونَ. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) وَتُجَازُونَ
فِيهَا بِأَعْمَالِكُمْ. وَالسَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ
الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ
فَيَمُوتُ الْخَلْقُ بِصَيْحَةٍ. وَاللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ
لَمَحَهُ لَمْحًا وَلَمَحَانًا. وَوَجْهُ التَّأْوِيلِ أَنَّ السَّاعَةَ لَمَّا
كَانَتْ آتِيَةً وَلَا بُدَّ جُعِلَتْ مِنَ الْقُرْبِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي لَمْحِ الْبَصَرِ،
وَإِنَّمَا وَصَفَ سُرْعَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا، أَيْ يَقُولُ
لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا مَثَّلَ بِلَمْحِ الْبَصَرِ لِأَنَّهُ
يَلْمَحُ السَّمَاءَ مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا السَّنَةُ
إِلَّا لَحْظَةٌ، وَشَبَهِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَلِكَ
لَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا.
وَنَراهُ قَرِيبًا «٣»». (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) لَيْسَ«أَوْ» لِلشَّكِّ بَلْ
لِلتَّمْثِيلِ بِأَيِّهِمَا أَرَادَ الْمُمَثِّلُ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِشَكِّ
الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ:«أَوْ» بِمَنْزِلَةِ بَلْ. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقدم «٤».
(١). من ى.
(٢).
راجع ج ٩ ص ١٧٧.
(٣).
راجع ج ١٨ ص ٢٨٣.
(٤).
راجع ج ١ ص ٢٢٤.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٨]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ذَكَرَ أَنَّ
مِنْ نِعَمِهِ أَنْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أَطْفَالًا لَا
عِلْمَ لَكُمْ بِشَيْءٍ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا- لَا تَعْلَمُونَ
شَيْئًا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ.
الثَّانِي- لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا قُضِيَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّعَادَةِ
وَالشَّقَاءِ. الثَّالِثُ- لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِكُمْ، وتم
الكلام، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ) أَيِ الَّتِي تَعْلَمُونَ بِهَا وَتُدْرِكُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ
جَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْبُطُونِ وَإِنَّمَا
أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُمْ، أَيْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
لِتَسْمَعُوا بِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْأَبْصَارَ لِتُبْصِرُوا بِهَا
آثَارَ صُنْعِهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَصِلُوا بِهَا إِلَى
مَعْرِفَتِهِ.«وَالْأَفْئِدَةَ» جَمْعُ الْفُؤَادِ نَحْوَ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ.
وَقَدْ قِيلَ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ:«وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ» إِثْبَاتُ
النُّطْقِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَإِذَا وُجِدَتْ
حَاسَّةُ السَّمْعِ وُجِدَ النُّطْقُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ
وَحَمْزَةُ«أُمَّهاتِكُمْ» هُنَا وَفِي النُّورِ «١» وَالزُّمَرِ «٢» وَالنَّجْمِ
«٣»، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَكَسَرَ
الْهَمْزَةَ وَفَتَحَ الْمِيمَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْإِتْبَاعِ.
الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ. وَأَصْلُ
الْأُمَّهَاتِ: أُمَّاتٌ، فَزِيدَتِ الْهَاءُ تَأْكِيدًا كَمَا زَادُوا هَاءً فِي
أَهْرَقْتُ الْمَاءَ وَأَصْلُهُ أَرَقْتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى
فِي«الْفَاتِحَةِ «٤»». (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَشْكُرُونَ نِعَمَهُ. الثَّانِي- يَعْنِي تُبْصِرُونَ آثَارَ
صَنْعَتِهِ، لِأَنَّ إِبْصَارَهَا يُؤَدِّي إلى الشكر.
[سورة
النحل (١٦): آية ٧٩]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
(١). راجع ج ١٢ ص ٣١١.
(٢).
راجع ج ١٥ ص ٢٣٤.
(٣).
راجع ج ١٧ ص ١٠٥. [.....]
(٤).
راجع ج ١ ص ١٤٨.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا
اللَّهُ) قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ
وَيَعْقُوبُ«تَرَوْا» بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. (مُسَخَّراتٍ) مُذَلَّلَاتٍ لِأَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ:«مُسَخَّراتٍ» مذللات لمنافعكم.
(فِي جَوِّ السَّماءِ) الْجَوُّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَضَافَ
الْجَوَّ إِلَى السَّمَاءِ لِارْتِفَاعِهِ عَنِ الأرض. وَفِي
قَوْلِهِ«مُسَخَّراتٍ» دَلِيلٌ عَلَى مُسَخِّرٍ سَخَّرَهَا ومدبر مكنها من التصرف.
(مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) فِي حَالِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ
وَالِاصْطِفَافِ. بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْتَبِرُونَ بِهَا عَلَى
وَحْدَانِيَّتِهِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أَيْ عَلَامَاتٍ وَعِبَرًا
وَدَلَالَاتٍ. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بِاللَّهِ وَبِمَا جاءت به رسلهم «١».
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا
تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٨٠)
فِيهِ عَشْرُ «٢» مَسَائِلَ:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ لَكُمْ) مَعْنَاهُ صَيَّرَ. وَكُلُّ مَا
عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَقْفٌ وَسَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا أَقَلَّكَ فَهُوَ
أَرْضٌ، وَكُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ جِهَاتِكَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا
انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْدِيدُ
نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي الْبُيُوتِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا
بُيُوتَ الْمُدُنِ وَهِيَ الَّتِي لِلْإِقَامَةِ الطَّوِيلَةِ. وَقَوْلُهُ:
(سَكَنًا) أَيْ تَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ،
وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ
عَلَى الْغَالِبِ. وَعَدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ
خَلَقَ الْعَبْدَ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خَلَقَ
وَأَرَادَ، لَوْ خَلَقَهُ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ،
وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ
بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَرَدَّدَهُ كَيْفَ وَأَيْنَ. وَالسَّكَنُ مَصْدَرٌ يُوصَفُ
بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بيوت القلة والرحلة وهى:
(١). في ج وو: رسلهم.
(٢).
اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
الثَّانِيَةُ- فَقَالَ (وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها) أَيْ مِنَ
الْأَنْطَاعِ وَالْأَدَمِ.» بُيُوتًا«يَعْنِي الْخِيَامَ وَالْقِبَابَ يَخِفُّ
عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي الْأَسْفَارِ. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) الظَّعْنُ: سَيْرُ الْبَادِيَةِ
فِي الِانْتِجَاعِ «١» وَالتَّحَوُّلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ
قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
ظَعَنَ الَّذِينَ فِرَاقُهُمْ
أَتَوَقَّعُ ... وَجَرَى بِبَيْنِهِمُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ
وَالظَّعْنُ الْهَوْدَجُ أَيْضًا،
قَالَ:
أَلَا هَلْ هَاجَكَ الْأَظْعَانُ
إِذْ بَانُوا ... وَإِذْ جَادَتْ بِوَشْكِ الْبَيْنِ غِرْبَانُ
وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ
وَفَتْحِهَا كَالشَّعْرِ وَالشَّعَرِ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ (به «٢»
بُيُوتَ الْأَدَمِ وَبُيُوتَ الشَّعْرِ وَبُيُوتَ الصُّوفِ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنَ
الْجُلُودِ لِكَوْنِهَا ثَابِتَةً فِيهَا، نَحَا إِلَى ذَلِكَ ابْنُ سَلَّامٍ.
وَهُوَ احْتِمَالُ حَسَنٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ» وَمِنْ أَصْوافِها«ابْتِدَاءُ
كَلَامٍ، كَأَنَّهُ قَالَ جَعَلَ أَثَاثًا، يُرِيدُ الْمَلَابِسَ وَالْوِطَاءَ،
وَغَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ
بَانُوا ... بِذِي الزِّيِّ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِقَوْلِهِ» مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ«بُيُوتَ الْأَدَمِ فَقَطْ كَمَا
قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا. وَيَكُونُ قَوْلُهُ» وَمِنْ أَصْوافِها«عَطْفًا عَلَى
قَوْلِهِ» مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ«أَيْ جَعَلَ بُيُوتًا أَيْضًا. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ:» وَهَذَا أَمْرٌ انْتَشَرَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَعَزَبَتْ
عَنْهُ بِلَادُنَا، فَلَا تُضْرَبُ الْأَخْبِيَةُ عِنْدَنَا إِلَّا مِنَ
الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ،
وَنَاهِيكَ مِنْ أَدَمِ الطَّائِفِ غَلَاءٌ فِي الْقِيمَةِ، وَاعْتِلَاءٌ فِي
الصَّنْعَةِ، وَحُسْنًا فِي الْبَشَرَةِ، وَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ ﷺ تَرَفًا وَلَا
رَآهُ سَرَفًا، لِأَنَّهُ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ نِعْمَتِهِ
وَأَذِنَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَظَهَرَتْ وُجُوهُ مَنْفَعَتِهِ فِي الِاكْتِنَانِ
وَالِاسْتِظْلَالِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْهُ جِنْسُ
الْإِنْسَانِ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا جَرَى أَنِّي زُرْتُ بَعْضَ الْمُتَزَهِّدِينَ
مِنَ الْغَافِلِينَ مَعَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي
خِبَاءِ كَتَّانٍ فَعَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْمُحَدِّثُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى
مَنْزِلِهِ ضَيْفًا، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرُّ
وَالْبَيْتُ أَرْفَقُ بِكَ وَأَطْيَبُ لِنَفْسِي فِيكَ، فَقَالَ: هَذَا الْخِبَاءُ
لنا كثير، وكان
(١). النجعة والانتجاع: طلب الكلا ومساقط
الغيث.
(٢).
من ج وى.
فِي صُنْعِنَا مِنَ الْحَقِيرِ،
فَقُلْتُ: لَيْسَ كَمَا زَعَمْتَ فَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ رَئِيسُ
الزُّهَّادِ قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ طَائِفِيٍّ يُسَافِرُ مَعَهَا وَيَسْتَظِلُّ
بِهَا، فَبُهِتَ، وَرَأَيْتُهُ عَلَى مَنْزِلَةٍ مِنَ الْعِيِّ فَتَرَكْتُهُ مَعَ
صاحبي وخرجت عنه. الثالثة-: (. مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أَذِنَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِصُوفِ الْغَنَمِ وَوَبَرِ الْإِبِلِ
وَشَعْرِ الْمَعْزِ، كَمَا أَذِنَ فِي الْأَعْظَمِ، وَهُوَ ذَبْحُهَا وَأَكْلُ
لُحُومِهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي
بِلَادِ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مَا
أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَخُوطِبُوا فِيمَا عَرَفُوا بِمَا فَهِمُوا. وَمَا
قَامَ مَقَامَ هَذِهِ وَنَابَ مَنَابَهَا فَيَدْخُلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ
وَالنِّعْمَةِ مَدْخَلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَيُنَزِّلُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «١»» فَخَاطَبَهُمْ بِالْبَرَدِ
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ، وَسَكَتَ عَنْ
ذِكْرِ الثَّلْجِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي
الصِّفَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ ﷺ مَعًا فِي
التَّطْهِيرِ فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ». قال ابن
عباس: الثلج شي أَبْيَضُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ.
وَقِيلَ: إِنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِنَّمَا كَانَ إِعْرَاضًا
عَنِ التَّرَفِ، إِذْ مَلْبَسُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ إِنَّمَا هُوَ
الصُّوفُ«وَهَذَا فِيهِ نظر، فإنه سبحانه يقول:» يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ«حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي»
الْأَعْرَافِ «٢» «وَقَالَ هُنَا:» وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ«فَأَشَارَ إِلَى
الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فِي لَفْظَةِ» سَرابِيلَ«وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ» أَثاثًا
«قَالَ الْخَلِيلُ: مَتَاعًا
مُنْضَمًّا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، مِنْ أَثَّ إِذَا كَثُرَ. قَالَ:
وَفَرْعٌ يَزِينُ المتن أسود فاحم
... أثيث كقنو النخلة المتعثكل «٣»
ابن عباس:» أَثاثًا" ثيابا.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَصْوَافِ
وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا:
صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز
(١). راجع ج ١٢ ص ٢٨٩.
(٢).
راجع ج ٧ ص ١٨٢.
(٣).
البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين
الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم):
العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.
الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى كُلِّ
حَالٍ، وَيُغْسَلُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ عَلِقَ بِهِ وَسَخٌ، وَكَذَلِكَ رَوَتْ
أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:» لَا بَأْسَ بِجِلْدِ
الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ «١» «لِأَنَّهُ
مِمَّا لَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ، سَوَاءٌ كَانَ شَعْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ
لَا، كَشَعْرِ ابْنِ آدَمَ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كُلُّهُ، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنَّهُ زَادَ عَلَيْنَا فَقَالَ: الْقَرْنُ
وَالسِّنُّ وَالْعَظْمُ مِثْلُ الشَّعْرِ، قَالَ: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ
كُلَّهَا لَا رُوحَ فِيهَا لَا تَنْجُسُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الشُّعُورَ
كُلَّهَا نَجِسَةٌ وَلَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ
ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى- طَاهِرَةٌ لَا تَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.
الثَّانِيَةُ- تَنْجُسُ. الثَّالِثَةُ- الْفَرْقُ بَيْنَ شَعْرِ ابْنِ آدَمَ
وَغَيْرِهِ، فَشَعْرُ ابْنِ آدَمَ طَاهِرٌ وَمَا عَدَاهُ نَجِسٌ. وَدَلِيلُنَا
عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَمِنْ أَصْوافِها«الْآيَةَ. فَمَنَّ عَلَيْنَا
بِأَنْ جَعَلَ لَنَا الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَلَمْ يخصي شَعْرَ الْمَيْتَةِ مِنَ
الْمُذَكَّاةِ، فَهُوَ عُمُومٌ إِلَّا أَنْ ٠ يَمْنَعَ مِنْهُ دَلِيلٌ. وَأَيْضًا
فَإِنَّ الْأَصْلَ كَوْنُهَا طَاهِرَةً قَبْلَ الْمَوْتِ بِإِجْمَاعٍ، فَمَنْ
زَعَمَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى نَجَاسَةٍ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. فَإِنْ قِيلَ
قَوْلُهُ:» حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «٢» «وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ
الْجُمْلَةِ. قُلْنَا: نَخُصُّهُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ
فِي ذِكْرِ الصُّوفِ، وَلَيْسَ فِي آيَتِكُمْ ذِكْرُهُ صَرِيحًا، فَكَانَ
دَلِيلُنَا أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ عَوَّلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
أَبُو إِسْحَاقَ إِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ
جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ خِلْقَةً، فَهُوَ يَنْمِي بِنَمَائِهِ
وَيَتَنَجَّسُ بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى
الْحَيَاةِ، لِأَنَّ النَّبَاتَ يَنْمِي وَلَيْسَ بِحَيٍّ. وَإِذَا عَوَّلُوا
عَلَى النَّمَاءِ الْمُتَّصِلِ لِمَا عَلَى الْحَيَوَانِ عَوَّلْنَا نَحْنُ عَلَى
الْإِبَانَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِحْسَاسِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى
عَدَمِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّونَ فِي الْعَظْمِ
وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ أَنَّهُ مِثْلُ الشَّعْرِ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَنَا أَنَّ
ذَلِكَ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ- هَلْ تُلْحَقُ أَطْرَافُ الْقُرُونِ وَالْأَظْلَافِ
بِأُصُولِهَا أَوْ بِالشَّعْرِ، قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ الشَّعْرِيُّ مِنَ الرِّيشِ
حُكْمُهُ حُكْمُ الشَّعْرِ، وَالْعَظْمِيُّ مِنْهُ حُكْمُهُ حُكْمُهُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ ﷺ:» لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ«وَهَذَا
عَامٌّ فِيهَا وَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَمِنَ
الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى:» قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ «٣» «،
(١). والحديث المشهور» أيها أهاب دبغ قد
طهر" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(٢).
راجع ج ٦ ص ٤٧.
(٣).
راجع ج ١٥ ص ٥٨.
وَقَالَ تَعَالَى:» وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «١» «، وقال:» فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا «٢» «،
وقال:» أَإِذا كُنَّا عِظامًا نَخِرَةً «٣» «فَالْأَصْلُ هِيَ الْعِظَامُ،
وَالرُّوحُ وَالْحَيَاةُ فِيهَا كَمَا فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ. وَفِي حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٌ:» لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ
وَلَا عَصَبٍ«. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ:» أَلَا انْتَفَعْتُمْ
بِجِلْدِهَا«؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ:»
إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَالْعَظْمُ لَا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة
عظم الحمل «٤» الرَّضِيعِ وَالْجَدْيِ وَالطَّيْرِ، وَعَظْمُ الْكَبِيرِ يُشْوَى
وَيُؤْكَلُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ،
وَمَا كَانَ طَاهِرًا بِالْحَيَاةِ وَيُسْتَبَاحُ بِالذَّكَاةِ يَنْجُسُ
بِالْمَوْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى- (مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعامِ) عَامٌّ فِي جِلْدِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِ
الْمَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ تُدْبَغْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ نَجِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ
الْفُقَهَاءِ جَوَازُ بَيْعِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ إِلَّا عَنِ
اللَّيْثِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَعْنِي مِنَ الْفُقَهَاءِ أَئِمَّةَ الْفَتْوَى
بِالْأَمْصَارِ بَعْدَ التَّابِعِينَ، وَأَمَّا ابْنُ شِهَابٍ فَذَلِكَ عَنْهُ
صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلٌ أَبَاهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ
عَنْهُمَا خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ
الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يُونُسَ
وَعُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَدِيثَ بَقِيَّةَ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ،
وَحَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيِّ
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: هَذِهِ
أَسَانِيدُ صِحَاحٌ. السَّادِسَةُ «٥» - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جِلْدِ
الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا، فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ مَا يُشْبِهُ مَذْهَبَ ابْنِ شِهَابٍ فِي ذَلِكَ.
وَذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ
أَيْضًا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ
وَاللَّيْثِ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ، وَهُوَ أَنَّ الدِّبَاغَ لَا يُطَهِّرُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ، وَلَكِنْ
يُبِيحُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ، وَلَا يُصَلَّى
عَلَيْهِ وَلَا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم:
(١). راجع ج ٣ ص ٢٨٨.
(٢).
راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
(٣).
راجع ج ٩١ ص ١٨٨. [.....]
(٤).
في أ، ج، ح، و: الجمل.
(٥).
اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
مَنِ اغْتَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ
غَيْرَ مَدْبُوغٍ فَأَتْلَفَهُ كان عليه قيمته. وحكى أذلك قَوْلُ مَالِكٍ.
وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: مَنِ اغْتَصَبَ لِرَجُلٍ جِلْدَ
مَيْتَةٍ غَيْرَ مدبوغ فلا شي عَلَيْهِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ
لِمَجُوسِيٍّ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ
جَوَازَ بَيْعِهِ، وَهَذَا فِي جِلْدِ كُلِّ مَيْتَةٍ إِلَّا الْخِنْزِيرَ
وَحْدَهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِ، فَالدِّبَاغُ أَوْلَى. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: وَكُلُّ جِلْدٍ ذَكِيٍّ فَجَائِزٌ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوُضُوءِ
وَغَيْرِهِ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ فِي إِنَاءِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ
بَعْدَ الدِّبَاغِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَمَرَّةً قَالَ: إِنَّهُ لَمْ
يَكْرَهْهُ إِلَّا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ
وَبَيْعُهُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا
أَكْثَرُ الْمَدَنِيِّينَ فَعَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَإِجَازَتِهِ، لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:«أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ». وَعَلَى هَذَا
أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ،.
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ وَهْبٍ. السَّابِعَةُ- ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ رضي الله عنه إِلَى أَنَّهُ لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شي وَإِنْ
دُبِغَتْ، لِأَنَّهَا كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ. وَالْأَخْبَارُ بِالِانْتِفَاعِ
بَعْدَ الدِّبَاغِ تَرُدُّ قَوْلَهُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُكَيْمٍ- رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ- قَالَ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابَ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ:«أَلَّا تَسْتَمْتِعُوا
مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ». وَفِي رِوَايَةٍ:«قَبْلَ مَوْتِهِ
بِشَهْرٍ «١»». رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُكَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ
إِلَيْهِمْ .. قَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ، فَضَعَّفَهُ وَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا يَقُولُ
حَدَّثَنِي الْأَشْيَاخُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاحْتَمَلَ
أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَعَائِشَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ«أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ
بِإِهَابٍ» قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِذَا احْتَمَلَ أَلَّا يَكُونَ مخالف أفليس
لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ مُخَالِفًا، وَعَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعْمِلَ الْخَبَرَيْنِ
مَا أَمْكَنَ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ
النَّبِيِّ ﷺ بِشَهْرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةُ
مَيْمُونَةَ وَسَمَاعُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ«أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ
طَهُرَ» قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمْعَةٍ أَوْ دُونَ جُمْعَةٍ، والله أعلم.
(١). لفظة«بشهر» ساقطة من سنن أبى داود.
الثَّامِنَةُ- الْمَشْهُورُ
عِنْدَنَا أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ وَلَا
يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ
الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إِلَّا جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ. وَرَوَى مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جِلْدِ
الْخِنْزِيرِ إِذَا دُبِغَ فَكَرِهَهُ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَسَمِعْتُ
سُحْنُونًا يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:»
أَيُّمَا مَسْكٍ «١» دُبِغَ فَقَدْ
طَهُرَ«. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ
عُمُومَ الْجُلُودِ الْمَعْهُودِ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ
فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ الِانْتِفَاعُ
بِجِلْدِهِ، إِذْ لَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ. وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا
قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: إِنَّ الْإِهَابَ جِلْدُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
وَالْإِبِلِ، وَمَا عَدَاهُ فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: جِلْدٌ لَا إِهَابٌ. قُلْتُ:
وَجِلْدُ الْكَلْبِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَيْضًا غَيْرُ مَعْهُودٍ
الِانْتِفَاعُ بِهِ فَلَا يَطْهُرُ، وَقَدْ قَالَ ﷺ:» أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ
السِّبَاعِ حَرَامٌ«فَلَيْسَتِ الذَّكَاةُ فِيهَا ذَكَاةٌ، كَمَا أَنَّهَا
لَيْسَتْ فِي الْخِنْزِيرِ ذَكَاةٌ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عن المقدام بن معد يكرب
قَالَ:» نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَمَيَاثِرِ
النُّمُورِ «٢». التَّاسِعَةُ- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الدِّبَاغِ الَّتِي
تَطْهُرُ بِهِ جُلُودُ الْمَيْتَةِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وهو المشهور
من مذهبه: كل شي دَبَغَ الْجِلْدَ مِنْ مِلْحٍ أَوْ قَرَظٍ أَوْ شَبٍّ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ فَقَدْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- هَذَا، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ إِلَّا الشَّبُّ
وَالْقَرَظُ، لِأَنَّهُ الدِّبَاغُ الْمَعْهُودُ عَلَى عَهْدِ النبي صلى اله
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَ الْخَطَّابِيُّ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ مَرَّ
بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ
الْحِصَانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا»
قَالُوا. إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«يُطَهِّرُهَا الماء والقرظ».
(١). المسك (بالفتح وسكون السين): الجلد. وخص
بعضهم به جلد السخلة، ثم كثر صار كل جلد مسكا، والجمع مسك ومسوك.
(٢).
أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لأنه
زي العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود
محشوة تجعل على الرحل.
الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَثاثًا الْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ، وَاحِدُهَا أَثَاثَةٌ، هَذَا قَوْلُ أَبِي
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: الْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ،
وَجَمْعُهُ آثَّةٌ وَأُثُثٌ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْأَثَاثُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ
الْمَالِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ مِنَ
الْكَثْرَةِ وَاجْتِمَاعِ بَعْضِ الْمَتَاعِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَكْثُرَ،
وَمِنْهُ شَعْرٌ أَثِيثٌ أَيْ كَثِيرٌ. وَأَثَّ شَعْرُ فُلَانٍ يَأَثُّ أَثًّا
إِذَا كَثُرَ وَالْتَفَّ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَفَرْعٌ يَزِينُ المتن أسود فاحم
... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وَقِيلَ: الْأَثَاثُ مَا يُلْبَسُ
وَيُفْتَرَشُ. وَقَدْ تَأَثَّثْتُ إِذَا اتَّخَذْتُ أَثَاثًا. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنه«أَثاثًا»«مَالًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحِينِ «١»،
وَهُوَ هُنَا وَقْتٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ كُلِّ إِنْسَانٍ، إِمَّا
بِمَوْتِهِ وَإِمَّا بِفَقْدِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَثَاثٌ. وَمِنْ
هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ
بَانُوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث
[سورة
النحل (١٦): آية ٨١]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا
خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ظِلالًا) الظِّلَالُ: كُلُّ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ مِنَ
الْبُيُوتِ وَالشَّجَرِ. وَقَوْلُهُ» مِمَّا خَلَقَ" يَعُمُّ جَمِيعَ
الْأَشْخَاصِ الْمُظِلَّةِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (أَكْنانًا) الأكنان:
جمح كِنٍّ، وَهُوَ الْحَافِظُ مِنَ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ
هُنَا الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ، جَعَلَهَا الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون
بها ويعتزلون عَنِ الْخَلْقِ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ
فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِي
.. الْحَدِيثَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
(١). راجع ج ١ ص ٣٢١ وج ٩ ص ٣٦٠ فما بعد.
مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا هَارِبًا
مِنْ قَوْمِهِ فَارًّا بِدِينِهِ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى لَحِقَا بغار
في جبل ثور، فمكنا «١» فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا فِيهِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ «٢» لَقِنٌ فَيُدْلِجُ
مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مع قريش بمكة كبائت فيسمع أَمْرًا
يُكَادَانِ «٣» بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ
يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى
أَبِي بَكْرٍ مَنْحَةً «٤» مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حَتَّى تَذْهَبَ
سَاعَةً مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مَنْحَتِهِمَا
وَرَضِيفِهِمَا «٥» حَتَّى يَنْعَقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغِلْسٍ،
يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ من تلك الليالي الثلاث ... وذكر الحديث.
انفراد بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) يَعْنِي الْقُمُصَ، وَاحِدُهَا سِرْبَالٌ.
(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يَعْنِي الدُّرُوعَ الَّتِي تَقِي النَّاسَ
فِي الْحَرْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ
لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
الرَّابِعَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ:
كَيْفَ قَالَ«وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا» ولم يذكر السهل،
وقال:«تَقِيكُمُ الْحَرَّ» ولم يذكر البرد؟ فالجواب أنهم كَانُوا أَصْحَابَ
جِبَالٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ سَهْلٍ، وَكَانُوا أَهْلَ حَرٍّ وَلَمْ يَكُونُوا
أَهْلَ بَرْدٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ نِعَمَهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِمْ كَمَا
خَصَّهُمْ بِذِكْرِ الصُّوفِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ
وَلَا الثَّلْجَ- كَمَا تَقَدَّمَ- فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبِلَادِهِمْ «٦»،
قَالَ مَعْنَاهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وأيضا: فذكر أحدهما يدال
عَلَى الْآخَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ
أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا
أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
الْخَامِسَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) دَلِيلٌ عَلَى
اتِّخَاذِ الْعِبَادِ عُدَّةَ الْجِهَادِ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى قِتَالِ
الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ تقاة
(١). في ج وو: مكثا.
(٢).
أي حاذق سريع الفهم، لقن حسن التلقن لما يسمعه.
(٣).
من الكيد، أي يطلب بهما ما فيه المكروه.
(٤).
أي شاة تحلب أناء بالغداة وأثناء بالعشي.
(٥).
الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمة. وينعق: يصيح.
(٦).
يقول محققة: ذكر الله لهم تلك النعم وهى دالة على ما يقابلها على سبيل الاكتفاء.
والقطنم مشهور باليمن ومنه الثياب السحولية وكذا صحار ومنه كفن عبية السلام
فيثوبين صحاريين. وكذا الثلج في جبال ببلاد العرب.
الْجِرَاحَةِ وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ
الشَّهَادَةَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ «١» أَنْ يَطْلُبَهَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ
لِلْحُتُوفِ وَلِلطَّعْنِ بِالسِّنَانِ وَلِلضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ، وَلَكِنَّهُ
يَلْبَسُ لَأْمَةَ «٢» حَرْبٍ لِتَكُونَ لَهُ قُوَّةً عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِ،
وَيُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَفْعَلُ اللَّهُ
بَعْدُ مَا يَشَاءُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ
وَحُمَيْدٌ«تَتِمُّ» بِتَاءَيْنِ،«نِعْمَتُهُ» رَفْعًا عَلَى أَنَّهَا الْفَاعِلُ.
الْبَاقُونَ«يُتِمُّ» بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى أَنَّ الله هو يتمها. و
«تُسْلِمُونَ» قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ«تَسْلَمُونَ» بِفَتْحِ
التَّاءِ وَاللَّامِ، أَيْ تَسْلَمُونَ مِنَ الْجِرَاحِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ،
رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ شَهْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. الْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَمَعْنَاهُ تَسْتَسْلِمُونَ
وَتَنْقَادُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعَمِهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، لِأَنَّ مَا
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ
من السلامة من الجراح.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٢]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ
تَوَلَّوْا) أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ والاستدلال والايمان. (فَإِنَّما
عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَأَمَّا
الْهِدَايَةُ فإلينا.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٣]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْرِفُونَ
نِعْمَتَ اللَّهِ) قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ، أي يعرفون بوته«ثُمَّ
يُنْكِرُونَها» وَيُكَذِّبُونَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ مَا عَدَّدَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ النِّعَمِ، أَيْ يَعْرِفُونَ أَنَّهَا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَيُنْكِرُونَهَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ وَرِثُوا ذَلِكَ عَنْ
آبَائِهِمْ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ مَا
أَصَبْتُ كَذَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ النَّفْعَ وَالضُّرَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا عَرَّفَهُمْ بِهَذِهِ
النِّعَمِ كُلِّهَا عَرَفُوهَا وَقَالُوا: نَعَمْ، هِيَ كُلُّهَا نِعَمٌ مِنَ
الله، ولكنها (هامش)
(١). في ى: على العبد.
(٢).
لامة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفا. في ى: حربه. [.....]
بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا. وَقِيلَ:
يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِتَقَلُّبِهِمْ فِيهَا، وَيُنْكِرُونَهَا بِتَرْكِ
الشُّكْرِ عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ سَادِسًا- يَعْرِفُونَهَا فِي الشِّدَّةِ
وَيُنْكِرُونَهَا فِي الرَّخَاءِ. وَيَحْتَمِلُ سَابِعًا- يَعْرِفُونَهَا
بِأَقْوَالِهِمْ وَيُنْكِرُونَهَا بِأَفْعَالِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ ثَامِنًا-
يَعْرِفُونَهَا بِقُلُوبِهِمْ وَيَجْحَدُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، نَظِيرُهَا»
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «١»«. (وَأَكْثَرُهُمُ
الْكافِرُونَ) يعنى جميعهم. حسب ما تقدم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٤]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ
نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) نَظِيرُهُ:» فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ«وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) أَيْ فِي الِاعْتِذَارِ وَالْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: «وَلَا يُؤْذَنُ
لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» «٣» وَذَلِكَ حِينَ تُطْبِقُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ» الْحِجْرِ «٤» " وَيَأْتِي. (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) يَعْنِي يُسْتَرْضَوْنَ، أَيْ لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا
رَبَّهُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، وَلَا يُتْرَكُونَ
إِلَى رُجُوعِ الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْعَتْبِ
وَهِيَ الْمَوْجِدَةُ، يُقَالُ: عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ إِذَا وَجَدَ عَلَيْهِ،
فَإِذَا فَاوَضَهُ مَا عَتَبَ عَلَيْهِ فِيهِ قِيلَ عَاتَبَهُ، فَإِذَا رَجَعَ
إِلَى مَسَرَّتِكَ فَقَدْ أَعْتَبَ، وَالِاسْمُ الْعُتْبَى وَهُوَ رُجُوعُ
الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يرضى العاتب، قال الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ
النَّابِغَةُ:
فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا فَعَبْدًا
ظَلَمْتَهُ ... وَإِنْ كُنْتَ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكَ يُعْتِبُ
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٥]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ أَشْرَكُوا. (الْعَذابَ) أَيْ عَذَابَ جَهَنَّمَ
بِالدُّخُولِ فِيهَا. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أَيْ لَا
يُمْهَلُونَ، إِذْ لا توبة لهم ثم.
(١). راجع ج ١٣ ص ١٥٦.
(٢).
راجع ج ٥ ص ١٩٧.
(٣).
راجع ج ١٩ ص ١٦٤.
(٤).
راجع ج ٣٠ ص فما بعد من هذا الجزء.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا
إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ
كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ
أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أَيْ أَصْنَامَهُمْ وَأَوْثَانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَعْبُودِيهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ حَتَّى
يُورِدُوهُمُ النَّارَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:«مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا
فَلْيَتْبَعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ
مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ» الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «١»،
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ:«فَيُمَثَّلُ لِصَاحِبِ
الصَّلِيبِ صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصَاوِيرِ تَصَاوِيرُهُ وَلِصَاحِبِ
النَّارِ نَارُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
«٢». (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ) أَيِ الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ لَكَ شُرَكَاءُ. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ
الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أَيْ أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الْآلِهَةُ الْقَوْلَ،
أَيْ نَطَقَتْ بِتَكْذِيبِ مَنْ عَبَدَهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آلِهَةً، وَلَا
أمرتهم بعبادتها، في، نطق اللَّهُ الْأَصْنَامَ حَتَّى تَظْهَرَ عِنْدَ ذَلِكَ
فَضِيحَةُ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ
عَبَدُوهُمْ. (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) يَعْنِي
الْمُشْرِكِينَ، أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِعَذَابِهِ وَخَضَعُوا لِعِزِّهِ. وَقِيلَ:
اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ. (وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ زَالَ عَنْهُمْ مَا زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ وَمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ مِنْ شفاعة آلهتهم.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٨]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ
(٨٨)
(١). ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن أبى
هريرة. راجع كتاب الايمان باب معرفة طريق الرؤية.
(٢).
راجع الحديث في سنن الترمذي في باب صفة الجنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَقَارِبُ أَنْيَابُهَا كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ،
وَحَيَّاتٌ مِثْلُ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ، وَأَفَاعِي كَأَنَّهَا الْبَخَاتِيُّ «١»
تَضْرِبُهُمْ، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَخْرُجُونَ مِنَ
النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ فَيُبَادِرُونَ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ إِلَى
النَّارِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى زِدْنَا الْقَادَةَ عَذَابًا فَوْقَ السَّفَلَةِ،
فَأَحَدُ الْعَذَابَيْنِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَالْعَذَابُ الْآخَرِ عَلَى صَدِّهِمْ.
(بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) فِي الدُّنْيَا مِنَ الكفر والمعصية.
[سورة
النحل (١٦): آية ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وَهُمُ
الْأَنْبِيَاءُ شُهَدَاءُ عَلَى أُمَمِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُمْ قَدْ
بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ شَهِيدٌ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَفِيهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ
أَئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ هُمْ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي-
أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ حَفِظَ اللَّهُ بِهِمْ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا لَمْ تَكُنْ فَتْرَةً إِلَّا وَفِيهَا مَنْ يُوَحِّدُ
اللَّهَ، كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بن عمرو ابن نُفَيْلٍ الَّذِي قَالَ
فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ:» يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ«، وَسَطِيحٍ «٢»، وَوَرَقَةَ ابن
نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ:» رَأَيْتُهُ يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ
الْجَنَّةِ«. فَهَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ مِثْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ زمانهم
وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله:» وَجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هؤُلاءِ«تقدم في
البقرة والنساء «٣». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ) نَظِيرُهُ:» مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «٤» "
وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تبيانا للحلال
والحرام.
(١). البخاتي: جمال طوال الأعناق.
(٢).
هو كاهن بنى ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه: ربيع بن ربيعة. (راجع سيرة ابن
هشام ص ٩ طبع أوربا).
(٣).
راجع ج ٣ ص ١٥٤ وج ٥ ص ١٩٧.
(٤).
راجع ج ٦ ص ٤١٩.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) رُوِيَ
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَرَأْتُهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَتَعَجَّبَ فَقَالَ:
يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ
بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَفِي حَدِيثٍ- إِنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ:
إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الْآيَةَ، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إِنَّهُ لَا
يَأْمُرُ إِلَّا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَرَأَ النَّبِيُّ
ﷺ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ» إلى آخرها، فقال: يا بن أَخِي أَعِدْ! فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ، وَإِنَّ
أَصْلَهُ لَمُورِقٌ، وَأَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ بَشَرَ!.
وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ هُوَ الْقَارِئُ. قَالَ
عُثْمَانُ: مَا أَسْلَمْتُ ابْتِدَاءً إِلَّا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنَا عِنْدَهُ فَاسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي
قَلْبِي، فَقَرَأَتْهَا عَلَى الْوَلِيدِ بن المغيرة فقال: يا بن أَخِي أَعِدْ!
فَأَعَدْتُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ، ... وَذَكَرَ تَمَامَ
الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ
لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ، وَلِشَرٍّ يُجْتَنَبُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ قَالَ: يُقَالُ
زَكَاةُ الْعَدْلِ الْإِحْسَانُ، وَزَكَاةُ الْقُدْرَةِ الْعَفْوُ، وَزَكَاةُ
الْغِنَى الْمَعْرُوفُ، وَزَكَاةُ الْجَاهِ كَتْبُ الرَّجُلِ إِلَى إِخْوَانِهِ.
الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ،
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ
أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْفَرْضُ، وَالْإِحْسَانُ
النَّافِلَةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْعَدْلُ ها هنا اسْتِوَاءُ
السَّرِيرَةِ، وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أَفْضَلُ مِنَ
الْعَلَانِيَةِ. عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ،
وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْعَدْلُ هُوَ كُلُّ مَفْرُوضٍ،
مِنْ عَقَائِدَ وَشَرَائِعَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكُ الظُّلْمِ
وَالْإِنْصَافُ، وَإِعْطَاءُ الْحَقِّ. وَالْإِحْسَانُ هُوَ فِعْلُ كُلِّ
مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ، فَمِنَ الْأَشْيَاءِ مَا هُوَ كُلُّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَمِنْهَا
مَا هُوَ فَرْضٌ، إِلَّا أَنَّ حَدَّ الْإِجْزَاءِ مِنْهُ دَاخِلٌ فِي الْعَدْلِ،
وَالتَّكْمِيلِ الزَّائِدِ عَلَى الْإِجْزَاءِ دَاخِلٌ فِي الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ هِيَ
الْإِسْلَامُ حَسْبَمَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ
جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ، وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ التَّكْمِيلَاتُ
وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ ﷺ فِي
حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ بِقَوْلِهِ:» أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ«. فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْفَرَائِضَ مُكَمَّلَةً. وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ إِيثَارُ حَقِّهِ
تَعَالَى عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَقْدِيمُ رِضَاهُ عَلَى هَوَاهُ،
وَالِاجْتِنَابُ لِلزَّوَاجِرِ وَالِامْتِثَالُ لِلْأَوَامِرِ. وَأَمَّا الْعَدْلُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَمَنْعُهَا مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:» وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى «١» " وَعُزُوبُ «٢» الْأَطْمَاعِ
عَنِ الْأَتْبَاعِ، وَلُزُومُ الْقَنَاعَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وَمَعْنًى. وَأَمَّا
الْعَدْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فَبَذْلُ النَّصِيحَةِ، وَتَرْكُ
الْخِيَانَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ لَهُمْ بِكُلِّ
وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مِنْكَ إِسَاءَةٌ إِلَى أَحَدٍ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ لَا
فِي سِرٍّ وَلَا فِي عَلَنٍ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنْهُمْ مِنَ
الْبَلْوَى، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْإِنْصَافُ وَتَرْكُ الْأَذَى. قُلْتُ: هَذَا
التَّفْصِيلُ فِي الْعَدْلِ حَسَنٌ وَعَدْلٌ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَقَدْ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: الْإِحْسَانُ مَصْدَرُ أَحْسَنَ يُحْسِنُ إِحْسَانًا. وَيُقَالُ
عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِكَ: أَحْسَنْتُ
كَذَا، أي حسنته وكلمته، وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنْ حَسَّنَ الشَّيْءَ.
وَثَانِيهُمَا مُتَعَدٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ، كَقَوْلِكَ: أَحْسَنْتُ إِلَى فُلَانٍ،
أَيْ أَوْصَلْتُ إِلَيْهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ مُرَادٌ بِالْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ
إِحْسَانَ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى أَنَّ الطَّائِرَ فِي سِجْنِكَ
وَالسِّنَّوْرَ فِي دَارِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُقَصِّرَ تَعَهُّدَهُ
بِإِحْسَانِكَ، وَهُوَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ إِحْسَانِهِمْ، وَمِنْهُ
الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ وَالْفَضْلُ وَالْمِنَنُ. وَهُوَ فِي حديث جبريل
(١). راجع ج ١٩ ص ٢٠٥.
(٢).
في ى: عزوف.
بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا
بِالثَّانِي، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى إِتْقَانِ الْعِبَادَةِ
وَمُرَاعَاتِهَا بِأَدَائِهَا الْمُصَحَّحَةِ وَالْمُكَمَّلَةِ، وَمُرَاقَبَةِ
الْحَقِّ فِيهَا وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ حَالَةَ الشُّرُوعِ
وَحَالَةَ الِاسْتِمْرَارِ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ
كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». وَأَرْبَابُ
الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى حَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا غَالِبٌ
عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ
أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي
الصَّلَاةِ». وَثَانِيهُمَا- لَا تَنْتَهِي إِلَى هَذَا، لَكِنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ
أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَمَشَاهِدٌ لَهُ، وَإِلَيْهِ
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ
فِي السَّاجِدِينَ
«١»
وَقَوْلُهُ:» إِلَّا كُنَّا
عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ «٢» «الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أَيِ الْقَرَابَةِ، يَقُولُ: يُعْطِيهِمُ الْمَالَ كَمَا
قَالَ:» وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «٣» «يَعْنِي صِلَتَهُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ
عَطْفِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِي
إِيجَابِ إِيتَاءِ الْمُكَاتَبِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِنَّمَا خَصَّ
ذَا الْقُرْبَى لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ أَوْكَدُ وَصِلَتَهُمْ أَوْجَبُ، لِتَأْكِيدِ
حَقِّ الرَّحِمِ الَّتِي اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا مِنَ اسْمِهِ، وَجَعَلَ
صِلَتَهَا مِنْ صِلَتِهِ، فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ:» أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ
مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ «٤»«. وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا
فُقَرَاءَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الْفَحْشَاءُ: الْفُحْشُ، وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ مِنْ
قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. ابن عباس: هو الزنى. وَالْمُنْكَرُ: مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ
بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ وَالدَّنَاءَاتِ
عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. وَقِيلَ هُوَ الشِّرْكُ. وَالْبَغْيُ: هُوَ
الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ وَالْحِقْدُ وَالتَّعَدِّي، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ
الْحَدِّ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْمُنْكَرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ
بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِهِ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ
النَّبِيِّ ﷺ:» لَا ذَنْبَ أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِنْ بَغْيٍ«. وَقَالَ عليه السلام:»
الْبَاغِي مَصْرُوعٌ". وَقَدْ
وَعَدَ اللَّهُ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ. وَفَى بَعْضُ الْكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةِ: لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجُعِلَ الْبَاغِي مِنْهُمَا دكا.
(١). راجع ج ١٣ ص ...
(٢).
راجع ج ٨ ص ٣٥٥. [.....]
(٣).
راجع ص ٢٤٧ من هذا الجزء
(٤).
راجع صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة محمد وكتاب الأدب والتوحيد. وصحيح مسلم
في كتاب الأدب.
الخامسة- ترجم الامام أبو عبد الله
بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: (بَابُ قوله اللَّهِ
تَعَالَى:» إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ«، وَقَوْلِهِ:» إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
«١» «،» ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «٢» «، وَتَرْكِ إِثَارَةِ
الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي سِحْرِ
لَبِيَدِ ابن الْأَعْصَمِ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَتَأَوَّلَ رضي
الله عنه مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْكَ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ
كَافِرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ حَيْثُ قَالَ عليه السلام:»
أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي
وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا«. وَوَجْهُ ذَلِكَ-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ تَأَوَّلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:» إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ«النَّدْبَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى
الْمُسِيءِ وَتَرْكَ مُعَاقَبَتِهِ عَلَى إِسَاءَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ
يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي آيَاتِ الْبَغْي. قِيلَ: وَجْهُ ذَلِكَ- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- أَنَّهُ لَمَّا أَعْلَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِأَنَّ ضَرَرَ الْبَغْيِ
يَنْصَرِفُ عَلَى الْبَاغِي بِقَوْلِهِ:» إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ«وَضَمِنَ تَعَالَى نُصْرَةَ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ، كَانَ الْأَوْلَى
بِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ شُكْرَ اللَّهِ عَلَى مَا ضَمِنَ مِنْ نَصْرِهِ
وَمُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ عَمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ
النَّبِيُّ ﷺ بِالْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَهُ، وَقَدْ كَانَ لَهُ الِانْتِقَامُ
مِنْهُ بِقَوْلِهِ:» وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
«٣»«. وَلَكِنْ آثَرَ الصَّفْحَ أَخْذًا بِقَوْلِهِ:» وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «٤»". السَّادِسَةُ- تَضَمَّنَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمَا «٥». رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً رَفَعَتْ عَامِلَهَا
إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ، فَحَاجَّهَا الْعَامِلُ
وَغَلَبَهَا، بِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ كَبِيرَ ظُلْمٍ ولا جوره في
شي، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّهُ عَدَلَ وَلَمْ يُحْسِنْ.
قَالَ: فَعَجِبَ أَبُو جَعْفَرٍ من إصابته وعزل العامل.
(١). راجع ج ٨ ص ٣٢٤.
(٢).
راجع ج ١٢ ص ٨٩.
(٣).
راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء.
(٤).
راجع ج ١٦ ص ٣٨.
(٥).
راجه ج ٤ ص ٣٧.
[سورة النحل (١٦): آية ٩١]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا
عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ
اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا
يُعْقَدُ بِاللِّسَانِ ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق
للديانة. وهذه الآية مضمن قوله:«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ»
لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهَا: افْعَلُوا كَذَا، وَانْتَهُوا عَنْ كَذَا، فَعَطَفَ
عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيْعَةِ
النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْتِزَامِ الْحِلْفِ
الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالْوَفَاءِ، قَالَهُ
قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ
كَمَا بَيَّنَّاهُ. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً» يَعْنِي فِي نُصْرَةِ
الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِهِ وَالْمُوَاسَاةِ. وَهَذَا كَنَحْوِ حِلْفِ الْفُضُولِ
الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي
دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ «١»، فَتَعَاقَدُوا
وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ
غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ،
فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، أَيْ حِلْفَ
الْفَضَائِلِ. وَالْفُضُولُ هُنَا جَمْعُ فَضْلٍ لِلْكَثْرَةِ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَقَدْ
شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي
بِهِ حُمْرُ النَّعَمِ لَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لا جبت». وَقَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي
مَالٍ لَهُ، لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ،
فَقَالَ لَهُ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ
حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ: وَأَنَا أَحْلِفُ وَاللَّهِ لَئِنْ دَعَانَا «٢» لَآخُذَنَّ سَيْفِي
ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا.
وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وبلغت
(١). في سيرة ابن هشام:«لشرفه وسنة».
(٢).
في سيرة ابن هشام:«لئن دعا به».
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَهَذَا الْحِلْفُ الَّذِي
كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ الَّذِي شَدَّهُ الْإِسْلَامُ وَخَصَّهُ النَّبِيُّ
عليه الصلاة والسلام مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ:«لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ».
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالِانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ
وَأَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَظْلُومِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ
بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ إِيجَابًا عَامًّا عَلَى مَنْ قَدَرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ،
وَجَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ عَلَى الظَّالِمِينَ فَقَالَ تَعَالَى:«إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «١»». وفى الصحيح (من قوله «٢»:«انْصُرْ
أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ:«تَأْخُذُ عَلَى
يَدَيْهِ- فِي رِوَايَةٍ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ- فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ».
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عليه السلام:«إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ
يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ
عِنْدِهِ». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِها) يَقُولُ بَعْدَ تَشْدِيدِهَا وَتَغْلِيظِهَا، يُقَالُ: تَوْكِيدٌ
وَتَأْكِيدٌ، وَوَكَّدَ وَأَكَّدَ، وَهُمَا لُغَتَانِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) يَعْنِي شَهِيدًا.
وَيُقَالُ: حَافِظًا، وَيُقَالُ: ضَامِنًا. وَإِنَّمَا قَالَ«بَعْدَ تَوْكِيدِها»
فَرْقًا بَيْنَ الْيَمِينِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْعَزْمِ وَبَيْنَ لَغْوِ
الْيَمِينِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ التَّوْكِيدُ
هُوَ حَلِفُ الْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، يُرَدِّدُ فِيهِ
الْأَيْمَانَ ثَلَاثًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا
أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا، وَاللَّهِ لَا أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا، وَاللَّهِ لَا
أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا. قَالَ: فَكَفَّارَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ مِثْلُ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: هِيَ الْعُهُودُ، وَالْعَهْدُ يَمِينٌ،
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ لَا يُكَفَّرُ. قَالَ النَّبِيُّ
ﷺ:«يُنْصَبُ لِكُلِ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ
غَدَرْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ». وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاللَّهِ
فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَحَلَّ مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: التَّوْكِيدُ
هُوَ أَنْ يَحْلِفَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ وَاحِدَةً فَلَا كَفَّارَةَ فيه.
وقد تقدم في المائدة «٣».
(١). راجع ج ١٦ ص ٤٤.
(٢).
من و.
(٣).
راجع ج ٦ ص ٣٦٤.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٢]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا
بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ
اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا) النَّقْضُ
وَالنَّكْثُ وَاحِدٌ، وَالِاسْمُ النِّكْثُ وَالنَّقْضُ، وَالْجَمْعُ الْأَنْكَاثُ
فَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِي يَحْلِفُ وَيُعَاهِدُ وَيُبْرِمُ عَهْدَهُ
ثُمَّ يَنْقُضُهُ بِالْمَرْأَةِ تَغْزِلُ غَزْلَهَا وَتَفْتِلُهُ مُحْكَمًا ثُمَّ
تَحُلُّهُ. وَيُرْوَى أَنَّ امْرَأَةً حَمْقَاءَ كَانَتْ بِمَكَّةَ تُسَمَّى
رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ
كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَبِهَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ،
وَحَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيُّ وَلَمْ يُسَمِّيَا
الْمَرْأَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلٍ، لَا عَلَى
امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وأَنْكاثًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالدَّخَلُ: الدَّغَلُ
وَالْخَدِيعَةُ وَالْغِشُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ
صَحِيحًا فَهُوَ دَخَلٌ. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتِ الْقَبِيلَةُ
مِنْهُمْ إِذْ حَالَفَتْ أُخْرَى، ثُمَّ جَاءَتْ إِحْدَاهُمَا قَبِيلَةٌ كَثِيرَةٌ
«١» قَوِيَّةٌ فَدَاخَلَتْهَا غَدَرَتِ الْأُولَى وَنَقَضَتْ عَهْدَهَا وَرَجَعَتْ
إِلَى هَذِهِ الْكُبْرَى- قَالَهُ مُجَاهِدٌ- فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا
تَنْقُضُوا الْعُهُودَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ طَائِفَةً أَكْثَرُ مِنْ طَائِفَةٍ
أُخْرَى أَوْ أَكْثَرُ أَمْوَالًا فَتَنْقُضُونَ أَيْمَانَكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ
الْكَثْرَةَ وَالسَّعَةَ فِي الدُّنْيَا لِأَعْدَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ
الْكُفَّارِ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَا
تَغْدِرُوا بِقَوْمٍ لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِكُمْ أَوْ لِقِلَّتِكُمْ
وَكَثْرَتِهِمْ، وَقَدْ عَزَّزْتُمُوهُمْ بِالْأَيْمَانِ. (أَرْبى) أَيْ أَكْثَرُ،
من ربى الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا كَثُرَ. وَالضَّمِيرُ فِي«بِهِ» يَحْتَمِلُ أَنْ
يَعُودَ عَلَى الْوَفَاءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ
عَلَى الرِّبَاءِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالتَّحَاسُدِ
وَطَلَبِ بَعْضِهِمُ الظُّهُورَ عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتَبَرَهُمْ بِذَلِكَ مَنْ
يُجَاهِدُ نَفْسَهُ فَيُخَالِفُهَا مِمَّنْ يَتَّبِعُهَا وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى
هَوَاهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من
البعث وغيره.
(١). في ى: كبيرة.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ
أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أَيْ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلكِنْ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، عَدْلًا مِنْهُ فِيهِمْ.
(وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ، فَضْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ،
وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ بَلْ تُسْأَلُونَ أَنْتُمْ. وَالْآيَةُ تَرُدُّ
عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّامُ فِي«وَلَيُبَيِّنَنَّ
ولَتُسْئَلُنَّ» مَعَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ يَدُلَّانِ عَلَى قَسَمٍ مُضْمَرٍ،
أَيْ وَاللَّهِ ليبينن لكم ولتسئلن.
[سورة
النحل (١٦): آية ٩٤]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ
دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما
صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا.
(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ
مَوْقِعِهِ فِي الدِّينِ وَتَرَدُّدِهِ فِي مُعَاشَرَاتِ النَّاسِ، أَيْ لَا تَعْقِدُوا
الْأَيْمَانَ بِالِانْطِوَاءِ عَلَى الْخَدِيعَةِ وَالْفَسَادِ فَتَزِلَّ قَدَمٌ
بَعْدَ ثُبُوتِهَا، أَيْ عَنِ الْأَيْمَانِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ.
وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْمُسْتَقِيمِ الْحَالِ يَقَعُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ
وَيَسْقُطُ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ نَقَلَتِ الْإِنْسَانَ مِنْ
حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ
وَزَلَّتِ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ
مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ: زَلَّتْ قَدَمُهُ،
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
سَيُمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إِنْ
كُنْتَ سَابِقًا ... وَتُقْتَلُ إِنْ زَلَّتْ بِكَ الْقَدَمَانِ
ويقال لمن أخطأ في شي: زَلَّ فِيهِ
ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى بَعْدُ، بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٍ عَظِيمٍ فِي
الْآخِرَةِ. وَهَذَا الْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ نَقَضَ عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّ مَنْ عَاهَدَهُ ثُمَّ نَقَضَ عَهْدَهُ خَرَجَ مِنَ
الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ بِصَدِّكُمْ. وَذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا
يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٩٥ الى ٩٦]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ
(٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) نَهَى عَنِ الرُّشَا وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ
عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، أَيْ لَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ لِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ
الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا كَانَ قَلِيلًا وَإِنْ كَثُرَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَزُولُ،
فَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ قَلِيلٌ، وهو المراد بقوله:«مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ
وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» فَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الدُّنْيَا وَحَالِ
الْآخِرَةِ بِأَنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وَتُحَوَّلُ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ
مَوَاهِبِ فَضْلِهِ وَنَعِيمِ جَنَّتِهِ ثَابِتٌ لَا يَزُولُ لِمَنْ وَفَّى
بِالْعَهْدِ وَثَبَتَ عَلَى الْعَقْدِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
الْمَالُ يَنْفَدُ حِلُّهُ
وَحَرَامُهُ ... يَوْمًا وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامُهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ
لِإِلَهِهِ «١» ... حَتَّى يَطِيبَ شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ
آخَرُ:
هَبِ الدُّنْيَا تُسَاقُ إِلَيْكَ
عَفْوًا ... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إِلَى انْتِقَالِ
وَمَا دُنْيَاكَ إِلَّا مثل في ...
أَظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِالزَّوَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا) أَيْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَاتِ وَعَنِ المعاصي. أَيْ
مِنَ الطَّاعَاتِ، وَجَعَلَهَا أَحْسَنَ لِأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحُسْنِ
مُبَاحٌ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ حَيْثُ الْوَعْدِ
مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ كَثِيرٍ«وَلَنَجْزِيَنَّ» بِالنُّونِ
عَلَى التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية«وَلا تَشْتَرُوا» أي هنا نزلت
في امرئ القيس بم عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ وَخَصْمِهِ ابْنِ أَسْوعَ «٢»، اخْتَصَمَا
فِي أَرْضٍ فَأَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ
الْآيَةَ نَكَلَ وَأَقَرَّ لَهُ بِحَقِّهِ، والله أعلم.
(١). في نسخ الأصل:
ليس التقى بمن يمير بأهله
وفي ى: يميز، والتثويب عن أدب الدنيا
والدين ص ٢١٢ طبع بولاق. [.....]
(٢).
الذي في كتب الصحابة في ترجمة امرى القيس بن عابس أنه ربيعة بن عيدان. وقال صاحب
كتاب الإصابة في ترجمة عيدان بن أسوغ:«ذكر مقاتل في تفسيره أنه الذي حاصر امرأ
القيس بن عابس الكندي في أرضه، وفية نزلت» إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ ... " الآية.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ
صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً
طَيِّبَةً) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَفِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ خَمْسَةُ
أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ. الثَّانِي- الْقَنَاعَةُ، قَالَهُ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَرَوَاهُ
الْحَكَمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رضي الله عنه. الثَّالِثُ- تَوْفِيقُهُ إِلَى الطَّاعَاتِ
فَإِنَّهَا تُؤَدِّيهِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي فَاقَةٍ وَمَيْسَرَةٍ
فَحَيَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ
بِرَبِّهِ وَلَا عَمِلَ صَالِحًا فَمَعِيشَتُهُ ضَنْكٌ لَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ،
وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ
السَّعَادَةُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
التُّسْتَرِيُّ: هِيَ أَنْ يُنْزَعَ عَنِ الْعَبْدِ تَدْبِيرُهُ وَيُرَدُّ
تَدْبِيرُهُ إِلَى الْحَقِّ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ
بِاللَّهِ، وَصِدْقُ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْنَاءُ
عَنِ الْخَلْقِ وَالِافْتِقَارُ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ.
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ. (بِأَحْسَنِ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ). وَقَالَ:«فَلَنُحْيِيَنَّهُ» ثُمَّ قَالَ:«وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ»
لِأَنَّ«مَنْ» يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَأَعَادَ مَرَّةً عَلَى
اللَّفْظِ ومرة على المعنى. وقد تقدم. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ
أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ
الْأَوْثَانِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ، وَقَالَ هؤلاء: نحن أفضل،
فنزلت.
[سورة
النحل (١٦): آية ٩٨]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
فِيهِ مُسَالَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهِيَ
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ:«وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ» فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَتِهِ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَعْرِضَ لَكَ الشَّيْطَانُ فَيَصُدَّكَ عن
تَدَبُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا
فِيهِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ اسْتَعِذْ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ
إِذَا أَكَلْتَ فَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْكُلَ. وَقَدْ
رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ» اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ «١»«. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ
الْقِرَاءَةِ. قَالَ أَلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ
التَّعَوُّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:»
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ
الرَّجِيمِ«وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ
الِاسْتِعَاذَةُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:» فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا «٢»«. إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُ
مُحْتَمِلٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
«٣»
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا
فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «٤» " وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ
يَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالِ مُتَقَدِّمٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ
الْقَائِلِ: إِذَا قُلْتَ فَاصْدُقْ، وَإِذَا أَحْرَمْتَ فَاغْتَسِلْ، يَعْنِي
قَبْلَ الْإِحْرَامِ. وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ،
فَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى «٥»، وَتَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي الاستعاذة مستوفى «٦».
[سورة
النحل (١٦): الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى
الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْكُفْرِ، أَيْ
لَيْسَ لَكَ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ، قَالَهُ
سُفْيَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ
مِنَ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بِحَالٍ، لِأَنَّ
اللَّهَ تعالى صرف
(١). الهمزة: النخس والغمز، وكل شي دفعته فقد
همزته. والنفخ: الكبر، لان المتكبر يتعاظم ويجمع نفسه ونفسه فيحتاج أن ينفخ.
والنفث: قال ابن الأثير: جاء تفسيره في الحديث أنه الشعر، لأنه ينفث من الفم.
(٢).
راجع ج ٥ ص ٣٧٣.
(٣).
راجع ج ٧ ص ١٣٧.
(٤).
راجع ج ١٤ ص ٢٢٧.
(٥).
راجع ج ٦ ص ٨٠.
(٦).
راجع ج ١ ص ٨٦.
سُلْطَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَالَ
عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ:» وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «١» «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» إِنَّ
عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغاوِينَ«. قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ،
وَقَدْ أَغْوَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عليهما السلام بِسُلْطَانِهِ، وَقَدْ شَوَّشَ
عَلَى الْفُضَلَاءِ أَوْقَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ: مَنْ خَلَقَ رَبُّكَ؟ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ «٢» بَيَانُهُ. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى
الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أَيْ يُطِيعُونَهُ. يُقَالُ: تَوَلَّيْتُهُ أَيْ أَطَعْتُهُ،
وَتَوَلَّيْتُ عَنْهُ، أَيْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ) أَيْ بِاللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ:
يَرْجِعُ» بِهِ" إِلَى الشَّيْطَانِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بن أنس والقتبي.
وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ. يُقَالُ: كَفَرْتَ
بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا. وَصَارَ فُلَانٌ بِكَ عَالِمًا، أَيْ
مِنْ أَجْلِكَ. أَيْ والذي تولى الشيطان مشركون بالله.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا
بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ:
الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ،
قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا
غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا
عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «٣».
(قالُوا) يُرِيدُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أَيْ كَاذِبٌ
مُخْتَلِقٌ، وَذَلِكَ لِمَا رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَتَبْدِيلَ البعض بالبعض.
وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)
(١). راجع ج ٢٧ من هذا الجزء فما بعد.
(٢).
راجع ج ٧ ص ٣٤٨.
(٣).
راجع ج ٢ ص ٦١ وما بعدها.
يَعْنِي جِبْرِيلَ، نَزَلَ
بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ. وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ
عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وُكِّلَ إِسْرَافِيلُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ثَلَاثَ سِنِينَ،
فَكَانَ يَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ
بِالْقُرْآنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ
بِسُورَةِ«الْحَمْدِ» مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ قَطُّ. كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ بَيَانُهُ «١». (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أَيْ مِنْ
كَلَامِ رَبِّكَ. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ بِمَا فِيهِ مِنَ
الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ. (وَهُدىً) أَيْ وهو هدى. (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).
[سورة
النحل (١٦): آية ١٠٣]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) اخْتُلِفَ فِي اسْمِ
هَذَا الَّذِي قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ، فَقِيلَ: هُوَ غُلَامٌ الْفَاكِهُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ وَاسْمُهُ جَبْرٌ، كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَكَانُوا
إِذَا سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَا مَضَى وَمَا هُوَ آتٍ مَعَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ
لَمْ يَقْرَأْ قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ جَبْرٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ، فَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أَيْ كَيْفَ يُعَلِّمُهُ جَبْرٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ هَذَا
الْكَلَامَ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أَنْ يُعَارِضُوا مِنْهُ
سُورَةً وَاحِدَةً فَمَا فَوْقَهَا. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ مَوْلَى جَبْرٍ
كَانَ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، فَيَقُولُ: لَا
وَاللَّهِ، بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي وَيَهْدِينِي. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ
النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى
غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدُ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ
يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا
مَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اسْمُهُ
يَعِيشُ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُلَقِّنُهُ القرآن،
ذكره المارودي. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ
غُلَامٌ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ يَعِيشُ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ
الْأَعْجَمِيَّةَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَنَزَلَتْ.
المهدوي عن عكرمة:
(١). راجع ج ١ ص ١١٦.
هُوَ غُلَامٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيٍّ، وَاسْمُهُ يَعِيشُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ
الْحَضْرَمِيُّ: كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ
التَّمْرِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا يَسَارٌ وَاسْمُ الْآخَرِ جَبْرٌ. كَذَا ذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، إِلَّا أَنَّ الثَّعْلَبِيَّ
قَالَ: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا نَبْتٌ وَيُكْنَى أَبَا فُكَيْهَةَ، وَالْآخَرُ
جَبْرٌ، وَكَانَا صَيْقَلَيْنِ «١» يَعْمَلَانِ السُّيُوفَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ
كِتَابًا لَهُمْ. الثَّعْلَبِيُّ: يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.
الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ: التَّوْرَاةَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
يَمُرُّ بِهِمَا وَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُمَا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ:
يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَكْذَبَهُمْ.
وَقِيلَ: عَنَوْا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رضي الله عنه، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقِيلَ: نَصْرَانِيًّا بِمَكَّةَ اسْمُهُ بَلْعَامُ، وَكَانَ غُلَامًا يَقْرَأُ
التوراة، قاله ابن عباس. وكان المشركون يرون رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ يدخل عليه
ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: كَانَ بِمَكَّةَ
رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَيْسَرَةَ يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ،
فَرُبَّمَا قَعَدَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّمَا
يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مِنْهُ، فَنَزَلَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عَدَّاسٌ
غُلَامُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَقِيلَ: عَابِسٌ غُلَامُ حُوَيْطِبِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى وَيَسَارٌ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ،
وَكَانَا قَدْ أَسْلَمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
لِيُعَلِّمَهُمْ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ. وَقَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ
أن يكونوا أومئوا إِلَى هَؤُلَاءِ جَمِيعًا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ.
قُلْتُ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ مِنْ أَنَّهُ سَلْمَانُ فَفِيهِ
بُعْدٌ، لِأَنَّ سَلْمَانَ إِنَّمَا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ)
الْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ: لَحَدَ وَأَلْحَدَ، أَيْ مَالَ عَنِ الْقَصْدِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ «٢». وَقَرَأَ حَمْزَةُ«يَلْحَدُونَ» بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَالْحَاءِ، أَيْ لِسَانُ الَّذِي يَمِيلُونَ إِلَيْهِ وَيُشِيرُونَ
أَعْجَمِيٌّ. وَالْعُجْمَةُ: الْإِخْفَاءُ وَضِدُّ البيان. ورجل أعجم وامرأة عجم،
أَيْ لَا يُفْصِحُ، وَمِنْهُ عُجْمُ الذَّنَبِ لِاسْتِتَارِهِ. والعجماء:
(١). الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها
(٢).
راجع ج ٧ ص ٣٢٨.
الْبَهِيمَةُ، لِأَنَّهَا لَا
تُوَضِّحُ عَنْ نَفْسِهَا. وَأَعْجَمْتُ الْكِتَابَ أَيْ أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ
بِكَلَامِهِمْ أَعْجَمِيًّا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَعْجَمُ الَّذِي فِي لِسَانِهِ
عُجْمَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَعْجَمِيُّ أَوِ الْعَجَمِيُّ
الَّذِي أَصْلُهُ مِنَ الْعَجَمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي
لَا يُفْصِحُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، وَكَذَلِكَ
الْأَعْجَمُ وَالْأَعْجَمِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَجَمِ وَإِنْ كَانَ
فَصِيحًا. وَأَرَادَ بِاللِّسَانِ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ
لِلْقَصِيدَةِ والبيت لسانا، قَالَ الشَّاعِرَ:
لِسَانَ الشَّرِّ تُهْدِيهَا
إِلَيْنَا ... وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا
يَعْنِي بِاللِّسَانِ الْقَصِيدَةَ.
وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أَيْ أَفْصَحُ مَا يكون من العربية.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٠٤]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ (لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)
[سورة
النحل (١٦): آية ١٠٥]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما
يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ
الْكاذِبُونَ) ١٠٥ (قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) هَذَا جَوَابُ وَصْفِهِمُ النَّبِيَّ ﷺ بِالِافْتِرَاءِ.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ،
أَيْ كُلُّ كَذِبٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَذِبِهِمْ. وَيُقَالُ: كَذَبَ
فُلَانٌ وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ كَاذِبٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا
وَقَدْ لَا يَكُونُ لازما. فأما النعت فيكون لازم وَلِهَذَا يُقَالُ: عَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَاصٍ غَاوٍ. فَإِذَا قِيلَ: كَذَبَ
فُلَانٌ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَانَ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ بالكذب، قاله القشيري.
[سورة النحل (١٦): آية ١٠٦]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٠٦)
فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ
مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) هَذَا
مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها»
فَكَانَ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَرْتَدُّوا
عَنْ بَيْعَةِ الرَّسُولِ ﷺ. أَيْ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَارْتَدَّ
فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أبي سرح ومقيس بن ضبابة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ «١»، وَقَيْسِ بْنِ
الْوَلِيدِ بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ).
وَقَالَ الزَّجَّاجُ:«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» بَدَلٌ
مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ
بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ
الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ تَامٍّ فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ:«مَنْ» ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، اكْتُفِيَ مِنْهُ
بِخَبَرٍ«مَنِ» الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ يَأْتِنَا مَنْ يُحْسِنُ
نُكْرِمْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) هَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ،
لِأَنَّهُ قَارَبَ بَعْضَ مَا نَدَبُوهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَذَهُ
الْمُشْرِكُونَ وَأَخَذُوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا
وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ، وَرُبِطَتْ سُمَيَّةُ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ
وَوُجِئَ قُبُلُهَا بِحَرْبَةٍ، وَقِيلَ لَهَا إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ
الرِّجَالِ، فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ
فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا عَمَّارٌ فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ
مُكْرَهًا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ:«كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ»؟ قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ:«فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ». وَرَوَى مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ أم عمار، قتلها أبو جهل،
وأول
(١). في الأصول:«عبد الله بن أمس بن خطل» وهو
تحريف. [.....]
شَهِيدٍ مِنَ الرِّجَالِ مِهْجَعٌ
مَوْلَى عُمَرَ. وَرَوَى مَنْصُورٌ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ
أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ،
وَخَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَعَمَّارٌ، وَسُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارٍ. فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ
قَوْمُهُ، وَأَخَذُوا الْآخَرِينَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ، ثُمَّ
صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمُ الْجَهْدُ كُلَّ مَبْلَغٍ مِنْ
حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَتَاهُمْ أَبُو
جَهْلٍ وَمَعَهُ حَرْبَةٌ، فَجَعَلَ يَسُبُّهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، وَأَتَى
سُمَيَّةَ فَجَعَلَ يَسُبَّهَا وَيَرْفُثُ «١»، ثُمَّ طَعَنَ فَرْجَهَا حَتَّى
خَرَجَتِ الْحَرْبَةُ مِنْ فَمِهَا فَقَتَلَهَا، رضي الله عنها.
قَالَ: وَقَالَ الْآخَرُونَ مَا
سُئِلُوا، إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ،
فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، وَهُوَ
يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ، حَتَّى مَلُّوهُ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ
حَبْلًا مِنْ لِيفٍ، وَدَفَعُوهُ إِلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْنَ
أَخْشَبَيْ «٢» مَكَّةَ حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ، قَالَ فَقَالَ عَمَّارٌ:
كُلُّنَا تَكَلَّمَ بِالَّذِي قَالُوا- لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَنَا-
غَيْرَ بِلَالٍ فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، فَهَانَ عَلَى
قَوْمِهِ حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى
بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ نَاسًا
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ آمَنُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ
بِالْمَدِينَةِ: أَنْ هَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى
تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَتْهُمْ
قُرَيْشٌ بِالطَّرِيقِ، فَفَتَنُوهُمْ فَكَفَرُوا مُكْرَهِينَ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ. ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِسْحَاقَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ:«ما خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا» هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
الله ﷺ:«إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثلاثة علي وعمار وسلمان بْنِ
رَبِيعَةَ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا
مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ صالح. الثانية- لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ عز وجل بِالْكُفْرِ
بِهِ وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ،
حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَإِذَا وَقَعَ
الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ ولم يترتب
(١). الرفث: الفحش من القول.
(٢).
الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة،. هما أبو قبيس والأحمر.
عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَبِهِ جَاءَ
الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:» رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ«الْحَدِيثَ. والخبر وإن لم يصح سنده
فإن معنا صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ
بْنِ الْعَرَبِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّ إِسْنَادَهُ
صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَصِيلِيُّ فِي الْفَوَائِدِ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ الْإِقْنَاعِ. الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَ أَهْلُ
الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى
نَفْسِهِ الْقَتْلَ، أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ وَلَا يُحْكَمُ
عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ
وَالشَّافِعِيِّ، غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا
أَظْهَرَ الشِّرْكَ كَانَ مُرْتَدًّا فِي الظَّاهِرِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَا
يُصَلَّى عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ إِنْ مَاتَ مُسْلِمًا.
وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:»
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ«الْآيَةَ. وَقَالَ:» إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً
«١» «وَقَالَ:» إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ «٢»
«الْآيَةَ. وَقَالَ:» إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ «٣» " الْآيَةَ. فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ
الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لَا
يَكُونُ إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ،
قَالَهُ الْبُخَارِيُّ. الْخَامِسَةُ- ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى
أَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْلِ، وَأَمَّا فِي الْفِعْلِ فَلَا
رُخْصَةَ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يُكْرَهُوا عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوِ
الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ ضربه أو أكل ماله، أو
الزنى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا، يُرْوَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، رضي الله عنه. وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُحْنُونٍ مِنْ
عُلَمَائِنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا قِيلَ لِلْأَسِيرِ:
اسْجُدْ لِهَذَا الصَّنَمِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ الصَّنَمُ
مُقَابِلَ الْقِبْلَةِ فَلْيَسْجُدْ وَيَكُونُ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ
كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَسْجُدْ وَإِنْ قَتَلُوهُ. وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ يَسْجُدُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَمَا أَحْرَاهُ
بِالسُّجُودِ حِينَئِذٍ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى
رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ
(١). راجع ج ٤ ص ٥٧.
(٢).
راجع ج ٥ ص ٣٤٥.
(٣).
راجع ج ٥ ص ٣٤٥.
وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ»
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «١» " فِي رِوَايَةٍ: وَيُوتِرُ
عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. فَإِذَا كَانَ
هَذَا مُبَاحًا فِي السَّفَرِ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ لِتَعَبِ النُّزُولِ عَنِ
الدَّابَّةِ لِلتَّنَفُّلِ فَكَيْفَ بِهَذَا. وَاحْتَجَّ مَنْ قَصَرَ الرُّخْصَةَ
عَلَى الْقَوْلِ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ كَلَامٍ يَدْرَأُ عَنِّي
سَوْطَيْنِ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كُنْتُ مُتَكَلِّمًا بِهِ. فَقَصَرَ
الرُّخْصَةَ عَلَى الْقَوْلِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفِعْلَ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ
فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أن يجعل الكلام مِثَالًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ
الْفِعْلَ فِي حُكْمِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِكْرَاهُ فِي الْفِعْلِ
وَالْقَوْلِ سَوَاءٌ إِذَا أَسَرَّ الْإِيمَانَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَمَكْحُولٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى
شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَنَّ
الْإِثْمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ. السَّادِسَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى
قَتْلِهِ وَلَا انْتَهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى
الْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ
بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَلُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ في الدنيا والآخرة. واختلف في الزنى،
فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ:
لَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ
فَهُوَ آثِمٌ وَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنُ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزنى
وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ رَأَى
أَنَّهَا شَهْوَةٌ خَلْقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا، وَغَفَلَ
عَنِ السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ
الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ
عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمْ يَحِلَّ
بِصَوَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي أَحْكَامِهِ:
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا متى أكره الرجل على الزنى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ
الْحَدُّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَهُوَ
الصَّحِيحُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ،
وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ
أَلَّا يُحَدَّ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي
الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُرَاعُوا الِانْتِشَارَ،
(١). راجع ج ٢ ص ٧٩.
وَقَالُوا: مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ
يَتَخَلَّصُ مِنَ الْقَتْلِ بفعل الزنى جَازَ أَنْ يَنْتَشِرَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ
وَغَيْرِ السُّلْطَانِ. السَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ
وَعَتَاقِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: لَا يلزمه شي. وَذَكَرَ ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ
طَلَاقَهُ شَيْئًا. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ
عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ وَالْقَاسِمِ
وَسَالِمٍ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ طَلَاقَهُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَأَبِي قِلَابَةَ وَالزَّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْدَمَ
فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الرِّضَا، وَلَيْسَ وُجُودُهُ بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاقِ
كَالْهَازِلِ. وَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إِلَى
إِيقَاعِ الطَّلَاقِ رَاضٍ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ
فِي الطَّلَاقِ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ». وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ
اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ
الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ أَكْرَهَهُ اللُّصُوصُ
فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَهُوَ طَلَاقٌ. وَفَسَّرَهُ
ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللِّصَّ يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِهِ وَالسُّلْطَانَ
لَا يَقْتُلُهُ. الثَّامِنَةُ- وَأَمَّا بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَالْمَضْغُوطِ فَلَهُ
حَالَتَانِ. الْأُولَى- أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ فِي حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ
مَاضٍ سَائِغٌ لَا رُجُوعَ فِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ
أَدَاءُ الْحَقِّ إِلَى رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمَبِيعِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ فَلَزِمَهُ. وَأَمَّا بَيْعُ
الْمُكْرَهِ ظُلْمًا أَوْ قَهْرًا فَذَلِكَ بَيْعٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. وَهُوَ
أَوْلَى بِمَتَاعِهِ يَأْخُذُهُ بِلَا ثَمَنٍ، وَيَتْبَعُ الْمُشْتَرِي
بِالثَّمَنِ ذَلِكَ الظَّالِمَ، فَإِنْ فَاتَ الْمَتَاعُ رَجَعَ بِثَمَنِهِ أَوْ
بِقِيمَتِهِ بِالْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الظَّالِمِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي
غَيْرَ عَالِمٍ بِظُلْمِهِ. قَالَ مُطَرِّفٌ: وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرِينَ
يَعْلَمُ حَالَ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا ابْتَاعَ مِنْ رَقِيقِهِ
وَعُرُوضِهِ كَالْغَاصِبِ، وَكُلَّمَا أَحْدَثَ الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ مِنْ
عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ تَحْبِيسٍ فَلَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ، وَلَهُ أَخْذُ
مَتَاعِهِ. قَالَ سُحْنُونٌ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا وَأَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى
أَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ
الْأَبْهَرِيُّ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ.
التَّاسِعَةُ- وَأَمَّا نِكَاحُ
الْمُكْرَهِ، فَقَالَ سَحْنُونَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى إِبْطَالِ نِكَاحِ
الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرَهَةِ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ الْمُقَامُ عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ: وَأَجَازَ أَهْلُ
الْعِرَاقِ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ، وَقَالُوا: لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَنْكِحَ
امْرَأَةً بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَصَدَاقُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ،
أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَتَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ. قَالَ
مُحَمَّدٌ: فَكَمَا أَبْطَلُوا الزَّائِدَ عَلَى الْأَلْفِ فَكَذَلِكَ
يَلْزَمُهُمْ إِبْطَالُ النِّكَاحِ بِالْإِكْرَاهِ. وَقَوْلُهُمْ خِلَافُ
السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ فِي حَدِيثِ خَنْسَاءَ بنت حذام الْأَنْصَارِيَّةِ،
وَلِأَمْرِهِ ﷺ بِالِاسْتِئْمَارِ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلَا
مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ. الْعَاشِرَةُ- فَإِنْ وَطِئَهَا الْمُكْرَهُ عَلَى
النِّكَاحِ غَيْرُ مكره على الوطي وَالرِّضَا بِالنِّكَاحِ لَزِمَهُ النِّكَاحُ
عِنْدَنَا عَلَى الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ وَدُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَإِنْ
قَالَ: وَطِئْتُهَا عَلَى غَيْرِ رِضًا مِنِّي بِالنِّكَاحِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
وَالصَّدَاقُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِإِبْطَالِ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى،
وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ إِنْ أَقْدَمَتْ وَهِيَ عَالِمَةٌ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى
النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْمُكْرَهَةُ عَلَى النكاح وعلى الوطي فَلَا حَدَّ
عَلَيْهَا وَلَهَا الصَّدَاقُ، وَيُحَدُّ الْوَاطِئُ، فَاعْلَمْهُ. قَالَهُ
سَحْنُونٌ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- إِذَا اسْتُكْرِهَتِ المرأة على الزنى فَلَا
حَدَّ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ» إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ«وَقَوْلُهُ عليه السلام:»
إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ
أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ«، وَلِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:» فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«١» «يُرِيدُ الْفَتَيَاتِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى حَكَمَ عُمَرُ فِي الْوَلِيدَةِ
الَّتِي اسْتَكْرَهَهَا الْعَبْدُ فَلَمْ يَحُدَّهَا. وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ
عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى امْرَأَةٍ مُسْتَكْرَهَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا
وُجِدَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلًا وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَقَالَتِ اسْتُكْرِهْتُ
فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا وَعَلَيْهَا الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهَا
بَيِّنَةٌ أَوْ جَاءَتْ تَدْمِي عَلَى أَنَّهَا أُوتِيَتْ»
،
أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقَّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَّ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ
أَوْ الِاعْتِرَافُ. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
(١). راجع ج ١٢ ص ٢٥٥.
(٢).
عبارة الموطأ:» أو جاءت تدمى إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أوتيت وعلى ذلك ...
" إلخ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ-
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ لِلْمُسْتَكْرَهَةِ، فَقَالَ عَطَاءٌ
وَالزُّهْرِيُّ: لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ
عَلَى الَّذِي زَنَى بِهَا بَطَلَ الصَّدَاقُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ،
وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- إِذَا أُكْرِهَ
الْإِنْسَانُ عَلَى إِسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَمْ يَحِلَّ أَسْلَمَهَا، وَلَمْ
يَقْتُلْ «١» نَفْسَهُ دُونَهَا وَلَا احْتَمَلَ أَذِيَّةً فِي تَخْلِيصِهَا.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ وَدَخَلَ
بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ فَأَرْسَلَ بِهَا فَقَامَ
إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ
آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ فَلَا تُسَلِّطُ عَلَيَّ هَذَا الْكَافِرَ فَغُطَّ
حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ «٢»». وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
سَارَةَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مَلَامَةٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى
الْمُسْتَكْرَهَةِ مَلَامَةٌ، وَلَا حَدَّ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْخَلْوَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا يَمِينُ الْمُكْرَهِ
فَغَيْرُ لَازِمَةٍ. عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَسَوَاءٌ حَلَفَ فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ
لِلَّهِ أَوْ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ إِذْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ، وَقَالَهُ
أَصْبَغُ. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ
مَعْصِيَةٌ أَوْ لَيْسَ فِي فِعْلِهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ فَالْيَمِينُ فِيهِ
سَاقِطَةٌ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ مِثْلَ أَنْ
يَأْخُذَ الْوَالِي رَجُلًا فَاسِقًا فَيُكْرِهُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ لَا
يَشْرَبُ خَمْرًا، أَوْ لَا يَفْسُقُ وَلَا يَغُشُّ فِي عَمَلِهِ، أو الولد
يُحَلِّفُ وَلَدَهُ تَأْدِيبًا لَهُ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَلْزَمُ، وَإِنْ كَانَ
الْمُكْرَهُ قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا يُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بِهِ ابْنُ
حَبِيبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّهُ
إِنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ فَفَعَلَ حَنِثَ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَهُ
أَنْ يُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ كُلِّهَا، فَلَمَّا لَمْ يُوَرِّ وَلَا ذَهَبَتْ
نِيَّتُهُ إِلَى خِلَافِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَقَدْ قَصَدَ إِلَى الْيَمِينِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنْ قَالُوا: إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا فَنِيَّتُهُ
مُخَالِفَةٌ لِقَوْلِهِ، لِأَنَّهُ كَارِهٌ لما حلف عليه.
(١). ينظر هذا على ما رواه أبو داود والترمذي
والنسائي، وابن ماجة وفية«من قتل دون أهله شهيد». كشف الخفاج ص ٢٦٩.
(٢).
ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرا، في شرح القسطلاني، كتاب اليبوع ج ٤ ص ١٢٢ طبعه
بولاق. الغط هنا هو العصر الشديد والكبس، والركض الضرب بالرجل.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا اخْتَلَفُوا فِي
الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ
عِرَاقِيَّةٌ سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَلَا
كَانُوا! وَأَيُّ فَرْقٍ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى
الْيَمِينِ فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَبَيْنَ الْحِنْثِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ!
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَاجِعُوا بَصَائِرَكُمْ، وَلَا تغتروا بهذه الروية
فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فِي الدِّرَايَةِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِذَا أُكْرِهَ
الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ وَإِلَّا أُخِذَ لَهُ مَالٌ كَأَصْحَابِ الْمَكْسِ
وَظَلَمَةِ السُّعَاةِ وَأَهْلِ الِاعْتِدَاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَقِيَّةَ
لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْرَأُ الْمَرْءُ بِيَمِينِهِ عَنْ بَدَنِهِ لَا
مَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا يَحْنَثُ وَإِنْ دَرَأَ عَنْ مَالِهِ
وَلَمْ يَخَفْ عَلَى بَدَنِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِ مُطَرِّفٍ،
وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ. قُلْتُ:
قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْمَالِ
كَالْمُدَافَعَةِ عَنِ النَّفْسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَسَيَأْتِي. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وَقَالَ:«كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى
الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرأيت
إن جاء رجلا يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ:«فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ:
أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ:«قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟
قَالَ:«فَأَنْتَ شَهِيدٌ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ:«هُوَ فِي
النَّارِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «١». وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَالَ
مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَإِنْ بَدَرَ الْحَالِفُ بِيَمِينِهِ
لِلْوَالِي الظَّالِمِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا لِيَذُبَّ بِهَا عَمَّا خَافَ
عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَبَدَنِهِ فَحَلَفَ لَهُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ. وَقَالَهُ
ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ. وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ
أَخَذَهُ ظَالِمٌ فَحَلَفَ لَهُ بِالطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُحَلِّفَهُ وَتَرَكَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَإِنَّمَا حَلَفَ خَوْفًا مِنْ ضَرْبِهِ
وَقَتْلِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ: فَإِنْ كَانَ إِنَّمَا تَبَرَّعَ بِالْيَمِينِ غَلَبَةَ
خَوْفٍ وَرَجَاءَ النَّجَاةِ مِنْ ظُلْمِهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْإِكْرَاهِ ولا شي
عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى رَجَاءِ النَّجَاةِ فَهُوَ حَانِثٌ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِذَا تَلَفَّظَ
الْمُكْرَهُ بِالْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى لِسَانِهِ
إِلَّا مَجْرَى الْمَعَارِيضِ، فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضَ «٢» لَمَنْدُوحَةً عَنِ
الْكَذِبِ. ومتى لم يكن
(١). ويؤيد هذا ما رواه أحمد والترمذي عن ابن
عمر«من قتل دون كاله فهو شهيد» كشفا الخفا ج ٢ ص ٢٩٦.
(٢).
المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء. وأعرض الكلام ومعارضة ومعاريضه: كلام يشبه
بعضه بعضا في المعاني.
كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، لِأَنَّ
الْمَعَارِيضَ لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا. مِثَالُهُ- أَنْ يُقَالَ
لَهُ: اكْفُرْ بِاللَّهِ فَيَقُولُ بِاللَّاهِي، فَيَزِيدُ الْيَاءَ. وَكَذَلِكَ
إِذَا قِيلَ لَهُ: اكْفُرْ بِالنَّبِيِّ فَيَقُولُ هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ،
مُشَدِّدًا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ «١». وَيُطْلَقُ عَلَى
مَا يُعْمَلُ مِنَ الْخُوصِ شَبْهَ الْمَائِدَةِ، فَيَقْصِدُ أَحَدَهُمَا
بِقَلْبِهِ وَيَبْرَأُ مِنَ الْكُفْرِ وَيَبْرَأُ مِنْ إِثْمِهِ. فَإِنْ قِيلَ
لَهُ: اكْفُرْ بالنبي (مهموزا) فيقول هو كافر بالنبي يريد بالمخبر، أي مخبر كان
كطليحة «٢» ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبي الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى
... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ «٣»
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَاخْتَارَ الْقَتْلَ
أَنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اخْتَارَ الرُّخْصَةَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى غَيْرِ الْقَتْلِ مِنْ فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ
لَهُ، فَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: الْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِيَارُ
الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ،
ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَسَحْنُونٌ. وَذَكَرَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ أَنَّهُ إِذَا تَهَدَّدَ بِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ يَخَافُ
مِنْهُ التَّلَفَ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ
أَوْ أَكْلِ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ خِفْنَا أَنْ يَكُونَ
آثِمًا لِأَنَّهُ كَالْمُضْطَرِّ. وَرَوَى خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدُ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ
الْكَعْبَةِ فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟
فَقَالَ:«قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ
فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ
نِصْفَيْنِ وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ
فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ «٤»
حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا
اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». فَوَصْفُهُ ﷺ
هَذَا عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالصَّبْرِ
عَلَى الْمَكْرُوهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا فِي
الظَّاهِرِ وَتَبَطَّنُوا الْإِيمَانَ لِيَدْفَعُوا الْعَذَابَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وهذه حجة من آثر الضرب
(١). ومنه الحديث:«لا تصلوا على النبي» أي
على الأرض المرتفعة المحدودبة.
(٢).
هو طليحة ابن خويلد بن نوفل الأسدي، ارتد بعد النبي ﷺ وادعى النبوة ثم أسلم.
[.....]
(٣).
الرتم (بالتاء والثاء): الدق والكسر. ويريد بالنبي المكان المرتفع. والكائب: الرمل
المجتمع.
(٤).
يريد الإسلام.
وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى
الرُّخْصَةِ وَالْمُقَامَ بِدَارِ الْجِنَانِ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ
بَيَانٍ فِي سُورَةِ» الْأُخْدُودِ «١» «إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُيُونًا لِمُسَيْلِمَةَ أَخَذُوا
رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَذَهَبُوا بِهِمَا إِلَى مُسَيْلِمَةَ،
فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ
نَعَمْ. قَالَ.: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ. فَخَلَّى
عَنْهُ. وَقَالَ الآخر: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ
نَعَمْ. قَالَ: وَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَا أَصَمُّ لَا
أَسْمَعُ، فَقَدَّمَهُ وَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَجَاءَ هَذَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ
فَقَالَ: هَلَكْتُ! قَالَ:» وَمَا أَهْلَكَكَ«؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ:»
أَمَّا صَاحِبُكَ فَأَخَذَ بِالثِّقَةِ «٢» وَأَمَّا أَنْتَ فَأَخَذْتَ
بِالرُّخْصَةِ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ السَّاعَةَ«قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ» أَنْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ«. الرُّخْصَةُ فِيمَنْ
حَلَّفَهُ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى
رَجُلٍ أَوْ مَالِ رَجُلٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا خَافَ عَلَيْهِ وَعَلَى
مَالِهِ فَلْيَحْلِفْ وَلَا يُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ إِذَا
حَلَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ
فِي هَذَا. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدِ بْنِ أَشْرَسَ
صَاحِبَ مَالِكٍ اسْتَحْلَفَهُ السُّلْطَانُ بِتُونُسَ عَلَى رَجُلٍ أَرَادَ
السُّلْطَانُ قَتْلَهُ أَنَّهُ مَا آوَاهُ، وَلَا يَعْلَمُ لَهُ مَوْضِعًا، قَالَ:
فَحَلَفَ لَهُ ابْنُ أَشْرَسَ، وَابْنُ أَشْرَسَ يَوْمئِذٍ قَدْ عَلِمَ مَوْضِعَهُ
وَآوَاهُ، فَحَلَّفَهُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا، فَحَلَفَ لَهُ ابْنُ أَشْرَسَ،
ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اعْتَزِلِي فَاعْتَزَلَتْهُ، ثُمَّ رَكِبَ ابْنُ
أَشْرَسَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْبُهْلُولِ بْنِ رَاشِدٍ الْقَيْرَوَانَ،
فَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ لَهُ الْبُهْلُولُ: قَالَ مَالِكٌ إِنَّكَ
حَانِثٌ. فَقَالَ ابْنُ أَشْرَسَ: وَأَنَا سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ ذَلِكَ،
وَإِنَّمَا أردت الرخصة أو كلام هذا معناه، فقال له البهلول ابن رَاشِدٍ: قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْكَ. قَالَ: فَرَجَعَ ابْنُ
أَشْرَسَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَخَذَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ. وَذَكَرَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدٌ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ
شَرِيكٍ عَنْ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الرَّجُلِ
يُؤْخَذُ بِالرَّجُلِ، هَلْ تَرَى أَنْ يَحْلِفَ لِيَقِيَهُ بِيَمِينِهِ؟ فَقَالَ
نَعَمْ، ولان أحلف سبعين يمينا
(١). راجع ج ١٩ ص ٢٨٤.
(٢).
عبارة الدر المنثور: (» أما صاحبك فمضى على إيمانه".)
وَأَحْنَثَ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ
أَدُلَّ عَلَى مُسْلِمٍ. وَقَالَ إِدْرِيسُ بْنُ يَحْيَى كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ يَأْمُرُ جَوَاسِيسَ يَتَجَسَّسُونَ الْخَلْقَ يَأْتُونَهُ
بِالْأَخْبَارِ، قَالَ: فَجَلَسَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِي حَلْقَةِ رَجَاءِ بْنِ
حَيْوَةَ فَسَمِعَ بَعْضَهُمْ يَقَعُ فِي الْوَلِيدِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: يَا رَجَاءُ! أُذْكَرْ بِالسُّوءِ فِي مَجْلِسِكَ وَلَمْ تُغَيِّرْ؟
فَقَالَ: مَا كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ:
قُلْ آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، قَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِالْجَاسُوسِ فَضَرَبَهُ سَبْعِينَ سَوْطًا،
فَكَانَ يَلْقَى رَجَاءً فَيَقُولُ: يَا رَجَاءُ، بِكَ يُسْتَقَى «١» الْمَطَرُ،
وَسَبْعُونَ سَوْطًا فِي ظَهْرِي! فَيَقُولُ رَجَاءٌ: سَبْعُونَ سَوْطًا فِي
ظَهْرِكَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الرَّجُلُ آمَنٌ عَلَى نَفْسِهِ
إِذَا أَخَفْتَهُ أَوْ أَوْثَقْتَهُ أَوْ ضَرَبْتَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا
كَلَامٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلَّا كُنْتُ مُتَكَلِّمًا بِهِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَيْسَ يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْقَيْدُ إِكْرَاهٌ، وَالسَّجْنُ إِكْرَاهٌ. وَهَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَالْوَعِيدُ الْمُخَوِّفُ إِكْرَاهٌ
وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، إِذَا تَحَقَّقَ ظُلْمَ ذَلِكَ الْمُعْتَدِي وَإِنْفَاذَهُ
لِمَا يَتَوَعَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الضَّرْبِ
وَالسَّجْنِ تَوْقِيتٌ، إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يُؤْلِمُ مِنَ الضَّرْبِ، وَمَا
كَانَ مِنْ سِجْنٍ يَدْخُلُ مِنْهُ الضِّيقُ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَإِكْرَاهُ
السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَالِكٍ إِكْرَاهٌ. وَتَنَاقَضَ الْكُوفِيُّونَ
فَلَمْ يَجْعَلُوا السَّجْنَ والقيد إكراها على شرب الخمر واكل الميتة، لأنه لا
يخاف منهما التلف. وجعلوها إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون:
وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْإِكْرَاهَ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَلَفِ نَفْسٍ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ بِوَعِيدٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَنَّهُ يَحْلِفُ،
وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الْمُوَفِّيَةَ عِشْرِينَ- وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا
ثَبَتَ إِنَّ مِنَ الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ. وَرَوَى
الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لا بأس إذا بلغ الرجل
عنك شي أن تقول:
(١). في ج وى: يستسقى.
وَاللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا قُلْتُ فِيكَ من ذلك من شي. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي قُلْتَ، وَهُوَ فِي ظَاهِرِهِ انْتِفَاءٌ
مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا حِنْثَ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي يَمِينِهِ وَلَا كَذِبَ
عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانَ لَهُمْ كَلَامٌ مِنْ
أَلْغَازِ الْأَيْمَانِ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ
مِنَ الْكَذِبِ وَلَا يَخْشَوْنَ فِيهِ الْحِنْثَ «١». قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
وَكَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْمَعَارِيضَ مِنَ الْكَلَامِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ
فِي غَيْرِ مَكْرٍ وَلَا خَدِيعَةٍ فِي حَقٍّ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ
إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إِذَا أَتَاهُ أَحَدٌ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ
جَلَسَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ وَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: قُولِي لَهُ هُوَ وَاللَّهِ
فِي الْمَسْجِدِ. وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ
لِلرَّجُلِ مِنَ الْبَعْثِ «٢» إِذَا عُرِضُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ أَنْ يَقُولَ:
وَاللَّهِ مَا أَهْتَدِي إِلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي، وَلَا أَرْكَبُ إِلَّا
مَا حَمَلَنِي غَيْرِي، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
يَعْنِي بِقَوْلِهِ:«غَيْرِي» اللَّهَ تَعَالَى، هُوَ مُسَدِّدُهُ وَهُوَ
يَحْمِلُهُ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ عَلَى الرَّجُلِ فِي هَذَا حِنْثًا فِي
يَمِينِهِ، وَلَا كَذِبًا فِي كَلَامِهِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُقَالَ
هَذَا فِي خَدِيعَةٍ وظلم وجحد ان «٣» حَقٍّ فَمَنِ اجْتَرَأَ وَفَعَلَ أَثِمَ فِي
خَدِيعَتِهِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي يَمِينِهِ. الْحَادِيَةُ
وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ) أَيْ
وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْكُفْرِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا
اللَّهُ، فَهُوَ يَرُدُّ عَلَى القدرية. و «صَدْرًا» نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ.
(فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عذاب جهنم.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا
الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
(١). وذلك كما في كتاب الملاحن لابن دريد.
(٢).
البعث: الجيش.
(٣).
هذا المصدر لم تورده كتب اللغة في هذه المادة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ) أَيْ
ذَلِكَ الْغَضَبُ. (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) أَيِ
اخْتَارُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ. (وَأَنَّ اللَّهَ) «أَنَّ» فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
عَطْفًا على«بِأَنَّهُمُ». (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ثم وصفهم فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أَيْ عَنْ فَهْمِ
الْمَوَاعِظِ. (وَسَمْعِهِمْ) عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَبْصارِهِمْ)
عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ. (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عَمَّا يُرَادُ
بِهِمْ. (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) تقدم «١».
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٠]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ
رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا)
هَذَا كُلُّهُ فِي عمار. عَلَى الْجِهَادِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ
أَنْ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَذَّبُوهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ «٢». وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ قَدِ
ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِهِ يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ بِعُثْمَانَ فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ ﷺ، ذَكَرَهُ
النَّسَائِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي سُورَةِ
النَّحْلِ.«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ-
إِلَى قَوْلِهِ- وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فَنَسَخَ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ
فَقَالَ:«ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» وَهُوَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ عَلَى مِصْرَ،. كَانَ
يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ
فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانِ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
[سُورَةَ
النحل (١٦): آية ١١١]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (١١١)
(١). راجع ج ٩ ص ٢٠.
(٢).
راجع ص ١٨٠ من هذا الجزء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَأْتِي
كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن الله غفور رحيم في ذلك. أو
ذكرهم.«يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» أَيْ تُخَاصِمُ
وَتُحَاجُّ عَنْ نَفْسِهَا، جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: نفسي نفسي! من شدة هول يوم القيمة سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّهُ
يَسْأَلُ فِي أُمَّتِهِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ
الْأَحْبَارِ: يَا كَعْبُ، خَوِّفْنَا هَيِّجْنَا حَدِّثْنَا نَبِّهْنَا. فَقَالَ
لَهُ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَأَتَتْ
عَلَيْكَ تَارَاتٌ لَا يَهُمُّكَ إِلَّا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً
لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُنْتَخَبٌ إِلَّا وَقَعَ جَاثِيًا
عَلَى رُكْبَتَيْهِ، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ لَيُدْلِيُ
بِالْخُلَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ، لَا أَسْأَلُكَ
الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي! قَالَ: يَا كَعْبُ، أَيْنَ تَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ
نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ». وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِالنَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَتَّى تُخَاصِمَ الرُّوحُ الْجَسَدَ، فَتَقُولُ الرُّوحُ: رَبِّ،
الرُّوحُ مِنْكَ أَنْتَ خَلَقْتَهُ، لَمْ تَكُنْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا، وَلَا
رِجْلٌ أَمْشِي بِهَا، وَلَا عَيْنٌ أُبْصِرُ بِهَا، وَلَا أُذُنٌ أَسْمَعُ بِهَا
وَلَا عَقْلٌ أَعْقِلُ بِهِ، حَتَّى جِئْتُ فَدَخَلْتُ فِي هَذَا الْجَسَدِ،
فَضَعِّفْ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ وَنَجِّنِي، فَيَقُولُ الْجَسَدُ: رَبِّ،
أَنْتَ خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ فَكُنْتُ كَالْخَشَبَةِ، لَيْسَ لِي يَدٌ أَبْطِشُ
بِهَا، وَلَا قَدَمٌ أَسْعَى بِهِ، وَلَا بَصَرٌ أُبْصِرُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ
أَسْمَعُ بِهِ، فَجَاءَ هَذَا كَشُعَاعِ النُّورِ، فَبِهِ نَطَقَ لِسَانِي، وَبِهِ
أَبْصَرَتْ عَيْنِي، وَبِهِ مَشَتْ رِجْلِي، وَبِهِ سَمِعَتْ أُذُنِي، فَضَعِّفْ
عَلَيْهِ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ وَنَجِّنِي مِنْهُ. قَالَ: فَيَضْرِبُ اللَّهُ
لَهُمَا مَثَلًا أَعْمَى وَمُقْعَدًا دَخَلَا بُسْتَانًا فِيهِ ثِمَارٌ،
فَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ الثَّمَرَةَ وَالْمُقْعَدُ لَا يَنَالُهَا، فَنَادَى
الْمُقْعَدُ الْأَعْمَى ايتِنِي فَاحْمِلْنِي آكُلُ وَأُطْعِمُكَ، فَدَنَا مِنْهُ
فَحَمَلَهُ، فَأَصَابُوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب؟ (قالا «١»: عليهما) قال:
عليكما جميعا العذاب، ذكره الثعلبي.
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً
كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
(١). من ج وى، وفى و: قال.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً) هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دَعَا عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَقَالَ:» اللَّهُمَّ اشْدُدْ
وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ«.
فَابْتُلُوا بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا فَفُرِّقَ فِيهِمْ. (كانَتْ آمِنَةً) لا يهاج أهلها.
(يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ) مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ،
نَظِيرُهُ» يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «١» «الْآيَةَ. (فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ) الْأَنْعُمُ: جَمْعُ النِّعْمَةِ، كَالْأَشُدِّ جَمْعُ
الشِّدَّةِ. وَقِيلَ: جَمْعُ نُعْمَى، مِثْلَ بُؤْسَى وَأَبْؤُسٍ. وَهَذَا
الْكُفْرَانُ تَكْذِيبٌ بِمُحَمَّدٍ ﷺ. (فَأَذاقَهَا اللَّهُ) أَيْ أَذَاقَ
أَهْلَهَا. (لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) سَمَّاهُ لِبَاسًا لِأَنَّهُ يَظْهَرُ
عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ
كَاللِّبَاسِ. (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي من الكفر والمعاصي. وقرا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو
عَمْرٍو فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْوَارِثِ وَعُبَيْدٌ وَعَبَّاسٌ»
وَالْخَوْفُ«نَصْبًا بِإِيقَاعِ أَذَاقَهَا عَلَيْهِ، عَطْفًا عَلَى.» لِباسَ
الْجُوعِ«[أي أذاقها الله لِبَاسَ الْجُوعِ «٢»]» وَأَذَاقَهَا الْخَوْفَ. وَهُوَ
بَعْثُ النَّبِيِّ ﷺ سَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تَطِيفُ بِهِمْ. وَأَصْلُ
الذَّوْقِ بِالْفَمِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الِابْتِلَاءِ.
وَضَرَبَ مَكَّةَ مَثَلًا لِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، أَيْ أَنَّهَا مَعَ
جِوَارِ بَيْتِ اللَّهِ وَعِمَارَةِ مَسْجِدِهِ لَمَّا كَفَرَ أَهْلُهَا
أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّهَا الْمَدِينَةُ، آمَنَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ
اللَّهِ لِقَتْلِ عثمان ابن عَفَّانَ، وَمَا حَدَثَ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ مِنَ الْفِتَنِ. وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ ﷺ.
قيل: إِنَّهُ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ بِأَيِّ قَرْيَةٍ كَانَتْ عَلَى هذه الصفة من سائر
القرى.
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٣]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
(١). راجع ج ١٣ ص ٢٩٩.
(٢).
من ج وى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ
جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) هذا بدل عَلَى أَنَّهَا مَكَّةُ. وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وَهُوَ
الْجُوعُ الَّذِي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها.
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٤]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (١١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أَيْ كُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ إِلَيْهِمْ
بِطَعَامٍ رِقَّةً عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتُلُوا بِالْجُوعِ
سَبْعَ سِنِينَ، وَقَطَعَ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ
أَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ وَالْجِيفَةَ وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ
وَالْجُلُودَ وَالْعِلْهِزَ، وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ. ثُمَّ إِنَّ
رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا «١» رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا:
هَذَا عَذَابُ الرِّجَالِ فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَقَالَ لَهُ
أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ
وَالْعَفْوِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. فَدَعَا
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ «٢» بِحَمْلِ الطعام إليهم وهم بعد
مشركون.
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ»
الْقَوْلُ فِيهَا مُسْتَوْفًي «٣».
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ
(١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
(١). في ج: كاتبوا. [.....]
(٢).
في ى: أمر الناس.
(٣).
راجع ج ٢ ص ٢١٦ وما بعدها.
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِما تَصِفُ) ما هاهنا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لِوَصْفِ.
وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ سَبَبٍ وأجل، أي لا تقولوا لِأَجْلِ
وَصْفِكُمُ«الْكَذِبَ» بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ لِمَا تصف ألسنتكم من الكذب.
وقرى.«الكذب» بضم الكاف والذال والياء، نَعْتًا لِلْأَلْسِنَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
«١». وَقَرَأَ الْحَسَنُ هُنَا خَاصَّةً «الْكَذِبَ» بِفَتْحِ الْكَافِ وَخَفْضِ
الذَّالِ وَالْبَاءِ، نعتا«لما»، التقدير: وَلَا تَقُولُوا لِلْكَذِبِ الَّذِي
تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ، (هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ). الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ حَرَّمُوا الْبَحَائِرَ
وَالسَّوَائِبَ وَأَحَلُّوا مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَ ميتة.
فقوله:«هَذَا حَلالٌ» إِشَارَةً إِلَى مَيْتَةِ بُطُونِ الْأَنْعَامِ، وكل ما
أحلوه. وقوله:«وَهذا حَرامٌ» إِشَارَةً إِلَى الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَكُلِّ
مَا حَرَّمُوهُ. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا
يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ) أَيْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا
يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَتَاعُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ.
وَقِيلَ: لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عذاب أليم. الثانية- أسند
الدرامى أبو محمد في مسنده: أخبارنا هَارُونُ عَنْ حَفْصٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ:
مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَطُّ يَقُولُ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَانَ
يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ. قال ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حرام، ولكن يقولون إِيَّاكُمْ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا.
ومعنى هذا: ان التحليل وتحريم إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عز وجل، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ
أَنْ يَقُولَ أَوْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ من الأعيان، الا ان يكون الباري
تَعَالَى يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ. وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي
أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ: إِنِّي أَكْرَهُ [كَذَا]. وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ
اقْتِدَاءً بِمَنْ تقدم من اهل التقوى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ
لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنَّهَا حَرَامٌ وَيَكُونُ ثَلَاثًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ ابى طالب يقول انها
اقْتَدَى بِهِ. وَقَدْ يَقْوَى الدَّلِيلُ عَلَى التَّحْرِيمِ
(١). راجع ص ١٢٠ من هذا الجزء.
عن المجتهد فلا بأس عنه ذَلِكَ أَنْ
يَقُولَ ذَلِكَ، كَمَا يَقُولُ إِنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الْأَعْيَانِ
السِّتَّةِ «١»، وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ مَالِكٌ رحمه الله، فَذَلِكَ حَرَامٌ لَا
يَصْلُحُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَفِيمَا خَالَفَ الْمَصَالِحَ وَخَرَجَ
عَنْ طَرِيقِ الْمَقَاصِدِ لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ في ذلك.
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:» وَعَلَى
الَّذِينَ هادُوا«بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ حَلَالٌ لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ، فَأَمَّا اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» أَيْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ «٢». (وَما ظَلَمْناهُمْ) أَيْ
بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عُقُوبَةً لهم، كما تقدم في النساء
«٣».
[سورة
النحل (١٦): آية ١١٩]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ
رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أَيِ الشِّرْكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النساء «٤».
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢٠]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً
قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ
إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) دَعَا عليه السلام مُشْرِكِي
الْعَرَبِ إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ كَانَ أَبَاهُمْ وَبَانِيَ الْبَيْتِ
الَّذِي بِهِ عِزُّهُمْ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَحَامِلُهُ «٥». وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود
(١). هي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر
والملح.
(٢).
راجع ج ٧ ص ١٢٤.
(٣).
راجع ج ٦ ص ١٢.
(٤).
راجع ج ٥ ص ٩٢.
(٥).
راجع ج ٢ ص ١٢٧.
قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُعَاذًا!
كَانَ أُمَّةً قَانِتًا. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا
ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل بِهَذَا إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ
الْأُمَّةَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَإِنَّ الْقَانِتَ هُوَ
الْمُطِيعُ. وقد تقدم القنوت في البقرة «١» و «حَنِيفًا» في الانعام «٢».
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
شاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ
وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: شاكِرًا أَيْ
كَانَ شَاكِرًا. (لِأَنْعُمِهِ) الْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
و(اجْتَباهُ) أَيِ اخْتَارَهُ. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قِيلَ: الْوَلَدُ الطَّيِّبُ. وَقِيلَ الثَّنَاءُ
الْحَسَنُ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مَقْرُونَةٌ بِالصَّلَاةِ
عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام فِي التَّشَهُّدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَهْلُ
دِينٍ إِلَّا وَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ. وَقِيلَ: بَقَاءُ ضِيَافَتِهِ وَزِيَارَةُ
قَبْرِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّهُ وَزَادَهُ ﷺ. (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).«مِنْ» بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ
الصَّالِحِينَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مَعَ الصَّالِحِينَ.
وَقَدْ تقدم هذا في البقرة «٣»
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ
بِاتِّبَاعِهِ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ كَمَا عَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ جِبْرِيلُ عليهما
السلام. وَقَالَ
الطَّبَرِيُّ: أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الْأَوْثَانِ
وَالتَّزَيُّنِ بِالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيعِ
مِلَّتِهِ إِلَّا مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
عَلَى مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالصَّحِيحُ الِاتِّبَاعُ فِي عَقَائِدِ
الشَّرْعِ دُونَ الْفُرُوعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهاجًا»
».
(١). ج ٢ ص ٨٦ وج ٣ ص ٢١٣.
(٢).
ذكر في الانعام في موضعين، (ج ٧ ص ٢٨، ١٥٢) ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما
تكلم عليه في سورة البقرة ج ٢ ص ١٣٩ فراجعه.
(٣).
راجع ج ٢ ص ١٣٣.
(٤).
راجع ج ٦ ص ٢١١.
مَسْأَلَةٌ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتباع الأفضل للمفضول- لما تقدم «١» [إلى الصواب «٢»]-
وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا دَرَكَ «٣» عَلَى الْفَاضِلِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَقَدْ أُمِرَ
بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَقَالَ:» فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «٤»«. وَقَالَ هُنَا:»
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ«.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ
إِبْرَاهِيمَ وَلَا فِي دِينِهِ، بَلْ كَانَ سَمْحًا لَا تَغْلِيظَ فِيهِ، وَكَانَ
السَّبْتُ تَغْلِيظًا عَلَى الْيَهُودِ فِي رَفْضِ الْأَعْمَالِ وترك التبسيط فِي
الْمَعَاشِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ عِيسَى عليه السلام بِيَوْمِ
الْجُمْعَةِ فَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ
يَوْمًا وَاحِدًا. فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ
عِيدِنَا، فَاخْتَارُوا الْأَحَدَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ
مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مُوسَى عليه
السلام أَمَرَهُمْ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ وَعَيَّنَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ
بِفَضِيلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ، فَقَالَ
اللَّهُ لَهُ:» دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ«. وَقِيلَ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ
يَوْمٍ فِي الْجُمْعَةِ فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ فِي تَعْيِينِهِ، فَعَيَّنَتِ
الْيَهُودُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ.
وَعَيَّنَتِ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ فِيهِ
بِالْخَلْقِ. فَأُلْزِمَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
وَعَيَّنَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكِلَهُمْ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَةً، فَكَانَتْ خَيْرَ
الْأُمَمِ أُمَّةً. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ:» نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ
أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ
لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فهذا يومهم الذي
(١). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول.
(٢).
كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول. [.....]
(٣).
الدرك: التبعة.
(٤).
راجع ج ٧ ص ٣٥.
اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا
اللَّهُ لَهُ- قَالَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ- فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ
وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» فَقَوْلُهُ:«فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ» يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُمْ، فَإِنَّهُ
لَوْ عَيَّنَ لَهُمْ وَعَانَدُوا لَمَا قِيلَ«اخْتَلَفُوا». وَإِنَّمَا كَانَ
يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فَخَالَفُوا فِيهِ وَعَانَدُوا. وَمِمَّا يُقَوِّيهِ
أَيْضًا قَوْلُهُ عليه السلام:«أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمْعَةِ مَنْ كَانَ
قَبْلَنَا». وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ
طُرُقِهِ«فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ اخْتَلَفُوا
فِيهِ». وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ رُوِيَ:«إِنَّ اللَّهَ
كَتَبَ الْجُمْعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ وهدانا الله له
فالناس لنا تَبَعٌ». قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)
يُرِيدُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، اخْتَلَفُوا عَلَى نَبِيِّهِمْ
مُوسَى وَعِيسَى. وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ
بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَحَذَّرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ
فَيُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ كَمَا شَدَّدَ عَلَى اليهود.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- هَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِمُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ وَلِينٍ
دُونَ مُخَاشَنَةٍ وَتَعْنِيفٍ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ الْمُسْلِمُونَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَهِيَ مُحْكَمَةٌ فِي جِهَةِ الْعُصَاةِ مِنَ
الْمُوَحِّدِينَ، وَمَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ مَنْ أَمْكَنَتْ مَعَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنَ الْكُفَّارِ
وَرُجِيَ إِيمَانُهُ بِهَا دُونَ قِتَالٍ فَهِيَ فِيهِ مُحْكَمَةٌ. والله أعلم.
[سورة
النحل (١٦): آية ١٢٦]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
(١٢٦)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى- أَطْبَقَ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ،
وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِي كِتَابِ السِّيَرِ. وَذَهَبَ
النَّحَّاسُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا
مِنَ الْمَكِّيِّ اتِّصَالًا حَسَنًا، لِأَنَّهَا تَتَدَرَّجُ الرُّتَبُ مِنَ
الَّذِي يُدْعَى وَيُوعَظُ، إِلَى الَّذِي يُجَادِلُ، إِلَى الَّذِي يُجَازَى
عَلَى فِعْلِهِ. وَلَكِنْ مَا رَوَى الْجُمْهُورُ أَثْبَتُ، رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ
عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَأَى مَنْظَرًا سَاءَهُ،
رَأَى حَمْزَةَ قَدْ شُقَّ بَطْنُهُ، وَاصْطُلِمَ أَنْفُهُ، وَجُدِعَتْ أُذُنَاهُ،
فَقَالَ:«لَوْلَا أَنْ يَحْزَنَ النِّسَاءُ أَوْ تَكُونُ سُنَّةً بَعْدِي
لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ
لَأُمَثِّلَنَّ مَكَانَهُ بِسَبْعِينَ رَجُلًا» ثُمَّ دَعَا بِبُرْدَةٍ وَغَطَّى
بِهَا وَجْهَهُ، فَخَرَجَتْ رِجْلَاهُ فَغَطَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَجْهَهُ
وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ
عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ،
حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ،
فَلَمَّا دُفِنُوا وَفَرَغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:«ادْعُ إِلى
سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ- إِلَى قَوْلِهِ-
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» فَصَبَرَ. رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ
يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ. خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكْمَلُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ
فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ أُصِيبَ
بِظُلَامَةٍ أَلَّا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ إِلَّا مِثْلَ
ظُلَامَتِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ
ظَلَمَهُ رَجُلٌ فِي أَخْذِ مَالٍ ثُمَّ ائْتَمَنَ الظَّالِمُ الْمَظْلُومَ عَلَى
مَالٍ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ خِيَانَتَهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي ظَلَمَهُ، فَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: لَهُ ذَلِكَ، مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
وَسُفْيَانُ وَمُجَاهِدٌ، وَاحْتَجَّتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعُمُومِ لَفْظِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَفِرْقَةٌ مَعَهُ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:«أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا
تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
فِي«الْبَقَرَةِ» مستوفى «١»
(١). راجع ج ٢ ص ٣٥٥.
وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ
إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةِ
آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ الْآخَرُ مِنْ زَوْجَةِ الثَّانِي بِأَنْ تَرَكَهَا
عِنْدَهُ وَسَافَرَ، فَاسْتَشَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ رسول الله ﷺ في الْأَمْرِ فَقَالَ
لَهُ:» أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ«.
وَعَلَى هَذَا يَتَقَوَّى قَوْلُ مَالِكٍ فِي أَمْرِ الْمَالِ، لِأَنَّ
الْخِيَانَةَ لَاحِقَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ رَذِيلَةٌ لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِصَافِ
مِنْ مَالٍ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ فَيُشْبِهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَكَأَنَّ
اللَّهَ حَكَمَ لَهُ، كَمَا لَوْ تَمَكَّنَ الْأَخْذُ بِالْحُكْمِ مِنَ
الْحَاكِمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَتْهَا»
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ«. الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ
قُتِلَ بِهَا. وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، وَلَا يُتَعَدَّى قَدْرُ الْوَاجِبِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي» الْبَقَرَةِ«مُسْتَوْفًى «١»، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِذَايَاتِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ عُقُوبَةً، وَالْعُقُوبَةُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هِيَ الثَّانِيَةُ،
وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْتَوِيَ اللَّفْظَانِ وَتَتَنَاسَبَ دِبَاجَةُ
الْقَوْلِ، وَهَذَا بِعَكْسِ قَوْلِهِ:» وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «٢»
«وَقَوْلُهُ:» اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «٣» " فَإِنَّ الثَّانِيَ هُنَا
هُوَ الْمَجَازُ والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.
[سورة
النحل (١٦): الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ
بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
(١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى
أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. أَيِ اصْبِرْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ بِمِثْلِ مَا
عَاقَبُوا فِي الْمُثْلَةِ. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ
فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى رحمة الله. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ضَيْقٍ جَمْعُ
ضَيْقَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَشَفَ الضَّيْقَةَ عنا وفسح «٤»
(١). راجع ج ٣ ص ٣٥٥.
(٢).
راجع ج ٤ ص ٩٨.
(٣).
راجع ج ١ ص ٢٠٧.
(٤).
هذا عجز بيت للأعشى. وصدره في اللسان وديوانه:
فلئن ربك من رحمته
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ
الضَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ،
وَهُوَ غَلَطٌ مِمَّنْ رَوَاهُ. قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: الْكَسْرُ
وَالْفَتْحُ فِي الضَّادِ لُغَتَانِ فِي الْمَصْدَرِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الضِّيقُ
وَالضَّيْقُ مَصْدَرُ ضَاقَ يَضِيقُ. وَالْمَعْنَى: لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ مِنْ
كُفْرِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّيْقُ ما ضاف عَنْهُ صَدْرُكَ، وَالضِّيقُ
مَا يَكُونُ فِي الَّذِي يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب. وَقَالَ ابْنُ
السِّكِّيتِ: هُمَا سَوَاءٌ، يُقَالُ: فِي صَدْرِهِ ضَيْقٌ وَضِيقٌ. الْقُتَبِيُّ:
ضَيْقٌ مُخَفَّفُ ضَيِّقٍ، أَيْ لَا تَكُنْ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ فَخُفِّفَ، مِثْلُ
هَيِّنٍ وَهَيْنٍ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ ضَاقَ الرَّجُلُ إِذَا بَخِلَ،
وَأَضَاقَ إِذَا افْتَقَرَ. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أَيِ اتَّقَوُا الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ
بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةَ وَالْفَضْلِ وَالْبِرِّ وَالتَّأْيِيدِ. وَتَقَدَّمَ
مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَقِيلَ لِهَرَمِ بْنِ حِبَّانَ «١» عِنْدَ مَوْتِهِ: أَوْصِنَا،
فَقَالَ: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة» ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ«إِلَى
آخِرِهَا. تَمَّتْ سُورَةُ النَّحْلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ