قَوْلُهُ تَعَالَى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَرَفُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ، وَنَدِمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٦ \ ٢٧] وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [٦ \ ٣١]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [٢٥ \ ٢٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ وَعَايَنَ الْحَقِيقَةَ تَمَنَّى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا عَايَنَ النَّارَ وَوَقَفَ عَلَيْهَا تَمَنَّى أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا إِخْرَاجَ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ نَدِمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَتَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ رُبَمَا بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَالتَّخْفِيفُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّثْقِيلُ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَرَبِيعَةَ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ الرَّعْلَاءِ الْغَسَّانِيِّ:
رُبَمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءِ
وَالثَّانِي: كَثِيرٌ جِدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَّا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكِ الْعَيْنُ نَظْرَةً ... قَصَارَاكِ مِنْهَا أَنَّهَا عَنْكِ لَا تُجْدِي
وَرُبَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ: يَوَدُّ الْكُفَّارُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَّا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكِ الْعَيْنُ ... . . . . . . . . .
الْبَيْتَ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ هُنَا لِلتَّقْلِيلِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا فِي كُلِّهَا لِشُغْلِهِمْ بِالْعَذَابِ. فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمَاضِي، فَمَا وَجْهُ دُخُولِهَا عَلَى الْمُضَارِعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْوَعْدُ لِلْجَزْمِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، كَالْوَاقِعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ [١٦ \ ١] وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَعَبَّرَ بِالْمَاضِي تَنْزِيلًا لِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَمْرِهِ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ شِدَّةِ تَعْذِيبِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ. وَهَدَّدَهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّهْدِيدِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [١٤] وَقَوْلِهِ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [٧٧ \ ٤٦] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [٣٩ \ ٨] وَقَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [٤٣ \ ٨٣]، [٧٠ \ ٤٢] وَقَوْلِهِ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [٥٢ \ ٤٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي وَفِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ افْعَلِ التَّهْدِيدَ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَرْهُمْ يَعْنِي اتْرُكْهُمْ، وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ إِلَّا الْأَمْرُ وَالْمُضَارِعُ، فَمَاضِيهِ تَرَكَ، وَمَصْدَرُهُ التَّرْكُ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ تَارِكٌ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْأَمَلُ الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا، وَالْحُبُّ لَهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ» وَعَنِ الْحَسَنِ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ» وَقَدْ قَدَّمْنَا عِلَاجَ طُولِ الْأَمَلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ قَدْ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَيْفَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ وَيَنْسُبُونَهُ لِلْجُنُونِ مَعَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يَعْنُونَ فِي زَعْمِهِ تَهَكُّمًا مِنْهُمْ بِهِ، وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى وُرُودُ مِثْلِهِ مِنَ الْكُفَّارِ مُتَهَكِّمِينَ بِالرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [٢٦ \ ٢٧]
وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. [١١ \ ٨٧
قَوْلُهُ تَعَالَى لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. لَوْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ طَلَبًا حَثِيثًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ طَلَبَ تَخْصِيصٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ لِيَكُونَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَبَيَّنَ طَلَبَ الْكُفَّارِ هَذَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [٤٣ \ ٥٣] وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [٢٥ \ ٢١]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ الْآيَةَ [٦ \ ٨] وَقَوْلِهِ: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [٢٥ \ ٧] وَقَوْلِهِ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [١٧ \ ٩٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَوْ تُرَكَّبُ مَعَ لَا وَمَا لِمَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا التَّحْضِيضُ، وَمِثَالُهُ فِي لَوْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمِثَالُهُ فِي لَوْلَا قَوْلُ جَرِيرٍ:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضُوطْرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
يَعْنِي: فَهَلَّا تَعُدُّونَ الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَ، الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ امْتِنَاعُ شَيْءٍ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي لَوْلَا كَثِيرٌ جِدًّا كَقَوْلِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه:
تَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
وَمِثَالُهُ فِي (لَوْ مَا) قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وَأَمَّا هَلْ فَلَمْ تُرَكَّبْ إِلَّا مَعَ لَا وَحْدَهَا لِلتَّحْضِيضِ.
تَنْبِيهٌ
قَدْ تَرِدُ أَدَوَاتُ التَّحْضِيضِ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ، فَتَخْتَصُّ بِالْمَاضِي أَوْ مَا فِي تَأْوِيلِهِ نَحْوَ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ الْآيَةَ [١٠ \ ٩٨] وَقَوْلِهِ: لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ [٢٤ \ ١٣] وَقَوْلِهِ: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً الْآيَةَ [٤٦ \ ٢٨]، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَ جَرِيرٍ:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ آنِفًا
قَائِلًا: إِنَّ مُرَادَهُ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى تَرْكِ عَدِّ الْكَمِيِّ الْمُقَنَّعِ فِي الْمَاضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ.
بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْوَحْيِ، وَقِيلَ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «إِلَّا تَنْزِيلًا مُتَلَبِّسًا بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا حِكْمَةَ فِي أَنْ تَأْتِيَكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَيَانًا، تُشَاهِدُونَهُمْ وَيَشْهَدُونَ لَكُمْ بِصِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَنَّكُمْ حِينَئِذٍ مُصَدِّقُونَ عَنِ اضْطِرَارٍ»، قَالَ: "وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [١٥ \ ٨٥] وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [١٥ \ ٨] لِأَنَّ التَّنْوِينَ فِي قَوْلِهِ (إِذًا) عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ، فَفِيهِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: وَلَوْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ، أَيْ مُمْهَلِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [٢٥ \ ٢٢] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [٦ \ ٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ [١٥ \ ٨] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (نُنَزِّلُ) بِنُونَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ، وَ(الْمَلَائِكَةَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ لِنُنَزِّلُ. وَقَرَأَ شُعْبَةُ: (تُنَزَّلُ) بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ مَعَ تَشْدِيدِ الزَّايِ مَفْتُوحَةً بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَ(الْمَلَائِكَةَ) بِالرَّفْعِ نَائِبُ فَاعِلِ تُنَزَّلُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (تَنَزَّلُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالنُّونِ وَالزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ، أَصْلُهُ تَتَنَزَّلُ فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَ(الْمَلَائِكَةُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ تَنَزَّلُ كَقَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ الْآيَةَ [٩٧ \ ٤] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّهُ حَافِظٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ أَوْ يَتَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يُبَدَّلَ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [٤١ \ ٤١ - ٤٢] وَقَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [٧٥ \ ١٦] إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ \ ١٩] وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [١٥ \ ٩]
رَاجِعٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [٥ \ ٦٧] وَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِ السِّيَاقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [٢٥ \ ٦١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ الْآيَةَ [٨٥ \ ١]، وَالْبُرُوجُ: جَمْعُ بُرْجٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرُوجِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبُرُوجُ: الْكَوَاكِبُ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ، وَقِيلَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ عَلَيْهَا الْحَرَسُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطِيَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَسْمَاءُ هَذِهِ الْبُرُوجِ: الْحَمَلُ وَالثَّوْرُ وَالْجَوْزَاءُ وَالسَّرَطَانُ وَالْأَسَدُ وَالسُّنْبُلَةُ وَالْمِيزَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالْقَوْسُ وَالْجَدْيُ وَالدَّلْوُ وَالْحُوتُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَطْلَقَ تَعَالَى فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» الْبُرُوجَ عَلَى الْقُصُورِ الْحَصِينَةِ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [٤ \ ٧٨] وَمَرْجِعُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّ أَصْلَ الْبُرُوجِ فِي اللُّغَةِ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ بِإِظْهَارِ زِينَتِهَا، فَالْكَوَاكِبُ ظَاهِرَةٌ، وَالْقُصُورُ ظَاهِرَةٌ، وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَالْقُصُورِ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ مَحَلٌّ يُنْزَلُ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ لِلنَّاظِرِينَ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ زَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ، وَأَنَّهَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ الْآيَةَ [٦٧ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [٣٧ \ ٦] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ حَفِظَ السَّمَاءَ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [٣٧ \ ٧] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [٦٧ \ ٥] وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [٧٢ \ ٩] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [٢٦ \ ٢١٢] وَقَوْلِهِ:
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [٥٢ \ ٣٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [١٥ \ ١٨] . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَجَزَمَ بِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، أَيْ لَكِنْ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أَيِ الْخَطْفَةَ الْيَسِيرَةَ، فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ شِهَابٌ فَيَحْرِقُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [٣٧ \ ٨ - ١٠] وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، أَيْ حَفِظْنَا السَّمَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْمَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَإِنَّا لَمْ نَحْفَظْهَا مِنْ أَنْ تَسَّمَّعَ لِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ سِوَى الْوَحْيِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَا تَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [٢٦ \ ٢١٢] قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَنَظِيرُهُ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْآيَةَ [٣٧ \ ١٠] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْآيَةَ [٣٧ \ ٨] .
[أَصْحَابُ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ
تَنْبِيهٌ
يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَتَشَدَّقُ بِهِ أَصْحَابُ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ، مِنْ أَنَّهُمْ سَيَصِلُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَيَبْنُونَ عَلَى الْقَمَرِ، كُلُّهُ كَذِبٌ وَشَقْشَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَمِنَ الْيَقِينِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ سَيَقِفُونَ عِنْدَ حَدِّهِمْ، وَيَرْجِعُونَ خَاسِئِينَ أَذِلَّاءَ عَاجِزِينَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [٦٧ \ ٤] وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، يُطْلِقُ اسْمَ الشَّيْطَانِ عَلَى كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ١٤]، وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [٦ \ ١١٢] وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الشَّيَاطِينِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا ; لِعُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ. وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِحِفْظِ السَّمَاءِ مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ \ ١٧]
وَقَوْلُهُ: وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [٤١ \ ١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ أَتْبَعَهُ شِهَابٌ رَاصِدٌ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [٧٢ \ ٩] وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [١٥ \ ١٨] وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [٣٧ \ ٩] وَقَالَ: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [٢٦ \ ٢١٢] وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [٥٢ \ ٣٨] وَهُوَ تَعْجِيزٌ دَالٌّ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا مُطْلَقًا، وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [٣٨ \ ١٠ - ١١] فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، أَيْ فَلْيَصْعَدُوا فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَيْهَا. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا لِلتَّعْجِيزِ، وَإِيرَادُهَا لِلتَّعْجِيزِ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْجِيزِ: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [٣٨ \ ١١] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ تَنَطَّعَ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ لِلِارْتِقَاءِ فِي أَسْبَابِ السَّمَاءِ، أَنَّهُ يَرْجِعُ مَهْزُومًا صَاغِرًا دَاخِرًا ذَلِيلًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يُشَارُ فِيهَا إِلَى شَيْءٍ مَا كَانَ يَظُنُّهُ النَّاسُ وَقْتَ نُزُولِهَا إِبْهَامُهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِذَلِكَ الْجُنْدِ بِلَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا [٣٨ \ ١١] وَإِشَارَتُهُ إِلَى مَكَانِ ذَلِكَ الْجُنْدِ أَوْ مَكَانِ انْهِزَامِهِ إِشَارَةُ الْبَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: هُنَالِكَ [٣٨ \ ١١] وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَةِ مَا يُظْهِرُ رُجُوعَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلَّا الِارْتِقَاءُ فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ.
فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ يُفَسِّرْهَا بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ تَدُورُ عَلَى أَنَّ الْجُنْدَ الْمَذْكُورَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ ﷺ، وَأَنَّهُ ﷺ سَوْفَ يَهْزِمُهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَحَقَّقَ يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ كِتَابُ اللَّهِ لَا تَزَالُ تَظْهَرُ غَرَائِبُهُ وَعَجَائِبُهُ مُتَجَدِّدَةً عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، فَفِي كُلِّ حِينٍ تُفْهَمُ مِنْهُ أَشْيَاءُ لَمْ تَكُنْ مَفْهُومَةً مِنْ قَبْلُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ عَلِيًّا رضي الله عنه هَلْ خَصَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ؟ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ رضي الله عنه: إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَهْمَ كِتَابِ اللَّهِ
تَتَجَدَّدُ بِهِ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ.
وَمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهَا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ إِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، تَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا حَقَّقَهُ بِأَدِلَّتِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ.
وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [٧١ \ ١٥ - ١٦] فَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، فَلَمْ يَبْقَ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ فِي أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَصْحَابَ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ سَيَرْجِعُونَ دَاخِرِينَ صَاغِرِينَ، عَاجِزِينَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْقَمَرِ وَالْوُصُولِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ لَبْسٌ فِي أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي فِيهَا الْقَمَرُ لَيْسَ يُرَادُ بِهَا مُطْلَقَ مَا عَلَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ السَّمَاءِ قَدْ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ مَا عَلَاكَ، كَسَقْفِ الْبَيْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ [٢٢ \ ١٥] . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ ... وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
لِتَصْرِيحِهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ. لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ [٧١ \ ١٦] رَاجِعٌ إِلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَإِطْلَاقُ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ أَدِلَّتِهِ: قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [٢ \ ١٩١] مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ. لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ - بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [٧١ \ ١٦] . وَصَحَّ كَوْنُ السَّمَاوَاتِ ظَرْفًا لِلْقَمَرِ. لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الظَّرْفِ أَنْ يَمْلَأَهُ الْمَظْرُوفُ. تَقُولُ: زَيْدٌ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي جُزْءٍ مِنْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَفْسَ الْقَمَرِ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ. لِأَنَّ لَفْظَةَ جَعَلَ [٧١ \ ١٥] فِي الْآيَةِ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَهِيَ تَنْصِبُ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ، وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُبْتَدَأِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَبَرِ بِعَيْنِهِ لَا شَيْءٍ آخَرَ، فَقَوْلُكَ: جَعَلْتُ الطِّينَ خَزَفًا، وَالْحَدِيدَ خَاتَمًا، لَا يَخْفَى فِيهِ أَنَّ الطِّينَ هُوَ الْخَزَفُ بِعَيْنِهِ، وَالْحَدِيدَ هُوَ الْخَاتَمُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [٧١ \ ١٦] .
فَالنُّورُ الْمَجْعُولُ فِيهِنَّ هُوَ الْقَمَرُ بِعَيْنِهِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ احْتِمَالُ خُرُوجِ نَفْسِ الْقَمَرِ عَنِ السَّبْعِ الطِّبَاقِ، وَكَوْنُ الْمَجْعُولِ فِيهَا مُطْلَقَ نُورِهِ. لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: وَجَعَلَ نُورَ الْقَمَرِ فِيهِنَّ أَمَّا قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النُّورَ الْمَجْعُولَ فِيهِنَّ هُوَ عَيْنُ الْقَمَرِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْقُرْآنِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادِرِ بِلَا دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ بِأَنَّ الْقَمَرَ فِي خُصُوصِ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ بِقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [٢٥ \ ٦١] وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ بِأَنَّ ذَاتَ الْبُرُوجِ الْمَنْصُوصَ عَلَى أَنَّ الْقَمَرَ فِيهَا هِيَ بِعَيْنِهَا الْمَحْفُوظَةُ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ \ ١٦] وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَشَارَ إِلَى الِاتِّصَالِ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [٤٢ \ ٢٩] يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْمُرَادَ جَمْعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَحْشَرِ، كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [٦ \ ٣٨] .
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْآيَةَ [٦٤ \ ٩] . وَكَثْرَةُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [١١ \ ١٠٣] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٥٦ \ ٤٩ - ٥٠] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [٤ \ ٨٧] وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [٢٥ \ ٢٥] وَقَوْلِهِ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [٨٩ \ ٢٢] وَقَوْلِهِ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [١٨ \ ٤٧] .
وَمَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: الْمُرَادُ مَا بَثَّ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ فَقَطْ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْمُوعِ مُرَادًا بَعْضُهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِدَوَابِّ السَّمَاءِ الْمَلَائِكَةُ، زَاعِمًا أَنَّ الدَّبِيبَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ حَرَكَةٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ بَثَّ فِي السَّمَاءِ دَوَابَّ كَمَا بَثَّ فِي
الْأَرْضِ دَوَابَّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمْعِهِمْ حَشْرُهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَطْبَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَمْعِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بُلُوغُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَنْحَدِرَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الْهُبُوطَ أَهْوَنُ مِنَ الصُّعُودِ وَمَا يَزْعُمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - جَلَّ وَعَلَا -: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [٥٥ \ ٣٣] يُشِيرُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى السَّمَاءِ بِدَعْوَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّلْطَانِ فِي الْآيَةِ هُوَ هَذَا الْعِلْمُ الْحَادِثُ الَّذِي مِنْ نَتَائِجِهِ الصَّوَارِيخُ وَالْأَقْمَارُ الصِّنَاعِيَّةُ. وَإِذًا فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْفُذُونَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَرْدُودٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ إِعْلَامُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - خَلْقَهُ أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ وَلَا مَفَرَّ عَنْ قَضَائِهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا تَحُفُّ بِهِمْ صُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكُلَّمَا فَرُّوا إِلَى جِهَةٍ وَجَدُوا صُفُوفَ الْمَلَائِكَةِ أَمَامَهُمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [٥٥ \ ٣٣] وَالسُّلْطَانُ: قِيلَ الْحُجَّةُ وَالْبَيِّنَةُ، وَقِيلَ الْمُلْكُ وَالسَّلْطَنَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا نُفُوذَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [٨٩ \ ٢٢] وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [٤٠ \ ٣٢ - ٣٣] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجِنَّ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّيَرَانِ وَالنُّفُوذِ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. الْآيَةَ [٧٢ \ ٩] وَإِنَّمَا مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ بُعِثَ ﷺ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [٧٢ \ ٩] فَالْجِنُّ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى صَارُوخٍ وَلَا قَمَرٍ صِنَاعِيٍّ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَزْعُمُهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَقُلْ - جَلَّ وَعَلَا - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْفُذُونَ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ حُدُوثِ السُّلْطَانِ الْمَزْعُومِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلْمَ الْمَذْكُورَ الَّذِي لَا يُجَاوِزُ صِنَاعَةً يَدَوِيَّةً أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ السُّلْطَانِ ; لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ أَغْرَاضَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا نَظَرَ فِيهِ
أَلْبَتَّةَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى كَمَالِ حَقَارَتِهَا عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ إِلَى قَوْلِهِ لِلْمُتَّقِينَ [٤٣ \ ٣٣ - ٣٥] وَعَلِمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَفْيَ اللَّهِ عَنْهُ اسْمَ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ، وَأَثْبَتَ لَهُ أَنَّهُ عِلْمٌ ظَاهِرٌ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [٣٠ \ ٦ - ٧] فَحِذْقُ الْكُفَّارِ فِي الصِّنَاعَاتِ الْيَدَوِيَّةِ كَحِذْقِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ فِي صِنَاعَتِهَا، بِإِلْهَامِ اللَّهِ لَهَا ذَلِكَ، فَالنَّحْلُ تَبْنِي بَيْتَ عَسَلِهَا عَلَى صُورَةِ شَكْلٍ مُسَدَّسٍ، يَحَارُ فِيهِ حُذَّاقُ الْمُهَنْدِسِينَ. وَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْهَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ، وَجَعَلُوهَا فِي أَجْبَاحِ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ بِنَائِهَا، أَبَتْ أَنْ تُعَلِّمَهُمْ، فَطَلَتِ الزُّجَاجَ بِالْعَسَلِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، كَيْلَا يَرَوْا كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا، كَمَا أَخْبَرَتْنَا الثِّقَةُ بِذَلِكَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَزْعُومَ كَذِبًا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ الْآيَةَ [٥٥ \ ٣٥] فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا النُّفُوذَ فِي أَقْطَارِهَا حَرَقَهُمْ ذَلِكَ الشُّوَاظُ وَالنُّحَاسُ، وَالشُّوَاظُ اللَّهَبُ الْخَالِصُ، وَالنُّحَاسُ الدُّخَانُ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسًا
وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَشَارَ إِلَى اتِّصَالِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [٢١ \ ٤] بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي لَفْظَةِ قُلْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبِصِيغَةِ الْمَاضِي قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْآيَةَ. فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَلَا التَّضَمُّنِ وَلَا الِالْتِزَامِ ; لِأَنَّ غَايَةَ مَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّ رَبَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْأَخَوَيْنِ وَحَفْصٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ ﷺ أَخْبَرَ قَائِلًا إِنَّ رَبَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَعْلَمُ كُلَّ مَا يُقَالُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَالِمٌ بِكُلِّ أَسْرَارِ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَانِيَاتِهِمْ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ
إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ سَيَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [٨٤ \ ١٩] زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ طَبَقًا أَيْ سَمَاءً عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ سَمَاءٍ حَتَّى تَصْعَدُوا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَهُوَ أَيْضًا جَهْلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَحَمْلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِ مَا يُرَادُ بِهِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: لَتَرْكَبَنَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِهَا قَرَأَ مِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِي فَاعِلِ لَتَرْكَبَنَّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَيْ: لَتَرْكَبَنَّ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ أَيْ فَتَتَرَقَّى فِي الدَّرَجَاتِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَالطَّبَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْحَالُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَقْرَعِ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ:
إِنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبَتِ الدَّهْرُ أَشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ مِنْهَا إِلَى طَبَقٍ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
كَذَلِكَ الْمَرْءُ إِنْ يُنْسَأْ لَهُ أَجَلٌ ... يَرْكَبْ عَلَى طَبَقٍ مِنْ بَعْدِهِ طَبَقُ
أَيْ: حَالٌ بَعْدَ حَالٍ فِي الْبَيْتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [٨٤ \ ١٩] أَيْ لَتَصْعَدَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ السَّمَاءِ أَيْ لَتَرْكَبَنَّ هِيَ أَيِ السَّمَاءُ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، أَيْ لَتَنْتَقِلَنَّ السَّمَاءُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَيْ تَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً كَالْمُهْلِ وَتَارَةً تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ وَتَارَةً تُطْوَى كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا [٨٤ \ ٦] أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ وَمِنْ صِحَّةٍ إِلَى سَقَمٍ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ غِنًى إِلَى فَقْرٍ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ مَوْتٍ إِلَى حَيَاةٍ كَالْعَكْسِ، وَمَنْ هَوْلٍ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ إِلَى آخَرَ وَهَكَذَا، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَبِهَا قَرَأَ مِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ (لَتَرْكَبُنَّ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ
الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [٨٤ \ ٧ - ١٠] وَمَعْنَى الْآيَةِ لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَتَنْتَقِلُونَ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ هَوْلٍ إِلَى هَوْلٍ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْبَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ أَيُّهَا النَّاسُ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ أَيْ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ حَتَّى تَصْعَدُوا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قِرَاءَةِ فَتْحِ الْبَاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّبَقِ الْحَالُ الْمُنْتَقِلُ إِلَيْهَا مِنْ مَوْتٍ وَنَحْوِهِ وَهَوْلِ الْقِيَامَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُرَتِّبًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [٨٤ \ ٢٠ - ٢١] فَهُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمَنْ هَوْلٍ إِلَى هَوْلٍ، فَمَا الْمَانِعُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيَسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الشَّدَائِدِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الدَّوَاهِيَ بَنَاتِ طَبَقٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي لُغَتِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم هُمُ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، وَلَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَوْ كَانَ هُوَ مَعْنَاهَا لَمَا خَرَجَ مِنْهُ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ بِلَا قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِحِفْظِ السَّمَاءِ وَحِرَاسَتِهَا مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى صُعُودِ أَصْحَابِ الْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ فَوْقَ السَّبْعِ الطِّبَاقِ. وَالْوَاقِعُ الْمُسْتَقْبَلُ سَيَكْشِفُ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَكَاذِيبِ وَالْمَزَاعِمِ الْبَاطِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى بُلُوغِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ الْآيَةَ [٤٥ \ ١٣] فَقَالُوا: تَسْخِيرُهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَيَبْلُغُونَ السَّمَاوَاتِ، وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَيْفِيَّةَ تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تَسْخِيرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِمَنَافِعِهِمْ، وَانْتِشَارَ الضَّوْءِ عَلَيْهِمْ، وَلِكَيْ يَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الْآيَةَ [١٤ \ ٣٣]
وَمَنَافِعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ اللَّذَيْنِ سَخَّرَهُمَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [١٠ \ ٥]، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [١٧ \ ١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ التَّسْخِيرِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ سَخَّرَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ النُّجُومَ لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ الْآيَةَ [١٦ \ ١٢] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَةَ [٦ \ ٩٧] وَقَالَ: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ الْآيَةَ [١٦ \ ١٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَهَذَا هُوَ تَسْخِيرُ مَا فِي السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ الْأَوَّلِينَ بِقَوْلِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٤٥ \ ١٣] وَهُمُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَمْ يُسَخَّرْ لَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ إِلَّا هَذَا التَّسْخِيرَ الَّذِي ذَكَرْنَا، الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. فَلَوْ كَانَ يُرَادُ بِهِ التَّسْخِيرُ الْمَزْعُومُ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَارِيخِ وَالْأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ لَدَخَلَ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [١٢ \ ١٠٥]، فَإِنَّ مَعْنَى مُرُورِهِمْ عَلَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْآيَاتِ نَظَرُهُمْ إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٧ \ ١٨٥] وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [١٠ \ ١٠١] وَقَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [٤١ \ ٥٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ التَّلَاعُبَ بِكِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَتَفْسِيرَهُ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ لِمُحَاوَلَةِ تَوْفِيقِهِ مَعَ آرَاءِ كَفَرَةِ الْإِفْرِنْجِ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِنْ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَلَا الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ فَسَادُ الدَّارَيْنِ، وَنَحْنُ إِذْ نَمْنَعُ التَّلَاعُبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ، نَحُضُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَذْلِ الْوُسْعِ فِي تَعْلِيمِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعَ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [٨ \ ٦٠] كَمَا سَتَرَى بَسْطَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَإِنْ قِيلَ. هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى حِفْظِ السَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَارِدَةٌ فِي
حِفْظِهَا مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ بِدَلَالَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ مِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ شَيْطَانٌ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ أَوْ دَابَّةٍ اه.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَشَدِّ الْكُفَّارِ تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ بُلُوغَ السَّمَاءِ، فَدُخُولُهُمْ فِي اسْمِ الشَّيْطَانِ لُغَةً لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الشَّيْطَانِ يَعُمُّ كُلَّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ \ ١٧] صَرِيحٌ فِي حِفْظِ السَّمَاءِ مِنْ كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَحَمْلُ نُصُوصِ الْوَحْيِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ وَاجِبٌ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهَا أَوْ صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ. وَحِفْظُ السَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَعْنَاهُ حِرَاسَتُهَا مِنْهُمْ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: حَفِظْتُ الشَّيْءَ حِفْظًا أَيْ حَرَسْتُهُ اه. وَقَالَ صَاحِبُ لِسَانِ الْعَرَبِ: وَحَفِظْتُ الشَّيْءَ حِفْظًا أَيْ حَرَسْتُهُ اه. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ مَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ \ ١٧] أَيْ وَحَرَسْنَاهَا أَيِ السَّمَاءَ مِنْ كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ.
وَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ رَجِيمٍ [١٥ \ ١٧] وَقَوْلِهِ مَارِدٍ [٣٧ \ ٧] لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَاشِفَةِ فَكُلَّ شَيْطَانٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ وَبِأَنَّهُ مَارِدٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْوَى تَمَرُّدًا مِنْ بَعْضٍ، وَمَا حَرَسَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ كُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ، لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَاتٍ مُتَمَرِّدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [٦٧ \ ٤] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. اه
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ. اللَّوَاقِحُ جَمْعُ لَاقِحٍ، وَأَصْلُ اللَّاقِحِ الَّتِي قَبِلَتِ اللِّقَاحَ فَحَمَلَتِ الْجَنِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
إِذَا قُلْتُ عَاجٍ أَوْ تَفَتَّيْتُ أَبْرَقَتْ ... بِمِثْلِ الْخَوَافِي لَاقِحًا أَوْ تَلَقَّحُ
وَأَصْلُ تَلَقَّحُ: تَتَلَقَّحُ، حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ تَوَهَّمَ أَنَّهَا لَاقِحٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَوَصْفُ الرِّيَاحِ بِكَوْنِهَا لَوَاقِحَ ; لِأَنَّهَا حَوَامِلُ تَحْمِلُ الْمَطَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [٧ \ ٥٧]
أَيْ حَمَلَتْ سَحَابًا ثِقَالًا، فَاللَّوَاقِحُ مِنَ الْإِبِلِ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ، وَاللَّوَاقِحُ مِنَ الرِّيحِ حَوَامِلُ الْمَطَرِ، فَالْجَمِيعُ يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلِذَا كَانَتِ النَّاقَةُ الَّتِي لَا تَلِدُ يُقَالُ لَهَا عَقِيمٌ، كَمَا أَنَّ الرِّيحَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا عَقِيمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [٥١ \ ٤١] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّوَاقِحُ بِمَعْنَى الْمَلَاقِحِ، أَيْ الَّتِي تُلَقِّحُ غَيْرَهَا مِنَ السَّحَابِ وَالشَّجَرِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ النِّسْبَةُ، فَقَوْلُهُ: لَوَاقِحُ، أَيْ ذَوَاتُ لَقَاحٍ كَمَا يُقَالُ: سَائِفٌ وَرَامِحٌ، أَيْ ذُو سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكِ لَابِنٌ فِي الْحَيِّ تَامِرُ أَيْ ذُو لَبَنٍ وَتَمْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى لَوَاقِحَ أَيْ ذَوَاتِ لَقَاحٍ، لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَوَاقِحَ بِمَعْنَى مَلَاقِحَ جَمْعُ مُلْقَحَةٍ، وَمُلْقِحٌ اسْمُ فَاعِلٍ أَلْقَحَتِ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ كَمَا يَلْقَحُ الْفَحْلُ الْأُنْثَى، وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ إِطْلَاقُ لِوَاقِحَ وَإِرَادَةُ مَلَاقِحَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ نَهْشَلٍ يَرْثِي أَخَاهُ يَزِيدَ أَوْ غَيْرَهُ:
لِيَبْكِ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ
فَإِنَّ الرِّوَايَةَ تُطِيحُ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَطَاحَ الرُّبَاعِيِّ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ الْمُطِيحَاتُ لَا الطَّوَائِحُ، وَلَكِنَّ الشَّاعِرَ أَطْلَقَ الطَّوَائِحَ وَأَرَادَ الْمُطِيحَاتِ، كَمَا قِيلَ هُنَا بِإِطْلَاقِ اللَّوَاقِحِ وَإِرَادَةِ الْمَلَاقِحِ أَيِ الْمُلْقِحَاتِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَمَعْنَى إِلْقَاحِ الرِّيَاحِ السَّحَابَ وَالشَّجَرَ، أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهَا لَهُمَا كَمَا يَجْعَلُ الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى، فَكَمَا أَنَّ الْأُنْثَى تَحْمِلُ بِسَبَبِ ضِرَابِ الْفَحْلِ، فَكَذَلِكَ السَّحَابُ يَمْتَلِئُ مَاءً بِسَبَبِ مَرْيِ الرِّيَاحِ لَهُ، وَالشَّجَرُ يَنْفَتِقُ عَنْ أَكْمَامِهِ وَأَوْرَاقِهِ بِسَبَبِ إِلْقَاحِ الرِّيحِ لَهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [١٥ \ ٢٢] أَيْ تَلْقَحُ السَّحَابَ فَتُدِرُّ مَاءً، وَتَلْقَحُ الشَّجَرَ فَتَنْفَتِحُ عَنْ أَوْرَاقِهَا وَأَكْمَامِهَا، وَقَالَ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: «وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْخَرَائِطِيُّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَتَلْقَحُ بِهِ السَّحَابَ فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ اللِّقْحَةُ ثُمَّ يُمْطِرُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخَ فِي الْعَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ، فَتَحْمِلُ الْمَاءَ مِنَ السَّحَابِ، فَتَمْرِي بِهِ السَّحَابَ، فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ
اللِّقْحَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ، قَالَ: تَلْقَحُ الشَّجَرَةَ وَتَمْرِي السَّحَابَ: وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ رضي الله عنه: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: لَوَاقِحُ لِلشَّجَرِ، قُلْتُ: أَوِ السَّحَابِ، قَالَ: وَلِلسَّحَابِ تَمُرُّ بِهِ حَتَّى يُمْطِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: تَلْقَحُ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: الرِّيحُ يَبْعَثُهَا اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ، فَتَلْقَحُهُ فَيَمْتَلِئُ مَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ السَّحَابِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «رِيحُ الْجَنُوبِ مِنَ الْجَنَّةِ» وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَفِيهَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَالشَّمَالُ مِنَ النَّارِ تَخْرُجُ فَتَمُرُّ بِالْجَنَّةِ، فَيُصِيبُهَا نَفْخَةٌ مِنْهَا فَبَرْدُهَا هَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ، وَالْجَنُوبُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ» .
هَذَا حَاصِلُ مَعْنَى كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّيَاحِ اللَّوَاقِحِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّوَاقِحَ هِيَ حَوَامِلُ الْمَطَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا [٧ \ ٥٧] أَيْ حَمَلَتْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا، أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أَوْصَافٌ، فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا فِي مَوْضِعٍ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ بَقِيَّةَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ بِظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ فِي قَوْلِهِ: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [٤ \ ٥٧] وَقَدْ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ أُخَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [١٣ \ ٣٥] وَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [٥٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الرِّيَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهَا لَوَاقِحَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ آنِفًا، وَوَصَفَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَوْصَافٍ أُخَرَ، مِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ لَهَا بِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالسَّحَابِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [٣٠ \ ٤٦] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِالْبَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ لَهَا بِإِثَارَةِ السَّحَابِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا الْآيَةَ [٢٥ \ ٤٨]
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ «يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُثِيرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُبَشِّرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ، فَيَجْعَلُهُ كِسَفًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، فَيَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتَلْقَحُهُ فَيُمْطِرُ»
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: «الْأَرْوَاحُ أَرْبَعَةٌ: رِيحٌ تَقُمُّ، وَرِيحٌ تُثِيرُ تَجْعَلُهُ كِسَفًا، وَرِيحٌ تَجْعَلُهُ رُكَامًا، وَرِيحٌ تُمْطِرُ» اه.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَخَذَ مَالِكٌ رحمه الله مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَقَاحَ الْقَمْحِ أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [١٥ \ ٢٢] فَلَقَاحُ الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَلَا أَدْرِي مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى يَكُونَ لَوْ يَبِسَ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَقَاحُ الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ تُثْمِرَ، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهَا مَا يَسْقُطُ وَيَثْبُتُ مِنْهَا مَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ تُوَرَّدَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا عَوَّلَ مَالِكٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لَقَاحِ الشَّجَرِ بِلَقَاحِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إِذَا عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَتَسَنْبِلُهُ ; لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمٍ تَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحِبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» اه مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتِنْبَاطُ الْإِمَامِ مَالِكٍ الْمَذْكُورُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ لَقَاحَ الْقَمْحِ أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لَهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ تَلْقِيحَ الثِّمَارِ هُوَ إِبَارُهَا، وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ ذُكُورِ النَّخْلِ فَيُدْخَلُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ طَلْعِ الْإِنَاثِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ طُلُوعُ الثِّمَارِ مِنَ التِّينِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَرْئِيَّةً مَنْظُورًا إِلَيْهَا. وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِيمَا يُذَكَّرُ مِنَ الثِّمَارِ التَّذْكِيرُ، وَفِيمَا لَا يُذَكَّرُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ نَوَّارِهِ مَا يَثْبُتُ وَيَسْقُطَ مَا يَسْقُطُ، وَحَدُّ ذَلِكَ فِي الزَّرْعِ ظُهُورُهُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ مَالِكٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ إِبَارَهُ أَنْ يُحَبِّبَ اه، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحَائِطَ إِذَا انْشَقَّ طَلْعُ إِنَاثِهِ، فَأُخِّرَ إِبَارُهُ، وَقَدْ أُبِّرَ غَيْرُهُ مِمَّا حَالُهُ مِثْلُ حَالِهِ، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا أُبِّرَ، فَإِنْ أُبِّرَ بَعْضُ الْحَائِطِ كَانَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لَهُ، كَمَا أَنَّ
الْحَائِطَ إِذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ كَانَ سَائِرُ الْحَائِطِ تَبَعًا لِذَلِكَ الصَّلَاحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ اه. وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا بِيعَ حَائِطُ نَخْلٍ بَعْدَ أَنْ أُبِّرَ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ، فَإِنِ اشْتَرَطَهَا الْمُبْتَاعُ فَهِيَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. فَإِنْ بِيعَتِ النَّخْلُ قَبْلَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ لَهَا، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهَا كَالْجَنِينِ لَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ اشْتِرَاطُهَا وَلَا اسْتِثْنَاؤُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُشْتَرًى، خِلَافًا لِتَصْحِيحِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَ اسْتِثْنَاءِ الْبَائِعِ لَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُبْقًى، وَجَوَازُ اسْتِثْنَائِهَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَثْنَى مُبْقًى أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِهِ مُشْتَرًى لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ ; لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ كَمَا تَرَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا أُبِّرَ فَهُوَ لِلْبَائِعِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا بِشَرْطٍ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَائِلِ: هِيَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْحَالَيْنِ ; لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ كَالْأَغْصَانِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِمُخَالَفَتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ الْبَيْعَ إِنْ كَانَ وَقَعَ بَعْدَ التَّأْبِيرِ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، وَخِلَافًا لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهَا لِلْبَائِعِ فِي الْحَالَيْنِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا، بِدَلِيلِ خِطَابِهِ أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ» الْحَدِيثَ. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ قَوْلُهُ «قَدْ أُبِّرَتْ» وَقَوْلُهُ «بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ ذِكْرَ وَصْفِ التَّأْبِيرِ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يَقُولُ بِحُجَّتِهِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، فَالْجَارِي عَلَى أُصُولِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ نَصَّ عَلَى حُكْمِ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَسَكَتَ عَنْ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا أَصْلًا. وَإِنْ أُبِّرَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ الَّتِي بِيعَتْ أُصُولُهَا، وَبَعْضُهَا الْآخَرُ لَمْ يُؤَبَّرْ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ فَالْأَقَلُّ تَابِعٌ لَهُ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، فَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ وَغَيْرُهُ لِلْمُشْتَرِي. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ حُكْمَهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ، فَالْجَمِيعُ عِنْدَهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الصَّحِيحُ مِنَ الْخِلَافِ، أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعٌ لِلْمُؤَبَّرِ
فَيَبْقَى الْجَمِيعُ لِلْبَائِعِ دَفْعًا لِضَرَرِ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ الثَّمَرَةِ دُونَ بَعْضٍ يَجُوزُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وِفَاقًا لِأَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَخَالَفَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمُؤَبَّرَةِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا جَازَ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِهِ جَازَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِهِ، وَحُجَّةُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي اشْتِرَاطِ الْجَمِيعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ الَّتِي هِيَ لِلْبَائِعِ إِنْ لَمْ يَسْتَثْنِهَا الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ الِانْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ بِهَا، وَلَا يُكَلِّفُهُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِهَا فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ قَائِلًا: يَلْزَمُ قَطْعُهَا فِي الْحَالِ وَتَفْرِيغُ النَّخْلِ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَزِمَ نَقْلُهُ وَتَفْرِيغُهُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ أَوْ قُمَاشٌ لَهُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّقْلَ وَالتَّفْرِيغَ لِلْمَبِيعِ عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ لَمْ يَجِبْ نَقْلُهُ عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَنْقُلَهُ نَهَارًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ النَّقْلُ لَيْلًا، وَلَا جَمْعَ دَوَابِّ الْبَلَدِ لِنَقْلِهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا يُفَرَّغُ النَّخْلُ مِنَ الثَّمَرَةِ فِي أَوَانٍ وَهُوَ وَقْتُ الْجِذَاذِ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوِ اشْتُرِيَتِ النَّخْلُ وَبَقِيَتِ الثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ، فَهَلْ لِمُشْتَرِي الْأَصْلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا؟ أَوَّلًا: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ لَهَا عِنْدَهُ حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الْقَوْلَ بِمَنْعِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا اشْتُرِيَتِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا دُونَ الْأَصْلِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَلَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ إِلَى وَقْتِ الْجِذَاذِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِجْمَاعًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا بِشَرْطِ قَطْعِهَا فِي الْحَالِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِجْمَاعًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ تَبْقِيَةٍ وَلَا قَطْعٍ، بَلْ سَكَتَا عَنْ ذَلِكَ، وَعَقَدَا الْبَيْعَ مُطْلَقًا دُونَ شَرْطٍ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَوْجَبَ قَطْعَ الثَّمَرَةِ حَالًا، قَالَ: لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَهُ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ إِطْلَاقُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ عَنْهُ ﷺ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ، وَفِي لَفْظٍ: نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ، وَعَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ وَمَا زَهْوَتُهَا؟ قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ» . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَبَايَعُوا الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا «. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» .
فَإِطْلَاقَاتُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَنَحْوِهَا تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَأَرْسَلْنَا الرِّيحَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَلِفُ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ لِلْجِنْسِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ لَوَاقِحَ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَمَنْ قَرَأَ بِإِفْرَادِ الرِّيحِ فَعَلَى تَأْوِيلِ الْجِنْسِ، كَمَا قَالُوا أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ اه وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَظِيمَ مِنَّتِهِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَعْلِهِ إِيَّاهُ عَذْبًا صَالِحًا لِلسُّقْيَا، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [٥٦ \ ٦٨ - ٧٠] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [١٦ \ ١٠ - ١١] وَقَوْلِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [٢٥ \ ٤٨ - ٤٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَسْقَى وَسَقَى لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَأَسْرَى وَسَرَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ
الْقِرَاءَتَانِ السَّبْعِيَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [١٦ \ ٦٦] فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَسْقَى الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِهَا مِنْ سَقَى الثُّلَاثِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ لَبِيدٍ:
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ.
فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنُ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَعْنَى وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [١٥ \ ٢٢] أَيْ لَيْسَتْ خَزَائِنُهُ عِنْدَكُمْ بَلْ نَحْنُ الْخَازِنُونَ لَهُ، نُنَزِّلُهُ مَتَى شِئْنَا، وَهَذَا الْوَجْهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [١٥ \ ٢١] وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٦٣ \ ٧] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ فِي الْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْغُدْرَانِ، بَلْ نَحْنُ الْحَافِظُونَ لَهُ فِيهَا، لِيَكُونَ ذَخِيرَةً لَكُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [٢٣ \ ١٨] وَقَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [٦٧] وَقَوْلُهُ: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [١٨ \ ٤١] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٩ \ ٢١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [٥٠ \ ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [٢ \ ٢٥٨] وَقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [٤٤ \ ٨] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ أَحْيَاهُمْ مَرَّتَيْنِ وَأَمَاتَهُمْ مَرَّتَيْنِ كَقَوْلِهِ: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [٤٠ \ ١١] الآية وَقَوْلِهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ٢٨] وَالْإِمَاتَةُ الْأُولَى هِيَ كَوْنُهُمْ نُطَفًا وَعَلَقًا وَمُضَغًا، وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَوْتُهُمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَةُ الْأُولَى نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِمْ وَإِخْرَاجُهُمْ أَحْيَاءً مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ بَعْثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ إِيضَاحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الْوَارِثُ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الشَّيْءَ الَّذِي يَرِثُهُ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [١٩ \ ٤٠] وَقَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [١٩ \ ٨٠] وَمَعْنَى مَا يَقُولُ: أَيْ نَرِثُهُ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ يُؤْتَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [١٩ \ ٧٧] وَمَعْنَى كَوْنِهِ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَانَا آدَمَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالصَّلْصَالُ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يَصِلُ أَيْ يُصَوِّتُ مِنْ يُبْسِهِ إِذَا ضَرَبَهُ شَيْءٌ مَا دَامَ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ فَهُوَ حِينَئِذٍ فَخَّارٌ، وَأَصْلُ الصَّلِيلِ وَالصَّلْصَلَةِ وَاحِدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّكَ إِذَا تَوَهَّمْتَ فِي الصَّوْتِ مَدًّا فَهُوَ صَلِيلٌ، وَإِذَا تَوَهَّمْتَ فِيهِ تَرْجِيعًا فَهُوَ صَلْصَلَةٌ، وَالْحَمَأُ: الطِّينُ الْأَسْوَدُ الْمُتَغَيِّرُ، وَالْمَسْنُونُ قِيلَ: الْمُصَوَّرُ مِنْ سَنَّةِ الْوَجْهِ وَهِيَ صُورَتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
تُرِيكَ سَنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَنْ مَعْنَى الْمَسْنُونِ وَأَجَابَهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُصَوَّرُ قَالَ لَهُ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه وَهُوَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ:
أَغَرٌّ كَأَنَّ الْبَدْرَ سَنَّةُ وَجْهِهِ ... جَلَا الْغَيْمُ عَنْهُ ضَوْءَهُ فَتَبَدَّدَا
وَقِيلَ الْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ الْمُفْرَغُ أَيْ أُفْرِغَ صُورَةَ إِنْسَانٍ كَمَا تُفْرَغُ الصُّوَرُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُذَوَّبَةِ فِي أَمْثِلَتِهَا، وَقِيلَ: الْمَسْنُونُ الْمُنْتِنُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَسْنُونُ الْأَمْلَسُ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ: ثُمَّ خَاصِرَتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الْخَضْرَاءِ تَمْشِي فِي مَرْمَرٍ مَسْنُونٍ أَيْ أَمْلَسَ صَقِيلٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّلْصَالُ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَمَا قَدَّمْنَا هُوَ الْحَقُّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [٥٥ \ ١٤] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَوْضَحَ فِي كِتَابِهِ أَطْوَارَ هَذَا الطِّينِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ
أَوَّلًا تُرَابٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [٣ \ ٥٩] وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٢٢ \ ٥] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ [٤٠ \ ٦٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ بُلَّ فَصَارَ طِينًا يَعْلَقُ بِالْأَيْدِي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [٣٧ \ ١١] وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣ \ ١٢] وَقَوْلِهِ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [٣٢ \ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الطِّينَ أَسْوَدُ، وَأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِقَوْلِهِ هُنَا مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ يَبِسَ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا، أَيْ تَسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةً مِنْ يُبْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ الْآيَةَ [١٥ \ ٢٦] وَقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ الْآيَةَ [٥٥ \ ١٤] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِ، كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ الْآيَةَ [٢ \ ٣٤] وَقَوْلِهِ فِي ص إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٣٨ \ ٧٤] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [١٥ \ ٣٣] . كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَأَلَ إِبْلِيسَ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ عَنِ الْمُوجِبِ لِامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَبَيَّنَ أَيْضًا فِي الْأَعْرَافِ وَص أَنَّهُ وَبَّخَهُ أَيْضًا بِهَذَا السُّؤَالِ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ \ ١٢] وَقَالَ فِي ص: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الْآيَةَ [٣٨ \ ٧٥] وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ إِبْلِيسَ فِي الْحِجْرِ وَص، وَلَمْ يُنَادِهِ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ إِبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَسْجُدَ لِبَشَرٍ مَخْلُوقٍ مِنَ الطِّينِ، مَقْصُودُهُ بِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الطِّينِ وَهُوَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [٣٨ \ ٧٦] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، مُؤَكِّدًا أَنَّهُ رَجِيمٌ، وَبَيَّنَ فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ خُرُوجُ هُبُوطٍ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مُتَّصِفًا بِالصَّغَارِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ بِقَوْلِهِ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [٧ \ ١٣] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّعْنَةَ عَلَى إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَصَرَّحَ فِي ص بِأَنَّ لَعْنَتَهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [٣٨ \ ٧٨] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَاتِحَةِ بَيَانَ يَوْمِ الدِّينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا قَسَمٌ مِنْ إِبْلِيسَ بِإِغْوَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ يُغْوِي بَنِي آدَمَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ [٣٨ \ ٨٢] وَقِيلَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [١٥ \ ٣٩] سَبَبِيَّةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي إِضْلَالِ بَنِي آدَمَ حَتَّى يُضِلَّ أَكْثَرَهُمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [٧ \ ١٦ - ١٧] وَقَوْلِهِ: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا الْآيَةَ [٤ \ ١١٨] وَقَوْلِهِ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [١٧ \ ٦٢] وَهَذَا قَالَهُ إِبْلِيسُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِضْلَالِ أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ صَدَقَ ظَنُّهُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٣٤ \ ٢٠] وَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ إِضْلَالِ إِبْلِيسَ لِبَنِي آدَمَ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ إِبْلِيسَ وَجَمِيعَ مَنْ تَبِعَهُ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، كَمَا قَالَ هُنَا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ الآية [١٥ \ ٤٣ - ٤٤]، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [٧ \ ١٨] وَقَالَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [١٧ \ ٦٣] وَقَالَ فِي ص: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [٣٨ \ ٨٤ - ٨٥] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَوْعَدَ بِأَنَّهُ سَيُضِلُّ أَكْثَرَ بَنِي آدَمَ، اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِضْلَالِهِمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي ص أَيْضًا قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [٣٨ \ ٨٢ - ٨٣] وَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ هُمُ الْمُرَادُونَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [١٧ \ ٦٢] وَقَوْلُهُ فِي سَبَأٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٣٤ \ ٢٠] وَهُمُ الَّذِينَ احْتَرَزَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [٧ \ ١٧] وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْمُخْلَصِينَ كَقَوْلِهِ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ الْآيَةَ [١٥ \ ٤٢] وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [١٦ \ ٩٩ - ١٠٠] وَقَوْلِهِ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ الْآيَةَ [٣٤ \ ٢١] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [١٤ \ ٢٢] وَقَوْلِهِ: الْمُخْلَصِينَ [١٥ \ ٤٠] قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكُوفِيُّونَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَيُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ صِفَاتِ ثَوَابِهِمْ، وَرُبَّمَا بَيَّنَ بَعْضَ تَقْوَاهُمُ الَّتِي نَالُوا بِهَا هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ كَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [٥١ \ ١٥ - ١٩] وَقَوْلِهِ فِي الدُّخَانِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٤٤ \ ٥١ - ٥٧] وَقَوْلِهِ فِي الطُّورِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [٥٢ \ ١٧ - ٢٠] .
وَقَوْلِهِ فِي الْقَمَرِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [٥٤ \ ٥٤ - ٥٥] وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧٧ \ ٤١ - ٤٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَهُ أَوْصَافٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي الْقُرْآنِ نُبَيِّنُ أَوْصَافَهُ عِنْدَ ذِكْرِ بَعْضِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ مِرَارًا وَكَمَا هُنَا.
وَالْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلِ الِاتِّقَاءِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ الِاتِّقَاءِ (وق ي) لَفِيفٌ مَفْرُوقٌ فَاؤُهُ وَاوٌ وَعَيْنُهُ قَافٌ وَلَامُهُ يَاءٌ، فَدَخَلَهُ تَاءُ الِافْتِعَالِ فَصَارَتْ وَقِيَ أَوْ تَقِيَ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ تَاءً لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي التَّصْرِيفِ: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَاءُ الِافْتِعَالِ يَجِبُ إِبْدَالُهَا - أَعْنِي الْوَاوَ - تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ نَحْوَ اتَّصَلَ مِنَ الْوَصْلِ وَاتَّزَنَ مِنَ الْوَزْنِ وَاتَّحَدَ مِنَ الْوَحْدَةِ وَاتَّقَى مِنَ الْوِقَايَةِ وَعَقَدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
ذُو اللِّينِ فَاتَا فِي افْتِعَالٍ أُبْدِلَا ... وَشَذَّ فِي ذِي الْهَمْزِ نَحْوَ ائْتَكَلَا
وَالِاتِّقَاءُ فِي اللُّغَةِ: اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
يَعْنِي اسْتَقْبَلَتْنَا بِيَدِهَا جَاعِلَةً إِيَّاهَا وِقَايَةً تَقِيهَا مِنْ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهَا لِأَنَّهَا تَسْتُرُهُ بِهَا، وَقَوْلُ الْآخَرِ: فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمٍ وَالتَّقْوَى فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: هِيَ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ دُونَ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ هُمَا: امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَعَ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْغِلِّ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَعْرَافِ، وَزَادَ أَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [٧ \ ٤٣] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ عَلَى سُرُرٍ، وَأَنَّهُمْ مُتَقَابِلُونَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، وَوَصَفَ سُرُرَهُمْ بِصِفَاتٍ جَمِيلَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْهَا أَنَّهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ قَالَ فِي الْوَاقِعَةِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [٥٦ \ ١٣ - ١٦] وَقِيلَ: الْمَوْضُونَةُ الْمَصْفُوفَةُ كَقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ الْآيَةَ [٥٢ \ ٢٠] وَمِنْهَا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ كَقَوْلِهِ فِي الْغَاشِيَةِ: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ الْآيَةَ [٨٨ \ ١٣] وَقَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [٥٦ \ ٣٤]، وَقَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [٥٥ \ ٧٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَهُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَقَوْلُهُ (نَصَبٌ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ كُلَّ نَصَبٍ، فَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى سَلَامَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [٣٥ \ ٣٥] لِأَنَّ اللُّغُوبَ هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ أَيْضًا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَأَكَّدَ نَفْيَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ بِمُخْرَجِينَ فَهُمْ دَائِمُونَ فِي نَعِيمِهَا أَبَدًا بِلَا انْقِطَاعٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [١٨ \ ١٠٧ - ١٠٨] وَقَوْلِهِ: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [١٨ \ ٢ - ٣] وَقَوْلِهِ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [١١ \ ١٠٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [٣٨ \ ٥٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ.
بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [١١ \ ٦٩] كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلِهِ: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [٥١ \ ٣١ - ٣٢]
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ.
لَمْ يُبَيِّنْ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هَلْ رَدَّ إِبْرَاهِيمُ السَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا رَدَّهُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْهُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، وَبَيَّنَ فِي هُودٍ وَالذَّارِيَاتِ أَنَّهُ رَدَّ عليهم السلام بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [الْآيَةَ ٦٩] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [٥١ \ ٢٥ - ٢٦] وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَجَلَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ الْخَوْفُ ; لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا فِي هُودٍ: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [٥١ \ ٧٠] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [١١ \ ٢٨] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانَ اللَّفْظِ بِمُرَادِفٍ لَهُ أَشْهَرَ مِنْهُ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ يُرَادِفُ الْوَجَلَ وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ خَوْفِهِ هُوَ عَدَمُ أَكْلِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [١١ \ ٧٠] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الضَّيْفَ الْكِرَامَ الَّذِينَ هُمْ مَلَائِكَةٌ بَشَّرُوا إِبْرَاهِيمَ بِغُلَامٍ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي الذَّارِيَاتِ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [٥١ \ ٢٨] وَهَذَا الْغُلَامُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ إِسْحَاقُ كَمَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الذَّارِيَاتِ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [٥١ ٢٨ - ٣٠] لِأَنَّ كَوْنَهَا أَقْبَلَتْ فِي صَرَّةٍ أَيْ صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا أَيْ لَطَمَتْهُ قَائِلَةً إِنَّهَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الْمَذْكُورَ هِيَ أُمُّهُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِبِشَارَتِهَا هِيَ بِأَنَّهَا تَلِدُهُ مُصَرِّحًا بِاسْمِهِ وَاسْمِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [١١ \ ٧١ - ٧٢] وَأَمَّا الْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ الْمَذْكُورِ فِي الصَّافَّاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الْآيَةَ [٣٧ \ ٩٩ - ١٠٢] فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ دَلَالَةَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ عَلَى وَجْهٍ قَاطِعٍ لِلنِّزَاعِ، وَالْغُلَامُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَعَلَى الرَّجُلِ الْبَالِغِ، وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْبَالِغِ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه يَوْمَ النَّهْرَوَانِ
: أَنَا الْغُلَامُ الْقُرَشِيُّ الْمُؤْتَمَنُ ... أَبُو حُسَيْنٍ فَاعْلَمَنْ وَالْحَسَنِ
وَقَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ لِحَسَّانَ رضي الله عنهما:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
وَقَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةِ تَمْدَحُ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ:
إِذَا نَزَلَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
وَرُبَّمَا قَالُوا لِلْأُنْثَى غُلَامَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ غَلْفَاءَ الْهُجَيْمِيِّ يَصِفُ فَرَسًا:
وَمُرْكِضَةٌ صَرِيحِيٌّ أَبُوهَا ... يُهَانُ لَهَا الْغُلَامَةُ وَالْغُلَامُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِنَّهُ وَقْتَ الْبُشْرَى بِإِسْحَاقَ مَسَّهُ الْكِبَرُ. وَصَرَّحَ فِي هُودٍ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ أَيْضًا قَالَتْ إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي قَوْلِهِ عَنْهَا: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [١١ \ ٧٢] كَمَا صَرَّحَ عَنْهَا هِيَ أَنَّهَا وَقْتَ الْبُشْرَى عَجُوزٌ كَبِيرَةُ السِّنِّ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ الْآيَةَ [١١ \ ٧٢]، وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [٥١ \ ٢٩] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ وَقْتَ هِبَةِ اللَّهِ لَهُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُ كَبِيرُ السِّنِّ أَيْضًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [١٤ \ ٣٩] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ.
الظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [١٥ \ ٥٤] اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ لَهُ وَقَعَ نَظِيرُهُ لِامْرَأَتِهِ حَيْثُ قَالَتْ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ لِعَجَبِهَا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الْآيَةَ [١١ \ ٧٣] وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا وُقُوعُ مِثْلِهِ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [٣ \ ٣٨] .
وَقَوْلُهُ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [٣ \ ٣٩] عَجِبَ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ الْآيَةَ [٣ \ ٤٠] وَقَوْلُهُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الرَّفْعِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً وَهِيَ نُونُ الْوِقَايَةِ مَعَ حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِدَلَالَةِ الْكَسْرَةِ عَلَيْهَا، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ الْمَدِّ، فَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفْ نُونَ الرَّفْعِ وَلَا الْمَفْعُولَ بِهِ، بَلْ نُونُ الرَّفْعِ مُدْغَمَةٌ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَيَاءُ الْمُتَكَلِّمِ هِيَ الْمَفْعُولُ بِهِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَنُونُ الرَّفْعِ ثَابِتَةٌ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ.
وَحَذْفُ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضُرَّ ... كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أَوْ حُصِرَ
وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ فَنُونُ الرَّفْعِ مَحْذُوفَةٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ نُونِ الْوِقَايَةِ.
تَنْبِيهٌ
حَذْفُ نُونِ الرَّفْعِ لَهُ خَمْسُ حَالَاتٍ ثَلَاثٌ مِنْهَا يَجِبُ فِيهَا حَذْفُهَا، وَوَاحِدَةٌ يَجُوزُ فِيهَا حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا، وَوَاحِدَةٌ يُقْصَرُ فِيهَا حَذْفُهَا عَلَى السَّمَاعِ، أَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحَذْفُ: فَالْأُولَى مِنْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ عَامِلُ جَزْمٍ، وَالثَّانِيَةُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ عَامِلُ نَصْبٍ، وَالثَّالِثَةُ إِذَا أُكِّدَ الْفِعْلُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ نَحْوَ لَتُبْلَوُنَّ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْإِثْبَاتُ وَالْحَذْفُ فَهِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ نُونِ الرَّفْعِ نُونُ الْوِقَايَةِ، لِكَوْنِ الْمَفْعُولِ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ فَيَجُوزُ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ، وَمِنَ الْحَذْفِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ [٦ \ ٨٠] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [١٦ \ ٢٧] بِكَسْرِ النُّونِ مَعَ التَّخْفِيفِ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ الْآيَةَ [٣٩ \ ٦٤] بِالْكَسْرِ مَعَ التَّخْفِيفِ أَيْضًا، وَكُلُّهَا قَرَأَهَا بَعْضُ الْقُرَّاءِ بِالتَّشْدِيدِ لِإِثْبَاتِ نُونِ الرَّفْعِ وَإِدْغَامِهَا فِي نُونِ الْوِقَايَةِ، وَأَمَّا الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ الْمَقْصُورَةُ عَلَى السَّمَاعِ فَهُوَ حَذْفُهَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتُ تُدَلِّكِي ... وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِيِّ
أَمَّا بَقَاءُ نُونِ الرَّفْعِ مَعَ الْجَازِمِ فِي قَوْلِهِ:
لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لَمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ
فَهُوَ نَادِرٌ حَمْلًا لِلَمْ عَلَى أُخْتِهَا لَا النَّافِيَةِ أَوْ مَا النَّافِيَةِ، وَقِيلَ هُوَ لُغَةُ قَوْمٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّسْهِيلِ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ النُّونِ مَعَ حَرْفِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ:
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلَامَ وَأَلَّا تُشْعِرَا
أَحَدًا فَهُوَ لُغَةُ قَوْمٍ حَمَلُوا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ عَلَى أُخْتِهَا مَا الْمَصْدَرِيَّةِ فِي عَدَمِ النَّصْبِ بِهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلًا عَلَى ... مَا أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلًا
وَلَا يُنَافِي كَوْنُ اسْتِفْهَامِ إِبْرَاهِيمَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [١٥ \ ٥٦] . لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ لَيْسَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ وَلَا قَانِطٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنَّهُ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - إِلَّا الضَّالُّونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَبَيِّنٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ أَيْضًا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ فِي قَوْلِهِ: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [١٢ \ ٨٧] قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ الْآيَةَ. وَرَوْحُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَفَرَجُهُ وَتَنْفِيسُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ.
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ قَوْمُ لُوطٍ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ، وَوَجْهُ إِشَارَتِهِ تَعَالَى لِذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ لُوطٍ وَأَهْلِهِ غَيْرَ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَا امْرَأَتَهُ الْآيَةَ [١٥ \ ٥٩ - ٦٠] وَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ قَوْمُ لُوطٍ بِقَوْلِهِ فِي هُودٍ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [١١ \ ٧٠] وَصَرَّحَ فِي الذَّارِيَاتِ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لِيُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [٥١ \ ٣٢ - ٣٣] وَصَرَّحَ فِي الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ مُهْلِكُوهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَمُنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا الْآيَةَ [٢٩ \ ٣١ - ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [٢٩ \ ٣٣ - ٣٤] وَقَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [١٥ \ ٥٩] بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ الْآيَةَ [١١ \ ٨١] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ الْآيَةَ [٢٩ \ ٣٣] وَقَوْلِهِ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [٧ \ ٨٣] وَقَوْلِهِ: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ الْآيَةَ [٢٦ \ ١٧٠ - ١٧١] وَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [٢٧ \ ٥٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اسْتِثْنَاءِ امْرَأَتِهِ مِنْ أَهْلِهِ النَّاجِينَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ أَوْضَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّهُ أَنْجَى مَنْ كَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ وَهُمْ آلُ لُوطٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [٢٩ \ ٣٥ - ٣٦] .
تَنْبِيهٌ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ إِهْلَاكِ الْمُجْرِمِينَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [١٥ \ ٥٩] ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ امْرَأَةَ لُوطٍ بِقَوْلِهِ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [١٥ \ ٦٠] وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَحُكْمُهَا فِي الْقَصْدِ حُكْمُ الْأَوَّلِ
لَيْسَ صَحِيحًا عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَأَوْضَحَ مَسْأَلَةَ تَعَدُّدِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَقْسَامِهَا صَاحِبُ مَرَاقِي
السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ الْمُخَصَّصِ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ:
وَذَا تَعَدُّدٍ بِعَطْفٍ حَصَلَ ... بِالِاتِّفَاقِ مُسْجَلًا لِلْأَوَّلْ
إِلَّا فَكُلٌّ لِلَّذِي بِهِ اتَّصَلْ ... وَكُلُّهَا مَعَ التَّسَاوِي قَدْ بَطَلْ
إِنْ كَانَ غَيْرُ الْأَوَّلِ الْمُسْتَغْرَقَا ... فَالْكُلُّ لِلْمُخْرَجِ مِنْهُ حُقِّقَا
وَحَيْثُمَا اسْتَغْرَقَ الَاوَّلَ فَقَطْ ... فَأَلْغِ وَاعْتَبِرْ بِخُلْفٍ فِي النَّمَطْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ لُوطًا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُرْسَلُونَ لِإِهْلَاكِ قَوْمِهِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ مَسَاءَةٌ بِمَجِيئِهِمْ، وَأَنَّهُ ضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي هُودٍ: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [١١ \ ٧٧] وَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [٢٩ \ ٣٣]، وَذَكَرَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ أَيْضًا: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، كَمَا ذَكَرَ عَنْ لُوطٍ هُنَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [٥١ \ ٢٥] وَقَوْلِهِ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ، وَالنَّكِرَةُ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ رَآهُمْ فِي صِفَةِ شَبَابٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ، فَخَافَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ قَوْمُهُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [١٥ \ ٦٢] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: مُنْكَرُونَ أَيْ تُنْكِرُكُمْ نَفْسِي وَتَفِرُّ مِنْكُمْ، فَأَخَافُ أَنْ تَطْرُقُونِي بِشَرٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [١٥ \ ٦٣ - ٦٤] وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي هُودٍ أَنَّ سَبَبَ إِنْكَارِ إِبْرَاهِيمَ لَهُمْ عَدَمُ أَكْلِهِمْ مِنْ لَحْمِ الْعِجْلِ الَّذِي قَدَّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [١١ \ ٧٠] لِأَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ خِيفَ مِنْهُ الشَّرُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ [١٥ \ ٥٩] قَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ النُّونِ بَعْدَ الْمِيمِ الْمَضْمُومَةِ مُخَفَّفًا اسْمُ فَاعِلِ أَنْجَى عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقُرَّاءِ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ اسْمُ فَاعِلِ نُجِّيَ عَلَى وَزْنِ فُعِّلَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْإِنْجَاءِ وَالتَّنْجِيَةِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَقَوْلُهُ: قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [١٥ \ ٦٠] قَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَقَرَأَهُ غَيْرُهُ بِتَشْدِيدِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: جَاءَ آلَ لُوطٍ [١٥ \ ٦١] قَرَأَهُ قَالُونُ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِسْقَاطِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَتَحْقِيقِ الثَّانِيَةِ مَعَ
الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَإِبْدَالِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا مَعَ الْقَصْرِ وَالْمَدِّ، وَعَنْ وَرْشٍ أَيْضًا تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَسْهِيلُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْقَصْرِ وَالتَّوَسُّطِ وَالْمَدِّ، وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ مِثْلَ قِرَاءَةِ وَرْشٍ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعَ التَّسْهِيلِ إِلَّا الْقَصْرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ وَكُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْمَدِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ وَرْشٍ وَقُنْبُلٍ هُوَ التَّحْقِيقُ عَنْهُمَا وَإِنْ قِيلَ غَيْرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ.
سَبَبُ اسْتِبْشَارِ قَوْمِ لُوطٍ أَنَّهُمْ ظَنُّوا الْمَلَائِكَةَ شَبَابًا مِنْ بَنِي آدَمَ، فَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا بِهِمْ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ، كَمَا يُشِيرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ [١٥ \ ٦٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ الْآيَةَ [٥٤ \ ٣٧] وَقَوْلِهِ: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [١١ \ ٧٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِيمَا أَوْقَعَ مِنَ النَّكَالِ بِقَوْمِ لُوطٍ آيَاتٍ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي ذَلِكَ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْمَوْعِظَةُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْزَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ لَمَّا عَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ. وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢٩ \ ٣٥] وَقَوْلِهِ فِي الذَّارِيَاتِ: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [١٥١ \ ٣٧] وَقَوْلِهِ هُنَا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [١٥ \ ٧٥] وَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الْآيَةَ [٢٦ \ ١٧٤]، كَمَا صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فِي الشُّعَرَاءِ وَقَوْلُهُ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَصْلُ التَّوَسُّمِ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبِ غَيْرِهَا. يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَيْتُ مِيْسَمَهُ فِيهِ، أَيْ عَلَامَتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه فِي النَّبِيِّ ﷺ:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ النَّظَرِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
هَذَا أَصْلُ التَّوَسُّمِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
فَعَنْ قَتَادَةَ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُعْتَبِرِينَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيِ الْمُتَفَرِّسِينَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلنَّاظِرِينَ، وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَأَمِّلِينَ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَالنَّظَرَ وَالتَّفَرُّسَ وَالتَّأَمُّلَ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٍ: لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَفَكِّرِينَ، وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أَيْ لِلْمُتَبَصِّرِينَ، فَمَآلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ مَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَ فِيهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَإِطْلَاقُ التَّوَسُّمِ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ::
وَفِيهِنَّ مَلْهَى لِلصَّدِيقِ وَمَنْظَرٌ ... أَنِيقٌ لَعِينِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ
أَيِ الْمُتَأَمِّلِ فِي ذَلِكَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ:
أَوْ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إِلَيَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ
أَيْ يَنْظُرُ وَيَتَأَمَّلُ. وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [١٥ \ ٧٥] قَالَ: لِلنَّاظِرِينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ: قَالَ لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: هُمُ الْمُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ مَعًا فِي الطِّبِّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قَالَ: «لِلْمُتَفَرِّسِينَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» . اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ
لُوطٍ، وَآثَارَ تَدْمِيرِ اللَّهِ لَهَا بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ بِطَرِيقٍ ثَابِتٍ يَسْلُكُهُ النَّاسُ لَمْ يَنْدَرِسْ بَعْدُ، يَمُرُّ بِهَا أَهْلُ الْحِجَازِ فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى الشَّامِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ آثَارَ تَدْمِيرِ اللَّهِ لَهُمُ الَّتِي تُشَاهِدُونَ فِي أَسْفَارِكُمْ فِيهَا لَكُمْ عِبْرَةٌ وَمُزْدَجَرٌ يُوجِبُ عَلَيْكُمُ الْحَذَرَ مِنْ أَنْ تَفْعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، لِئَلَّا يُنْزِلَ اللَّهُ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ بِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٧ \ ١٣٧ - ١٣٨] وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [٤٧ \ ١٠] . وَقَوْلِهِ فِيهَا وَفِي دِيَارِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [١٥ \ ٧٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ كَانُوا ظَالِمِينَ وَأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وَأَوْضَحَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ فِي الشُّعَرَاءِ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [٢٦ \ ١٧٦ - ١٩٠] فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظُلْمَهُمْ هُوَ تَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ وَتَطْفِيفُهُمْ فِي الْكَيْلِ، وَبَخْسُهُمُ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَأَنَّ انْتِقَامَهُ مِنْهُمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَالظُّلَّةُ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فَأَضْرَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «لَيْكَةِ» . فِي «الشُّعَرَاءِ» وَ«ص» بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «الْأَيْكَةِ» بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ كَذَلِكَ جَمِيعُ الْقُرَّاءِ فِي «ق» وَ«الْحِجْرِ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَيْكَةُ وَالْأَيْكَةُ اسْمُ مَدِينَتِهِمْ كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ، وَالْأَيْكَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْغَيْضَةُ وَهِيَ جَمَاعَةُ الشَّجَرِ، وَالْجَمْعُ الْأَيْكُ، وَإِنَّمَا سُمُّوا أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ
وَرِيَاضٍ، وَيُرْوَى أَنَّ شَجَرَهُمْ كَانَ دَوْمًا وَهُوَ الْمُقْلِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَيْكَةِ عَلَى الْغَيْضَةِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
تَجْلُو بِقَادِمَتَيْ حَمَامَةِ أَيْكَةٍ ... بَرَدًا أُسِفَّ لِثَاتُهُ بِالْإِثْمَدِ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَمَنْ قَرَأَ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ فَهِيَ الْغَيْضَةُ، وَمَنْ قَرَأَ لَيْكَةِ فَهِيَ اسْمُ الْقَرْيَةِ، وَيُقَالُ: هُمَا مِثْلُ بَكَّةَ وَمَكَّةَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَيْكَةُ الشَّجَرَةُ، وَالْأَيْكُ هُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ.
الْحِجْرُ: مَنَازِلُ ثَمُودَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ عِنْدَ وَادِي الْقُرَى. فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تَكْذِيبَ ثَمُودَ لِنَبِيِّهِ صَالِحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ الْآيَاتِ [٢٦ \ ١٤١] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [٩١ \ ١٤] وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [٥٤ \ ٢٣ - ٢٤] وَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٧ \ ٧٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ مَعَ أَنَّ الَّذِي كَذَّبُوهُ هُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، لِأَنَّ دَعْوَةَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَحْقِيقُ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِأَدِلَّةٍ عُمُومِيَّةٍ وَخُصُوصِيَّةٍ. قَالَ مُعَمِّمًا لِجَمِيعِهِمْ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الْآيَةَ [٢١ \ ٢٥] . وَقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [١٦ \ ٣٦] وَقَالَ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [٤٣ \ ٤٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ فِي تَخْصِيصِ الرُّسُلِ بِأَسْمَائِهِمْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [٢٣ \ ٢٣] وَقَالَ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [١١ \ ٥٠] وَقَالَ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [١١ \ ٨٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ وَاحِدَةٌ عَرَفْتَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَهُمْ. وَلِذَا صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِبَعْضِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ حَقًّا. قَالَ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [٤ \ ١٥٠ - ١٥١]،
وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [٢ \ ١٣٦ وَ٣ \ ٨٤]، وَقَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [٢ \ ٢٨٥]، وَوَعَدَ الْأَجْرَ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. الْآيَةَ [٤ \ ١٥٢]، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» .
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّهُ ﷺ مَرَّ بِالْحِجْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي طَرِيقِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِالْحِجْرِ، قَالَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ»، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ «، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ، وَيُهْرِقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ» . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِي الشُّمُوسِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ» .
ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ وَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُهْرِقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِيَارِهِمْ، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَسْقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي تَرِدُهَا النَّاقَةُ «.
ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ أُسَامَةُ، عَنْ نَافِعٍ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ:» لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «، ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ.
ثُمَّ سَاقَ أَيْضًا بِسَنَدِهِ، عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «، هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أَمَّا حَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فَوَصَلَهُ أَحْمَدُ
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَبْرَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - الْجُهَنِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ حِينَ رَاحَ مِنَ الْحِجْرِ:» مَنْ كَانَ عَجَنَ مِنْكُمْ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَجِينَةً أَوْ حَاسَ حَيْسًا ; فَلْيُلْقِهِ «، وَلَيْسَ لِسَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الشُّمُوسِ - وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ -، وَهُوَ بِكْرِيٌّ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ - فَوَصَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مِنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمِ بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهُ، قَالَ:» كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. . . . . . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأَلْقَى ذُو الْعَجِينِ عَجِينَهُ، وَذُو الْحَيْسِ حَيْسَهُ «. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَزَادَ:» فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَدْ حِسْتُ حَيْسَةً فَأُلْقِمُهَا رَاحِلَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ «.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا: قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ» مَنِ اعْتَجَنَ بِمَائِهِ «وَصَلَهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُدَامَةَ عَنْهُ:» أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَآتَوْا عَلَى وَادٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ «إِنَّكُمْ بِوَادٍ مَلْعُونٍ فَأَسْرِعُوا» وَقَالَ: «مَنِ اعْتَجَنَ عَجِينَةً، أَوْ طَبَخَ قِدْرًا ; فَلْيَكُبَّهَا» . الْحَدِيثَ. قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [١٥ \ ٨٠]، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ; أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:» لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ; لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ «. وَبَعْضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى النَّهْيِ عَنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ الْبُكَاءِ، وَعَلَى إِسْرَاعِهِ ﷺ حَتَّى جَاوَزَ دِيَارَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ إِلَّا فِي حَالَةِ الْبُكَاءِ، وَفِيهَا الْإِسْرَاعُ بِمُجَاوَزَتِهَا، وَعَدَمُ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ مِيَاهِهَا، وَعَدَمُ أَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي عُجِنَ بِهَا، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِمَائِهَا، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا ; لِأَنَّ مَاءَهَا لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ:» وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُحِلِّ - وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ -، قَالَ «كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَرْنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ - أَيْ: تَعَدَّاهُ -» وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مِرَارٍ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَسْفِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا خَسْفٌ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَلَفْظُهُ: «نَهَانِي حَبِيبِي ﷺ أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ ; فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّائِقُ بِتَعْلِيقِ الْمُصَنِّفِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْخَسْفِ هُنَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ الْآيَةَ [١٦ \ ٢٦]، ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْأَخْبَارِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّمْرُوذَ بْنَ كَنْعَانَ بَنَى بِبَابِلَ بُنْيَانًا عَظِيمًا، يُقَالُ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ كَانَ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ حَرَّمَ الصَّلَاةَ فِي أَرْضِ بَابِلَ» انْتَهَى. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي.
وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ يُعَارِضُهُ مَا رَأَيْتُهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ عُمُومُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الْمَرْفُوعُ، عَنْ عَلِيٍّ الَّذِي أَشَارَ لَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا هُوَ قَوْلُهُ: «حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ. فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ:» إِنَّ حَبِيبِي ﷺ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ ; فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ «.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ بِمَعْنَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ:» فَلَمَّا خَرَجَ - مَكَانَ فَلَمَّا بَرَزَ - اهـ.
وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ فِي إِسْنَادَيْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ، وَلَكِنْ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ نَبَّهَ عَلَيْهَا ابْنُ يُونُسَ، أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ ; فَلِأَنَّ طَرِيقَتَهُ الْأُولَى أَوَّلُ طَبَقَاتِهَا: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ ثِقَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ: أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ مَكَانَ سُلَيْمَانَ الْمَذْكُورِ، وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وَكَلَامُ النَّسَائِيِّ فِيهِ غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ:
وَرُبَّمَا رُدَّ كَلَامُ الْجَارِحِ ... كَالنَّسَائِيِّ فِي أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ
وَسَبَبُ غَلَطِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ كَذَّبَ أَحْمَدَ بْنَ صَالِحٍ الشُّمُونِيُّ. فَظَنَّ النَّسَائِيُّ أَنَّ
مُرَادَ ابْنِ مَعِينٍ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ هَذَا الَّذِي هُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الطَّبَرِيِّ الْمِصْرِيُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ فِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ:
ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ عَابِدٌ مَشْهُورٌ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ: يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ الْبَصْرِيُّ مَوْلَى قُرَيْشٍ صَدُوقٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ صَدُوقٌ خَلَطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اعْتِضَادَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ ابْنُ وَهْبٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا عَنْهُ.
وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ: عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْمُرَادِيُّ. وَفِي الْإِسْنَادِ الثَّانِي: الْحَجَّاجُ بْنُ شَدَّادٍ، وَعَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْمُرَادِيُّ، ثُمَّ السَّلْهَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ شَدَّادٍ الصَّنْعَانِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ، كِلَاهُمَا مَقْبُولٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَاعْتِضَادُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ.
وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ فِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ: أَبُو صَالِحٍ الْغِفَارِيُّ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ فِي كِلَيْهِمَا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، فَالَّذِي يَظْهَرُ صَلَاحِيَةُ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ يُونُسَ، وَهِيَ: أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مُرْسَلَةٌ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: «بَابُ مِنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي مَوْضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ،» أَنْبَأَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِلَفْظِهِ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُحِلٍّ الْعُمَرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَمَرَّ بِنَا عَلَى الْخَسْفِ الَّذِي بِبَابِلَ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى أَجَازَهُ. وَعَنْ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَا كُنْتُ لِأُصَلِّيَ بِأَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِنْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الصَّلَاةِ ; فَلَوْ صَلَّى فِيهَا لَمْ يُعِدْ، ثُمَّ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ، وَكَرِهَ الْمُقَامَ فِيهَا إِلَّا بَاكِيًا، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُقَامُ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. اهـ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ حَاصِلُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالتَّطَهُّرِ بِمِيَاهِهَا، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِهَا صَحِيحَةٌ وَالتَّطَهُّرَ بِمَائِهَا مُجْزِئٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ ﷺ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا» الْحَدِيثَ. وَكَعُمُومِ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ، وَحُكْمِ الْخَبَثِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِمَائِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْمَرْفُوعِ: أَنَّ حَبِيبَهُ ﷺ نَهَاهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي خَسْفِ بَابِلَ ; لِأَنَّهَا أَرْضٌ مَلْعُونَةٌ. قَالُوا: وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ ; لِأَنَّ مَا نَهَى عَنْهُ ﷺ لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا، وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ. وَاحْتَجُّوا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ بِمَائِهَا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَهُمَا لَيْسَا بِقُرْبَةٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ الطَّهَارَةِ بِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ ; أَنَّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي سَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، كَفِعْلِهِ ﷺ وَفِعْلِ صِهْرِهِ، وَابْنِ عَمِّهِ، وَأَبِي سِبْطَيْهِ رضي الله عنهم جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بَاكِيًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. فَلَوْ نَزَلَ فِيهَا وَصَلَّى فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ بِدَلَالَةٍ وَاضِحَةٍ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْعِبَادَةِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ قَوِيِّ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
مَسَائِلُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحِجْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْآيَةَ [١٥ \ ٨٠]: هُوَ دِيَارُ ثَمُودَ، وَأَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ ; فَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ نَذْكُرُ الْأَمَاكِنَ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَنُبَيِّنُ مَا صَحَّ فِيهِ النَّهْيُ وَمَا لَمْ يَصِحَّ.
وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا سَتَأْتِي كُلُّهَا.
عَنْ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» . رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي إِسْنَادِهِ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْإِسْنَادَ الْأَوَّلَ فِيهِ زَيْدُ بْنُ جَبِيرَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَ فِيهِ ابْنَ حَجَرٍ فِي
التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: هُوَ لَا شَيْءَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةٌ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ. قُلْتَ: وَقَالَ السَّاجِيُّ: حَدَّثَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ جِدًّا، يَعْنِي حَدِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ. وَقَالَ الْفَسَوِيُّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنِ الْمَشَاهِيرِ ; فَاسْتَحَقَّ التَّنَكُّبَ عَنْ رِوَايَتِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَدَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَغَيْرِهِمَا الْمَنَاكِيرَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَأَحَدُ إِسْنَادَيِ ابْنِ مَاجَهْ فِيهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَهُوَ كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَفِيهِ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ: هُمَا جَمِيعًا - يَعْنِي الْحَدِيثَيْنِ - وَاهِيَانِ. وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ ابْنُ السَّكَنِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، هِيَ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَالصَّلَاةُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، وَالْكَنِيسَةِ وَالْبَيْعَةِ، وَإِلَى التَّمَاثِيلِ، وَفِي دَارِ الْعَذَابِ، وَفِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، وَالصَّلَاةُ إِلَى النَّائِمِ، وَالْمُتَحَدِّثِ، وَفِي بَطْنِ الْوَادِي، وَفِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالصَّلَاةُ إِلَى التَّنُّورِ، فَالْمَجْمُوعُ تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. وَسَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ النَّهْيِ عَنْهَا مُفَصَّلَةً - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالصَّلَاةُ إِلَى الْقَبْرِ: فَكِلَاهُمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ النَّهْيُ عَنْهُ. أَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ: فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ﷺ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْيَهُودِ. وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَلْعَنُ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ حَرَامٍ شَدِيدِ الْحُرْمَةِ. وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ
يَقُولُ: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ. إِلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ مَحَلَّ صَلَاةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: صَلُّوا وَلَا تَكُونُوا كَالْأَمْوَاتِ فِي قُبُورِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ لَا مَطْعَنَ فِيهَا، وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ صُلِّيَ فِيهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي اللُّغَةِ مَكَانُ السُّجُودِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» . الْحَدِيثَ. أَيْ: كُلُّ مَكَانٍ مِنْهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ. وَظَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ الْعُمُومُ، سَوَاءٌ نُبِشَتِ الْمَقْبَرَةُ وَاخْتَلَطَ تُرَابُهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ أَوْ لَمْ تُنْبَشْ ; لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ بِنَجَاسَةِ الْمَقَابِرِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيَّةُ ; بِدَلِيلِ اللَّعْنِ الْوَارِدِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَيْسَتْ نَجِسَةً، فَالْعِلَّةُ لِلنَّهْيِ سَدُّ الذَّرِيعَةِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا عَبَدُوا اللَّهَ عِنْدَ الْقُبُورِ آلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى عِبَادَةِ الْقُبُورِ.
فَالظَّاهِرُ مِنَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ: مَنْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَقَابِرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَفِي صِحَّتِهَا عِنْدَهُ رِوَايَتَانِ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ طَهَارَتُهَا. وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ نَجِسَةً لِاخْتِلَاطِ أَرْضِهَا بِصَدِيدِ الْأَمْوَاتِ لِأَجْلِ النَّبْشِ ; فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُنْبَشْ ; فَالصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ. قَالَ: وَلَمْ يَكْرَهْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْحَاوِي عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَقَّقَ نَبْشُهَا. وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ
وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا، وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَطَاوُسٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَخَيْثَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ «فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى وَسْطَ الْقُبُورِ؟ قَالَ: لَقَدْ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما وَسْطَ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ يَوْمَ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِمَّنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى الْمِسْكِينَةِ السَّوْدَاءِ بِالْمَقْبَرَةِ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - حُكْمُ الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ; لِأَنَّ النُّصُوصَ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ، وَلَعْنِ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا فِي التَّحْرِيمِ. أَمَّا الْبُطْلَانُ فَمُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِقَوْلِهِ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . وَالصَّلَاةُ فِي الْمَقَابِرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلَيْسَتْ مِنْ أَمْرِنَا فَهِيَ رَدٌّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ مِنْ أَمْرِنَا فَلَيْسَتْ رَدًّا، وَكَوْنُهَا فِي الْمَكَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَمْرِنَا.
كَمَا عُلِمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَهُ جِهَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ مِنْهَا: كَكَوْنِهِ صَلَاةً، وَالْأُخْرَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْهَا: كَكَوْنِهِ فِي مَوْضِعِ نَهْيٍ، أَوْ وَقْتِ نَهْيٍ، أَوْ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ بِحَرِيرٍ، أَوْ ذَهَبٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنِ انْفَكَّتْ جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ لَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ الْفَسَادَ، وَإِنْ لَمْ تَنْفَكَّ عَنْهَا اقْتَضَاهُ. وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَخْتَلِفُونَ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: الْجِهَةُ هُنَا مُنْفَكَّةٌ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: لَيْسَتْ مُنْفَكَّةً كَالْعَكْسِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ مَثَلًا: الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْفَكَّ فِيهَا جِهَةُ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ ; لِكَوْنِ حَرَكَةِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ كُلُّهَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّي بِهِ حَيِّزًا مِنَ الْفَرَاغِ لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ، فَنَفْسُ شَغْلِهِ لَهُ بِبَدَنِهِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِحَالٍ. فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ كَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ: الْجِهَةُ مُنْفَكَّةٌ هُنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ صَلَاةً قُرْبَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ غَصْبًا حَرَامٌ، فَلَهُ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ غَصْبُهُ كَالصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ. وَإِلَى هَذَا الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
دُخُولُ ذِي كَرَاهَةٍ فِيمَا أُمِرَ ... بِهِ بِلَا قَيْدٍ وَفَصْلٍ قَدْ حُظِرْ
فَنَفْيُ صِحَّةٍ وَنَفْيُ الْأَجْرِ ... فِي وَقْتِ كُرْهٍ لِلصَّلَاةِ يَجْرِي
وَإِنْ يَكُ النَّهْيُ عَنِ الْأَمْرِ انْفَصَلْ ... فَالْفِعْلُ بِالصِّحَّةِ لَا الْأَجْرُ اتَّصَلْ
وَذَا إِلَى الْجُمْهُورِ ذُو انْتِسَابِ ... وَقِيلَ بِالْأَجْرِ مَعَ الْعِقَابِ
وَقَدْ رُوِي الْبُطْلَانُ وَالْقَضَاءُ ... وَقِيلَ ذَا فَقَطْ لَهُ انْتِفَاءُ
مِثْلَ الصَّلَاةِ بِالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ ... أَوْ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَالْوُضُو انْقَلَبْ
وَمَعْطَنٍ وَمَنْهَجٍ وَمَقْبَرَهْ ... كَنِيسَةٍ وَذِي حَمِيمٍ مَجْزَرَهْ
وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى الْقُبُورِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ أَيْضًا، بِدَلِيلِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» . وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا مَنْعُ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ الْمُتَجَرِّدَةَ مِنَ الْقَرَائِنِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. أَمَّا اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ إِذَا كَانَ لِلْفِعْلِ جِهَةُ أَمْرٍ وَجِهَةُ نَهْيٍ، فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَإِنْ كَانَتْ جِهَتُهُ وَاحِدَةً اقْتَضَى الْفَسَادَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ:
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ لِلْفَسَادِ ... إِنْ لَمْ يَجِي الدَّلِيلُ لِلسَّدَادِ
وَقَدْ نَهَى ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ، وَقَدْ قَالَ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ»، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [٥٩ \ ٧]، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَعْنَهُ ﷺ مَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى التَّحْرِيمِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَإِلَى الْقُبُورِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» الْحَدِيثَ. قَالُوا: عُمُومُهُ يَشْمَلُ الْمَقَابِرَ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ مِنْهُ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِلَى الْقَبْرِ خَاصَّةً، وَحَدِيثُ «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا» عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ كَوْنِ الْأَرْضِ مَسْجِدًا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ
إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ»، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ «كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ» فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَحَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّتِهِ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى صِحَّتِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَثَبَتَ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحِةٍ حُكِمَ بِوَصْلِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِرْسَالُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِلَّةً فِيهِ ; لِأَنَّ الْوَصْلَ زِيَادَةٌ وَزِيَادَاتُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ «مَرَاقِي السُّعُودِ»:
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ... مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ
مِنْ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْقُبُورِ - مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًا، فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ قَالَ: «أَفَلَا آذَنْتُمُونِي»، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ. فَقَالَ: «دَلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ» فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ الْقُبُورُ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» . وَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً» إِلَى آخِرِ الْخَبَرِ، قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقَبْرِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما وَسْطَ الْبَقِيعِ، وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ وَصِحَّتِهَا ; لَا مُطْلَقِ صِحَّتِهَا دُونَ الْجَوَازِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِلَفْظِ: «وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ. فَقَالَ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ» اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أُورِدَ أَثَرُ عُمَرَ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رُوِّينَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِأَبِي
نُعَيْمٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُهُ: «بَيْنَمَا أَنَسٌ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ نَادَاهُ عُمَرُ: الْقَبْرَ، الْقَبْرَ ; فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَرَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْرَ، جَاوَزَ الْقَبْرَ وَصَلَّى» وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ. مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، زَادَ فِيهِ: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْرَ فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ، بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِيرِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ تَمَادِي أَنَسٍ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَهَا لَقَطَعَهَا وَاسْتَأْنَفَ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ الْجَمْعُ وَالتَّرْجِيحُ مَعًا. أَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ: فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ كُلُّهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ: فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ عِنْدَ الْمُرُورِ بِالْقُبُورِ.
وَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ جَوَازَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّافِلَةِ الَّتِي هِيَ صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَيُؤَيِّدُهُ تَحْذِيرُ عُمَرَ لِأَنَسٍ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقَبْرِ. نَعَمْ تَتَعَارَضُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ مَعَ ظَاهِرِ عُمُومِ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» ; فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ، فَيَشْمَلُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَتَحَصَّلُ أَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا إِلَى الْقَبْرِ أَوْ عِنْدَهُ، بَلِ الْعَكْسُ. أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ: فَهِيَ الَّتِي تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ. وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى النَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَحَدِيثُ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ» عَامٌّ فِي ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ خَاصَّةٌ، وَالْخَاصُّ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْعَامِّ.
فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ بِحَسَبِ الصِّنَاعَةِ الْأُصُولِيَّةِ: مَنْعُ الصَّلَاةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِلَيْهِ مُطْلَقًا ; لِلَعْنِهِ ﷺ لِمُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ - الَّتِي هِيَ لِلدُّعَاءِ لَهُ الْخَالِيَةَ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - تَصِحُّ ; لِفِعْلِهِ ﷺ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَيُومِئُ لِهَذَا الْجَمْعِ حَدِيثُ لَعْنِ مُتَّخِذِي الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ; لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ السُّجُودِ. وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا سُجُودَ فِيهَا ; فَمَوْضِعُهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ لُغَةً ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ سُجُودٍ.
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ: مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، يَعْنِي بِالْكِتَابِ قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [١٨ \ ٢١]، وَيَعْنِي بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنْ: مَوْضِعَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَجْهَلِ خَلْقِ اللَّهِ.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا»؟ أَهُمْ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ؟ أَمْ هُمْ كَفَرَةٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ؟، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ [١٨ \ ٢١]، مَا نَصُّهُ: «وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، أَهُمُ الرَّهْطُ الْمُسْلِمُونَ أَمْ هُمُ الْكُفَّارُ؟ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ فِعْلَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ. وَعَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ كَمَا يَدُلُّ لَهُ ذِكْرُ الْمَسْجِدِ ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ قَوْلَ قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ: إِنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا، لَا يُعَارِضُ بِهِ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ فَقَابَلَ قَوْلَهُمْ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [١٨ \ ٢١] بِقَوْلِهِ ﷺ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى بِخَمْسٍ:» لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ; اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ «. الْحَدِيثَ. يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي اتِّخَاذِهِمُ الْمَسْجِدَ عَلَى الْقُبُورِ، مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ﷺ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِهِ ﷺ، فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [٥٩ \ ٧] ; وَلِهَذَا صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: بِأَنَّ الْوَاصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا فِي الْحَدِيثِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَلْعُونَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لَهُ: قَرَأْتُ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ فَلَمْ أَجِدْ، إِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وَجَدْتِيهِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِهِ تُعْلَمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي آيَةِ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [١٨ \ ٢١] .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ: بِأَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ مَبْنِيٌّ فِي مَحَلِّ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُمِرَ بِهَا فَنُبِشَتْ وَأُزِيلَ مَا فِيهَا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -:» فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ. . . . . «. الْحَدِيثَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَرِيبٌ مِنْهُ بِمَعْنَاهُ. فَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ لَا حُرْمَةَ لَهَا ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ ﷺ بِنَبْشِهَا وَإِزَالَةِ مَا فِيهَا. فَصَارَ الْمَوْضِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْرٌ أَصْلًا لِإِزَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْصِيصُهَا. كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لَهُ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ; أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» .
وَلِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» .
فَهَذَا النَّهْيُ ثَابِتٌ عَنْهُ ﷺ، وَقَدْ قَالَ: «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» . وَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَا حُكْمَ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ، وَفِي الْمَقْبَرَةِ، وَإِلَى الْقَبْرِ، وَفِي الْحَمَّامِ.
وَأَمَّا أَعْطَانُ الْإِبِلِ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأُ»، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ ; تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ» . قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أُصَلِّي فِي «مَبَارَكِ الْإِبِلِ»: قَالَ «لَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ.
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ» .
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ): إِنَّ الْإِسْنَادَ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فِي (بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ)، وَفِي (بَابِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ
الْإِبِلِ)، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ»، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا ; فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ ; وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا يُصَلَّى فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَيُصَلَّى فِي مُرَاحِ الْغَنَمِ» .
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْإِبِلِ)، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَلُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، الَّتِي لَمْ يَأْتِ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثٍ يُطَابِقُهَا مَا نَصُّهُ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَكِنْ لَهَا طُرُقٌ قَوِيَّةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَحَدِيثُ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَفِي مُعْظَمِهَا التَّعْبِيرُ بِمَعَاطِنِ الْإِبِلِ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَالْبَرَاءِ: «مَبَارَكِ الْإِبِلِ»، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ سُلَيْكٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِي حَدِيثِ سَبْرَةَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «أَعْطَانِ الْإِبِلِ» . وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: «مَنَاخِ الْإِبِلِ»، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عِنْدَ أَحْمَدَ: «مَرَابِدِ الْإِبِلِ» فَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْمَوَاضِعِ لِأَنَّهَا أَشْمَلُ، وَالْمَعَاطِنُ أَخَصُّ مِنَ الْمَوَاضِعِ ; لِأَنَّ الْمَعَاطِنَ مَوَاضِعُ إِقَامَتِهَا عِنْدَ الْمَاءِ خَاصَّةً.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِالْمَعَاطِنِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْإِبِلُ. وَقِيلَ مَأْوَاهَا مُطْلَقًا، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ أَحْمَدَ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ مُتَوَاتِرَةٌ بِنَقْلِ تَوَاتُرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ.
فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِيهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ جُلُّ أَصْحَابِهِ.
قَالَ صَاحِبُ (الْإِنْصَافِ): هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَفِي الْفُرُوعِ هُوَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْمُصَنَّفُ وَغَيْرُهُ: هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ (ابْنُ حَزْمٍ) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِيهَا لَصَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ.
فَقِيلَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّعْلِيلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارَكِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ»، وَتَرْتِيبُهُ كَوْنُهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالْفَاءِ عَلَى النَّهْيِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ عِلَّتُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبْحَثِ مَسْلَكِ النَّصِّ، وَمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى كَوْنِهَا: «خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ»، أَنَّهَا رُبَّمَا نَفَرَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ صَلَاتِهِ، أَوْ أَذَاهُ، أَوْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ شَيْطَانًا. وَالْإِبِلُ إِذَا نَفَرَتْ فَهِيَ عَاتِيَةٌ مُتَمَرِّدَةٌ، فَتَسْمِيَتُهَا بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ مُطَابِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خُلِقَ مِنْ كَذَا لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا يَقُولُونَ: خُلِقَ هَذَا مِنَ الْكَرَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [٢١ \ ٣٧]، عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْإِبِلِ فِي مَعَاطِنِهَا، وَبَيْنَ غَيْبَتِهَا عَنْهَا ; إِذْ يُؤْمَنُ نُفُورُهَا حِينَئِذٍ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ): وَيُرْشِدُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: «لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ; فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الْجِنِّ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عُيُونِهَا وَهَيْئَاتِهَا إِذَا نَفَرَتْ» .
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ عِلَّةَ النَّهْيِ أَنْ يُجَاءَ بِهَا إِلَى مَعَاطِنِهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُهَا، أَوْ يَسْتَمِرُّ فِيهَا مَعَ شَغْلِ خَاطِرِهِ، اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.
وَمِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَنْصُوصِ ; فَهِمَ الْعُلَمَاءُ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ بُطْلَانِهَا أَنَّهُ: لَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ مَا ذُكِرَ ; دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا فَعَلَهَا تَامَّةً أَنَّهَا غَيْرُ بَاطِلَةٍ.
وَقِيلَ: الْعِلَّةُ أَنَّ أَصْحَابَ الْإِبِلِ يَتَغَوَّطُونَ فِي مَبَارِكِهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْغَنَمِ.
وَقِيلَ: الْعِلَّةُ أَنَّ النَّاقَةَ تَحِيضُ، وَالْجَمَلَ يَمْنِي.
وَكُلُّهَا تَعْلِيلَاتٌ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا. وَالصَّحِيحُ التَّعْلِيلُ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ ﷺ بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي مَبَارَكِ الْبَقَرِ؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا كَمَرَابِضِ الْغَنَمِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا كَمَرَابِضِ الْإِبِلِ ; لَكَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي فَتْحِ الْبَارِي): وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَلَا يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، اهـ. قَالَ: وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ. فَلَوْ ثَبَتَ لَأَفَادَ أَنَّ حُكْمَ الْبَقَرِ حُكْمُ الْإِبِلِ. بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنَّ الْبَقَرَ فِي ذَلِكَ كَالْغَنَمِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَمَا يَقُولُهُ أَبُو دَاوُدَ رحمه الله: مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنْهَا هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْهُ ﷺ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ، فَلِمَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ): وَأَمَّا الصَّلَاةُ إِلَى جِدَارِ مِرْحَاضٍ ; فَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِلَفْظِ: «نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ تُجَاهَهُ حُشٌّ»، أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَلَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: لَا يُصَلَّى إِلَى الْحُشِّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا يُصَلَّى تُجَاهَ حُشٍّ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ. . فَذَكَرَ مِنْهَا الْحُشَّ.
وَفِي كَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. اهـ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْحُشِّ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا - بَيْتُ الْخَلَاءِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْكَنِيسَةِ وَالْبَيْعَةِ - وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُتَعَبَّدَاتُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى -، فَقَدْ كَرِهَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي (شَرْحِ الْمَذْهَبِ): حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٍ رضي الله عنهم.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ رُويَتِ الْكَرَاهَةُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ خَاصَّةً. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ، قَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ)، وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ». وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (الْفَتْحِ): إِنَّ الْأَثَرَ الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ - مَوْلَى عُمَرَ -. وَالْأَثَرُ الَّذِي عُلِّقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعْدِيَّاتِ. اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ إِلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ.
وَرَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَالْبِيعَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: أَبُو مُوسَى، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله: وَلَعَلَّ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اتِّخَاذِ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ مَسَاجِدَ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَظِنَّةً لِذَلِكَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَنَّ الْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ: مَوْضِعٌ يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ وَيُكْفَرُ بِهِ فِيهِ، فَهِيَ بُقْعَةُ سُخْطٍ وَغَضَبٍ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى التَّمَاثِيلِ: فَدَلِيلُهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ)، قَالَ: (بَابُ إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أَوْ تَصَاوِيرَ: هَلْ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؟ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا ; إِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلَاتِي».
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا (فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، بَابُ كَرَاهِيَةِ اللِّبَاسِ فِي التَّصَاوِيرِ): حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: «أَمِيطِي عَنِّي ; فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي».
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَوْبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمْدُودٌ إِلَى سَهْوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَخِّرِيهِ عَنِّي»، قَالَتْ: فَأَخَّرْتُهُ فَجَعَلْتُهُ وَسَائِدَ.
وَالثَّوْبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الْقِرَامُ الْمَذْكُورُ، وَالْقِرَامُ - بِالْكَسْرِ -: سِتْرٌ فِيهِ رَقْمٌ وَنُقُوشٌ، أَوِ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ يَصِفُ الْهَوْدَجَ:
مِنْ كُلِّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصِيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلَّةٌ وَقِرَامُهَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ يَصِفُ دَارًا:
عَلَى ظَهْرِ جَرْعَاءِ الْعَجُوزِ كَأَنَّهَا ... دَوَائِرُ رَقْمٍ فِي سَرَاةِ قِرَامِ
وَالْكِلَّةُ فِي بَيْتِ لَبِيدٍ: هِيَ الْقِرَامُ إِذَا خِيطَ فَصَارَ كَالْبَيْتِ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ، فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». اهـ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ قَرِيبٌ مِنْهُ. اهـ.
أَمَّا بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى إِلَى التَّمَاثِيلِ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ
الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْهُ (بَابُ إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ، أَوْ تَصَاوِيرَ: هَلْ تَفْسُدُ صَلَاتَهُ؟) الْخَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي الْبُطْلَانِ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي انْفِكَاكِ جِهَةِ النَّهْيِ عَنْ جِهَةِ الْأَمْرِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْعُ تَصْوِيرِ الْحَيَوَانِ، وَتَعْذِيبُ فَاعِلِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِحْيَاءِ مَا صَوَّرُوا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا تَدْخُلُ مَحَلًّا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ، فَكُلُّهُ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ: فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا حَرَامٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَلَأَنْ يَحْرُمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ; لِانْفِكَاكِ الْجِهَةِ أَنَّهُ آثِمٌ بِغَصْبِهِ، مُطِيعٌ بِصَلَاتِهِ: كَالْمُصَلِّي بِحَرِيرٍ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَالْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ ; لِعَدَمِ انْفِكَاكِ جِهَةِ الْأَمْرِ عَنْ جِهَةِ النَّهْيِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَبْيَاتِ مَرَاقِي السُّعُودِ الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ: فَدَلِيلُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ: (بَابُ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُتَحَدِّثِينَ وَالنِّيَامِ)، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ - يَعْنِي لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلَا الْمُتَحَدِّثُ». اهـ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمِقْدَامِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُتَحَدِّثِ، أَوِ النَّائِمِ». وَإِسْنَادُ ابْنِ مَاجَهْ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الرَّاوِيَ فِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَبُو الْمِقْدَامِ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ هِشَامُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: هِشَامُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ:
مَتْرُوكٌ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَأَبُو زُرْعَةَ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الدُّورِيُّ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ضَعِيفٌ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: غَيْرُ ثِقَةٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: يُضَعَّفُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْجُنَيْدِ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا: ضَعِيفٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَمَرَّةً: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَكَانَ جَارًا لِأَبِي الْوَلِيدِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وَكَانَ لَا يَرْضَاهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ كِتَابَ حَفْصٍ الْمِنْقَرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ فَرَوَى عَنِ الْحَسَنِ. وَعِنْدَهُ عَنِ الْحَسَنِ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ.
قُلْتُ: وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ، وَتَرَكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثَهُ. وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ضَعِيفٌ لَا يُفْرَحُ بِحَدِيثِهِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْهَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ فَعَلَهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّائِمِ): حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ ; لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يُفَرِّقُ مُفَرِّقٌ بَيْنَ كَوْنِهَا نَائِمَةً أَوْ يَقْظَى. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ أَيْضًا إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: طُرُقُهُ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ - يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - اهـ.
وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَهُمَا وَاهِيَانِ أَيْضًا. وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَمَالِكٌ الصَّلَاةَ إِلَى النَّائِمِ ; خَشْيَةَ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ، وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ فِي (فَتْحِ الْبَارِي) .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ خَاصٌّ فِي
النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ وَالْمُتَحَدِّثِ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَخْذَ الْكَرَاهَةِ مِنْ عُمُومِ نُصُوصٍ أُخَرَ، كَتَعْلِيلِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ إِلَى النَّائِمِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ خَشْيَةِ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهُ مَا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ ; لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَدْرِي عَنْ نَفْسِهِ.
وَكَتَعْلِيلِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ إِلَى الْمُتَحَدِّثِ ; بِأَنَّ الْحَدِيثَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ، - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي ; فَيُسْتَدَلُّ لَهَا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا «وَبَطْنِ الْوَادِي» بَدَلَ «الْمَقْبَرَةِ»، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ قَالَ الْحَافِظُ: وَهِيَ زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تُعْرَفُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي بَطْنِ الْوَادِي مُخْتَصَّةٌ بِالْوَادِي الَّذِي حَضَرَ فِيهِ الشَّيْطَانُ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ، فَنَامُوا عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي حَضَرَهُمْ فِيهِ الشَّيْطَانُ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ عَنِ الْوَادِي. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ ; فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [٩ \ ١٠٨]، وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [٩ \ ١٠٧] . وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ [٩ \ ١٠٩ - ١١٠] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى التَّبَاعُدِ عَنْ مَوْضِعِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ إِلَى التَّنُّورِ ; فَلِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ، وَقَالَ: هُوَ بَيْتُ نَارٍ.
وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى التَّنُّورِ عِنْدَهُ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَأَنَّ عَرْضَ النَّارِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامُهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ، أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ)، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي»، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ». اهـ.
وَعَرْضُ النَّارِ عَلَيْهِ ﷺ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ النَّارَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَلَا الشِّمَالِ، فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ بَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ - أَيْ: تَأَخَّرْتَ - إِلَى خَلْفٍ؟ وَفِي جَوَابِهِ: أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ «أُرِيَ النَّارَ. .» إِلَخْ.
فَهَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي وَرَدَ نَهْيٌ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، الَّتِي لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِآيَةِ الْحِجْرِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ آتَى أَصْحَابَ الْحِجْرِ - وَهُمْ ثَمُودُ - آيَاتِهِ فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ. وَالْإِعْرَاضُ: الصُّدُودُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ - بِالضَّمِّ - وَهُوَ الْجَانِبُ ; لِأَنَّ الْمُعْرِضَ لَا يُوَلِّي وَجْهَهُ، بَلْ يَثْنِي عِطْفَهُ مُلْتَفِتًا صَادًّا.
وَلَمْ يُبَيِّنْ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ، وَلَا كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ: تِلْكَ النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لَهُمْ. بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ فِي النَّاقَةِ الْمَذْكُورَةِ آيَاتٍ جَمَّةً: كَخُرُوجِهَا عُشَرَاءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، وَسُرْعَةِ وِلَادَتِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا، وَعِظَمِهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةِ لَبَنِهَا حَتَّى يَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا، وَكَثْرَةِ شِرْبِهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٢٦ \ ١٥٥]، وَقَالَ: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [٥٤ \ ٢٨] .
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُبَيِّنُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا [١٥ \ ٨١] ، قَوْلُهُ: فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [٢٦ \ ١٥٤ - ١٥٥]، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ الْآيَةَ [٧ \ ٧٣] . وَقَوْلُهُ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [١٧ \ ٥٩] . وَقَوْلُهُ: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [٥٤ \ ٢٧]، وَقَوْلُهُ: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [١١ \ ٦٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيَّنَ إِعْرَاضَ قَوْمِ صَالِحٍ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٧ \ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. . . الْآيَةَ [١١ \ ٦٥] . وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا. . . . [٩١ \ ١١ - ١٤]، وَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [٥٤ \ ٢٩] . وَقَوْلِهِ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [١٧ \ ٥٩]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [٢٦ \ ١٨٥ - ١٨٦] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْحِجْرِ - وَهُمْ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ - كَانُوا آمِنِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [٢٦ \ ١٤٧ - ١٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ الْآيَةَ [٧ \ ٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [٨٩ \ ٩]، أَيْ: قَطَعُوا الصَّخْرَ بِنَحْتِهِ بُيُوتًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; أَيْ: لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَلْقَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا وَلَا بَاطِلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ \ ٢٧]، وَقَوْلِهِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [٣ \ ١٩١]، وَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [٤٤ \ ٣٨ - ٣٩]، وَقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ،
[٢٣ \ ١١٥ - ١١٦]، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [٥٣ \ ٣١]، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [٧٥ \ ٣٦ - ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ «إِنَّ»، وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تُزَحْلِقُهَا إِنَّ الْمَكْسُورَةُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ السَّاعَةِ لَا مَحَالَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِتْيَانَهَا أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ التَّوْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْخَبَرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي.
وَأَوْضَحَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [٢٠ \ ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٢٢ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا. . . . الْآيَةَ [٢٢ \ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ [٤٥ \ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [٣٠ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [٣٠ \ ٥٥]، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [٧ \ ١٧٨]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْكَارَ الْكُفَّارِ لَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [٣٤ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [٦٤ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ \ ٣٤ - ٣٥]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ أَسَاءَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ; أَيْ: بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْحُ الْجَمِيلُ: الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَابٍ. وَأَمْرُهُ ﷺ يَشْمَلُ حِكْمَةَ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ وَالْمُشَرِّعُ لَهُمْ.
وَبَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [٤٣ \ ٨٩]،
وَقَوْلِهِ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [٢٥ \ ٦٣]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [٢٨ \ ٥٥]، وَقَوْلِهِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. . . . الْآيَةَ [٢ \ ١٠٩] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا الْأَمْرُ بِالصَّفْحِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ حُسْنُ الْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ: الْمُعَامَلَةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالْخُلُقُ: السَّجِيَّةُ، يُقَالُ: خَالِصِ الْمُؤْمِنَ، وَخَالِقَ الْفَاجِرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَالْخَلَّاقُ وَالْعَلِيمُ: كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ الْخَلَّاقُ بِكَوْنِهِ خَلَّاقًا إِلَّا وَهُوَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْلُقَهُ.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ \ ٧٩]، وَقَوْلِهِ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [٦٧ \ ١٤]، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٢ \ ٢٩]، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [٦٥ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُجِيبًا لِلْكُفَّارِ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَقَالُوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [٥٠ \ ٣]، مُبَيِّنًا أَنَّ الْعَالِمَ بِمَا تَمَزَّقَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [٥٠ \ ٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَتَى نَبِيَّهُ ﷺ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمُرَادَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ إِنْ كَانَ لَهَا بَيَانٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، أَنَّنَا نُتَمِّمُ ذَلِكَ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، فَنُبَيِّنُ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ الْمُبِينِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ; فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. فَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ
بِإِيضَاحِ النَّبِيِّ ﷺ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟» فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [٨ \ ٢٤]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَخْرُجَ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١ \ ٢]، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» . حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» .
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا السَّبْعُ الطِّوَالُ، غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ ﷺ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ: أَنَّ آيَةَ الْحِجْرِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ لَهَا: «مَثَانِي» ; لِأَنَّهَا تُثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ.
وَقِيلَ لَهَا: «سَبْعٌ» ; لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ.
وَقِيلَ لَهَا: «الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ» ; لِأَنَّهَا هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ ; كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَإِنَّمَا عَطَفَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى السَّبْعِ الْمَثَانِي، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْفَاتِحَةُ ; لِمَا عُلِمَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إِذَا ذُكِرَ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ جَازَ عَطْفُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [٨٧ \ ٤]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ.
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَى النَّبِيَّ ﷺ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ نَصِيبٍ، وَأَعْظَمُ حَظٍّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،
نَهَاهُ أَنْ يَمُدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّذِي مَتَّعَ بِهِ الْكُفَّارَ ; لِأَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ - جَلَّ وَعَلَا - النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ وَالْحَظَّ الْأَوْفَرَ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى النَّصِيبِ الْأَحْقَرِ الْأَخَسِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ إِنَّمَا أُعْطِيهِ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ وَالِاخْتِبَارِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي (طه): فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [٢٠ \ ١٣٠ - ١٣٢]، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ هُنَا: الْأَصْنَافُ مِنَ الَّذِينَ مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِالدُّنْيَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ ﷺ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. كَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [١٦ \ ١٢٧]، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [٣٥ \ ٨]، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ \ ٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥ \ ٦٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَعْنَى: قَدْ بَلَّغْتَ وَلَسْتَ مَسْئُولًا عَنْ شَقَاوَتِهِمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا أَشْقِيَاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ ... فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ»: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٦ \ ٢١٥]، وَكَقَوْلِهِ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [٣ \ ١٥٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهَا - أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْفَضُ لَهُمُ الْجَنَاحُ، بَلْ يُعَامَلُونَ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [٩ \ ٧٣ وَ٦٦ \ ٩]، وَقَوْلِهِ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [٤٨ \ ٢٩]، وَقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [٥ \ ٥٤]، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي «الْمَائِدَةِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ.
فِي الْمُرَادِ بِالْمُقْتَسِمِينَ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ مَعْرُوفَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً تُضَعِّفُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الَّذِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ; فَالِاقْتِسَامُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَسَمِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّقَاسُمِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُرْشِدُ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ الْآيَةَ [٢٧ \ ٤٩]، أَيْ: نَقْتُلُهُمْ لَيْلًا، وَقَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [١٦ \ ٣٨]، وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [١٤ \ ٤٤]، وَقَوْلُهُ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [٧ \ ٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُكَذِّبُونَ بِشَيْءٍ إِلَّا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ ; فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُقْتَسِمُونَ ; لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا كُتُبَهُمْ فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا.
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [٢ \ ٨٥]، وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [٤ \ ١٥٠] .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقْتَسِمِينَ: جَمَاعَةٌ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ بِأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ شِعْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَهَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ، ﷺ.
وَهَذَا الْقَوْلُ تَدُلُّ لَهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ تِلْكَ الْأَقْوَالَ الْمُفْتَرَاةَ
الْكَاذِبَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [٦٩ \ ٤١ - ٤٢]، وَقَوْلِهِ: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [٧٤ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [٣٨ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [١٦ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [٢٥ \ ٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّالِثَ، وَلَا تُنَافِي الثَّانِيَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [١٥ \ ٩١] أَظْهَرُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ ; لِجَعْلِهِمْ لَهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ، كَقَوْلِهِمْ: شِعْرٌ، سِحْرٌ، كَهَانَةٌ، إِلَخْ.
وَعَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ: فَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ كُتُبُهُمُ الَّتِي جَزَّؤُوهَا، فَآمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا، أَوِ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا وَافَقَ هَوَاهُهُمْ مِنْهُ وَكَفَرُوا بِغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ عِضِينَ [١٥ \ ٩١] جَمْعُ عِضَةٍ، وَهِيَ الْعُضْوُ مِنَ الشَّيْءِ، أَيْ: جَعَلُوهُ أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَاللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا وَاوٌ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اللَّامُ الْمَحْذُوفَةُ أَصْلُهَا هَاءٌ، وَعَلَيْهِ فَأَصْلُ الْعِضَةِ عِضْهَةٌ. وَالْعَضَهُ: السِّحْرُ ; فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: جَعَلُوا الْقُرْآنَ سِحْرًا ; كَقَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [٧٤ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا [٢٨ \ ٤٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّاحِرَ عَاضِهًا، وَالسَّاحِرَةَ عَاضِهَةً. وَالسِّحْرَ عِضَهًا. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تِ فِي عُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ.
تَنْبِيهٌ.
فَإِنْ قِيلَ: بِمَ تَتَعَلَّقُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ؟ [١٥ \ ٩٠] .
فَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: كَمَا أَنْزَلْنَا؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ [١٥ \ ٨٧]، أَيْ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِعِنَادِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ: بَعْضُهُ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لَهُمَا، فَاقْتَسَمُوهُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَعَضُّوهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُ
بَعْضُهُمْ: «سُورَةُ الْبَقَرَةِ» لِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: «سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ» لِي، إِلَى أَنْ قَالَ: الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [١٥ \ ٨٩]، أَيْ: وَأَنْذِرْ قُرَيْشًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (يَعْنِي الْيَهُودَ)، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ وَهُوَ مِنَ الْإِعْجَازِ ; لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَكُونُ وَقَدْ كَانَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْكَشَّافِ.
وَنَقَلَ كَلَامَهُ بِتَمَامِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» ثُمَّ قَالَ أَبُو حَيَّانَ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ تَعَلُّقُ: كَمَا [١٥ \ ٩٠] بِ: أَتَيْنَاكَ [١٥ \ ٨٧]، فَذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي إِيتَاءً كَمَا أَنْزَلْنَا، أَوْ إِنْزَالًا كَمَا أَنْزَلْنَا ; لِأَنَّ «آتَيْنَاكَ» بِمَعْنَى: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.
أَيْ: فَاجْهَرْ بِهِ وَأَظْهِرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَدَعَ بِالْحُجَّةِ ; إِذَا تَكَلَّمَ بِهَا جِهَارًا، كَقَوْلِكَ: صَرَّحَ بِهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا نَبِيَّهُ ﷺ بِتَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ عَلَنًا فِي غَيْرِ خَفَاءٍ وَلَا مُوَارَبَةٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [٥ \ ٦٧] .
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ امْتَثَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَبَلَّغَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [٥ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [٥١ \ ٥٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ.
قَوْلُهُ: فَاصْدَعْ [١٥ \ ٩٤] ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: انْصَدَعَ الصُّبْحُ: انْشَقَّ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَالصَّدِيعُ: الْفَجْرُ لِانْصِدَاعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
تَرَى السَّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
أَيْ: فَجْرٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، وَبَلِّغْهُ عَلَنًا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: صَدَعْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
وَكَأَنَّهُنَّ رَبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ يَسَرٌ ... يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ وَالشَّقِّ فِي الشَّيْءِ الصُّلْبِ: كَالزُّجَاجِ وَالْحَائِطِ. وَمِنْهُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [٣٠ \ ٤٣]، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [٣٠ \ ١٤] وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ ذِي الرُّمَّةِ: عَشِيَّةَ قَلْبِي فِي الْمُقِيمِ صَدِيعُهُ وَرَاحَ جَنَابَ الظَّاعِنِينَ صَدِيعُ
يَعْنِي: أَنَّ قَلْبَهُ افْتَرَقَ إِلَى جُزْءَيْنِ: جُزْءٍ فِي الْمُقِيمِ، وَجُزْءٍ فِي الظَّاعِنِينَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [١٥ \ ٩٤]، أَيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ. وَقَوْلُهُ: بِمَا تُؤْمَرُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ سَبْكِ الْمَصْدَرِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي (الْبَحْرِ): وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: لَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ حَافِظُكَ مِنْهُمْ.
وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَاهَا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) أَيْ: بَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، أَيْ: لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَخْشَهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [٥ \ ٦٧] .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَأْمُورًا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ السَّيْفِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [٦ \ ١٠٦]، وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [٣٢ \ ٣٠]، وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [٥٣ \ ٢٩]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [٣٣ \ ٤٨]
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَفَى نَبِيَّهُ ﷺ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ كَفَاهُ غَيْرَهُمْ. كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [٢ \ ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. . . . الْآيَةَ [٣٩ \ ٣٦]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمُسْتَهْزِئُونَ الْمَذْكُورُونَ هُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ.
وَالْآفَاتُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ مَشْهُورَةٌ فِي التَّارِيخِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَبِيَّهُ ﷺ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ فِيهِ مِنَ: الطَّعْنِ، وَالتَّكْذِيبِ، وَالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [٦ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [١١ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ \ ٦]، وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [٢٦ \ ٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنَ «الْأَنْعَامِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [١٥ \ ٩٨] ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [١٥ \ ٩٨] .
وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْأَمْرَ بِالشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَوَّلِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [١١٠ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [٢٠ \ ١٣٠]، وَقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [٤٠ \ ٥٥]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَمَعْنَاهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ
- جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ. وَمَعْنَى: «سَبِّحْ»: نَزِّهْ رَبَّكَ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ. وَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ: بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ: بِحَمْدِ رَبِّكَ أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مِنْ كُلِّ وَصْفِ كَمَالٍ وَجَلَالٍ ثَابِتٍ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -. فَتَسْتَغْرِقُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الثَّنَاءَ بِكُلِّ كَمَالٍ ; لِأَنَّ الْكَمَالَ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّسْبِيحِ.
وَالثَّانِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَمْدِ، فَتَمَّ الثَّنَاءُ بِكُلِّ كَمَالٍ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، وَكَقَوْلِهِ فِي الثَّانِي وَهُوَ السُّجُودُ: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [٩٦ \ ١٩]، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [٧٦ \ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [٤١ \ ٣٧]، وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [١٥ \ ٩٨]، أَيْ: صِلِّ لَهُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالصَّلَاةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ وَمُنْتَهَى التَّقْدِيسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ; وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْضِعُ سُجُودٍ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا السُّجُودُ نَفْسُهُ، فَرَأَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ زَكَرِيَّا مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ - طَهَّرَهُ اللَّهُ - يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: أَنَّ هَاهُنَا سَجْدَةً عِنْدَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، وَرَأَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ»، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ ; فَالْمُسَوِّغُ لِهَذَا الْإِطْنَابِ الَّذِي هُوَ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ هُوَ أَهَمِّيَّةُ السُّجُودِ ; لِأَنَّ أَقْرَبَ
مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي السُّجُودِ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ; فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» .
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ تَرْتِيبَهُ - جَلَّ وَعَلَا - الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالسُّجُودِ عَلَى ضِيقِ صَدْرِهِ ﷺ بِسَبَبِ مَا يَقُولُونَ لَهُ مِنَ السُّوءِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْبِيحَ سَبَبٌ لِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ ; وَلِذَا كَانَ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ الْآيَةَ [٢ \ ٤٥] .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمُ بْنُ هَمَّارٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ»، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ ; أَنْ يَفْزَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ
. أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ، أَيْ: يَتَقَرَّبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْمَحَبَّةِ، بِمَا أُمِرَ أَنْ يَتَقَرَّبَ لَهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ. وَجُلُّ الْقُرْآنِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ حَظُّ الْإِثْبَاتِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَعَ حَظِّ النَّفْيِ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَعَ تَحْقِيقِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي هُوَ حَظُّ النَّفْيِ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ; قَالَ تَعَالَى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [١١ \ ١٢٣]، وَقَالَ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [١٩ \ ٦٥]، وَقَالَ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٤ \ ٣٦]، وَقَالَ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٢ \ ٢٥٦]، وَقَالَ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢ \ ١٠٦]، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ:
الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [٧٤ \ ٤٣ - ٤٧]، وَهُوَ: الْمَوْتُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ (امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَدْ مَاتَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ»؟ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ. .» الْحَدِيثَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ انْكِشَافُ الْحَقِيقَةِ، وَتَيَقُّنُ الْوَاقِعِ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَقِيقَةُ يَقِينًا. وَلَقَدْ أَجَادَ التُّهَامِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقَظَةٌ ... وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ فِي التَّارِيخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [١٥ \ ٩٨ - ٩٩] .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:»مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ تَاجِرًا وَلَا أَجْمَعُ الْمَالَ مُتَكَاثِرًا، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ:»فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ".
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ حَيًّا وَلَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ يُمَيِّزُ بِهِ، فَالْعِبَادَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [١٩ \ ٣١]، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ «بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعَدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ»، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ، صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ، عَنْ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». اه.
وَنَحْوُ هَذَا مَعْلُومٌ ; قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [٦٤ \ ١٦]، وَقَالَ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٢ \ ٢٨٦]، وَقَالَ ﷺ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. . .» الْحَدِيثَ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفَسِّرُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ الْكَفَرَةِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْيَقِينِ الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَةِ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْيَقِينِ، أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ وَالتَّكَالِيفُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ هُوَ غَايَةُ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ.
إِنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا كُفْرٌ بِاللَّهِ وَزَنْدَقَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ تَأْوِيلًا، بَلْ يُسَمَّى لَعِبًا كَمَا قَدَّمْنَا فِي «آلِ عِمْرَانَ». وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ هُمْ وَأَصْحَابُهُ - هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَأَعْرُفُهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَأَشَدَّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ. وَقَدْ قَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [٣٥ \ ٢٨] . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.