عُنْوِنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِينَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْكَافِرُونَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَى الْكافِرُونَ وبثبوت وَاوِ الرَّفْعِ فِي الْكافِرُونَ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا.
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» و«تَفْسِير ابْن عَطِيَّة» و«حرز الْأَمَانِيِّ» «سُورَةُ الْكَافِرِينَ» بِيَاءِ الْخَفْضِ فِي لَفْظِ «الْكَافِرِينَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ سُورَةُ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ، أَوْ نِدَاءِ الْكَافِرِينَ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» سُورَةَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: ١] .
قَالَ فِي «الْكَشَّاف» و«الإتقان»: وَتُسَمَّى هِيَ وَسُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ المقشقشتين لِأَنَّهُمَا تُقَشْقِشَانِ مِنَ الشِّرْكِ أَيْ تُبْرِئَانِ مِنْهُ يُقَالُ: قَشْقَشَ: إِذَا أَزَالَ الْمَرَضَ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْإِخْلَاصِ فَيَكُونُ هَذَانِ الِاسْمَانِ مُشْتَرِكَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ تُسَمَّى الْمُقَشْقِشَةَ لِأَنَّهَا تُقَشْقِشُ، أَيْ تُبْرِئُ مِنَ النِّفَاقِ فَيَكُونُ هَذَا مُشْتَرِكًا بَيْنَ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ.
وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِسَعْدِيٍّ عَنْ «جَمَالٍ الْقَرَّاءِ» إِنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْعِبَادَةِ» وَفِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» لِلْفَيْرُوزَآبَادِيِّ تُسَمَّى «سُورَةَ الدِّينِ» .
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي حِكَايَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ فِي عداد الثَّامِنَة عشرَة فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَاعُونِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفِيلِ.
وَعَدَدُ آياتها سِتّ.
أغراضها
وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا
حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يطوف بِالْكَعْبَةِ فَاعْتَرَضَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ سَنَةً وَتَعَبُدْ مَا نَعْبُدُ سَنَةً فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قد أَخذنَا بحظنا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِيهِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَيَئِسُوا مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ
(وَإِنَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِرْصَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا فطمعوا أَن يستنزلوه إِلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَئِسُوا مِنْهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا أَصْحَابَهُ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ تَأْيِيسُهُمْ مِنْ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ الْمُؤَكَّدِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِطُ شَيْئًا مِنْ دين الشّرك.
[١- ٣]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩): الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)
افْتِتَاحُهَا بِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ يُرَادُ إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ مَنْصُوصٍ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ، وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي غَيْرِ جَوَابٍ عَنْ
سُؤَالٍ مِنْهَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ [٦] وَالسُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ خَمْسُ سُوَرٍ: قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: ١]، وَسُورَةُ الْكَافِرُونَ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ، فَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ لِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ لِتَعْوِيذِ نَفْسِهِ.
والنداء موجه إِلَى الْأَرْبَعَة الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ ﷺ: فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، كَمَا فِي خَبَرِ سَبَبِ النُّزُولِ وَذَلِكَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَابْتُدِئَ خِطَابُهُمْ بِالنِّدَاءِ لِإِبْلَاغِهِمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَدْعِي إِقْبَالَ أَذْهَانِهِمْ عَلَى مَا سَيُلْقَى
عَلَيْهِمْ.
وَنُودُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَأْيِيدًا لِوَجْهِ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ لَا يَخْشَاهُمْ إِذَا نَادَاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِمَّا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ وَعَصَمَهُ مِنْ أَذَاهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمَعْنَى: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَنْ يَعْتَمِدَهُمْ فِي نَادِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى الْكُفْرِ.
فَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إِخْبَارٌ عَنْ نَفسه بِمَا يحصل مِنْهَا.
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْصُلُ مِنِّي عِبَادَتِي مَا تَعْبُدُونَ فِي أَزْمِنَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ أَفَادَتِ انْتِفَاءَهُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ حَرْفُ (لَنْ) مُفِيدًا تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ زِيَادَة على مُطلق النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ (لَنْ): لَا أَنْ، فَلَمَّا أَفَادَتْ (لَا) وَحْدَهَا نَفْيَ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ تَقْدِيرُ (أَنْ) بَعْدَ (لَا) مُفِيدًا تَأْكِيدَ ذَلِكَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا إِنَّ (لَنْ) تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَلِمْنَا أَنْ (لَا) كَانَتْ مُفِيدَةً نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَخَالَفَهُمُ ابْنُ مَالِكٍ كَمَا فِي «مُغَنِّي اللَّبِيبِ»، وَأَبُو حَيَّانَ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالسُّهَيْلَيُّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» .
وَنَفْيُ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهَمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُفِيدُ نَفْيَ أَنْ يَعْبُدَهَا فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا عَرَضُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ بِنَفْيِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ بِمُغَيِّرِينَ إِشْرَاكَكُمُ الْآنَ لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئُوا هُمْ فَيَعْبُدُوا الرَّبَّ الَّذِي يَعْبُدُهُ النَّبِيءُ ﷺ سَنَةً. وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ نَظْمِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ.
وَهَذَا إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مِنَ الْآنِ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ ﷺ بِذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوءَتِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤] فَإِنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاتُوا عَلَى شركهم.
وَمَا صدق مَا أَعْبُدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَبَّرَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَارِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ (مَنْ) بِالْعَاقِلِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ (مَا) عَلَى الْعَاقِلِ إِذَا
كَانَ اللَّبْسُ مَأْمُونًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ»: أَنَّ (مَا) الْمَوْصُولَةَ يُؤْتَى بِهَا لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ لِتُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّفْخِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الشَّمْس [٥] .
[٤]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩): آيَة ٤]
وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (٤)
عُطِفَ عَلَى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٣] عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لمناسبة نفي أَو يَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْدَفَ بِنَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ هُوَ آلِهَتَهُمْ، وَعَطْفُهُ بِالْوَاوِ صَارِفٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَأْكِيدَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. لِلدَّلَالَةِ على الثَّبَات، وبكون الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ دَالًّا عَلَى زَمَانِ الْحَالِ، فَلَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يَعْبُدُونَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، صَرَّحَ هُنَا بِمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الْفَحْوَى عَلَى نَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ فِي الْحَالِ، بِمَا هُوَ صَرِيحُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَزِيدَ الْبَيَانِ، فَاقْتَضَى الِاعْتِمَادَ عَلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِطْنَابًا فِي الْكَلَامِ، لِتَأْيِيسِهِمْ مِمَّا رَاوَدُوهُ عَلَيْهِ وَلِمُقَابَلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَرْدُودِ بِمِثْلِهِ فِي إِفَادَةِ الثَّبَاتِ. وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ
الْمَعْنَى السَّابِقِ وَتَأْكِيدُهُ، تَبَعًا لِمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ لَا لِمَوْقِعِهَا، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَيْسَت تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَادِفِهَا لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلَّفْظِ بِالْمُرَادِفِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ يُعَيِّنُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَاوٌ حَتَّى يَكُونَ الْوَاوُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدًا لَهَا.
وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَالْأَجْوَدُ الْفَصْلُ بِ (ثُمَّ) كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ» مُقْتَصِرًا عَلَى (ثُمَّ) . وَزَادَ الرَّضِيُّ الْفَاءَ وَلَمْ يَأْتِ لَهُ بِشَاهِدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ: «وَقَدْ تَكُونُ (ثُمَّ) وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّدَرُّجِ فِي الِارْتِقَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْطُوفُ مُتَرَتِّبًا فِي الذَّكَرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إِذَا تَكَرَّرَ الْأَوَّلُ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: بِاللَّهِ، فَاللَّهِ، وَنَحْوَ وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ» .
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا عَبَدْتُّمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَزْمَانٍ مَضَتْ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى تَنَزُّهِهِ ﷺ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ سَالِفِ الزَّمَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا كُنَّا نعْبد.
[٥]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩): آيَة ٥]
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ [الْكَافِرُونَ: ٤] لِبَيَانِ تَمَامِ الِاخْتِلَافِ بَين حَاله وحالهم وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ إِخْبَارًا ثَانِيًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَتَقْوِيَةً لِدَلَالَةِ هذَيْن الْإِخْبَار على نُبُوءَتِهِ ﷺ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَمَاتَ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ تَوْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ تَوْكِيدًا لِلْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ التَّوْكِيدِ لِوُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلِذَلِكَ فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَتْهُ جملَة: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا
السَّابِقَةِ بِتَمَامِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فِي نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ تَكْذِيبِهِمْ فِي عَرْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رب مُحَمَّد ﷺ.
[٦]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩): آيَة ٦]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ، وَقَدْ أُرْسِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِرْسَالَ الْمَثَلِ وَهُوَ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» هُنَا: «جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُتَمَثَّلَ بِهِ بَلْ لِيُتَدَبَّرَ فِيهِ ثُمَّ يُعْمَلُ بِمُوجَبِهِ» اهـ.
وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ لِأَنَّ التَّمَثُّلَ بِهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ وَمَا التَّمَثُّلُ بِهِ إِلَّا مِنْ تَمَامِ بَلَاغَتِهِ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْعَمَلِ بِهِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي الْمُسَوَّدَةِ.
وَقُدِّمَ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ الْمُسْنَدُ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ دِينُكُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُكُمْ إِلَى الْكَوْنِ لِي، وَدِينِي مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُنِي إِلَى كَوْنِهِ لَكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُمْ مُحَقَّقٌ عَدَمُ إِسْلَامِهِمْ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ أَوِ الِاسْتِحْقَاقُ.
وَالدِّينُ: الْعَقِيدَةُ وَالْمِلَّةُ، وَهُوَ مَعْلُومَاتٌ وَعَقَائِدُ يَعْتَقِدُهَا الْمَرْءُ فَتَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينًا لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الدِّينِ الْمُعَامَلَةُ وَالْجَزَاءُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دِينِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَحْذُوفَةٌ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ بَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى النُّونِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَدْ كُتِبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ اعْتِمَادًا عَلَى حِفْظِ الْحُفَّاظِ لِأَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ الْيَاءَ مِثْلَ يَعْقُوبَ يُشْبِعُ الْكَسْرَةَ إِذْ لَيْسَتِ الْيَاءُ إِلَّا مَدَّةً لِلْكَسْرَةِ فَعَدَمُ رَسْمِهَا فِي الْخَطِّ لَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا فِي اللَّفْظِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهِشَام عَن ابْن عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْح الْيَاء من قَوْلِهِ: وَلِيَ وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الْيَاءِ.