recent
آخر المقالات

١٧- سُورَةُ الْإِسْرَاءِ

 

سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ. وَصَرَّحَ الْأُلُوسِيُّ بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَولهَا الْإِسْرَاء بالنبيء ﷺ وَاخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ.

وَتُسَمَّى فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.


فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فِي (أَبْوَابِ الدُّعَاءِ) عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِي ﷺ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ»

. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: «إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي» . وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهَا الْبُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ التَّفْسِيرِ)، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ) . وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَهُوَ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ (الْآشُورِيِّينَ) عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَهُمُ (الرُّومُ) عَلَيْهِمْ.

وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ سُبْحانَ، لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِهَذِهِ الْكَلِمَة. قَالَه فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا، وَهُمَا وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْله قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٣- ٧٦] . وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعًا، هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاء: ٦٠] وَقَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٨٠] . وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسًا، هَاتِهِ الْأَرْبَعُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى آخر السُّورَة [الْإِسْرَاء: ١٠٧] . وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْمُبْتَدَأَةُ بِقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٣٣]، وَقَوْلُهُ:

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٣٢]، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْآيَة

[الْإِسْرَاء: ٥٧]، وَقَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٧٨]، وَقَوْلُهُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٢٦] . وَقِيلَ إِلَّا ثَمَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- سُلْطانًا نَصِيرًا [الْإِسْرَاء: ٧٣- ٨٠] .

وَأَحْسَبُ أَنَّ مَنْشَأَ هَاتِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَ لَا تُنَاسِبُ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَ مَدَنِيَّةٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا.

وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زمن كثرت فِيهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ التَّشْرِيعُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَاتِ جَمَاعَتِهِمْ يَتَطَرَّقُ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَقَدْ ذُكِرَتْ فِيهَا أَحْكَامٌ مُتَتَالِيَةٌ لَمْ تُذْكَرْ أَمْثَالُ عَدَدِهَا فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ غَيْرِهَا عَدَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الْإِسْرَاء: ٢٣- ٣٨] .

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْإِسْرَاءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوع الْإِسْرَاء بالنبيء ﷺ تَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَهِيَ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي مُنْتَصَفِ السَّنَةِ.

وَلَيْسَ افْتِتَاحُهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ مُقْتَضِيًا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوعِ الْإِسْرَاءِ. بَلْ يَجُوزُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ بِمُدَّةٍ.

وَذُكِرَ فِيهَا الْإِسْرَاءُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تَنْوِيهًا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَتَذْكِيرًا بِحُرْمَتِهِ.

نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ.

وَعُدَّتِ السُّورَةُ الْخَمْسِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ سُورَةِ الْقُرْآنِ.

وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَعَشْرٌ فِي عد أهل الْعدَد بِالْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالشَّامِ، وَالْبَصْرَةِ. وَمِائَةٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ.


أَغْرَاضُهَا

الْعِمَادُ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتُ نبوة مُحَمَّد ﷺ.

وَإِثْبَاتُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ.

وَإِثْبَاتُ فَضْلِهِ وَفضل من أنزل عَلَيْهِ.

وَذِكْرُ أَنَّهُ مُعْجِزٌ.

وَرَدُّ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَفِيمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوهُ فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْهُ.

وَإِبْطَالُ إِحَالَتِهِمْ أَن يكون النبيء ﷺ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَافْتُتِحَتْ بِمُعْجِزَةِ الْإِسْرَاءِ تَوْطِئَةً لِلتَّنْظِيرِ بَيْنَ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَشَرِيعَةِ مُوسَى- عليه الصلاة والسلام عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ الدِّينِيَّة، ورمزا إِلَيْهَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ أعْطى مُحَمَّدًا ﷺ مِنَ الْفَضَائِلِ أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَى مَنْ قَبْلَهُ.

وَأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُ الْفَضَائِلَ فَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا فَائِتٌ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَحَلَّهُ بِالْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي تَدَاوَلَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يَسْتَأْثِرْهُمْ بِالْحُلُولِ

بِذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَهْبِطُ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَرَمْزُ أَطْوَارِ تَأْرِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَسْلَافِهِمْ، وَالَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي أَنَّ أَصْلَ تَأْسِيسِهِ فِي عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الْإِسْرَاء: ١] فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- عليه الصلاة والسلام بَعْدَ أَنْ هُجِرَ وَخُرِّبَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أُمَّتَهُ تُجَدِّدُ مَجْدَهُ.

وَأَنَّ اللَّهَ مَكَّنَهُ من حرمي النبوءة وَالشَّرِيعَةِ، فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى لَمْ يَكُنْ مَعْمُورًا حِينَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنَّمَا عُمِّرَتْ كَنَائِسُ حَوْلَهُ، وَأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَحْفَظُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَكَانَ إِفْسَادُهُمْ سَبَبًا فِي تَسَلُّطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَخَرَابِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَفِي ذَلِكَ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَتَكُونُ عَلَى يَدِ أُمَّةِ هَذَا الرَّسُولِ الَّذِي أَنْكَرُوا رِسَالَتَهُ.

ثُمَّ إِثْبَاتُ دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِآيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمِنَنِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ.

وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَتَرْكِ شُكْرِ غَيْرِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ اتِّخَاذِ بَنَاتٍ لَهُ.

وَإِظْهَارُ فَضَائِلَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ نَحْوَ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ، وَمُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمُرَاقَبَةُ اللَّهِ فِي ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّوْرَاةُ كُلُّهَا فِي خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا كَانَتْ فِي أَلْوَاحِ مُوسَى، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا

تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا

إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الْإِسْرَاء: ٢٢- ٣٩] .

وَيَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ الْأَلْوَاحَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْوَصَايَا الْعَشْرِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهَا أَحْكَامٌ قُرْآنِيَّةٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ.

عَلَى أَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا فِي الْأَلْوَاحِ مَذْكُورٌ فِي تِلْكَ الْآيِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ تَزِيدُ بِأَحْكَامٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: لِرَبِّهِ كَفُورًا [الْإِسْرَاء: ٢٥- ٢٧]، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١]، وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الْإِسْرَاء: ٣٤- ٣٩]، مَعَ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَفْصِيلٍ وَتَبْيِينٍ عَرِيَتْ عَنْهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْأَلْوَاحِ.

وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.

وَالْحَثُّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا.

وَالتَّحْذِيرُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَعَدَاوَتِهِ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَقِصَّةُ إِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ.

وَالْإِنْذَارُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.

وَذِكْرُ مَا عَرَضَ لِلْأُمَمِ مِنْ أَسْبَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَالْهَلَاكِ.

وَتَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَ الْإِسْلَامَ عَلَى بَاطِلِهِمْ.

وَمَا لَقِي النبيء ﷺ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِعَانَتِهِمْ بِالْيَهُودِ. وَاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ، وَتَحْمِيقِهِمْ فِي جَهْلِهِمْ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ.

وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالنُّذُرِ وَالْعِظَاتِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ مَا هُوَ علم وَحِكْمَة.

[١]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

الِافْتِتَاحُ بِكَلِمَةِ التَّسْبِيحِ مِنْ دُونِ سَبْقِ كَلَامٍ مُتَضَمِّنٍ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ

خَبَرًا عَجِيبًا يَسْتَقْبِلُهُ السَّامِعُونَ دَالًّا عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَرَفِيعِ مَنْزِلَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ.

فَإِنَّ جُمْلَةَ التَّسْبِيحِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ مَا يُوهِمُ تَشْبِيهًا أَوْ تَنْقِيصًا لَا يَلِيقَانِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافّات: ١٨٠] يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي أَكثر من التَّنْزِيه، وَذَلِكَ هُوَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُتَحَدَّثِ بِهِ كَقَوْلِهِ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّور: ١٦]، وَقَوْلِ الْأَعْشَى:

قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْبِيحُ صَادِرًا مِنْهُ كَانَ الْمَعْنَى تَعْجِيبَ السامعين، لِأَن التَّعَجُّب مُسْتَحِيلَةٌ حَقِيقَتُهُ عَلَى اللَّهِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فِي مَحَامِلِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ إِلَى التَّمْثِيلِ، مِثْلُ مَجِيءِ الرَّجَاءِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى نَحْوُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١٨٩]، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَجُّبُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْجِيبِ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ أَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ كَيْتَ وَكَيْتَ.

وَوَجْهُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مُزِيلًا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلِلْإِشْرَاكِ بِهِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ الْمُتَأَمِّلُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْعَجْزِ.

وَأَصْلُ صِيَغِ التَّسْبِيحِ هُوَ كَلِمَةُ «سُبْحَانَ اللَّهِ» الَّتِي نُحِتْ مِنْهَا السَّبْحَلَةُ. وَوَقَعَ التَّصَرُّفُ فِي صِيَغِهَا بِالْإِضْمَارِ نَحْوُ سُبْحَانَكَ وَسُبْحَانَهُ، وَبِالْمَوْصُولِ نَحْوُ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: ٣٦] وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا تُفِيدُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ هَذَا التَّعْجِيبِ وَالتَّنْوِيهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْحَادِثُ الْعَظِيمُ وَالْعِنَايَةُ الْكُبْرَى. وَيُفِيدُ أَنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ أَمْرٌ فَشَا بَيْنَ الْقَوْمِ، فَقَدْ آمَنُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَكْبَرَهُ الْمُشْرِكُونَ.

وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِرِفْعَةِ قدر مُحَمَّد ﷺ وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ دَعْوَتِهِ مَا لَا قيل لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، فَقَدْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ إِطْلَاعًا لَهُ عَلَى غَائِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَكَانٍ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وأَسْرى لُغَةٌ فِي سَرَى، بِمَعْنَى سَارَ فِي اللَّيْلِ، فَالْهَمْزَةُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ

التَّعْدِيَةَ حَاصِلَةٌ بِالْبَاءِ، بَلْ أسرى فعل مفتح بِالْهَمْزَةِ مُرَادِفُ سَرَى، وَهُوَ مِثْلُ أَبَانَ الْمُرَادِفُ بَانَ، وَمِثْلُ أَنْهَجَ الثَّوْبُ بِمَعْنَى نَهَجَ أَيْ بَلِيَ، فَ أَسْرى بِعَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧] .

وَلِلْمُبَرِّدِ وَالسُهَيْلِيِّ نُكْتَةٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ فِي الْفِعْلِ، فَأَصْلُ (ذَهَبَ بِهِ) أَنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٩] . وَقَالَتِ الْعَرَبُ أَشْبَعَهُمْ شَتْمًا، وَرَاحُوا بِالْإِبِلِ. وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ تُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا إِذْ قَالَ أَسْرى بِعَبْدِهِ دُونَ سَرَى بِعَبْدِهِ، وَهِيَ التَّلْوِيحُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مَعَ رَسُولِهِ فِي إِسْرَائِهِ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]، وَقَالَ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: ٤٠] .

فَالْمَعْنَى: الَّذِي جَعَلَ عَبْدَهُ مُسْرَيًا، أَيْ سَارِيًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: ٨١] .

وَإِذْ قَدْ كَانَ السُّرَى خَاصًّا بِسَيْرِ اللَّيْلِ كَانَ قَوْلُهُ: لَيْلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّيْرَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ إِلَّا تَأْكِيدًا، عَلَى أَنَّ الْإِفَادَةَ كَمَا يَقُولُونَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ.

وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِقَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ السَّيْرِ وَنِهَايَتِهِ فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ، وَأَيْضًا لِيَتَوَسَّلَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ إِلَى تَنْكِيرِهِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ.

فَتَنْكِيرُ لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ فِعْلِ أَسْرى، وَبِقَرِينَةِ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، أَيْ هُوَ لَيْلٌ عَظِيمٌ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ زَمَنًا

لِذَلِكَ السُّرَى الْعَظِيمِ، فَقَامَ التَّنْكِيرُ هُنَا مَقَامَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتِيجَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١- ٢] إِذْ وَقَعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. (١)

وَ(عَبْدُ) الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هَنَا هُوَ مُحَمَّد ﷺ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ الْعَبْدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الرَّاجِع إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا مُرَادًا بِهِ النَّبِي ﷺ

وَلِأَنَّ خَبَرَ الْإِسْرَاءِ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَشَاعَ إِنْكَارُهُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ الْمُرَادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا.

وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ لِأَنَّ وَصْفَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تُفِيدُ إِضَافَتُهُ تَعْرِيفًا.

وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ مِنْ طَوَافٍ بهَا واعتكاف عِنْدهَا وَصَلَاةٍ.

وَأَصْلُ الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ السُّجُودِ. وَأَصْلُ الْحَرَامِ: الْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْمِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْحَرَمَ. فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالْحَرَامِ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا يُنَاسِبُهُ، نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُ الْمِيتَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:

حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ


أَيْ مَمْنُوعٌ قُرْبَانُهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهُمْ.

وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ مِنْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ مَا. وَيُبَيَّنُ بِذِكْرِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَدْ لَا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الشَّهْرُ

(١) وَأما قَوْله: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ فَذَلِك توكيد لِأَن المتحدث عَنْهُم ينكرونه وَلَا يعبؤون بِمَا أعد لَهُم فِيهِ من الْأَهْوَال.

الْحَرامُ [الْبَقَرَة: ١٩٤] أَيِ الْحَرَامُ فِيهِ الْقِتَالُ فِي عُرْفِهِمْ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُتَعَلَّقُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، فَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ لِلتَّعْمِيمِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْعُمُومِ الْعُرْفِيِّ، فَفِي نَحْوِ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٢] يُرَادُ الْمَمْنُوعُ مِنْ عُدْوَانِ الْمُعْتَدِينَ، وَغَزْوِ الْمُلُوكِ وَالْفَاتِحِينَ، وَعَمَلِ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ فِيهِ.

وَالْحَرَامُ: فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ حَصَانٌ، أَيْ مَمْنُوعَةٌ بِعَفَافِهَا عَنِ النَّاسِ.

فَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِلسُّجُودِ، أَيْ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمَجْعُولُ حَرَمًا لَهَا. وَهُوَ يَخْتَلِفُ سَعَةً وَضِيقًا بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ لِلطَّوَافِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ.

وَقَدْ بَنَى قُرَيْشٌ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ بُيُوتَهُمْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَجَعَلَ قُصَيٌّ بِقُرْبِهِ دَارَ النَّدْوَةِ لِقُرَيْشٍ وَكَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَانْحَصَرَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِهِ بُيُوتُ عَشَائِرِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ كُلُّ عَشِيرَةٍ تَتَّخِذُ بُيُوتَهَا مُتَجَاوِرَةً. وَمَجْمُوعُ الْبُيُوتِ يُسَمَّى شِعْبًا- بِكَسْرِ

الشِّينِ-. وَكَانَتْ كُلَّ عَشِيرَةٍ تَسْلُكُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَنْفَذِ دُورِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارٌ يُحْفَظُ بِهِ. وَكَانَتِ الْمَسَالِكُ الَّتِي بَيْنَ دُورِ الْعَشَائِرِ تُسَمَّى أَبْوَابًا لِأَنَّهَا يُسْلَكُ مِنْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مِثْلُ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَبَابِ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَابِ بَنِي مَخْزُومٍ وَهُوَ بَابُ الصَّفَا، وَبَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَبَابُ بَنَيِ تَيْمٍ. وَرُبَّمَا عُرِفَ بَعْضُ الْأَبْوَابِ بِجِهَةٍ تَقْرُبُ مِنْهُ مِثْلُ بَابِ الصَّفَا وَيُسَمَّى بَابَ بَنِي مَخْزُومٍ. وَبَابَ الْحَزْوَرَةِ سُمِّيَ بِمَكَانٍ كَانَتْ بِهِ سُوقٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ تُسَمَّى الْحَزْوَرَةُ. وَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَتْ أَبْوَابًا تُغْلَقُ أَمْ كَانَتْ مَنَافِذَ فِي الْفَضَاءِ فَإِنَّ الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ حَاجِزَيْنِ.

وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جِدَارًا يُحْفَظُ بِهِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ.

وَلُقِّبَ بِالْمَسْجِدِ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ- عليه الصلاة والسلام جَعَلَهُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣٧] . وَلَمَّا انْقَرَضَتِ الْحَنِيفِيَّةُ وَتَرَكَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الصَّلَاةِ تَنَاسَوْا وَصْفَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَصَارُوا يَقُولُونَ: الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ فِي الْإِسْلَامِ.

فَغَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا التَّعْرِيفُ التَّوْصِيفِيُّ فَصَارَ لَهُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَلَا أَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَا عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي عَصْرِ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي [الْبَقَرَةِ: ١٤٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فِي أول الْعُقُود [الْمَائِدَة: ٢] .

وَعَلَمِيَّتُهُ بِمَجْمُوعِ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ وَكِلَاهُمَا مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ. فَالْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِثْلُ النَّجْمِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي مثل الصَّعق، فَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِمَجْمُوعِهِمَا، وَلَمْ يَعُدَّ النُّحَاةُ هَذَا النَّوْعَ فِي أَقْسَامِ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ. وَلَعَلَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ. وَلَا بُدَّ مِنْ عَدِّهِ لِأَنَّ عَلَمِيَّتَهُ صَارَتْ بِالْأَمْرَيْنِ.

وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الْكَائِنِ بِإِيلِيَاءَ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ- عليه الصلاة والسلام.

وَالْأَقْصَى، أَيِ الْأَبْعَدُ. وَالْمُرَادُ بُعْدُهُ عَنْ مَكَّةَ، بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ نِهَايَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ اقْتَضَاهُ هُنَا زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مُعْجِزَةِ هَذَا الْإِسْرَاءِ وَكَوْنُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ لِكَوْنِهِ قَطَعَ مَسَافَةً طَوِيلَةً فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ.

وَبِهَذَا الْوَصْفِ الْوَارِدِ لَهُ فِي الْقُرْآنِ صَارَ مَجْمُوعُ الْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كَانَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا الْعلم لَهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَكُنِ الْعَرَبُ يَصِفُونَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَسْجِدُ إِيلِيَاءَ. وَلَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ لِدِينٍ إِلَهِيٍّ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ.

وَفِي هَذَا الْوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ وَضْعِهَا مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هُوَ مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هُوَ قَصِيٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْصَى مِنْهُ حِينَئِذٍ.

فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالَّتِي بَينهَا

قَول النبيء ﷺ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ:

مَسْجِدُ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي»

. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الْإِسْرَاءِ وَنِهَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْرَانِ:

- أَحَدُهُمَا: التَّنْصِيصُ عَلَى قِطَعِ الْمَسَافَةِ الْعَظِيمَةِ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وَهُوَ لَيْلًا وَمِنَ الْمَجْرُورَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَسْرى، فَهُوَ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ.

- وَثَانِيهِمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذَا الْإِسْرَاءَ رَمْزًا إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عليه الصلاة والسلام الصَّادِرُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ مَقَرُّهَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِلَى خَاتِمَتِهَا الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَكَّةَ أَيْضًا فَقَدْ صَدَرَتِ الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَفَرَّعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا عَادَ الْإِسْرَاءُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ. وَبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.

وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ نزُول التشريع الاجماعي فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَفِيهَا: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ

إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاء: ٢٣- ٣٥] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَكُونُ دِينًا يَحْكُمُ فِي النَّاسِ وَتُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ.

وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام كَمَا

وَرَدَ ذَلِك عَن النبيء ﷺ. فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلٌ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً»

. فَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام. وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ذِكْرَهُ. وَهُوَ مِمَّا خصّ الله نبيئه بِمَعْرِفَتِهِ. وَالتَّوْرَاةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ فِلَسْطِينَ) نَصَبَ خَيْمَتِهِ فِي الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلَ (بَيْتُ إِيلَ مَدِينَةٌ عَلَى بُعْدِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى الشَّمَالِ وَهُوَ بَلَدٌ كَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ (لَوْزًا) فَسَمَّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إِيلَ، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) وَغَرْبِيَّ بِلَادِ عَايِ (مَدِينَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تُعْرَفُ الْآنَ «الطَّيِّبَةُ») وَبَنَى هُنَالِكَ مَذْبَحَا لِلرَّبِّ.

وَهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَذْبَحَ عَلَى الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْقَرَابِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:

دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ ... صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ

أَيْ مَكَانِ الْمَذْبَحِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ مَحل التَّعَبُّد، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمرَان: ٣٩] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَوَخَّى دَاوُدُ- عليه السلام أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الْخَيْمَةَ وَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرَابَهُ أَوْ أوحى الله إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْصَى ابْنَهُ سُلَيْمَانَ- عليه السلام أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ، أَيِ الْهَيْكَلَ. وَقَدْ ذكر مؤرخو العبرانيين وَمِنْهُم (يوسيفوس) أَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ

بِأَرْضِ كَنْعَانَ اسْمُهُ (نَابُو) وَأَنه هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي ابْتَنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ الْهَيْكَلَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ.

وَقِصَّةُ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ.

وَقَدِ انْتَابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ:

- أُولَاهَا: حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بَابِلَ سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ جَدَّدَهُ الْيَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الْفُرْسِ.

- الثَّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومَانُ فِي مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَأُعِيدَ بِنَاؤُهُ، فَأَكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أَدْرِيَانُوسُ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ وَعَفَّى آثَارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ إِلَّا أَطْلَالٌ.

- الثَّالِثَةُ لَمَّا تَنَصَّرَتِ الْمَلِكَةُ هيلانة أم الإنبراطور قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وَصَارَتْ مُتَصَلِّبَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَأُشْرِبَ قَلْبُهَا بُغْضَ الْيَهُودِ بِمَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمَسِيحَ كَانَ مِمَّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زَارَتْ أُورْشَلِيمَ أَنْ أَمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنْ يُنْقَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسَاطِينِ وَنَحْوِهَا فَتُبْنَى بِهَا كَنِيسَةٌ عَلَى قَبْرِ الْمَسِيحِ الْمَزْعُومِ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَوْضِعَ الْقَبْرِ (وَالْمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصَارَى يَشُكُّونَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْعَى أَنَّ الْمَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ) وَأَنْ تُسَمِّيَهَا كَنِيسَةَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَتْ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَرْمَى أَزْبَالِ الْبَلَدِ وَقِمَامَاتِهِ فَصَارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا الْأَزْبَالُ فَغَطَّتْهَا وَانْحَدَرَتْ عَلَى دَرَجِهَا.

وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أَرْضِ الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَة إيلياء (١) وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ)

(١) انْظُر «الْإِنْس الْجَلِيل فِي تَارِيخ الْقُدس والخليل» فِي ذكر خراب الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَلم أَقف على وَجه تَسْمِيَة أورشليم باسم إيلياء الْمَذْكُور، وَلَعَلَّه هُوَ، سمي باسم الْمَدِينَة المقدسة عِنْدهم.

وَصَارَتْ تُسَمَّى إِيلِيَاءَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ- وَكَذَلِكَ كَانَ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ عِنْد الْعَرَب عِنْد مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فِلَسْطِينَ.

وإيلياء اسْم نبيء مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ التَّاسِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وَبَيْتَانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلَاتُهُ ... وَبَيْتٌ بِأَعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ

وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُمَرَ وَأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ نَصَارَى. قَالَ عُمَرُ لِبِطْرِيقٍ لَهُمُ اسْمُهُ (صَفْرُونِيُوسَ) «دُلَّنِي على مَسْجِد دَاوُود»، فَانْطَلَقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الْبَابِ وَقَدِ انْحَدَرَ الزِّبْلُ عَلَى دَرَجِ الْبَابِ فَتَجَشَّمَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ وَنَظَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَسْجِد دَاوُود الَّذِي أَخْبَرَنَا رَسُول الله ﷺ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَيْهِ» . ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ يَكْنُسُونَ الزِّبْلَ عَنِ الصَّخْرَةِ حَتَّى ظَهَرَتْ كُلُّهَا، وَمَضَى عُمَرُ إِلَى جِهَة محراب دَاوُود فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِ الْقُدْسِ إِلَى فِلَسْطِينَ.

وَلَمْ يَبْنِ هُنَالِكَ مَسْجِدًا إِلَى أَنْ كَانَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمَرَ بِابْتِدَاءِ بِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى الصَّخْرَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَوَكَّلَ عَلَى بِنَائِهَا رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ الْكَنَدِيَّ أَحَدَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، فَابْتَدَأَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.

كَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ.

وَلِهَذَا فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ اعْتُبِرَ فِيهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ، حُكْمَ الْمَسْجِدِيَّةِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ. فَالتَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهِيَ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مَسْجِدًا بِأَكْمَلِ حَقِيقَةِ الْمَسَاجِدِ.

وَاسْتَقْبَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا الْمُقَارِنِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمَّ نُسِخَ اسْتِقْبَالُهُ وَصَارَتِ الْكَعْبَةُ هِيَ الْقِبْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ.

وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ سَائِحًا نَصْرَانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زَارَ الْقُدْسَ سَنَةَ ٦٧٠ م، أَيْ بَعْدِ خِلَافَةِ عُمَرَ بِأَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى مَسْجِدًا بَنَاهُ عُمَرُ عَلَى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِنْ أَلْوَاحٍ وَجُذُوعِ أَشْجَارٍ ضَخْمَةٍ وَأَنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلَاثَةِ آلَافٍ. (١)

وَالظَّاهِرُ أَنَّ نِسْبَةً الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهْمٌ مِنْ أَوْهَامِ النَّصَارَى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِنَاءً. وَإِذَا صَدَقَ ارْكُولْفُ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ رَأَى مَكَانًا مُرَبَّعًا مِنْ أَلْوَاحٍ وَعَمَدِ أَشْجَارٍ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ مُسْلِمُو الْبِلَادِ لِصِيَانَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عَنِ الِامْتِهَانِ.

وَقَوْلُهُ الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَجِيءَ فِي الصِّفَةِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ الْمَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السَّامِعِينَ.

وَالْمَقْصُودُ إِفَادَةُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ حَوْلَهُ.

وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَكْثِيرِ الْفِعْلِ، مِثْلُ عَافَاكَ اللَّهُ.

وَالْبَرَكَةُ: نَمَاءُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوَابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ وبإجابة دُعَاءِ الدَّاعِينَ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِي [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦] .

وَقَدْ وُصِفَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمرَان: ٩٦] .

وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ هَذَا التَّبْرِيكِ أَنَّ شُهْرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْبَرَكَةِ وَبِكَوْنِهِ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَقَدْ تَنَاسَى النَّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالْعَرَبُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ وَالنَّصَارَى عَفَّوْا أَثَرَهُ مِنْ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، وَالْيَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ وَأَيِسُوا مِنْ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ، فَاحْتِيجَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِبَرَكَتِهِ.

(١) مقَال حَرَّره عَارِف عَارِف فِي الْجُمْلَة الْمُسَمَّاة رِسَالَة الْعلم بالمملكة الأردنية فِي عدد ٢ من السّنة ١٢ كانون الأول سنة ١٩٦٨.

وَ«حَوْلَ» يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَانِ اسْمِ مَا أُضِيفَ (حَوْلَ) إِلَيْهِ.

وَكَوْنُ الْبَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهَا إِذَا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَا فِيهِ فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلَازُمِ، وَلَطِيفَةُ فَحَوَى الْخِطَابِ، وَلَطِيفَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ


وَلِكَلِمَةِ حَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُوَقِّعِ مَا لَيْسَ لِكَلِمَةِ (فِي) فِي بَيْتِ زِيَادٍ، ذَلِكَ أَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) أَعَمُّ. فَقَوْلُهُ: (فِي قُبَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا فِي سَاكِنِ الْقُبَّةِ لَكِنْ لَا تُفِيدُ انْتِشَارَهَا وَتَجَاوُزَهَا مِنْهُ إِلَى مَا حَوْلَهُ.

وَأَسْبَابُ بَرَكَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَثِيرَةٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ. مِنْهَا أَنَّ وَاضِعَهُ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام، وَمِنْهَا مَا لَحِقَهُ مِنَ الْبَرَكَةُ بِمَنْ صَلَّى بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاء من دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسَى- عليه السلام وَإِعْلَانِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فِيهِ وَفِيمَا حَوْلَهُ، وَمِنْهَا بَرَكَةُ مَنْ دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن قَبْرِي دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْبَرَكَاتِ حُلُول النبيء ﷺ فِيهِ ذَلِكَ الْحُلُولُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَصَلَاتُهُ فِيهِ بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.

وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا تَعْلِيلُ الْإِسْرَاءِ بِإِرَادَةِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي لِأَجْلِهَا منح الله نبيئه مِنْحَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ لِلْإِسْرَاءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» . وَأَهَمُّهَا وَأَجْمَعُهَا إِرَاءَتُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، أَيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الْآيَاتِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْ وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.

وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تُفِيدُ حَصْرَ الْغَرَضِ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا فِي مَدْخُولِهَا.

وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ أَعْلَقُ بِتَكْرِيمِ الْمُسْرَى بِهِ

وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ، لِأَنَّ إِرَاءَةَ الْآيَاتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرَّائِي بِوُجُودِهَا

الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥] .

فَإِنَّ فِطْرَةَ اللَّهِ جَعَلَتْ إِدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ أَثْبَتَ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَدْلُولَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيل أَو لم يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ، لِأَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ مُتَّسِعُ الْمَدَى لَا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أَنْطَقَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وَقَدْ بَادر مُحَمَّدًا ﷺ بِإِرَاءَةِ الْآيَاتِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهَا تَوْفِيرًا فِي الْفَضْلِ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَأَجَادَ:

وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنَى ... لَهُ سَأَلَ الْمُعَايَنَةَ الْكَلِيمُ

وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْوِيَةَ يَقِينِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُمْ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْيَقِينِ يَزِيدُونَ ارْتِقَاءً عَلَى دَرَجَةِ مُسْتَوَى الْبَشَرِ وَالْتِحَاقًا بِعُلُومِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَمُسَاوَاةً فِي هَذَا الْمِضْمَارِ لِمَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ.

وَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ مِنَ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ وَضَمِيرَيْهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ:

بارَكْنا ... ولِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ الْمُتَّبَعَةِ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فِي [الْفَاتِحَةِ: ٥] .

وَالِالْتِفَاتُ هُنَا امتاز بلطائف:

مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ وَجُمْلَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ صَارَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ مَقَامَ مُشَاهَدَةٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُغَيِّرَ الْإِضْمَارَ إِلَى ضَمَائِرِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُوَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ.

وَمِنْهَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَن النبيء- عليه الصلاة والسلام عِنْدَ حُلُولِهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى مَقَامِ مَصِيرِهِ فِي عَالَمِ الْمُشَاهَدَةِ.

وَمِنْهَا: التَّوْطِئَةُ وَالتَّمْهِيدُ إِلَى مَحْمَلٍ مَعَادِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَيَتَبَادَرُ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ عَادَ إِلَيْهِ ضمير لِنُرِيَهُ لِأَنَّ الشَّأْنَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ، وَلِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الِالْتِفَاتِ بِالْقُرْبِ لَيْسَ مِنَ الْأَحْسَنِ.

فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ عَائِدَانِ إِلَى النبيء ﷺ. وَقَالَهُ

بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَاسْتَقْرَبَهُ الطَّيْبِيُّ، وَلَكِنَّ جَمْهَرَةَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَعَلَّ احْتِمَالَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ.

وَقَدْ تَجِيءُ الْآيَاتُ مُحْتَمِلَةً عِدَّةَ مَعَانٍ. وَاحْتِمَالُهَا مَقْصُودٌ تَكْثِيرًا لِمَعَانِي الْقُرْآنِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُقدمَة التَّاسِعَة. وأياما كَانَ فَمَوْقِعُ (إِنَّ) التَّوْكِيدُ وَالتَّعْلِيلُ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فَصْلُ الْجُمْلَةِ عَمَّا قَبْلَهَا.

وَهِيَ إِمَّا تَعْلِيلٌ لإسناد فعل لِنُرِيَهُ إِلَى فَاعِلِهِ وَإِمَّا تَعْلِيلٌ لِتَعْلِيقِهِ بِمَفْعُولِهِ، فَيُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لمن يَنْبَغِي، فَهُوَ مِنْ إِيتَاءِ الْحِكْمَةِ مَنْ هُوَ أَهْلُهَا.

وَالتَّعْلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إِلَى النبيء ﷺ أَوْقَعُ، إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَى تَعْلِيلِ إِسْنَادِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ. وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ لِلتَّعْلِيلِ هُوَ إِعْطَاءُ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ الْعَجِيبَةِ لِمَنْ شَكَّ الْمُشْرِكُونَ فِي حُصُولِهَا لَهُ وَمَنْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهَا مِثْلُهُ.

عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ بِاللَّامِ وَبِضَمِيرِ الْفَصْل قصرا مؤكدا، وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِلْقَلْبِ، أَيْ هُوَ الْمُدْرِكُ لِمَا سَمِعَهُ وَأَبْصَرَهُ لَا الْكَاذِبُ وَلَا الْمُتَوَهِّمُ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذَا الْقَصْرُ يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى النبيء ﷺ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلرَّدِّ. وَلَا يُنَازِعُ الْمُشْرِكُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمُسْمِعُ وَالْمُبْصِرُ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّسُولِ عَنِ الْكَذِبِ وَالتَّوَهُّمِ.

ثُمَّ إِنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلَى تَقْدِير كَونهمَا للنبيء ﷺ هُمَا عَلَى أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَبُولِهِمَا لِتَلَقِّي تِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُدْهِشَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْم: ١٧]، وَقَوْلُهُ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: ١٢] .

وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمُنَاسِبُ أَنْ تُؤَوَّلَا بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ الْمُبْصِرِ، أَيِ الْقَادِرِ عَلَى إِسْمَاعِ عَبْدِهِ وَإِبْصَارِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:

أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ


أَيْ الْمُسْمِعُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْإِسْرَاءِ أَكَانَ بِجَسَدِ رَسُول الله ﷺ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ

أَمْ كَانَ بِرُوحِهِ فِي رُؤْيَا هِيَ مُشَاهَدَةٌ رُوحَانِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا:

هُوَ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ- رضي الله عنهم أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِامْتِنَانَ فِي الْآيَةِ وَتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ بِالْجَسَدِ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا من النبيء ﷺ عَلَامَاتٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي طَرِيقِهِ فَوَصَفَهَا لَهُمْ كَمَا هِيَ، وَوَصَفَ لَهُمْ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَافِلَةً فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَيَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ.

فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَن النبيء ﷺ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ ...»

إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِمَّا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَنْ بَيْتِهِ أَوْ كَانَ مَنْ بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَوْ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ.

وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ آخَرُ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَة. فللنبيء ﷺ

كَرَامَتَانِ: أُولَاهُمَا الْإِسْرَاءُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ هُنَا، وَالْأُخْرَى الْمِعْرَاجُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» مُطَوَّلًا وَأَحَادِيثَ غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي سُورَة النَّجْم.

[٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢]

وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: ١] إِلَخْ فَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالتَّقْدِيرُ:

اللَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ وَآتَى مُوسَى الْكِتَابَ، فَهُمَا مِنَّتَانِ عَظِيمَتَانِ عَلَى جُزْءٍ عَظِيمٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. فَإِنَّ أَطْوَارَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تُمَثِّلُ مَا تَطَوَّرَ بِهِ حَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي جَامِعَتِهِمْ مِنْ أَطْوَارِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَالنُّهُوضِ وَالرُّكُودِ، لِيَعْتَبِرَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ فَيَقْتَدُوا أَوْ يَحْذَرُوا.

وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الْإِسْرَاء: ١] فَإِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أوتيها النبيء ﷺ آيَةَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: وَآتَيْنَاهُ الْقُرْآنَ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (أَيِ التَّوْرَاةَ)، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩] أَيْ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ طَرِيقَةِ التَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا هُدًى، عَلَى مَا فِي حَالَةِ

الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيءِ- عليه الصلاة والسلام لَيْلًا لِيَرَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِحَالَةِ مُوسَى- عليه السلام حِينَ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ، فقد أُوتِيَ النبوءة لَيْلًا وَهُوَ سَارٍّ بِأَهْلِهِ مِنْ أَرْضِ مَدْيَنَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، وَلِحَالِهِ أَيْضًا حِين أسرِي بِهِ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ بِآيَاتِ الْكِتَابِ.

وَالْكِتَابُ هُوَ الْمَعْهُودُ إِيتَاؤُهُ مُوسَى- عليه السلام وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي جَعَلْناهُ لِلْكِتَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ الْهُدَى بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُدَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] .

وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَالْجَعْلُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ هُوَ جَعْلُ التَّكْلِيفِ. وَهُمُ الْمُرَادُ بِ «النَّاسِ» فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ [الْأَنْعَام: ٩١]، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِمْ، عَلَى أَنَّ مَا هُوَ هُدًى لِفَرِيقٍ مِنَ النَّاسِ صَالِحٌ لِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَدْيِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِكِتَابٍ آخَرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلَّا تَتَّخِذُوا- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى الْأَصْلِ فِي حِكَايَةِ مَا يُحْكَى مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ نَهْيًا، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ (الْكِتَابِ) مِنْ مَعْنَى الْأَقْوَالِ، وَيَكُونُ التَّفْسِيرُ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ اقْتِصَارًا عَلَى الْأَهَمِّ مِنْهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى اعْتِبَارِ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى، أَوْ تَكُونُ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِلَامٍ مَحْذُوفَةٍ حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالتَّقْدِيرُ: آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا.

وَالْوَكِيلُ: الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّبُّ، لِأَنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَيْهِ الْعباد فِي شؤونهم، أَيْ أَنْ لَا تَتَّخِذُوا شَرِيكا تلجئون إِلَيْهِ. وَقَدْ عُرِفَ إِطْلَاقُ الْوَكِيلِ عَلَى اللَّهِ فِي لُغَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ يَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يُوسُف: ٦٦] .

[٣]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣]

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣)

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْحِكَايَةِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ. فَانْتِصَابُ ذُرِّيَّةَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِزِيَادَةِ بَيَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيَانًا مَقْصُودًا بِهِ التَّعْرِيضُ بِهِمْ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، أَي حَال كونكم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ- عليه السلام،

أَوْ يَنْتَصِبُ عَلَى النداء بِتَقْدِير حرف النِّدَاءِ، أَيْ يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ

حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، مَقْصُودًا بِهِ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الْكُفْرِ بِهِ بِاتِّخَاذِ شُرَكَاءَ دُونَهُ.

وَالْحَمْلُ وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ لِنَقْلِهِ، وَالْمُرَادُ الْحَمْلُ فِي السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] أَيْ ذُرِّيَّةَ مَنْ أَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ مَعَ نُوحٍ- عليه السلام.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا مُفِيدَةٌ تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكِيلًا، لِأَنَّ أَجْدَادَهُمْ حُمِلُوا مَعَ نُوحٍ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَكَانَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا وَالَّذِينَ حُمِلُوا مَعَهُ كَانُوا شَاكِرِينَ مِثْلَهُ، أَيْ فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعَمَ اللَّهِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ فَتَكُونُ مِمَّا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُذَيِّلَةٌ لِجُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَيَكُونُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اخْتِيَارِ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ حَمَلَ مَعَ نُوحٍ- عليه السلام مَعَاني عَظِيمَةً مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّحْرِيضِ وَالتَّعْرِيضِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَكَانَ سَامُ مِمَّنْ رَكِبَ السَّفِينَةَ.

وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ قَصْدًا لِإِدْمَاجِ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ إِنْجَاءِ أُصُولِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ.

وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْجَى نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ شُكْرِهِ وَشُكْرِهِمْ تَحْرِيضًا عَلَى الِائْتِسَاءِ بِأُولَئِكَ.

وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَشْرَكُوا لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابٌ وَاسْتِئْصَالٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [هود: ٤٨] .

وَفِيهِ أَنَّ ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كَانُوا شِقَّيْنِ شِقٌّ بَارٌّ مُطِيعٌ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَشِقٌّ مُتَكَبِّرٌ كَافِرٌ وَهُوَ وَلَدُهُ الَّذِي غَرِقَ، فَكَانَ نُوحٌ- عليه السلام مَثَلًا لِأَبِي فَرِيقَيْنِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْفَرِيقِ الْبَارِّ، فَإِنِ اقْتَدَوْا بِهِ نَجَوْا وَإِنْ حَادُوا فَقَدْ نَزَعُوا إِلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُوشِكُ أَنْ يَهْلَكُوا. وَهَذَا التَّمَاثُلُ هُوَ نُكْتَةُ اخْتِيَارِ ذِكْرِ نُوحٍ مِنْ بَيْنِ أَجْدَادِهِمُ الْآخَرِينَ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ- عليهم السلام، لِفَوَاتِ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُولَئِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ اسْتِئْصَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَّتَيْنِ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ

وَعُلُوِّهِمْ مَرَّتَيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ إِهْمَالِهِمْ وَعْدَ اللَّهِ نُوحًا- عليه السلام حِينَمَا نَجَّاهُ.

وَتَأْكِيدُ كَوْنِ نُوحٍ كانَ عَبْدًا شَكُورًا بِحَرْفِ (إِنَّ) تَنْزِيلٌ لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ إِمَّا لِتَوْثِيقِ حَمْلِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى تَوَرَّطُوا فِي الْفَسَادِ فَاسْتَأْهَلُوا الِاسْتِئْصَالَ وَذَهَابَ مُلْكِهِمْ، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ لِأَنَّ مَثَلَهُمْ وَمَثَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ.

وَمَعْنَى كَوْنِ نُوحٍ عَبْدًا أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ لِلَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ غَيْرُ مُتَكَبِّرٍ بِالْإِشْرَاكِ، وَكَوْنُهُ شَكُورًا، أَيْ شَدِيدًا لِشُكْرِ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ.

وَالِاقْتِدَاءُ بِصَالِحِ الْآبَاءِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَمَحَلُّ تَنَافُسٍ عِنْدَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يُعَدُّ خِلَافُ ذَلِكَ كَمُثِيرٍ لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ الِانْتِسَابِ.

وَكَانَ نُوحٌ- عليه السلام مَثَلًا فِي كَمَالِ النَّفْسِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَتَنْبَعِثُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:

فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا ... كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يخون

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٤ إِلَى ٥]

وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢]، أَيْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هُدًى، وَبَيَّنَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ مُخَالَفَةِ هَدْيِ التَّوْرَاةِ إِعْلَامًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْ أُولَئِكَ إِرْشَادًا وَنُصْحًا، فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ.

وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّقْدِيرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْقَضَاءَ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَتَعْدِيَةُ قَضَيْنا بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ قَضَيْنا مَعْنَى (أَبْلَغْنَا)، أَيْ قَضَيْنَا وَأَنْهَيْنَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٦] . فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ (الْكِتَابِ) كِتَابَ التَّوْرَاةِ وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكِتَابَ آنِفًا، وَيُوجَدُ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ بِإِجْمَالٍ (انْظُرِ الْإِصْحَاحَ ٢٦ وَالْإِصْحَاحَ

٢٨ وَالْإِصْحَاحَ ٣٠)، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ (الْكِتَابِ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. فَتَعْرِيفُ (الْكِتَابِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ اسْمَ الْكِتَابِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ آخَرُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ الْأَسْفَارُ الْمُسَمَّاةُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ: أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَا، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَهِيَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَكَذَلِكَ كِتَابُ النَّبِيِّ مَلَاخِي.

وَالْإِفْسَادُ مَرَّتَيْنِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ وَكِتَابِ أَرْمِيَاءَ.

فَفِي كِتَابِ أَشْعِيَاءَ نِذَارَاتٌ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ. وَأُولَى الْمَرَّتَيْنِ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ أَرْمِيَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَغَيْرِهِمَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْكِتَابِ كِتَابًا وَاحِدًا فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ- بِلَامِ الْجِنْسِ- يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ وَلِذَلِكَ أَيْضًا وَقَعَ بِالْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ.

وَجُمْلَةُ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ- إِلَى قَوْله- حَصِيرًا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَانِعَةٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ أَوْ كِتَابَ اللَّهِ، أَيْ عِلْمَهُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى حَوَادِثَ عَظِيمَةٍ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْدَائِهِمْ مِنْ أُمَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ:

حَوَادِثُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَابِلِيِّينَ، وَحَوَادِثُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومَانِيِّينَ. فَانْقَسَمَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ مِنْهُمَا تَنْدَرِجُ فِيهِ حَوَادِثُهُمْ مَعَ الْبَابِلِيِّينَ، وَالنَّوْعُ الْآخَرُ حَوَادِثُهُمْ مَعَ الرُّومَانِيِّينَ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ بِمَرَّتَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى عِدَّةِ مَلَاحِمَ.

فَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ مَجْمُوعُ حَوَادِثَ مُتَسَلْسِلَةٍ تُسَمَّى فِي التَّارِيخِ بِالْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ وَهِيَ غَزَوَاتُ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكِ بَابِلَ وَآشُورَ بِلَادَ أُورْشَلِيمَ. وَالْغَزْوُ الْأَوَّلُ كَانَ سَنَةَ ٦٠٦ قَبْلَ الْمَسِيحِ، أَسَرَ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْيَهُودِ وَيُسَمَّى الْأَسْرَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ غَزَاهُمْ أَيْضًا غَزْوًا يُسَمَّى الْأَسْرَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، كَانَ سَنَةَ ٥٩٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَسَرَ مَلِكَ يَهُوذَا وَجَمْعًا غَفِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَأَخَذَ الذَّهَبَ الَّذِي فِي هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآنِيَةِ

النَّفِيسَةِ.

وَالْأَسْرُ الثَّالِثُ الْمُبِيرُ سَنَةَ ٥٨٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ غَزَاهُمْ «بُخْتُنَصَّرَ» وَسَبَى كُلَّ شَعْبِ يَهُوذَا، وَأَحْرَقَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ، وَبَقِيَتْ أُورْشَلِيمُ خَرَابًا يَبَابًا. ثُمَّ أَعَادُوا تَعْمِيرَهَا كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ [الْإِسْرَاء: ٦] .

وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ سِلْسِلَةُ غَزَوَاتِ الرُّومَانِيِّينَ بِلَادَ أُورْشَلِيمَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الْإِسْرَاء: ٦] الْآيَةَ.

وَإِسْنَادُ الْإِفْسَادِ إِلَى ضَمِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُفِيدٌ أَنَّهُ إِفْسَادٌ مِنْ جُمْهُورِهِمْ بِحَيْثُ تُعَدُّ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُفْسِدَةً وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو مِنْ صَالِحِينَ.

وَالْعُلُوُّ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا مَجَازٌ فِي الطُّغْيَانِ وَالْعِصْيَانِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدُّخان:

٣١] وَقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: ٣١] تَشْبِيهًا لِلتَّكَبُّرِ وَالطُّغْيَانِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الشَّيْءِ لِامْتِلَاكِهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.

وَأَصْلُ وَلَتَعْلُنَّ لَتَعْلُوُونَنَّ. وَأَصْلُ لَتُفْسِدُنَّ لَتُفْسِدُونَنَّ.

وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَوْعُودُ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ، أَيِ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ لِحُصُولِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْعُلُوِّ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الْكَهْف: ٩٨] .

وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولًا أَيْ مَعْمُولًا وَمُنَفَّذًا.

وَإِضَافَةُ وَعْدُ إِلَى أُولاهُما بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْعُلُوِّ.

وَالْبَعْثُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَكْوِينِ السَّيْرِ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٧]، وَهُوَ بَعْثُ تَكْوِينٍ وَتَسْخِيرٍ لَا بَعْثٌ بِوَحْيٍ وَأَمْرٍ.

وَتَعْدِيَةُ بَعَثْنا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّسْلِيطِ كَقَوْلِهِ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الْأَعْرَاف: ١٦٧] .

وَالْعِبَادُ: الْمَمْلُوكُونَ، وَهَؤُلَاءِ عِبَادُ مَخْلُوقِيَّةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: عِبَادُ اللَّهِ. وَيُقَالُ:

عَبِيدٌ، بِدُونِ إِضَافَةٍ، نَحْوُ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦]، فَإِذَا قُصِدَ

الْمَمْلُوكُونَ

بِالرِّقِّ قِيلَ: عَبِيدٌ، لَا غَيْرُ. وَالْمَقْصُودُ بِعِبَادِ اللَّهِ هُنَا الْأَشُورِيُّونَ أَهْلُ بَابِلَ وَهُمْ جُنُودُ بُخْتُنَصَّرَ.

وَالْبَأْسُ: الشَّوْكَةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْب. وَوَصفه بالشديد لِقُوَّتِهِ فِي نَوْعِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَة سُلَيْمَان [النَّمْل: ٣٣]: قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ.

وَجُمْلَةُ فَجاسُوا عَطْفٌ عَلَى بَعَثْنا فَهُوَ مِنَ الْمُقْضَى فِي الْكتاب. وَالْجُلُوس:

التَّخَلُّلُ فِي الْبِلَادِ وَطَرْقُهَا ذِهَابًا وَإِيَابًا لِتَتَبُّعِ مَا فِيهَا. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا تَتَبُّعُ الْمُقَاتَلَةِ فَهُوَ جَوْسُ مَضَرَّةٍ وَإِسَاءَةٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ.

وَ(خِلَالَ) اسْمٌ جَاءَ عَلَى وَزْنِ الْجُمُوعِ وَلَا مُفْرَدَ لَهُ، وَهُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَخَلَّلُ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الرّوم: ٤٨] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّيارِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ دِيَارِكُمْ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَعْلِ (اَلْ) عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَهِيَ دِيَارُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ فَقَدْ دَخَلَهَا جَيْشُ بُخْتُنَصَّرَ وَقَتَلَ الرِّجَالَ وَسَبَى، وَهَدَمَ الدِّيَارَ، وَأَحْرَقَ الْمَدِينَةَ وَهَيْكَلَ سُلَيْمَانَ بِالنَّارِ. وَلَفْظُ (الدِّيَارِ) يَشْمَلُ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ لِأَنَّهُ بَيْتُ عِبَادَتِهِمْ، وَأُسِرَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِذَلِكَ خَلَتْ بِلَادُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

[٦- ٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٦ الى ٨]

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا (٨)

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.

عَطَفَ جملَة فَجاسُوا [الْإِسْرَاء: ٥] فَهُوَ مِنْ تَمَامِ جَوَابِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الْإِسْرَاء: ٥]، وَمِنْ بَقِيَّةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَاضٍ لَفْظًا مُسْتَقْبَلٌ

مَعْنًى، لِأَنَّ (إِذَا) ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ. وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: نَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا فَيَجُوسُونَ وَنَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَنُمْدِدُكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَنَجْعَلُكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا.

وَ(ثُمَّ) تُفِيدُ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ وَالتَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مَعًا.

وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ. وَجِيءَ بِفِعْلِ رَدَدْنا مَاضِيا جَريا عَلَى الْغَالِبِ فِي جَوَابِ (إِذَا) كَمَا جَاءَ شَرْطُهَا فِعْلًا مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا [الْإِسْرَاء: ٥] أَيْ إِذَا يَجِيءُ يَبْعَثُ.

وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ.

فَقَوْلُهُ: عَلَيْهِمْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَرَّةَ، لِأَنَّ رُجُوعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أُورْشَلِيمَ كَانَ بِتَغَلُّبِ مَلِكِ فَارِسَ عَلَى مَلِكِ بَابِلَ.

وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَضَوْا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَسْرِ الْبَابِلِيِّينَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ سَلَّطَ اللَّهُ مُلُوكَ فَارِسَ عَلَى مُلُوكِ بَابِلَ الْأَشُورِيِّينَ فَإِنَّ الْمَلِكَ (كُورَشَ) مَلِكَ فَارِسَ حَارَبَ الْبَابِلِيِّينَ وَهَزَمَهُمْ فَضَعُفَ سُلْطَانُهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ (دَارِيُوسُ) مَلِكُ فَارِسَ وَفَتَحَ بَابِلَ سَنَةَ ٥٣٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَذِنَ لِلْيَهُودِ فِي سَنَةِ ٥٣٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَيُجَدِّدُوا دَوْلَتَهُمْ. وَذَلِكَ نَصْرٌ انْتَصَرُوهُ عَلَى الْبَابِلِيِّينَ إِذْ كَانُوا أَعْوَانًا لِلْفُرْسِ عَلَيْهِمْ.

وَالْوَعْدُ بِهَذَا النَّصْرِ وَرَدَ أَيْضًا فِي كتاب أشعياء فِي الْإِصْحَاحَاتِ: الْعَاشِرِ، وَالْحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِي عَشَرَ، وَغَيْرِهَا، وَفِي كِتَابِ أَرْمِيَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ وَالْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ

أَرْمِيَا «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيل لكل السَّبي الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ: ابْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا، وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ، وَكُلُوا ثَمَرَهَا، خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلَا تَقِلُّوا» .

ونَفِيرًا تَمْيِيز «لأكْثر» فَهُوَ تَبْيِينٌ لِجِهَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَالنَّفِيرُ. اسْمُ جَمْعٍ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْفِرُ مَعَ الْمَرْءِ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: «لَا فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ» .

وَالتَّفْضِيلُ فِي (أَكْثَرَ) تَفْضِيلٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كُنْتُمْ قَبْلَ الْجَلَاءِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَكْثَرَ نَفِيرًا مِنْ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَيْ أَفْنَى مُعْظَمَ الْبَابِلِيِّينَ فِي الْحُرُوبِ مَعَ الْفُرْسِ حَتَّى صَارَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بِلَادِ الْأَسْرِ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ الْبَابِلِيِّينَ.

وَقَوْلُهُ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها مِنْ جُمْلَةِ الْمَقْضِيِّ فِي الْكِتَابِ مِمَّا خُوطِبَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ كِتَابِ أَرْمِيَا «وَصَلُّوا لِأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ بِسَلَامِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلَامٌ» . وَفِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ «يَقُولُ الرَّبُّ أَزْرَعُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ يَهُوذَا وَيَكُونُ كَمَا سَهِرْتُ عَلَيْهِمْ لِلِاقْتِلَاعِ وَالْهَدْمِ وَالْقَرْضِ وَالْإِهْلَاكِ، كَذَلِكَ أَسْهَرُ عَلَيْهِمْ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لَا يَقُولُونَ: الْآبَاءُ أَكَلُوا حِصْرِمًا وَأَسْنَانُ الْأَبْنَاءِ ضَرَسَتْ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ» .

وَمَعْنَى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَنَّنَا نَرُدُّ لَكُمُ الْكَرَّةَ لِأَجْلِ التَّوْبَةِ وَتَجَدُّدِ الْجِيلِ وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي حَالَةِ نِعْمَةٍ، فَإِنْ أَحْسَنْتُمْ كَانَ جَزَاؤُكُمْ حَسَنًا وَإِن أسأتم أَسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَكَمَا أَهْلَكْنَا مَنْ قَبْلَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَقَدْ أَحْسَنَّا إِلَيْكُمْ بِتَوْبَتِكُمْ فَاحْذَرُوا الْإِسَاءَةَ كَيْلَا تَصِيرُوا إِلَى مَصِيرِ مَنْ قَبْلَكُمْ.

وَإِعَادَةُ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ تَنْوِيهٌ فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْأَحْوَصِ:

فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي شَرْحِ بَيْتِ الْأَحْوَصِ فِي الْحَمَاسَةِ: إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ (فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ) لِمَا اتَّصَلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مِنْ حَرْفِ الْجَرِّ الْمُفَادَةِ مِنْهُ الْفَائِدَةُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣]، وَلَوْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ لَمْ يُفِدِ الْقَوْلُ شَيْئًا كَقَوْلِكَ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيٍّ امْتَنَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا أَخَذْنَاهُ (فِي الْأَصْلِ أَجَزْنَاهُ) غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عِنْدِي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ» اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ امْتِنَاعَ أَبِي عَلِيٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ أَنْ تَكُونَ أَغْوَيْناهُمْ تَأْكِيدًا «لأغوينا» وَقَوْلُهُ: كَما غَوَيْنا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُسْنَدٌ إِلَى مُبْتَدَأٍ وَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فَتَمَّ الْكَلَامُ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ بَيْتِ الْأَحْوَصِ وَمِثَالُ ابْنِ جِنِّيٍّ: الَّذِي ضَرَبْتُهُ ضَرَبْتُهُ، فَيَرْجِعُ امْتِنَاعُ أَبِي عَلِيٍّ إِلَى أَنَّ مَا أَخَذَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فِي الْآيَةِ تَعَيُّنَهُ فِي بَيْتِ الْأَحْوَصِ.

وَأُسْلُوبُ إِعَادَةِ الْفِعْلِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعَلُّقِ شَيْءٍ بِهِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ يُقْصَدُ بِهِ الِاهْتِمَامُ

بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشُّعَرَاء:

١٣٠] وَقَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا [الْفرْقَان: ٧٢] .

وَقَوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ بِأَنْ جُعِلَتْ نَفْسُ الْمُحْسِنِ كَذَاتٍ يُحْسَنُ لَهَا. فَاللَّامُ- لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ أَحْسَنْتُمْ، يُقَالُ: أَحْسَنْتُ لِفُلَانٍ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. فَقَوْلُهُ: فَلَها مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ، تَقْدِيرُهُ: أَسَأْتُمْ لَهَا. وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ بِظَرْفٍ مُسْتَقِرٍّ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ أَسَأْتُمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ فَعَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٤٦] مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.

وَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ آيَةَ فُصِّلَتْ لَيْسَ فِيهَا تَجْرِيدٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ فِيهَا:

فَعَمَلُهُ لنَفسِهِ وإساءته عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُقَدَّرُ اسْمًا كَانَ الْمَجْرُورُ بَعْدَهُ مُسْتَقِرًّا غَيْرَ حَرْفِ تَعْدِيَةٍ، فَجَرَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِخْبَارُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَافِعًا فَيُخْبَرُ عَنْهُ بِمَجْرُورٍ بِاللَّامِ، أَوْ ضَارًّا يُخْبَرُ عَنْهُ بِمَجْرُورٍ بِ (إِلَى)، وَأَمَّا آيَةُ الْإِسْرَاءِ فَفِعْلُ «أَحْسَنْتُمْ وَأَسَأْتُمُ» الْوَاقِعَانِ فِي الْجَوَابَيْنِ مُقْتَضِيَانِ التَّجْرِيدَ فَجَاءَا عَلَى أَصْلِ تَعْدِيَتِهِمَا بِاللَّامِ لَا لِقَصْدِ نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ.

فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧]، إِذْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِذَا أَسَأْتُمْ وَجَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ.

وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ قَضَاءً لِحَقِّ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الْإِسْرَاء: ٥]، وَلِحَقِّ إِفَادَةِ تَرَتُّبِ مَجِيءِ وَعْدِ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ التَّقْسِيمِ إِلَى مَرَّتَيْنِ فَاتَتْ إِفَادَةُ التَّرَتُّبِ وَالتَّفَرُّعِ.

والْآخِرَةِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَرَّتَيْنِ، أَيْ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ.

وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَقِيَّةِ مَا قُضِيَ فِي الْكِتَابِ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِهِ بِالْفَاءِ.

وَالْآخِرَةُ ضد الأولى.

وَلَا مَاتَ «ليسوؤوا، وَلِيَدْخُلُوا، وَلِيُتَبِّرُوا» لِلتَّعْلِيلِ، وَلَيْسَتْ لِلْأَمْرِ لِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ

الْمَشْهُورَةِ عَلَى كَسْرِ اللَّامَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ كَانَا لَامَيْ أَمْرٍ لَكَانَا سَاكِنَيْنِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، فَيَتَعَيَّنُ أَن اللَّام الأول لَامُ أَمْرٍ (١) لَا لَامُ جَرٍّ. وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عبادا لنا ليسوؤا وُجُوهَكُمْ إِلَخْ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَر، وَيَعْقُوب لِيَسُوؤُا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ مِثْلَ أَخَوَاتِهِ الْأَفْعَالِ الْأَرْبَعَةِ. وَالضَّمَائِرُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِيَسُوؤُا إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا [الْإِسْرَاء: ٥]، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عبادا لنا ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ. وَلَيْسَتْ عَائِدَةً إِلَى قَوْلِهِ: عِبادًا لَنا الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: ٥]، لِأَن الَّذين أساؤوا وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ هَذِهِ الْمَرَّةَ أُمَّةٌ غَيْرُ الَّذِينَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ حَسَبِ شَهَادَةِ التَّارِيخِ وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ لِيَسُوءَ بِالْإِفْرَادِ وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ لِنَسُوءَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَنَّ الْهَمْزَةَ الْمَفْتُوحَةَ بَعْدَ الْوَاوِ قَدْ تُرْسَمُ بِصُورَةِ أَلْفٍ، فَالرَّسْمُ يَسْمَحُ بِقِرَاءَةِ وَاوِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ أَلِفَ الْفَرْقِ وَبِقِرَاءَتَيِ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ عَلَامَةُ الْهَمْزَةِ.

وَضَمِيرَا «لِيَسُوءُوا وليدخلوا» عَائِدَانِ إِلَى عِبادًا لَنا [الْإِسْرَاء: ٥] بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ لَا بِاعْتِبَار مَا صدق الْمَعَادِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ صَاحِبِ اسْمِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ تَعْوِيلٌ عَلَى الْقَرِينَةِ لِاقْتِضَاءِ السِّيَاقِ بُعْدَ الزَّمَنِ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ: فَكَانَ هَذَا الْإِضْمَارُ مِنَ الْإِيجَازِ.

(١) انْظُر أول الْفَقْرَة وَمَا يَجِيء بعد فِي الْفَقْرَة الموالية (الناشر) .

وَضَمِيرُ كَما دَخَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَذْكُورِ فِي ذِكْرِ الْمَرَّةِ الْأُولَى بِقَرِينَةِ اقْتِضَاءِ الْمَعْنَى مَرَاجِعَ الضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: ٩]، وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا

فَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى مَعَادِ (أَحْرَزُوا) وَمَعَادِ (جَمَعُوا) .

وَسَوْءُ الْوُجُوهِ: جَعْلُ الْمَسَاءَةِ عَلَيْهَا، أَيْ تَسْلِيطُ أَسْبَابِ الْمَسَاءَةِ وَالْكَآبَةِ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَبْدُوَ عَلَى وُجُوهِكُمْ لِأَنَّ مَا يُخَالِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ غَمٍّ وَحُزْنٍ، أَوْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

وَأُقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ أَرَادَ إِذَا مَا تَفَرَّقَ النَّاسُ وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ الْفَرَقِ فِي أَعْيُنِهِمْ.

وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دُخُولُ غَزْوٍ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاء: ٥] .

وَالتَّتْبِيرُ: الْإِهْلَاكُ وَالْإِفْسَادُ.

وَمَا عَلَوْا مَوْصُولُ هُوَ مَفْعُولُ «يُتَبِّرُوا»، وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا عَلَوْهُ، وَالْعُلُوُّ عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ.

وَلَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَّا بِتَوَقُّعِ الرَّحْمَةِ دُونَ رَدِّ الْكَرَّةِ، فَكَانَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ هُوَ مَا اقْتَرَفَهُ الْيَهُودُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالتَّمَرُّدِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى عِيسَى وَأَتْبَاعِهِ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ مَلَّاخِي فِي الْإِصْحَاحَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ وَأَنْذَرَهُمْ زَكَرِيَّاءُ وَيَحْيَى وَعِيسَى (١) فَلَمْ يَرْعَوُوا فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةَ بِيَدِ الرُّومَانِ.

(١) انْظُر الإصحاح الثَّالِث من إنجيل مرقس الحوارى.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَهُودَ بَعْدَ أَنْ عَادُوا إِلَى أُورْشَلِيمَ وَجَدَّدُوا مُلْكَهُمْ وَمَسْجِدَهُمْ فِي زَمَنِ (دَارِيُوسَ) وَأُطْلِقَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي غَلَبَهُمْ عَلَيْهَا الْبَابِلِيُّونَ وَكَانُوا تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِنْ سَنَةِ ٥٣٠ إِلَى سَنَةِ ٣٣٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ، ثُمَّ أَخَذَ مُلْكُهُمْ فِي الِانْحِلَالِ بِهُجُومِ الْبَطَالِسَةِ مُلُوكِ مِصْرَ عَلَى أُورْشَلِيمَ فَصَارُوا تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ إِلَى سَنَةِ ١٦٦ قَبْلَ الْمَسِيحِ إِذْ قَامَ قَائِدٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ (مِيثِيَا) وَكَانَ مِنَ اللَّاوِيِّينَ فَانْتَصَرَ لِلْيَهُودِ وَتَوَلَّى الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ وَتَسَلْسَلَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ فِي أَبْنَائِهِ فِي زَمَنٍ مَلِيءٍ بِالْفِتَنِ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ. دَخَلَتِ الْمَمْلَكَةَ تَحْتَ نُفُوذِ الرُّومَانِيِّينَ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا أُمَرَاءَ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ أَشْهَرُهُمْ (هِيرُودُسَ) ثُمَّ تَمَرَّدُوا لِلْخُرُوجِ عَلَى الرومانيين، فَأرْسل فيصر رُومِيَّةَ الْقَائِدَ (سِيسِيَانُوسَ) مَعَ ابْنِهِ الْقَائِدِ (طِيطُوسَ) بِالْجُيُوشِ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْمَسِيحِ

فَخَرُبَتْ أُورْشَلِيمُ وَاحْتَرَقَ الْمَسْجِدُ، وَأَسَرَ (طِيطُوسُ) نَيِّفًا وَتِسْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ، وَقَتَلَ مِنَ الْيَهُودِ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ نَحْوَ أَلْفِ أَلْفٍ، ثُمَّ اسْتَعَادُوا الْمَدِينَةَ وَبَقِيَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ بِهَا إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْإِمْبِرَاطُورُ الرُّومَانِيُّ (أَدْرِيَانُوسُ) فَهَدَمَهَا وَخَرَّبَهَا وَرَمَى قَنَاطِيرَ الْمِلْحِ عَلَى أَرْضِهَا كَيْلَا تَعُودَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ، وَذَلِكَ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ. وَبِذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُ الْيَهُودِ وَانْقَرَضَ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ تَخْرُجْ أُورْشَلِيمُ مِنْ حُكْمِ الرُّومَانِ إِلَّا حِينَ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخطاب سنة ١٦ هـ صُلْحًا مَعَ أَهْلِهَا وَهِيَ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ (إِيلِيَاءُ) .

وَقَوْلُهُ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ عَطْفَ التَّرْهِيبِ عَلَى التَّرْغِيبِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: بَعْدَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ وَيُؤَمِّنَكُمْ فِي الْبِلَاد الَّتِي تلجأون إِلَيْهَا، إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى عِقَابِكُمْ، أَيْ عُدْنَا لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا.

وَجُمْلَةُ وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ عِقَابٍ إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَأَنَّ وَرَاءَهُ عِقَابَ الْآخِرَةِ.

وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّ التَّعْرِيف فِي لِلْكافِرِينَ يَعُمُّ المخاطبين وَغَيرهم. ويومىء هَذَا إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى ذُنُوبِ الْكُفْرِ بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَعَدِّي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا الْكُفْرُ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَقَدْ حَصَلَ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا عِيسَى، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ وَلَكِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ.

وَالْحَصِيرُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ فَلَا يُسْتَطَاعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَهُوَ إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ، أَيْ مَحْصُور فِيهِ.

[٩، ١٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (١٠)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الْأَهَمِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ تأييد

النبيء ﷺ بِالْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَإِيتَاؤُهُ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْظَمُهَا آيَةُ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] . وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْكُتُبِ لِلْهُدَى وَالتَّحْذِيرِ، وَمَا نالهم من جراء مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَمِنْ عُدُولِهِمْ عَنْ سُنَنِ أَسْلَافِهِمْ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ. وَفِي ذَلِكَ فَائِدَةُ التَّحْذِيرِ مِنْ وُقُوعِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ الْفَائِدَةُ الْعُظْمَى مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ فَائِدَةُ التَّارِيخِ.

وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ مُرَاعًى فِيهِ حَالُ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُذْعِنُوا إِلَيْهِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ، فَالتَّوْكِيدُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ دَفْعِ الْإِنْكَارِ وَالِاهْتِمَامِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: هذَا الْقُرْآنَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَاضِرِ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمُنَزَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَبُيِّنَتِ الْإِشَارَةُ بِالِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْفِيسًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَثَرِ الْقَصَصِ الْمَهُولَةِ الَّتِي قُصَّتْ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ، فَأَخْبَرُوا بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يَعْصِمُهُمْ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذْ هُوَ يَهْدِي لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِمَّا سَلَكَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَ الْهِدَايَةِ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَنِذَارَةَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَفِي التَّعْبِير لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ سَتَأْتِي. وَتِلْكَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الرَّهْبَةِ بالرغبة وَعَكسه.

ولِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يَهْدِي، أَيْ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ مُلَازِمَاتِ السَّيْرِ وَالطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمِلَّةِ الْأَقْوَمِ، وَفِي حَذْفِ الْمَوْصُوفِ مِنَ الْإِيجَازِ مِنْ جِهَةٍ وَمِنَ التَّفْخِيمِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى مَا رَجَّحَ الْحَذْفَ عَلَى الذّكر.

والأقوم: تَفْضِيل الْقَوِيمِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ مِنْ هُدَى كِتَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الْإِسْرَاء: ٢] . فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَمَانِ سَلَامَةِ أُمَّةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَيْدَةِ عَنِ الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ مِنَ الْإِرْشَادِ قَوِيمٍ ذِي أَفْنَانٍ لَا يَحُولُ دُونَهُ وَدُونَ الْوُلُوجِ إِلَى الْعُقُولِ حَائِلٌ، وَلَا يُغَادِرُ مَسْلَكًا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْأَخْلَاقِ وَالطَّبَائِعِ إِلَّا سَلَكَهُ إِلَيْهَا تَحْرِيضًا أَوْ تَحْذِيرًا، بِحَيْثُ لَا يَعْدَمُ

الْمُتَدَبِّرُ فِي مَعَانِيهِ اجْتِنَاءَ ثِمَارِ أَفْنَانِهِ، وَبِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْهَا الْكُتُبُ السَّابِقَةُ كَانَتِ الطَّرِيقَةُ

الَّتِي يَهْدِي إِلَى سُلُوكِهَا أَقْوَمَ مِنَ الطَّرَائِقِ الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا وَاحِدَةً.

وَهَذَا وَصْفٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَعْنَى هِدَايَتِهِ إِلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ لَوْ أُرِيدَ تَفْصِيلُهُ لَاقْتَضَى أَسْفَارًا، وَحَسْبُكَ مِثَالًا لِذَلِكَ أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي سَدِّ مَسَالِكِ الشِّرْكِ بِحَيْثُ سَلِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا مِنَ التَّخْلِيطِ بَيْنَ التَّقْدِيسِ الْبَشَرِيِّ وَبَيْنَ التَّمْجِيدِ الْإِلَهِيِّ، فَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِحَالٍ، فَمَحَلُّ التَّفْضِيلِ هُوَ وَسَائِلُ الْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ مِنَ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَلَيْسَ مَحَلُّ التَّفْضِيلِ تِلْكَ الْغَايَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَاوَتُ.

وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ فُسِّرَ بِالْجَنَّةِ، وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِجَهَنَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِ الْأَجْرِ وَالْعَذَابِ، فَيَشْمَلَ أَجْرَ الدُّنْيَا وَعَذَابَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَعَادَةِ عَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشَقَائِهِ، فَجَعَلَ اخْتِلَافَ الْحَالَيْنِ فِيهِمَا مَوْعِظَةً لِحَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِشَارَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ عَذَابَ الْعَدُوِّ بِشَارَةٌ لِمَنْ عَادَاهُ.

وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ لِمُنَاسَبَةِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِسْرَاءِ فَلَا غَرَضَ فِي الْإِعْلَامِ بِحَالِ أهل الْكتاب.

[١١]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١١]

وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (١١)

مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَامِضٌ، وَانْتِزَاعُ الْمَعْنَى مِنْ نَظْمِهَا وَأَلْفَاظِهَا أَيْضًا، وَلَمْ يَأْتِ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ بِمَا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ

الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى بِشَارَةٍ وَإِنْذَارٍ وَكَانَ الْمُنْذَرُونَ إِذَا سَمِعُوا الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: ٤٨] عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ أَجَلًا مُسَمًّى. فَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وأَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مَرْيَم: ٦٦- ٦٧] وَإِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْكَافِرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآن.

وَفعل يدعوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى يَطْلُبُ وَيَبْتَغِي، كَقَوْلِ لَبِيدٍ:

أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطْفِلٍ ... بُذِلَتْ لِجِيرَانِ الْجَمِيعِ لِحَامُهَا

وَقَوْلُهُ: دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مَصْدَرٌ يُفِيدُ تَشْبِيهًا، أَيْ يَسْتَعْجِلُ الشَّرَّ كَاسْتِعْجَالِهِ الْخَيْر، يَعْنِي يستبطىء حُلُولَ الْوَعيد كَمَا يستبطىء أحد تَأَخّر خير وُعِدَ بِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا تَذْيِيلٌ، فَالْإِنْسَانُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلتَّذْيِيلِ، أَيْ وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إِلَّا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَفِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْجَالُ فَإِنَّ (كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَهَا مُتَّصِفٌ بِخَبَرِهَا اتِّصَافًا مُتَمَكِّنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: ٥٤] .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا الْكِنَايَةُ عَنْ عَدَمِ تَبَصُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يُونُس: ١١]، وَلَكِنَّهُ دَرَّجَ لَهُمْ وَصُولَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لُطْفًا بِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْعَامِلِ بِمَعْمُولِهِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] أَوْ لِتَضْمِينِ مَادَّةِ الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِعْجَالِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: ١٨] .

وَعَجُولٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي عَاجِلٍ. يُقَالُ: عَجِلَ فَهُوَ عَاجِلٌ وَعَجُولٌ.

وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَيَدْعُ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ إِجْرَاءً لِرَسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى حَالَةِ النُّطْقِ بِهَا فِي الْوَصْلِ كَمَا كُتِبَ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] وَنَظَائِرُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كُتِبَتْ بِالْوَاوِ لَكَانَ صَوَابا.

[١٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٢]

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (١٢)

عطف على وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الْإِسْرَاء: ١١]، إِلَخْ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَن جملَة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْإِبْطَاءَ تَأْخِيرُ الْوَعْدِ لَا يَرْفَعُهُ وَأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ لَا يُجْدِي صَاحِبَهُ لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلًا، وَلَمَّا كَانَ الْأَجَلُ عِبَارَةً عَنْ أَزْمَانٍ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى لَيْلٍ وَنَهَارٍ مُتَقَضِّيَيْنِ. وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي أَن الزَّمَان متقض وَإِن طَالَ.

فَلَمَّا أُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ أُدْمِجَ فِيهِ مَا هُوَ أَهَمُّ فِي الْعِبْرَةِ بِالزَّمَنَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُمَا آيَتَيْنِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنِهِمَا مِنَّتَيْنِ عَلَى النَّاسِ، وَكَوْنِ النَّاسِ رُبَّمَا كَرِهُوا

اللَّيْلَ لِظُلْمَتِهِ، وَاسْتَعْجَلُوا انْقِضَاءَهُ بِطُلُوعِ الصَّبَاحِ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ الْعِبْرَةِ فِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا آثَارُ النِّعْمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّيْرِ فِي النَّهَارِ.

وَاكْتَفَى بَعْدَهَا عَنْ عَدِّ نِعْمَةِ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ لِظُهُورِ ذَلِكَ بِالْمُقَابَلَةِ، وَبِتِلْكَ الْمُقَابَلَةِ حَصَلَتْ نِعْمَةُ الْعِلْمِ بِعَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ ظُلْمَةً أَوْ كُلُّهُ نُورًا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ.

وَفِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَرْبِ مَثَلٍ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَلِلضَّلَالِ وَالْهُدَى، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ:

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِلَى قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا [الْإِسْرَاء: ٩- ١٠]، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ١٥] . وَكُلُّ هَذَا الْإِدْمَاجِ تَزْوِيدٌ لِلْآيَةِ بِوَافِرِ الْمَعَانِي شَأْنَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِيجَازِهِ.

وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتَبْتَغُوا.

وَإِضَافَةُ آيَةٍ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَالْآيَة الَّتِي هِيَ النَّهَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ اللَّيْلِ الْآيَةَ الْمُلَازِمَةَ لَهُ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَتَكُونُ إِعَادَةُ لَفْظِ (آيَةٍ) فِيهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، وَيَصِيرُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ تَكْوِينِ هَذَيْنِ الْخَلْقَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَحْوِ أَنَّ الْقَمَرَ مَطْمُوسٌ لَا نُورَ فِي جِرْمِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْإِنَارَةَ بِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى كُرَتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أَنَّ الشَّمْس جعل ضوؤها سَبَبَ إِبْصَارِ النَّاسِ الْأَشْيَاءَ، ف مُبْصِرَةً اسْمُ فَاعِلِ (أَبْصَرَ) الْمُتَعَدِّي، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ بَاصِرًا. وَهَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَعْمَقُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةً وَعِلْمًا فَإِنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَمَا أُعِيدَ لَفْظُ (آيَةٍ) إِلَّا لِأَجْلِهَا.

وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَأُطْلِقَ عَلَى انْعِدَامِ النُّورِ، لِأَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَالظُّلْمَةُ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، فَشَبَّهَ اخْتِفَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَحْوِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أَيْ جَعَلْنَا الظُّلْمَةَ آيَةً وَجَعَلْنَا سَبَبَ الْإِبْصَارِ آيَةً. وَأَطْلَقَ وَصْفَ مُبْصِرَةً عَلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِسْنَادًا لِلسَّبَبِ.

وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عِلَّةٌ لِخُصُوصِ آيَةِ النَّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ: آيَتَيْنِ

وَجَاءَ التَّعْلِيلُ لِحِكْمَةِ آيَةِ النَّهَارِ خَاصَّةً دُونَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهَا أَوْضَحُ، وَلِأَنَّ من التنبه إِلَيْهَا يَحْصُلُ التَّنَبُّهُِ

إِلَى ضِدِّهَا وَهُوَ حِكْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٧] .

ثُمَّ ذُكِرَتْ حِكْمَةٌ أُخْرَى حَاصِلَةٌ مِنْ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ. وَهِيَ حِكْمَةُ حِسَابِ السِّنِينَ، وَهِيَ فِي آيَةِ اللَّيْلِ أَظْهَرُ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْبَشَرِ يَضْبُطُ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ بِاللَّيَالِي، أَيْ حِسَابِ الْقَمَرِ.

وَالْحِسَابُ يَشْمَلُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْفُصُولِ فَعَطْفُهُ عَلَى عَدَدَ السِّنِينَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِلتَّعْمِيمِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ اهْتِمَامًا بِهِ.

وَجُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ بِاعْتِبَار مَا سيق لَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِّ وَالْخَيْرِ والموعود بِهِمَا أَجَلًا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ مَحْدُودٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْدُوهُ، فَلَا يُقَرِّبُهُ اسْتِعْجَالٌ وَلَا يُؤَخِّرُهُ اسْتِبْطَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لَا إِبْهَامَ فِيهِ وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ.

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدَى (١) ... .....


فَلَا تَحْسَبُوا ذَلِكَ وَعْدًا سُدَى.

وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّمْيِيزُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْتِبَاسِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ صَدْرُ [هُودٍ: ١] .

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْيَاءِ يَكُونُ فِي خَلْقِهَا، وَنِظَامِهَا، وَعِلْمِ اللَّهِ بِهَا، وَإِعْلَامِهِ بِهَا.

فَالتَّفْصِيلُ الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي خَلْقِهِ وَنَوَامِيسِ الْعَوَالَمِ عَامٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ هُنَا. وَأَمَّا مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ فَذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى. يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرَّعْد: ٢] وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٩٧] . وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ عَلَى أَلْسِنَةِِِ

(١) صدر بَيت وَتَمَامه: «وكلا ذَلِك وَجه وَقبل» . وَهُوَ لعبد الله بن الزِّبَعْرَى.

الرُّسُلِ وَبِمَا خَلَقَ فِي النَّاسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فَصَّلَهُ لِلنَّاسِ الْإِرْشَاد إِلَى التَّوْحِيدِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى الْعِصْيَانِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.

وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَصَّلْناهُ لِاشْتِغَالِ الْمَذْكُورِ بِضَمِيرِ مفعول الْمَحْذُوف.

[١٣، ١٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]

وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)

لَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ جَارِيًا فِي طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذابًا أَلِيمًا [الْإِسْرَاء: ٩- ١٠] وَمَا عَقَّبَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَمَا أُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ ثَمَّ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، وَكَانَ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ كُلِّهَا، فَأَعْقَبَ ذِكْرَ مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْصِيلِ أَعْمَالِ النَّاسِ تَفْصِيلًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الْإِخْفَاءَ وَهُوَ التَّفْصِيلُ الْمُشَابِهُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابَةِ، فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الْإِسْرَاء: ١٢] عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَالْمَعْنَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ قَدَّرْنَا لَهُ عمله فِي علمنَا فَهُوَ عَامِلٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا.

وَالطَّائِرُ: أُطْلِقَ عَلَى السَّهْمِ، أَوِ الْقِرْطَاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُ الْحَظِّ فِي عَطَاءٍ أَوْ قُرْعَةٍ لِقِسْمَةٍ أَوْ أَعْشَارِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ، يُقَالُ: اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ فَطَارَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: «اقْتَسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ...» وَذَكَرَتْ قِصَّةَ وَفَاتِهِ.

وَأَصْلُ إِطْلَاقِ الطَّائِرِ عَلَى هَذَا: إِمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْمُونَ السِّهَامَ الْمَرْقُومَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى صُبَرِ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ. فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ السَّهْمُ الْمَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ. وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا فِي قُذَذِهِ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِرَاقُهُ الْهَوَاءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ الْقَوْسِ، فَالطَّائِرُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْحَظِّ مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ مَا.

وَإِمَّا مِنْ زَجْرِ الطَّيْرِ لِمَعْرِفَةِ بَخْتٍ أَوْ شُؤْمِ الزَّاجِرِ مِنْ حَالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فَأُطْلِقَ الطَّائِرُ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.

وَالْإِلْزَامُ: جَعَلَهُ لَازِمًا لَهُ، أَيْ غَيْرَ مُفَارِقٍ، يُقَالُ: لَزِمَهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْهُ.

وَقَوْلُهُ: فِي عُنُقِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْمُلَازَمَةِ وَالْقُرْبِ، أَيْ عَمَلُهُ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ تُقَلِّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، فَلِذَلِكَ خُصَّتْ بِالْعُنُقِ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُوضَعُ فِي عُنُقِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

وَالشِّعْرُ قَلَّدْتُهُ سَلامَة ذَا فا ... ئش وَالشَّيْءُ حَيْثُمَا جُعِلَا (١)

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالَةٍ لَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَهِيَ وَضْعُ عَلَامَاتٍ تُعَلَّقُ فِي الرِّقَابِ لِلَّذِينَ يُعَيَّنُونَ لِعَمَلٍ مَا أَوْ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، كَمَا قَالَ بَشَّارٌ:

كَتَبَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي ... مَوْضِعَ الْخَاتم من أَهله الذِّمَمِ

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عُنُقِهِ تَمْثِيلًا بِالْبَعِيرِ الَّذِي يُوسَمُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةٍ كَيْلَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُنُقِهِ جَلْجَلٌ لِكَيْلَا يَضِلَّ عَنْ صَاحِبِهِ.

(١) كَذَا فِي تَفْسِير ابْن عَطِيَّة، وَالَّذِي فِي ديوَان الْأَعْشَى:

فلدتك الشّعْر يَا سَلامَة ذَا ... التفضال وَالشَّيْء حَيْثُمَا جعلا


[.....]

وَالْمَعْنَى عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُعَامَلُ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَنْقُصُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَهَذَا غَيْرُ كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي سَتُذْكَرُ عَقِبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا الْآيَةَ.

وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالطَّائِرِ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفَصَّلَةً مُعَيَّنَةً لَا تُغَادَرُ مِنْهَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا أُحْصِيَتْ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُخْرِجُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِي أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ عَلَى أَنَّ لَهُ نَائِبَ فَاعِلٍ وكِتابًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ.

وَالْكِتَابُ: مَا فِيهِ ذِكْرُ الْأَعْمَالِ وَإِحْصَاؤُهَا. وَالنَّشْرُ: ضِدُّ الطَّيِّ.

وَمَعْنَى يَلْقاهُ يَجِدُهُ. اسْتُعِيرَ فِعْلُ يَلْقَى لِمَعْنَى يَجِدُ تَشْبِيهًا لِوِجْدَانِ النِّسْبَةِ بِلِقَاءِ الشَّخْصِ. وَالنَّشْرُ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا عَمِلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ الْكِتَابَ يَحْضُرُ مِنْ

قَبْلِ وُصُولِ صَاحِبِهِ مَفْتُوحًا لِلْمُطَالَعَةِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَلْقاهُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ، الْقَافِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ عَلَى أَنَّهُ مُضَاعَفُ لَقِيَ تَضْعِيفًا لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ يَجْعَلُهُ لَاقِيًا كَقَوْلِهِ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الْإِنْسَان: ١١] . وَأُسْنِدَ إِلَى الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى يَجْعَلُهُ لَاقِيًا. كَقَوْلِهِ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصّلت: ٣٥] وَقَوْلِهِ: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا [الْفرْقَان: ٧٥] .

وَنَشْرُ الْكِتَابِ إِظْهَارُهُ لِيُقْرَأَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير: ١٠] .

وَجُمْلَةُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ.

وَالْأَمْرُ فِي اقْرَأْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْخِيرِ وَمُكَنًّى بِهِ عَنِ الْإِعْذَارِ لَهُمْ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْكتاب حَاصِلَة للقارىء.

وَالْقِرَاءَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُثْبِتَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ أَوْ فِي فَهْمِ النُّقُوشِ الْمَخْصُوصَةِ إِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ نُقُوشٌ وَهِيَ خَوَارِقُ عَادَاتٍ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَفْسِكَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ دَاخِلَةٌ عَلَى فَاعِلِ كَفى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٩] .

وَانْتَصَبَ حَسِيبًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْكِفَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَسِيبٍ.

وَالْحَسِيبُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِثْلُ ضَرِيبِ الْقِدَاحِ بِمَعْنَى ضَارِبِهَا، وَصَرِيمٍ بِمَعْنَى صَارِمٍ، أَيِ الْحَاسِبُ وَالضَّابِطُ. وَكَثُرَ وُرُودُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ (كَفَى بِكَذَا) .

وَعُدِّيَ بِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ معنى الشَّهِيد. وَمَا صدق النَّفْسِ هُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ:

وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فَلِذَلِكَ جَاءَ حَسِيبًا بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ.

[١٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٥]

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مَعَ تَوَابِعِهَا. وَفِيهِ تَبْيِينُ اخْتِلَافِ الطَّائِرِ بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، فَطَائِرُ الْهِدَايَةِ نَفْعٌ لِصَاحِبِهِ وَطَائِرُ

الضَّلَالِ ضُرٌّ لِصَاحِبِهِ. وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا.

وَجُمْلَةُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لِمَا فِي هَذِهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ فَإِنَّ عَمَلَ أَحَدٍ لَا يَلْحَقُ نَفْعُهُ وَلَا ضُرُّهُ بِغَيْرِهِ.

وَلَمَّا كَانَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنًى مُهِمًّا اعْتُبِرَ إِفَادَةً أَنَفًا لِلسَّامِعِ، فَلِذَلِكَ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ. وَقَدْ رُوعِيَ فِيهَا إِبْطَالُ أَوْهَامِ قَوْمٍ يَظُنُّونَ

أَنَّ أَوْزَارَهُمْ يَحْمِلُهَا عَنْهُمْ غَيْرُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ من أيمة الْكُفْرِ كَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ أَوْزَارُكُمْ، أَيْ تِبْعَاتُكُمْ وَمُؤَاخَذَتُكُمْ بِتَكْذِيبِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ تَبِعَةٌ. وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى تَرَدُّدَهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَيْلَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ خَشْيَةَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْبَعْثِ، فَأَرَادَ التَّمْوِيهَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ ذُنُوبَهُمْ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَى حَقٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ يُرَوِّجُ عَلَى دَهْمَائِهِمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا بِالْحَمَلَاتِ وَالْكَفَالَاتِ وَالرَّهَائِنِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِبْطَالَ ذَلِكَ إِنْقَاذًا لَهُمْ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ الَّذِي يَهْوِي بِهِمْ إِلَى الْمَهَالِكِ مَعَ مَا فِي هَذَا الْبَيَانِ مِنْ تَعْلِيمِ أَصْلٍ عَظِيمٍ فِي الدِّينِ وَهُوَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا عَظِيمًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَتَفَرَّعَ عَنْهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ.

وَلَمَّا

رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «أَنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عبد الرحمان، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ذَلِكَ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى


. وَلَمَّا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ جِنَازَةُ يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ»

. وَالْمَعْنَى أَنَّ وِزْرَ أَحَدٍ لَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ فَإِذَا كَانَ قَدْ تَسَبَّبَ بِوِزْرِهِ فِي إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِي الْوِزْرِ حُمِلَ عَلَيْهِ وزر بوزر غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَمْلِ وِزْرِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَمْلُ وِزْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهَا وَهُوَ وِزْرُ التَّسَبُّبِ فِي الْأَوْزَارِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ، وَكَذَلِكَ وِزْرُ مَنْ يَسُنُّ لِلنَّاسِ وِزْرًا لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ قَبْلُ.

وَفِي «الصَّحِيحِ»: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سنّ الْقَتْل»

. وسكتت الْآيَةُ عَنْ أَنْ لَا يَنْتَفِعَ أَحَدٌ بِصَالِحِ عَمَلِ غَيْرِهِ اكْتِفَاءً إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَى بَيَانِهِ

لِأَنَّهُ لَا يُوقِعُ فِي غُرُورٍ، وَتُعَلِّمُ الْمُسَاوَاةَ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ،

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن مَا يومىء إِلَى أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لِأَحَدٍ فِي هَدْيٍ يَنَالُ مِنْ ثَوَابِ الْمُهْتَدِي قَالَ تَعَالَى:

وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا [الْفرْقَان: ٧٤]

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»

. وَمِنَ التَّخْلِيطِ تَوَهُّمُ أَنَّ حَمْلَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَافٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْعُ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّعَاوُنِ وَالْمُوَاسَاةِ وَلَيْسَتْ مِنْ حَمْلِ التَّبِعَاتِ.

وتَزِرُ تَحْمِلُ الْوِزْرَ، وَهُوَ الثِّقَلُ. وَالْوَازِرَةُ: الْحَامِلَةُ، وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَفْسٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: ٤٦] .

وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا وازِرَةٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ قُدِّرَتْ نَفْسٌ ذَاتُ وِزْرٍ لَا تُزَادُ عَلَى وِزْرِهَا وِزْرَ غَيْرِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي لَا وِزْرَ لَهَا لَا تَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهَا بِالْأَوْلَى.

وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ لِتَشْبِيهِهِ بِالْحِمْلِ الثَّقِيلِ لِمَا يَجُرُّهُ مِنَ التَّعَبِ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الثِّقَلُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣] .

وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى آيَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ.

وَهَذَا اسْتِقْصَاءٌ فِي الْإِعْذَارِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ زِيَادَةً عَلَى نَفْيِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَجْرَامِ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَا مُثِيبِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِعْذَارٍ وَقَطْعُ حُجَّةٍ وَلَيْسَ مَقَامَ امْتِنَانٍ بِالْإِرْشَادِ.

وَالْعَذَابُ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةُ عَطْفٍ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها

[الْإِسْرَاء: ١٦] الْآيَةَ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ اللَّهُ

تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٩] وَقَالَ: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يُونُس: ٤٧] .

عَلَى أَنَّ مَعْنَى (حَتَّى) يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ مُتَّصِلَةٌ بِالْعَذَابِ شَأْنَ الْغَايَةِ، وَهَذَا اتِّصَالٌ عُرْفِيٌّ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَعْثَةُ مِنْ مُدَّةٍ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ وَالْإِمْهَالِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ هُنَا عَذَابَ الدُّنْيَا وَكَمَا يَقْتَضِيهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْآيَةِ بَعْدَهَا.

عَلَى أَنَّنَا إِذَا اعْتَبَرْنَا التَّوَسُّعَ فِي الْغَايَةِ صَحَّ حَمْلُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا يَعُمُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَوُقُوعُ فِعْلِ مُعَذِّبِينَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَبِعْثَةُ الرُّسُلِ لِتَفْصِيلِ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنَ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْمَالِ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْشِدَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ لَهُمْ. وَهِيَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى انْتِفَاءِ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ مِنَ الله إِلَى قوم، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْأَشْعَرِيِّ نَاهِضَةٌ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى إِيصَالِ الْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي التَّوْضِيحِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ. فَوُجُودُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَانِ بِالْعَقْلِ فَلَا عُذْرَ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعَطَّلَ وَلَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ بَعْثَةِ رَسُولٍ.

وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُرَادَ بِالرَّسُولِ الْعَقْلُ تَطَوُّحٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَإِغْمَاضٌ عَنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ نَبْعَثَ إِذْ لَا يُقَالُ بَعَثَ عَقْلًا بِمَعْنَى جَعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فِي سُورَة النِّسَاء [١٦٥] .

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٦]

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (١٦)

هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ قُصِدَ بِهِ تَهْدِيدُ قَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَحْمِيلُهُمْ تَبِعَةَ ضَلَالِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ. وَهُوَ تَفْرِيعٌ لِتَبْيِينِ أَسْبَابِ حُلُولِ التَّعْذِيبِ بَعْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ أُدْمِجَ فِيهِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّينَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ١٥] وَلَكِنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ الْحَالَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَيَظْهَرُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَلَامِ، فَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ هُنَا تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ تَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِشَرْعٍ وَأَنَّ سَبَبَ إِهْلَاكِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ هُوَ عَدَمُ امْتِثَالِهِمْ لِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ ذَلِكَ الرَّسُولِ.

وَمَعْنَى إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَ قَرْيَةٍ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِإِرَادَتِهِ. وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُرَادِ

عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها

إِلَى آخِرِهِ.

وَمُتَعَلِّقُ أَمَرْنا

مَحْذُوفٌ، أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، أَيْ بَعَثْنَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ وَأَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ فَعَصَوُا الرَّسُولَ وَفَسَقُوا فِي قَرْيَتِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَصْدِيرَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِ (إِذَا) أَوْجَبَ اسْتِغْلَاقَ الْمَعْنَى فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرْطِ (إِذَا) وَجُمْلَةِ جَوَابِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ (إِذَا) أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ أَيِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْهَا. فَاقْتَضَى ظَاهِرُ مَوْقِعِ (إِذَا)

أَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها

هُوَ جَوَابُ (إِذَا) فَيَقْتَضِي أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ إِهْلَاكَهَا سَابِقَةٌ عَلَى حُصُولِ أَمْرِ الْمُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوَابِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِإِهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ابْتِدَاءً فَيَأْمُرُ اللَّهُ مُتْرَفِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَيَفْسُقُوا فِيهَا فَيَحِقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، مَعَ أَنَّ مَجْرَى الْعَقْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فُسُوقُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَكُفْرُهُمْ هُوَ سَبَبَ وُقُوعِ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ لَا الْعَكْسُ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُسَبِّبُهُ، وَلَا مِنِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَسُوقَهُمْ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِمْ.

وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ فِي هَذَا، فَبِنَا أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً فِعْلَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها

عَلَى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإِنَّ الْأَفْعَالَ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ أَتَحَدَّتْ فِي اللَّوَازِمِ أَمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَنَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيَفْسُقُوا عَنْ أَمْرِنَا فَيَحِقَّ عَلَيْهِمْ الْوَعِيدُ فَنُهْلِكُهُمْ إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَهُمْ.

فَكَانَ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً

شَرِيطَةً لِحُصُولِ الْإِهْلَاكِ، أَيْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَا مكره لَهُ، كم دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمرَان: ١٢٧- ١٢٨] وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٠٠] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَان:

٢٨] وَقَوْلِهِ: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاء: ١٨] . فَذَكَرَ شَرِيطَةَ الْمَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ.

وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ لِإِدْمَاجِ التَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ هَذَا مِمَّا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَمَانٍ لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَسِّفَةٌ أَوْ مَدْخُولَةٌ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جُمْلَةَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها

إِلَخْ صِفَةً لِ قَرْيَةً

وَجَعَلَ جَوَابَ (إِذَا) مَحْذُوفًا.

وَالْمُتْرَف: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَتْرَفَهُ إِذَا أَعْطَاهُ التُّرْفَةَ. بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- أَيِ النِّعْمَةَ. وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ. وَكَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ ضُعَفَاءَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمّل: ١١] .

وَتَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُخَاطِبُونَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ عِصْيَانَهُمُ الْأَمْرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ هُوَ سَبَبُ فِسْقِهِمْ وَفسق بَقِيَّة قَومهمْ إِذْ هُمْ قَادَةُ الْعَامَّةِ وَزُعَمَاءُ الْكُفْرِ فَالْخِطَابُ فِي الْأَكْثَرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ اتَّبَعَهُمُ الدَّهْمَاءُ فَعَمَّ الْفِسْقُ أَوْ غَلَبَ عَلَى الْقَرْيَةِ فَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا

بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ آمَرْنَا بِالْمَدِّ بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَهَمْزَةِ فَاءِ الْفِعْلِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ آمِرِينَ، أَيْ دَاعِينَ قَوْمَهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، فَسَكَنَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا تَخْفِيفًا، أَوِ الْأَلِفُ أَلِفُ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ.

وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ الْمَقَرِّ وَعَنِ الطَّرِيقِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ الْخُرُوجُ عَمَّا أَمَّرَ اللَّهُ بِهِ، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] .

والْقَوْلُ

هُوَ مَا يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ كَلَامٍ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِ كَمَا قَالَ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١] .

وَالتَّدْمِيرُ: هَدْمُ الْبِنَاءِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلِاسْتِئْصَالِ إِذِ الْمَقْصُودُ إِهْلَاكُ أَهْلِهَا وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ بِنَائِهِمْ كَمَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢] . وَتَقَدَّمَ التَّدْمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٣٧] . وتأكيد فَدَمَّرْناها

بِالْمَصْدَرِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ التَّدْمِيرِ لَا نَفْيُ احْتِمَال الْمجَاز.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٧]

وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)

ضُرِبَ مِثَالٌ لِإِهْلَاكِ الْقُرَى الَّذِي وُصِفَ سَبَبُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِتَمْثِيلِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ فِي الْكَشْفِ وَأَدْخَلُ فِي التَّحْذِيرِ الْمَقْصُودِ. وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِالْقُرَى مُقَدَّمًا بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ، ثُمَّ بِتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ إِلَى الْمُتْرَفِينَ ثُمَّ فِسْقِهِمْ عَنْهَا وَكَانَ زُعَمَاءُ الْكَفَرَةِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مُتْرَفِينَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: ٢٧] وَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ- عليه السلام وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا [هود: ٣١] .

فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ لِأَنَّهَا كَالْفَرْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ إِظْهَارًا لِاسْتِقْلَالِهَا بِوَقْعِ التَّحْذِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَ ذَلِك تخريجا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ.

وَ(كَمْ) فِي الْأَصْلِ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْعَدَدِ، وَتُسْتَعْمَلُ خَبَرِيَّةً دَالَّةً عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمِ النَّوْعِ، فَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ لِنَوْعِ الْعَدَدِ، وَهِيَ هُنَا خَبَرِيَّةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا الْتُزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَصْلِهَا الِاسْتِفْهَامَ وَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ. ومِنَ الْقُرُونِ تَمْيِيزٌ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ (كَمْ) .

وَالْقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ يُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَبِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا هُنَا.

وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»

، أَرَادَ أَهْلَ قَرْنِي، أَيْ أَهْلَ الْقَرْنِ الَّذِي أَنَا فِيهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا [الْفرْقَان: ٣٨] .

وَتَخْصِيصُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِيجَازٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ جُعِلَ زَمَنُ نُوحٍ مَبْدَأً لِقَصَصِ الْأُمَمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ، وَاعْتُبِرَ الْقَصَصُ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ زَمَنَ نُوحٍ صَارَ كَالْمُنْقَطِعِ بِسَبَبِ تَجْدِيدِ عُمْرَانِ الْأَرْضِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَلَّ بِقَوْمِهِ عَذَابٌ مَهُولٌ وَهُوَ الْغَرَقُ الَّذِي أَحَاطَ بِالْعَالَمِ.

وَوَجْهُ ذِكْرِهِ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ تَحُولُ دُونَ الِاعْتِبَارِ بِالْعَوَاقِبِ وَدُونَ الِاتِّعَاظِ بِمَا يَحِلُّ بِمَنْ سَبَقَ وَنَاهِيكَ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْعَذَابِ الْمَهُولِ.

وَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا إِقْبَالٌ عَلَى خطاب النبيء ﷺ بِالْخُصُوصِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ إِنَّمَا مَآلُهُ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تَصْدِيق

مُحَمَّد ﷺ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ لَجُّوا فِي الْكُفْرِ وَتَفَنَّنُوا فِي التَّكْذِيبِ، فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذَلِكَ بِتَطْمِينِ النَّبِيءِ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ذُنُوبِ الْقَوْمِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ مُجَازِيهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِمَا يُنَاسِبُ فَظَاعَتَهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِفِعْلِ كَفى وَبِوَصْفَيْ خَبِيرًا بَصِيرًا الْمُكَنَّى بِذِكْرِهِمَا عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الْمَرْئِيَّةِ وَالْمَعْلُومَةِ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ أَعْنِي أَعْمَالَهُمْ وَنَوَايَاهُمْ.

وَقَدَّمَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالضَّمَائِرِ وَالنَّوَايَا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ فِي الْفَسَادِ وَالصَّلَاحِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْعَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»

. وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ (كَفَى) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُ غَيْرِ رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيَةِ وَحَسْبُهُ، قَالَ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْبَقَرَة: ١٣٧] أَوْ إِلَى أَنَّهُ فِي غُنْيَةٍ عَنِ الْهَمِّ فِي شَأْنِهِمْ كَقَوْلِهِ لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] فَهَذَا إِمَّا تَسْلِيَةٌ لَهُ عَنْ أَذَاهُمْ وَإِمَّا صَرْفٌ لَهُ عَنِ التَّوَجُّعِ لَهُمْ.

وَفِي خِطَابِ النَّبِيءِ بِذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِسَامِعِيهِ من الْكفَّار.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)

هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي [الْإِسْرَاء: ١٥] وَهُوَ رَاجِعٌ أَيْضا إِلَى جملَة وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الْإِسْرَاء: ١٣] تَدْرِيجًا فِي التِّبْيَانِ لِلنَّاسِ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، فَابْتُدِئُوا بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَهُمْ تَبِعَةَ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ثُمَّ وَكَلَ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِم، وَأَن الْمُسِيء لَا يَضُرُّ بِإِسَاءَتِهِ غَيْرَهُ وَلَا يَحْمِلُهَا عَنْهُ غَيْرُهُ فَقَالَ:

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ١٥] . ثُمَّ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَلَا يَأْخُذُهُمْ إِلَّا بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: خَبِيرًا بَصِيرًا [الْإِسْرَاء: ١٥- ١٧] . ثُمَّ كَشَفَ لَهُمْ مَقَاصِدَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قِسْمَانِ:

قِسْمٌ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الدُّنْيَا فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ لِمَرْضَاةِ شَهَوَاتِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الدُّنْيَا هِيَ قُصَارَى مَرَاتِعِ النُّفُوسِ لَا حَظَّ لَهَا إِلَّا مَا حَصَلَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ فَيَقْصُرُ عَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقِسْمٌ عَلِمَ أَنَّ الْفَوْزَ الْحَقُّ هُوَ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ فَعَمِلَ لِلْآخِرَةِ مُقْتَفِيًا مَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَ كُلَّ فَرِيقٍ بِمِقْدَارِ هِمَّتِهِ.

فَمَعْنَى كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْعَاجِلَةَ، أَيْ دُونَ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْحَصْرِ الْإِضَافِيِّ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ سِوَى جُمْلَتَيْنِ إِثْبَاتٍ لِشَيْءٍ وَنَفْيٍ لِخِلَافِهِ. وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ هُنَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَيْدَنُهُ وَقُصَارَى هَمِّهِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ

خَبَرُ (كَانَ) فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ زِيَادَةَ تَحْقِيقٍ لِتَمَحُّضِ إِرَادَتِهِ فِي ذَلِكَ.

والْعاجِلَةَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيِ الْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ، كَقَوْلِهِ:

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: ١٥] .

وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعْجِيلِ الْعُرْفِيُّ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ الْمُتَعَارَفَةُ، أَيْ أَنْ يُعْطَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ تَعْجِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فِيها.

وَإِنَّمَا زَادَ قَيْدَيْ مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لِأَنَّ مَا يُعْطَاهُ مَنْ أَرَادُوا الْعَاجِلَةَ يُعْطَاهُ بَعْضُهُمْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي شَاءَ اللَّهُ إِعْطَاءَهَا.

وَالْمَشِيئَةُ: الطَّوَاعِيَةُ وَانْتِفَاءُ الْإِكْرَاهِ.

وَقَوْلُهُ: لِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ، فَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مُرِيدِ الْعَاجِلَةِ فَأُبْدِلَ مِنْهُ بَعْضُهُ، أَيْ عَجَّلْنَا لِمَنْ نُرِيدُ مِنْكُمْ، وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَهُ، أَيْ لِمَنْ نُرِيدُ التَّعْجِيلَ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ الَّذِي كَثُرَ حَذْفُهُ لِدَلَالَةِ كَلَامٍ سَابِقٍ. وَفِيهِ خُصُوصِيَّةُ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ ذَلِكَ لَوَجَبَ فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ التَّصْرِيحُ بِهِ.

وَالْإِرَادَةُ: مُرَادِفُ الْمَشِيئَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا نَشاءُ تَفَنُّنٌ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ الْجَرِّ الْعَامِلِ فِي الْمُبدل مِنْهُ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الرَّبْطِ بِضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُمْ بِأَنْ يُقَالَ: مَنْ نُرِيدُ مِنْهُمْ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ الَّذِي يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ قَدْ نُعْطِي بَعْضَهُمْ بَعْضَ مَا يُرِيدُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِنَا وَإِرَادَتِنَا لِأَسْبَابِ مُخْتَلفَة. وَلَا يخلوا أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَ لَهُ بَعْضُ مَا يَرْغَبُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا.

وَعَطْفُ جُمْلَةِ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ. ولَهُ ظَرْفٌ

مُسْتَقِرٌّ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْنا، قُدِّمَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِلِاهْتِمَامِ.

وَجُمْلَةُ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا بَيَانٌ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ لِجُمْلَةِ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ومَذْمُومًا مَدْحُورًا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي يَصْلاها يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ إِذَا أَصَابَهُ حَرْقُهَا.

والذم الْوَصْف بالمعايب الَّتِي فِي الْمَوْصُوفِ.

وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ. يُقَالُ: دَحَرَهُ، وَالْمَصْدَرُ: الدُّحُورُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨] .

وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ جُمْلَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ وَجُمْلَةِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بِجعْل الْفِعْلَ مُضَارِعًا فِي الْأُولَى وَمَاضِيًا فِي الثَّانِيَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ إِرَادَةَ النَّاسِ الْعَاجِلَةَ مُتَكَرِّرَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أُمُورَ الْعَاجِلَةِ مُتَقَضِّيَةٌ زَائِلَةٌ، وَجَعَلَ فِعْلَ إِرَادَةِ الْآخِرَةِ، مَاضِيًا لِدَلَالَةِ الْمُضِيِّ عَلَى الرُّسُوخِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْآخِرَةِ أَوْلَى بِالْإِرَادَةِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ (كَانَ) وَمِنَ الْمُضَارِعِ، وَمَا شَرَطَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَسْعَى لِلْآخِرَةِ سَعْيَهَا وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا.

وَحَقِيقَةُ السَّعْيِ الْمَشْيُ دُونَ الْعَدْوِ، فَسَعْيُ الْآخِرَةِ هُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْحُصُولِ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالْعَامِلُ لِلصَّالِحَاتِ كَأَنَّهُ يَسِيرُ سَيْرًا سَرِيعًا إِلَى الْآخِرَةِ لِيَصِلَ إِلَى مَرْغُوبِهِ مِنْهَا. وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْآخِرَةِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فِي الْمَعْنَى، أَيِ السَّعْيَ لَهَا، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِبَيَانِ النَّوْعِ.

وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ خَيْرِ الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ غُرُورٌ وَأَنَّ إِرَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بُدَّ لِنَجَاحِهَا مِنَ السَّعْيِ فِي أَسْبَابِ حُصُولِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيُبْسِ

وَجُمْلَةُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَسَعى. وَجِيءَ بِجُمْلَةِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ اسْمِيَّةً لِدَلَالَتِهَا عَلَى الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ، أَيْ وَقَدْ كَانَ رَاسِخَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٧] لِمَا فِي (كَانَ) مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِيمَانِ مَلَكَةً لَهُ.

وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُمْ لِأَجْلِ مَا وُصِفُوا بِهِ قَبْلَ ذِكْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.

وَالسَّعْيُ الْمَشْكُورُ هُوَ الْمَشْكُورُ سَاعِيهِ، فَوَصْفُهُ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، إِذِ الْمَشْكُورُ الْمَرْضِيُّ عَنْهُ، وَإِذِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارُ عَنْ جَزَاءِ عَمَلِ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا لَا عَنْ حُسْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ قَسِيمٌ لِجَزَاءِ مَنْ أَرَادَ الْعَاجِلَةَ وَأَعْرَضَ عَنِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْوَصْفَ لِلْعَمَلِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ عَامِلِهِ بِأَنَّهُ مَرْضِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكِنَايَةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ مَلْزُومِهِ.

وَالتَّعْبِيرُ بِ كانَ فِي كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ تَحَقَّقَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنَ الدُّنْيَا لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَقْتَضِي تَرَتُّبَ الشُّكْرِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا. وَقَدْ جَمَعَ كَوْنُهُ مَشْكُورًا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَفْصِيلُهَا لَوْ أُرِيد تَفْصِيله.

[٢٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢٠]

كُلًاّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)

تَذْيِيلٌ لِآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ إِلَى آخرهَا [الْإِسْرَاء: ١٨] .

وَهَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ خَلْقَهُ مِنْ أَثَرِ رَحْمَتِهِ حَتَّى الْكَفَرَةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِلِقَائِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا عَلَى

حَسَبِ مَا قَدَّرَ لَهُمْ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٥٦] وَقَوْلِهِ فِيمَا

رَوَاهُ عَنهُ نبيّه ﷺ «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»

. وَتَنْوِينُ كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنْ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلَّ الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ نُمِدُّ.

وَقَوْلُهُ: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كُلًّا بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ.

وَمَجْمُوعُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْبَدَلُ

كَقَوْل النبيء ﷺ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»

. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِبْدَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ.

وَالْأَصْلُ أَنْ يكون الْمَذْكُور أول عَائِدًا إِلَى الأول إِلَّا إِذَا اتَّصَلَ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ مَا يُعَيِّنُ مَعَادَهُ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي قَوْلِ الْمُتَلَمِّسِ:

وَلَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ ... إِلَّا الْأَذَلَّانِ عَيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتِدُ


هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ ... وَذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثِي لَهُ أَحَدُ

وَالْإِمْدَادُ: اسْتِرْسَالُ الْعَطَاءِ وَتَعَاقُبُهُ. وَجَعْلُ الْجَدِيدِ مِنْهُ مَدَدًا لِلسَّالِفِ بِحَيْثُ لَا

يَنْقَطِعُ.

وَجُمْلَةُ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا اعْتِرَاضٌ أَوْ تَذْيِيلٌ، وَعَطَاءُ رَبِّكَ جِنْسُ الْعَطَاءِ، وَالْمَحْظُورُ: الْمَمْنُوعُ، أَيْ مَا كَانَ مَمْنُوعًا بِالْمَرَّةِ بَلْ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ نصيب مِنْهُ.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢١]

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١)

لَمَّا كَانَ الْعَطَاءُ الْمَبْذُولُ لِلْفَرِيقَيْنِ هُوَ عَطَاءَ الدُّنْيَا وَكَانَ النَّاسُ مُفَضَّلِينَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُدْرِكُونَ حِكْمَتَهُ لَفَتَ اللَّهُ لِذَلِكَ نَظَرَ نَبِيِّهِ- عليه الصلاة والسلام لَفْتَ اعْتِبَارٍ وَتَدَبُّرٍ، ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِأَنَّ عَطَاءَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ عَطَاءٍ، وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ مُوَجَّهٌ إِلَى النبيء ﷺ تَرْفِيعًا فِي دَرَجَاتِ عِلْمِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ تَوْجِيهُ الْعِبْرَةِ إِلَى غَيْرِهِ.

وَالنَّظَرُ حَقِيقَتُهُ تَوَجُّهُ آلَةِ الْحِسِّ الْبَصَرِيِّ إِلَى الْمُبْصِرِ. وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّظَرِ الْمَصْحُوبِ بِالتَّدَبُّرِ وَتَكْرِيرِ مُشَاهَدَةِ أَشْيَاءَ فِي غَرَضٍ مَا، فَيَقُومُ مَقَامَ الظَّنِّ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ شَاعَ إِطْلَاقُ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى الْفِكْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي [النِّسَاءِ: ٥٠] .

وَ(كَيْفَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ، وَهُوَ مُعَلِّقٌ فِعْلَ (انْظُرْ) عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ. وَالْمُرَادُ التَّفْضِيلُ فِي عَطَاءِ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ الَّذِي يُدْرِكُهُ التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ وَبِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْظِيرِ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ عَطَاءَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَنُوطٍ بِصَلَاحِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا فِيهِ مِنْ تَفَاضُلٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعَمَلِ الْمُتَّحِدِ، وَقَدْ يَفْضُلُ الْمُسْلِمُ فِيهِ الْكَافِرَ، وَيَفْضُلُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَيَفْضُلُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضًا، وَبَعْضُ الْكَفَرَةِ بَعْضًا، وَكَفَاكَ بِذَلِكَ هَادِيًا إِلَى أَنَّ مَنَاطَ عَطَاءِ الدُّنْيَا أَسْبَابٌ لَيْسَتْ مِنْ وَادِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا مِمَّا يُسَاقُ إِلَى النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ.

وَنَصْبُ دَرَجاتٍ وتَفْضِيلًا عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةٍ أَكْبَرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ عَطَاءُ الدُّنْيَا.

وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَظَمَةِ الشَّرَفِ، وَالتَّفْضِيلُ: إِعْطَاءُ الْفَضْلِ، وَهُوَ الْجِدَةُ وَالنِّعْمَةُ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ»

. وَالْمَعْنَى: النِّعْمَةُ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنْ نعم الدُّنْيَا.

[٢٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢٢]

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)

تَذْيِيلٌ هُوَ فَذْلَكَةٌ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ خُلَاصَةَ أَسْبَابِ الْفَوْزِ تَرْكُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَبْدَأُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ أَوَّلُ خُطُوَاتِ السَّعْيِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ قَاعِدَةُ اخْتِلَالِ التَّفْكِيرِ وَتَضْلِيلِ الْعُقُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١] .

وَالْخطاب للنبيء ﷺ تَبَعٌ لِخِطَابِ قَوْلِهِ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: ٢١] . وَالْمَقْصُودُ إِسْمَاعُ الْخِطَابِ غَيْرَهُ بِقَرِينَةٍ تُحَقِّقُ أَنَّ النَّبِيءَ قَائِمٌ بِنَبْذِ الشِّرْكِ وَمَنْحٍ عَلَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر.

وفَتَقْعُدَ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْمُكْثِ وَالدَّوَامِ. أُرِيدَ بِهَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَجْرِيدُ مَعْنَى النَّهْيِ إِلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَعْرِيضٍ بِالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ. فَإِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ دَامُوا فِي الذَّمِّ وَالْخِذْلَانِ.

وَالْمَذْمُومُ: الْمَذْكُورُ بِالسُّوءِ وَالْعَيْبِ.

وَالْمَخْذُولُ: الَّذِي أَسْلَمَهُ نَاصِرُهُ.

فَأَمَّا ذَمُّهُ فَمِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، إِذْ أَعْظَمُ سُخْرِيَةً أَنْ يَتَّخِذَ الْمَرْءُ حَجَرًا أَوْ عُودًا رَبًّا لَهُ وَيَعْبُدَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ: [الصافات: ٩٥]، وَذَمَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الشَّرَائِعِ.

وَأَمَّا خِذْلَانُهُ فَلِأَنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ وَلِيًّا لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر ١٤]، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا

[مَرْيَم: ٤٢]، وَخِذْلَانُهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [محمّد: ١١] وَقَالَ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: ٥٠] .

[٢٣، ٢٤] .


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٢٣ الى ٢٤]

وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا (٢٤)

وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.

عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ تَخَلُّصًا إِلَى أَعْمِدَةٍ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمُنَاسَبَةِ الْفَذْلَكَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَعْمَالِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى نَبْذِ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٣- ١٧] .

وَقَدِ ابْتُدِئَ تَشْرِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْكَامًا عَظِيمَةً لِإِصْلَاحِ جَامِعَتِهِمْ وَبِنَاءِ أَرْكَانِهَا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا بِارْتِفَاعِهِمْ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَبِانْحِطَاطِ هَؤُلَاءِ عَنْهُمْ، وَفِي جَمِيعِهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُنْغَمِسِينَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَوَّلُ تَفْصِيلٍ لِلشَّرِيعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَعَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَقْصُودٌ بِهِ تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ. وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أُسْلُوبُهُ عَنْ أُسْلُوبِ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّذِي وَجَّهَ فِيهِ الْخِطَابَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَوْقِيفِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِ ضَلَالَتِهِمْ.

فَمِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ افْتُتِحَتْ بِفِعْلِ الْقَضَاءِ الْمُقْتَضِي الْإِلْزَامَ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِخِطَابِ أُمَّةٍ تَمْتَثِلُ أَمْرَ رَبِّهَا، وَافْتُتِحَ خِطَابُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥١] بِ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ.

وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَعَلَتِ الْمَقْضِيَّ هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ فَحَذَّرَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَآيَةُ الْأَنْعَامِ جَعَلَتِ الْمُحَرَّمَ فِيهَا

هُوَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ الْمُنَاسِبَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ إِذْ لَا عِبَادَةَ لَهُمْ.

وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فَصَلَ فِيهَا حُكْمُ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَحُكْمُ الْقَتْلِ وَحُكْمُ الْإِنْفَاقِ وَلَمْ يَفْصِلْ مَا فِي آيَة الْأَنْعَامُ.

وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خَمْسَةَ عَشَرَ تَشْرِيعًا هِيَ أُصُولُ التَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتُهِرَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَكَّةَ وَتَنَاقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْآفَاقِ، فَلِذَلِكَ أَلَمَّ الْأَعْشَى بِبَعْضِهَا فِي قَصِيدَتِهِ الْمَرْوِيَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لمدح النبيء ﷺ حِينَ جَاءَ يُرِيدُ الْإِيمَانَ فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الدَّالِيَّةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:

أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ ... نَبِيءِ الْإِلَهِ حِينَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا


فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَأْكُلَنَّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصَدَا


وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا


وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ ... لِفَاقَتِهِ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا


وَلَا تَسْخَرَنْ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضِرَارَةٍ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدًا


وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (١)

وَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ وَالْوَصَايَا بِفِعْلِ الْقَضَاءِ اهْتِمَامًا بِهِ وَأَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا وَحُكْمًا لَازِمًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاء: ٤] لِظُهُورِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ هُنَا مِمَّا يَقَعُ وَلَا يَقَعُ.

وَ(أَنْ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِمَا فِي (قَضَى) مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً مَجْرُورَةً بِبَاءِ جَرٍّ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ قَضَى بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا. وَابْتُدِئَ هَذَاِ

(١) التأبد: التعزب.

التَّشْرِيعُ بِذِكْرِ أَصْلِ التَّشْرِيعَةِ كُلِّهَا وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ.

وَجِيءَ بِخِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكَ للنبيء ﷺ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلُ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٠]، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ الْأُمَّةَ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ.

وَابْتُدِئَ التَّشْرِيعُ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، إِذْ لَا يُشَاقُّ الْعَقْلُ إِلَى طَلَبِ الصَّالِحَاتِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»

. وَقَدْ فَصَّلْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «أُصُولَ النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْإِسْلَامِ» .

وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا

هَذَا أَصْلٌ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.

وَانْتَصَبَ إِحْسانًا عَلَى المفعولية الْمُطلقَة مصدر نَائِبًا عَنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْسِنُوا إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أَيْ وَقَضَى إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ.

وَبِالْوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِحْسانًا، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَحْسِنْ بِفُلَانٍ كَمَا يُقَالُ أَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠] .

وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَالِدَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِاعْتِبَارِ وَالِدَيْ كُلِّ مُكَلَّفٍ مِمَّنْ شَمِلَهُمُ الْجَمْعُ فِي أَلَّا تَعْبُدُوا.

وَعَطْفُ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ فَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ أَوْجَدَ النَّاسَ. وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْأَبَوَيْنِ مَظْهَرَ إِيجَادِ النَّاسِ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَالْخَالِقُ مُسْتَحِقُّ الْعِبَادَةِ لِغِنَاهُ عَنِ الْإِحْسَانِ، وَلِأَنَّهَا أَعْظَمُ الشُّكْرِ عَلَى أَعْظَمِ مِنَّةٍ، وَسَبَبُ الْوُجُودِ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ لَا الْعِبَادَةَ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِحْسَانِ دُونَ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِدٍ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَبَلَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِمَا، فَأَمَرَ الْوَلَدَ بِمُجَازَاةِ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَبَوَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا.

وَشَمِلَ الْإِحْسَانُ كُلَّ مَا يَصْدُقُ فِيهِ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْبَذْلِ وَالْمُوَاسَاةِ.

وَجُمْلَةُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِحْسانًا، وإِمَّا مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ(مَا) الزَّائِدَةِ الْمُهَيِّئَةِ لِنُونِ التَّوْكِيدِ، وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ بِنُونٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا (مَا) وَلَكِنَّهُمْ رَاعَوْا حَالَةَ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً فَرَسَمُوهَا كَذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ وَتَبِعَهَا رَسْمُ النَّاسِ غَالِبًا، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا حَدَّ الْكِبَرِ وَهُمَا عِنْدَكَ، أَيْ فِي كفالتك فوطّىء لَهُمَا خُلُقَكَ وَلَيِّنْ جَانِبَكَ.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ بِقَرِينَةِ الْعَطْفِ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَلَيْسَ خطابا للنبيء ﷺ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ يَوْمَئِذٍ. وَإِيثَارُ ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ هُنَا دُونَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ خِطَابٌ يَخْتَصُّ بِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فَكَانَ الْإِفْرَادُ أَنْسَبَ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ سَوَاءً فِي الْمَقْصُودِ لِأَنَّ خِطَابَ

غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُسَاوِي خِطَابَ الْجَمْعِ.

وَخَصَّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْبَيَانِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ انْتِفَاءِ الْإِحْسَانِ بِمَا يَلْقَى الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ مِنْ مشقة الْقيام بشؤونهما وَمِنْ سُوءِ الْخُلُقِ مِنْهُمَا.

وَوَجْهُ تَعَدُّدِ فَاعِلِ يَبْلُغَنَّ مَظْهَرًا دُونَ جَعْلِهِ بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ بِأَنْ يُقَالَ إِمَّا يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ، الِاهْتِمَامُ بِتَخْصِيصِ كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْوَالِدَيْنِ بِالذِّكْرِ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لِأَنَّ لِكُلِّ حَالَةٍ بَوَاعِثَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي وَاجِبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَقَدْ تَكُونُ حَالَةُ اجْتِمَاعِهِمَا عِنْدَ الِابْنِ تَسْتَوْجِبُ الِاحْتِمَالَ مِنْهُمَا لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ أَحَدِهِمَا الَّذِي الِابْنُ أَشَدُّ حُبًّا لَهُ دُونَ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا عِنْدَهُ بِدُونِ الْآخَرِ الَّذِي مَيْلُهُ إِلَيْهِ أَشَدُّ، فَالِاحْتِيَاجُ إِلَى ذِكْرِ أَحَدِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وُجُوبِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْإِحْسَانِ لَهُ. وَقَدْ تَكُونُ حَالَةُ انْفِرَادِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ الِابْنِ أَخَفَّ كُلْفَةً عَلَيْهِ مِنْ حَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا، فَالِاحْتِيَاجُ إِلَى أَوْ كِلاهُما فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنِ اعْتِذَارِ الِابْنِ لِنَفْسِهِ عَنِ التَّقْصِيرِ بِأَنَّ حَالَةَ اجْتِمَاعِ الْأَبَوَيْنِ أَحْرَجُ عَلَيْهِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذُكِرَتِ الْحَالَتَانِ وَأُجْرِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ بِتَمَامِهَا جَوَابًا لِ (إِمَّا) .

وَأُكِّدَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجَوَابِ وَمَضْمُونِ الشَّرْطِ فِي الْوُجُودِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عَلَى أَنَّ أَحَدُهُما فَاعِلُ يَبْلُغَنَّ فَلَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ عَلَامَةٌ لِأَنَّ فَاعِلَهُ اسْمٌ ظَاهِرٌ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَبْلُغَانِّ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ وَالضَّمِيرُ فَاعِلٌ عَائِدٌ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا، فَيَكُونُ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بَدَلًا مِنْ أَلِفِ الْمُثَنَّى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْحُكْمُ لِاجْتِمَاعِهِمَا فَقَطْ بَلْ هُوَ لِلْحَالَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ.

وَالْخِطَابُ بِ عِنْدَكَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِسَمَاعِ الْكَلَامِ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ بِقَرِينَةٍ سَبْقِ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَوْلِهِ اللَّاحِقِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ [الْإِسْرَاء:

٢٥] .

أُفٍّ اسْمُ فِعْلٍ مضارع مَعْنَاهُ أتضخر. وَفِيهِ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ أَشْهَرُهَا كُلُّهَا ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدُ الْفَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي حَرَكَةِ الْفَاءِ، فَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِكَسْرِ الْفَاءِ مُنَوَّنَةً-. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ-. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ- بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ-.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَقُولَ لَهُمَا أُفٍّ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ الْأَذَى الَّذِي أَقَلُّهُ الْأَذَى بِاللِّسَانِ بِأَوْجَزِ كَلِمَةٍ، وَبِأَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حُصُولِ الضَّجَرِ لِقَائِلِهَا دُونَ شَتْمٍ أَوْ ذَمٍّ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ أَذًى بِطْرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ بِالْأَوْلَى.

ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ نَهْرِهِمَا لِئَلَّا يَحْسَبَ أَنَّ ذَلِكَ تَأْدِيبٌ لِصَلَاحِهِمَا وَلَيْسَ بِالْأَذَى. وَالنَّهْرُ الزَّجْرُ، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ.

ثُمَّ أَمَرَ بِإِكْرَامِ الْقَوْلِ لَهُمَا. وَالْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤] .

وَبِهَذَا الْأَمْرِ انْقَطَعَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى الْوَلَدُ أَنْ يَنْصَحَ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَو أَن يحذر مِمَّا قَدْ يَضُرُّ بِهِ أَدَّى إِلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنِ الْوَقْعِ.

ثُمَّ ارْتَقَى فِي الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى أَمْرِ الْوَلَدِ بِالتَّوَاضُعِ لَهُمَا تَوَاضُعًا يَبْلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لَهُمَا لِإِزَالَةِ وَحْشَةِ نُفُوسِهِمَا إِنْ صَارَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مَعُونَةِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ يَبْغِيَانِ أَنْ يَكُونَا هُمَا النَّافِعَيْنِ لِوَلَدِهِمَا. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بِشُكْرِهِ عَلَى إِنْعَامِهِمَا السَّابِقَةِ عَلَيْهِ.

وَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَاضُعِ بِتَصْوِيرِهِ فِي هَيْئَةِ تذلل الطَّائِر عِنْد مَا يَعْتَرِيهِ خَوْفٌ مِنْ طَائِرٍ أَشَدَّ مِنْهُ إِذْ يَخْفِضُ جَنَاحَهُ مُتَذَلِّلًا. فَفِي التَّرْكِيبِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَالْجَنَاحُ تخييل بِمَنْزِلَة تَخْيِيلٌ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ

وَبِمَنْزِلَةِ تَخْيِيلِ الْيَدِ لِلشَّمَالِ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَالزِّمَامِ لِلْقُرَّةِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:

وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفَتْ وَقْرَةً ... إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا

وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٨] .

وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَ(مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَالْمَقْصُودُ اعْتِيَادُ النَّفْسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضَارِ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا، كَمَا قِيلَ:

إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ


وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا كُفْرٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ.

وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَبَوَانِ وَيَتَشَاحَّانِ فِي طَلَبِ فِعْلِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِمَا بِأَنْ يَأْمُرَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِضِدِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْوَالٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى الْعَمَلِ بِطَلَبَيْهِمَا إِنِ اسْتَطَاعَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيء ﷺ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ.

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»

. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأُمِّ لِأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَبَوَيْهِ.

وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: تَرْجِيحُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ ٢٣ عَنْ

مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا فَقَالَ: إِنَّ أَبِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصَ أُمَّكَ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقَ أَنَّ مَالِكًا أَرَادَ مَنْعَ الِابْنِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى السُّودَانِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأُمِّ.

الثَّانِي: قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْبِرِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَلَبِ التَّرْجِيحِ إِذَا أَمَرَا ابْنَهُمَا بِأَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.

وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي كِتَابِ «الرِّعَايَةِ» أَنَّهُ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الرُّبُعَ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ.

وَالْوَجْهُ أَنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالْمِقْدَارِ حَوَالَةٌ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَأَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَرْجَحُ عَلَى الْإِجْمَالِ.

ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ إِيصَالَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَّا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَهَذَا قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ انْتِقَالًا بَدِيعًا مِنْ قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ فَكَانَ ذِكْرُ رَحْمَةِ الْعَبْدِ مُنَاسِبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّقَ بِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ الْخَيْرَ لِأَبَوَيْهِ يَدْفَعُهُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهِ فِيمَا يَعْلَمَانِهِ وَفِيمَا يَخْفَى عَنْهُمَا حَتَّى فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ مَمَاتِهِمَا.

وَفِي الْحَدِيثِ «إِذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»

. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُمَا مُسْتَجَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُؤَيِّدٌ ذَلِكَ إِذْ جَعَلَ دُعَاءَ الْوَلَدِ عَمَلًا لِأَبَوَيْهِ.

وَحُكْمُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاصٌّ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ:

مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ١١٣] الْآيَةَ.

وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا لِلتَّشْبِيهِ الْمَجَازِيِّ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْكَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨]، أَيِ ارْحَمْهُمَا رَحْمَةً تُكَافِئُ مَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

وصَغِيرًا حَالٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْثِيلُ حَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْبِيَةٍ مُكَيَّفَةٍ بِرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي رَحْمَة الْوَلَد، وَصِغَرَ الْوَلَدِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا فَصَارَ قَوْلُهُ: كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ كَمَا رَبَّيَانِي وَرَحِمَانِي بِتَرْبِيَتِهِمَا. فَالتَّرْبِيَةُ تَكْمِلَةٌ لِلْوُجُودِ، وَهِيَ وَحْدَهَا تَقْتَضِي الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَالرَّحْمَةُ حِفْظٌ لِلْوُجُودِ مِنِ اجْتِنَابِ انْتِهَاكِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ، فَجَمَعَ الشُّكْرَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ.

وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَمَّا مَوَاقِعُ الدُّعَاءِ لَهُمَا فَلَا تَنْضَبِطُ وَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ كُلِّ امْرِئٍ فِي أَوْقَاتِ ابْتِهَالِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِذَا دَعَا لَهُمَا فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ فَقَدِ امْتَثَلَ.

وَمَقْصِدُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ يَنْحَلُّ إِلَى مَقْصِدَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: نَفْسَانِيٌّ وَهُوَ تَرْبِيَةُ نُفُوسِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْجَمِيلِ لِصَانِعِهِ، وَهُوَ الشُّكْرُ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْبَارِي تَعَالَى فِي اسْمِهِ الشَّكُورِ، فَكَمَا أَمَرَ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ أَمَرَ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الصُّورِيِّ وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي الْأَمْرِ بِشُكْرِ الْفَضَائِلِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي إِسْدَائِهَا.

وَالْمَقْصِدُ الثَّانِي عُمْرَانِيٌّ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَوَاصِرُ الْعَائِلَةِ قَوِيَّةَ الْعُرَى مَشْدُودَةَ الْوُثُوقِ فَأَمَرَ بِمَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْوُثُوقَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِيُرَبِّيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ التَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ مَا يَقُومُ مَقَامَ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ عَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ إِحْسَاسٍ بَعْضُهُ

غَرِيزِيٌّ ضَعِيفٌ وَبَعْضُهُ عَقْلِيٌّ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّ أَثَرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لَيُسَاوِي بِمَجْمُوعِهِ أَثَرَ عَاطِفَةِ الْأُمِّ الْغَرِيزِيَّةِ أَوْ يَفُوقُهَا فِي حَالَةِ كِبَرِ الِابْنِ. ثُمَّ وَزَّعَ الْإِسْلَامُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ بَقِيَّةِ مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ عَلَى حَسَبِ الدُّنُوِّ فِي الْقُرْبِ النِّسْبِيِّ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ عَزَّزَ اللَّهُ قَابِلِيَّةَ الِانْسِيَاقِ إِلَى تِلْكَ الشِّرْعَةِ فِي النُّفُوسِ.

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ:

هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. فَقَالَ اللَّهُ: أَمَّا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ» .

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّحِمَ مِنِ اسْمِهِ الرَّحِيمِ»

. وَفِي هَذَا التَّكْوِينِ لِأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ تَظْهَرُ آثَارُهُ فِي مُوَاسَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَفِي اتِّحَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: ١٣] .

وَزَادَهُ الْإِسْلَامُ تَوْثِيقًا بِمَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْكِيدِ شَدِّ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِمَّا حَاوَلَهُ كُلُّ دِينٍ سَلَفَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي بَابِهِ مِنْ كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَة الإسلامية» .

[٢٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢٥]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (٢٥)

تَذْيِيلٌ لِآيَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَمَا فَصَلَ بِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ قَبْلَ وُرُودِهِ بَيْنَ مُوَافِقٍ لِمُقْتَضَاهُ وَمُفْرِطٍ فِيهِ، وَمِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ وُرُودِهِ مِنْ مُحَافِظٍ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَمُقَصِّرٍ عَنْ قَصْدٍ أَوْ عَنْ بَادِرَةِ غَفْلَةٍ.

وَلَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَضَاعِيفِ ذَلِكَ وَمَا يَقْتَضِيهِ يَعْتَمِدُ خُلُوصَ النِّيَّةِ لِيَجْرِيَ الْعَمَلُ

عَلَى ذَلِكَ الْخُلُوصِ كَامِلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا تَكَاسُلَ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى النُّفُوسِ وَالنَّوَايَا، فَوَعَدَ الْوَلَدَ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ إِنْ هُوَ أَدَّى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِوَالِدَيْهِ وَافِيًا كَامِلًا. وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الصَّلَاحُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ مُمْتَثِلِينَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الضَّمِيرِ فَعَادَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَضَمِيرُ الْجَمْعِ أَنْسَبُ بِهِ.

وَلَمَّا شَمِلَ الصَّلَاحُ الصَّلَاحَ الْكَامِلَ وَالصَّلَاحَ الْمَشُوبَ بِالتَّقْصِيرِ ذَيَّلَهُ بِوَصْفِ الْأَوَّابِينَ الْمُفِيدِ بِعُمُومِهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِهِ وَمَا يُرْضِيهِ، فَفُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَى احْتِبَاكٍ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ أَوَّابِينَ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ لِلصَّالِحِينَ مُحْسِنًا وَلِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا. وَهَذَا يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرَهُمْ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ كَانَ تَذْيِيلًا.

وَهَذَا الْأَوْبُ يَكُونُ مُطَّرِدًا، وَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَقْتَضِي طَلَبَ الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَخْرِمُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَوب وَصَاحبه آئب، فَصِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ (أَوَّابٌ) لِصُلُوحِيَّةِ الْمُبَالَغَةِ لِقُوَّةِ كَيْفِيَّةِ الْوَصْفِ وَقُوَّةِ كميته. فالملازم للامتثال فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الْمُرَاقِبُ لِنَفْسِهِ أَوَّابٌ لِشِدَّةِ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ، والمغلوب بالتفريط يؤوب كُلَّمَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَذَكَرَ رَبَّهُ، فَهُوَ أَوَّابٌ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ.

وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَخَاصَّةً حَالَةَ التَّفْرِيطِ وَبَوَادِرَ الْمُخَالَفَةِ. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ.

وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ إِيجَازِهَا تَيْسِيرًا بَعْدَ تَعْسِيرٍ مَشُوبًا بِتَضْيِيقٍ وَتَحْذِيرٍ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَقِيبًا

[٢٦، ٢٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٢٦ الى ٢٧]

وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)

وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.

الْقَرَابَةُ كُلُّهَا مُتَشَعِّبَةٌ عَنِ الْأُبُوَّةِ فَلَا جَرَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْأَبَوَيْنِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ الْقَرَابَةِ.

وَلِلْقَرَابَةِ حَقَّانِ: حُقُّ الصِّلَةِ، وَحَقُّ الْمُوَاسَاةِ. وَقَدْ جَمَعَهُمَا جِنْسُ الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ حَقَّهُ. وَالْحَوَالَةُ فِيهِ على مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَعَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلِ قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

وَالْعُدُولُ عَنِ الْخِطَابِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ [الْإِسْرَاء: ٢٥] الْآيَةَ إِلَى الْخِطَابِ بِالْإِفْرَادِ بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الصِّيغَةِ الْوَاحِدَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَالْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ.

وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِعْطَاءِ الْأَشْيَاءِ، وَمَجَازٌ شَائِع فِي التَّمْكِين مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَمِنْهُ

قَول النبيء ﷺ: «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا»

الْحَدِيثَ.

وَإِطْلَاقُ الْإِيتَاءِ هَنَا صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي تَوْفِيرِ الْمَعَانِي وَإِيجَازِ الْأَلْفَاظِ.

وَقَدْ بَيَّنَتْ أَدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ حُقُوقَ ذِي الْقُرْبَى وَمَرَاتِبَهَا: مِنْ وَاجِبَةٍ مِثْلِ بَعْضِ النَّفَقَةِ عَلَى بَعْضِ الْقَرَابَةِ مُبَيَّنَةٍ شُرُوطَهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ وَاجِبَةٍ مِثْلِ الْإِحْسَانِ.

وَلَيْسَ لِهَاتِهِ تَعَلُّقٌ بِحُقُوقِ قرَابَة النبيء ﷺ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي الْمَالِ تَقَرَّرَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَشُرِعَتِ الْمَغَانِمُ وَالْأَفْيَاءُ وَقِسْمَتُهَا. وَلِذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى حُقُوقِ قَرَابَةِ

النَّسَبِ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهَا تَشْمَلُ قرَابَة النبيء ﷺ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقُرْبى تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيِ الْقُرْبَى مِنْكَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ (أَلْ) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى عُطِفَ عَلَيْهِ مَنْ يُمَاثِلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُوَاسَاةِ.

وَحَقُّ الْمِسْكِينِ هُوَ الصَّدَقَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٨] وَقَوْلُهُ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَد: ١٤- ١٦] . وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حُقُوقَ الْمَسَاكِينِ وَأَعْظَمُهَا آيَةُ الزَّكَاةِ وَمَرَاتِبَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرَهَا.

وَابْنَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ بِحَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَلَهُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ حَقُّ ضِيَافَتِهِ.

وَحُقُوق الأضياف

جَاءَت فِي كَلَام النبيء ﷺ كَقَوْلِهِ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُكرم ضَيفه جايزته يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ»

. وَكَانَتْ ضِيَافَةُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ أُصُولِ الْحَنِيفِيَّةِ مِمَّا سَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ- عليه السلام قَالَ الْحَرِيرِيُّ: «وَحُرْمَةُ الشَّيْخِ الَّذِي سَنَّ الْقِرَى» .

وَقَدْ جُعِلَ لِابْنِ السَّبِيلِ نَصِيبٌ مِنَ الزَّكَاةِ.

وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاث وَصَايَا مِمَّا أَوْصَى اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

فَأَمَّا إِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى فَالْمَقْصِدُ مِنْهُ مُقَارِبٌ لِلْمَقْصِدِ مِنَ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ رَعْيًا لِاتِّحَادِ الْمَنْبَتِ الْقَرِيبِ وَشَدًّا لِآصِرَةِ الْعَشِيرَةِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الْقَبِيلَةُ. وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِنِظَامِ الْقَبِيلَةِ وَأَمْنِهَا وَذَبِّهَا عَنْ حَوْزَتِهَا.

وَأَمَّا إِيتَاءُ الْمِسْكِينِ فَلِمَقْصِدِ انْتِظَامِ الْمُجْتَمَعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَفْرَادِهِ مَنْ هُوَ فِي بُؤْسٍ وَشَقَاءٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمِسْكِين لَا يعدو أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَبِيلَةِ فِي الْغَالِبِ أَقْعَدَهُ الْعَجْزُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْفَقْرُ عَنِ الْكِفَايَةِ.

وَأَمَّا إِيتَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ فَلِإِكْمَالِ نِظَامِ الْمُجْتَمَعِ، لِأَنَّ الْمَارَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَنِيهِ بِحَاجَةٍ عَظِيمَةٍ إِلَى الْإِيوَاءِ لَيْلًا لِيَقِيَهُ مِنْ عَوَادِي الْوُحُوشِ وَاللُّصُوصِ، وَإِلَى الطَّعَامِ وَالدِّفْءِ أَو التظلل وقاية مِنْ إِضْرَار الْجُوع والقر أَوِ الْحَرِّ.

وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا لَمَّا ذُكِرَ الْبَذْلُ الْمَحْمُودُ وَكَانَ ضِدُّهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ أَعْقَبَهُ بِذِكْرِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ.

وَلِأَنَّ فِي الِانْكِفَافِ عَنِ الْبَذْلِ غَيْرِ الْمَحْمُودِ الَّذِي هُوَ التَّبْذِيرُ اسْتِبْقَاءٌ لِلْمَالِ الَّذِي يَفِي بِالْبَذْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالِانْكِفَافُ عَنْ هَذَا تَيْسِيرٌ لِذَاكَ وَعَوْنٌ عَلَيْهِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَرَضًا مُهِمًّا مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَسُوقِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرَادِ فِي أَثْنَاءِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ لِيُظْهِرَ كَوْنَهُ وَسِيلَةً لِإِيتَاءِ الْمَالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ، وَكَوْنَهُ مَقْصُودًا بِالْوِصَايَةِ أَيْضًا لِذَاتِهِ.

وَلِذَلِكَ سَيَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى إِيتَاءِ الْمَالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ بِقَوْلِهِ:

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الْآيَة، [الْإِسْرَاء: ٢٨] ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى مَا يبين أَحْكَامِ التَّبْذِيرِ

بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاء: ٢٩] .

وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ إِلَخْ.. لِأَنَّ التَّبْذِيرَ لَا يُوصَفُ بِهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَةِ الْمُعْطَى (بِالْفَتْحِ) .

فَجُمْلَةُ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَةَ وَجُمْلَةُ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٢]، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَصِيَّةً سَادِسَةً مِمَّا قَضَى اللَّهُ بِهِ.

وَالتَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْإِسْرَافِ، فَإِنْفَاقُهُ فِي الْفَسَادِ تَبْذِيرٌ، وَلَوْ كَانَ الْمِقْدَارُ قَلِيلًا، وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمُبَاحِ إِذَا بَلَغَ حَدَّ السَّرَفِ تَبْذِيرٌ، وَإِنْفَاقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ رَآهُ يُنْفَقُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، فَأَجَابَهُ الْمُنْفِقُ: لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، فَكَانَ فِيهِ مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ مُحْسِنُ الْعَكْسِ.

وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ جُعِلَ عِوَضًا لِاقْتِنَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَحَاجِيَّاتٍ وَتَحْسِينَاتٍ. وَكَانَ نِظَامُ الْقَصْدِ فِي إِنْفَاقِهِ ضَامِنَ كِفَايَتِهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِحَيْثُ إِذَا أُنْفِقَ فِي وَجْهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالْحَاجِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ أَمِنَ صَاحِبُهُ مِنَ إِلَخْصَاصَةِ فِيمَا هُوَ إِلَيْهِ أَشد احتياجا، فَتَجَاوز هَذَا الْحَدِّ فِيهِ يُسَمَّى تَبْذِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ ذَاتِ الْكَفَافِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْوَفْرِ وَالثَّرْوَةِ فَلِأَنَّ ذَلِك الوفر ءات مِنْ أَبْوَابٍ اتَّسَعَتْ لِأَحَدٍ فَضَاقَتْ عَلَى آخَرَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مَحْدُودَةٌ، فَذَلِكَ الْوَفْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لِإِقَامَةِ أَوَدِ الْمُعْوِزِينَ وَأَهْلِ الْحَاجَةِ الَّذِينَ يَزْدَادُ عَدَدُهُمْ بِمِقْدَارِ وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْوَفْرِ وَالْجِدَةِ، فَهُوَ مَرْصُودٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعَائِلَةِ وَالْقَبِيلَةِ وَبِالتَّالِي مَصَالِحُ الْأُمَّةِ.

فَأَحْسَنُ مَا يُبْذَلُ فِيهِ وَفْرُ الْمَالِ هُوَ اكْتِسَابُ الزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٤١]، وَاكْتِسَابُ الْمَحْمَدَةِ بَيْنَ قَوْمِهِ. وَقَدِيمًا قَالَ الْمَثَلُ الْعَرَبِيُّ «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى الْمُرُوءَةِ الْجِدَةُ» . وَقَالَ ... «اللَّهُمَّ هَبْ لِي حَمْدًا، وَهَبْ لِي مَجْدًا، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إِلَّا بِفِعَالٍ، وَلَا فِعَالَ إِلَّا بِمَالٍ» .

وَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ الْأُمَّةِ عُدَّةً لَهَا وَقُوَّةً لِابْتِنَاءِ أَسَاسِ مَجْدِهَا وَالْحِفَاظِ

عَلَى مَكَانَتِهَا حَتَّى تَكُونَ مَرْهُوبَةَ الْجَانِبِ مَرْمُوقَةً بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَنْ قَدْ يَسْتَغِلُّ حَاجَتَهَا فَيَبْتَزُّ مَنَافِعَهَا وَيُدْخِلَهَا تَحْتَ نِيرِ سُلْطَانِهِ.

وَلِهَذَا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْوَالَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيامًا [النِّسَاء: ٥] وَلَمْ يَقُلْ أَمْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهَا أَمْوَالُ السُّفَهَاءِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ حِينَ صَارُوا رُشَدَاءَ.

وَمَا مَنَعَ السُّفَهَاءَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَّا خَشْيَةَ التَّبْذِيرِ. وَلِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ تَصَرُّفَ السَّدَادِ وَالصَّلَاحِ لَمَضَى.

وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ تَبْذِيرًا بَعْدَ وَلا تُبَذِّرْ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تُبَذِّرْ، لَا تُبَذِّرْ، مَعَ مَا فِي الْمَصْدَرِ مِنِ اسْتِحْضَارِ جِنْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ اسْتِحْضَارًا لِمَا تُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تَعْلِيل للْمُبَالَغَة فِي النَّهْي عَن التبذير.

والتعريف فِي الْمُبَذِّرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ الَّذِينَ عَرَفُوا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَالتَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] .

وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ غَيْرِ الْمُفَارِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخِ، كَقَوْلِهِمْ: أَخُو الْعِلْمِ، أَيْ مَلَازِمُهُ وَالْمُتَّصِفُ بِهِ، وَأَخُو السَّفَرِ لِمَنْ يُكْثِرُ الْأَسْفَارَ. وَقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:

وَأَخُو الْحَضَرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ تَجْبِي إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ

يُرِيدُ صَاحِبَ قَصْرِ الْحَضَرِ، وَهُوَ مَلِكُ بَلَدِ الْحَضَرِ الْمُسَمَّى الضَّيْزَنَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْقُضَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ السيَّطْرُونَ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَحُلَفَائِهِمْ كَمَا يُتَابِعُ الْأَخُ أَخَاهُ.

وَقَدْ زِيدَ تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِلَفْظِ كانُوا الْمُفِيدِ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ، وَكَفَى بِحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِ كَرَاهَةً فِي النُّفُوسِ وَاسْتِقْبَاحًا.

وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ إِمَّا إِنْفَاقٌ فِي الْفَسَادِ وَإِمَّا إِسْرَافٌ يَسْتَنْزِفُ الْمَالَ فِي السَّفَاسِفِ وَاللَّذَّاتِ فَيُعَطِّلُ الْإِنْفَاقَ فِي الْخَيْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُرْضِي الشَّيْطَانَ،

فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْمُتَّصِفُونَ بِالتَّبْذِيرِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَإِخْوَانِهِ.

وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ التَّبْذِيرَ إِذَا فَعَلَهُ الْمَرْءُ اعْتَادَهُ فَأَدْمَنَ عَلَيْهِ فَصَارَ لَهُ خُلُقًا لَا يُفَارِقُهُ شَأْنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ أَنْ يَسْهُلَ تَعَلُّقُهَا بِالنُّفُوسِ كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْمَرْءَ لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

، فَإِذَا بَذَرَ الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ، أَيِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُبَذِّرُونَ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ، فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ شَأْنِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فَتَصِيرُ مِنَ الْمُبَذِّرِينَ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ أَنَّ الْمَرْءَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ من المبذرين عِنْد مَا يُبَذِّرُ تَبْذِيرَةً أَوْ تَبْذِيرَتَيْنِ.

ثُمَّ أَكَّدَ التَّحْذِيرَ بِجُمْلَةِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا. وَهَذَا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ التَّبْذِيرُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْكُفْرِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ التَّخَلُّقِ بِالطَّبَائِعِ الشيطانية، فَيذْهب يتدهور فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] . وَيَجُوزُ حَمْلُ الْكُفْرِ هُنَا عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ دَرَجَاتٍ إِلَى حَالِ التَّخَلُّقِ بِالتَّبْذِيرِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ بِالْمَالِ. فَالتَّخَلُّقُ بِهِ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ لِكُفْرَانِ النِّعَمِ.

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي الْمَنْطِقِ بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، إِذْ كَانَ الْمُبَذِّرُ مُؤَاخِيًا لِلشَّيْطَانِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُورًا، فَكَانَ المبذّر كفورا بالمئال أَوْ بِالدَّرَجَةِ الْقَرِيبَةِ.

وَقَدْ كَانَ التَّبْذِيرُ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَدَّحُونَ بِصِفَةِ الْمِتْلَافِ وَالْمُهْلِكِ الْمَالَ، فَكَانَ عِنْدَهُمُ الْمَيْسِرُ مِنْ أَسْبَابِ الْإِتْلَافِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ التَّلَبُّسِ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَهِيَ مَنِ الْمَذَامِّ، وَأَدَّبَهُمْ بِآدَابِ الْحِكْمَة والكمال.

[٢٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢٨]

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ [الْإِسْرَاء: ٢٦] لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ النبيء ﷺ لِأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] فَإِنَّ الْمُوَاجَهَةَ

بِ رَبُّكَ فِي الْقُرْآنِ جَاءَتْ غَالِبًا لخطاب النبيء ﷺ. وَيَعْدِلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مَالًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ يُعْرِضُ عَنْهُ حَيَاءً فَنَبَّهَهُ اللَّهُ إِلَى أَدَبٍ أَكْمَلَ مِنَ الَّذِي تَعَهَّدَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ.

وَضَمِيرُ عَنْهُمُ عَائِدٌ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

وَالْإِعْرَاضُ: أَصْلُهُ ضِدُّ الْإِقْبَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- أَيِ الْجَانِبِ، فَأَعَرَضَ بِمَعْنَى أَعْطَى جَانِبَهُ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء:

٨٣]، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْإِيتَاءِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ، أَيْ إِنْ سَأَلَكَ أَحَدُهُمْ عَطَاءً فَلَمْ تُجِبْهُ إِلَيْهِ أَوْ إِنْ لَمْ تَفْتَقِدْهُمْ بالعطاء الْمَعْرُوف فتباعدت عَنْ لِقَائِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ أَنْ تُلَاقِيَهُمْ بِيَدٍ فَارِغَةٍ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا.

وَالْمَيْسُورُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ السُّهُولَةُ، وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. يُقَالُ: يُسِرَ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ- كَمَا يُقَالُ: سُعِدَ الرَّجُلُ

وَنُحِسَ، وَالْمَعْنَى: جُعِلَ يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُقَال: عسر. وَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ: اللِّينُ الْحَسَنُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الْمَقْبُولِ بِالْمَيْسُورِ فِي قَبُولِ النَّفْسِ إِيَّاهُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَقْبُولِ عَسِيرٌ. أَمَرَ اللَّهُ بِإِرْفَاقِ عَدَمِ الْإِعْطَاءِ لِعَدَمِ الْمَوْجِدَةِ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنٍ بِالِاعْتِذَارِ وَالْوَعْدِ عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ، لِئَلَّا يُحْمَلَ الْإِعْرَاضُ عَلَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَالشُّحِّ.

وَقَدْ شَرَطَ الْإِعْرَاضَ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا لِابْتِغَاءِ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ إِعْرَاضًا لِعَدَمِ الْجِدَةِ لَا اعْتِرَاضًا لِبُخْلٍ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَوْلٌ لَيِّنٌ فِي الِاعْتِذَارِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَنَّهُ اعْتِذَارٌ صَادِقٌ وَلَيْسَ تَعَلُّلًا كَمَا قَالَ بَشَّارٌ:

وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَاله علل ... رزق الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودٌ

فَقَوْلُهُ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُعْرِضَنَّ مُصَدَّرٌ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُبْتَغِيًا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وتَرْجُوها صِفَةٌ لِ رَحْمَةٍ. وَالرَّحْمَةُ هُنَا هِيَ الرِّزْقُ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ الْعَطَاءُ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ سَبَبٌ لِلرَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إِذَا أَعْطَاهُ مُسْتَحِقَّهُ أُثِيبَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِدْمَاجٌ.

وَفِي ضِمْنِ هَذَا الشَّرْطِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ كَانَ فَاقِدًا مَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَرْجُوَ مِنَ اللَّهِ تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ، وَأَنْ لَا يَحْمِلَهُ الشُّحُّ عَلَى السُّرُورِ بِفَقْدِ الرِّزْقِ لِلرَّاحَةِ مِنَ الْبَذْلِ بِحَيْثُ لَا يعْدم الْبَذْل الْآن إِلَّا وَهُوَ رَاجٍ أَنْ يَسْهُلَ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حِرْصًا عَلَى فَضِيلَتِهِ،

وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلَّا فِي حَالِ رَجَاءِ حُصُولِ نِعْمَةٍ فَإِنْ حصلت أَعْطَاهُم.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٢٩]

وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)

عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ التَّبْذِيرِ وَالشُّحِّ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الْإِسْرَاء: ٢٦] . وَلَوْلَا تَخَلُّلُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٨] الْآيَةَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ الْبَيَانِ أَنْ لَا يُعْطَفَ عَلَى الْمُبِيَّنِ، وَأَيْضًا عَلَى أَنَّ فِي عَطْفِهَا اهْتِمَامًا بِهَا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْقَصْدِ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْبَيَانِ بِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ الْبُخْلِ الْمُقَابِلِ لِلتَّبْذِيرِ.

وَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْلِيمًا بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ الدَّقِيقَةِ فَكَانَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ.

وَجَاءَ نَظْمُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَصِيغَتِ الْحِكْمَةُ فِي قَالَبِ الْبَلَاغَةِ.

فَأَما الْحِكْمَة فَإذْ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَحْمُودَ فِي الْعَطَاءِ هُوَ الْوَسَطُ الْوَاقِعُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهَذِه الأوساط هِيَ حُدُود المحامد بَيْنَ الْمَذَامِّ مِنْ كُلِّ حَقِيقَةٍ لَهَا طَرَفَانِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي حِكْمَةِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ لِكُلِّ خُلُقٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا، فَالطَّرَفَانِ إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ مَفَاسِدَ لِلْمَصْدَرِ وَلِلْمَوْرِدِ، وَأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ، فَالْإِنْفَاقُ وَالْبَذْلُ حَقِيقَةٌ أَحَدُ طَرَفَيْهَا الشُّحُّ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِذْ يَجُرُّ إِلَيْهِ كَرَاهِيَةَ النَّاس إِيَّاه وكراهتيه إِيَّاهُمْ. وَالطَّرَفُ الْآخَرُ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ، وَفِيهِ مَفَاسِدُ لِذِي الْمَالِ وَعَشِيرَتِهِ لِأَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَهُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ إِلَى مَصَارِفَ غَيْرِ جَدِيرَةٍ بِالصَّرْفِ، وَالْوَسَطُ هُوَ وَضْعُ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِنَفْيِ حَالَيْنِ بَيْنَ (لَا وَلَا) .

وَأَمَّا الْبَلَاغَةُ فَبِتَمْثِيلِ الشُّحِّ وَالْإِمْسَاكِ بِغَلِّ الْيَدِ إِلَى الْعُنُقِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخَيُّلِ الْيَدِ مَصْدَرًا لِلْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وتخيّل بسطها كَذَلِك وَغَلِّهَا شُحًّا،

وَهُوَ تَخَيُّلٌ مَعْرُوفٌ لَدَى الْبُلَغَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، قَالَ الله تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ثُمَّ قَالَ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: ٦٤] وَقَالَ الْأَعْشَى:

يَدَاكَ يَدَا صِدْقٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ

وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَهُ يَدٌ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ نِعْمَةٌ وَفَضْلٌ، فَجَاءَ التَّمْثِيلُ فِي الْآيَةِ مَبْنِيًّا عَلَى

التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِتَمْثِيلِ الَّذِي يَشِحُّ بِالْمَالِ بِالَّذِي غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، أَيْ شُدَّتْ بِالْغُلِّ، وَهُوَ الْقَيْدُ مِنَ السَّيْرِ يشد بِهِ يَد الْأَسِيرُ، فَإِذَا غُلَّتِ الْيَدُ إِلَى الْعُنُقِ تَعَذَّرَ التَّصَرُّفُ بِهَا فَتَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَصَارَ مَصْدَرُ الْبَذْلِ مُعَطَّلًا فِيهِ، وَبِضِدِّهِ مِثْلَ الْمُسْرِفِ بِبَاسِطِ يَدِهِ غَايَةَ الْبَسْطِ وَنِهَايَتَهُ وَهُوَ المفاد بقوله: كُلَّ الْبَسْطِ أَيِ الْبَسْطَ كُلَّهُ الَّذِي لَا بَسْطَ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَعْنَى النِّهَايَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْمَعْنى عِنْد قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَة الْعُقُود [الْمَائِدَة: ٦٤] . هَذَا قَالَبُ الْبَلَاغَةِ الْمَصُوغَةِ فِي تِلْكَ الْحِكْمَةِ.

وَقَوْلُهُ: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا جَوَابٌ لِكِلَا النَّهْيَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ بِطَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، فَالْمَلُومُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الشُّحِّ، وَالْمَحْسُورُ يَرْجِعُ إِلَى النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ الشَّحِيحَ مَلُومٌ مَذْمُومٌ. وَقَدْ قِيلَ:

إِنَّ الْبَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُمَا كَانَا وَقَالَ زُهَيْرٌ:

وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ ... على قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ

وَالْمَحْسُورُ: الْمَنْهُوكُ الْقُوَى. يُقَالُ: بَعِيرٌ حَسِيرٌ، إِذَا أَتْعَبَهُ السَّيْرُ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ قُوَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الْملك: ٤]، وَالْمَعْنَى: غَيْرَ قَادِرٍ على إِقَامَة شؤونك. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى «تقعد» آنِفا.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٠]

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠)

مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ اعْتِرَاضٍ بِالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ، وَعَنِ الْإِمْسَاكِ الْمُفِيدِ الْأَمْرَ بِالْقَصْدِ، بِأَنَّ هَذَا وَاجِبُ النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَوَاجِبُهُمْ نَحْوَ قَرَابَتِهِمْ وَضُعَفَاءِ عَشَائِرِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الشُّحُّ بِمُبْقٍ مَالَ الشَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، وَلَا التَّبْذِيرُ بِمُغْنٍ مَنْ يُبَذِّرُ فِيهِمُ الْمَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِكُلِّ نَفْسٍ رِزْقَهَا.

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى سَنَنِ الْخِطَابِ السَّابِقِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَّلَ الْكَلَامَ إِلَى خطاب النبيء ﷺ فَوَجَّهَ بِالْخِطَابِ إِلَى النبيء ﷺ لِأَنَّهُ الْأَوْلَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّتُهُ مَقْصُودَةً بِالْخِطَابِ تَبَعًا لَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْوَصَايَا مُخَلَّلَةً بِالْإِقْبَالِ عَلَى خطاب النبيء ﷺ.

وَيَقْدِرُ ضِدُّ يَبْسُطُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦] .

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ هُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَمَا يَلِيقُ بِكُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَمَا يَحِفُّ بِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النُّظُمِ الْعَالَمِيَّةِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ.

وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأَخْبَارِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْمُبْصَرَاتِ. وَهَذَانَ الِاسْمَانِ الْجَلِيلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى بَعْضِ تَعَلُّقِ الْعلم الإلهي.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣١]

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا (٣١)

عَطَفَ جُمْلَةَ حُكْمٍ عَلَى جُمْلَةِ حُكْمٍ لِلنَّهْيِ عَنْ فِعْلٍ يَنْشَأُ عَنِ الْيَأْسِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ.

وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ وَقَضى رَبُّكَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْإِضْمَارِ مِنَ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا مِنْ أَحْوَال الْجَاهِلِيَّة زجرا لَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ الذَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَكِنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَرْقًا فِي النَّظْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيلَ هُنَا خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وَقِيلَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ إِمْلاقٍ [الْأَنْعَام:

١٥١] . وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ يَئِدُونَهُنَّ لِغَرَضَيْنِ:

إِمَّا لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْفَاقَ الْبِنْتِ وَلَا يَرْجُونَ مِنْهَا إِنْ كَبِرَتْ إِعَانَةً عَلَى الْكَسْبِ فَهُمْ يَئِدُونَهَا لِذَلِكَ، فَذَلِكَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنْ إِمْلاقٍ، فَإِنَّ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ سَبَبُ قَتْلِهِنَّ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ مَوْجُودٌ حِينَ الْقَتْلِ.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فَقْرَ الْأَبِ وَلَكِنْ خَشْيَةَ عُرُوضِ الْفَقْرِ لَهُ أَوْ عُرُوضِ الْفَقْرِ لِلْبِنْتِ بِمَوْتِ أَبِيهَا، إِذْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ لِلْوَأْدِ هُوَ تَوَقُّعَ الْإِمْلَاقِ، كَمَا قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ، شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ:

إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِين تَنْدُبُنِي ... فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ


أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ... فَيُهْتَكُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ

تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ


أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِِ

فَلِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ ذُكِّرُوا بِتَحْرِيمِ الْوَأْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ مَا تُؤْخَذُ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ. وَمِنْ فِقْرَاتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: دَفْنُ الْبَنَاتِ. مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَكِلْتَا الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ قَتْلِ الْأَوْلَادِ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا التَّوْجِيهُ للمنظور إِلَيْهِ بادىء ذِي بَدْءٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فَمِنْ أَجْلِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرْقِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَالِكَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِتَقْدِيمِ ضَمِيرِ الْآبَاءِ عَلَى ضَمِيرِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِمْلَاقَ الدَّافِعَ لِلْوَأْدِ الْمَحْكِيِّ بِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ هُوَ إِمْلَاقُ الْآبَاءِ فَقَدَّمَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَازِقُهُمْ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ بَنَاتِهِمْ.

وَأَمَّا الْإِمْلَاقُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ الْإِمْلَاقُ الْمَخْشِيُّ وُقُوعُهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَوَقَّعَ إِمْلَاقَ الْبَنَاتِ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْأَبْيَاتِ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ رَازِقُ الْأَبْنَاءِ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ آبَائِهِمْ. وَهَذَا مِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ.

وَالْإِمْلَاقُ: الِافْتِقَارُ. وَتَقَدَّمُ الْكَلَامُ عَلَى الْوَأْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٧] .

وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَجُمْلَةُ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ، وَفِعْلُ كانَ تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ خُصُوصُ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُنَّ اللَّاتِي كَانُوا يَقْتُلُونَهُنَّ وَأْدًا، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا لِأَنَّ الْبِنْتَ يُقَالُ لَهَا: وَلَدٌ. وَجَرَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فِي قَوْله نَرْزُقُهُمْ.

و(الخطء) - بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاء- مصدر خطىء بِوَزْنِ فَرِحَ، إِذَا أَصَابَ إِثْمًا، وَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ [الْقَصَص: ٨] وَقَالَ: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: ١٦] .

وَأَمَّا الْخَطَأ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ- فَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ. وَفِعْلُهُ: أَخْطَأَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: ٥] . وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ هِيَ سِرُّ الْعَرَبِيَّةِ وَعَلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّتِهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُور خِطْأً- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ-، أَيْ إِثْمًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ خِطْأً- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ-. وَالْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ، أَيْ أَنَّ قَتْلَهُمْ مَحْضُ خَطَأٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعْذَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ.

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ خِطَاءً- بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الطَّاءِ بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَمْدُودًا-. وَهُوَ فعال من خطىء إِذَا أَجْرَمَ، وَهُوَ لُغَة فِي خطء، وَكَأَنَّ الْفِعَالَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ.

وَأُكِّدَ بِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مِنَ السَّدَادِ، وَيَقُولُونَ: دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَأُكِّدَ أَيْضًا بِفِعْلِ (كَانَ) لِإِشْعَارِ (كَانَ) بِأَنَّ كَوْنَهُ إِثْمًا أمرا اسْتَقر.

[٣٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٢]

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (٣٢)

عَطْفُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَأْدِ الْبَنَاتِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ مِنْ أَعْذَارِهِمْ فِي وَأْدِ الْبَنَاتِ الْخَشْيَةَ مِنَ الْعَارِ الَّذِي قَدْ يَلْحَقُ مِنْ جَرَّاءِ إِهْمَالِ الْبَنَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْفَقْرِ الرَّامِي بِهِنَّ فِي مَهَاوِي الْعُهْرِ، وَلِأَنَّ فِي الزِّنَى إِضَاعَةَ نَسَبِ النَّسْلِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ لِلنَّسْلِ مَرْجِعٌ يَأْوِي إِلَيْهِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْوَأْدَ فِي الْإِضَاعَةِ.

وَجَرَى الْإِضْمَارُ فِيهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَمَا جَرَى فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] لِمِثْلِ مَا وَجَّهَ بِهِ تَغْيِيرَ الْأُسْلُوبِ هُنَالِكَ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا كَانَ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ مِنَ الْوَصَايَا الْإِلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

وَالْقُرْبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ أَقَلُّ الْمُلَابَسَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ الزِّنَا، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ: مَا كَادَ يَفْعَلُ.

وَالزِّنَى فِي اصْطِلَاحِ الْإِسْلَامِ مُجَامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً غَيْرَ زَوْجَةٍ لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةٍ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ. وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ الزِّنَى: مُجَامَعَةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً حُرَّةً غَيْرَ زَوْجٍ لَهُ وَأَمَّا مُجَامَعَةُ الْأَمَةِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ لِلرَّجُلِ فَهُوَ الْبِغَاءُ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَتِهِ تَعْلِيلًا مُبَالَغًا فِيهِ مِنْ جِهَاتٍ بِوَصْفِهِ بِالْفَاحِشَةِ الدَّالِّ عَلَى فِعْلَةٍ بَالِغَةٍ الْحَدَّ الْأَقْصَى فِي الْقُبْحِ، وَبِتَأْكِيدِ ذَلِكَ بِحَرْفِ

التَّوْكِيدِ، وَبِإِقْحَامِ فِعْلِ (كَانَ) الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ خَبَرَهُ وَصْفٌ رَاسِخٌ مُسْتَقِرٌّ، كَمَا تقدم فِي قَوْله:

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: ٢٧] .

وَالْمُرَادُ: أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ النَّاسُ مِنْ قَبْلُ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ.

وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الذَّمِّ وَهُوَ ساءَ سَبِيلًا، وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْفِعْلِ الَّذِي يُلَازِمُهُ الْمَرْءُ وَيَكُونُ لَهُ دَأْبًا اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى [طه: ٢١]، فَبُنِيَ عَلَى اسْتِعَارَةِ السَّيْرِ لِلْعَمَلِ اسْتِعَارَةُ السَّبِيلِ لَهُ بِعَلَاقَةِ الْمُلَازَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٢] .

وَعِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ النَّسَبِ وَتَعْرِيضَ النَّسْلِ لِلْإِهْمَالِ إِنْ كَانَ الزِّنَى بِغَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ وَهُوَ خَلَلٌ عَظِيمٌ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إِفْسَادَ النِّسَاءِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَالْأَبْكَارِ عَلَى أَوْلِيَائِهِنَّ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْإِهْمَالِ بِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ تَزَوُّجِهَا، وَطَلَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا، وَلِمَا يَنْشَأُ عَنِ الْغَيْرَةِ مِنَ الْهَرْجِ وَالتَّقَاتُلِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

عَلَيَّ حِرَاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

فَالزِّنَى مِئِنَّةٌ لِإِضَاعَةِ الْأَنْسَابِ وَمَظِنَّةٌ لِلتَّقَاتُلِ وَالتَّهَارُجِ فَكَانَ جَدِيرًا بِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ قَصْدًا وَتَوَسُّلًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ وَنَظَرَ جَزَمَ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الزِّنَى مِنَ الْمَفَاسِدِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَأَمِّلُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُبْحُهُ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ، وَلَكِنَّ الْعُقَلَاءَ مُتَفَاوِتُونَ فِي إِدْرَاكِهِ وَفِي مِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ، فَلَمَّا أَيْقَظَهُمُ التَّحْرِيمُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّاسِ عُذْرٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ الزَّعْمِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ فِي أول السُّورَة.

[٣٣]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٣]

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا (٣٣)

مَعْلُومَةٌ حَالَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّسَرُّعِ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ فَكَانَ حِفْظُ النُّفُوسِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِلشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ مِنْ أَهَمِّ الْوَصَايَا الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ. وَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ التَّاسِعَةُ.

وَالنَّفْسُ هُنَا الذَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] وَقَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [الْمَائِدَة: ٣٢] وَقَوْلِهِ: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لُقْمَان: ٣٤] . وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ وَهِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ.

وَالْقَتْلُ: الْإِمَاتَةُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، أَيْ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ عَنِ الذَّاتِ.

وَقَوْلُهُ: حَرَّمَ اللَّهُ حُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ الصِّلَةِ وَحَذْفُهُ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: حَرَّمَهَا اللَّهُ. وَعَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِعَيْنِ النَّفْسِ، وَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ قَتْلِهَا.

وَوُصِفَتِ النَّفْسُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ بِمُقْتَضَى كَوْنِ تَحْرِيمِ قَتْلِهَا مَشْهُورًا مِنْ قَبْلِ هَذَا النَّهْيِ، إِمَّا لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ بِآيَاتٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَ آيَةِ الْأَنْعَامُ حُكْمًا مُفَرِّقًا وَجَمَعَتِ الْأَحْكَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ، وَإِمَّا لِتَنْزِيلِ الصِّلَةِ مَنْزِلَةَ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي جَهْلُهُ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَخِفُّونَ بِقَتْلِ النَّفْسِ بِأَنَّهُمْ جَهِلُوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، تَنْوِيهًا بِهَذَا الْحُكْمِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ فِي خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ يَهْدِي الْعُقُولَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ لِيُعَمِّرَ بِهِ الْأَرْضَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها [هود: ٦١]، فَالْإِقْدَامُ عَلَى إِتْلَافِ نَفْسِ هَدْمٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِنَاءَهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ وَشَاعَ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ صَوْنُ النُّفُوسِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِالْإِعْدَامِ، فَبِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، أَيْ عُرِفَتْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ.

وَاسْتُثْنِيَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ الْقَتْلُ الْمُصَاحِبُ لِلْحَقِّ، أَيِ الَّذِي يَشْهَدُ الْحَقُّ أَنَّ نَفْسًا مُعَيَّنَةً اسْتَحَقَّتِ الْإِعْدَامَ مِنَ الْمُجْتَمَعِ، وَهَذَا مُجْمَلٌ يُفَسِّرُهُ فِي وَقْتِ النُّزُولِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقَوَدِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّشْرِيعِ لِلْأُمَّةِ وَإِشْعَارًا بِأَنْ سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ قَضَاءٌ وَحُكْمٌ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أُبْقِيَ مُجْمَلًا حَتَّى تُفَسِّرَهُ الْأَحْكَامُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مِنْ بَعْدُ، مِثْلَ آيَةِ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً إِلَى قَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا [النِّسَاء:

٩٢- ٩٣] .

فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ إِلَّا قَتْلًا

مُلَابِسًا لِلْحَقِّ.

وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ حَقُّ الْقَتْلِ، كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: فَإِذَا قَالُوهَا (أَيْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»

. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ بِالنَّهْيِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ كَانَ تعْيين الْحَقِّ الْمُبِيحِ لِقَتْلِ النَّفْسِ مَوْكُولًا إِلَى مَنْ لَهُمْ تَعْيِينُ الْحُقُوقِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَعْيِينُ الْحَقِّ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَهُوَ مَا سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا الْآيَةَ.

وَحِين كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِطِينَ فِي مَكَّةَ بِالْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ أَهْلًا لِلثِّقَةِ بِهِمْ فِي الطَّاعَةِ لِلشَّرَائِعِ الْعَادِلَةِ، وَكَانَ قَدْ يَعْرِضُ أَنْ يَعْتَدِيَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَتْلِ ظُلْمًا أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ، فَقَالَ:

وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا أَيْ قَدْ جَعَلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ تَصَرُّفًا فِي الْقَاتِلِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ.

وَالسُّلْطَانُ: مَصْدَرٌ مِنَ السُّلْطَةِ كَالْغُفْرَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا اسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ.

وَكَوْنُهُ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ بِهِ أَوْ يَعْفُو أَوْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْزُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْ ذَوِيهِ لِيَقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَجْنِ يَدَاهُ قَتْلًا. وَهَكَذَا تَسْتَمِرُّ التِّرَاتُ بَيْنَ أَخْذٍ وَرَدٍّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ أَيْضًا.

فَالْمُرَادُ بِالْجَعْلِ مَا أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَادَةِ الْقَوَدِ.

وَالْقَوَدُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مِنَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ هُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ بِالْحَقِّ. وَهَذِهِ حَالَةٌ خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْعُدْوَانِ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِقَبُولِ الْقَوَدِ. وَهَذَا مَبْدَأُ صَلَاحٍ عَظِيمٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ حَمْلُ أَهْلِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَسَادُ مِنْ طَرَفَيْنِ فَيَتَفَاقَمُ أَمْرُهُ، وَتِلْكَ عَادَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. قَالَ الشَّمَيْذَرُ الْحَارِثِيُّ:

فَلَسْنَا كَمَنْ كُنْتُمْ تُصِيبُونَ سَلَّةً ... فَنَقْبَلُ ضَيْمًا أَوْ نُحَكِّمُ قَاضِيَا


وَلَكِنَّ حُكْمَ السَّيْفِ فِينَا مُسَلَّطٌ ... فَنَرْضَى إِذَا مَا أَصْبَحَ السَّيْفُ رَاضِيَاِ

فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِثَالًا سَيِّئًا يُقَابِلُوا الظُّلْمَ بِالظُّلْمِ كَعَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْإِنْصَافِ فَيَقْبَلُوا الْقَوَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.

وَالسَّرَفُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالْمَالِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ. فَالسَّرَفُ فِي الْقَتْلِ هُوَ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ الْقَاتِلِ، أَمَّا مَعَ الْقَاتِلِ وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا قَالَ الْمُهَلْهَلُ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ كُلَيْبٍ:

كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّةٌ ... حَتَّى يَعُمُّ الْقَتْلُ آلَ مُرَّةَ

وَأَمَّا قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ فَقَدْ كَانُوا يَقْتَنِعُونَ عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الْقَاتِلِ بِقَتْلِ رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ. وَكَانُوا يَتَكَايَلُونَ الدِّمَاءَ، أَي يجْعَلُونَ كليها مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ شَرَفِ الْقَتِيلِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَة بنت معديكرب:

فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ

الْبَوَاءُ: الْكُفْءُ فِي الدَّمِ. تُرِيدُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَهُوَ الْمُسَمَّى جَبْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ التَّكَايُلَ بِالدَّمِ.

وَضَمِيرُ يُسْرِفْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ مَظِنَّةِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ بِحَسَبِ مَا تَعَوَّدُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- أَيْ خِطَابٍ لِلْوَلِيِّ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا اسْتِئْنَافٌ، أَيْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا بِحكم الْقود فَلَمَّا ذَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ مِنَ النَّصْرِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ بِالسَّرَفِ فِي الْقَتْلِ. حَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْوَلِيِّ سُلْطَانًا عَلَى الْقَاتِلِ.

وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَبِإِقْحَامِ (كَانَ) الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَقِرُّ الثُّبُوتِ.

وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْعَدْلِ إِلَى السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ لَا يُنْصَرُ.

وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتِهِ وَإِعْجَازِهِ الْخَفِيِّ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ (سُلْطَانٍ) هُنَا الظَّاهِرِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ السُّلْطَةِ وَالْحَقِّ وَالصَّالِحِ لِإِرَادَةِ إِقَامَةِ السُّلْطَانِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يَأْخُذُ الْحُقُوقَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ إِلَى الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حِينَ تَنْتَظِمُ جَامِعَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِلْمُسْلِمِينَ دَوْلَةً دَائِمَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ سُلْطَانٌ.

وَهَذَا الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْقَتْلِ الْحَادِثِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ وَهُوَ قَتْلُ الْعُدْوَانِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، وَهُوَ الْجِهَادُ، فَلَهُ أَحْكَامٌ أُخْرَى. وَبِهَذَا تَعْلَمُ التَّوْجِيهَ لِلْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَائِرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْحُكْمِ بِحَيْثُ جُعِلَ مُسْتَقِلًّا، فَعُطِفَ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً، إِمَّا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ حُكْمِ حَالَةٍ تَكْثُرُ، وَإِمَّا بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ إِلَّا بِالْحَقِّ.

وَ(مَنْ) مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ مُرَادٌ بِهَا الْعُمُومُ، أَيْ وَكُلُّ الَّذِي يُقْتَلُ مَظْلُومًا. وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ فِي جُمْلَةِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ وَالرَّبْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدِّمَةٌ لِلْخَبَرِ بِتَعْجِيلِ مَا يُطَمْئِنُ نَفْسَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ إِلَخْبَرِ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا تَمْهِيدًا لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ جعل لَهُ سُلْطَان فَقَدْ صَارَ الْحُكْمُ بِيَدِهِ وَكَفَاهُ ذَلِكَ شِفَاءً لِغَلِيلِهِ.

وَمِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ تَوَلِّي وَلِيِّ الْمَقْتُولِ قَتْلَ الْقَاتِلِ دُونَ حُكْمٍ مِنَ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةٌ لِلْخَطَأِ فِي تَحْقِيقِ الْقَاتِلِ، وَذَرِيعَةٌ لِحُدُوثِ قَتْلٍ آخَرَ بِالتَّدَافُعِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَأَهْلِ الْقَاتِلِ، وَيَجُرُّ إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ الَّذِي مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ، فَضَمِيرُ فَلا يُسْرِفْ عَائِدٌ إِلَى «وَلِيُّهُ» .

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا تَعْلِيلٌ لِلْكَفِّ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى «وَلِيُّهُ» .

وَ(فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْقَتْلِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يَجُولُ فِي كَسْبٍ وَمَالٍ وَنَحْوِهِ، فَكَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي جُمْلَةِ مَا جَالَ فِيهِ.

وَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ الْخَالِصِينَ اسْتَبْعَدَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً بِمَكَّةَ فَزَعَمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ

مُنَاسَبَتِهَا وَأَبْطَلْنَا أَنْ تَكُونَ مَكِّيَّةً فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.

[٣٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٤]

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (٣٤)

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْوَصَايَا الَّتِي أَوْصَى اللَّهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لِضَعْفِهِمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِمَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ وَقِلَّةِ نَصِيرِهِمْ لِإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا عَسَى أَنْ يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرٍ مِنْ تِلْكَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْعَاشِرَةُ.

وَالْقَوْلُ فِي الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ كَالْقَوْلِ فِي سَابِقِيهِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَهْدَ لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقٍ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيءَ، وَهُوَ الْبَيْعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٩١] وَقَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا

فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٢] .

وَهَذَا التَّشْرِيعُ مِنْ أُصُولِ حُرْمَةِ الْأُمَّةِ فِي نَظَرِ الْأُمَمِ وَالثِّقَةِ بِهَا لِلِانْزِوَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِهَا. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَهِيَ مِنْ عِدَادِ مَا وَقَعَ بَعْدَ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، أَيْ لِلْإِيجَابِ الَّذِي اقْتَضَاهُ، وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْعَهْدَ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسْرِي مَسْرَى الْمَثَلِ.

وَحذف مُتَعَلق مَسْؤُلًا لظُهُوره، أَي مسؤولا عَنْهُ، أَيْ يَسْأَلُكُمُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْم الْقِيَامَة.

[٣٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٥]

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥)

هَذَانِ حُكْمَانِ هُمَا الثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي قَضَى اللَّهُ بِهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَزِيَادَةُ الظَّرْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِذا كِلْتُمْ دُونَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَتَقْتَضِي تَجَدُّدَ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي

جَمِيعِ أَزْمِنَةِ حُصُولِ مَضْمُونِ شَرْطِ (إِذَا) الظَّرْفِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّسَامُحِ فِي شَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الْكَيْلِ عِنْدَ كُلِّ مُبَاشَرَةٍ لَهُ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ مَضْمُونَهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ فِي سُوءِ شَرَائِعِهِمْ وَكَانَتْ هُنَا أَجْدَرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْرِيعِ.

وَفِعْلُ (كَالَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ مُبَاشِرُ الْكَيْلِ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَقْبِضُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ: مُكْتَالٌ. وَهُوَ مِنْ أَخَوَاتِ بَاعَ وَابْتَاعَ، وَشَرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ وَارْتَهَنَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: ٢- ٣] .

وَ«الْقُسْطَاسِ» - بِضَمِّ الْقَافِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ- بِالْكَسْرِ- حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكسَائِيّ، وَخلف. وَهَا لُغَتَانِ فِيهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِيزَانِ أَيْ آلَةِ الْوَزْنِ، وَاسْمٌ لِلْعَدْلِ، قِيلَ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ قَسَطَ، أَيْ عَدَلَ، وَطَاسَ وَهُوَ كِفَّةُ الْمِيزَانِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ» . وَلَعَلَّ كَلِمَةَ قَسَطَ اخْتِصَارٌ لِقِسْطَاسٍ لِأَنَّ غَالِبَ الْكَلِمَاتِ الرُّومِيَّةِ تَنْتَهِي بِحَرْفِ السِّينِ. وَأَصْلُهُ فِي الرُّومِيَّةِ مَضْمُومُ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا غَيَّرَهُ الْعَرَبُ بِالْكَسْرِ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّوْنَ فِي ضَبْطِ الْكَلِمَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ» .

وَمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ صَالِحَانِ هُنَا، لَكِنَّ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ جَاءَ فِيهَا بِالْقِسْطِ فَهُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالْعَدْلِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ ظُلْمٌ. وَالْبَاءُ هُنَالِكَ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَجْدَرَ بِاللَّفْظِ الصَّالِحِ لِمَعْنَى آلَةِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّشْرِيعِ بَيَانُ تَحْدِيدِ الْعَمَلِ مَعَ كَونه يومىء إِلَى مَعْنَى الْعَدْلِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْبَاءُ هُنَا ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ وَالْآلَةِ، وَمُفِيدَةٌ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْضًا.

وَالْمُسْتَقِيمُ: السَّوِيُّ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْقَوَامِ- بِفَتْحِ الْقَافِ- وَهُوَ اعْتِدَالُ الذَّاتِ. يُقَالُ:

قَوَّمْتُهُ فَاسْتَقَامَ. وَوَصْفُ الْمِيزَانِ بِهِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْعَدْلُ فَهُوَ وَصْفٌ لَهُ كَاشِفٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ كُلَّهُ اسْتِقَامَةٌ.

وَجُمْلَةُ ذلِكَ خَيْرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلَيْ كِلْتُمْ وزِنُوا.

وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، أَيْ خَيْرٌ لَكُمْ. فُضِّلَ عَلَى التَّطْفِيفِ تَفْضِيلًا لِخَيْرِ الْآخِرَةِ الْحَاصِلِ مِنْ ثَوَابِ الِامْتِثَالِ عَلَى خَيْرِ الدُّنْيَا الْحَاصِلِ مِنَ الِاسْتِفْضَالِ الَّذِي يُطَفِّفُهُ الْمُطَفِّفُ، وَهُوَ أَيْضًا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ انْشِرَاحَ النَّفْسِ الْحَاصِلَ لِلْمَرْءِ مِنَ الْإِنْصَافِ فِي الْحَقِّ أفضل من الارتباح الْحَاصِلِ لَهُ بِاسْتِفْضَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ.

وَالتَّأْوِيلُ: تَفْعِيلٌ مِنَ الْأَوَلِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ. يُقَالُ: أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ، أَيْ أَحْسَنَ إِرْجَاعًا، إِذَا أَرْجَعَهُ الْمُتَأَمِّلُ إِلَى مَرَاجِعِهِ وَعَوَاقِبِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَكُونُ كَالْمُنْتَقِلِ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِي مَوَاقِعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَاهِيَّةُ صَلَاحًا اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْمُتَأَمِّلِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ، فَكَأَنَّهُ أَرْجَعَهَا بَعْدَ التَّطْوَافِ إِلَى مَكَانِهَا الصَّالِحِ بِهَا وَهُوَ مَقَرُّهَا، فَأَطْلَقَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّأْي بعد التَّأَمُّل اسْمَ التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ.

وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ أَحْسَنَ تَأْوِيلًا: أَنَّ النَّظَرَ إِذَا جَالَ فِي مَنَافِعِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَفِي مَضَارِّ الْإِيفَاءِ فِيهِمَا ثُمَّ عَادَ فَجَالَ فِي مَضَارِّ التَّطْفِيفِ وَمَنَافِعِ الْإِيفَاءِ اسْتَقَرَّ وَآلَ إِلَى أَنَّ الْإِيفَاءَ بِهِمَا خَيْرٌ مِنَ التَّطْفِيفِ، لِأَنَّ التَّطْفِيفَ يَعُودُ عَلَى الْمُطَفِّفِ بِاقْتِنَاءِ جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْمَالِ وَيُكْسِبُهُ الْكَرَاهِيَةَ وَالذَّمَّ عِنْدَ النَّاسِ وَغَضَبَ اللَّهِ وَالسُّحْتَ فِي مَالِهِ مَعَ احْتِقَارِ نَفْسِهِ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِيفَاءُ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُكْسِبُهُ مَيْلَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَرِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَرَكَةَ فِي مَالِهِ

فَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّأْوِيلِ بِمَعَانِيهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِير.

[٣٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٦]

وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (٣٦)

الْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ يَقْفُوهُ إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَاسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. وَالْمُرَادُ بِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ.

وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَكَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا، أَوْ سُوءَ ظَنٍّ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، تَخَرُّصًا وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ وَفِي اللَّوْنِ إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئ عَن الوحم.

وَقَدْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النبيء ﷺ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ:

نَعَمْ. قَالَ: مَا أَلْوَانُهُنَّ؟ قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:

فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النبيء ﷺ فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ»

، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. فَهَذَا كَانَ شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُسَاوِي بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ، وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ

لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً أَوْ نِصْفًا فَوَلَدَتْ لَهُ أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا

قَالَ النبيء ﷺ يَوْمًا «سَلُونِي» أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ: أَبُوكَ فُلَانٌ

. وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أثبت النبيء ﷺ أَنَّ أُسَامَةَ بن زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ.

وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقْفُ: لَا تَقُلْ: رَأَيْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ.

وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ وَشَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ مُحَمَّدُ بن الْحَنَفِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ.

وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ عَقْلٍ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.

وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ

اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ مِنَ الْوُقُوعِ وَالْإِيقَاعِ فِي الْأَضْرَارِ وَالْمَهَالِكِ مِنْ جَرَّاءِ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ.

وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيم (كل) الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنهُ مسؤولا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ (كَانَ) لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَ(عَنْهُ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ لِاسْمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: ٧] . وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَالتَّقْدِير:

كَانَ مسؤولا عَنْهُ، كَمَا تَقول: كَانَ مسؤولا زَيْدٌ. وَلَا ضَيْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ نَائِبِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ نَائِبِ الْفَاعِلِ مَمْنُوعًا لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ نَائِبِ الْفَاعِلِ الصَّرِيحِ يُصَيِّرُهُ مُبْتَدَأً وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُبْتَدَأً فَانْدَفَعَ مَانِعُ التَّقْدِيمِ.

وَالْمَعْنَى: كُلُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والفؤاد كَانَ مسؤولا عَنْ نَفْسِهِ، وَمَحْقُوقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَ صَاحِبِهِ مِنْ حِسِّهِ.

وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّقْصِيرِ وَتَجَاوُزِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ كَعْبٍ:

وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوب ومسؤول


أَيْ مُؤَاخَذٌ بِمَا اقْتَرَفْتَ مِنْ هجو النبيء ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى عَنْ مُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ بِكَذِبِهِ عَلَى حَوَاسِّهِ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَجَازٍ عَقْلِيٍّ لِمُنَافَاةِ اعْتِبَارِهِ هُنَا تَأْكِيدَ الْإِسْنَادِ بِ (إِنَّ) وب (كُلُّ) وَمُلَاحَظَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَ(كَانَ) .

وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النّور: ٢٤] أَيْ يُسْأَلُ السَّمْعُ: هَلْ سَمِعْتَ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ، فَيُؤَاخَذُ صَاحِبُهُ بِأَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ إِيَّاهُ وَهَكَذَا.

وَالِاسْمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يَعُودُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعَامِلِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ تَنْزِيلًا لِتِلْكَ الْحَوَاسِّ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ إِذْ هِيَ طَرِيقُ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ نَفْسُهُ. عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ (أُولَئِكَ) لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ قِيلَ هُوَ اسْتِعْمَالٌ

حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى

الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] وَقَالَ:

ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ

وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد مَسْؤُلًا إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بلاغة الْقُرْآن.

[٣٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٧]

وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (٣٧)

نُهِيَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ خَصْلَةُ الْكِبْرِيَاءِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَمَّدُونَهَا. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ خطابا للنبيء ﷺ إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ.

وَالْمَرَحُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ-: شِدَّةُ ازْدِهَاءِ الْمَرْءِ وَفَرَحِهِ بِحَالِهِ فِي عَظَمَةِ الرِّزْقِ.

ومَرَحًا مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَمْشِ. وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ حَالًا كمجيئه صفة يرد مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ. وَتَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَمْشِ مَارِحًا، أَيْ مِشْيَةَ الْمَارِحِ، وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمَاشِي بِتَمَايُلٍ وَتَبَخْتُرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرَحًا مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِفِعْلِ تَمْشِ لِأَنَّ لِلْمَشْيِ أَنْوَاعًا، مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ ذُو مَرَحٍ.

فَإِسْنَادُ الْمَرَحِ إِلَى الْمَشْيِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَشْيُ مَرَحًا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَشْيِ شِدَّةُ وَطْءٍ عَلَى الْأَرْضِ وَتَطَاوُلٌ فِي بَدَنِ الْمَاشِي.

وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ النَّهْيِ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ ثَانٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْمَاشِي مَرَحًا

لَا تَخْرِقُ بِمَشْيِكَ أَدِيمَ الْأَرْضِ، وَلَا تَبْلُغُ بِتَطَاوُلِكَ فِي مَشْيِكَ طُولَ الْجِبَالِ، فَمَاذَا يُغْرِيكَ بِهَذِهِ الْمِشْيَةِ.

وَالْخَرْقُ: قَطْعُ الشَّيْءِ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْأَدِيمِ، فَخَرْقُ الْأَرْضِ تَمْزِيقُ قشر التُّرَاب.

وَالْكَلَام مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّغْلِيظِ بِتَنْزِيلِ الْمَاشِي الْوَاطِئِ الْأَرْضَ بِشِدَّةِ مَنْزِلَةِ مَنْ يَبْتَغِي خَرْقَ وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَنْزِيلِهِ فِي تَطَاوُلِهِ فِي مَشْيِهِ إِلَى أَعْلَى مَنْزِلَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ طُولَ الْجِبَالِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّهَكُّمِ التَّشْنِيعُ بِهَذَا الْفِعْلِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ فَسَادٌ فِي خُلُقِ صَاحِبِهِ وَسُوءٌ فِي نِيَّتِهِ وإهانة للنَّاس بِإِظْهَار الشفوف عَلَيْهِمْ وَإِرْهَابِهِمْ بِقُوَّتِهِ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» يَعْنِي لِأَنَّهَا يُرْهِبُ بِهَا الْعَدُوَّ إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْجِهَادِ.

وَإِظْهَارُ اسْمِ (الْأَرْضِ) فِي قَوْلِهِ: لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ دُونَ إِضْمَارٍ لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا عَنْ غَيْرِهِ جَارِيًا مجْرى الْمثل.

[٣٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٨]

كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨)

تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ وَالنَّوَاهِي. فَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا أَمْرٌّ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا نَهْيٌ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ شَيْئًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَقَوْلُهُ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ يَقْتَضِي عِبَادَةً مَذْمُومَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا [الْإِسْرَاء:

٢٣] يَقْتَضِي إِسَاءَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيِّئَةً- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ ضِدُّ الْحَسَنَةِ.

فَالَّذِي وُصِفَ بِالسَّيِّئَةِ وَبِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ إِذْ لَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَكْرُوهًا لِلْآمِرِ بِهِ، وَبِهَذَا يظْهر للسامع معَان اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ.

وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ مَا فِي الْمَذْكُورَاتِ مِنْ مَعَانِي النَّهْيِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ هُوَ الْإِقْلَاعُ عَمَّا يَقْتَضِيهِ جَمِيعُهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ بِالصَّرَاحَةِ أَوْ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ فِي الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا.

وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِ مَكْرُوهًا أَيْ هُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَتَقْدِيمُ هَذَا الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالظَّرْفِ إِذْ هُوَ مُضَافٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، فَزِيَادَةُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا لِتَشْنِيعِ الْحَالَةِ، أَيْ مَكْرُوهًا فِعْلُهُ مِنْ فَاعِلِهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ فَاعِلَهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللَّهِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كانَ سَيِّئُهُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَهَاءِ ضَمِيرٍ فِي آخِرِهِ-. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلُّ ذلِكَ، وكُلُّ ذلِكَ هُوَ نفس السيء فإضافة (سيىء) إِلَى ضَمِيرِهِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ تُفِيدُ قُوَّة صفة السيء حَتَّى كَأَنَّهُ شَيْئَانِ يُضَافُ

أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. وَهَذِهِ نُكْتَةُ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ كُلَّمَا وَقَعَتْ، أَيْ كَانَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَكْرُوهًا عِنْدَ اللَّهِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا خَبَرًا ثَانِيًا لِ (كَانَ) لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْقِرَاءَتَيْنِ.

[٣٩]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٣٩]

ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (٣٩)

ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ عَدَلَ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْأُمَّةِ بِضَمَائِرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ وَضَمَائِرِ الْمُخَاطَبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إِلَى خطاب النبيء ﷺ رَدًّا إِلَى مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ إِلَخ [الْإِسْرَاء: ٢٣] . وَهُوَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمَلِ النَّهْيِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي صَرَاحَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ السَبْعَ عَشْرَةَ هُوَ مِنَ الْحِكْمَةِ، تَحْرِيضًا عَلَى اتِّبَاعِ مَا فِيهَا وَأَنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَفِيهِ امْتِنَانٌ على النبيء ﷺ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ، فَذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ: مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْأُمِّيُّونَ لَوْلَا الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ.

وَالْحِكْمَةُ: مَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَلَطٍ وَلَا اشْتِبَاهٍ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩] .

وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا عَطْفٌ عَلَى جُمَلِ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣]، أُعِيدَ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ التَّوْحِيدِ بِتَكْرِيرِ مَضْمُونِهِ وَبِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِأَنْ يُجَازَى بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ مُهَانًا.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَنْهِيَّاتِ قَبْلَهُ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٤٠] .

وَالْإِلْقَاءُ: رَمْيُ الْجِسْمِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِالْإِهَانَةِ.

وَالْمَلُومُ: الَّذِي يُنْكَرُ عَلَيْهِ مَا فَعَلَهُ.

وَالْمَدْحُورُ: الْمَطْرُودُ، أَيِ الْمَطْرُودُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَمُبْعَدٌ مَنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ.

وَ«تُلْقَى» مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ فَيَتَسَبَّبُ عَلَى جَعْلِكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِلْقَاؤُكُ فِي جَهَنَّم.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٠]

أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠)

تَفْرِيعٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَضَّلَكُمُ اللَّهُ فَأَعْطَاكُمُ الْبَنِينَ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ ادِّعَاءُ آلِهَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الله بِالنُّبُوَّةِ، إِذْ عَبَدَ فَرِيقٌ مِنَ الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَاعْتَلُّوا لِعِبَادَتِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ١٩- ٢٠] .

فَلَمَّا نُهُوا عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ خَصَّصَ بِالتَّحْذِيرِ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ لِيَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِأَنْ يَعْبُدُوا أَبْنَاءَهُ.

وَقَدْ جَاءَ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ بِإِبْطَالِ أَصْلِهَا فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ جَعْلَهُمُ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً يُسَاوِي جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً.

فَجُمْلَةُ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ إِلَى آخِرِهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ [الْإِسْرَاء: ٣٩] تَفْرِيعًا عَلَى النَّهْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُشْتَمِلٌ عُمُومُهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ الْجَدِيرِ بِتَخْصِيصِهِ بِالْإِنْكَارِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَدَلِ الْبَعْضِ. فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ فِي أَوَّلِ جُمْلَتِهَا وَلَكِنْ أَخَّرَهَا أَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْحَسَنُ فِي مَوْقِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام.

وَبَعض الْأَئِمَّة يَجْعَلُ الِاسْتِفْهَامَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْعَاطِفِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَهَكُّمٌ.

وَالْإِصْفَاءُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَفْوًا، أَيْ خَالِصًا، وَتَعْدِيَةُ أَصْفَى إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَأَصْلُهُ: أَفَأَصْفَى لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: بِالْبَنِينَ الْبَاءُ فِيهِ إِمَّا

مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ فِعْلِ (أَصْفَى) بِمَفْعُولِهِ. وَأَصْلُهُ: أَفَأَصْفَى لَكُمْ رَبُّكُمُ الْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] أَوْ ضَمَّنَ أَصْفَى مَعْنَى آثَرَ فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ دَالَّةً عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِمَجْرُورِهَا، فَصَارَ (أَصْفَى) مَعَ مُتَعَلِّقِهِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلَيْنِ، أَيْ قَصَرَ الْبَنِينَ عَلَيْكُمْ دُونَهُ، أَي جعل لم الْبَنِينَ خَالِصَةً لَا يُسَاوِيكُمْ هُوَ بِأَمْثَالِهِمْ، وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْإِنَاثَ الَّتِي تَكْرَهُونَهَا. وَفَسَادُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ فَسَادُهُ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ فَقَدْ تَبَيَّنَ انْتِفَاءُ وُقُوعِهِ إِذْ هُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٥٧] . وَقَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثًا فِي [النِّسَاءِ: ١١٧] .

وَجُمْلَةُ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَبَيَانٌ لَهُ، أَيْ تَقُولُونَ:

اتَّخَذَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ. وَأَكَّدَ فِعْلَ «تَقُولُونَ» بِمَصْدَرِهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْإِنْكَارِ. وَجَعَلَهُ مُجَرَّدَ قَوْلٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ كَلَامًا صَدَرَ عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَمَّلَهُ قَائِلُهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ لَوَجَدَهُ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَ قَضَايَا الْمَقْبُولِ عَقْلًا.

وَالْعَظِيمُ: الْقَوِيُّ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْإِنْكَارِ.

وَلَا أَبْلَغُ فِي تَقْبِيحِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ، لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَدْخُولٌ مِنْ جَوَانِبِهِ لِاقْتِضَائِهِ إِيثَارَ اللَّهِ بِأَدْوَنِ صِنْفَيِ الْبُنُوَّةِ مَعَ تَخْوِيلِهِمُ الصِّنْفَ الْأَشْرَفَ. ثُمَّ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ نِسْبَتِهِ خَصَائِصَ الْأَجْسَامِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ تَرْكِيبٍ وَتَوَلُّدٍ وَاحْتِيَاجٍ إِلَى الْأَبْنَاءِ لِلْإِعَانَةِ وَلِيُخَلِّفُوا الْأَصْلَ بَعْدَ زَوَالِهِ، فَأَيُّ فَسَادٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا.

وَفِي قَوْلِهِ: اتَّخَذَ إِيمَاءٌ إِلَى فَسَادٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الْبَقَرَة: ١١٦] . وَالِاتِّخَاذُ يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَتَّخِذَهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوَلُّدَ فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ

ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَكَيْفَ يَخْلُقُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَكُونُ ابْنًا لَهُ فَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ ضِغْثٌ على إبّالة.

[٤١]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤١]

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (٤١)

لَمَّا ذَكَرَ فَظَاعَةَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ هَدْيًا كَافِيًا، وَلَكِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ تَدَبُّرِهِ.

فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ مُعْتَرِضَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بِوَاوِ الِاعْتِرَاضِ.

وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ.

وَالتَّصْرِيفُ: أَصْلُهُ تَعَدُّدُ الصَّرْفِ، وَهُوَ النَّقْلُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَمِنْهُ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْيِينِ بِمُخْتَلِفِ الْبَيَانِ وَمُتَنَوِّعِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦] .

وَحُذِفَ مَفْعُولُ صَرَّفْنا لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ، بَيَّنَّا الْبَيَانَ، أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِبَيَانِهِ. وَيَذَّكَّرُوا: أَصْلُهُ يَتَذَكَّرُوا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ مِنَ الذُّكْرِ الْمَضْمُومِ الذَّالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ.

وَضَمِيرُ لِيَذَّكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الْإِسْرَاء: ٤٠] أَيْ لِيَذَّكَّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ [الْإِسْرَاء: ٤٠]، فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَوْلُهُ: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لِيَذَّكَّرُوا بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ ذَكَرَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الذُّكْرُ- بِضَمِّ الذَّالِ-.

وَجُمْلَةُ وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ ضَلَالَتِهِمْ. إِذْ كَانُوا يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ كَلَامٍ فَصْلٍ وَبَيِّنٍ لِتَذْكِيرِهِمْ. وَشَأْنُ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفِيدَ الطُّمَأْنِينَةَ لِلْمَقْصُودِ. وَالنُّفُورُ: هُرُوبُ الْوَحْشِيِّ وَالدَّابَّةِ بِجَزَعٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ الْأَذَى.

وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِعْرَاضِهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الدَّوَابّ والأنعام.

[٤٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٢]

قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢)

عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ زِيَادَةً فِي اسْتِئْصَالِ عَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عُرُوقِهَا، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الْإِسْرَاء: ٣٩] . وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُوَ النبيء ﷺ لِدَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْمُقْنِعَةِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِهَا افْتُتِحَتْ بِ قُلْ تَخْصِيصًا لِهَذَا بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِهِ.

وَجُمْلَةُ كَمَا تَقُولُونَ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَا تَحَقُّقَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ

مُجَرَّدُ قَوْلٍ عَارٍ عَنِ الْمُطَابَقَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَابْتِغَاءُ السَّبِيلِ: طَلَبُ طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ تَوَخِّيهِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِصَابَتِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَوَخِّي وَسِيلَةِ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ- عليهما السلام أَنَّ مُوسَى سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقْيَا الْخَضِرِ.

وَ(إِذَنْ) دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْجَوَابِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُقْتَرِنَةُ بِجَوَابِ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ حُصُولِ

جَوَابِهَا لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، وَزَائِدَةٌ بِأَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ جَزَاءٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمُجَابِ. فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً.

وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ:

وَالْمعْنَى الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ سَبِيلَ السَّعْيِ إِلَى الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، أَيْ لَطَلَبُوا مُغَالَبَةَ ذِي الْعَرْشِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] . وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ السُّلْطَانِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا تَوْسِعَةَ سُلْطَانِهِمْ وَيَسْعَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْغَزْوِ وَيَتَأَلَّبُوا عَلَى السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ لِيَسْلُبُوهُ مُلْكَهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدِيمًا مَا ثَارَتِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ عَلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَسَلَبُوهُ مُلْكَهُ فَلَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ لَسَلَكُوا عَادَةَ أَمْثَالِهِمْ.

وَتَمَامُ الدَّلِيلِ مَحْذُوفٌ لِلْإِيجَازِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ ابْتِغَاءُ السَّبِيلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ التَّدَافُعِ وَالتَّغَالُبِ اللَّازِمَيْنِ عُرْفًا لِحَالَةِ طَلَبِ سَبِيلِ النُّزُولِ بِالْقَرْيَةِ أَوِ الْحَيِّ لِقَصْدِ الْغَزْوِ.

وَذَلِكَ الْمُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ الْعَالَمِ لِاشْتِغَالِ مُدَبِّرِيهِ بِالْمُقَاتَلَةِ وَالْمُدَافَعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُوجَدُ فِي مِيثُلُوجِيَا الْيُونَانِ مِنْ تَغَالُبِ الْأَرْبَابِ وَكَيْدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] . وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُسَمَّى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، فَالسَّبِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ عَنِ التَّمَكُّنِ وَالظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ. وَالِابْتِغَاءُ عَلَى هَذَا ابْتِغَاءٌ عَنْ عَدَاوَةٍ وَكَرَاهَةٍ.

وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقُولُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِمْ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَوْصُولِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبِيلِ سَبِيلَ الْوُصُولِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ، وَهُوَ اللَّهُ

تَعَالَى، وُصُولَ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعْطَافِ وَالتَّقَرُّبِ، أَيْ لَطَلَبُوا مَا يُوَصِّلُهُمْ إِلَى مَرْضَاتِهِ كَقَوْلِهِ:

يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الْإِسْرَاء: ٥٧] .

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّكُمْ جَعَلْتُمُوهُمْ آلِهَةً وَقُلْتُمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيَكُونُوا شُفَعَاءَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَوْ كَانُوا آلِهَةً كَمَا وَصَفْتُمْ إِلَهِيَّتَهُمْ لَكَانُوا لَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْخُضُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ كَافٍ لَكُمْ بِفَسَادِ قَوْلِكُمْ، إِذِ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ فَكَانَ مَآلُ قَوْلِكُمْ إِنَّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، وَهَذَا كَافٍ فِي تَفَطُّنِكُمْ لِفَسَادِ الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّتِهِمْ.

وَالِابْتِغَاءُ عَلَى هَذَا ابْتِغَاءُ مَحَبَّةٍ وَرَغْبَةٍ، كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمّل: ١٩] . وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦]، فَالسَّبِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ عَنِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالسَّعْيِ إِلَى مَرْضَاتِهِ.

وَقَوْلُهُ: كَمَا تَقُولُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنى تَقْيِيد لِلْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ أَيْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ حَالَ كَوْنِهِمْ كَمَا تَقُولُونَ، أَيْ كَمَا تَصِفُونَ إِلَهِيَّتَهُمْ مِنْ قَوْلِكُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] .

وَاسْتِحْضَارُ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ ذِي الْعَرْشِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ الْإِضَافَةُ إِلَى الْعَرْشِ مِنَ الشَّأْنِ الْجَلِيلِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ حَسَدِ الْآلِهَةِ إِيَّاهُ وَطَمَعِهِمْ فِي انْتِزَاعِ مُلْكِهِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَوِ الَّذِي هُوَ مَطْمَعُ الْآلِهَةِ الِابْتِغَاءُ مِنْ سِعَةِ مَا عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقُولُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الْغَالِبِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِتَبْلِيغِهِ أَنْ يُحْكَى كَمَا يَقُولُ الْمُبَلِّغُ حِينَ إِبْلَاغِهِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِإِبْلَاغِهِ لِلْغَيْرِ أَنْ يُحْكَى بِالْمَعْنَى. لِأَنَّ فِي حَالِ خِطَابِ الْآمِرِ الْمَأْمُورَ بِالتَّبْلِيغِ يَكُونُ الْمُبَلَّغُ لَهُ غَائِبًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخَاطَبًا عِنْدَ التَّبْلِيغِ فَإِذَا لُوحِظَ حَالُهُ هَذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْغَيْبَة كَمَا قرىء قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢]- بِالتَّاءِ وَبِالْيَاءِ- أَو على أَن قَوْلِهِ: كَما يَقُولُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ شَرْطِ (لَو) وَجَوَابه.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٣]

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤٣)

إِنْشَاءُ تَنْزِيهٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.

وَهَذَا مِنَ الْمَقُولِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَقُولِ، وَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ لِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً، بِمَا نَهَضَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ من قَوْله: إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠] .

وَالْمُرَادُ بِمَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ.

وعُلُوًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ تَعالى. جِيءَ بِهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ فِعْلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّعَالِيَ هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعُلُوِّ بِحَقٍّ لَا بِمُجَرَّدِ الِادِّعَاءِ كَقَوْلِ سُعْدَةَ أُمِّ الْكُمَيْتِ بْنِ مُعَرٍّ:

تَعَالَيْتَ فَوْقَ الْحَقِّ عَنْ آلِ فَقْعَسٍ ... وَلَمْ تَخْشَ فِيهِمْ رِدَّةَ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ

وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤]، أَيْ يَدَّعِي الْفَضْلَ وَلَا فَضْلَ لَهُ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكَبِيرِ الْكَامِلُ فِي نَوْعِهِ. وَأَصْلُ الْكَبِيرِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ: الْمَوْصُوفُ بِالْكِبَرِ.

وَالْكِبَرُ: ضَخَامَةُ جِسْمِ الشَّيْءِ فِي مُتَنَاوَلِ النَّاسِ، أَيْ تَعَالَى أَكْمَلُ عُلُوٍّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ ذَاتِهِ وَبَيْنَ نِسْبَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ يُنَافِي آثَارَ الِاحْتِيَاجِ وَالْعَجْزِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمَّا يَقُولُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ [الْإِسْرَاء: ٤٢] عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ

[٤٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٤]

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)

جُمْلَةُ يُسَبِّحُ لَهُ إِلَخْ. حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي سُبْحانَهُ أَيْ نُسَبِّحُهُ فِي حَالِ أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ إِلَخْ، أَيْ يُسَبِّحُ لَهُ الْعَوَالِمُ وَمَا فِيهَا وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُ لَامُ تَعْدِيَةِ يُسَبِّحُ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى يَشْهَدُ بِتَنْزِيهِهِ، أَوْ هِيَ اللَّامُ الْمُسَمَّاةُ لَامَ التَّبْيِينِ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَفِي قَوْلِهِمْ: حَمِدْتُ اللَّهَ لَكَ.

وَلَمَّا أُسْنِدَ التَّسْبِيحُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهَا فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مَا يَحِفُّ بِهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا نَسَبُوهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِلَهِيَّةِ.

وَالْخِطَابُ فِي لَا تَفْقَهُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْخِطَابِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الْإِسْرَاء: ٤٠] وَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٢] لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ التَّنْزِيهَ عَنِ النَّقَائِصِ الَّتِي شَهِدَتِ الْمَوْجُودَاتُ- حَيْثُمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا النَّظَرُ- بِتَنْزِيهِهِ عَنْهَا فَلَمْ يُحْرَمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى شَهَادَتِهَا إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ اعْتِقَادِ أَضْدَادِهَا. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ اهْتَدَوْا إِلَى ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَقَادِيرُ الِاهْتِدَاءِ عَلَى تَفَاوُتِ الْقَرَائِحِ وَالْفُهُومِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ تَمَامِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ.

وَقَدْ مَثَّلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً فَتِلْكَ التُّفَّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ (أَيْ جَوَاهِرُ فَرْدَةٌ)، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ صِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ هُوَ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

وَلَعَلَّ إِيثَارَ فِعْلِ لَا تَفْقَهُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْلَمُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عِلْمٌ دَقِيقٌ فَيُؤَيِّدُ مَا نَحَّاهُ فَخْرُ الدِّينِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ- بِيَاءِ الْغَائِب- وقرأه أَبُو عَمْرٌو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بتاء جمَاعَة الْمُؤَنَّث- وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي جُمُوعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَغَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ مَقَالَتَهُمْ تَقْتَضِي تَعْجِيلَ

الْعِقَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.

وَزِيَادَةُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِلْمَ وَالْغُفْرَانَ صِفَتَانِ لَهُ محققتان.

[٤٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٥]

وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا (٤٥)

عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَّهَ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩]، ثُمَّ أَعْقَبَ بِمَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ مِنَ

الْإِشَارَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَجَوَامِعِ الْأَعْمَالِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ عَادَ هُنَا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِمُنَاسَبَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ عَدَمِ فِقْهِهِمْ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَن النقائص، وَتَنْبِيهًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى وُجُوبِ إقلاعهم عَن بعثتهم وَعِنَادِهِمْ، وتأمينا للنبيء ﷺ مِنْ مَكْرِهِمْ بِهِ وَإِضْمَارِهِمْ إِضْرَارَهُ، وَقَدْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْقُرْآنَ تَغِيظُهُمْ وَتُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الِانْتِقَامَ.

وَحَقِيقَة الْحجاب: السَّاتِر الَّذِي يَحْجُبُ الْبَصَرَ عَنْ رُؤْيَةِ مَا وَرَاءَهُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلصِّرْفَةِ الَّتِي يَصْرِفُ اللَّهُ بِهَا أَعدَاء النبيء- عليه الصلاة والسلام عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِ للإعراض الَّذِي يُعْرِضُونَ بِهِ عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ. وَجَعَلَ اللَّهُ الْحِجَابَ الْمَذْكُورَ إِيجَادَ ذَلِكَ الصَّارِفِ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَهُمُّونَ وَلَا يَفْعَلُونَ، وَذَلِكَ مِنْ خَوَرِ الْإِرَادَةِ وَالْعَزِيمَةِ بِحَيْثُ يَخْطُرُ الْخَاطِرُ فِي نُفُوسِهِمْ ثُمَّ لَا يُصَمِّمُونَ، وَتَخْطُرُ مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي أَسْمَاعِهِمْ ثُمَّ لَا يَتَفَهَّمُونَ. وَذَلِكَ خُلُقٌ يَسْرِي إِلَى النُّفُوس تديجيا تَغْرِسُهُ فِي النُّفُوس بادىء الْأَمْرِ شَهْوَةُ الْإِعْرَاضِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَن يصير ملكة فِي النَّفْسِ لَا تَقْدِرُ عَلَى خلعه وَلَا تَغْيِيره.

وَإِطْلَاقُ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمَعْنَيَيْنِ إِمَّا للْحَمْل عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا لِلْحَمْلِ عَلَى مَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] .

وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اسْتَبْعَدُوا بِهِ دَعْوَة النبيء ﷺ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ يَقُولُ مُحَالًا إِذْ يُخْبِرُ بِإِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ:

٧- ٨] اسْتَحْضَرُوا فِي هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولَةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ جَعْلِ ذَلِكَ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.

وَوَصْفُ الْحِجَابِ بِالْمَسْتُورِ مُبَالَغَةٌ فِي حَقِيقَةِ جِنْسِهِ، أَيْ حِجَابًا بَالِغًا الْغَايَةَ فِي حَجْبِ مَا يَحْجُبُهُ هُوَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِسَاتِرٍ آخَرَ، فَذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلْنَا حِجَابًا فَوْقَ حِجَابٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الْفرْقَان: ٢٢] .

أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحُجُبِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ وَلَكِنَّهَا تَرَى آثَارَ أَمْثَالِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ نَفَرًا هَمُّوا الْإِضْرَار بالنبيء ﷺ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ حَدَثَ لَهُ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَمِّهِ وَكفى الله نبيئه شَرَّهُمْ، قَالَ تَعَالَى:

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧] وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي أَخْبَارِ السِّيرَةِ.

وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ حِجابًا ومَسْتُورًا مِنَ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ.

[٤٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٦]

وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا (٤٦)

وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا

عَطْفُ جَعَلَ عَلَى جَعَلَ.

وَالتَّصْرِيحُ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْجَعْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا جَعْلٌ آخَرُ فَيُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ جَعْلَ الصِّرْفَةِ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَيَكُونُ هَذَا جَعْلَ عَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ خِلْقَةً فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعَانِيهَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.

وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ قَبْلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعَاني الْقُرْآن تبع ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ فَهْمِ مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا يُبْطِلُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ فَهِمُوا ذَلِكَ فَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الْفَهْمُ ضَلَالًا كَمَا حَرَمَهُمْ عَدَمُ الْفَهْمِ هَدْيًا، فَحَالُهُمْ مُتَنَاقِضٌ. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْمَعُوهُ لِيَزْدَادُوا بِهِ كُفْرًا.

وَمَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» ظَاهِرُهُ أَنَّكَ ذَكَرْتَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ تَذْكُرْ آلِهَتَهُمْ لِأَنَّ

وَحْدَهُ حَالٌ مِنْ رَبَّكَ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ ذَكَرْتَ. وَمَعْنَى الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ كَانَ ذِكْرُكَ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ فِي وُجُودِ الذِّكْرِ، فَيَكُونُ تَوَلِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ الْغَضَبِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ إِلَّا لِعَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا كَانَ لِتَوَلِّيهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ سَبَبٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الْعُزَّى أَوِ اللَّاتَ مَثَلًا وَلَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهَا من الْأَصْنَام لَا يَظُنُّ أَنَّ الذَّاكِرَ لِلْعُزَّى مُنْكِرٌ مَنَاةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: ٤٥] .

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ بِتَوْحِيدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُفُورِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ انْفِرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ وَحْدَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَفِعْلِ ذَكَرْتَ.

وَلَعَلَّ الْحَالَ الْجَائِيَةَ مِنْ مَعْمُولِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ وَالذِّكْرِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَعْنَى «ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ» أَنَّهُ مُوَحَّدٌ فِي ذِكْرِكَ وَكَلَامِكَ، أَيْ ذَكَرْتَهُ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ.

وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْقُرْآنِ لِمُنَاسَبَتِهِ الْكَلَامَ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَخُلُوُّ آيَاتِهِ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ فَمِنْ ثَمَّ يَغْضَبُونَ كُلَّمَا وَرَدَ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَمْ تُذْكَرْ آلِهَتُهُمْ، فَكَوْنُهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْقَرِينَةَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْكَارَ آلِهَتِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَحْدَهُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ فِي [الْأَعْرَافِ: ٧٠] .

وَالتَّوْلِيَةُ: الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ أَتَى. وعَلى أَدْبارِهِمْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فِي سُورَة الْعُقُود [الْمَائِدَة: ٢١] .

ونُفُورًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَافِرٍ مِثْلَ سُجُودٍ وَشُهُودٍ. وَوَزْنُ فُعُولٍ يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ نُفُورًا عَلَى هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَلَّوْا، وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، أَيْ وَلَّوْا بِسَبَبِ نُفُورِهِمْ من الْقُرْآن.

[٤٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٧]

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧)

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يحيطون بالنبيء ﷺ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَسْتَمِعُونَ لِمَا يَقُولُهُ لِيَتَلَقَّفُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ، مِثْلَ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُعَجِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ جُعِلَتْ فِي قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَأَنَّهُمْ يُوَلُّونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ سَبَبِ تَجَمُّعِهِمْ لِاسْتِمَاعِ قِرَاءَة النبيء- عليه الصلاة والسلام، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.

وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لإِظْهَار الْعِنَايَة بمضمونها. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عِلْمًا حَقًّا دَاعِيَ اسْتِمَاعِهِمْ، فَإِنْ كَثُرَتِ الظُّنُونُ فِيهِ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ ذَلِكَ السَّبَبَ.

«وَأعلم» اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى قُوَّةِ الْعِلْمِ وَتَفْصِيلِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ عِلْمًا مِنْ غَيْرِهِ إِذْ لَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما يَسْتَمِعُونَ لِتَعْدِيَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَنِ التَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ الْمُشْتَقُّ مِنِ الْعِلْمِ وَمِنَ الْجَهْلِ يُعَدَّى بِالْبَاءِ وَفِي سِوَى ذَيْنِكَ يُعَدَّى بِاللَّامِ. يُقَالُ: هُوَ أَعْطَى لِلدَّرَاهِمِ.

وَالْبَاءُ فِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلَابِسُهُمْ حِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقر فِي مَوضِع الْحَال. وَالتَّقْدِير: متلبسين بِهِ.

وَبَيَانُ إِبْهَامِ (مَا) حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى.

وَ(إِذْ) ظَرْفٌ لِ يَسْتَمِعُونَ بِهِ.

وَالنَّجْوَى: اسْمُ مَصْدَرِ الْمُنَاجَاةِ، وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ سِرًّا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١١٤] .

وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ تَنَاجِيهِمْ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ تَشَاغُلًا عَنْهُ.

وإِذْ هُمْ نَجْوى عَطْفٌ عَلَى إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَيْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِي يَسْتَمِعُونَهُ، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِنَجْوَاهُمْ.

وإِذْ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ نَجْوى بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ نَجْوَاهُمْ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْقَوْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ غَرَابَةً مِنْ بَقِيَّةِ آفَاكِهِمْ لِلْبَوْنِ الْوَاضِحِ بَيْنَ حَال النبيء ﷺ وَبَيْنَ حَالِ الْمَسْحُورِ.

وَوَقَعَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ دُونَ: إِذْ يَقُولُونَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ بَاعِثَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ هُوَ الظُّلْمُ، أَيِ الشِّرْكُ فَإِنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ، أَيْ وَلَوْلَا شِرْكُهُمْ لَمَا مَثَّلَ عَاقِلٌ حَالَةَ النَّبِيءِ الْكَامِلَةَ بِحَالَةِ الْمَسْحُورِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الظُّلْمُ أَيْضًا الِاعْتِدَاءَ، أَيِ الِاعْتِدَاءَ على النبيء ﷺ كذبا.

[٤٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٨]

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨)

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ النَّظَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنَ الْوُضُوحِ أَنْ يَكُونَ مَنْظُورًا.

وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (كَيْفَ) لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ تمثيلهم للنبيء- عليه الصلاة والسلام بِالْمَسْحُورِ وَنَحْوِهِ.

وَأَصْلُ (ضَرَبَ) وَضْعُ الشَّيْءِ وَتَثْبِيتُهُ يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى صَوْغِ الشَّيْءِ عَلَى حَجْمٍ مَخْصُوصٍ، يُقَالُ: ضَرَبَ دَنَانِيرَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِبْرَازِ وَالْبَيَانِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الْمُبْرَزِ الْمُبَيَّنِ بِالشَّيْءِ الْمُثْبَتِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦] .

وَاللَّامُ فِي لَكَ لِلتَّعْلِيلِ وَالْأَجَلِ، أَيْ ضَرَبُوا الْأَمْثَالَ لِأَجْلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ تَمْثِيلِكَ، أَيْ مَثَّلُوكَ. يُقَالُ: ضَرَبْتُ لَكَ مَثَلًا بِكَذَا. وَأَصْلُهُ مَثَّلْتُكَ بِكَذَا، أَيْ أَجِدُ كَذَا مَثَلًا لَكَ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ

[النَّحْل: ٧٤] وَقَالَ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] أَيِ اجْعَلْهُمْ مَثَلًا لِحَالِهِمْ.

وَجَمَعَ الْأَمْثالَ هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِالْمَسْحُورِ، وَهُوَ مَثَلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْجِيبُ

مِنْ هَذَا الْمَثَلِ وَمَنْ غَيْرِهِ فِيمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، هُوَ كَاهِنٌ، هُوَ مَجْنُونٌ، هُوَ سَاحِرٌ، هُوَ مَسْحُورٌ. وَسُمِّيَتْ أَمْثَالًا بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا فِيمَا يَصِفُونَهُ بِهِ لِلنَّاسِ لِئَلَّا يعتقدوه نبيئا، فَجَعَلُوا يَتَطَلَّبُونَ أَشْبَهَ الْأَحْوَالِ بِحَالِهِ فِي خيالهم فيلحقونه بِهِ، كَمَنْ يُدْرَجُ فَرْدًا غَرِيبًا فِي أَشْبَهِ الْأَجْنَاسِ بِهِ، كَمَنْ يَقُولُ فِي

الزَّرَافَةِ: إِنَّهَا مِنَ الْأَفْرَاسِ أَو من الْإِبِلِ أَوْ مِنَ الْبَقَرِ.

وَفُرِّعَ ضَلَالُهُمْ عَلَى ضَرْبِ أَمْثَالِهِمْ لِأَنَّ مَا ضَرَبُوهُ مِنَ الْأَمْثَالِ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَقُوَّةٌ فِي الْكُفْرِ. فَالْمُرَادُ تَفْرِيعُ ضَلَالِهِمُ الْخَاصِّ بِبُطْلَانِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ، أَيْ فَظَهَرَ ضَلَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩] .

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ هُنَا أَصْلُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْحَيْرَةُ فِي الطَّرِيقِ وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ، أَيْ ضَرَبُوا لَكَ أَشْبَاهًا كَثِيرَةً لِأَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا فِيمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ شَأْنِكِ الْعَظِيمِ.

وَتَفْرِيعُ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا عَلَى فَضَلُّوا تَفْرِيعٌ لِتَوَغُّلِهِمْ فِي الْحَيْرَةِ عَلَى ضَلَالِهِمْ فِي ضَرْبِ تِلْكَ الْأَمْثَالِ.

وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وَاسْتِطَاعَتُهُ اسْتِطَاعَةُ الظَّفَرِ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبِيلِ سَبِيلُ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ الضَّلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالِ ضَلَالِهِمْ بِحَالِ الَّذِي وَقَفَ فِي فَيْفَاءَ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّةِ جِهَةٍ يَسْلُكُ إِلَى الْمَقْصُودِ، عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الضَّلَالِ.

وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُمْ تَحَيَّرُوا كَيْفَ يَصِفُونَ حَالَكَ لِلنَّاسِ لِتَوَقُّعِهِمْ أَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا يَنْتَقِلُونَ فِي وَصْفِهِ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ لِاسْتِشْعَارِهِمْ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ بِهِ بَاطِلٌ لَا يطابقه الْوَاقِع.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٤٩]

وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩)

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَقالُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٢] بِاعْتِبَارِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا تَقُولُونَ لِقَصْدِ اسْتِئْصَالِ ضَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ، بَعْدَ اسْتِئْصَالِ الَّتِي قَبْلَهَا بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ بِقَوْلِهِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الْإِسْرَاء: ٤٧] الَّتِي مَضْمُونُهَا مَظْرُوفٌ لِلنَّجْوَى، فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا تَنَاجَوْا بِهِ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَجْهَرُونَ بِإِعْلَانِهِ وَيَعُدُّونَهُ حُجَّتَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.

وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ من قَوْله: أَإِذا كُنَّا عِظامًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ هُوَ دَلِيلُ

الِاسْتِحَالَةِ فِي ظَنِّهِمْ، فَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى جُمْلَةِ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. وَقُوَّةُ إِنْكَارِ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ الْكَوْنِ عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَأَصْلُ تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الظَّرْفِ التَّقْيِيدَ، لِأَنَّ الْكَوْنَ عِظَامًا وَرُفَاتًا ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ يَمُوتُ فَيُبْعَثُ.

وَالْبَعْثُ: الْإِرْسَالُ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، لِأَنَّ الْمَيِّتَ يُشْبِهُ الْمَاكِثَ فِي عَدَمِ مُبَارَحَةِ مَكَانِهِ.

وَالْعِظَامُ: جَمْعُ عَظْمٍ، وَهُوَ مَا مِنْهُ تَرْكِيبُ الْجَسَدِ لِلْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ. وَمَعْنَى كُنَّا عِظامًا أَنَّهُمْ عِظَامٌ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا.

وَالرُّفَاتُ: الْأَشْيَاءُ الْمَرْفُوتَةُ، أَيِ الْمُفَتَّتَةُ. يُقَالُ: رَفَتَ الشَّيْءَ إِذَا كَسَرَهُ كِسَرًا دَقِيقَةً.

وَوَزْنُ فُعَالٍ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ أَفْعَالِ التَّجْزِئَةِ مِثْلَ الدُّقَاقِ وَالْحُطَامِ وَالْجُذَاذِ وَالْفُتَاتِ.

وخَلْقًا جَدِيدًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «مَبْعُوثُونَ» . وَذُكِرَ الْحَالُ لِتَصْوِيرِ اسْتِحَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْفَنَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ هُوَ الْإِحْيَاءُ، فَإِحْيَاءُ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ، وَكَوْنُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ.

وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتْبَعْ مَوْصُوفَهُ فِي الْجمع.

[٥٠- ٥٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٢]

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا (٥٢)

جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الْإِسْرَاء:

٤٩] . أَمَرَ الله رَسُوله ﷺ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِذَلِكَ.

وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ فعل كُنَّا [الْإِسْرَاء: ٤٩] فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: كُونُوا، وَمُقَابَلَةُ عِظامًا وَرُفاتًا فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا إِلَخْ، مُقَابَلَةَ أَجْسَامٍ وَاهِيَةٍ بِأَجْسَامٍ صُلْبَةٍ. وَمَعْنَى الْجَوَابِ أَنَّ وَهَنَ الْجِسْمِ مُسَاوٍ لِصَلَابَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَكْيِيفِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.

لِهَذَا كَانَتْ جُمْلَةُ قُلْ كُونُوا حِجارَةً إِلَخْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠] .

وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: قُلْ لَيْسَ مَبْدَأَ مُحَاوَرَةٍ بَلِ الْمُحَاوَرَةُ بِالْمَقُولِ الَّذِي بَعْدَهُ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالْجَوَابِ أُعْطِيَ حُكْمَ الْجَوَابِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قُلْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ارْتِبَاطَ رَدِّ مَقَالَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجارَةً إِلَخْ غَامِضٌ، لأَنهم إِنَّمَا استبعدوا أَوْ أَحَالُوا إِرْجَاعَ الْحَيَاةِ إِلَى أَجْسَامٍ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا وَانْخَرَمَ هَيْكَلُهَا، وَلَمْ يُعَلِّلُوا الْإِحَالَةَ بِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْسَامًا ضَعِيفَةً، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْ أَقْوَى الْأَجْسَامِ لَأُعِيدَتْ لَهَا الْحَيَاةُ.

فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ الرَّدِّ عَلَى مَقَالَتِهِمْ وَبَيْنَ مَقَالَتِهِمُ الْمَرْدُودَةِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: كُونُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ سَوَاءٌ كُنْتُمْ عِظَامًا وَرُفَاتًا أَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَاصَى عَلَيْهَا شَيْءٌ. وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: كُونُوا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ فُرِضَ أَنْ يَكُونَ الْأَجْسَادُ مِنَ الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ وَقِيلَ لَكُمْ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَأَحَلْتُمْ ذَلِكَ وَاسْتَبْعَدْتُمْ إِعَادَةَ الْحَيَاةِ فِيهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ نِهَايَةَ الْكَلَامِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا أَإِذا كُنَّا [الْإِسْرَاء: ٤٩] إِلَخْ تَفْرِيعًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَتَكُونُ الْفَاءُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ عَلَى خِلَافٍ فِي مَجِيئِهَا لِلِاسْتِئْنَافِ، وَالْكَلَامُ انْتِقَالٌ لِحِكَايَةِ تَكْذِيبٍ آخَرَ مِنْ تَكْذِيبَاتِهِمْ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً كَلَامًا مُسْتَأْنِفًا لَيْسَ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا [الْإِسْرَاء: ٤٩] إِلَخْ وَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّسْوِيَةِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا إِلَخْ، وَمُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كُونُوا حِجارَةً،

أَيْ فَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَقَالُوا: مَنْ يُعِيدُنَا، أَيْ لَانْتَقَلُوا فِي مَدَارِجِ السَّفْسَطَةِ مِنْ إِحَالَةِ الْإِعَادَةِ إِلَى ادِّعَاءِ عَدَمِ وُجُودِ قَادِرٍ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ لَهُمْ لِصَلَابَةِ أَجْسَادِهِمْ.

وَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ يَلْتَئِمُ نَظْمُ الْآيَةِ وَيَنْكَشِفُ مَا فِيهِ مِنْ غُمُوضٍ.

وَالْحَدِيدُ: تُرَابٌ مَعْدِنِيٌّ، أَيْ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَغَاوِرِ الْأَرْضِ، وَهُوَ تُرَابٌ غَلِيظٌ مُخْتَلِفُ الْغِلَظِ، ثَقِيلٌ أَدْكَنُ اللَّوْنِ، وَهُوَ إِمَّا مُحَتَّتُ الْأَجْزَاءِ وَإِمَّا مُورِقُهَا، أَيْ مِثْلَ الْوَرَقِ.

وَأَصْنَافُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ، وَتَتَفَاوَتُ أَلْوَانُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَأَشْرَفُ أَصْنَافِهِ الْخَالِصُ، وَهُوَ السَّالِمُ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِنْ الْمَوَادِّ الْغَرِيبَةِ. وَهَذَا نَادِرُ الْوُجُودِ وَأَشْهَرُ أَلْوَانِهِ الْأَحْمَرُ، وَيُقَسَّمُ بِاعْتِبَارِ صَلَابَتِهِ إِلَى صِنْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُسَمَّيَانِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَالصُّلْبُ هُوَ الذَّكَرُ وَاللَّيِّنُ الْأُنْثَى. وَكَانَ الْعَرَبُ يَصِفُونَ السَّيْفَ الصُّلْبَ الْقَاطِعَ بِالذَّكَرِ. وَإِذَا صُهِرَ الْحَدِيدُ بِالنَّارِ تَمَازَجَتْ أَجْزَاؤُهُ وَتَمَيَّعَ وَصَارَ كَالْحَلْوَاءِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ صَبٍّ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حَدِيدَ تَطْرِيقٍ، وَمِنْهُ فُولَاذٌ. وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِهِ صَالِحٌ لِمَا يُنَاسِبُ سَبْكَهُ مِنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى شَدَّةِ الصَّلَابَةِ مِثْلَ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ. وَمِنْ خَصَائِصَ الْحَدِيدِ أَنْ يَعْلُوَهُ الصَّدَأُ، وَهُوَ كَالْوَسَخِ أَخْضَرُ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ تَدْرِيجًا إِلَى أُكْسِيدٍ (كَلِمَةٌ كِيمْيَاوِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ أَجْزَاءِ الْأُكْسُجِينِ بِجِسْمٍ فَتُفْسِدُهُ) وَإِذَا لَمْ يُتَعَهَّدِ الْحَدِيدُ بِالصَّقْلِ وَالزَّيْتِ أَخَذَ الصَّدَأُ فِي نَخْرِ سَطْحِهِ، وَهَذَا الْمَعْدِنُ يُوجَدُ فِي غَالِبِ الْبِلَادِ. وَأَكْثَرُ وُجُودِهِ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ وَفِي صَحْرَاءِ مِصْرَ. وَوُجِدَتْ فِي الْبِلَادِ التُّونِسِيَّةِ

مَعَادِنُ مِنَ الْحَدِيدِ.

وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ مِنَ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّ الطَّوْرَ الثَّانِي من أطور التَّارِيخِ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَدِيدِيِّ، أَيِ الَّذِي كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَعْمِلُ فِيهِ آلَاتٍ مُتَّخَذَةً مِنَ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ مِنْ أَثَرِ صَنْعَةِ الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ قَبْلَ عَصْرِ تَدْوِينِ التَّارِيخِ. وَالْعَصْرُ الَّذِي قَبْلَهُ يُعْرَفُ بِالْعَصْرِ الْحَجَرِيِّ.

وَقَدِ اتَّصَلَتْ بِتَعْيِينِ الزَّمَنِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ صُنْعُ الْحَدِيدِ أَسَاطِيرُ وَاهِيَةٌ لَا يَنْضَبِطُ بِهَا تَارِيخُهُ. وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ الْحَدِيدَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْبَشَرِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ كِتَابَةِ التَّارِيخِ وَلِكَوْنِهِ يَأْكُلُهُ الصَّدَأُ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْهَوَاءِ وَالرُّطُوبَةِ لَمْ يَبْقَ مِنْ آلَاتِهِ الْقَدِيمَةِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ.

وَقَدْ وُجِدَتْ فِي (طِيبَةَ): وَمَدَافِنِ الْفَرَاعِنَةِ فِي (مَنْفِيسَ) بِمِصْرَ صُوَرٌ عَلَى الْآثَارِ مَرْسُومٌ عَلَيْهَا: صُوَرُ خَزَائِنَ شَاحِذِينَ مُدَاهُمْ وَقَدْ صَبَغُوهَا فِي الصُّوَرِ بِاللَّوْنِ الْأَزْرَقِ لَوْنِ الْفُولَاذِ، وَذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ قَبْلَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةُ الذَّبِيحِ، وَقِصَّةُ اخْتِتَانِ إِبْرَاهِيمَ بِالْقَدُومِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ السِّكِّينَ وَلَا الْقَدُّومَ كَانَتَا

مِنْ حَجَرِ الصَّوَّانِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِآلَةِ الْحَدِيدِ، وَمِنَ الْحَدِيدِ تُتَّخَذُ السَّلَاسِلُ لِلْقَيْدِ، وَالْمَقَامِعُ لِلضَّرْبِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ فِي سُورَةِ الْحَج [٢١] .

والخلق: يعْنى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَوْ خَلْقًا آخَرَ مِمَّا يُعَظِّمُ فِي نُفُوسِكُمْ عَنْ قَبُولِهِ الْحَيَاةَ وَيَسْتَحِيلُ عِنْدَكُمْ عَلَى اللَّهِ إِحْيَاؤُهُ مِثْلَ الْفُولَاذِ وَالنُّحَاسِ.

وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صِفَةٌ خَلْقًا.

وَمَعْنَى يَكْبُرُ يَعْظُمُ وَهُوَ عِظَمٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ فِي نَوْعِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالصُّدُورُ:

الْعُقُولُ، أَيْ مِمَّا تَعُدُّونَهُ عَظِيمًا لَا يَتَغَيَّرُ.

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَرْدُودُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٩] . وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا أَشْيَاءَ أَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ.

وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا كَوْنَهُمْ عِظَامًا حُجَّةً لِاسْتِحَالَةِ الْإِعَادَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ مُقَدَّرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، لِأَنَّ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِمَا حُلُولُ الْحَيَاةِ قَطُّ بِخِلَافِ الرُّفَاتِ وَالْعِظَامِ.

وَالتَّفْرِيعُ فِي فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ فَسَيَقُولُونَ لَكَ: مَنْ يُعِيدُنَا.

وَجُعِلَ سُؤَالُهُمْ هُنَا عَنِ الْمُعِيدِ لَا عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْمُعِيدِ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُمْ نَفَوْا إِمْكَانَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْجَدَلِيَّ أَقْوَى، فِي مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى، مِنَ الْمَنْعِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ يُعِيدُنا تَهَكُّمِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمَرَ النبيء بِأَن يُجِيبهُمْ عِنْد مَا يَقُولُونَهُ جَوَابَ تَعْيِينٍ لِمَنْ يُعِيدُهُمْ إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، وَهُوَ الِاسْتِحَالَةُ فِي نَظَرِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِجْرَاءٌ لِظَاهِرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَلَى أَصْلِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِزِيَادَةِ الْمُحَاجَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٥- ٢٦] .

وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِقَصْدِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الَّذِي فَطَرَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧] فَإِنَّهُ لِقُدْرَتِهِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا خَلَقَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً.

وَالْإِنْغَاضُ: التَّحْرِيكُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ وَالْعَكْسُ. فَإِنْغَاضُ الرَّأْسِ تَحْرِيكُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الِاسْتِهْزَاءِ.

وَاسْتَفْهَمُوا عَنْ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هُوَ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ أَيْضًا فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابًا حَقًّا إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.

وَضَمِيرُ مَتى هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْعَوْدِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُعِيدُنا كَقَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨] .

وَ(عَسَى) لِلرَّجَاءِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ﷺ: وَالْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

ويَوْمَ يَدْعُوكُمْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا. وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِ يَكُونَ، أَيْ يَكُونَ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.

وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ دُعَاءُ اللَّهِ النَّاسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسُوقُونَ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِإِحْيَائِهِمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَسْتَلْزِمُ إِحْيَاءَ الْمَدْعُوِّ وَحُصُولَ حُضُورِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي الْإِحْيَاءِ وَالتَّسْخِيرِ لِحُضُورِ الْحِسَابِ.

وَالِاسْتِجَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِمُطَاوَعَةِ مَعْنَى يَدْعُوكُمْ، أَيْ فَتَحْيَوْنَ وَتَمْثُلُونَ لِلْحِسَابِ. أَيْ يَدْعُوكُمْ وَأَنْتُمْ عِظَامٌ وَرُفَاتٌ. وَلَيْسَ لِلْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِدْرَاكٌ وَاسْتِمَاعٌ وَلَا ثَمَّ اسْتِجَابَةٌ لِأَنَّهَا فَرْعُ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِسُرْعَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْضَارِ وَسُرْعَةِ الِانْبِعَاثِ وَالْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ ذَلِكَ كَحُصُولِ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِجَابَتِهَا فِي أَنَّهُ لَا مُعَالَجَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ وَلَا رَيْثَ وَلَا بُطْءَ فِي زَمَانِهِ.

وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ مَنْ يُعِيدُنا وَالْقَائِلِينَ مَتى هُوَ.

وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، أَيْ حَامِدِينَ، فَهُمْ إِذَا بُعِثُوا خُلِقَ فِيهِمْ إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْدِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ ﷺ. وَالتَّقْدِيرُ:

انْطِقْ بِحَمْدِهِ، كَمَا يُقَالُ: بِاسْمِ اللَّهِ، أَيِ أَبْتَدِئُ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْمُعَرِّسِ: بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، أَيِ احْمَدِ اللَّهَ عَلَى ظُهُورِ صِدْقِ مَا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَيَكُونُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ.

وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامِ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرُوا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ. وَالْحَمْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَجِيبُونَ حَامِدِينَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَعَلَى مَا أَعَدَّ لَكُمْ مِمَّا تُشَاهِدُونَ حِينَ انْبِعَاثِكُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْكَرَامَةِ وَالْإِقْبَالِ.

وَأَمَّا جُمْلَةُ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهِيَ عطف على فَتَسْتَجِيبُونَ، أَيْ وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا. وَالْمُرَادُ: التَّعْجِيبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ آيَاتٍ أُخْرَى سُؤَالُ الْمَوْلَى حِينَ يُبْعَثُونَ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢- ١١٤]، وَقَالَ:

فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩] . وَهَذَا التَّعْجِيبُ تَنْدِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ ظَنُّوا ظَنًّا خَاطِئًا، وَهُوَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لأيام الله.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٣]

وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا (٥٣)

لَمَّا أَعْقَبَ مَا أَمر النبيء- عليه الصلاة والسلام بِتَبْلِيغِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَقْوَال تعظهم وتنهنههم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقولُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٢] وَقَوْلِهِ: قُلْ كُونُوا حِجارَةً [الْإِسْرَاء: ٥٠] وَقَوْلِهِ: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الْإِسْرَاء:

٥١] ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى الْأَمْرِ بِإِبْلَاغِ الْمُؤْمِنِينَ تَأْدِيبًا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي

تلوين الْأَغْرَاض وتعقيب بَعْضِهَا بِبَعْضِ أَضْدَادِهَا اسْتِقْصَاءً لِأَصْنَافِ الْهُدَى وَمُخْتَلِفِ أَسَالِيبِهِ وَنَفْعَ مُخْتَلِفِ النَّاسِ.

وَلَمَّا كَانَ مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ أَقْوَال الْمُشْركين تنبىء عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَادِ نَقْلِ الْكَلَام إِلَى أَمر الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا أَقْوَالًا تُعْرِبُ عَنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَعَنْ نُفُوسٍ زَكِيَّةٍ. وَأُوتُوا فِي ذَلِكَ كَلِمَةً جَامِعَةً وَهِيَ يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

والَّتِي هِيَ أَحْسَنُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَقُولُوا. تَقْدِيرُهُ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَقَالَةً وَاحِدَةً.

وَاسْمُ التَّفْضِيلِ مُسْتَعْمَلٌ فِي قُوَّةِ الْحُسْنِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥]، أَيْ بِالْمُجَادَلَاتِ الَّتِي هِيَ بَالِغَةُ الْغَايَةِ فِي الْحُسْنِ، فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ لَا تَكُونُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ شَدِيدَةُ الِاتِّصَالِ بِالَّتِي قَبْلَهَا وَلَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى تَطَلُّبِ سَبَبٍ لِنُزُولِهَا. وَهَذَا تَأْدِيبٌ عَظِيمٌ فِي مُرَاقَبَةِ اللِّسَانِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيءَ ﷺ أَمَرَهُ بِأَعْمَالٍ تُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ:

بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»

.

وَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ تَأْدِيبُ الْأُمَّةِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنُمُّ عَنِ الْمَقَاصِدِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ تَأْدِيبُهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ اجْتِنَابًا لِمَا تُثِيرُهُ الْمُشَادَّةُ وَالْغِلْظَةُ مِنِ ازْدِيَادِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَصَلُّبِهِمْ فَذَلِك من نزع الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت: ٣٤] . وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضُرَّ أَعْدَائِهِمْ بِتَصَارِيفَ مِنْ لُطْفِهِ لِيَكُونُوا آمِنِينَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا سَبَبًا فِي إِفْسَادِ تِلْكَ الْحَالَةِ.

وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِعِبادِي الْمُؤْمِنُونَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْعُنْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُشْرِكِينَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ،

فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى حَذْفِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ وَارِدٌ كَثِيرًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَقُولُوا جَوَابًا مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مَعَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ: قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا ذَلِكَ. فَيَكُونُ كِنَايَةً عَلَى أَنَّ الِامْتِثَالَ شَأْنُهُمْ فَإِذَا أُمِرُوا امْتَثَلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١] .

وَالنَّزْغُ: أَصْلُهُ الطَّعْنُ السَّرِيعُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِفْسَادِ السَّرِيعِ الْأَثَرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠] .

وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَسْتَخِفُّوا بِفَاسِدِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا تُثِيرُ مَفَاسِدَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.

وَلَمَّا كَانَ ضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدًا إِلَى عِبَادِي كَانَ الْمَعْنَى التَّحْذِيرَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْقِيقًا لِمَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ بَثِّ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

رَوَى الْوَاحِدِيُّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ شَتَمَهُ أَعْرَابِيٌّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَشَتَمَهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكَادَ أَنْ يُثِيرَ فِتْنَةً فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فَهُوَ لَا يُقَيِّدُ إِطْلَاقَ صِيغَةِ الْأَمْرِ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَقُولُوا الَّتِي أَحْسَنُ فِي كُلِّ حَالٍ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، وَعلة الْعِلَّةِ عِلَّةٌ.

وَذِكْرُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَدَاوَةِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي خِلْقَتِهِ قَدْ جُبِلَ عَلَيْهِ.

وَعَدَاوَتُهُ لِلْإِنْسَانِ مُتَقَرِّرَةٌ مِنْ وَقْتِ نَشْأَةِ آدَمَ- عليه الصلاة والسلام وَأَنَّهُ يُسَوِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغْلِظُوا عَلَى الْكُفَّارِ بِوَهْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ نَصْرٌ لِلدِّينِ لِيُوقِعَهُمْ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ أَعْظَمَ كَيْدِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُوقِعَ الْمُؤْمِنَ فِي الشَّرِّ وَهُوَ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يعْمل خيرا.

[٥٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٤]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤)

هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٧، ٤٨] . فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْطَوِي عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ نَجْوَاهُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ عَلَى

الْعِنَادِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ. وَذَلِكَ يَسُوءُ النَّبِيءَ ﷺ وَيُحْزِنُهُ أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَوَجَّهَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَيْهِ تَسْلِيَةً لَهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.

وَمَعْنَى إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ عَلَى هَذَا الْكِنَايَةِ عَنْ مَشِيئَةِ هَدْيِهِ إِيَّاهُمُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، أَوْ مَشِيئَةِ تَرْكِهِمْ وَشَأْنَهُمْ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَيُبَيَّنُ مَوْقِعُهَا، وَمَا قِيلَ غَيْرُهُ أَرَاهُ لَا يَلْتَئِمُ.

وَأُوتِيَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامِلِ لِلرَّسُولِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلْخَيْرِ شَأْنٌ مِنْ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَدْبِير شؤون الْمَرْبُوبِينَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، لِيَكُونَ لِإِيقَاعِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَعْلَمُ بِكُمْ وَقْعٌ بَدِيعٌ، لِأَنَّ الَّذِي هُوَ الرَّبُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِدَخَائِلِ النُّفُوسِ وَقَابِلِيَّتِهَا لِلِاصْطِفَاءِ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَا بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ الْآيَةَ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ كُلِّ أَحَدٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ.

وَمَعْنَى أَعْلَمُ بِكُمْ أَعْلَمُ بِحَالِكُمْ، لِأَنَّ الْحَالَةَ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ.

فَجُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ.

وَالرَّحْمَةُ وَالتَّعْذِيبُ مُكَنًّى بِهِمَا عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، بِقَرِينَةِ مُقَارَنَتِهِ لِقَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الَّذِي هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ. وَسَلَكَ سَبِيلَ الْكِنَايَةِ بِهِمَا لِإِفَادَةِ فَائِدَتَيْنِ: صَرِيحِهِمَا وَكِنَايَتِهِمَا، وَلِإِظْهَارِ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَلِيقُ بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ. فَلَمَّا نَاطَ الرَّحْمَةَ بِأَسْبَابِهَا وَالْعَذَابَ بِأَسْبَابِهِ، بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى مَشِيئَتِهِ الرَّحْمَةَ أَوِ التَّعْذِيبَ هُوَ مَشِيئَةُ إِيجَادِ أَسْبَابِهِمَا، وَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَشَأْ رَحْمَتَكُمْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ تَعْذِيبَكُمْ يُعَذِّبْكُمْ، عَلَى حُكْمِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ.

وَجِيءَ بِالْعَطْفِ بِحَرْفِ (أَوْ) الدَّالَّةِ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالتَّعْذِيبَ لَا يَجْتَمِعَانِ فَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ.

وَذِكْرُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ هُنَا فَائِدَتُهُ التَّعْلِيمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَإِلَى صِفَةِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ.

وَإِعَادَةُ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِتَأْكِيدِ تَسَلُّطِ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ.

وَجُمْلَةُ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا زِيَادَةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ النبيء غير مسؤول عَنِ اسْتِمْرَارِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِي الضَّلَالَةِ. إِزَالَةً لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِيمَا يَجِدُهُ مِنْ عَدَمِ اهْتِدَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ دَاعِيًا.

وَالْوَكِيلُ عَلَى الشَّيْءِ: هُوَ الْمَسْئُولُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا وَدَاعِيًا لَهُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَاعِيًا وَنَذِيرًا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِذَا نُفِيَ عَنْهُ أَنْ يكون وَكيلا وملجئا آلَ إِلَى مَعْنَى: مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ.

وَضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عَادَتْ إِلَيْهِمْ ضَمَائِرُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْإِسْرَاء: ٤٦] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الضَّمَائِرِ اللَّائِقَةِ بِهِمْ.

وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ وَكِيلًا. وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.

[٥٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٥]

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (٥٥)

تَمَاثُلُ الْقَرِينَتَيْنِ فِي فَاصْلِتَيْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَلِمَةِ وَالْأَرْضِ وَكَلِمَةِ عَلى بَعْضٍ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمَا كَلَامٌ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنْ لَيْسَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَكْمِلَةً لِآيَةِ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٥٤] الْآيَةَ.

وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٥٤] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَائِدٌ إِلَى شَأْن من شؤون النَّبِيءِ ﷺ الَّتِي لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ، تَقْفِيَةً عَلَى إِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُشْركين فِي شؤون الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، بِإِبْطَالِ أَقْوَالِهِمْ فِي أَحْوَال النَّبِي. ذَلِك أَن الْمُشْركين لم يقبلُوا دَعْوَة النَّبِيءِ بِغُرُورِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ بِلَادِهِمْ وَقَادَتِهِمْ، وَقَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ رَسُولًا، أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا، فَأَبْكَتَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الرَّدِّ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ الْعَالِمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.

وَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ الْآيَةَ. أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أعلم مِنْهُم بالمستأهل لِلرِّسَالَةِ بِحَسَبِ

مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٤] .

وَكَانَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ لِتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُؤْخَذ مِنْهَا كُلُّ حُكْمٍ لِجُزْئِيَّاتِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِبْطَالِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ جَامِعٌ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ لَيْسَ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ مَنْ لَا يَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى- عليه الصلاة والسلام. وَذَلِكَ يُثِيرُ أَحْوَالًا جَمَّةً مِنَ الْعُصُورِ وَالرِّجَالِ وَالْأُمَمِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا. فَلَا جَرَمَ كَانَ لِلتَّعْمِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي قَوْلِهِ: بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالْمُقَدِّمَةِ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلَى بَعْضٍ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ تفاضل الْأَنْبِيَاء ناشىء عَلَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّفَاضُلِ. وَهَذَا إِيجَازٌ تضمن إِثْبَات النبوءة وَتَقَرُّرَهَا فِيمَا مضى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، وَتَعَدُّدَ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا

يَجْعَل مُحَمَّدًا ﷺ لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَإِثْبَاتَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ مِنَ الْبَشَرِ، فَمِنْهُمْ رَسُولٌ وَمِنْهُمْ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ، وَإِثْبَاتَ التَّفَاضُلِ بَيْنَ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْفَاضِلِ. وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى تَقَرُّرًا لَا يَسْتَطِيعُ إِنْكَارَهُ إِلَّا مُكَابِرٌ بِالتَّفَاضُلِ حَتَّى بَيْنَ الْأَفْضَلَيْنِ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ مُقَرَّرَةٌ لَا نُكْرَانَ لَهَا. فَعُلِمَ أَنَّ طعنهم فِي نبوءة مُحَمَّد ﷺ طَعْنُ مُكَابَرَةٍ وَحَسَدٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْيَهُودِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فِي سُورَةِ النِّسَاء [٥٤] .

وَتَخْصِيص دَاوُود- عليه السلام بِالذِّكْرِ عَقِبَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعَامَّةِ وَجَّهَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّ فَائِدَةَ التَّلْمِيحِ إِلَى أَن مُحَمَّدًا ﷺ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّتَهُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ لِأَنَّ فِي الزَّبُورِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ. وَهَذَا حَسَنٌ. وَأَنَا أَرَى أَنْ يَكُونَ وَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ الْإِيمَاءَ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَرْمُوقَةِ فِي نَظَرِ الْجَاهِلِينَ وَقَاصِرِي الْأَنْظَارِ بِنَظَرِ الْغَضَاضَةِ هِيَ أَحْوَالٌ لَا تَعُوقُ أَصْحَابَهَا عَنِ الصُّعُودِ فِي مَدَارِجِ الْكَمَالِ الَّتِي اصْطَفَاهَا اللَّهُ لَهَا، وَأَن التَّفْضِيل بالنبوءة وَالرِّسَالَةِ لَا يَنْشَأُ عَنْ عَظَمَةٍ سَابِقَة فَإِن دَاوُود- عليه السلام كَانَ رَاعِيًا مِنْ رُعَاةِ الْغَنَمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ ذَا قُوَّةٍ فِي الرَّمْيِ بِالْحَجَرِ، فَأَمَرَ اللَّهُ شَاوُلَ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَن يخْتَار دَاوُود لِمُحَارَبَةِ جَالُوتَ الْكَنْعَانِيِّ، فَلَمَّا قتل دَاوُود جَالُوتَ آتَاهُ الله النبوءة وصيره ملكا لإسرائيل، فَهُوَ النَّبِيءُ الَّذِي تَجَلَّى فِيهِ اصْطِفَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا عَظَمَةٍ وَسِيَادَةٍ.

وَذِكْرُ إِيتَائِهِ الزَّبُورَ هُوَ مَحَلُّ التَّعْرِيضِ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَرِثُونَ أَرْضَهُمْ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي الزَّبُورِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقد أُوتِيَ دَاوُود الزَّبُورَ وَلَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كِتَابًا بَعْدَ مُوسَى- عليه السلام.

وَذكر دَاوُود تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.

وَأَمَّا الزَّبُورُ فَذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٦٣] .

وَالزَّبُور: اسْم لمجموع أَقْوَال دَاوُود- عليه السلام الَّتِي بَعْضُهَا مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَبَعْضُهَا مِمَّا أُلْهِمَهُ مِنْ دَعَوَاتٍ وَمُنَاجَاةٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِكِتَابِ الْمَزَامِيرِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْد الْقَدِيم.

[٥٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٦]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (٥٦)

لَمْ أَرَ لِهَذِهِ الْآيَة تَفْسِيرا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ، وَالْحَيْرَةُ بَادِيَةٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا وَانْتِظَامِ مَوْقِعِهَا مَعَ سَابِقِهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِقْرَاءِ كَلِمَاتِهِمْ. وَمَرْجِعُهَا إِلَى طَرِيقَتَيْنِ فِي مَحْمَلِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِحْدَاهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَثَانِيَتُهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَالْفَخْرِ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ لِقَائِلٍ.

وَالَّذِي أَرَى فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ جُمْلَةَ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِلَى تَحْوِيلًا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النبيئين [الْإِسْرَاء: ٥٥] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الْإِسْرَاء: ٥٧] . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْأَفْضَلِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَثْنَاءِ آيَةِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَقَالَتَهُمْ فِي اصطفاء مُحَمَّد ﷺ لِلرِّسَالَةِ وَاصْطِفَاءِ أَتْبَاعِهِ لِوِلَايَتِهِ وَدِينِهِ، وَهِيَ آيَةُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: ٥٥] إِلَى آخِرِهَا، جَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِرَدِّ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَهِيَ اعْتِذَارُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَجَعَلُوهُمْ عِبَادًا مُقَرَّبِينَ وَوَسَائِلَ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمُقَرَّبِينَ حَقًّا انْتُهِزَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِمْ لِتَكُونَ مَخْلَصًا إِلَى إِبْطَالِ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ وَسِيلَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى عَادَةِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ مِنِ اغْتِنَامِ

مُنَاسَبَاتِ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الْخُطَبَاءِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِآيَةِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢] . فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ عَادَ

إِلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ بِبُرْهَانِ الْحِسِّ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ كَشْفَ الضُّرِّ.

فَأَصْلُ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَلَقَدْ فضلنَا بعض النبيئين عَلَى بعض وآتينا دَاوُود زَبُورًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الْآيَةَ. فَبِمُنَاسَبَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِابْتِهَالِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ ذَكَرَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَتَهُمْ. وَقَدَّمَ ذَلِكَ، عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي أَثَارَ الْمُنَاسَبَةَ، اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ فِعْلِهِمْ لِيَكُونَ إِبْطَالُهُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَيَكُونَ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ.

وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَةِ الْقَحْطِ قُرَيْشًا بِمَكَّةَ، وَهِيَ السَّبْعُ السُّنُونَ الَّتِي هِيَ

دَعْوَة النبيء ﷺ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ»

. وَتَسَلْسَلَ الْجِدَالُ وَأَخَذَ بَعْضُهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.

وَالْمُلْكُ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الْمَائِدَة: ١٧]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧٦] .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ الدُّعَاءِ الْحَقِّ وَالدُّعَاءِ الْبَاطِلِ. وَمِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٩٦- ١٩٧] .

وَالْكَشْفُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ.

وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِزَالَةَ الضُّرِّ عَنِ الْجَمِيعِ وَلَا إِزَالَتَهُ عَنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيره.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٧]

أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا (٥٧)

وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى النبيئين لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ.

وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ إِنْ دَعَوْا يُسْتَجَبْ لَهُمْ وَيُكْشَفْ عَنْهُمُ الضُّرُّ، وَلَيْسُوا كَالَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْكُمْ مِنَ الضُّرِّ كَشْفًا وَلَا صَرْفًا.

وَجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْعُونَ أَوْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَدْعُونَ.

وَالْوَسِيلَةُ: الْمَرْتَبَةُ الْعَالِيَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ عَظِيمٍ كَالْمَلِكِ.

وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ يَبْتَغُونَ بَدَلَ بَعْضٍ، وَتَكُونُ (أَي) مَوْصُولَة. وَالْمعْنَى: الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ رِضَى اللَّهِ يَبْتَغِي زِيَادَةَ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ، أَيْ يَزْدَادُ عَمَلًا لِلِازْدِيَادِ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَاصْطِفَائِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، و(أَيُّ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ يَبْتَغُونَ مَعْرِفَةَ جَوَابِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ عِنْدَ اللَّهِ.

وَأَقْرَبُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رَبِّهِمْ.

وَذكر خوف الْعَذَاب بَعْدَ رَجَاءِ الرَّحْمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْأَدَبِ مَعَ رَبِّهِمْ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْبُ مِنْ رِضَاهُ إِلَّا إِجْلَالًا لَهُ وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذين ركبُوا رؤوسهم وَتَوَغَّلُوا فِي الْغُرُورِ فَزَعَمُوا أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا تَذْيِيلٌ. وَمَعْنَى كانَ مَحْذُورًا أَنَّ حَقِيقَتَهُ تَقْتَضِي حَذَرَ الْمُوَفَّقِينَ إِذْ هُوَ جدير بذلك.

[٥٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٨]

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُورًا (٥٨)

لما عَرَّضَ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا [الْإِسْرَاء:

٥٧]، وَتَحَدَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الْإِسْرَاء: ٥٦] جَاءَ بِصَرِيحِ التَّهْدِيدِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِثْلِ قَرْيَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ لَا يعدوها عَذَاب الاستيصال وَهُوَ يَأْتِي عَلَى الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا، أَوْ عَذَابُ الِانْتِقَامِ بِالسَّيْفِ وَالذُّلِّ وَالْأَسْرِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَهُوَ يَأْتِي عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِثْلِ صَرْعَى بَدْرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.

فَالْمُرَادُ: الْقُرَى الْكَافِرُ أَهْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [١١٧]، وَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٩] .

وَحَذْفُ الصِّفَةِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعْرُوفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الْكَهْف: ٧٩] أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الْكَهْف: ٧٩] .

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ شُمُولَ ذَلِكَ الْقُرَى الْمُؤْمِنَةَ، عَلَى مَعْنَى أَنْ لَا بُدَّ لِلْقُرَى مِنْ زَوَالٍ

وَفَنَاءٍ فِي سُنَّةِ اللَّهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَارِضٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِغَرَضِ تَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ.

فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا تَنْفَلِتُ مِنْهُ قَرْيَةٌ مِنَ الْقُرَى بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي مَصِيرِ كُلِّ حَادِثٍ إِلَى الْفَنَاءِ لَمَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا فَائِدَةً.

وَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِهِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: ١٢٧] .

وَ(مِنْ) مَزِيدَةٌ بَعْدَ (إِنِ) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ مَدْخُولِهَا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ جَمِيعِ الْقُرَى الْكَافِرَةِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَهْلُ مَكَّةَ عَدَمَ شُمُولِهِمْ.

وَالْكِتَابُ: مُسْتَعَارٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَسَابِقِ تَقْدِيرِهِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ.

وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، يُقَالُ: سَطَّرَ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبَهُ سُطُورًا، قَالَ تَعَالَى: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: ١] .

[٥٩]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٥٩]

وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (٥٩)

وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها هَذَا كَشْفُ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ تَكْذِيبِهِمْ إِذْ كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ صَادِقًا وَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَجَاءَنَا بِالْآيَاتِ الَّتِي سَأَلْنَاهُ، غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَتَنَازَلُ لِمُبَارَاتِهِمْ.

وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها الْآيَة [الْإِسْرَاء:

٥٨]، أَيْ إِنَّمَا أَمْهَلْنَا الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى أَجَلِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْآيَاتِ للأولين من قبيلهم فِي الْكُفْرِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ.

وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ: كَفُّ الْفَاعِلِ عَنْ فِعْلٍ يُرِيد فعله أَوْ يَسْعَى فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا مُكْرِهَ لِلْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. فَالْمَنْعُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلصَّرْفِ عَنِ الْفِعْلِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِ

دُونَ مُحَاوَلَةِ إِتْيَانِهِ.

وَالْإِرْسَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَفْعُولُ أَنْ نُرْسِلَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نُرْسِلَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ نُرْسِلَ رَسُولَنَا، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْآياتِ

لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبًا للآيات الَّتِي اقتراحها الْمُشْرِكُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ مُسْتَعَارًا لِإِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِيجَادِهَا، فَتَكُونَ الْبَاءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ فِعْلِ نُرْسِلَ بِالْآياتِ، وَتَكون بِالْآياتِ مَفْعُولًا فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] .

والتعريف فِي بِالْآياتِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لِلْعَهْدِ، أَيْ الْمَعْهُودَةِ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، [الْإِسْرَاء: ٩٠] وقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.

وَ(أَنْ) الْأُولَى مُفِيدَةٌ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ (مِنَ) الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْمَنْعِ، وَهَذَا الْحَذْفُ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنْ) .

وَ(أَنْ) الثَّانِيَةُ مَصْدَرُهَا فَاعِلُ مَنَعَنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ.

وَإِسْنَادُ الْمَنْعِ إِلَى تَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِالْآيَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ سَبَبُ الصَّرْفِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ لَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْثَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ. فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ سَجِيَّةٌ لِلْمُشْرِكِ لَا يَقْلَعُهَا إِظْهَارُ الْآيَاتِ، فَلَوْ آمن الْأَولونَ عِنْد مَا أُظْهِرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ لَكَانَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَجْعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى إِيجَادِ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٦- ٩٧] .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَثْبِيتٌ لِأَفْئِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ، وتسلية للنبيء ﷺ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ فَلَعَلَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يُجِيبَهُمُ اللَّهُ لِمَا سَأَلُوا مِنَ الْآيَاتِ وَلِحُزْنِهِ مِنْ أَنْ يَظُنُّوهُ كَاذِبًا.

وَجُمْلَةُ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي مَنَعَنا، أَيْ وَقَدْ آتَيْنَا ثَمُودًا آيَة كَمَا سَأَلُوهُ فَزَادُوا كُفْرًا بِسَبَبِهَا حَتَّى عُجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابُ.

وَمَعْنَى مُبْصِرَةً وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ أَبْصَرَ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ، أَيْ

جَعَلَ غَيْرَهُ مُبْصِرًا وَذَا بَصِيرَةٍ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُفِيدَةُ الْبَصِيرَةِ، أَيِ الْيَقِينِ، أَيْ تَجْعَلُ مَنْ رَآهَا ذَا بَصِيرَةٍ وَتُفِيدُهُ أَنَّهَا آيَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النَّمْل: ١٣] .

وَخَصَّ بِالذِّكْرِ ثَمُودَ وَآيَتَهَا لِشُهْرَةِ أَمْرِهِمْ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ آثَارَ هَلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمْ فِي رِحْلَاتِهِمْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالشَّامِ.

وَقَوْلُهُ: فَظَلَمُوا بِها يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْكُفْرِ يُعَدَّى إِلَى الْمَكْفُورِ بِالْبَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْجَحْدِ، أَيْ كَابَرُوا فِي كَوْنِهَا آيَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النَّمْل: ١٤] . وَيَجُوزُ بَقَاءُ الظُّلْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ بِدُونِ حَقٍّ، وَالْبَاءُ صِلَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ الْبَاءِ فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]، أَيْ ظَلَمُوا النَّاقَةَ حِينَ عَقَرُوهَا وَهِيَ لَمْ تَجْنِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَقْرُهَا ظُلْمًا. وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعَجْمَاوَاتِ ظُلْمٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا كَالصَّيْدِ.

وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا هَذَا بَيَانٌ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى فِي تَرْكِ إِرْسَالِ الْآيَاتِ إِلَى قُرَيْشٍ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ لِيَدْخُلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ وَيَكُونُ نَشْرُ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.

وَتِلْكَ مكرمَة للنبيء ﷺ فَلَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْآيَاتِ كَمَا سَأَلُوا مَعَ أَنَّ جِبِلَّتَهُمُ الْعِنَادُ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرُ فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ عَقِبَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ إِظْهَارَ الْآيَاتِ

تَخْوِيفٌ مِنَ الْعَذَابِ وَاللَّهُ أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣] الْآيَةَ، فَعَوَّضْنَا تَخْوِيفَهُمْ بَدَلًا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا.

وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ كَالْقَوْلِ فِي وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ مَعْنًى وَتَقْدِيرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ.

وَالتَّخْوِيفُ: جَعْلُ الْمَرْءِ خَائِفًا.

وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَخْوِيفًا لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى عِلَّةِ التَّخْوِيفِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا مُبَارَاةَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ أَوْ لَا طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمْنَا

أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.

[٦٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٦٠]

وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيانًا كَبِيرًا (٦٠)

وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ هَذِهِ تَسْلِيَة للنبيء ﷺ عَلَى حُزْنِهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَمِنْ إِمْهَالِ عُتَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِهِ نَصْرَهُ.

وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّكْرِمَةِ لِلنَّبِيءِ وَتَصْبِيرِهِ، وَأَنَّهُ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ قَالَ تَعَالَى:

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] .

فَجُمْلَةُ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاء: ٥٩] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً.

وَ(إِذْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لَكَ كَلَامًا هُوَ وَعْدٌ بِالصَّبْرِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَعِدْهُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ، أَوْ هُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ»

عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ إِعَادَةُ الْخَبَرِ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الذَّاكِرَةِ.

وَالْإِحَاطَةُ لَمَّا عُدِّيَ فِعْلُهَا هُنَا إِلَى ذَاتِ النَّاسِ لَا إِلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْغَلَبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢] . وَعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ إِحَاطَةِ اللَّهِ بِالنَّاسِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ. وَلَعَلَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١] .

وَالْمَعْنَى: فَلَا تَحْزَنْ لِافْتِرَائِهِمْ وَتَطَاوُلِهِمْ فَسَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ.

وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاء: ٥٩] وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَاتٌ.

وَالرُّؤْيَا أَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي رُؤْيَا النَّوْمِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا نُقِلَ عَنِ

ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أريها النبيء ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَسَبْعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، سَمَّاهُمُ التِّرْمِذِيُّ. وَتَأَوَّلَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّهَا مَا رَآهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِذْ رَأَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَجَعَلَ يَصِفُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى عِيرَهُمْ وَارِدَةً فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الطَّرِيقِ وَوَصَفَ لَهُمْ حَالَ رِجَالٍ فِيهَا فَكَانَ كَمَا وَصَفَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ: الَّتِي أَرَيْناكَ فَإِنَّهُ وَصْفٌ لِلرُّؤْيَا لِيُعْلَمَ أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ. وَقِيلَ: رَأَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَرَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَدْخُلْهَا فَافْتَتَنَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمُوا فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ دَخَلَهَا.

وَقِيلَ: هِيَ رُؤْيَا مَصَارِعِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بدر أريها النَّبِي ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ أَي بِمَكَّة.

وعى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَهِيَ رُؤْيَا نَوْمٍ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.

وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الرَّأْيِ وَاخْتِلَالُ نِظَامِ الْعَيْشِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُكَرَّرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: ١٠]، وَقَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] . فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَوَّلِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرُّؤْيَا أَنَّهَا سَبَب فتْنَة الْمُشْركين بازدياد بعدهمْ عَن الْإِيمَان، وَيكون على القَوْل الثَّانِي أَن الْمَرْئِيُّ وَهُوَ عَذَابُهُمْ بِالسَّيْفِ فِتْنَةً لَهُمْ.

وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالشَّجَرَةَ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا، أَيْ مَا جَعَلْنَا ذِكْرَ الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٦٤- ٦٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [٤٣- ٤٤]، وَقَوْلِهِ:

إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥١- ٥٢] .

رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: «زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ ثُمَّ يَقُولُ بِأَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَحْرِقُهَا النَّارُ» . وَجَهِلُوا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَأْكُلُهَا النَّارُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و«تَفْسِير الطَّبَرِيِّ» . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: الزَّقُّومُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لأَصْحَابه: تمزقوا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ سَبَب فتْنَة مكفرهم وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعْلِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً عَلَى

هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ ذِكْرَهَا كَانَ سَبَبَ فِتْنَةٍ بِحَذْفِ مُضَافٍ وَهُوَ ذِكْرٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَعْنٌ لَهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِيجَادَهَا فِتْنَةٌ. أَيْ عَذَابٌ مُكَرَّرٌ، كَمَا قَالَ: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافّات: ٦٣] .

وَالْمَلْعُونَةُ أَيِ الْمَذْمُومَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: طَعامُ الْأَثِيمِ [الدُّخان: ٤٤] وَقَوْلِهِ:

طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: ٦٥] وَقَوْلِهِ: كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدُّخان: ٤٥- ٤٦] . وَقِيلَ مَعْنَى الْمَلْعُونَةِ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي مَكَانِ اللَّعْنَةِ وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعَذَابِ. وَفِي «الْكَشَّافِ»: قِيلَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ طَعَامٍ ضَارٍّ: مَلْعُونٌ.

وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيانًا كَبِيرًا.

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء: ٥٩] الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَصَلِّبُونَ فِي كُفْرِهِمْ مُكَابِرُونَ مُعَانِدُونَ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي تَسْلِيَة النبيء ﷺ حَتَّى لَا يَأْسَفَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِهِمْ آيَاتٍ، لِأَن النبيء ﷺ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِهِمْ، كَمَا قَالَ مُوسَى- عليه السلام فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس:

٨٨] .

وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ ابْن عَبَّاس قَالَ: فِي الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ بَنُو أُمَيَّةَ. وَهَذَا من الْأَخْبَار الْمُخْتَلفَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا أَخَالُهَا إِلَّا مِمَّا وَضَعَهُ الْوَضَّاعُونَ فِي زَمَنِ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ لِإِكْثَارِ الْمُنَفِّرَاتِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأَنَّ وَصْفَ الشَّجَرَةِ بِأَنَّهَا الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي وُجُودِ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ ذُكِرَتْ فِيهَا شَجَرَةٌ مَلْعُونَةٌ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ كَمَا عَلِمْتَ. وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَاقِ خُرُوجٌ عَنْ وَصَايَا الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ [الحجرات: ١١] .

وَجِيء بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي نُخَوِّفُهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَخْوِيفٍ حَاضِرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ خَوَّفَهُمْ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ حَتَّى رَأَوُا الدُّخَانَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَسَأَلُوا اللَّهَ كَشْفَهُ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥] فَذَلِكَ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّخْوِيفِ الَّذِي سُبِقَ فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ حُصُولِ بَعْضِ الْمُخَوِّفَاتِ.

وَقَدِ اخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ فِي نُخَوِّفُهُمْ ويَزِيدُهُمْ لِاقْتِضَائِهِ تَكَرُّرَ التَّخْوِيفِ

وَتَجَدُّدَهُ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا تَجَدَّدَ التَّخْوِيفُ تَجَدَّدَ طُغْيَانُهُمْ وَعَظُمَ.

وَالْكَبِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الشَّدِيدِ الْقَوِيِّ فِي نَوْعِ الطُّغْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢١٧] .

[٦١، ٦٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٦١ إِلَى ٦٢]

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا (٦٢)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاء: ٦٠] أَيْ وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ. وَالْمَقْصُودُ من هَذَا هُوَ تذكير النبيء ﷺ بِمَا لَقِيَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ مِنْ مُعَانَدَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْحَسَدَةِ مِنْ عَهْدِ آدَمَ حِينَ حَسَدَهُ إِبْلِيسُ عَلَى فَضْلِهِ. وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِمْ وَهُمْ خِيرَةُ زَمَانِهِمْ كَمَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْوَ آدَمَ- عليه السلام، وَأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَمُتُّ إِلَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِي فِي عَهْدِ آدَمَ، فَلِفَرِيقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُؤْمِنُونَ وَلِفَرِيقِ الشَّيْطَانِ الْكَافِرُونَ، كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٣] الْآيَةَ، فَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَة للنبيء- عليه الصلاة والسلام. فَأمر الله نبيئه بِأَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَذْكِيرَهُ إِيَّاهُ بِهِ، وَذَكَرَ النَّبِيءُ ذَلِكَ مَوْعِظَةً لِلنَّاسِ بِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ لِيَنْظُرَ الْعَاقِلُ أَيْنَ يَضَعُ نَفْسَهُ.

وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ آدَمَ وَبَيَانُ كَلِمَاتِهَا مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا بَعْدَهَا.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَأَسْجُدُ إِنْكَارٌ، أَيْ لَا يَكُونُ.

وَجُمْلَةُ قالَ أَأَسْجُدُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ مِنْ حُكْمِ السُّجُودِ لَمْ يُفِدْ أَكْثَرَ مِنْ عَدَمِ السُّجُودِ. وَهَذَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ سَبَبِ التَّخَلُّفِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ، فَيُجَابُ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ حِينَ الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ السُّجُودِ أَنَّهُ عِصْيَانٌ لأمر الله ناشىء عَنْ جَهْلِهِ وَغُرُورِهِ.

وَقَوْلُهُ: طِينًا حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيِ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِينًا، فَيُفِيدُ مَعْنَى أَنَّكَ خَلَقْتَهُ مِنَ الطِّينِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ جِنْسَ الطِّينِ حَالًا مِنْهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَلَبَةِ الْعُنْصُرِ التُّرَابِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي تَحْقِيرِهِ فِي نَظَرِ إِبْلِيسَ.

وَجُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا بِاعْتِبَارِ مَا

تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِقَارِ آدَمَ وَتَغْلِيطِ الْإِرَادَةِ مِنْ تَفْضِيلِهِ. فَقَدْ أُعِيدَ إِنْكَارُ التَّفْضِيلِ بِقَوْلِهِ:

أَرَأَيْتَكَ الْمُفِيدِ الْإِنْكَارَ. وَعَلَّلَ الْإِنْكَارَ بِإِضْمَارِ الْمَكْرِ لِذُرِّيَّتِهِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ أَرَأَيْتَكَ عَنْ جُمْلَةِ قالَ أَأَسْجُدُ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ [طه: ١٢٠] .

وأَ رَأَيْتَكَ تَرْكِيبٌ يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَمَعْنَاهُ:

أَخْبِرْنِي عَمَّا رَأَيْتُ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَ(رَأَى) الَّتِي بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَاءِ الْمُخَاطَبِ الْمُفْرَدِ الْمَرْفُوعِ، ثُمَّ يُزَادُ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ كَافُ خِطَابٍ تُشْبِهُ ضَمِيرَ الْخِطَابِ الْمَنْصُوبِ بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا. يُقَال: أرأيتك وأ رأيتكم كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠] . وَهَذِهِ الْكَافُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْخِطَابِ الَّذِي تُفِيدُهُ تَاءُ الْخِطَابِ الَّتِي فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّوْكِيدَ اللَّفْظِيَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَالتَّرْكِيبُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ.

وَهَذَا أَقْرَبُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَيُسَوِّغُهُ أَنَّ أَفْعَالَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ قَدْ تَنْصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ مَا هُوَ ضَمِيرُ فَاعِلِهَا نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ:

فَمَا لِيَ أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكًا ... مَتى أذن مِنْهُ ينأعني وَيَبْعُدُ

أَيْ أَرَى نَفْسِي.

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] . وَالْمَعْنَى أَخْبِرْنِي عَنْ نِيَّتِكَ أَهَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ بِلَا وَجْهٍ.

وَجُمْلَة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَهِيَ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ مَعَ الشَّرْطِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص: ٧٩] .

وَهَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ إِعْرَابًا عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَإِنَّمَا شَرَطَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَعُمَّ بِإِغْوَائِهِ جَمِيعَ أَجْيَالِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَلَا يَكُونُ جِيلٌ آمِنًا مِنْ إِغْوَائِهِ.

وَصَدَرَ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ عَنْ وِجْدَانٍ أُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ صَادَفَ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ قَدَّرَ لَهُ أَنْ يَكُونَ عُنْصُرَ إِغْوَاءٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يُغْوِي كَثِيرًا مِنَ الْبَشَرِ وَيَسْلَمُ مِنْهُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ.

وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى إِغْوَاءِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ إِغْوَاءَ آدَمَ وَهُوَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ- إِذْ آدَمُ هُوَ

أَصْلُ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْحَسَدِ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ- إِمَّا لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَالَهُ بعد أَن أعوى آدَمَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَدْ شَفَى غَلِيلَهُ مِنْهُ وَبَقِيَتِ الْعَدَاوَةُ مُسْتَرْسِلَةً فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: ٦] .

وَالِاحْتِنَاكُ: وَضْعُ الرَّاكِبِ اللِّجَامَ فِي حَنَكِ الْفَرَسِ لِيَرْكَبَهُ وَيُسَيِّرَهُ، فَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِجَلْبِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إِلَى مُرَادِهِ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالْإِغْوَاءِ بِتَسْيِيرِ الْفَرَسِ عَلَى حُبِّ مَا يُرِيد رَاكِبه.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]

قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا (٦٤)

جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سُؤَالِ إِبْلِيسَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها [الْبَقَرَة: ٣٠] .

وَالذَّهَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ الِانْصِرَافُ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي نَوَيْتَهُ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:

فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ تَفْرِيعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ [طه: ٩٧] .

وَالْجَزَاء: مصدر جَزَاء عَلَى عَمَلٍ، أَيْ أَعْطَاهُ عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.

وَالْمَوْفُورُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ وَفَرَهُ إِذَا كَثَّرَهُ.

وَأُعِيدَ جَزاءً لِلتَّأْكِيدِ، اهْتِمَامًا وَفَصَاحَةً، كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يُوسُف: ٢]، وَلِأَنَّهُ أَحْسَنُ فِي جَرَيَانِ وَصْفِ الْمَوْفُورِ عَلَى مَوْصُوفٍ مُتَّصِلٍ بِهِ دُونَ فَصْلٍ.

وَأَصْلُ الْكَلَامِ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ مَوْفُورًا. فَانْتِصَابُ جَزاءً عَلَى الْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ، ومَوْفُورًا صِفَةٌ لَهُ، وَهُوَ الْحَالُ فِي الْمَعْنَى، أَيْ جَزَاءً غَيْرَ مَنْقُوصٍ.

وَالِاسْتِفْزَازُ: طَلَبُ الْفَزِّ، وَهُوَ الْخِفَّةُ وَالِانْزِعَاجُ وَتَرْكُ التَّثَاقُلِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ

لِلْجَعْلِ النَّاشِئِ عَنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ وَالْحَثِّ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَى السِّينِ وَالتَّاءِ، أَيِ اسْتَخِفَّهُمْ وَأَزْعِجْهُمْ.

وَالصَّوْتُ: يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ كَثِيرًا، لِأَنَّ الْكَلَامَ صَوْتٌ مِنَ الْفَمِ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا تَمْثِيلًا لِحَالَةِ إِبْلِيسَ بِحَالِ قَائِدِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.

وَالْإِجْلَابُ: جَمْعُ الْجَيْشِ وَسَوْقُهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَلَبَةِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهِيَ الصِّيَاحُ، لِأَنَّ قَائِدَ الْجَيْشِ إِذَا أَرَادَ جَمْعَ الْجَيْشِ نَادَى فِيهِمْ لِلنَّفِيرِ أَوْ لِلْغَارَةِ وَالْهُجُومِ.

وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعِ الْفَرَسِ. وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَيْشِ الْفُرْسَانُ. وَمِنْهُ

قَول النبيء ﷺ. «يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي»

. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ صَرْفِ قُوَّتِهِ وَمَقْدِرَتِهِ عَلَى الْإِضْلَالِ بِحَالِ قَائِدِ الْجَيْشِ يَجْمَعُ فُرْسَانَهُ وَرِجَالَتَهُ ...

وَلَمَّا كَانَ قَائِدُ الْجَيْشِ يُنَادِي فِي الْجَيْشِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْغَارَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا التَّمْثِيلِ.

وَالرَّجْلُ: اسْمُ جَمْعِ الرِّجَالِ كَصَحْبٍ. وَقَدْ كَانَتْ جُيُوشُ الْعَرَبِ مُؤَلَّفَةً مِنْ رِجَالَةٍ يُقَاتِلُونَ بِالسُّيُوفِ وَمِنْ كَتَائِبِ فُرْسَانٍ يُقَاتِلُونَ بِنَضْحِ النِّبَالِ، فَإِذَا الْتَحَمُوا اجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ جَمِيعًا. قَالَ أُنَيْفُ بْنُ زَبَّانَ النَّبْهَانِيُّ:

وَتَحْتَ نُحُورِ الْخَيْلِ حَرْشَفُ رِجْلَةٍ ... تُتَاحُ لِحَبَّاتِ الْقُلُوبِ نِبَالُهَا

ثُمَّ قَالَ:

فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٍّ سُؤَالُهَا

وَالْمَعْنَى: أَجْمِعْ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَسَائِلَ الْفِتْنَةِ وَالْوَسْوَسَةِ لِإِضْلَالِهِمْ. فَجُعِلَتْ وَسَائِلُ الْوَسْوَسَةِ بِتَزْيِينِ الْمَفَاسِدِ وَتَفْظِيعِ الْمَصَالِحِ كَاخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْجَيْشِ، فَهَذَا تَمْثِيلُ حَالِ الشَّيْطَانِ وَحَالِ مُتَّبِعِيهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِحَالِ مَنْ يَغْزُو قَوْمًا بِجَيْشٍ عَظِيمٍ مِنْ فُرْسَانٍ وَرَجَّالَةٍ.

وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ- بِكَسْرِ الْجِيمِ-، وَهُوَ لُغَةٌ فِي رَجُلٍ مَضْمُومِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ. وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ. وَالْمَعْنَى: بِخَيْلِكَ وَرِجَالِكَ، أَيِ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ.

وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ إِمَّا لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْفِعْلِ لِمَفْعُولِهِ فَهِيَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. وَمَجْرُورُهَا مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ أَجْلِبْ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] وَإِمَّا لِتَضْمِينِ فِعْلِ أَجْلِبْ مَعْنَى اغْزُهُمْ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ.

وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ: أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَهِيَ أَنْعَامُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ إِذْ سَوَّلَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا فِي النِّتَاجِ وَالْحَرْثِ لِلْأَصْنَامِ. وَهِيَ مِنْ مَصَارِفِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الْمُسَوِّلُ لِلنَّاسِ بِاتِّخَاذِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [الْأَنْعَام: ١٣٦] .

وَأَمَّا مُشَارَكَةُ الْأَوْلَادِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ فِي أَحْوَالِ أَوْلَادِهِمْ مِثْلَ تَسْوِيلِهِ لَهُمْ أَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَنْ يَسْتَوْلِدُوهُمْ مِنَ الزِّنَى، وَأَنْ يُسَمُّوهُمْ بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، كَقَوْلِهِمْ:

عَبْدُ الْعُزَّى، وَعَبْدُ اللَّاتِ، وَزَيْدُ مَنَاةَ، وَيَكُونُ انْتِسَابُهُ إِلَى ذَلِكَ الصَّنَمِ.

وَمَعْنَى عِدْهُمْ أَعْطِهِمُ الْمَوَاعِيدَ بِحُصُولِ مَا يَرْغَبُونَهُ كَمَا يُسَوِّلُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ جَعَلُوا أَوْلَادَهُمْ لِلْأَصْنَامِ سَلِمَ الْآبَاءُ مِنَ الثُّكْلِ وَالْأَوْلَادُ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَيُسَوِّلُ لَهُمْ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَتَضْمَنُ لَهُمُ

النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «اعْلُ هُبَلُ» . وَمِنْهُ وَعْدُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ عَذَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ لِإِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَوَعْدِ الْعُصَاةِ بِحُصُولِ اللَّذَّاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي مِثْلَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمُقَامَرَةِ.

وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَعِدْهُمْ لِلتَّعْمِيمِ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ. وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَعِدَهُمْ بِمَا يَرْغَبُونَ لِأَنَّ الْعِدَةَ هِيَ الْتِزَامُ إِعْطَاءِ الْمَرْغُوبِ. وَسَمَّاهُ وَعْدًا لِأَنَّهُ يُوهِمُهُمْ حُصُولَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا يَزَالُونَ يَنْتَظِرُونَهُ كَشَأْنِ الْكَذَّابِ أَنْ يَحْتَزِرَ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْعَاجِلِ لَقُرْبِ افْتِضَاحِهِ فَيَجْعَلُ مَوَاعِيدَهُ كُلَّهَا لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ بِجُمْلَةِ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُورًا.

وَالْغُرُورُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ فِي صُورَةِ الْمَحْبُوبِ الْحَسَنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٩٦]، وَقَوْلِهِ:

زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [١١٢] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا سَوَّلَهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي حُصُولِ الْمَرْغُوبِ إِمَّا بَاطِلٌ لَا يَقَعُ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَكَوْنِهِ غُرُورًا لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِمَا يَقَعُ فِي صُورَةِ الْوَاقِعِ فَهُوَ تَلْبِيسٌ وَإِمَّا حَاصِلٌ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ

بِالْعَاقِبَةِ، مِثْلَ مَا يُسَوِّلُهُ لِلنَّاسِ مِنْ قَضَاءِ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَمَحَبَّةِ الْعَاجِلِ دُونَ تَفْكِيرٍ فِي الْآجِلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَارَنَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ أَو كَونه آئلا إِلَيْهِ بِالْإِضْرَارِ. وَقَدْ بَسَطَ هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنْ كِتَابِ «إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ» .

وَإِظْهَارُ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ دون أَن يُؤْتى بِضَمِيرِهِ الْمُسْتَتِرِ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَوْ كَانَ فِيهَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى لَكَانَ فِي النَّثْرِ شِبْهُ عَيْبِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يَحْسُنُ اشْتِمَالُهَا عَلَى ضَمِيرٍ لَيْسَ من أَجْزَائِهَا.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٦٥]

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)

وَجُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِ قالَ اذْهَبْ [الْإِسْرَاء: ٦٣] . وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٣] وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٤]، فَإِن مَفْهُوم فَمَنْ تَبِعَكَ ومَنِ اسْتَطَعْتَ [الْإِسْرَاء: ٦٤] ذريّة مَنِ قَبِيلِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيُفِيدُ أَنَّ فريقا من درية آدَمَ لَا يَتَّبِعُ إِبْلِيسَ فَلَا يَحْتَنِكُهُ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ أَوْ حَفِظَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي خَاطِرِ إِبْلِيسَ لِيَعْلَمَ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْفَرِيقِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا أَنَّ فَرِيقًا لَا يَحْتَنِكُهُ لِقَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٦٢] . فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالْوَصْفِ وَبِالسَّبَبِ.

فَأَمَّا الْوَصْفُ فَفِي قَوْلِهِ: عِبادِي الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَالْجِنَّ وَأَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مِنْ أُولَئِكَ.

وَأَمَّا السَّبَبُ فَفِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَكَانَ خَيْرَ وَكِيلٍ لَهُمْ إِذْ حَاطَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَحَفِظَهُمْ مِنْهُ.

وَفِي هَذَا التَّوَكُّلِ مَرَاتِب من الانفلات عَنِ احْتِنَاكِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

فَالسُّلْطَانُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَمِرُّ بِحَيْثُ يَكُونُونَ رَعِيَّتَهُ وَمِنْ جُنْدِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ يَسْتَهْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَثُوبُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ، وَكَفَاكَ مِنْ ذَلِكَ دَوَامُ تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ، وَتَصْدِيقُهُمْ

رَسُولَهُ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَنْفُسَهُمْ

عِبَادًا لِلَّهِ مُتَطَلِّبِينَ شُكْرَ نِعْمَتِهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ سَخُفَتْ فِي شَأْنِهِمْ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٩٩- ١٠٠] .

فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ أَبَدًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَنْخَدِعُ لِوَسْوَاسِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُهُ فِيمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِمِقْدَارِ ذَلِكَ الِانْخِدَاعِ يَقْتَرِبُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَهَذَا مَعْنَى

قَول النبيء ﷺ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»

. فَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِتَوْبِيخِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَتَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضمير النبيء ﷺ تَقْرِيبًا لِلنَّبِيءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ. وَمَآلُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتلف الِاعْتِبَار.

[٦٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٦٦]

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصْرِيفِ فِي الْعَالَمِ الْمَشُوبَةِ بِمَا فِيهَا مِنْ نِعَمٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَالدَّالَّةِ بِذَلِكَ الشَّوْبِ عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ وَمُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَسِيَادَةِ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَعَلَيْهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ عَوْدًا إِلَى قَوْله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاء: ١١]

كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ فَرَاجِعْهُ. فَلَمَّا جَرَى الْكَلَامُ عَلَى الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ أُعْقِبَ هُنَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ.

وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]، أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَدَعَوْتُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَوْلُهُ: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٦٧] .

وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ وَمُسْتَحْضَرًا بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِاسْتِدْعَاءِ إِقْبَالِ السَّامِعِينَ عَلَى الْخَبَرِ الْمُؤْذِنِ بِأَهَمِّيَّتِهِ حَيْثُ افْتُتِحَ بِمَا يُتَرَقَّبُ مِنْهُ خَبَرٌ عَظِيمٌ لكَونه من شؤون الْإِلَهِ الْحَقِّ وَخَالِقِ الْخلق ومدبر شؤونهم تَدْبِيرَ اللَّطِيفِ الرَّحِيمِ، فَيُوجِبُ إِقْبَالَ السَّامِعِ بِشَرَاشِرِهِ إِنْ مُؤْمِنًا مُتَذَكِّرًا أَوْ مُشْرِكًا نَاظِرًا مُتَدَبِّرًا.

وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.

وَبِتَعْرِيفِ طَرَفَيْهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْحِصَارِ، أَيْ رَبُّكُمْ هُوَ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَعْبُدُونَهُ بَاطِلًا وَهُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَكُمْ.

وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تكَرر ذَلِك وتحدده. فَحَصَلَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى إِيجَازِهَا مَعَانٍ جَمَّةٌ خُصُوصِيَّةٌ. وَفِي ذَلِكَ حَدُّ الْإِعْجَازِ.

وَيُزْجِي: يَسُوقُ سَوْقًا بَطِيئًا شَبَّهَ تَسْخِيرَ الْفُلْكِ لِلسَّيْرِ فِي الْمَاءِ بِإِزْجَاءِ الدَّابَّةِ الْمُثْقَلَةِ بِالْحِمْلِ.

وَالْفُلْكُ هُنَا جَمْعٌ لَا مُفْرَدٌ. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ فَيَشْمَلُ الْأَنْهَارَ كَالْفُرَاتِ وَالدِّجْلَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] .

وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَالْفَضْلُ: الرِّزْقُ، أَيْ لِلتِّجَارَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٨] . وَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَى

النَّاسِ كُلِّهِمْ مُنَاسِبٌ لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ عَرَبُ الْيَمَنِ وَعَرَبُ الْعِرَاقِ وَالنَّاسُ غَيْرُهُمْ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا تَعْلِيلٌ وَتَنْبِيهٌ لِمَوْقِعِ الِامْتِنَانِ لِيَرْفُضُوا عِبَادَةَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي هَذِه الْمِنَّة.

[٦٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٦٧]

وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا (٦٧)

بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى حَقِّ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ صُنْعِهِ بِاعْتِرَافِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ إِقْرَارَهُمْ بِانْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ ثُمَّ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ مُنَاقَضَةِ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ زَوَالِ اضْطِرَارِهِمْ.

فَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ إِذْ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ عَنْ فِعْلِهِ إِخْبَارًا حَقِيقِيًّا.

وَجُمْلَةُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ.

وَضُرُّ الْبَحْرِ: هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْغَرَقِ لِأَنَّهُ يُزْعِجُ النُّفُوسَ خَوْفًا، فَهُوَ ضُرٌّ لَهَا.

وضَلَّ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ فِعْلٌ مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ سُلُوكُ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوَصِّلَةٍ لِلْمَقْصُودِ خَطَأً.

وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَمَلِ اللِّسَانِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، أَيْ مَنْ يَتَكَرَّرُ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ. فَالْمَعْنَى غَابَ وَانْصَرَفَ ذِكْرُ الَّذِينَ عَادَتُكُمْ دُعَاؤُهُمْ عَنْ أَلْسِنَتِكُمْ فَلَا تَدْعُونَهُمْ، وَذَلِكَ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الدُّعَاءِ هُنَا الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ اللِّسَانُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَهُمْ هُوَ ضَلَالُ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ تَارَةً كَمَا تَجْرِي أَسْمَاءُ الْأَصْنَامِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ تَدْعُونَ خَاصًّا بِأَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُ دُعَاؤُهُمْ إِيَّاهَا دُونَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّجَدُّدِ فَإِذَا اشْتَدَّ بِهِمُ الضُّرُّ دَعَوُا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥] . وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا. وَنَصْبُ الْمُسْتَثْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَرْيًا عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى. وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَرْجَحُ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ:

أَعْرَضْتُمْ.

وَالْإِعْرَاضُ: التَّرْكُ، أَيْ تَرَكْتُمْ دُعَاءَ اللَّهِ، بِقَرِينَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْمُضَارع من إِفَادَة التَّجَدُّدِ وَبَيْنَ مُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنِ انْحِصَارِ الدُّعَاءِ فِي الْكَوْنِ بِاسْمِهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: إِلَى الْبَرِّ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِتَضْمِينِ نَجَّاكُمْ مَعْنَى أَبْلَغَكُمْ وَأَوْصَلَكُمْ.

وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ لِزِيَادَةِ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ.

وَ«الْكَفُورُ» صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ. وَالْكُفْرُ ضِدُّ الشُّكْرِ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ. فَهَذَا الِاسْتِغْرَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَالِبِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِشْرَاكِ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَفُورًا رَاجِعَةً إِلَى قُوَّةِ صِفَةِ الْكُفْرَانِ أَوْ عَدَمِ الشُّكْرِ فَإِنَّ أَعْلَاهُ إِشْرَاكُ غَيْرِ الْمُنْعِمِ مَعَ الْمُنْعِمِ فِي نِعْمَةٍ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْرَاقُ حَقِيقِيًّا، أَيْ كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَفُورًا، أَيْ غَيْرَ خَالٍ مِنَ الْكُفْرَانِ، فَتَكُونُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ رَاجِعَةً إِلَى كَثْرَةِ أَحْوَالِ الْكُفْرَانِ مَعَ تَفَاوُتِهَا. وَكَثْرَةُ كُفْرَانِ الْإِنْسَانِ هِيَ تَكَرُّرُ إِعْرَاضِهِ عَنِ الشُّكْرِ فِي مَوْضِعِ

الشُّكْرِ ضَلَالًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً لِإِسْنَادِهِ النِّعَمَ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ دُونَ مُنْعِمِهَا وَلِفَرْضِهِ مُنْعِمِينَ وَهْمِيِّينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْإِنْعَامِ.

وَذِكْرُ فِعْلِ (كَانَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَانَ مُسْتَقِرٌّ فِي جِبِلَّةِ هَذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَشْعُرُ بِمَا وَرَاءَ عَالَمِ الْحِسِّ فَإِنَّ الْحَوَاسَّ تَشْغَلُهُ بِمُدْرِكَاتِهَا عَنْ التَّفَكُّرِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْحَافِظَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ بِالْفِكْرِ.

وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ كَانَتْ شَوَاغِلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ مُغَطِّيَةً عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ مُدْرَكَاتِ الْحَوَاسِّ مِنْهَا الْمُلَائِمُ لِلنَّفْسِ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَمِنْهَا الْمُنَافِرُ لَهَا. فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَدْرَكَ الْمُلَائِمَ لَمْ يَشْعُرْ بِقُدْرَةٍ عِنْدَهُ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ حَتَّى صَارَ عَادَةً فَذُهِلَ عَمَّا فِيهِ مِنْ نَفْعٍ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْمُنَافِرَ اسْتَذْكَرَ فُقْدَانَ الْمُلَائِمِ فَضَجَّ وَضَجِرَ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١] . وَلِهَذَا قَالَ الْحُكَمَاءُ: الْعَافِيَةُ تَاج على رُؤُوس الْأَصِحَّاءِ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمَرْضَى فَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ [الْإِسْرَاء: ٦٨] الْآيَةَ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَابِ النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ تَذْكِيرُهَا بِنِعَمِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥] لِيَقُومَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ مقَام معاهدتها.

[٦٨، ٦٩]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)

تَفْرِيعٌ عَلَى جملَة أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ، وَفُرِّعَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الشُّكْرِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ.

وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ الْأَرْضِ فِي بَاطِنِهَا مِنَ الزِّلْزَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥] .

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ فِي الْبَرِّ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْسَوْنَهَا فَلَوْ حَدَثَ لَكُمْ خَسْفٌ لَهَلَكْتُمْ هَلَاكًا لَا نَجَاةَ لَكُمْ مِنْهُ بِخِلَافِ هَوْلِ الْبَحْرِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ السَّلَامَةُ فِي الْبَرِّ غَيْرُ مُدْرَكٍ قَدْرُهَا قَلَّ أَنْ تَشْعُرَ النُّفُوسُ بِنِعْمَتِهَا وَتَشْعُرَ بِخَطَرِ هَوْلِ الْبَحْرِ فَيَنْبَغِي التَّدَرُّبُ عَلَى تَذَكُّرِ نِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِنَ الضُّرِّ ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ السَّلَامَةِ مُعَرَّضٌ إِلَى الْأَخْطَارِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ إِنْكَارِي وَتَوْبِيخِي.

وَالْجَانِبُ: هُوَ الشِّقُّ. وَجَعْلُ الْبَرِّ جَانِبًا لِإِرَادَةِ الشِّقِّ الَّذِي يُنْجِيهِمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّاطِئُ الَّذِي يَرْسُونَ عَلَيْهِ، إِشَارَةً إِلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْخَوْفِ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ حُلُولِهِمْ بِالْبَرِّ بِحَيْثُ يَخْسِفُ بِهِمْ ذَلِكَ الشَّاطِئَ، أَيْ أَنَّ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيَّانِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَوِيَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الْجَانِبِ إِلَى الْبِرِّ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ.

وَالْبَاءُ فِي يَخْسِفَ بِكُمْ لِتَعْدِيَةِ يَخْسِفَ بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ.

وَالْحَاصِبُ: الرَّامِي بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ. يُقَالُ: حَصَبَهُ، وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ، أَيْ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ عَارِضًا حَاصِبًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِالَّذِي يَرْمِي الْحَصْبَاءَ، أَيْ مَطَرَ حِجَارَةٍ، أَيْ بَرَدٌ يُشْبِهُ الْحِجَارَةَ، وَقِيلَ: الْحَاصِبُ هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحَصْبَاءِ، فَصُوغَ اسْمُ فَاعِلٍ لَهُ مِنْ بَابِ فَاعِلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّسَبِ مِثْلُ لِابْنٍ وَتَامِرٍ.

وَالْوَكِيلُ: الْمُوَكَّلُ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِمُهِمِّ مُوَكِّلِهِ، وَالْمُدَافِعُ عَنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ، أَيْ لَا تَجِدُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَنْ يُجَادِلُنَا عَنْكُمْ أَوْ يُطَالِبُنَا بِمَا أَلْحَقْنَاهُ بِكُمْ مِنَ الْخَسْفِ أَوِ الْإِهْلَاكِ بِالْحَاصِبِ، أَيْ لَا تَجِدُوا مِنْ قَوْمِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ مَنْ يَثْأَرُ لَكُمْ

كَشَأْنِ مَنْ يَلْحَقُهُ ضُرٌّ فِي قَوْمِهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ وَيُطَالِبَ بِدَمِهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَعِصَابَتُهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لِمَا يَقَعُ فِي الْبَرِّ مِنَ الْحَدَثَانِ.

وَ(أَمْ) عَاطِفَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، أَي بل أأمنتم، فَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ مَعَ (أَمْ) لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِ، أَيْ أَوْ هَلْ كُنْتُمْ آمَنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ.

وَالتَّارَةُ: الْمَرَّةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، قِيلَ عَيْنُهُ هَمْزَةٌ ثُمَّ خُفِّفَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُودِهِ مَهْمُوزًا وَهُمْ لَا يَهْمِزُونَ حَرْفَ الْعِلَّةِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَأَمَّا تَخْفِيفُ الْمَهْمُوزِ فَكَثِيرٌ مِثْلُ: فَأْسٍ وَفَاسٍ، وَكَأْسٍ وَكَاسٍ.

وَمَعْنَى أَنْ يُعِيدَكُمْ أَنْ يُوجِدَ فِيكُمُ الدَّوَاعِيَ إِلَى الْعَوْدِ تَهْيِئَةً لِإِغْرَاقِكُمْ وَإِرَادَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَتَفْرِيعٌ فَيُرْسِلَ عَلَيْهِ.

وَالْقَاصِفُ: الَّتِي تَقْصِفُ، أَيْ تَكْسِرُ. وَأَصْلُ الْقَصْفِ: الْكَسْرُ. وَغَلَبَ وَصْفُ الرِّيحِ بِهِ. فَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُؤَنَّثِ فَلَمْ يُلْحِقُوهُ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ، مِثْلَ عاصِفٌ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢] . وَالْمَعْنَى: فَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ رِيحًا قَاصِفًا، أَيْ تَقْصِفُ الْفُلْكَ، أَيْ تُعْطِبُهُ بِحَيْثُ يَغْرَقُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَيُغْرِقَكُمْ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ الرِّيحِ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الرِّيَاحِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.

وَالْبَاءُ فِي بِما كَفَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَ(مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِكُفْرِكُمْ، أَيْ شِرْكِكُمْ.

وَ(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي التَّهْدِيدِ بِعَدَمِ وُجُودِ مُنْقِذٍ لَهُمْ، بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِالْغَرَقِ لِأَنَّ الْغَرِيقَ قَدْ يَجِدُ مُنْقِذًا.

وَالتَّبِيعُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّابِعِ، أَيِ الْمُتَتَبِّعُ غَيْرَهُ الْمُطَالِبُ لِاقْتِضَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ. أَيْ لَا تَجِدُوا مَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ وَلَا مَنْ يُطَالِبُ لَكُمْ بِثَأْرٍ.

وَوَصْفُ (تَبِيعٍ) يُنَاسِبُ حَالَ الضُّرِّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ الْبَحْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ رِجَالُ قَبِيلَةِ الْقَوْمِ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، فَلَوْ رَامُوا الثَّأْرَ لَهُمْ لَرَكِبُوا الْبَحْرَ لِيُتَابِعُوا آثَارَ مَنْ أَلْحَقَ بِهِمْ ضُرًّا. فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا تَبِيعًا وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَكِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ.

وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الْإِغْرَاقِ الْمَفْهُوم من فَيُغْرِقَكُمْ، وَإِمَّا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِرْسَالِ الْقَاصِفِ وَغَيْرِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلْفَاظَ يَخْسِفَ ويُرْسِلَ ويُعِيدَكُمْ وفَيُرْسِلَ وفَيُغْرِقَكُمْ خَمْسَتُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَتُغْرِقَكُمْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرِّيحِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، أَوْ عَلَى الرِّيَاحِ عَلَى قِرَاءَةِ أبي جَعْفَر.

[٧٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٧٠]

وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (٧٠)

اعْتِرَاضٌ جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَاعْترضَ بِذكر نعْمَة عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَأَشْبَهَ التَّذْيِيلَ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِهِ مَا يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ.

وَالْمُرَادُ بِبَنِي آدَمَ جَمِيعُ النَّوْعِ، فَالْأَوْصَافُ الْمُثْبَتَةُ هُنَا إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ لِلنَّوْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ.

وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ خَمْسَ مِنَنٍ: التَّكْرِيمَ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ، وَالرِّزْقَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّفْضِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.

فَأَمَّا مِنَّةُ التَّكْرِيمِ فَهِيَ مَزِيَّةٌ خَصَّ بِهَا اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.

وَالتَّكْرِيمُ: جَعْلُهُ كَرِيمًا، أَيْ نَفِيسًا غَيْرَ مَبْذُولٍ وَلَا ذَلِيلٍ فِي صُورَتِهِ وَلَا فِي حَرَكَةِ مَشْيِهِ وَفِي بَشَرَتِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ لَا يَعْرِفُ النَّظَافَةَ وَلَا اللِّبَاسَ وَلَا تَرْفِيهَ الْمَضْجَعِ وَالْمَأْكَلِ وَلَا حُسْنَ كَيْفِيَّةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا الِاسْتِعْدَادَ لِمَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعَ مَا يَضُرُّهُ وَلَا شُعُورَهُ بِمَا فِي ذَاتِهِ وَعَقْلِهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ فَيَسْتَزِيدُ مِنْهَا وَالْقَبَائِحَ فَيَسْتُرُهَا وَيَدْفَعُهَا، بَلْهُ الْخُلُوَّ عَنِ الْمَعَارِفِ وَالصَّنَائِعِ وَعَنْ قَبُولِ التَّطَوُّرِ فِي أَسَالِيبِ حَيَاتِهِ وَحَضَارَتِهِ. وَقَدْ مَثَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلتَّكْرِيمِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِشُ الطَّعَامَ بفمه بل بِرَفْعِهِ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ وَلَا يَكْرَعُ فِي الْمَاءِ بَلْ يَرْفَعُهُ إِلَى فِيهِ بِيَدِهِ، فَإِنَّ رَفْعَ الطَّعَامِ بِمِغْرَفَةٍ وَالشَّرَابِ بِقَدَحٍ فَذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ التَّكْرِيمِ وَهُوَ تَنَاوُلٌ بِالْيَدِ.

وَالْحَمْلُ: الْوَضْعُ عَلَى الْمَرْكَبِ مِنَ الرَّوَاحِلِ. فَالرَّاكِبُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَرْكُوبِ.

وَأَصْلُهُ فِي رُكُوبِ الْبَرِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُمُ الرَّوَاحِلَ وَأَلْهَمَهُمُ اسْتِعْمَالَهَا.

وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ الْحُصُولُ فِي دَاخِلِ السَّفِينَةِ. وَإِطْلَاقُ الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْحُصُولِ اسْتِعَارَةٌ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَشَاعَتْ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ، قَالَ تَعَالَى:

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] . وَمَعْنَى حَمْلِ اللَّهِ النَّاسَ فِي الْبَحْرِ: إِلْهَامُهُ إِيَّاهُمُ اسْتِعْمَالَ السُّفُنِ وَالْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، فَجُعِلَ تَيْسِيرُ ذَلِكَ كَالْحَمْلِ.

وَأَمَّا الرِّزْقُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَطْعَمَ مَا يَشَاءُ مِمَّا يَرُوقُ لَهُ، وَجَعَلَ فِي الطُّعُومِ أَمَارَاتٍ عَلَى النَّفْعِ، وَجَعَلَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِنْسَان من المطعومات أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلَّا أَشْيَاءَ اعْتَادَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْإِنْسِيَّةِ وَالْحَضَارَةِ أَكْثَرُهَا اتِّسَاعًا فِي تَنَاوُلِ الطُّعُومِ.

وَأَمَّا التَّفْضِيلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ الْمُشَاهَدُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ. وَذَلِكَ الَّذِي جِمَاعُهُ تَمْكِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ بِرَأْيِهِ وَحِيلَتِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ تَفْضِيلًا عَلَى الْبَقِيَّةِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّفْضِيلِ وَالتَّكْرِيمِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالتَّكْرِيمُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَكْرِيمِهِ فِي ذَاتِهِ، وَالتَّفْضِيلُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى تَشْرِيفِهِ فَوْقَ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُ فَضَّلَهُ بِالْعَقْلِ الَّذِي بِهِ استصلاح شؤونه وَدَفْعُ الْأَضْرَارِ عَنْهُ وَبِأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، هَذَا هُوَ التَّفْضِيلُ الْمُرَادُ.

وَأَمَّا نِسْبَةُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَأَنْوَاعٍ من الموجودات الْخفية عَنَّا كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنّ فَلَيْسَتْ بمقصودة هُنَا وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَدِلَّةٍ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ قِبَلِ الشَّرِيعَةِ. فَلَا تُفْرَضُ هُنَا

مَسْأَلَةُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَفَاصِيلِهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدْ فَرَضَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا عَلَى عَادَتِهِ مِنْ التَّحَكُّكِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالتَّعَسُّفِ لِإِرْغَامِ الْقُرْآنِ عَلَى تَأْيِيدِ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْأَدَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاسْتَوْجَبَ الْغَضَاضَةَ وَالْمَلَامَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ إِقْحَامَ لَفْظِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا مُرَاد مِنْهُ التَّقْيِيد وَالِاحْتِرَازُ وَالتَّعْلِيمُ الَّذِي لَا غُرُورَ فِيهِ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ مُفَضَّلٍ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ تَكُونُ مُسَاوِيَةً أَوْ أَفْضَلَ إِجْمَالًا أَوْ تَفْصِيلًا، وَتَبْيِينُهُ يُتَلَقَّى مِنَ الشَّرِيعَةِ فِيمَا بَيَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا سَكَتَتْ فَلَا نَبْحَثُ عَنْهُ.

وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: تَفْضِيلًا لِإِفَادَةِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ، أَيْ تَفْضِيلًا كَبِيرًا

[٧١، ٧٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٧١ الى ٧٢]

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)

انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ التَّهْدِيدِ بِعَاجِلِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا [الْإِسْرَاء: ٦٦- ٦٩] إِلَى ذِكْرِ حَالِ النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. وَلَا يَحْسُنُ لَفْظُ (يَوْمَ) لِلتَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٠] عَلَى أَنْ يَكُونَ تَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ التَّفْضِيلِ إِلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ فَوَائِدُ التَّفْضِيلِ، فَتَرَجَّحَ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، فَفَتْحَةُ يَوْمَ إِمَّا فَتْحَةَ إِعْرَابٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي ابْتِدَاءِ الْعِبَرِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ» فَيَكُونُ يَوْمَ هُنَا اسْمَ زَمَانٍ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَلَيْسَ ظَرْفًا.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أُوتِيَ لِلتَّفْرِيعِ لِأَنَّ فِعْلَ (اذْكُرِ) الْمُقَدَّرَ يَقْتَضِي أَمْرًا عَظِيمًا مُجملا فَوَقع تَفْصِيله بِذِكْرِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ التَّفْصِيلَ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْإِجْمَالِ.

وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَتْحَتُهُ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لْإِضَافَتِهِ اسْمَ الزَّمَانِ إِلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَن الْفَاء تزاد فِي الْخَبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ

مَا عَدَا سِيبَوَيْهِ وَإِمَّا ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ الَّذِي بَعْدَهُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ

إِلَى قَوْلِهِ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: تَتَفَاوَتُ النَّاسُ وَتَتَغَابَنُ. وَبَيْنَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ بِالتَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ إِلَخْ.

وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ، أَيْ يُعْمَلُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ أَوْ سِيرَتِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُبَيِّنُ الْدِّينِ: مِنْ دِينِ حَقٍّ لِلْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ وَمِنْ دِينِ كُفْرٍ وَبَاطِلٍ لِلْأُمَمِ الضَّالَّةِ.

وَمَعْنَى دُعَاءِ النَّاسِ أَنْ يُدْعَى يَا أُمَّةَ فُلَانٍ وَيَا أَتْبَاعَ فُلَانٍ، مِثْلُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا أُمَّةَ مُوسَى، يَا أُمَّةَ عِيسَى، وَمِثْلُ: يَا أُمَّةَ زُرَادَشْتَ. وَيَا أُمَّةَ بَرْهَمَا، وَيَا أُمَّةَ بُوذَا، وَمِثْلُ: يَا عَبَدَةَ الْعُزَّى، يَا عَبَدَةَ بَعْلَ، يَا عَبَدَةَ نَسْرٍ.

وَالْبَاءُ لتعدية فعل نَدْعُوا لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، يُقَالُ: دَعَوْتُهُ بِكُنْيَتِهِ وَتَدَاعَوْا بِشِعَارِهِمْ.

وَفَائِدَةُ ندائهم بمتبوعيهم التَّعْجِيل بِالْمَسَرَّةِ لِاتِّبَاعِ الْهُدَاةِ وَبِالْمَسَاءَةِ لِاتِّبَاعِ الْغُوَاةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا بِذَلِكَ رَأَوْا مَتْبُوعِيهِمْ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُمْ فَعَلِمُوا مَصِيرَهُمْ.

وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تَفْرِيعَ التَّفْصِيلِ لِمَا أجمله قَوْله:

نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، أَي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ، أَيْ كِتَابَ أَعْمَالِهِ بِيَمِينِهِ.

وَقَوْلُهُ: فَمَنْ أُوتِيَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ قَوْله: نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أَيْ فَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ، أَيْ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ.

وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ إِلْهَامُ صَاحِبِهِ إِلَى تَنَاوُلِهِ بِالْيَمِينِ. وَتِلْكَ عَلَامَةُ عِنَايَةٍ بِالْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يَعْزِمُ عَمَلًا عَظِيمًا قَالَ تَعَالَى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة:

٤٥]،

وَقَالَ النبيء ﷺ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طيبا- تلقاها الرحمان بِيَمِينِهِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ...»

إِلَخْ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ


وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، كَمَا فِي آيَةِ الْحَاقَّةِ [٢٥] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ.

وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ فَاءِ جَوَابِ (أَمَّا)، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ دون غَيرهم يقرؤون كِتَابَهُمْ، لِأَنَّ فِي اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ مَسَرَّةً لَهُمْ وَنَعِيمًا بِتَذَكُّرِ

وَمَعْرِفَةِ ثَوَابِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ صَحِيفَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَسُرُّ وَعَلَى تَذَكُّرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا يُطَالِعُ الْمَرْءُ أَخْبَارَ سَلَامَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَرَفَاهَةِ حَالِهِمْ، فَتَوَفُّرُ الرَّغْبَةِ فِي قِرَاءَةِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ شِنْشِنَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ فَسَكَتَ عَنْ قِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ هُنَا. وَوَرَدَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الْإِسْرَاء: ١٣- ١٤] .

وَالظُّلْمُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا بِمَعْنَى النَّقْصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الْكَهْف: ٣٣]، لِأَنَّ غَالِبَ الظُّلْمِ يَكُونُ بِانْتِزَاعِ بَعْضِ مَا عِنْدَ الْمَظْلُومِ فَلَزِمَهُ النُّقْصَانُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُعْطَاهُ مِنَ الْجَزَاءِ مِمَّا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي ازْدِيَادِهِ.

وَالْفَتِيلُ: شِبْهُ الْخَيْطِ تَكُونُ فِي شَقِّ النَّوَاةِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٩]، وَهُوَ مَثَلٌ لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ التَّافِهِ، أَيْ لَا يَنْقُصُونَ شَيْئًا وَلَوْ قَلِيلًا جِدًّا.

وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عَطْفُ الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ فَهُوَ من حَيِّزِ «أَمَّا» التَّفْصِيلِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمَّا من كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، وَلَمَّا كَانَ الْقَسِيمُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هُمْ مَنْ أُوتُوا كِتَابَهُمْ بِالْيَمِينِ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُؤْتَى

كِتَابَهُ بِالشَّمَالِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ وَأُتِيَ لَهُ بِصِلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ كَوْنُهُ أَعْمَى حُكْمًا آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِ الْفَظِيعَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي الدُّنْيَا الضَّلَالَةُ فِي الدِّينِ، أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْعَمَى عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي الْآخِرَةِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْعَمَى مِنَ الْحَيْرَةِ وَاضْطِرَابِ الْبَالِ، فَالْأَعْمَى أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِمُشَابِهِ الْأَعْمَى بِإِحْدَى الْعَلَاقَتَيْنِ.

وَوَصْفُ أَعْمى فِي الْمَرَّتَيْنِ مُرَادٌ بِهِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ لَا التَّفْضِيلُ. وَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِي أَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ أَقْوَى مِنْهُ فِي حَالِهِ فِي الدُّنْيَا أُشِيرَ إِلَى شِدَّةِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا الْقَائِمِ مَقَامَ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ فِي الْعَمَى لِكَوْنِ وَصْفِ (أَعْمَى) غَيْرَ قَابِلٍ لِأَنْ يُصَاغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِأَنَّهُ جَاءَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ فِي حَالِ الْوَصْفِ.

وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ (أَشَدَّ) وَنَحْوِهِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى التَّفْضِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اشْتِقَاقِ صِيغَةِ

(أَفْعَلَ) لِيَتَأَتَّى ذِكْرُ السَّبِيلِ، لِمَا فِي الضَّلَالِ عَنِ السَّبِيلِ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِ الْعَمَى وَإِيضَاحِهِ، لِأَنَّ ضَلَالَ فَاقِدِ الْبَصَرِ عَنِ الطَّرِيق فِي حَال السَّيْرُ أَشَدَّ وَقْعًا فِي الْإِضْرَارِ مِنْهُ وَهُوَ قَابِعٌ بِمَكَانِهِ، فَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْوَجِيزِ إِلَى التَّرْكِيبِ الْمُطْنِبِ لِمَا فِي الْإِطْنَابِ مِنْ تَمْثِيلِ الْحَالِ وَإِيضَاحِهِ وَإِفْظَاعِهِ وَهُوَ إِطْنَابٌ بَدِيعٌ. وَقَدْ أُفِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ عَمَاهُ فِي الدَّارَيْنِ عَمَى ضَلَالٍ عَنِ السَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ. وَمَعْنَى الْمُفَاضَلَةِ رَاجِعٌ إِلَى مُفَاضَلَةِ إِحْدَى حَالَتَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فِي الضَّلَالِ وَأَثَرِهِ لَا إِلَى حَالِ غَيْرِهِ. فَالْمَعْنَى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا.

وَوَجْهُ كَوْنِ ضَلَالِهِ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ أَنَّ ضَلَالَهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ فِي مُكْنَتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ بِطَلَبِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَى السَّبِيلِ الْمُوصِلُ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ خَلِيًّا عَنْ لَحَاقِ الْأَلَمِ بِهِ، وَأَمَّا ضَلَالُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ ضَلَالٌ لَا خَلَاصَ مِنْهُ وَهُوَ مُقَارِنٌ لِلْعَذَابِ الدَّائِمِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ ضَلَالُهُ فِي الْآخِرَةِ أَدْخَلَ فِي حَقِيقَةِ الضلال وماهيته.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٧٣]

وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣)

حِكَايَةُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ ضَلَالِهِمْ وَعَمَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: ٧٢]، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ وَصْفِ حَالِهِمْ وَإِبْطَالِ مَقَالِهِمْ فِي تَكْذِيب النبيء ﷺ إِلَى ذِكْرِ حَالٍ آخَرَ مِنْ حَالِ مُعَارَضَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَهِيَ حَالُ طَمَعِهِمْ فِي أَنْ يستنزلوا النبيء ﷺ لِأَنْ يَقُولَ قَوْلًا فِيهِ حُسْنُ ذِكْرٍ لَآلِهَتِهِمْ لِيَتَنَازَلُوا إِلَى مُصَالَحَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ إِذَا وَافَقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ.

وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ مُرَادٌ مِنْهَا كُفَّارُ قُرَيْش، أَي متولوا تَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ.

وَغَيْرُ الْأُسْلُوبِ مِنْ خِطَابِهِمْ فِي آيَاتِ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الْإِسْرَاء: ٦٦] إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى خطاب النبيء ﷺ لِتَغَيُّرِ الْمَقَامِ مِنْ مَقَامِ اسْتِدْلَالٍ إِلَى مَقَامِ امْتِنَانٍ.

وَالْفَتْنُ وَالْفُتُونُ: مُعَامَلَةٌ يَلْحَقُ مِنْهَا ضُرُّ وَاضْطِرَابُ النَّفْسِ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُعَامَلَةِ يَعْسُرُ دَفْعُهَا، مِنْ تَغَلُّبٍ عَلَى الْقُوَّةِ وَعَلَى الْفِكْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [١٩١] .

وعدي لَيَفْتِنُونَكَ بِحَرْفِ (عَنْ) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى فِعْلٍ كَانَ الْفَتْنُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مَا فِيهِ

مَعْنَى (يَصْرِفُونَكَ) .

وَالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ.

هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ مَعَانِي تَرَاكِيبِهَا مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا تَقْتَضِيهِ أَدِلَّةُ عصمَة الرَّسُول ﷺ مِنْ أَنْ تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ خَوَاطِرُ إِجَابَةِ الْمُشْرِكِينَ لِمَا يَطْمَعُونَ.

وَلِلْمُفَسِّرِينَ بِضْعَةُ مَحَامِلَ أُخْرَى لِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتَقْصَاهَا الْقُرْطُبِيُّ، فَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْقَبُولِ لِوَهَنِ سَنَدِهِ وَعَدَمِ انْطِبَاقِهِ عَلَى مَعَانِي الْآيَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَتَتَحَمَّلُهُ الْآيَةُ بِتَكَلُّفٍ. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ راودوا النبيء ﷺ أَنْ لَا يُسَوِّيَهُمْ مَعَ مَنْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عِنْدَهُمْ مِثْلِ: بِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَخَبَّابٍ، وَصُهَيْبٍ، وَأَنَّهُمْ وَعَدُوا النَّبِيءَ إِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْلِسُوا إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ حِين لَا يَكُونُ فِيهِ تَنْقِيصُ آلِهَتِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ بَعْضَ اللِّينِ رَغْبَةً فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ بَعْضَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَهُوَ مَا فِيهِ فَضْلُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَة [الْأَنْعَام: ٥٢]، أَوْ مَا فِيهِ تنقيص الْأَصْنَامِ.

وَسِمَاتُ التَّخَرُّصِ وَضِيقِ الْعَطَنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِحَاقِّ أَلْفَاظِهَا بَادِيَةٌ عَلَى جَمِيعِ هَاتِهِ الْأَخْبَارِ. وَإِذْ قَدْ مُلِئَتْ بِهَا كُتُبُ التَّفْسِيرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَمْثَلِ مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَخْبَارَ لِئَلَّا تَكُونَ فِتْنَةً لِلنَّاظِرِينَ فَنَقُولُ:

إِنَّ رَغْبَة النبيء ﷺ فِي اقْتِرَابِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَفِي تَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ، أَجَالَتْ فِي خَاطِرِهِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى بَعْضِ مَا دَعَوْهُ إِلَيْهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى تَخْفِيفِ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ أَوْ إِنْظَارِهِمْ أَوْ إِرْضَاءِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِالتَّخَلِّي عَنْ مَجْلِسِهِ حِينَ يَحْضُرُهُ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُنْتَدَبُونَ إِلَى ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَيْسَ فِيهِ فَوَاتُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ كَادُوا يَصْرِفُونَكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لما سَأَلُوهُ.

فالموصول فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِلْعَهْدِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْد النبيء ﷺ بِحَسَبِ مَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْمَنِّ عَلَى النَّبِيءِ بِعِصْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَمَسَاقُ إِظْهَارِ مِلَلِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَخَوُّفِهِمْ مِنْ عَوَاقِبِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَتَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَنْ

يَكُونَ.

وَقَوْلُهُ: لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ مُتَعَلق ب لَيَفْتِنُونَكَ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِضْمَارًا مِنْهُمْ وَطَمَعًا فِي أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، أَيْ غَيْرَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ. وَهَذَا طَمَعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْتَدْرِجُوا النَّبِيءَ مِنْ سُؤَالٍ إِلَى آخَرَ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نِيَّاتِهِمْ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي أَن النبيء- عليه الصلاة والسلام هَمَّ بِذَلِكَ كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، إِذْ لَامُ التَّعْلِيلِ لَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ غَرَضِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ وَلَا تَقْتَضِي غَرَضَ الْمَفْعُولِ وَلَا عِلْمَهُ.

وَ(إِنَّ) مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ فِي لَيَفْتِنُونَكَ هِيَ اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنْ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ (إِنْ) النَّافِيَةِ فَلَا تَقْتَضِي تَأْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ.

وَجُمْلَةُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ. و(إِذا) حَرْفُ جَزَاءٍ وَالنُّونُ الَّتِي بِآخِرِهَا نُونُ كَلِمَةٍ وَلَيْسَتْ تَنْوِينَ تَمْكِينٍ فَتَكُونُ جَزَاء لفعل لَيَفْتِنُونَكَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْمُتَعَلِّقَاتِ مُقْحَمًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ لِتَصِيرَ وَاوُ الْعَطْفِ مَعَ (إِذًا) مُفِيدَةً مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ.

وَوَجْهُ عَطْفِهَا بِالْوَاوِ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَرْفِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي حَاوَرُوا النبيء- عليه الصلاة والسلام فِيهَا وألحوا عَلَيْهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ أَحْوَالِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْ صَرَفُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَوْحَينَا إِلَيْك لَا تخذوك خَلِيلًا. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّخَذُوكَ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَهُوَ لَوْ صَرَفُوكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لَا تخذوك خَلِيلًا.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّخَذُوكَ لَامُ جَوَابِ (لَوْ) إِذْ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا مُثْبَتًا.

وَالْخَلِيلُ: الصَّدِيقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٥]

وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا (٧٥)

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

[الْإِسْرَاء: ٧٣] بِنَاءً عَلَى مَا نَحَوْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى وَمَقَامٌ آخَرُ مِنْ مَقَامِ رَسُول الله ﷺ تِجَاهَ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَكْمِلَةِ مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ الرُّكُونُ إِلَيْهِمْ رُكُونًا فِيمَا سَأَلُوهُ مِنْهُ عَلَى نَحْوِ مَا سَاقَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَ(لَوْلَا) حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ يَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِوُجُودٍ، أَيْ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ جَوَابِهِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِ شَرْطِهِ.

وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَكَانِهِ غَيْرَ مُقَلْقَلٍ وَلَا مَقْلُوعٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْبَقَاءِ عَلَى حَالِهِ غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٥] .

وَعُدِّيَ التَّثْبِيتُ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ الدَّالِّ عَلَى ذَاتِهِ. وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُ فَهْمِهِ وَرَأْيِهِ، وَهَذَا مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَحْوَالِهَا بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْمَقَامِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النِّسَاء: ٢٣] . فَالْمَعْنَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَا رَأْيَكَ فَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ لَقَارَبْتَ أَنْ تَرْكَنَ إِلَيْهِمْ.

وَاللَّامُ فِي لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ جَوَابِ (لَوْلَا)، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِجَوَابِهَا لِتَحْقِيقِ الرَّبْطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ.

وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الرُّكُونَ مُجْمَلٌ فِي أَشْيَاءَ هِيَ مَظِنَّةُ الرُّكُونِ وَلَكِنَّ الرُّكُونَ مُنْتَفٍ مِنْ أَصْلِهِ لِأَجْلِ التَّثْبِيتِ بِالْعِصْمَةِ كَمَا

انْتَفَى أَنْ يَفْتِنَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ تَنْفِيذِ فِتْنَتِهِمْ.

وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: وَلَوْلَا أَنْ عَصَمْنَاكَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَأَرَيْنَاكَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الشِّدَّةِ فِي الدِّينِ وَالتَّنْوِيهِ بِأَتْبَاعِهِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ ضُعَفَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَا تُعَارِضُهَا مَصْلَحَةُ تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِالْغَضَاضَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمِ اسْتِئْلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ إِظْهَارَ الْهَوَادَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ تُطْمِعُ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّرَقِّي إِلَى سُؤَالِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مَدًى مِمَّا سَأَلُوهُ، فَمَصْلَحَةُ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِ الْحَزْمِ مَعَهُمْ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ مُلَايَنَتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ، أَيْ فَلَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ، أَيْ تَوَعَّدْتَهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى بَعْضِ مَا سَأَلُوكَ اسْتِنَادًا لِدَلِيلِ مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ وَاضِحَةٍ وَغَفْلَةً عَنْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ خَفِيَّةٍ اغْتِرَارًا بِخِفَّةِ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ فِي جَانِبِ عِظَمِ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ.

وَالرُّكُونُ: الْمَيْلُ بِالرُّكْنِ، أَيْ بِالْجَانِبِ مِنَ الْجَسَدِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمُوَافَقَةِ بِعَلَاقَةِ الْقُرْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ هُودٍ [١١٣]، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [٨٣] .

وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ تَرْكَنُ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الرُّكُونِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ مَصْدَرِ تَرْكَنُ طَلَبُ الْخِفَّةِ لِأَنَّ مَصْدَرَ تَرْكَنُ وَهُوَ الرُّكُونُ فِيهِ ثِقَلٌ فَتَرْكُهُ أَفْصَحُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَلِيلًا لِأَنَّ تَنْكِيرَ شَيْئًا مُفِيدٌ التَّقْلِيلَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى التَّقْلِيلِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) لتوغلها فِي إِبْهَام جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ جِنْسِ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا مُفِيدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [النِّسَاء: ٢٠] .

وَ(إِذَنْ) الثَّانِيَةُ جَزَاءٌ لِ كِدْتَ تَرْكَنُ، وَلِكَوْنِهَا جَزَاءً فُصِلَتْ عَنِ الْعَطْفِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ. فركون النبيء ﷺ إِلَيْهِمْ غَيْرُ

وَاقِعٍ وَلَا مُقَارِبٍ الْوُقُوعَ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ نَفَتْهُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ، وَهِيَ: (لَوْلَا) الِامْتِنَاعِيَّةُ. وَفِعْلُ الْمُقَارَبَةِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مَا كَانَ يَقَعُ الرُّكُونُ وَلَكِنْ يَقَعُ الِاقْتِرَابُ مِنْهُ، وَالتَّحْقِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ شَيْئًا، وَالتَّقْلِيلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَلِيلًا.

أَيْ لَوْلَا إِفْهَامُنَا إِيَّاكَ وَجْهَ الْحَقِّ لَخَشِيَ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْ رُكُونٍ ضَعِيفٍ قَلِيلٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَدَخَلَتْ (قَدْ) فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَأَصْبَحَ تَحْقِيقُهَا مَعْدُومًا، أَيْ لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَتَحَقَّقَ قُرْبُ مَيْلِكَ الْقَلِيلِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّا ثَبَّتْنَاكَ.

وَجُمْلَةُ إِذًا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ جَزَاءٌ لِجُمْلَةِ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. وَلِمَا فِي (إِذَنْ) مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ اسْتُغْنِيَ عَنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ فَلَأَذَقْنَاكَ.

وَالضِّعْفُ- بِكَسْرِ الضَّادِ-: مُمَاثِلٌ مِقْدَارَ شَيْءٍ ذِي مِقْدَارٍ، فَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُبَيِّنًا بِجِنْسِهِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [النُّور: ٣٠]، أَيْ ضِعْفَيْ مَا أُعِدَّ لِتِلْكَ الْفَاحِشَةِ. وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ سَاغَ إِطْلَاقُهُ دُونَ بَيَانٍ اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السِّيَاقِ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الْإِذَاقَةِ فِي مقَام التحذير ينبىء بِأَنَّهَا إِذَاقَةُ عَذَابٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ ضِعْفٌ.

ثُمَّ إِنَّ الضِّعْفَ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِعَدَمِ حَمْلِ الضِّعْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ عِلْمٌ بِمِقْدَارِ الْعَذَابِ يُرَادُ تَضْعِيفُهُ كَقَوْلِهِ: فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي

سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٨] .

وَإِضَافَةُ الضِّعْفِ إِلَى الْحَيَاةِ وَإِلَى الْمَمَاتِ عَلَى مَعْنَى (فِي)، فَإِنَّ تَقْدِيرَ مَعْنَى (فِي) بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِإِضَافَةِ مَا يُضَافُ إِلَى الْأَوْقَاتِ. فَالتَّقْدِيرُ: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ وَضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، فَضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ هُوَ تَرَاكُمُ الْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاءِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ، أَيِ الْعُمْرِ بِزَوَالِ مَا كَانَ يَنَالُهُ

مِنْ بَهْجَةٍ وَسُرُورٍ بِتَمَامِ دَعْوَتِهِ وَانْتِظَامِ أُمَّتِهِ، ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَعَذَابُ الْمَمَاتِ أَنْ يَمُوتَ مَكْمُودًا مُسْتَذَلًّا بَيْن كُفَّارٍ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ فَازُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفُوا عَلَى السُّقُوطِ أَمَامَهُ.

وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَضِعْفَ الْمَماتِ فِي اسْتِمْرَارِ ضِعْفِ الْحَيَاةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ حَتَّى الْمَمَاتِ.

فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ضِعْفِ الْمَمَاتِ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِأَن النبيء ﷺ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَاجْتِلَابًا لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ فِي نَظَرِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ إِذِ الْعِقَابُ الْأُخْرَوِيُّ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي التَّكْلِيفِ، وَقَدْ سوغ الله لنبيئه الِاجْتِهَاد وَجعل للمخطىء فِي اجْتِهَادِهِ أَجْرًا كَمَا قَرَّرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٨] .

وَأَمَّا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَأَرْزَاؤُهَا فَهِيَ مُسَبَّبَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ مَنِ الْأَغْلَاطِ وَالْأَخْطَاءِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّفَادِي مِنْهَا حُسْنُ النِّيَّةِ إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا قَدْ أَخْطَأَ وَجْهَ الصَّوَابِ، فَتَدَبَّرْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي تَدَبُّرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلِهَذَا خُولِفَ التَّعْبِيرُ الْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَعُبِّرَ هُنَا بِ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ.

وَجُمْلَةُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ لَأَذَقْناكَ.

وَمَوْقِعُهَا تَحْقِيقُ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْإِذَاقَةِ. وَ(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ عَدَمَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ أَهَمُّ مِنْ إِذَاقَتِهِ، فَرُتْبَتُهُ فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَرْقَى. وَالنَّصِيرُ: النَّاصِرُ الْمُخَلِّصُ مِنَ الْغَلَبَةِ أَوِ الَّذِي يَثْأَرُ لِلْمَغْلُوبِ، أَيْ لَا تَجِدُ لِنَفْسِكَ مَنْ يَنْتَصِرُ لَكَ فَيَصُدُّنَا عَنْ إِلْحَاقِ ذَلِكَ بِكَ أَوْ يَثْأَرُ لَك منا.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٧]

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (٧٧)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاء: ٧٣] تِعْدَادًا لِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ.

وَالضَّمَائِرُ مُتَّحِدَةٌ.

وَالِاسْتِفْزَازُ: الْحَمْلُ عَلَى التَّرَحُّلِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ فَزَّ بِمَعْنَى بَارَحَ الْمَكَانَ، أَيْ كَادُوا أَنْ يَسْعَوْا أَنْ تَكُونَ فَازًّا، أَيْ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ:

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [٦٤] . وَالْمَعْنَى: كَادُوا أَنْ يُخْرِجُوكَ مِنْ بَلَدِكَ. وَذَلِكَ بِأَنْ هَمُّوا بِأَنْ يُخْرِجُوهُ كُرْهًا ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ حِينَ خَرَجَ مُهَاجِرًا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ ارْتَأَوْا بَعْدَ زَمَانٍ أَنْ يُبْقُوهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُ.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مِنْ أَرْضِكَ وَهِيَ مَكَّةُ.

وَقَوْلُهُ: لِيُخْرِجُوكَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِفْزَازِ، أَيِ اسْتِفْزَازًا لِقَصْدِ الْإِخْرَاجِ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِخْرَاجِ: مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ دُونَ رُجُوعٍ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ عِلَّةً لِلِاسْتِفْزَازِ لِأَنَّ الِاسْتِفْزَازَ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ.

وَجُمْلَةُ وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ وَ(إِذًا) ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: لَا يَلْبَثُونَ وَهِي (إِذا) الْمُلَازِمَةُ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَا) حَرْفَ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَهِيَ الَّتِي نُونُهَا حَرْفٌ مِنَ الْكَلِمَةِ وَلَكِنْ كَثُرَتْ كِتَابَتُهَا بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الِاسْمِ

الْمُنَوَّنِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبًا بِ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ جَازَ رَفْعُ الْمُضَارِعِ بَعْدَهَا وَنَصْبُهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (إِذًا) ظرفا للزمان، وتنوينها عوض عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ عَاطِفٍ لَمْ يَنْتَصِبْ بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ إِلَّا نَادِرًا لِانْتِفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَلِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ.

وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذًا أَخْرَجُوكَ أَوْ وَإِذًا خَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إِلَّا قَلِيلًا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خَلْفَكَ.

وخَلْفَكَ أُرِيدَ بِهِ بَعْدَكَ. وَأَصْلُ الْخَلْفِ الْوَرَاءُ فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْبَعْدِيَّةِ، أَيْ لَا

يَلْبَثُونَ بَعْدَكَ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ خِلافَكَ وَهُوَ لُغَةٌ فِي خَلْفٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٨١] .

وَاللُّبْثُ: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ لَا يَسْتَقِرُّونَ فِي مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُونَ. وَقَدْ خَرَجَ رَسُول الله ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ مُهَاجِرًا وَكَانُوا السَّبَبَ فِي خُرُوجِهِ فَكَأَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١]، فَلَمْ يَلْبَثِ الَّذِينَ تَسَبَّبُوا فِي إِخْرَاجِهِ وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ قَوْمَهُمْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى وَقْعَةٍ بَدْرٍ فَلَقُوا حَتْفَهُمْ هُنَالِكَ فَلَمْ يَرْجِعُوا وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، وَأَبْقَى الله عامتهم ودهاءهم لِضَعْفِ كَيْدِهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ مُخْرِجِيهِ، أَيِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي خُرُوجِهِ، لَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا قَلِيلًا.

وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا صَاحِبُهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٦]، أَيْ عَادَةُ اللَّهِ فِي كُلِّ

رَسُولٍ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ أَنْ لَا يَبْقَوْا بَعْدَهُ، خَرَجَ هُودٌ مِنْ دِيَارِ عَادٍ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ صَالِحٌ مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَهَلَكَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَإِضَافَةُ سُنَّةَ إِلَى مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، أَيْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هِيَ الْإِضَافَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.

وَانْتَصَبَ سُنَّةَ من مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. فَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمَ مَصْدَرٍ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَنَنَّا ذَلِكَ لِمَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ. فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْفِعْلِ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةَ اسْمًا جَامِدًا فَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ لِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنًى اشْتِقَاقِيٍّ.

وَجُمْلَةُ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ سَبَبِ كَوْنِ لُبْثِهِمْ بَعْدَهُ قَلِيلًا. وَإِنَّمَا سَنَّ اللَّهُ هَذِهِ السُّنَّةَ لِرُسُلِهِ لِأَنَّ تَآمُرَ الْأَقْوَامِ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ يَسْتَدْعِي حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَتُهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَبْقَوْا مَرْمُوقِينَ بِعَيْنِ الْغَضَاضَةِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَأَجْوَارِهِمْ بِشِبْهِ مَا كَانَ يُسَمَّى بِالْخَلْعِ عِنْدَ الْعَرَبِ.

وَجُمْلَةُ وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا اعْتِرَاضٌ لِتَكْمِلَةِ الْبَيَانِ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّنَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلِأَنَّ عَادَتَنَا لَا تَتَحَوَّلُ.

وَالتَّعْبِيرُ ب لَا تَجِدُ مُبَالَغَةٌ فِي الِانْتِفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧] .

وَالتَّحْوِيلُ: تَغْيِيرُ الْحَالِ وَهُوَ التَّبْدِيلُ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ الْحَقْ بِأَرْضِ الشَّامِ فَإِنَّهَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدَّقَ النَّبِيءُ قَوْلَهُمْ فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ

الْآيَةَ، وَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ. وَسَبَبُ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ فَرِيقٌ: إِنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صدر السُّورَة.

[٧٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٧٨]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا (٧٨)

كَانَ شَرْعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِلْأُمَّةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُثْبَتٍ فِي التَّشْرِيعِ الْمُتَوَاتِرِ إِنَّمَا أَبْلَغَهُ النَّبِيءُ أَصْحَابَهُ فَيُوشِكُ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَيَّنَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ تَقَرُّرِ فَرْضِهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَ حَادِثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا لِلتَّشْرِيعِ الَّذِي شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَيَّامَئِذٍ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣] .

فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا عَقِبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا امْتَنَّ على النبيء ﷺ بِالْعِصْمَةِ وَبِالنُّصْرِ ذَكَّرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ يَعْبُدُهُ بِهَا، وَبِالزِّيَادَةِ مِنْهَا طَلَبًا لِازْدِيَادِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا [الْإِسْرَاء: ٧٩] .

فَالْخِطَابُ بِالْأَمر للنبيء ﷺ، وَلَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ خِطَابَ النَّبِيءِ بِتَشْرِيعٍ تَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَشَاعَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ مَا كَانُوا يسْأَلُون عَن اخْتِصَاصِ حُكْمٍ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ

الْقَوِيِّ، كَمَنْ سَأَلَهُ: أَلَنَا هَذِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ.

وَالْإِقَامَةُ: مَجَازٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ وَالْإِدَامَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣] .

وَاللَّامُ فِي لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لَامُ التَّوْقِيتِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (عِنْدَ) .

وَالدُّلُوكُ: مِنْ أَحْوَالِ الشَّمْسِ، فَوَرَدَ بِمَعْنَى زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ قَوْسٍ فَرْضِيٍّ فِي طَرِيقِ مَسِيرِهَا الْيَوْمِيِّ. وَوَرَدَ بِمَعْنَى: مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ مِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَوْسِ وَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَرَدَ بِمَعْنَى غُرُوبِهَا، فَصَارَ لَفْظُ الدُّلُوكِ مُشْتَرَكًا فِي الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ.

وَالْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، وَهِيَ انْقِطَاعُ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ حِينَ يُمَاثِلُ سَوَادُ أُفُقِ الْغُرُوبِ سَوَادَ بَقِيَّةِ الْأُفُقِ وَهُوَ وَقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَيُسَمَّى الْعَتَمَةَ، أَيِ الظُّلْمَةَ.

وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا أَرْبَعَةً، فَالدُّلُوكُ يَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ. وَفُهِمَ مِنْ حَرْفِ (إِلَى) الَّذِي لِلِانْتِهَاءِ أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْغَايَةَ كَانَتْ لِفِعْلِ أَقِمِ الصَّلاةَ فَالْغَايَةُ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَايَةَ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ وَقْتَهَا مُتَّسِعًا، لِأَنَّ هَذَا فَهْمٌ يَنْبُو عَنْهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ مِنْ وُجُوبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ أَوِ الْأَكْمَلُ. وَقَدْ زَادَ عمل النبيء ﷺ بَيَانًا لِلْآيَةِ.

وَأَمَّا مِقْدَارُ الِاتِّسَاعِ فَيُعْرَفُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ. فَكَلِمَةُ «دُلُوكٍ» لَا تُعَادِلُهَا كَلِمَةٌ أُخْرَى.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي «الْمُوَطَّأِ»: أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا فِي «الْمُوَطَّأِ» وَمَوْصُولًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ لِلصُّبْحِ وَقْتًا لَهُ ابْتِدَاءٌ وَنِهَايَةٌ. وَهُوَ أَيْضًا ثَابِتٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ عَدَا الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْهَا الْأَثَرُ. فَتَرَدَّدَتْ

أَنْظَارُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا بَيْنَ وُقُوفٍ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ وَبَيْنَ قِيَاسِ وَقْتِهَا عَلَى أَوْقَاتِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الثَّانِي أَرْجَحُ، لِأَنَّ امْتِدَادَ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْمُصَلِّي وَهِيَ تُنَاسِبُ تَيْسِيرَ الدِّينِ.

وَجُعِلَ الْغَسَقُ نِهَايَةً لِلْأَوْقَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ الْغَسَقِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْمُتَعَارَفُ فِي الْغَايَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) فَعُلِمَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْغَسَقِ وَقْتُ صَلَاةٍ، وَهَذَا جَمْعٌ بَدِيعٌ.

ثُمَّ عَطَفَ قُرْآنَ الْفَجْرِ عَلَى الصَّلاةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيِ الصَّلَاةَ بِهِ. كَذَا قَدَّرَ الْقُرَّاءُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ قُرْآنًا كَقَوْلِه:

فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمّل: ٢٠]، أَيْ صَلُّوا بِهِ نَافِلَةَ اللَّيْلِ.

وَخُصَّ ذِكْرُ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا يُجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ رُكُوعِهَا، وَلِأَنَّ سُنَّتَهَا أَنْ يُقْرَأَ بِسُوَرٍ مِنْ طُوَالِ الْمُفَصَّلِ فَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ لِلْمَأْمُومِينَ أَكْثَرُ فِيهَا وَقِرَاءَتُهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذُّ أَكْثَرُ أَيْضًا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عَطْفَ جُمْلَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْزَمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. فَيُعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ حَتْمٌ.

وَهَذَا مُجْمَلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَوَاتِ. وَمَقَادِيرِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْعُرْفُ فِي مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِوَجْهِ تَخْصِيصِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِاسْمِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَشْهُودَةٌ، أَيْ مَحْضُورَةٌ. وَفُسِّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، كَمَا

وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ»

. وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي

فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. وَأَيْضًا فَهِيَ يَحْضُرُهَا أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ النَّشَاطِ وَبَعْدَهَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَمَاعُ الْقُرْآن حِينَئِذٍ.

[٧٩]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٧٩]

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا (٧٩)

عَطْفٌ عَلَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] فَإِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ لِكَوْنِهِ مَعْمُولًا لفعل أَقِمِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] .

وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقُ بِ «تَهَجَّدْ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَتَحْرِيضًا عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيمِهِ اكْتَسَبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَجُعِلَ مُتَعَلِّقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ فَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَاءُ الْجَزَاءِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ فَصِيحٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦]

وَقَول النبيء ﷺ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»

، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧] .

وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: وَمِنَ اللَّيْلِ فِي مَعْنَى الْإِغْرَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَصْبَ

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] عَلَى الْإِغْرَاءِ فَيَكُونُ فَتَهَجَّدْ تَفْرِيعًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَفْرِيعَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ، وَتَكُونُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى (بَعْضٍ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النِّسَاء: ٤٦] وَهُوَ أَيْضًا حَسَنٌ.

وَضَمِيرُ بِهِ لِلْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَإِنْ كَانَ الْمَعَادُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَذْكُورُ هُنَا مُرَادًا مُطْلَقُهُ، كَقَوْلِكَ. عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا نِصْفُ الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَكَ.

وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَالتَّهَجُّدُ: الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ. فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ مثل التحرج والتأثم.

وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ.

وَاللَّامُ فِي لَكَ متلعقة بِ نافِلَةً وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ نَافِلَةً لِأَجْلِكَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّهَجُّدِ خَاص بالنبيء ﷺ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ فِي عِدَادِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ فَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [٢٠] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَفِي هَذَا الْإِيجَابِ عَلَيْهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ، وَلِهَذَا أُعْقِبَ بِوَعْدِ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. فَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِهِ بِإِيجَابِ التَّهَجُّدِ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعْدٌ.

فَالْمَعْنَى: لِيَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.

وَالْمَقَامُ: مَحَلُّ الْقِيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ الْمَعْدُودُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُوا، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَجْلِسُ.

وَانْتَصَبَ مَقامًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ يَبْعَثَكَ.

وَوَصْفُ الْمَقَامِ بِالْمَحْمُودِ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ. وَالْمَحْمُودُ مَنْ يَقُومُ فِيهِ، أَيْ يُحْمَدُ أَثَرُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِغَنَائِهِ عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا- بِضَمِّ

الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ- أَيْ جَمَاعَاتٍ كُلُّ أمة تتبع نبيئها يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ! حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيءِ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ» .

وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ

فِي قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا قَالَ:

هِيَ الشَّفَاعَةُ

. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» .

وَقَدْ وَرَدَ وَصْفُ الشَّفَاعَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مُفَصَّلًا. وَذَلِكَ مَقَامٌ يَحْمَدُهُ فِيهِ كُلُّ أهل الْمَحْشَر.

[٨٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٠]

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا (٨٠)

لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشُّكْرِ الْفِعْلِيِّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ اللِّسَانِيِّ بِأَنْ يَبْتَهِلَ إِلَى اللَّهِ بِسُؤَالِ التَّوْفِيقِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَانٍ وَالدُّخُولِ إِلَى مَكَانٍ كَيْلَا يَضُرَّهُ أَنْ يَسْتَفِزَّهُ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوهُ مِنْهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ لِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا [الْإِسْرَاء: ٧٩]، فَلَمَّا وَعَدَهُ بِأَنْ يُقِيمَهُ مَقَامًا مَحْمُودًا نَاسَبَ أَنْ يَسْأَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَالَهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ يَقُومُهُ. وَفِي هَذَا التَّلْقِينِ إِشَارَةٌ إِلَهِيَّةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُخْرِجُهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مُهَاجَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قُبَيْلَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ مُقَدِّمَةً لِلْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَالْمُدْخَلُ وَالْمُخْرَجُ- بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِفَتْحِ الْحَرْفِ الثَّالِثِ- أَصْلُهُ اسْمُ مَكَانِ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ. اخْتِيرَ هُنَا الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ دُخُولٌ وَخُرُوجٌ مُيَسَّرَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاقِعَانِ بِإِذْنِهِ. وَذَلِكَ دُعَاءٌ بِكُلِّ دُخُولٍ وَخُرُوجٍ مباركين لتتم الْمُنَاسبَة بَيْنَ الْمَسْئُولِ وَبَيْنَ الْمَوْعُودِ بِهِ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَهَذَا السُّؤَالُ يَعُمُّ كُلَّ مَكَانٍ يَدْخُلُ إِلَيْهِ وَمَكَانٍ يَخْرُجُ مِنْهُ.

والصدق: هُنَا الْكَمَال وَمَا يُحْمَدُ فِي نَوْعِهِ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ فَهُوَ كَالْكَاذِبِ لِأَنَّهُ يُخْلِفُ ظَنَّ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ.

وَقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ جَمِيعَ الْمَدَاخِلِ إِلَى مَا يُقَدَّرُ لَهُ الدُّخُولُ إِلَيْهِ وَجَمِيعَ الْمَخَارِجِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَعَطَفَ عَلَيْهِ سُؤَالَ التَّأْيِيدِ

وَالنَّصْرِ فِي تِلْكَ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخَارِجِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْقَائِمِ بِهَا غَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَعْدَائِهِ بِنَصْرِ أَتْبَاعِهِ وَخَذْلِ أَعْدَائِهِ.

فَالسُّلْطَانُ: اسْمُ مَصْدَرٍ يُطْلَقُ عَلَى السُّلْطَةِ وَعَلَى الْحُجَّةِ وَعَلَى الْمُلْكِ. وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، تَشْمَلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ اللَّهُ تَأْيِيدًا وَحُجَّةً وَغَلَبَةً وَمُلْكًا عَظِيمًا، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَنَصَرَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يُنَوِّهْ بِنُهُوضِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ دَلَائِلِ الصِّدْقِ، وَنَصْرِهِ بِالرُّعْبِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْمدْخل والمخرج بِأَنَّ الْمُخْرَجَ الْإِخْرَاجُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ وَالْمُدْخَلَ الْإِدْخَالُ إِلَى بَلَدِ مَكَّةَ فَاتِحًا، وَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً قُبَيْلَ الْفَتْحِ، فَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ مَدْخُولٌ مِنْ جِهَاتٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَالنَّصِيرُ: مُبَالَغَةٌ فِي النَّاصِرِ، أَيْ سُلْطَانا ينصرني. وَإِذ قَدْ كَانَ الْعَمَلُ الْقَائِمُ بِهِ النَّبِيءُ هُوَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَانَ نَصْرُهُ تَأْيِيدًا لَهُ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ، فَصَارَ هَذَا الْوَصْفُ تَقْيِيدًا لِلسُّلْطَانِ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ سُلْطَانًا لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَأَلَ سُلْطَانًا لِنَصْرِهِ فِيمَا يَطْلُبُ النُّصْرَةَ وَهُوَ التَّبْلِيغُ وَبَثُّ الْإِسْلَامِ فِي النَّاس.

[٨١]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨١]

وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (٨١)

أَعْقَبَ تَلْقِينَهُ الدُّعَاءَ بِسَدَادِ أَعْمَالِهِ وَتَأْيِيدِهِ فِيهَا بِأَنْ لَقَّنَهُ هَذَا الْإِعْلَانَ الْمُنْبِئَ بِحُصُولِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْمُلْهَمَةِ بِإِبْرَازِ وَعْدِهِ بِظُهُورِ أَمْرِهِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ عَنْ شَيْءٍ مَضَى.

وَلَمَّا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ هِيَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ كَانَ الْوَعْدُ بِظُهُورِ الْحَقِّ وَعْدًا بِظُهُورِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَفَوْزِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَاسْتَحْفَظَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ إِلَى أَنْ أَلْقَاهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى مَسَامِعِ مَنْ كَانُوا أَعْدَاءَهُ

فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَوَجَدَ فِيهَا وَحَوْلَهَا الْأَصْنَامَ جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْهَا بِقَضِيبٍ وَيَقُولُ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا فَتَسْقُطُ تِلْكَ الْأَنْصَابُ عَلَى وُجُوهِهَا.

وَمَجِيءُ الْحق مُسْتَعْمل مجَازًا فِي إِدْرَاكِ النَّاسِ إِيَّاهُ وَعَمَلِهِمْ بِهِ وَانْتِصَارِ الْقَائِمِ بِهِ عَلَى مُعَاضِدِيهِ تَشْبِيهًا لِلشَّيْءِ الظَّاهِرِ بِالشَّيْءِ الَّذِي كَانَ غَايِبَا فَوَرَدَ جَائِيًا.

وزَهَقَ اضمحل بعد وجوده. وَمَصْدَرُهُ الزُّهُوقُ وَالزَّهَقُ. وَزُهُوقُ الْبَاطِلِ مَجَازٌ فِي تَرْكِهِ أَصْحَابَهُ فَكَأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا بَيْنَهُمْ فَفَارَقَهُمْ. وَالْمَعْنَى: اسْتَقَرَّ وَشَاعَ الْحَقُّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيءُ وَانْقَضَى الْبَاطِلُ الَّذِي كَانَ النبيء ﷺ يَنْهَى عَنْهُ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا تَذْيِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومٍ يَشْمَلُ كُلَّ بَاطِلٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْبَاطِلِ كَانَ الثَّبَاتُ وَالِانْتِصَارُ شَأْنَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَإِذَا انْتَفَى الْبَاطِلُ ثَبَتَ الْحَقُّ.

وَبِهَذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَعْنَى: ظَهَرَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَانْقَضَى الْبَاطِلُ فِيهَا، وَذَلِكَ شَأْنُ الْبَاطِلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الشَّرَائِعِ أَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ.

وَدَلَّ فِعْلُ كانَ عَلَى أَنَّ الزُّهُوقَ شِنْشِنَةُ الْبَاطِلِ، وَشَأْنُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنَّهُ يَظْهَرُ ثُمَّ يَضْمَحِلُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا فِي صَدْرِ سُورَة يُونُس [٢] .

[٨٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٢]

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسارًا (٨٢)

عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَالْجُمَلِ الَّتِي سَبَقَتْهَا مِنْ مَعْنَى التأييد للنبيء ﷺ وَمِنَ

الْإِغَاظَةِ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الْإِسْرَاء: ٧٣] . فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ أَيَّدَهُ بِالْعِصْمَةِ مِنَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ وَتَبْشِيرِهِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبِالْخَلَاصِ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ هَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ قَرِيبًا إِلَى هَلَاكٍ وَأَنَّ دِينَهُمْ صَائِرٌ إِلَى الِاضْمِحْلَالِ، أَعْلَنَ لَهُ وَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَا مِنْهُ غَيْظُهُمْ وَحَنَقُهُمْ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي طَمِعُوا أَنْ يَسْأَلُوا النَّبِيءَ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَصْنَامِهِمْ بِسُوءٍ، أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا، فِيهِ شِفَاءٌ لِلرَّسُولِ وَأَتْبَاعه وخسارة لأعدائه الظَّالِمين، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مَصْدَرُ الْحَقِّ وَمُدْحِضُ الْبَاطِلِ أَعْقَبَ قَوْلَهُ:

جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] بِقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ الْآيَةَ. وَلِهَذَا اخْتِيرَ لِلْإِخْبَارِ عَنِ التَّنْزِيلِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ الْمُشْتَقُّ مِنْ فِعْلِ الْمُضَاعَفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ، وَهُوَ وَعْدٌ بِأَنَّهُ يَسْتَمِرُّ هَذَا التَّنْزِيلُ زَمَنًا طَوِيلًا.

وَمَا هُوَ شِفاءٌ مَفْعُولُ نُنَزِّلُ. ومِنَ الْقُرْآنِ بَيَانٌ لِمَا فِي (مَا) مِنَ الْإِبْهَامِ كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَج: ٣٠]، أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَتَقْدِيمُ الْبَيَانِ لِتَحْصِيلِ غَرَضِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ مَعَ غَرَضِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ إِلَخْ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِنْهُ

بِحَيْثُ يُعْرَفُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: نُنَزِّلُ الشِّفَاءَ وَالرَّحْمَةَ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَلَيْسَتْ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَلَا لِلِابْتِدَاءِ.

وَالشِّفَاءُ حَقِيقَتُهُ زَوَالُ الدَّاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي زَوَالِ مَا هُوَ نَقْصٌ وَضَلَالٌ وَعَائِقٌ عَنِ النَّفْعِ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِبُرْءِ السَّقَمِ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قِيلُ الْفَوَارِسِ: وَيْكَ عَنْتَرُ قَدِّمِ

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدُ خَسَارَةً لِلْكَافِرِينَ، لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، كُلُّ آيَةٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَدْيِ وَصَلَاحِ حَالٍ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَهُ،

وَمُشْتَمِلَةٌ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَا يَزِيدُ غَيْظَ الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى الظُّلْمِ، أَيِ الشِّرْكِ، فَيَزْدَادُونَ بِالْغَيْظِ كَرَاهِيَةً لِلْقُرْآنِ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ خَسَارًا بِزِيَادَةِ آثَامِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى فَاسِدِ أَخْلَاقِهِمْ وَبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التَّوْبَة: ١٢٤- ١٢٥] .

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ يُشْتَفَى بِهَا مِنَ الْأَدْوَاءِ وَالْآلَامِ وَرَدَ تَعْيِينُهَا فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فَشَمِلَتْهَا الْآيَةُ بِطَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَّا تَأْصِيلَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.

وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي قِرَاءَةِ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنْ أَدْوَاءٍ مَوْصُوفَةٍ بَلْهُ الِاسْتِعَاذَةِ بِآيَاتٍ مِنْهُ مِنَ الضَّلَالِ كَثِيرَةٍ فِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و«جَامع التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِمَا،

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي سِرِّيَّةٍ ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا فَأَبَوْا فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ فَأَتَوْنَا، فَقَالُوا: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُ حَتَّى يُعْطُونَا، فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً، قَالَ: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ»

الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ: «حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رُوعِي (أَيْ إِلْهَامٌ أَلْهَمَهُ اللَّهُ)، قَالَ: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ»

. فَهَذَا تَقْرِيرٌ من النبيء ﷺ بِصِحَّةِ إِلْهَامِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٣]

وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا (٨٣)

لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نِعْمَةً عَظِيمَةً لِلنَّاسِ، وَكَانَ إِعْرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ حِرْمَانًا عَظِيمًا لَهُمْ مِنْ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنْ يَرْضَوْا بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ زِيَادَتِهِ الظَّالِمِينَ خَسَارًا مُسْتَغْرَبًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ التَّسَاؤُلَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ السَّبَبِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي يُوقِعُ الْعُقَلَاءَ فِي مَهْوَاةِ هَذَا الْحِرْمَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ فِيهِ من نعْمَة هويها وَأُولِعَ بِهَا، وَهِيَ نِعْمَةٌ تَتَقَاصَرُ عَنْ أَوْجِ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي حُرِمَ مِنْهَا لَوْلَا الْهَوَى الَّذِي عُلِّقَ بِهَا وَالْغُرُورُ الَّذِي أَرَاهُ إِيَّاهَا قُصَارَى الْمَطْلُوبِ، وَمَا هِيَ إِلَّا إِلَى زَوَالٍ قَرِيبٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمّل: ١١] وَقَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦- ١٩٧] .

فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَضْمُونُهَا مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ اسْتُفِيدَ بَيَانُهَا بِوُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ أَكْثَرُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ كُفَّارٌ وَأَكْثَرَ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ. فَالْمَعْنَى: إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَعْرَضُوا وَإِذَا مَسَّهُمُ الشَّرُّ يَئِسُوا. وَهَذَا مُقَابِلُ حَالِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ كَانَ الْقُرْآنُ شِفَاءً لِأَنْفُسِهِمْ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ مِنْ شِيَمِهِمْ وَالصَّبْرُ عَلَى الضُّرِّ مِنْ خُلُقِهِمْ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِنْعَامِ: إِعْطَاءُ النِّعْمَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ النِّعَمَ الْكَامِلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: ٧] . وَقَوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصديقين [النِّسَاء: ٦٩] .

وَالْإِعْرَاضُ: الصَّدُّ، وَضِدُّ الْإِقْبَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٨] .

وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٦] .

وَالْجَانِبُ: الْجَنْبُ. وَهُوَ الْجِهَةُ مِنَ الْجَسَدِ الَّتِي فِيهَا الْيَدُ، وَهُمَا جَانِبَانِ: يَمِينٌ وَيَسَارٌ.

وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِجانِبِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ بَعُدَ مُصَاحِبًا لِجَانِبِهِ، أَيْ مُبْعِدًا جَانِبَهُ.

وَالْبُعْدُ بِالْجَانِبِ تَمْثِيلُ الْإِجْفَالِ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:

وَكَأَنَّمَا يَنْأَى بِجَانِبِ دُفِّهَا الْ ... وَحْشِيِّ مِنْ هَزَجِ الْعَشِيِّ مُؤَوَّمٍ (١)

فَالْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَأى بِجانِبِهِ صَدَّ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ. وَهَذَا غَيْرُ الْمُفَادِ مِنْ مَعْنَى أَعْرَضَ فَلَيْسَ تَأْكِيدًا لَهُ، فَالْمَعْنَى: أَعْرَضَ وَتَبَاعَدَ.

وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَعْرَضَ وَنَأى لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ، أَيْ أَعْرَضَ عَنَّا وَأَجْفَلَ مِنَّا، أَيْ مِنْ عِبَادَتِنَا وَأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنَأى بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ وَأَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ.

وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَاءَ بِأَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ ثُمَّ هَمْزَةٍ.

وَهَذَا مِنَ الْقَلْبِ الْمَكَانِيِّ لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَتَطَلَّبُونَ تَخْفِيفَ الْهَمْزَةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ وَبَعْدَهَا مَدَّةٌ فَيَقْلِبُونَ الْمَدَّةَ قَبْلَ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ وُقُوعَهَا بَعْدَ الْمَدِّ أَخَفُّ. مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَاءَ فِي رَأَى، وَقَوْلُهُمْ: آرَامٌ فِي أَرْآمٍ، جَمْعُ رِئْمٍ، وَقِيلَ: نَاءَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى ثَقُلَ، أَيْ عَنِ الشُّكْرِ، أَيْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف:

١٧٦] .

(١) أَرَادَ أَنَّهَا مجفلة فِي سَيرهَا نشطة، فَهِيَ حِين تسير تميل إِلَى جَانبهَا كَانَ هرا يخدش جَانبهَا الْأَيْسَر فتميل إِلَى جِهَة الْيَمين، أَي لَا تسير على استقامة، وَذَلِكَ من نشاط الدَّوَابّ.

وَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُسًا احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ:

وَإِذا أَنْعَمْنا أَنَّهُ إِذَا زَالَتْ عَنْهُ النِّعْمَةُ صَلُحَ حَالُهُ فَبَيَّنَ أَنَّ حَالَهُ مُلَازِمٌ لِنُكْرَانِ الْجَمِيلِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَإِذَا زَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَيَتُبْ إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّهُ يَيْأَسُ مِنَ الْخَيْرِ وَيَبْقَى حَنِقًا ضَيِّقَ الصَّدْرِ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَدَارَكُ أَمْرَهُ.

وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٥١] وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.

وَدَلَّ قَوْله: كانَ يَؤُسًا عَلَى قُوَّةِ يَأْسِهِ إِذْ صِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ. وَأُقْحِمَ مَعَهُ فِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى رُسُوخِ الْفِعْلِ، تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِ فِي وَقْتِ مَسِّ الضُّرِّ إِيَّاهُ لِأَنَّ حَالَةَ الضُّرِّ أَدْعَى إِلَى الْفِكْرَةِ فِي وَسَائِلِ دَفْعِهِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْإِعْرَاضِ فِي وَقْتِ النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ لَا يُسْتَغْرَبُ فِيهَا الِازْدِهَاءُ لِمَا هُوَ فِيهِ من النِّعْمَة.

[٨٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٤]

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (٨٤)

هَذَا تَذْيِيلٌ، وَهُوَ تَنْهِيَةٌ لِلْغَرَضِ الَّذِي ابْتُدِئَ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْإِسْرَاء: ٦٦] الرَّاجِعِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْوَحِيدُ، وَإِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ عَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعَمِ. وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَرِيقَانِ فِي قَوْله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا [الْإِسْرَاء: ٨٢] .

وَلِمَا فِي كَلِمَةِ (كُلٍّ) مِنَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.

وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ:

وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء: ٧٢] وَقَوْلِهِ: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا [الْإِسْرَاء: ٨٢] وَقَوْلِهِ: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ [الْإِسْرَاء: ٨٣] .

وَالشَّاكِلَةُ: الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ الَّتِي اعْتَادَهَا صَاحِبُهَا وَنَشَأَ عَلَيْهَا. وَأَصْلُهَا شَاكِلَةُ الطَّرِيقِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهُ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ ثَوْبًا يُشَبِّهُ بِهِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ:

لَهُ خُلُجٌ تَهْوِي فُرَادَى وَتَرْعَوِي ... إِلَى كُلِّ ذِي نَيِّرَيْنِ بَادِي الشَّوَاكِلِ

وَهَذَا أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ الشَّاكِلَةُ هُنَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْآيَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ.

وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ بِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ، وَالتَّرْغِيبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ تَشْكِيكِهِمْ فِي حَقِّيَّةِ دِينِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَنْظُرُونَ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً الْآيَة [سبأ: ٢٤] .

[٨٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٥]

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا (٨٥)

وَقْعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْآيِ الَّتِي مَعَهَا يَقْتَضِي نَظْمُهُ أَنَّ مرجع ضمير يَسْئَلُونَكَ هُوَ مَرْجِعُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالسَّائِلُونَ عَنِ الرُّوحِ هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرَّوْحِ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ.

وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ خَاصَّةً وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ. وَحِينَئِذٍ فَلَا

إِشْكَالَ فِي إِفْرَادِ هَذَا السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَبِذَلِكَ

يَكُونُ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا مُسَبَّبًا عَلَى نُزُولِهَا بَيْنَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ أَهْلِ يَثْرِبَ صِلَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ صِهْرٍ وَتِجَارَةٍ وَصُحْبَةٍ.

وَكَانَ لِكُلِّ يَثْرِبِيٍّ صَاحِبٌ بِمَكَّةَ يَنْزِلُ عِنْدَهُ إِذَا قَدِمَ الْآخَرُ بَلَدَهُ، كَمَا كَانَ بَيْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَقِصَّتُهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» .

رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ يَسْأَلَانِهِمْ عَنْ أَمر النبيء ﷺ فَقَالَ الْيَهُودُ لَهُمَا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ. وَذَكَرُوا لَهُمْ أَهْلَ الْكَهْفِ وَذَا الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فَسَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْهَا فَأَجَابَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَأَجَابَ عَنِ الرُّوحِ بِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُثِيرُ إِشْكَالًا فِي وَجْهِ فَصْلِ جَوَابِ سُؤَالِ الرُّوحِ عَنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِذِكْرِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ.

وَيَدْفَعُ الْإِشْكَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنِ الرُّوحِ وَقَعَ مُنْفَرِدًا أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ جُمِعَ مَعَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ ثَانِي مَرَّةٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ سُؤَالِ الرُّوحِ مِمَّا أُلْحِقُ بِسُورَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ نَزَلَ بِمَكَّةَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَ قَوْلُهُ:

وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بِمَكَّةَ.

وَأَمَّا مَا

رُوِيَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا مَعَ النَّبِيءِ فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأمْسك النبيء ﷺ فَلَمْ يَرُدَّ

عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْي قَالَ: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ


الْآيَةَ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ:

أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النبيء ﷺ قَدْ ظَنَّ النَّبِيءُ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى فهم معنى الرُّوحِ فَانْتَظَرَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِمَا يُجِيبُهُمْ بِهِ أَبْيَنَ مِمَّا أَجَابَ بِهِ قُرَيْشًا، فَكَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْزَالَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْلُوَهَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّهُمْ وَقُرَيْشًا سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَغَيَّرُ.

هَذَا، وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي: أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ تَخْلِيطًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا اسْتَقَوْا مِنَ

الْيَهُودِ شَيْئًا وَمِنَ النَّصَارَى شَيْئًا فَقَدْ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مُخَالَطَةٌ مَعَ نَصَارَى الشَّامِ فِي رِحْلَتِهِمُ الصَّيْفِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا هِيَ من شؤون النَّصَارَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ كَانُوا نَصَارَى كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيَّ يَظْهَرُ أَنَّهَا مِمَّا عُنِيَ بِهِ النَّصَارَى لِارْتِبَاطِ فُتُوحَاتِهِ بِتَارِيخِ بِلَادِ الرُّومِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْيَهُودَ مَا لَقَّنُوا قُرَيْشًا إِلَّا السُّؤَالَ عَنِ الرُّوحِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ السَّبَبُ فِي إِفْرَادِ السُّؤَالِ عَنِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذِكْرُ الْقِصَّتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَرَّرَ السُّؤَالُ فِي مُنَاسَبَاتٍ وَذَلِكَ شَأْنُ الَّذِينَ مَعَارِفُهُمْ مَحْدُودَةٌ فَهُمْ يُلْقُونَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ.

وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الرُّوحِ مَعْنَاهُ أَنهم سَأَلُوا عَنْ بَيَانِ مَاهِيَّةِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالرُّوحِ وَالَّتِي يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهِ.

وَالرُّوحُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَوْجُودِ الْخَفِيِّ الْمُنْتَشِرِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّفْكِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَوَّمُ فِي الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا بَعْدَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى نُزُولِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢] . وَهَذَا يُسَمَّى أَيْضًا بِالنَّفْسِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفجْر: ٢٧] .

وَيُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْكَائِنِ الشَّرِيفِ الْمُكَوَّنِ بِأَمْرٍ إِلَهِيٍّ بِدُونِ سَبَبٍ اعْتِيَادِيٍّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وَقَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ [النِّسَاء: ١٧١] .

وَيُطْلَقُ لَفْظُ (الرُّوحِ) عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى الرُّسُلِ. وَهُوَ جِبْرِيلُ- عليه السلام وَمِنْهُ قَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣] .

وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْمَذْكُورِ هُنَا مَا هُوَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ الرُّوحُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، قَالُوا لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ الَّذِي لَمْ تَتَّضِحْ حَقِيقَتُهُ، وَأَمَّا الرُّوحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرِينَ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْهُ سُؤَالًا عَنْ مَعْنَى مُصْطَلَحٍ قُرْآنِيٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَارِدُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِمْ وَهُوَ سِفْرُ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الْأَوَّلِ «وَرُوحُ اللَّهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» . وَلَيْسَ الرُّوحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِوَارِدٍ فِي كُتُبِهِمْ.

وَعَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ جِبْرِيلَ، وَالْأَصَحُّ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.

وَفِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» أَن النبيء ﷺ أَجَابَهُمْ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُمْ: هُوَ جِبْرِيلُ- عليه السلام

. وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.

وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ وَبَيَانِ مَاهِيَّتِهَا، فَإِنَّهَا قَدْ شَغَلَتِ الْفَلَاسِفَةَ وَحُكَمَاءَ الْمُتَشَرِّعِينَ، لِظُهُورِ أَنَّ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْجِسْمِ، بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُدْرِكًا وَبِزَوَالِهِ يَصِيرُ الْجِسْمُ مَسْلُوبَ الْإِرَادَةِ وَالْإِدْرَاكِ، فَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فِي الْجِسْمِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ إِذْ قَدْ ظَهَرَ بِالتَّشْرِيحِ أَنَّ جِسْمَ الْمَيِّتِ لَمْ يَفْقِدْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

وَإِذْ قَدْ كَانَتْ عُقُولُ النَّاسِ قَاصِرَةً عَنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ وَكَيْفِيَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ وَكَيْفِيَّةِ انْتِزَاعِهَا مِنْهُ وَفِي مَصِيرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ الِانْتِزَاعِ، أُجِيبُوا بِأَنَّ

الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ كَائِنٌ عَظِيمٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ. فَلَفْظُ أَمْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفَ الشَّيْءِ. فَالْمَعْنَى: الرُّوحُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ، فَإِضَافَةُ أَمْرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَمْرٍ اخْتُصَّ بِاللَّهِ اخْتِصَاصَ عِلْمٍ.

وَ(مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْسُ الْمَصْدَرِ وَتَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً كَمَا فِي قَوْله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: ٤٠]، أَيِ الرَّوْحُ يَصْدُرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِتَكْوِينِهِ أَوْ يُرَادُ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْخَلْقِ وَ(مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيِ الرَّوْحُ بَعْضُ مَأْمُورَاتِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِبْرِيلَ- عليه السلام، أَيِ الرَّوْحُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ.

وَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لَيْسَ جَوَابًا بِبَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ عَنِ اسْتِعْلَامِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُؤْتَوْهُ. وَالِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ. وَفِيهَا رَمْزٌ إِلَى تَعْرِيفِ الرُّوحِ تَعْرِيفًا بِالْجِنْسِ وَهُوَ رَسْمٌ.

وَجُمْلَةُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلسَّائِلِينَ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقَلِيلِ

الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُؤْتَى مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْمَعْلُومُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ أَوْ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ. وَوَصْفُهُ بِالْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْحَقَائِقِ.

وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» قَالُوا (أَيِ الْيَهُودُ): «أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ

وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأُنْزِلَتْ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي الْآيَة [الْكَهْف: ١٠٩] .

وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّكَ تَقُولُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ قَالَ:

كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ. قَالُوا: فَإِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:

هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَقَدْ آتَاكُمْ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لُقْمَان: ٢٧] .

هَذَا، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا تَقْرِيبَ شَرْحِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَشَرِّعِينَ بِوَاسِطَةِ الْقَوْلِ الشَّارِحِ لَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِرُسُومٍ نَاقِصَةٍ مَأْخُوذَةٌ فِيهَا الْأَجْنَاسُ الْبَعِيدَةُ وَالْخَوَاصُّ التَّقْرِيبِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ وَتَحْكِيمُ الْآثَارِ الَّتِي بَعْضُهَا حَقِيقِيٌّ وَبَعْضُهَا خَيَالِيٌّ، وَكُلُّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُرْبِ مِنْ شَرْحِ خَاصَّاتِهِ وَأَمَارَاتِهِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ تَصَوُّرَاتِهِمْ لِمَاهِيَّتِهِ الْمَبْنِيَّاتِ عَلَى تَفَاوُتِ قُوَى مَدَارِكِهِمْ وَكُلُّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ رُسُومًا خَيَالِيَّةً وَشِعْرِيَّةً مُعَبِّرَةً عَنْ آثَارِ الرُّوحِ فِي الْإِنْسَان.

وَإِذا قَدْ جَرَى ذِكْرُ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصُرِفَ السَّائِلُونَ عَنْ مُرَادِهِمْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ اقْتَضَاهُ حَالُهُمْ وَحَالُ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَمَا عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ لِمُحَاوَلَةِ تَعَرُّفِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ فَقَدْ تَهَيَّأَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَغَيَّرَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي اقْتَضَتْ صَرْفَ السَّائِلِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ التَّغَيُّرِ، وَقَدْ تَتَوَفَّرُ تَغَيُّرَاتٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَزِيدُ أَهْلَ الْعِلْمِ اسْتِعْدَادًا لِتَجَلِّي بَعْضِ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ، فَلِذَلِكَ لَا نُجَارِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ حَقِيقَةَ الرُّوحِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْ بَيَانِهَا لِأَنَّ النَّبِيءَ ﷺ أَمْسَكَ عَنْهَا فَلَا يَنْبَغِي الْخَوْضُ فِي شَأْنِ الرُّوحِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً. فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ

وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ»، وَالنَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ»: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصُدُّ الْعُلَمَاءَ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الرُّوحِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ جُمْهُورُ

الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هِيَ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْأَرْوَاحُ حَادِثَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَرِسْطَالِيسَ. وَقَالَ قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ: هِيَ قَدِيمَةٌ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُرَادِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَادِثَةً أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقِيلَ: الْأَرْوَاحُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ خَلْقِ الْأَبْدَانِ الَّتِي تُنْفَخُ فِيهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْجَارِي عَلَى ظَوَاهِرِ كَلَامِ النَّبِيءِ ﷺ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنَ الْأَزَلِ كَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: تُخْلَقُ عِنْدَ إِرَادَةِ إِيجَادِ الْحَيَاةِ فِي الْبَدَنِ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ أَجْسَادِهَا وَأَنَّهَا تَحْضُرُ يَوْم الْحساب.

[٨٦، ٨٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٨٦ إِلَى ٨٧]

وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧)

هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ [الْإِسْرَاء: ٨٢] الْآيَةَ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْمُنَاسَبَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] تَلْقِينَ كَلِمَةِ عِلْمٍ جَامِعَةٍ، وَتَضَمَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ أُوتِيَتْ عِلْمًا وَمُنِعَتْ عِلْمًا، وَأَنَّ عِلْمَ النُّبُوءَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا أُوتِيَتْهُ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْعِلْمِ دَفْعًا لِغُرُورِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ يُكْسِبُهَا إِعْجَابًا بِتَمَيُّزِهَا عَمَّنْ دُونَهَا فِيهِ، فَأُوقِظَتْ إِلَى أَنَّ الَّذِي مَنَحَ الْعِلْمَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَخُوطِبَ بِذَلِكَ النَّبِيءُ ﷺ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَعْظَمُ عِلْمٍ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ عِلْمِهِ خَاضِعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَمَا الظَّنُّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ، تَعْرِيضًا لِبَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَلَامُ صَرِيحُهُ تَحْذِيرٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ

الِامْتِنَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا وَتَعْرِيضٌ بِتَحْذِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ.

وَجُمْلَةُ لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَهُوَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ وَمُغْنٍ عَنْهُ.

ولَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا بِمَعْنَى لَنُذْهِبَنَّهُ، أَيْ عَنْكَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (نُذْهِبُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١] .

وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ.

وَ(ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّمَعِ فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَسْلُوبِ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ

سَلْبِهِ. فَذِكْرُهُ أَدْخَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْغُرُورِ.

وَالْوَكِيلُ: مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ الْمُهِمُّ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُدَافِعُ عَنْكَ وَالشَّفِيعُ لَكُ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْغَلَبَةِ عُدِّيَ بِ (عَلَى) . وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالْمُطَالَبَةِ عُدِّيَ إِلَى الْمَرْدُودِ بِالْبَاءِ، أَيْ مُتَعَهِّدًا بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. وَمَعْنَى التَّعَهُّدِ: بِهِ التَّعَهُّدُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَلِأَنَّ التَّعَهُّدَ لَا يَكُونُ بِذَاتِ شَيْءٍ بَلْ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَجَرَى، الْكَلَامُ عَلَى الْإِيجَازِ.

وَذَكَرَ هُنَا وَكِيلًا وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا نَصِيرًا لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ عَلَى فَرْضِ سَلْبِ نِعْمَةِ الِاصْطِفَاءِ، فَالْمُطَالَبَةُ بِإِرْجَاعِ النِّعْمَةِ شَفَاعَةٌ وَوَكَالَةٌ عَنْهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ قَبْلَهَا فَهِيَ فِي فَرْضِ إِلْحَاقِ عُقُوبَةٍ بِهِ، فَمُدَافِعَةُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ أَوِ الثَّأْرِ بِهَا نَصْرٌ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مُنْقَطِعٌ فَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ تَوَقُّعِ ذَلِكَ، أَيْ

لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ نَفَتْ مَشِيئَةَ الذَّهَابِ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فَهُوَ بَاقٍ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ.

وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى بَقَاءِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩] .

وَمَوْقِعُ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، أَيْ لَكِنَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَنَعَتْ تَعَلُّقَ الْمَشِيئَةِ بِإِذْهَابِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، لِأَنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فَلَا يَحْرِمُكَ فَضْلَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْكَ. وَزِيَادَةُ فِعْلِ (كَانَ) لِتَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةٌ عَلَى تَوْكِيدِهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَى التَّعْلِيل والتفريع.

[٨٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٨]

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)

اسْتِئْنَافٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الِامْتِنَانِ. وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الْإِسْرَاء: ٨٧] . وَافْتِتَاحُهُ بِ (قُلْ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَهَذَا تنويه بشرف الْقُرْآنَ فَكَانَ هَذَا التَّنْوِيهُ امْتِنَانًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ شِفَاءً وَرَحْمَةً، وَتَحَدِّيًا بِالْعَجْزِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ لِلَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا خَسَارًا.

وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.

وَجُمْلَةُ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ.

وَجَرَّدَ الْجَوَابَ مِنَ اللَّامِ الْغَالِبِ اقْتِرَانُهَا بِجَوَابِ الْقَسَمِ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ لَامَيْنِ: لَامِ الْقَسَمِ، وَلَامِ النَّافِيَةِ.

وَمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ: الِاتِّفَاقُ وَاتِّحَادُ الرَّأْيِ، أَيْ لَوْ تَوَارَدَتْ عُقُولُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ. فَهُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ لَا اجْتِمَاعُ التَّعَاوُنِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.

وَذِكْرُ الْجِنِّ مَعَ الْإِنْسِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، كَمَا يُقَالُ: «لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، وَأَيْضًا لَأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ لِلْقُرْآنِ: الْمُمَاثَلَةُ فِي مَجْمُوعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ، وَهِيَ نَوَاحِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ.

وَجُمْلَةُ لَا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُوَطَّأِ لَهُ بِاللَّامِ. وَجَوَابُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ.

وَجُمْلَةُ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَأْتُونَ.

وَ(لَوْ) وَصْلِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةُ أَنْ لَا يَشْمَلَهُ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [٩١] .

وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَعَاوَنَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا حَاوَلُوا ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ.

وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدُ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ الْمَدْلُولِ بِقَوْلِهِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ تَظَافَرَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ وَمَقْصِدٍ وَاحِدٍ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفْحِمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَدِّي بإعجاز الْقُرْآن.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٨٩]

وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (٨٩)

لَمَّا تَحَدَّى اللَّهُ بُلَغَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِعْجَازِ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا

سِوَاهُ مِنَ الْكَلَامِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ النَّعْيَ عَلَيْهِمْ إِذْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. وَذُكِرَتْ هُنَا نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِي إِعْجَازِهِ، وَهِيَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْثَالِ.

وَتَقَدَّمُ ذِكْرُ الْمَثَلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] . وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَثَلِ الْحَالُ أَيْ مِنْ كُلِّ حَالٍ حَسَنٍ مِنَ الْمَعَانِي يَجْدُرُ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ وَيُشَبَّهَ مَا يُزَادُ بَيَانُهُ فِي نَوْعِهِ.

فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ مُشَارِكَةٌ لَهَا فِي حُكْمِهَا الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ زِيَادَةً فِي الِامْتِنَانِ وَالتَّعْجِيزِ.

وَتَأْكِيدُهَا بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِرَدِّ أَفْكَارِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَوْرِدُ التَّأْكِيد هُوَ فعل صَرَّفْنا الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَالتَّصْرِيفُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الْإِسْرَاء: ٤١] .

وَزِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَيْدُ لِلنَّاسِ دُونَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَالْإِعْجَازِ، فَكَانَ النَّاسُ مَقْصُودِينَ بِهِ قَصْدًا أَصْلِيًّا مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ بِخِلَافِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهَا فِي مَقَامِ تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً فَكَانُوا مَعْلُومِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَوَجْهُ تَقْدِيمِ أَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِفِعْلِ صَرَّفْنا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ ذِكْرَ النَّاسِ أَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَجْلِ كَوْنِ الْكَلَامِ مَسُوقًا لِتَحَدِّيهِمْ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ

ذِكْرُ الْقُرْآنِ أَهَمَّ بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَنَّ الِاعْتِبَارَاتِ الطَّارِئَةَ تُقَدَّمُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَى الاعتبارات الْأَصْلِيَّة، أَن الِاعْتِبَارَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِتَقَرُّرِهَا فِي النُّفُوسِ تَصِيرُ مُتَعَارَفَةً فَتَكُونُ الِاعْتِبَارَاتُ الطَّارِئَةُ أَعَزَّ مَنَالًا. وَمِنْ هَذَا بَابُ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَالْأَظْهَرُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسِ لِلْعُمُومِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.

وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَ التَّصْرِيفِ بِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بِخِلَافِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَشَدُّ تَعْجِيزًا لِمَنْ يَرُومُ مُعَارَضَتَهُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، إِذْ قَدْ يَقْدِرُ بَلِيغٌ مِنَ الْبُلَغَاءِ عَلَى غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى غَرَضٍ آخَرَ، فَعَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ كَثْرَةِ أَغْرَاضِهِ عَجْزٌ بَيِّنٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣] فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَإِنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ وَتَنْوِينُ (مَثَلٍ) لِلتَّعْظِيمِ

وَالتَّشْرِيفِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ شَرِيفٍ. وَالْمُرَادُ: شَرَفُهُ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّمْثِيلِ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ. لِلتَّبْعِيضِ، وَ(كُلِّ) تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَبْعَاضٍ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَثَلِ.

وَحذف مفعول فَأَبى لِلْقَرِينَةِ، أَيْ أَبَى الْعَمَلَ بِهِ.

وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُفُورًا تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ تَأْكِيدٌ فِي صُورَةِ النَّقْصِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِطْمَاعِ بِأَنْ إِبَايَتَهُمْ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْتَثْنَى مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِذِ الْكُفُورُ أَخَصُّ مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ لِلْقَرِينَةِ. وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ لِمَا فِي فعل فَأَبى مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ، مِثْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الْإِسْرَاء:

٩٣] .

وَالْكُفُورُ- بِضَم الْكَاف- المجحود، أَيْ جَحَدُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هدى وعاندوا.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩٣]

وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا (٩٣)

عَطَفَ جُمْلَةَ وَقالُوا عَلَى جُمْلَةِ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الْإِسْرَاء: ٨٩]، أَي كفرُوا بِالْقُرْآنِ وطالبوا بمعجزات أُخْرَى.

وَضمير الْجمع عَائِد إِلَى أَكثر النَّاس الَّذِينَ أَبَوْا إِلَّا كُفُورًا، بِاعْتِبَارِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَهُمْ وَهُمْ رَاضُونَ بِهِ وَمُتَمَالِئُونَ عَلَيْهِ مَتَى عَلِمُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ كُلَّهُ بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَائِلًا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بَعْضَهُ.

وَلَمَّا اشْتَمَلَ قَوْلُهُمْ عَلَى ضَمَائِرِ الْخِطَابِ تَعَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُمْ خَاطَبَ بِهِ النَّبِيءَ ﷺ مُبَاشَرَةً إِمَّا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا فِي مَقَامَاتٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَزَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَنَاسًا

مَعَهُمُ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَبَعَثُوا إِلَى النَّبِيءِ ﷺ أَنْ

يَأْتِيَهُمْ. فَأَسْرَعَ إِلَيْهِمْ حِرْصًا عَلَى هُدَاهُمْ، فَعَاتَبُوهُ عَلَى تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ. وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ مِنْ مَالٍ أَوْ تَسْوِيدٍ. وَأَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِم لَا يَبْتَغِي غَيْرُ نُصْحِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا مِنْهُ الثَّبَاتَ انْتَقَلُوا إِلَى طَلَبِ بَعْضِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَرُوِي أَنَّ الَّذِي سَأَلَ مَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ.

وَحَكَى اللَّهُ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِحرف (لن) لمفيد لِلتَّأْيِيدِ لِأَنَّهُمْ كَذَلِكَ قَالُوهُ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ مَكَّةَ، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهَا أَنَّ أَرْضَهَا قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الْجَنَّاتِ.

وَالتَّفْجِيرُ: مَصْدَرُ فَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ مُبَالَغَةً فِي الْفَجْرِ، وَهُوَ الشَّقُّ بِاتِّسَاعٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ فَجْرُ الصَّبَاحِ فَجْرًا لِأَنَّ الضَّوْءَ يَشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقًّا طَوِيلًا عَرِيضًا، فَالتَّفْجِيرُ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَجْرِ وَهُوَ تَشْقِيقٌ شَدِيدٌ بِاعْتِبَارِ اتِّسَاعِهِ. وَلِذَلِكَ نَاسَبَ الْيَنْبُوعَ هُنَا وَالنَّهَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا [الْكَهْف: ٣٣] وَقَوْلِهِ: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ.

وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ (فَجَّرَ) الْمُضَاعَفِ.

وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مُخَفَّفَةً- عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ فَجَرَ كَنَصَرَ، فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ أَوْ يُعَبِّرُ عَنْ مُخْتَلِفِ أَقْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى التَّصْمِيمِ فِي الِامْتِنَاعِ.

وَمَعْنَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ لَنْ نُصَدِّقَكَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْنَا.

وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ. يُقَالُ: آمَنَهُ، أَيْ صَدَّقَهُ. وَكَثُرَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى

الْمَفْعُولِ بِاللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُف: ١٧] وَقَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:

٢٦] . وَهَذِهِ اللَّامُ مِنْ قَبِيلِ مَا سَمَّاهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» لَامَ التَّبْيِينِ. وَغَفَلَ عَنِ التَّمْثِيلِ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ مَجْرُورَ اللَّامِ بَعْدَ فِعْلِ نُؤْمِنَ مَفْعُولٌ لَا الْتِبَاسَ لَهُ بِالْفَاعِلِ وَإِنَّمَا تُذْكَرُ اللَّامُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِدَفْعِ الْتِبَاسِ مَفْعُولِ فِعْلِ «آمَنَ» بِمَعْنَى صَدَّقَ بِمَفْعُولِ فِعْلِ (آمَنَ) إِذَا جَعَلَهُ أَمِينًا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: [٨٣] .

وَالْيَنْبُوعُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الْكَثِيرَةِ النَّبْعِ الَّتِي لَا يَنْضُبُ مَاؤُهَا. وَصِيغَةُ يَفْعُولٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ

غَيْرُ قِيَاسِيَّةٍ، وَالْيَنْبُوعُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَّةِ النَّبْعِ غَيْرَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْوَارِدَةَ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا ظَاهِرٌ اشْتِقَاقُهُ كَالْيَنْبُوعِ وَالْيَنْبُوتِ، وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ كَالْيَعْبُوبِ لِلْفَرَسِ الْكَثِيرِ الْجَرْيِ. وَقِيلَ: اشْتُقَّ مِنَ الْعَبِّ الْمَجَازِيِّ. وَمِنْهُ أَسْمَاءٌ مُعَرَّبَةٌ جَاءَ تَعْرِيبُهَا عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَكْسُومَ اسْمِ قَائِدٍ حَبَشِيٍّ، وَيَرْمُوكَ اسْمِ نَهْرٍ. وَقَدِ اسْتَقْرَى الْحَسَنُ الصَّاغَانِيُّ مَا جَاءَ مِنَ الْكَلِمَاتِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ فِي مُخْتَصَرٍ لَهُ مُرَتَّبٍ على حُرُوف المعجم. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْمُزْهِرِ»: إِنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ عَقَدَ لَهُ فِي «الْجَمْهَرَةِ» بَابًا.

وَالْجَنَّةُ، وَالنَّخِيلُ، وَالْعِنَبُ، وَالْأَنْهَارُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٦] .

وَخَصُّوا هَذِهِ الْجَنَّةَ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْجَنَّةِ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً لِمِلْكِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ مِنْ هَذَا الِاقْتِرَاحِ نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَبْتَغُونَ حُصُولَهُ وَلَوْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُقْتَرَحِ عَلَيْهِ. وَالْمُقْتَرَحُ هُوَ تَفْجِيرُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْقَاحِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا وُجُودَ الْجَنَّةِ تَمْهِيدًا لِتَفْجِيرِ أَنْهَارٍ خِلَالَهَا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا يَنْبُوعًا يَسْقِي النَّاسَ كُلَّهُمْ، أَوْ تُفَجِّرَ أَنْهَارًا تَسْقِي جَنَّةً وَاحِدَةً تَكُونُ تِلْكَ الْجَنَّةُ وَأَنْهَارُهَا لَكَ. فَنَحْنُ مُقْتَنِعُونَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَا بُغْيَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.

وَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ بِقَوْلِهِ: تَفْجِيرًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّ تَفْجُرَ قَدْ كَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْفَجْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِمَفْعُولِهِ الْمُطْلَقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَدَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الْإِسْرَاء: ١٠٦]، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ:

خِلالَها، لِأَنَّ الْجَنَّةَ تَتَخَلَّلُهَا شُعَبُ النَّهْرِ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ. فَجَمَعَ الْأَنْهَارَ بِاعْتِبَارِ تَشَعُّبِ مَاءِ النَّهْرِ إِلَى شُعَبٍ عَدِيدَةٍ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ فَتُفَجِّرَ هُنَا بِالتَّشْدِيدِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ فَهِيَ مِنْ أَفَانِينِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.

وَقَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا انْتِقَالٌ مِنْ تَحَدِّيهِ بِخَوَارِقَ فِيهَا مَنَافِعُ لَهُمْ إِلَى تَحَدِّيهِ بِخَوَارِقَ فِيهَا مَضَرَّتُهُمْ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّوْسِيعَ عَلَيْهِ، أَيْ فَلْيَأْتِهِمْ بِآيَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ فِي مَضَرَّتِهِمْ. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ كَمَا قَالُوا. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْإِغْرَاقَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعُوا بَيْنَ جَعْلِ الْإِسْقَاطِ لِنَفْسِ السَّمَاءِ. وَعَزَّزُوا تَعْجِيبَهُمْ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ وَهِيَ كَما زَعَمْتَ إِنْبَاءً بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُصَدِّقُ بِهِ أَحَدٌ. وَعَنَوْا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:

إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ [سبأ: ٩] وَبِقَوْلِهِ:

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطّور: ٤٤]، إِذْ هُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَإِشْرَافِهِمْ عَلَى الْحِسَابِ. وَجَعَلُوا (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِسَفًا مِنَ السَّماءِ [الطّور: ٤٤] تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ قِطْعَةً مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، فَلِذَلِكَ أَبَوْا تَعْدِيَةَ فِعْلِ تُسْقِطَ إِلَى ذَاتِ السَّمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَوْ إِحْدَاهَا نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَلَيْسَ ذَلِك بمستبعد.

و«الكسف» - بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ السِّينِ- جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِسُكُونِ السِّينِ- بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمَكْسُوفِ بِمَعْنَى الْمَقْطُوعِ.

وَالزَّعْمُ: الْقَوْلُ الْمُسْتَبْعَدُ أَوِ الْمُحَالُ.

وَالْقَبِيلُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ هُمْ قَبِيلٌ خَاصٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَوْ تَأْتِيَ بِفَرِيقٍ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ.

وَالزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ.

وَإِنَّمَا عُدِّيَ تَرْقى فِي السَّماءِ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الرُّقِيَّ تَدَرُّجٌ فِي السَّمَاوَاتِ كَمَنْ يَصْعَدُ فِي الْمِرْقَاةِ وَالسُّلَّمِ.

ثُمَّ تَفَنَّنُوا فِي الِاقْتِرَاحِ فَسَأَلُوهُ إِنْ رَقَى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِكِتَابٍ يَنْزِلُ من السَّمَاء يقرؤونه، فِيهِ شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ بَلَغَ السَّمَاءَ. قِيلَ: قَائِلُ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ.

وَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ كِتَابًا كَامِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُوا قَدْ أَلْحَدُوا بِتَنْجِيمِ الْقُرْآنِ، تَوَهُّمًا بِأَنَّ تَنْجِيمَهُ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ التَّنْجِيمَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي التَّأَمُّلَ وَالتَّصَنُّعَ فِي تَأْلِيفِهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ بَيَانُ حِكْمَةِ تَنْجِيمِهِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِرُقِيِّكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ التَّبْيِينِ. عَلَى أَنَّ «رُقِيَّكَ» مَفْعُولُ نُؤْمِنَ مِثْلُ قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ فَيَكُونُ ادِّعَاءُ الرُّقِيِّ مَنْفِيًّا عَنْهُ التَّصْدِيقُ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ. وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعِلَّةِ وَمَفْعُولُ نُؤْمِنَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ لِأَجْلِ رُقِيِّكَ هِيَ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا. وَالْمَعْنَى:

أَنَّهُ لَوْ رَقَى فِي السَّمَاءِ لَكَذَّبُوا أَعْيُنَهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يَرَوْنَهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ مِنْهُمْ وَتَهَكُّمٌ.

وَلَمَّا كَانَ اقْتِرَاحُهُمُ اقْتِرَاحَ مُلَاجَّةٍ وَعِنَادٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ كَلَامِهِمْ بِكَلِمَةِ سُبْحانَ رَبِّي الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَمَا

تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُقْتَضِيَةِ قَصْرَ نَفْسِهِ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَسْتُ رَبًّا مُتَصَرِّفًا أَخْلُقُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي، فَكَيْفَ آتِي بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَكَيْفَ أَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْقَافِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي- عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لجواب الرَّسُول ﷺ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.

[٩٤، ٩٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]

وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥)

بَعْدَ أَنْ عُدَّتْ أَشْكَالُ عِنَادِهِمْ وَمَظَاهِرُ تَكْذِيبِهِمْ أُعْقِبَتْ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْجُحُودِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهِيَ تَوَهُّمُهُمُ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لِلنَّاسِ بِرِسَالَةٍ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. فَذَلِكَ التَّوَهُّمُ هُوَ مَثَارُ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ، فَالَّذِينَ هَذَا أَصْلُ مُعْتَقَدِهِمْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَمَا قَصْدُهُمْ مِنْ مُخْتَلَفِ الْمُقْتَرَحَاتِ إِلَّا إِرْضَاءُ أَوْهَامِهِمْ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، فَلَوْ أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا سَأَلُوهُ لَانْتَقَلُوا فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، أَوْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ بَيَانِ أَصْلِ كُفْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا رَدٌّ بِالْخُصُوصِ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: ٩٣] إِلَى آخِرِهِ.

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مَا قَالُوهُ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ اعْتِقَادَ قَائِلِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَنُطْقَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ يَمْنَعُ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي دِينِهِمْ.

وَإِلْقَاءُ هَذَا الْكَلَامِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَأَدَاةِ الْعُمُومِ جَعَلَهُ تَذْيِيلًا لِمَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ تَفَنُّنِهِمْ فِي أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ.

فَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ مَا مَنَعَ جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ

يُؤْمِنُوا إِلَّا ذَلِكَ التَّوَهُّمُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] . وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ هُودٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣- ٣٤]، وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٥٤]، وَعَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاء: ١٨٦]، وَحُكِيَ عَنْ قوم فِرْعَوْن فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا

[الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] . وَقَالَ فِي قوم مُحَمَّد ﷺ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: ٢] .

وَإِذ شَمِلَ الْعُمُومُ كَفَّارَ قُرَيْشٍ أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ الْآيَةَ، فَاخْتَصَّ اللَّهُ رَسُوله مُحَمَّدًا ﷺ بِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ أَصْلِهَا اخْتِصَاصًا لَمْ يُلَقِّنْهُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الشُّبْهَةَ بِاسْتِنْصَارِ اللَّهِ تَعَالَى على أقوامهم فَقَالَ عَنْ نُوحٍ قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٨] .

وَقَالَ مِثْلَهُ عَنْ هُودٍ وَصَالِحٍ، وَقَالَ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٨]، فَقَدِ ادَّخَرَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ قَوَاطِعَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَشُبَهِ الضَّلَالَةِ بِمَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ» .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ إِلَخْ: أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرَّسُولَ لِلْقَوْمِ من نوعهم للتمكين مِنْ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّ اتِّحَادَ النَّوْعِ هُوَ قِوَامُ تَيْسِيرِ الْمُعَاشَرَةِ، قَالَ تَعَالَى:

وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَام: ٩]، أَيْ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُمْكِنَ التَّخَاطُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ.

وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ وَصْفٌ لِ مَلائِكَةٌ.

ومُطْمَئِنِّينَ حَالٌ. وَالْمُطْمَئِنُّ: السَّاكِنُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمُتَمَكِّنُ غَيْرُ الْمُضْطَرِبِ، أَيْ مَشْيُ قَرَارٍ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ قَاطِنُونَ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ نَازِلِينَ برسالة للرسل لنزلنا عَلَيْهِمْ مَلَكًا.

وَلَمَّا كَانَ الْمَشْيُ وَالِاطْمِئْنَانُ فِي الْأَرْضِ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ آلَ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْ كُنْتُمْ مَلَائِكَةً لَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا فَلَمَّا كُنْتُمْ بَشَرًا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ.

وَمَجِيءُ الْهُدَى هُوَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ إِلَى الْهدى.

[٩٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٩٦]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)

بَعْدَ أَنْ خَصَّ الله مُحَمَّدًا ﷺ بِتَلْقِينِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلضَّلَالَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَلْقِينِهِ أَيْضًا مَا لَقَّنَهُ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ

وَتَحْكِيمِهِ فِي أَعْدَائِهِ، فَأَمَرَهُ بِ قُلْ كَفى بِاللَّهِ تَسْلِيَةً لَهُ وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ وَتَعَهُّدًا لَهُ بِالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ نُوحٌ وَهُودٌ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٦]، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الرُّسُلِ قَالَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ.

وَفِي هَذَا رَدٌّ لِمَجْمُوعِ مُقْتَرَحَاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.

وَمَفْعُولُ كَفى مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: كَفَانِي. وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَهُوَ الْمُخْبِرِ بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ.

وَأُرِيدَ بِالشَّهِيدِ هُنَا الشَّهِيدُ لِلْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّصِيرِ وَالْحَاكِمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبُ الْحُكْمِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ ظَرْفَ (بَيْنَ) يُنَاسِبُ مَعْنَى الْحُكْمِ. وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف:

٨٧] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: ٣] .

وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ فِعْلِ كَفى بِفَاعِلِهِ. وَأَصْلُهُ:

كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا تَعْلِيلٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِهِ تَعَالَى، والخبير: الْعَلِيمُ.

وَأُرِيدَ بِهِ الْعَلِيمُ بِالنَّوَايَا وَالْحَقَائِقِ، والبصير: الْعَلِيمُ بِالذَّوَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ مِنْ أَحْوَالِهَا.،

وَالْمَقْصُودُ مِنِ اتِّبَاعِهِ بِهِ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَشُمُولُهُ.

[٩٧]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٩٧]

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (٩٧)

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ

الْهُدى

[الْإِسْرَاء: ٩٤] جَمْعًا بَيْنَ الْمَانِعِ الظَّاهِرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْهُدَى وَبَيْنَ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ حِرْمَانُ التَّوْفِيقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ

لِذَوِي الْعُقُولِ فَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوَفِّقْهُ. وَأَسْبَابُ الْحِرْمَانِ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ لَا يُلْقِي عَقْلَهُ لِتَلَقِّي الْحَقِّ وَيَتَّخِذُ هَوَاهُ رَائِدًا لَهُ فِي مَوَاقِفِ الْجِدِّ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْإِسْرَاء: ٩٦] ارْتِقَاءً فِي التَّسْلِيَةِ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ عَدَمُ اهْتِدَائِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمُ الِاهْتِدَاءَ لَمَّا أَخَذُوا بِالْعِنَادِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ فِي حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ.

وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ﷺ.

والتعريف فِي الْمُهْتَدِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَالْمُعَرَّفُ مُسَاوٍ لِلنَّكِرَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:

فَهُوَ مُهْتَدٍ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُهْتَدٍ التَّوْطِئَةُ إِلَى ذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ، كَمَا يُقَالُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا فُلَانٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ فِي قَوْله: الْمُهْتَدِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَى الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ دُونَ مَنْ تُرِيدُ أَنْتَ هَدَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ. وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكَمَالِ لِأَنَّ الْهُدَى الْمُرَادَ هُنَا هُدًى وَاحِدٌ وَهُوَ الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ.

وحذفت يَاء الْمُهْتَدِ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَيْهَا بِدُونِ يَاءٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الِاسْمِ الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهَا أُوثِرَتْ مِنْ جِهَةِ التَّخْفِيفِ لِثِقَلِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ ثِقَلِ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ. وَرُسِمَتْ بِدُونِ يَاءٍ لِأَنَّ شَأْنَ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ أَنْ تُرْسَمَ بِمُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ.

وَأَمَّا فِي حَالِ النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ فَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوا الْيَاءَ فِي مَصَاحِفِهِمْ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ وَجَعَلُوهَا أَدَقَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ

فِي الْمُصْحَفِ تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا رَسَمَهُ الصَّحَابَةُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ. وَالْبَاقُونَ حَذَفُوا الْيَاءَ فِي النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ إِلَّا أَنَّ الْفُصَحَاءَ يُجْرُونَ الْفَوَاصِلَ مَجْرَى الْقَوَافِي، وَاعْتَبَرُوا الْفَاصِلَةَ كل جملَة ثمَّ بِهَا الْكَلَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَمْثِيلُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابَةِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: ٤] وَقَوْلِهِ: قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الْكَهْف: ٦٤] . وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٩] .

وَالْخِطَابُ فِي فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ للنبيء ﷺ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، فَنَفْيُ وُجْدَانِ الْأَوْلِيَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ وُجُودِ الْأَوْلِيَاءِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ لَوَجَدَهُمْ هُوَ وَعَرَفَهُمْ.

وَالْأَوْلِيَاءُ: الْأَنْصَارُ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَنْصَارًا يُخَلِّصُونَهُمْ مِنْ جَزَاءِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ بِمَعْنَى مُتَوَلِّي شَأْنِهِمْ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ مَنْ يُصْلِحُ حَالَهُمْ فَيَنْقُلُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧] .

وَجَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلِيًّا وَلَا لِجَمَاعَتِهِ وَلِيًّا، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.

ومِنْ دُونِهِ أَيْ غَيْرِهِ.

وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا ذَكَرَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الْوَلِيّ أَو المئال لَهُ بِذِكْرِ صُورَةِ عِقَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ الْآيَةَ.

وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَشْيَهُمْ عُدِّيَ الْحَشْرُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (يَمْشُونَ. وَقَدْ فَهِمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فسألوا النبيء ﷺ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَرَقُّ تَحَمُّلًا لِصَلَابَةِ الْأَرْضِ مِنَ الرِّجْلِ.

وَهَذَا جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْجُرْمِ، لِأَنَّهُمْ رَوَّجُوا الضَّلَالَةَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَوَسَمُوا الْحَقَّ بِسِمَاتِ الضَّلَالِ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ حُوِّلَتْ وُجُوهُهُمْ أَعْضَاءَ مَشْيٍ عِوَضًا عَنِ الْأَرْجُلِ. ثُمَّ كَانُوا عُمْيًا وَبُكْمًا جَزَاءَ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْقُرْآنِ، وصُمًّا جَزَاءَ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: ٥] . وَقَالَ عَنْهُمْ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه:

١٢٥- ١٢٦]، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء:

٧٢] أَيْ مَنْ كَانَ أَعْمَى عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ فِي الْحَشْرِ يَكُونُ مَحْرُومًا مِنْ مُتْعَةِ النَّظَرِ. وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ.

وَالْمَأْوَى مَحَلُّ الْأَوْيِ، أَيِ النُّزُولِ بِالْمَأْوَى. أَيِ الْمَنْزِلِ وَالْمَقَرِّ.

وَخَبَتِ النَّارُ خُبُوًا وَخَبْوًا. نَقَصَ لَهِيبُهَا.

وَالسَّعِيرُ: لَهَبُ النَّارِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَعْرِ النَّارِ إِذَا هُيِّجَ وَقُودُهَا. وَقَدْ جَرَى الْوَصْفُ فِيهِ عَلَى التَّذْكِيرِ تَبَعًا لِتَذْكِيرِ اللَّهَبِ. وَالْمَعْنَى: زِدْنَاهُمْ لَهَبًا فِيهَا.

وَفِي قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا إِشْكَالٌ لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تَخْبُو. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [الْبَقَرَة: ٨٦] . فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنَّارِ قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: ٢٤] فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ زَالَ اللَّهَبُ الَّذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادَوْا كَمَا كَانُوا فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ.

فَالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لَا فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سُلِّطَ فِعْلُ زِدْناهُمْ عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ كَانَ فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا خَبَتْ فِيهِمْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا، وَلم يقل: زدناهم سَعِيرًا.

وَعِنْدِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ جَارٍ عَلَى طَرِيق التهكّم وبادىء الْإِطْمَاعِ الْمُسْفِرِ عَنْ خَيْبَةٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَبْوِ، كَمَا تُفِيدُهُ كَلِمَةُ (كُلَّمَا) الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى كُلِّ زَمَانٍ. وَهَذَا فِي ظَاهِرِهِ إِطْمَاعٌ بِحُصُولِ خَبْوٍ لِوُرُودِ لَفْظِ الْخَبْوِ فِي الظَّاهِر، وَلكنه يؤول إِلَى يَأْسٍ مِنْهُ إِذْ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ سَعِيرِهَا فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، لِاقْتِرَانِ ازْدِيَادِ سَعِيرِهَا بِكُلِّ أَزْمَانِ خَبْوِهَا. فَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيحِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَقَوْلُ إِيَاسٍ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ الَّذِي سَأَلَهُ: عَلَى مَنْ قَضَيْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى ابْنِ أُخْت خَالك.

[٩٨]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٩٨]

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٩٨)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ الْعِقَابَ الْفَظِيعَ الْمَحْكِيَّ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ السُّؤَالَ عَنْ سَبَبِ تَرَكُّبِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُفْظِعَةِ، فَالْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِالْآيَاتِ

وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ.

فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ [الْإِسْرَاء:

٩٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ بِتَأْوِيلِ: الْمَذْكُورُ.

وَالْجَزَاءُ: الْعِوَضُ عَنْ عَمَلٍ.

وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ جملَة وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامًا إِلَخْ. عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.

فَذُكِرَ وَجْهُ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ لَهُمْ، وَذُكِرَ سَبَبَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْكُفْرُ بِالْآيَاتِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ صُنُوفٌ مِنَ الْجَرَائِمِ تَفْصِيلًا وَجَمْعًا تُنَاسِبُهَا الْعُقُوبَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الْإِسْرَاء: ٩٧] .

وَثَانِيهِمَا: إِنْكَارُهُمُ الْبَعْث بقَوْلهمْ: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا الْمُنَاسِبُ لَهُ أَنْ يُعَاقَبُوا عِقَابًا يُنَاسِبُ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ تَجَدُّدِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَصِيرِ رُفَاتًا، فَإِنَّ رُفَاتَ الْإِحْرَاقِ أَشَدُّ اضْمِحْلَالًا مِنْ رُفَاتِ الْعِظَامِ فِي التُّرَابِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي حِكَايَة قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَقَوْلِهِ: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارِيٌّ.

وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي إِثْبَاتِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: أَإِذا وَفِي إِثْبَاتِهَا فِي قَوْله: أَإِذا..

لَمَبْعُوثُونَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذِه السُّورَة.

[٩٩]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ٩٩]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا (٩٩)

جُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ [الْإِسْرَاء: ٩٨] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مِنَ الرَّدْعِ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظامًا وَرُفاتًا [الْإِسْرَاء:

٩٨] . فَبَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأُسْلُوبِ التَّهْدِيدِ عَطَفَ عَلَيْهِ إِبْطَالَ اعْتِقَادِهِمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي الْإِمْكَانِ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِقْنَاعِهِمْ هُنَا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِاعْتِقَادِ اسْتِحَالَتِهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ

حِكَايَةً كَلَامُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا، أَي بتعذر إِعَادَة خَلْقِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَلَمْ يَسْتَدِلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَكَانَ تَمْثِيلُ خَلْقِ أَجْسَامٍ مِنْ أَجْزَاءٍ بَالِيَةٍ بِخَلْقِ أَشْيَاءَ أَعْظَمَ مِنْهَا مِنْ

عَدَمٍ أَوْغَلَ فِي الْفَنَاءِ دَلِيلًا يَقْطَعُ دَعْوَاهُمْ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا إِنْكَارِيٌّ مَشُوبٌ بِتَعْجِيبٍ مِنِ انْتِفَاءِ عِلْمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَرَتْ عَقَائِدُهُمْ عَلَى اسْتِبْعَادِ الْبَعْثِ كَانُوا بِحَالِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ دَلَائِلُ قُدْرَةِ الله تَعَالَى، فيؤول الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَنَّهَا عُدِّيَتَ إِلَى كَوْنِ اللَّهِ قَادِرًا، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ المبصرات. وَالْمعْنَى: أَو لم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.

وَضَمِيرُ مِثْلَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَرَوْا وَهُوَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ:

وَما مَنَعَ النَّاسَ [الْإِسْرَاء: ٩٤] أَيِ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْمِثْلُ: الْمُمَاثِلُ، أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ نَاسًا أَمْثَالَهُمْ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ إِعَادَةِ أَجْسَامِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ لَا فِي أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا آخَرَ، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَعْثَ إِعَادَةُ أَجْسَامٍ أُخْرَى عَنْ عَدَمٍ، فَيُخْلَقُ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ عَلَى مِثَالِ جَسَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَتُوضَعُ فِيهِ الرُّوحُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «مِثْلَ» هُنَا كِنَايَةً عَنْ نَفْسِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهِ، أَيْ عَلَى جَعْلِ الْكَافِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَفْظِ «مِثْلِهِ» غَيْرَ زَائِدَةٍ. وَالْمَعْنَى: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُمْ، أَيْ أَنْ يُعِيدَ خَلْقَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

وَلِعُلَمَائِنَا طُرُقٌ فِي إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ عِنْدَ الْبَعْثِ فَقِيلَ: تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَنْ عَدَمٍ، وَقِيلَ تكون عَن جمع مَا تَفَرَّقَ مِنَ الْأَجْسَامِ. وَقِيلَ: يَنْبُتُ مِنْ عَجْبِ

ذَنَبِ كُلِّ شَخْصٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ مُمَاثِلٌ لِجَسَدِهِ كَمَا تَنْبُتُ مِنَ النَّوَاةِ شَجَرَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي أَثْمَرَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ النَّوَاةِ.

وَوَصْفُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَكَوْنُهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ.

وَجُمْلَةُ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا لِتَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى قَدْ رَأَوْا ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمْ عُقُولٌ، أَيْ تَحَقَّقُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ.

وَالْأَجْلُ: الزَّمَانُ الْمَجْعُولُ غَايَةً يُبْلَغُ إِلَيْهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى امْتِدَادِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ لِكُلِّ حَيٍّ بِحَسَبِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ آلَاتِ الْجِسْمِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَتَخْرِمُ بَعْضَ تِلْكَ السَّلَامَةِ أَوْ تُقَوِّيهَا.

وَالْأَجَلُ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جُعِلَ لِوُقُوعِ الْبَعْثِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْجَعْلِ لَهُمْ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُبْعَثُ حِينَئِذٍ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَجَلًا.

وَمَعْنَى كَوْنِ الْأَجَلِ لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي فِيهِ: رَيْبٌ، وَأَنَّ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ مُكَابَرَةٌ أَوْ إِعْرَاضٌ عَنِ النَّظَرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة:

٢] .

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ أَجْلَ الْحَيَاةِ، أَيْ وَجُعِلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا، فَيَكُونَ اسْتِدْلَالًا ثَانِيًا عَلَى الْبَعْثِ، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لِحَيَاتِهِمْ، فَمَا أَوَجَدَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ سَيُعِيدُهُمْ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى،

وَإِلَّا لَمَا أَفْنَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْيَاهُمْ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي أَنَّ مَا يُوجِدُهُ الْحَكِيمُ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ وَعَدَمِ فَنَائِهِ، فَمَا كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ إِلَّا فَنَاءً عَارِضًا لِاسْتِقْبَالِ وُجُودٍ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْوُجُودِ وَأَبْقَى.

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْجَعْلِ لَهُمْ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْآجَالَ آجَالُهُمْ. وَكَوْنُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْضًا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّ لِحَيَاتِهِمْ آجَالًا. وَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: لَهُمْ أَجَلًا تَعْرِيضًا بِالْمِنَّةِ بِنِعْمَةِ الْإِمْهَالِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَتَعْرِيضًا بِالتَّذْكِيرِ بِإِفَاضَةِ الْأَرْزَاقِ عَلَيْهِمْ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِمَا تَحْتَوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَأَسْبَابِهَا.

وَجُمْلَةُ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا تَفْرِيعٌ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتَاهُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَيْ عَلِمُوا أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَمَعَ عِلْمِهِمْ أَبَوْا إِلَّا كُفُورًا. فَالتَّفْرِيعُ مِنْ تَمَامِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ.

وَاسْتِثْنَاءُ الْكُفُورِ مِنَ الْإِبَايَةِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.

وَالْكُفُورُ: جُحُودُ النِّعْمَةِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَاخْتِيرَ «الْكُفُورُ» هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ فَعَبَدُوا غير الْمُنعم.

[١٠٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٠٠]

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (١٠٠)

اعْتِرَاض ناشىء عَنْ بَعْضِ مُقْتَرَحَاتِهِمُ الَّتِي تَوَهَّمُوا عَدَمَ حُصُولِهَا دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ إِرْسَالِ بَشِيرٍ، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ لِتَكْمِلَةِ رَدِّ شُبُهَاتِهِمْ. وَهَذَا رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا إِلَى قَوْله: تَفْجِيرًا [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩١]، وَقَوْلُهُمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الْإِسْرَاء: ٩٣] مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ ذَلِكَ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ.

وَمَعْنَى الرَّدِّ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ فِي جَانِبِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ لَوْ شَاءَ أَنْ يُظْهِرَهُ لَكُمْ.

وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الرَّدِّ بَيَانُ مَا فِيهِمْ مِنَ الْبُخْلِ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَشَكَرُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا نِعْمَةَ لَهَا. وَيَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ.

وَشَأْنُ (لَوْ) أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ مَاضِيًا فِي الْأَكْثَرِ أَوْ مُضَارِعًا فِي اعْتِبَارَاتٍ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَإِذَا أَوْقَعُوا الِاسْمَ بَعْدَهَا فِي الْكَلَامِ وَأَخَّرُوا الْفِعْلَ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِقَصْدٍ بَلِيغٍ: إِمَّا لِقَصْدِ التَّقَوِّي وَالتَّأْكِيدِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْأَدَاةِ ثُمَّ ذِكْرَ فَاعِلِهِ ثُمَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ مَرَّةً ثَانِيَةً تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التَّوْبَة: ٦] وَإِمَّا لِلِانْتِقَالِ مِنَ التَّقَوِّي إِلَى الِاخْتِصَاصِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَا قُدِّمَ الْفَاعِلُ مِنْ مَكَانَهُ إِلَّا لمقصد طَرِيقٍ غَيْرِ مَطْرُوقٍ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ التَّخْرِيجُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ «لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا» .

وَالْمَعْنَى: لَو أَنْتُم اختصصتم بِمِلْكِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ دُونَ اللَّهِ لَمَا أَنْفَقْتُمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ شَيْئًا. وَذَلِكَ أَشَدُّ فِي التَّقْرِيعِ وَفِي الِامْتِنَانِ بِتَخْيِيلِ أَنَّ إِنْعَامَ غَيْرِهِ كَالْعَدَمِ.

وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يُنَاكِدُ اخْتِصَاصَ (لَوْ) بِالْأَفْعَالِ لِلِاكْتِفَاءِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِهَا غَيْرَ مُوَالٍ إِيَّاهَا وَمُوَالَاتُهُ إِيَّاهَا أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَنْتَ عَالِمٌ لَبَذَذْتَ الْأَقْرَانَ.

وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فَرْضُ أَنْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبل.

ولَأَمْسَكْتُمْ هُنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، لِأَن الْمَقْصُود: إِذن لَاتَّصَفْتُمْ

بِالْإِمْسَاكِ، أَيِ الْبُخْلِ. يُقَالُ: فُلَانٌ مُمْسِكٌ، أَيْ بَخِيلٌ. وَلَا يُرَادُ أَنَّهُ مُمْسِكٌ شَيْئًا مُعَيَّنًا.

وَأَكَّدَ جَوَابَ (لَوْ) بِزِيَادَة حرف (إِذن) فِيهِ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْجَوَابِيَّةِ، وَلِأَن فِي (إِذن) مَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢] . وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ عَوَانَةَ:

أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبَطْنِ خَبْتٍ ... وَقَدْ لَاقَى الْهِزَبْرُ أَخَاك بشرا


إِذن لَرَأَيْتِ لَيْثًا أَمّ لَيْثًا ... هِزَبْرًا أَغْلَبًا لَاقَى هِزَبْرَا

وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا حَالِيَّةٌ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تُفِيدُ تَذْيِيلًا لِأَنَّهَا عَامَّةُ الْحُكْمِ. فَالْوَاوُ فِيهَا لَيْسَتْ عَاطِفَةً.

وَالْقَتُورُ: الشَّدِيدُ الْبُخْلِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْقَتْرِ وَهُوَ التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاق.

[١٠١، ١٠٢]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ١٠١ إِلَى ١٠٢]

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُورًا (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢)

بَقِيَ قَوْلُهُمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] غَيْرَ مَرْدُودٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَهُ مُخَالَفَةً لِبَقِيَّةِ مَا اقْتَرَحُوهُ بِأَنَّهُ اقْتِرَاحُ آيَةِ عَذَابٍ وَرُعْبٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ آيَاتِ مُوسَى- عليه السلام التِّسْعِ. فَكَانَ ذِكْرُ مَا آتَاهُ اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَعَدَمِ إِجْدَاءِ ذَلِكَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ تَنْظِيرًا لِمَا سَأَلَهُ الْمُشْرِكُونَ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى- عليه السلام تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَزَعَمُوا ذَلِكَ سِحْرًا، فَفِي ذَلِكَِ

مَثَلٌ لِلْمُكَابِرِينَ كُلِّهِمْ وَمَا قُرَيْشٌ إِلَّا مِنْهُمْ. فَفِي هَذَا مَثَلٌ لِلْمُعَانِدِينَ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ هِيَ: بَيَاضُ يَدِهِ كُلَّمَا أَدْخَلَهَا فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا، وَانْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقَمْلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالرِّجْزُ وَهُوَ الدُّمَّلُ، وَالْقَحْطُ وَهُوَ السُّنُونَ وَنَقَصُ الثَّمَرَاتِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف. وَجَمعهَا الفيروزآبادىّ فِي قَوْلِهِ:

عَصًا، سَنَةٌ، بَحْرٌ، جَرَادٌ، وَقُمَّلُ ... يَدٌ، وَدَمٌ، بَعْدَ الضَّفَادِعِ طُوفَانُ

فَقَدْ حَصَلَتْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ.

ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الِاعْتِنَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ رِسَالَة مُحَمَّد ﷺ ورسالة مُوسَى- عليه السلام إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالرِّسَالَةِ بِعِلَّةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بَشَرٌ، وَلِلْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَقَّنُوهُمْ شُبَهَ الْإِلْحَادِ فِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِيَصْفُوَ لَهُمْ جَوُّ الْعِلْمِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُمْ مَا كَانُوا يَحْسُبُونَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ حِسَابًا.

فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ عَلَى رِسَالَتِهِ.

وَهَذَا مِثْلُ التَّنْظِيرِ بَيْنَ إِيتَاءِ مُوسَى الْكتاب وَإِيتَاءِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩] .

فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٣] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي الْآيَة [الْإِسْرَاء:

١٠٠] .

ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّفْرِيعِ إِلَى التَّسْجِيلِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتِشْهَادًا بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِدْمَاجًا لِلتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِ

نبوءة مُحَمَّد ﷺ وَمُظَاهَرَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ بِالدَّسِّ وَتَلْقِينِ الشُّبَهِ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُورًا.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْله: فَسْئَلْ للنبيء ﷺ. وَالْمُرَادُ: سُؤَالُ الِاحْتِجَاجِ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَا سُؤَالُ الِاسْتِرْشَادِ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ.

وَقَوْلُهُ: مَسْحُورًا ظَاهِرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَأَثِّرًا بِالسِّحْرِ، أَيْ سَحَرَكَ السَّحَرَةُ وَأَفْسَدُوا عَقْلَكَ فَصِرْتَ تَهْرِفُ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الدَّالِّ عَلَى خَلَلِ الْعَقْلِ (مِثْلَ الْمَيْمُونِ وَالْمَشْئُومِ) .

وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ فِرْعَوْنُ فِي مَقَامٍ غَيْرِ الَّذِي قَالَ لَهُ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: ٣٥]، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، [الشُّعَرَاء: ٣٤] فَيَكُونُ إِعْرَاضًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْآيَاتِ وَإِقْبَالًا عَلَى تَطَلُّعِ حَالِ مُوسَى فِيمَا يَقُولُهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء:

٢٥] . وكل تِلْكَ أَقْوَال صَدَرَتْ مِنْ فِرْعَوْنَ فِي مَقَامَاتِ مُحَاوَرَاتِهِ مَعَ مُوسَى- عليه السلام فَحُكِيَ فِي كُلِّ آيَةٍ شَيْءٌ مِنْهَا.

وَ(إِذَا) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَيْنا. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جاءَهُمْ عَائِدٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْأَلْهُمْ.

وَكَانَ فِرْعَوْنُ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهَا سِحْرٌ، أَوْ تَعَلَّقَ ظَنُّهُ بِحَقِيقَةِ حَالِ مُوسَى فَرَجَحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَصَابَهُ سِحْرٌ، لِأَنَّ الظَّنَّ دُونَ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى:

إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِين.

وَمعنى قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَبْقَ فِي نَفْسِهِ شَكٌّ فِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُورًا عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَكِبْرِيَاءً.

وَأُكِّدَ كَلَامُ مُوسَى بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ عِلْمِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ.

وَإِنَّمَا أَيْقَنَ مُوسَى بِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ: إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَعْلَمَهُ بِهِ، وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُصِيبٍ، لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عِنْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ الضَّرُورِيِّ حُصُولٌ عَقْلِيٌّ طَبِيعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ عَقْلٍ سَلِيمٍ.

وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ لَقَدْ عَلِمْتَ- بِضَمِّ التَّاءِ-، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَيْسَتْ بِسِحْرٍ كَمَا زَعَمْتَ كِنَايَةً عَلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ مِنْ نَفْسِهِ السَّلَامَةَ مِنَ السِّحْرِ.

وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ جِيءَ لَهَا بِاسْمِ إِشَارَةِ الْعَاقِلِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٦]، وَقَوْلُ جَرِيرٍ:

ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللَّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ

وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُشَارَ بِ (أُولَاءِ) إِلَى الْعَاقِلِ.

وَالْبَصَائِرُ: الْحُجَجُ الْمُفِيدَةُ لِلْبَصِيرَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهَا نَفْسُ الْبَصِيرَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فِي آخر سُورَة الْأَعْرَافِ [٢٠٣] .

وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ بِطَرِيقِ إِضَافَةِ وَصْفِ الرَّبِّ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذِهِ الْخَوَارِقِ.

وَالْمَثْبُورُ: الَّذِي أَصَابَهُ الثُّبُورُ وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَهَذَا نِذَارَةٌ وَتَهْدِيدٌ لِفِرْعَوْنَ بِقُرْبِ هَلَاكِهِ.

وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُوسَى ظَنًّا تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءٍ تَامٍّ أَفَادَهُ هَلَاكُ الْمُعَانِدِينَ لِلرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْرِ لَعَلَّ فِرْعَوْنَ يُقْلِعُ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ عِنْده احْتِمَالا ضَعِيفا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ تَوَقُّعَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ ظَنًّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَفِي ذِكْرِ هَذَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى إِتْمَامٌ لِتَمْثِيلِ حَالِ مُعَانِدِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِحَال من عَائِد رِسَالَةَ مُوسَى- عليه السلام.

وَجَاءَ فِي جَوَابِ مُوسَى- عليه السلام لِفِرْعَوْنَ بِمِثْلِ مَا شَافَهَهُ فِرْعَوْنُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ:

إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُورًا مُقَارَعَةً لَهُ وَإِظْهَارًا لِكَوْنِهِ لَا يَخَافُهُ وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمِثْلِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة:

١٩٤] .

[١٠٣، ١٠٤]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]

فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)

أُكْمِلَتْ قِصَّةُ الْمَثَلِ بِمَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ إِنْذَارًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمُحَاوَلَاتِهِمْ صَائِرَةٌ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مَكْرُ فِرْعَوْنَ وَكَيْدُهُ، فَفَرَّعَ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَيِ الرِّسَالَتَيْنِ وَحَالَيِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمَا ذكر عَاقِبَة الْحَالة الممثل بهَا نذارة لِلْمُمَثَّلِينَ بِذَلِكَ الْمَصِيرِ.

فَقَدْ أَضْمَرَ الْمُشْرِكُونَ إِخْرَاج النبيء ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، فَمُثِّلَتْ إِرَادَتُهُمْ بِإِرَادَةِ فِرْعَوْنَ إِخْرَاجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٦] .

وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِبْعَادِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ فِي هَذِه السُّورَة [الْإِسْرَاء: ٧٦] .

وَالْمُرَادُ بِمَنْ مَعَهُ جُنْدُهُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ يَتَّبِعُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَالْأَرْضُ الْأُولَى هِيَ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، وَالْأَرْضُ الثَّانِيَةُ أَرْضُ الشَّامِ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِوَعْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهَا.

وَوَعْدُ الْآخِرَةِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْخَلَائِقَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.

وَاللَّفِيفُ: الْجَمَاعَاتُ الْمُخْتَلِطُونَ مِنْ أَصْنَافٍ شَتَّى، وَالْمَعْنَى: حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا

بِغَرَقِ الْكَفَرَةِ وَتَمْلِيكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَنَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَمَعْنَى جِئْنا بِكُمْ أَحْضَرْنَاكُمْ لَدَيْنَا. وَالتَّقْدِيرُ: جِئْنَا بكم إِلَيْنَا.

[١٠٥]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٠٥]

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (١٠٥)

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عَوْدٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بشأن الْقُرْآن فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الْإِسْرَاء: ٨٩] . فَلَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الْإِسْرَاء: ٩٠] الْآيَاتِ إِلَى هُنَا وَسَمَحَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ تَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ مُوسَى- عليه السلام عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ.

وَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ بِصِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى ثَنَاءٍ عَظِيمٍ وَتَنْبِيهٍ لِلتَّدَبُّرِ فِيهِمَا.

وَقَدْ ذُكِرَ فِعْلُ النُّزُولِ مَرَّتَيْنِ، وَذُكِرَ لَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مُتَعَلِّقٌ مُتَمَاثِلُ اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مُخْتَلِفُ الْمَعْنَى، فَعَلَّقَ إِنْزَالَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] وَهُوَ رَدٌّ لِتَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَعَلَّقَ نُزُولَ الْقُرْآنِ، أَيْ بُلُوغَهُ لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى الْحَقِّ الثَّانِي مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، أَيْ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بِهِ قِوَامُ صَلَاحِ النَّاسِ وَفَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النِّسَاء: ١٠٥] .

وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَقَامِ.

وَالْبَاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَالْمُصَاحَبَةُ

تُشْبِهُ الظَّرْفِيَّةَ. وَلَوْلَا اخْتِلَافُ مَعْنَى الْبَاءَيْنِ فِي الْآيَةِ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ لِأَنَّهُ إِذَا أُنْزِلَ بِالْحَقِّ نَزَلَ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ.

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى عَامِلِهِ لِلْقَصْرِ رَدًّا عَلَى الْمُنْكِرِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ سِحْرٌ مُبِينٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَجُمْلَةِ وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ [الْإِسْرَاء:

١٠٦] . أَيْ وَفِي ذَلِكَ الْحَقِّ نَفْعٌ وَضُرٌّ فَأَنْتَ بِهِ مُبَشِّرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرٌ لِلْكَافِرِينَ.

وَالْقَصْرُ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ سَأَلُوهُ أَشْيَاءَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ ظَنُّوا أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُول بشرا.

[١٠٦]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١٠٦]

وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦)

عَطْفٌ عَلَى جملَة أَنْزَلْناهُ [الْإِسْرَاء: ١٠٥] .

وَانْتَصَبَ قُرْآنًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي فَرَقْناهُ مُقَدَّمَةً عَلَى صَاحِبِهَا تَنْوِيهًا الْكَوْنُ قُرْآنًا، أَيْ كَوْنُهُ كِتَابًا مَقْرُوءًا. فَإِنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ التِّلَاوَةُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي يُحْفَظُ وَيُتْلَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الْحجر: ١]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَهَذَا الْكِتَابُ لَهُ أَسْمَاءٌ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ فَهُوَ كِتَابٌ، وَقُرْآنٌ، وَفُرْقَانٌ، وَذِكْرٌ، وَتَنْزِيلٌ.

وتجري عَلَيْهِ هَذِه الْأَوْصَافُ أَوْ بَعْضُهَا بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَقَوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] بِاعْتِبَارِ أَنَّ

الْمَقَامَ لِلْأَمْرِ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَإِلَى قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا [الْفرْقَان: ١] فِي مَقَامِ كَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ بِوَصْفِ الْقُرْآنِ غَيْرُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ على مُحَمَّد ﷺ.

وَمَعْنَى فَرَقْناهُ جَعَلْنَاهُ فَرْقًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا غَيْرَ مُجْتَمِعٍ صَبْرَةً وَاحِدَةً.

يُقَالُ: فَرَّقَ الْأَشْيَاءَ إِذَا بَاعَدَ بَيْنَهَا، وَفَرَّقَ الصَّبْرَةَ إِذَا جَزَّأَهَا. وَيُطْلَقُ الْفَرْقُ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُشْبِهُ تَفْرِيقَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، فَيَكُونُ فَرَقْناهُ مُحْتَمِلًا مَعْنَى بَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْلُهُ: قُرْآنًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ فَرَقْناهُ آلَ الْمَعْنَى إِلَى: أَنَّا فَرَقْنَاهُ وَأَقْرَأْنَاهُ.

وَقَدْ عُلِّلَ بِقَوْلِهِ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ. فَهُمَا عِلَّتَانِ: أَنْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ وَتِلْكَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِ قُرْآنًا، وَأَنْ يُقْرَأَ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ مَهَلٍ وَبُطْءٍ وَهِيَ عِلَّةٌ لِتَفْرِيقِهِ.

وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ أَثْبَتَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ.

وَجُمْلَةُ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ. وَفِي فِعْلِ نَزَّلْناهُ الْمُضَاعَفِ وَتَأْكِيدِهِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْرِيقِ إِنْزَالِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ [الْإِسْرَاء: ١٠٥] .

وَطُوِيَ بَيَانُ الْحِكْمَةِ لِلِاجْتِزَاءِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ مِنِ اتِّحَادِ الْحِكْمَةِ. وَهِيَ مَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الْفرْقَان: ٣٢] .

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: فَرَّقْنَا إِنْزَالَهُ رَعْيًا لِلْأَسْبَابِ والحوادث. وَفِي كَلَام الْوَجْهَيْنِ إِبْطَالٌ لَشُبْهَتِهِمْ إِذْ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] .

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): الْآيَات ١٠٧ إِلَى ١٠٩]

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)

اسْتِئْنَافُ خطاب للنبيء ﷺ لِيُلَقِّنَهُ بِمَا يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الْإِسْرَاء: ٨٨] فَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمثلِهِ، ثمَّ بِبَيَان فَضَائِلِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الْإِسْرَاء: ٨٩]، ثُمَّ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمُعْجِزَاتٍ أخر، ثمَّ بكشف شُبْهَتَهُمُ الَّتِي يُمَوِّهُونَ بِهَا امْتِنَاعَهُمْ مِنَ الْإِيمَان برسالة بشر، وَبَيَّنَ لَهُمْ غَلَطَهُمْ أَوْ مُغَالَطَتَهُمْ، ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ اللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ بِتَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ بِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ بِحَالِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَعَ مُوسَى وَمَا عُجِّلَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ، ثُمَّ بِكَشْفِ شُبْهَتِهِمْ فِي تَنْجِيمِ الْقُرْآنِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْوِيضِ النَّظَرِ فِي تَرْجِيحِ الْإِيمَانِ بِصِدْقِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ:

آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ إِيمَانِهِمْ وَعَدَمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ:

آمِنُوا لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ إِنْ شِئْتُمْ.

وَجُزِمَ لَا تُؤْمِنُوا بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَجْزُومِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ [١٦] فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ، فَحَرْفُ (لَا) حَرْفُ نَفْيٍ وَلَيْسَ حَرْفَ نَهْيٍ، وَلَا يَقَعُ مَعَ الْأَمْرِ الْمُرَادِ بِهِ التَّسْوِيَةُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَقِلَّةِ

الْمُبَالَاةِ بِهِمْ، وَيَنْدَمِجُ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ تَسْلِيَة الرَّسُول ﷺ.

وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَعْلِيلٌ لِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَدَمِهِ أَوْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قُلْ، أَوْ لِكِلَيْهِمَا، شَأْنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَرِدُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ. وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِيهَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّمَا كَانَ إِيمَانُكُمْ بِالْقُرْآنِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إِيمَانِكُمْ بِهِ بِإِيمَانِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ، فَهُمْ أَرْجَحُ مِنْكُمْ أَحْلَامًا وَأَفْضَلُ مَقَامًا، وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعلم، فَإِنَّهُم إِذا يَسْمَعُونَهُ يُؤمنُونَ بِهِ وَيَزِيدُهُمْ إِيمَانًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْوَعْدِ بِالرَّسُولِ الَّذِي أُنْزِلَ هَذَا عَلَيْهِ.

وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ جَهَلَةٌ وَأَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ.

وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَمْثَالُ: وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَقَدْ تَسَامَعَ أَهْلُ مَكَّةَ بِشَهَادَتِهِ للنبيء ﷺ وَمَنْ آمَنَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ مِثْلِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمُعَيْقِيبٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ.

وَضَمَائِرُ «بِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ، وَيُتْلَى» عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ. وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ مَعْهُودِ الْحَذْفِ، أَيْ آمَنُوا بِصِدْقِهِ. وَمِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ.

وَالْخُرُورُ: سُقُوطُ الْجِسْمِ. قَالَ تَعَالَى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل:

٢٦] .

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣] .

وَاللَّامُ فِي لِلْأَذْقانِ بِمَعْنَى (عَلَى) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣]، وَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:

............... ..... (١) ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ

(١) أَوله: «فأضر بهَا بِلَاد دهش فخرت» . وَضمير الغائبة عَائِد على الغول.

وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. اسْتُعِيرَ حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ لِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَزِيدِ التَّمَكُّنِ كَتَمَكُنِّ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ.

وَالْأَذْقَانُ: جَمْعُ الذَّقَنِ- بِفَتْحِ الذَّالِ وَفَتْحِ الْقَافِ- مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَذَكَرَ الذَّقَنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمْكِينِهِمُ الْوُجُوهَ كُلَّهَا مِنَ الْأَرْضِ مِنْ قُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي السُّجُودِ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى.

وسُجَّدًا جَمْعُ سَاجِدٍ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَخِرُّونَ لِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْخُرُورِ، وَسُجُودُهُمْ سُجُودُ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ آيَةٍ مِنْ دَلَائِلِ عَلْمِهِ وَصَدِقِ رُسُلِهِ وَتَحْقِيقِ وَعْدِهِ.

وَعُطِفَتْ وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا عَلَى يَخِرُّونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السَّجْدَة: ١٥] . عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ: سُبْحانَ رَبِّنا دَلَالَةٌ عَلَى التَّعَجُّبِ وَالْبَهْجَةِ مِنْ تَحَقُّقِ وَعْدِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَجِيءِ الرَّسُول الْخَاتم ﷺ.

وَجُمْلَةُ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا مِنْ تَمَامِ مَقُولِهِمْ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ، لِأَنَّ تَسْبِيحَهُمْ قَبْلَهُ تَسْبِيحُ تَعَجُّبٍ وَاعْتِبَارٍ بِأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمَوْعُودُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ.

وَ(إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَقَدْ بَطَلَ عَمَلُهَا بِسَبَبِ التَّخْفِيفِ، وَوَلِيَهَا فِعْلٌ مِنْ نَوَاسِخِ الْمُبْتَدَأِ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُخَفَّفَةِ. وَقُرِنَ خَبَرُ النَّاسِخِ بِاللَّامِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّافِيَةِ.

وَالْوَعْدُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ. وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيقَ الْمَوْعُودِ بِهِ فَحَصَلَ التَّصْدِيقُ بِالْوَعْدِ وَالْمَوْعُودِ بِهِ.

وَمعنى لَمَفْعُولًا أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا جَاءَ فِي وَعْدِهِ، أَيْ يُكَوِّنُهُ وَيُحَقِّقُهُ، وَهَذَا السُّجُودُ سُجُودُ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ إِذْ حَقَّقَ وَعْدَهُ بَعْدَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ.

وَقَوْلُهُ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ تَكْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، أُعِيدَتِ الْجُمْلَةُ تَمْهِيدًا لِذِكْرِ الْحَالِ. وَقَدْ يَقَعُ التَّكْرِيرُ مَعَ الْعَطْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْقُيُودِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْمُغَايَرَةُ مُصَحِّحَةً الْعَطْفَ، كَقَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:

فَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... إِذَا الْخَصْمُ أَبْزَى مَائِلُ الرَّأْسِ أَنْكَبُ


وَهَلَّا أَعَدُّونِي لِمِثْلِي تَفَاقَدُوا ... وَفِي الأَرْض مبثوث شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ

فَالْخُرُورُ الْمَحْكِيُّ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْخُرُورُ الْأَوَّلُ، وَإِنَّمَا خَرُّوا خُرُورًا وَاحِدًا سَاجِدِينَ بَاكِينَ، فَذُكِرَ مَرَّتَيْنِ اهْتِمَامًا بِمَا صَحِبَهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْخُشُوعِ.

وَذَكَرَ يَبْكُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.

وَالْبُكَاءُ بُكَاءُ فَرَحٍ وَبَهْجَةٍ. وَالْبُكَاءُ: يَحْصُلُ مِنِ انفعال باطني ناشىء عَنْ حُزْنٍ أَوْ عَنْ خَوْفٍ أَوْ عَنْ شَوْقٍ.

وَيَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ خُشُوعًا عَلَى خُشُوعِهِمُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ كِتَابِهِمْ.

وَمِنَ السُّنَّةِ سُجُودُ الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ لَهُ بِقَصْدِ هَذِهِ الْآيَةِ اقْتِدَاءً بِأُولَئِكَ السَّاجِدِينَ بِحَيْثُ لَا يَذْكُرُ الْمُسْلِمُ سُجُودَ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِلَّا وَهُوَ يرى نَفسه أَجْدَرَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.

[١١٠]


[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١١٠]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (١١٠)

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لَا شَكَّ أَنَّ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا خَاصًّا إِذْ لَا مُوجِبَ لِذِكْرِ هَذَا التَّخْيِيرِ بَيْنَ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِاسْمِهِ الْعَلَمِ وَبَيْنَ دُعَائِهِ بِصفة الرحمان خَاصَّةً دُونَ

ذِكْرِ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مِثْلِ: الرَّحِيمِ أَوِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْحُسْنَى.

ثُمَّ لَا بُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الْمُنَاسَبَةِ لِوُقُوعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ السُّورَةِ.

فَأَمَّا سَبَبُ نُزُولِهَا

فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِي ﷺ سَاجِدًا يَدْعُو يَا رحمان يَا رَحِيمُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو مَثْنَى مَثْنَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَبَين صفة الرحمان اكْتِفَاءً، أَيْ أَوِ الرَّحِيمِ.

وَفِي «الْكَشَّافِ»: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ أَبُو جهل النبيء ﷺ يَقُولُ: يَا الله يَا رحمان.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّهُ يَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ إِلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو إِلَهًا آخَرَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ

. وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْآيَةِ لِاقْتِصَارِهَا عَلَى اسْمِ الله وَصفَة الرحمان.

وَأَمَّا مَوْقِعُهَا هُنَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا حَدَثَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَالْكَلَامُ رَدٌّ وَتَعْلِيمٌ بِأَنَّ تَعَدُّدَ الْأَسْمَاءِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمُسَمَّى، وَشَتَّانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَتَعَلَّقَانِ بِالذَّوَاتِ لَا بِالْأَسْمَاءِ.

وَ(أَيٌّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ أَفَادَتِ الشَّرْطَ كَمَا تُفِيدُهُ كَيْفَ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الزَّائِدَةُ. وَلِذَلِكَ جُزِمَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا وَهُوَ تَدْعُوا شَرْطًا، وَجِيءَ لَهَا بِجَوَابٍ مُقْتَرِنٍ بِالْفَاءِ، وَهُوَ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى عِلَّةُ الْجَوَابِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى تَدْعُونَ فَلَا حَرَجَ فِي دُعَائِهِ بِعِدَّةِ أَسْمَاءٍ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَإِذِ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ.

وَمَعْنَى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ادْعُوا هَذَا الِاسْمَ أَوْ هَذَا الِاسْمَ، أَيِ اذْكُرُوا فِي دُعَائِكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا، فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ وَقَعَ تَجَوُّزٌ فِي فِعْلِ ادْعُوا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى اذْكُرُوا أَوْ سَمُّوا فِي دُعَائِكُمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى سَمُّوا، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.

وَالتَّقْدِيرُ: سَمُّوا رَبَّكُمُ اللَّهَ أَو سموهُ الرحمان، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ وَأُبْقِيَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ.

وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا لَا شَكَّ أَنَّ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّصَالًا بِجُمْلَةِ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ جهر النبيء ﷺ فِي دُعَائِهِ باسم الرحمان.

وَالصَّلَاةُ: تَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ، وَتَحْتَمِلُ الْعِبَادَة الْمَعْرُوفَة قَود فَسَّرَهَا السَّلَفُ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ قِرَاءَتَهَا خَاصَّةً لِأَنَّهَا الَّتِي تُوصَفُ بِالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.

وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ جهر النبيء ﷺ بِذكر الرحمان، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْركين:

مَا الرحمان؟ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ، وَقَامَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسُبُّ الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، أَو يسب الرحمان ظَنًّا

أَنَّهُ رَبٌّ آخَرُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرُ آلِهَتِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ لَا يَجْهَرَ

بِدُعَائِهِ أَوْ لَا يَجْهَرَ بِقِرَاءَةِ صَلَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ.

وَلَعَلَّ سُفَهَاءَ الْمُشْرِكِينَ تَوَهَّمُوا مِنْ صدع النبيء ﷺ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالتَّطَاوُلَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فَاغْتَاظُوا وَسَبُّوا، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَجْهَرَ بِصَلَاتِهِ هَذَا الْجَهْرَ تَجَنُّبًا لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ حَفَائِظَهُمْ وَيَزِيدَ تَصَلُّبَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ فِي حِينِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَلْيِينُ قُلُوبِهِمْ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الْجَهْرِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُخافِتْ بِها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَاسُ لِكَيْلَا يَجْعَلَ دُعَاءَهُ سِرًّا أَوْ صَلَاتَهُ كُلَّهَا سِرًّا فَلَا يَبْلُغُ أَسْمَاعَ الْمُتَهَيِّئِينَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ تَجَنُّبُ جَهْرٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْكُفَّارُ تَحَكُّكًا أَوْ تَطَاوُلًا كَمَا قُلْنَا.

وَالْجَهْرُ: قُوَّةُ صَوْتِ النَّاطِقِ بِالْكَلَامِ.

وَالْمُخَافَتَةُ مُفَاعَلَةٌ: مِنْ خَفَتَ بِكَلَامِهِ، إِذَا أَسَرَّ بِهِ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الشِّدَّةِ، أَيْ لَا تُسِرَّهَا.

وَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيِ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ الْمَعْلُومَيْنِ مِنْ فِعْلَيْ تَجْهَرْ- وتُخافِتْ أَيِ اطْلُبْ سَبِيلًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِسْمَاعِ النَّاسِ الْقُرْآنَ وَيَنْتَفِي تَوَهُّمُ قَصْدِ التطاول عَلَيْهِم.

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧): آيَة ١١١]

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)

لَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ أَوْ قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ زِيَادَةِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ بِإِعْلَانِ التَّوْحِيدِ لِقَطْعِ دَابِرِ تَوَهُّمِ مَنْ توهموا أَن الرحمان اسْمٌ لِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى اسْمِ اللَّهِ، فَبَعْضُهُمْ تَوَهَّمَهُ إِلَهًا شَرِيكًا، وَبَعْضُهُمْ تَوَهَّمَهُ مُعِينًا وَنَاصِرًا، أُمِرَ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقُولَ مَا يَقْلَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَأَنْ يُعَظِّمَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّعْظِيمِ.

وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ تَعَالَى بِالْحَمْدِ، أَيْ قَصْرِ جِنْسِ الْحَمْدِ عَلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مُسْتَحِقٍّ لِأَنْ يُحْمَدَ. فَالتَّخْصِيصُ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ دَوَاعِيَ حَمْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَانِبِ دَوَاعِي حَمْدِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.

وَ(مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الذُّلِّ بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ.

وَالذُّلُّ: الْعَجْزُ وَالِافْتِقَارُ، وَهُوَ ضِدُّ الْعِزِّ، أَيْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ أَجْلِ الذُّلِّ.

وَالْمُرَادُ: نَفِيُ النَّاصِرِ لَهُ عَلَى وَجْهٍ مُؤَكَّدٍ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى النَّاصِرِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَجْزِ عَنِ الِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ. وَيَجُوزُ تَضْمِينُ (الْوَلِيِّ) مَعْنَى (الْمَانِعِ) فَتَكُونُ (مِنْ) لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَاهُ.

وَمَعْنَى كَبِّرْهُ اعْتَقِدْ أَنَّهُ كَبِيرٌ، أَيْ عَظِيمٌ الْعِظَمَ الْمَعْنَوِيَّ الشَّامِلَ لِوُجُوبِ الْوُجُودِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ، وَصِفَاتِ الْكَمَالِ كُلِّهَا الْكَامِلَةِ التَّعَلُّقَاتِ، لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِذَلِكَ كُلِّهِ كَمَالٌ، وَالِاتِّصَافَ بِأَضْدَادِ ذَلِكَ نَقْصٌ وَصَغَارٌ مَعْنَوِيٌّ.

وَإِجْرَاءُ هَذِهِ الصِّلَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحَمْدِ لِأَنَّ فِي هَذِه الصَّلَاة إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ تَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ.

وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ كَبِّرْهُ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِمَا فِي التَّنْوِينِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَلِأَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَاءِ النِّعَمِ الَّتِي يَعْجِزُ غَيْرُهُ عَن إسدائها.

google-playkhamsatmostaqltradent