بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ
وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ
إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا «١» ٣٠» إلى آخر السبع آيات.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (٨): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
فيه ست مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَدْرٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ اللَّهُ اتَّبَعَتْهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَاسْتَوْلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالنَّهْبِ، فَلَمَّا نَفَى اللَّهُ الْعَدُوَّ وَرَجَعَ الَّذِينَ طَلَبُوهُمْ قَالُوا: لَنَا النَّفْلُ، نَحْنُ الَّذِينَ طَلَبْنَا الْعَدُوَّ وَبِنَا نَفَاهُمُ اللَّهُ وَهَزَمَهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَا أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ مِنَّا، بَلْ هُوَ لَنَا، نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِئَلَّا يَنَالَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً. وَقَالَ الَّذِينَ اسْتَلْوَوْا عَلَى الْعَسْكَرِ وَالنَّهْبِ: مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ مِنَّا، هُوَ لَنَا، نَحْنُ حَوَيْنَاهُ وَاسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ فُوَاقٍ بَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ: اسْتَلْوَوْا أَطَافُوا وَأَحَاطُوا، يُقَالُ: الْمَوْتُ مُسْتَلْوٍ عَلَى العباد. وقوله:«فقسمه عن فُوَاقٍ» يَعْنِي عَنْ سُرْعَةٍ. قَالُوا: وَالْفُوَاقُ مَا بَيْنَ حَلْبَتَيِ النَّاقَةِ. يُقَالُ: انْتَظَرَهُ فُوَاقَ نَاقَةٍ، أي هذا
(١). راجع ص ٣٩٥. من هذا الجزء.
الْمِقْدَارُ. وَيَقُولُونَهَا
بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: فُوَاقٌ وَفَوَاقٌ. وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ
يَنْزِلَ:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ»
الْآيَةَ. وَكَأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: أَيْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
الرَّسُولِ الْحُكْمُ فِيهَا وَالْعَمَلُ بِهَا بِمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
مُوسَى الْأَشْدَقِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ:
سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ
أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ
أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ إِلَى الرَّسُولِ،
فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَوَاءٍ. يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ. فَكَانَ
ذَلِكَ تَقْوَى اللَّهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَصَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ وَرُوِيَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: اغْتَنَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ، فَأَخَذْتُهُ فَأَتَيْتُ
بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ
عَلِمْتَ حَالَهُ. قَالَ:«رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَانْطَلَقْتُ حَتَّى
أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ «١» لَامَتْنِي نَفْسِي فَرَجَعْتُ
إِلَيْهِ فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ. قَالَ: فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ (رُدَّهُ مِنْ
حَيْثُ أَخَذْتَهُ) فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ
لَامَتْنِي نَفْسِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ، قَالَ: فَشَدَّ
لِي صَوْتَهُ«رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ«يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفَالِ». لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَالرِّوَايَاتُ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا
ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ. الثَّانِيَةُ:
الْأَنْفَالُ وَاحِدُهَا نَفَلٌ بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ، قَالَ «٢»:
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ
نَفَلٍ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَالْعَجَلْ
أَيْ خَيْرُ غَنِيمَةٍ. وَالنَّفْلُ:
الْيَمِينُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ«فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِنَفْلِ خَمْسِينَ
مِنْهُمْ». وَالنَّفْلُ الِانْتِفَاءُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ«فَانْتَفَلَ مِنْ
وَلَدِهَا». وَالنَّفَلُ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ. وَالنَّفْلُ: الزِّيَادَةُ عَلَى
الْوَاجِبِ، وَهُوَ التَّطَوُّعُ. وَوَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةٌ، لِأَنَّهُ زيادة
على الولد. والغنيمة نافلة، لأنها
(١). القبض بالتحريك بمعنى المقبوض، وهو ما
جمع من الغنيمة قبل أن تقسم.
(٢).
القائل هو ليد، كما اللسان (مادة النقل).
زِيَادَةٌ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ
لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِهَا. قَالَ ﷺ:«فُضِّلْتُ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ- وَفِيهَا- وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ».
وَالْأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ أَنْفُسُهَا. قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الْوَغَى
نَرْوِي الْقَنَا
وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ
الْأَنْفَالِ أَيِ الْغَنَائِمُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
مَحِلِّ الْأَنْفَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ أقوال: الأول- محلها فيما شد عَنِ
الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ أُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ. الثَّانِي-
مَحِلُّهَا الْخُمُسُ. الثَّالِثُ- خُمُسُ الْخُمُسِ. الرَّابِعُ- رَأْسُ
الْغَنِيمَةِ، حَسَبَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّ
الْأَنْفَالَ مَوَاهِبُ الْإِمَامِ مِنَ الْخُمُسِ، عَلَى مَا يَرَى مِنَ
الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ نَفَلٌ، وَإِنَّمَا لَمْ
يَرَ النَّفْلَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ أَهْلَهَا مُعَيَّنُونَ وَهُمُ
الْمُوجِفُونَ «١»، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ قَسْمُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَأَهْلُهُ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ. قَالَ ﷺ:«مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ». فَلَمْ يُمْكِنْ
بَعْدَ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفْلُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ
حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ الْخُمُسُ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ
مَذْهَبِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ مَالِكٌ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً
قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، وَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا.
هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَلَى الشَّكِّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى عَنْهُ،
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ
مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ
فِيهِ: فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا
بَعِيرًا وَلَمْ يَشُكَّ. وَذَكَرَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَالْحَكَمُ بْنُ
نَافِعٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ- فِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ:
أَرْبَعَةُ آلَافٍ- وَانْبَعَثَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ الْجَيْشِ- فِي رِوَايَةِ
الْوَلِيدِ: فَكُنْتُ مِمَّنْ خَرَجَ فِيهَا- فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَيْ
عَشَرَ بَعِيرًا، اثْنَيْ عشر بعيرا، ونقل أَهْلَ السَّرِيَّةِ بَعِيرًا بَعِيرًا،
فَكَانَ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَاحْتَجَّ بِهَذَا من
(١). الموجفون: المحصلون بخيل وركاب.
والإيجاف: سرعة السير.
يَقُولُ: إِنَّ النَّفْلَ إِنَّمَا
يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْخُمُسِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ لَوْ
نُزِّلَتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا عَشَرَةً مَثَلًا أَصَابُوا فِي
غَنِيمَتِهِمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، أَخْرَجَ مِنْهَا خُمُسَهَا ثَلَاثِينَ وَصَارَ
لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، قُسِّمَتْ عَلَى عَشْرَةٍ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أُعْطِيَ الْقَوْمُ مِنَ
الْخُمُسِ بَعِيرًا بَعِيرًا، لِأَنَّ خُمُسَ الثَّلَاثِينَ لَا يَكُونُ فِيهِ
عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَا لِلْعَشَرَةِ عَرَفْتَ مَا لِلْمِائَةِ
وَالْأَلْفِ وَأَزْيَدَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خُمُسِ
الْخُمُسِ بِأَنْ قَالَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ثياب تباع ومتاع غير الإبل،
فأعط مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْبَعِيرُ قِيمَةَ الْبَعِيرِ مِنْ تِلْكَ الْعُرُوضِ.
وَمِمَّا يُعَضِّدُ هَذَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ:
فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا، الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمِيرَ نَفَّلَهُمْ قَبْلَ الْقَسْمِ، وَهَذَا
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّفْلُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ
مَالِكٍ. وَقَوْلُ مَنْ رَوَى خِلَافَهُ أَوْلَى لِأَنَّهُمْ حُفَّاظٌ، قَالَهُ
أَبُو عُمَرَ رحمه الله. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا
يُنَفَّلُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَإِنْ زَادَهُمْ فَلْيَفِ لَهُمْ
وَيَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِي النَّفْلِ
حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ الْإِمَامُ. الرَّابِعَةُ- وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَلِيدُ وَالْحَكَمُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ
السَّرِيَّةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْعَسْكَرِ فَغَنِمَتْ أَنَّ الْعَسْكَرَ
شُرَكَاؤُهُمْ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَحُكْمٌ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ
غَيْرُ شُعَيْبٍ عَنْ نَافِعٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ يَقُولُ قَبْلَ
الْقِتَالِ: مَنْ هَدَمَ كَذَا مِنَ الْحِصْنِ فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ بَلَغَ إِلَى
مَوْضِعِ كَذَا فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ جَاءَ
بِأَسِيرٍ فَلَهُ كَذَا، يُضَرِّيهِمْ «١». فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ
كَرِهَهُ. وَقَالَ: هُوَ قِتَالٌ عَلَى الدُّنْيَا. وَكَانَ لَا يُجِيزُهُ. قَالَ
الثَّوْرِيُّ: ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ هَذَا
الْمَعْنَى مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ
أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا». الحديث بطوله.
(١). التضرية: الإغراء.
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:«مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا وَأَتَى مَكَانَ كَذَا وَكَذَا
فَلَهُ كَذَا». فَتَسَارَعَ الشُّبَّانُ وَثَبَتَ الشُّيُوخُ مَعَ الرَّايَاتِ،
فَلَمَّا فُتِحَ لَهُمْ جَاءَ الشُّبَّانُ يَطْلُبُونَ مَا جَعَلَ لَهُمْ فَقَالَ
لَهُمُ الْأَشْيَاخُ: لَا تَذْهَبُونَ بِهِ دُونَنَا، فَقَدْ كُنَّا رِدْءًا
لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» ذَكَرَهُ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَنَّهُ قَالَ لِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
فِي قَوْمِهِ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّأْمَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَأْتِيَ الْكُوفَةَ
وَلَكَ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ وَسَبْيٍ؟. وَقَالَ بِهَذَا
جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الشَّأْمِ: الْأَوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَابْنُ حَيْوَةَ
وَغَيْرُهُمْ. وَرَأَوْا الْخُمُسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالنَّفْلُ
بَعْدَ الْخُمُسِ ثُمَّ الْغَنِيمَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ، وَبِهِ قَالَ
إِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالنَّاسُ
الْيَوْمَ عَلَى أَنْ لَا نَفْلَ مِنْ جِهَةِ الْغَنِيمَةِ حَتَّى تُخَمَّسَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ: مَا
أَخَذْتُمْ فَلَكُمْ ثُلُثُهُ. قَالَ سَحْنُونُ: يُرِيدُ ابْتِدَاءً. فَإِنْ
نَزَلَ «١» مَضَى، وَلَهُمْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِي الْبَاقِي. وَقَالَ سَحْنُونُ:
إِذَا قَالَ الْإِمَامُ لِسَرِيَّةٍ مَا أَخَذْتُمْ فَلَا خُمُسَ عَلَيْكُمْ
فِيهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَإِنْ نَزَلَ «٢» رَدَدْتُهُ، لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ
شَاذٌّ لَا يَجُوزُ وَلَا يُمْضَى. السَّادِسَةُ- وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ رحمه الله أَلَّا
يُنَفِّلَ الْإِمَامُ إِلَّا مَا يَظْهَرُ كَالْعِمَامَةِ وَالْفَرَسِ
وَالسَّيْفِ. وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُنَفِّلُ الْإِمَامُ ذَهَبًا
أَوْ فِضَّةً أَوْ لُؤْلُؤًا وَنَحْوَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النفل جائز من كل
شي. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِ عُمَرَ وَمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ) أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، أَيْ كُونُوا مُجْتَمِعِينَ
عَلَى أَمْرِ اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ الْبَيْنِ، أَيِ
الْحَالُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاجْتِمَاعُ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى التَّصْرِيحِ
بِأَنَّهُ شَجَرَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ، أَوْ مَالَتِ النُّفُوسُ إِلَى
التَّشَاحِّ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْحَدِيثِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى
التَّقْوَى «٣»، أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ فِي أَقْوَالِكُمْ، وَأَفْعَالِكُمْ،
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَكُمْ. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فِي
الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّ سَبِيلَ
الْمُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا ذَكَرْنَا. وقيل:«إن» بمعنى«إذ».
(١). في ز وك: ترك.
(٢).
في ز وك: ترك.
(٣).
راجع ج ١ ص ١٦١.
[سورة الأنفال (٨): الآيات ٢ الى ٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ
زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(. فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الأولى- قال العلماء: هذ الْآيَةُ تَحْرِيضٌ عَلَى
إِلْزَامِ طَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ قِسْمَةِ تِلْكَ
الْغَنِيمَةِ. وَالْوَجَلُ: الْخَوْفُ. وَفِي مُسْتَقْبَلِهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ:
وَجِلَ يَوْجَلُ وَيَاجَلُ وَيَيْجَلُ وَيَيْجِلُ، حكاه سيبويه. والمصدر وجل جلا
ومؤجلا، بالفتح. وهذا مؤجلة (بِالْكَسْرِ) لِلْمَوْضِعِ وَالِاسْمِ. فَمَنْ قَالَ:
يَاجَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ جَعَلَ الْوَاوَ أَلِفًا لِفَتْحَةِ مَا قَبْلَهَا.
وَلُغَةُ الْقُرْآنِ الْوَاوُ» قالُوا لَا تَوْجَلْ «١» «وَمَنْ قَالَ:»
يِيجَلُ«بِكَسْرِ الْيَاءِ فَهِيَ عَلَى لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ، فَإِنَّهُمْ
يَقُولُونَ: أَنَا إِيجَلُ، وَنَحْنُ نِيجَلُ، وَأَنْتَ تِيجَلُ، كُلُّهَا
بِالْكَسْرِ. وَمَنْ قَالَ:» يَيْجَلُ«بَنَاهُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ،
وَلَكِنَّهُ فَتَحَ الْيَاءَ كَمَا فَتَحُوهَا فِي يَعْلَمُ، وَلَمْ تُكْسَرِ
الْيَاءُ فِي يَعْلَمُ لِاسْتِثْقَالِهِمُ الْكَسْرَ عَلَى الْيَاءِ. وَكُسِرَتْ
فِي» يِيجَلُ«لِتَقَوِّي إِحْدَى الْيَاءَيْنِ بِالْأُخْرَى. وَالْأَمْرُ مِنْهُ»
إِيجَلْ«صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكِسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَتَقُولُ: إِنِّي
مِنْهُ لَأَوْجَلُ. وَلَا يُقَالُ فِي الْمُؤَنَّثِ: وَجْلَاءُ: وَلَكِنْ
وَجِلَةٌ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ:»
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ«قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَظْلِمَ مَظْلِمَةً قِيلَ لَهُ: اتق الله، وَوَجِلَ قَلْبُهُ. الثَّانِيَةُ- وَصَفَ
اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ
عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتهمْ لِرَبِّهِمْ،
وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ» وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «٢»«.
وَقَالَ» وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ «٣» اللَّهِ". فَهَذَا يَرْجِعُ
إِلَى كَمَالِ
(١). راجع ج ١٠ ص ٣٤.
(٢).
راجع ج ١٢ ص ٥٨ فما بعد.
(٣).
راجع ج ٩ ص ٣١٤ فما بعد.
الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ.
وَالْوَجَلُ: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ. وَقَدْ جَمَعَ
اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «١»».
أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ إِلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا
يَخَافُونَ اللَّهَ. فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ
مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ، لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ
وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ «٢» مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النِّهَاقِ
الَّذِي يُشْبِهُ نِهَاقَ الْحَمِيرِ. فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ وَزَعَمَ
أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ الرَّسُولِ
وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ،
وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ
الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ. وَلِذَلِكَ
وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ
وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَقَالَ:«وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ
تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ
يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «٣»». فَهَذَا وَصْفُ
حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى
هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ،
وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونِ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ
حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ
النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ حَتَّى أَحْفَوْهُ «٤» فِي الْمَسْأَلَةِ،
فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فقال:«سلوني لا تسألوني عن شي إِلَّا
بَيَّنْتُهُ لَكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا». فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ
الْقَوْمُ أَرَمُّوا «٥» وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ (يَدَيْ) «٦» أَمْرٍ قَدْ
حَضَرَ. قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ
إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ
مِنْهَا الْقُلُوبُ. الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَقُلْ: زَعَقْنَا وَلَا رَقَصْنَا وَلَا
زَفَنَّا «٧» وَلَا قُمْنَا.
(١). راجع ج ١٥ ص ٢٤٨. [.....]
(٢).
الطغام والطغامة: أرذال الناس وأوغادهم.
(٣).
راجع ج ٦ ص ٢٥٨.
(٤).
أي أكثروا عليه. أحفى في السؤال وألحف بمعنى ألح.
(٥).
أرحم الرجل إرماما: إذا سكت فهو مرم.
(٦).
زيادة عن صحيح مسلم.
(٧).
زفن«من باب ضرب»: رقص، وأصله الدفع الشديد والضرب بالرجل: كما يفعل الراقص.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا) أَيْ تَصْدِيقًا.
فَإِنَّ إِيمَانَ هَذِهِ السَّاعَةِ زِيَادَةٌ عَلَى إِيمَانِ أَمْسٍ، فَمَنْ
صَدَّقَ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَهُوَ زِيَادَةُ تَصْدِيقٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا
تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ زِيَادَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِكَثْرَةِ الْآيَاتِ
وَالْأَدِلَّةِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى» فِي آلِ عِمْرَانَ «١»«. (وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ فِي» آلَ عِمْرَانَ «٢»
«أَيْضًا. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ» الْبَقَرَةِ «٣»«. (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا) أَيِ الَّذِي اسْتَوَى فِي الْإِيمَانِ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَقَدْ قَالَ عليه السلام لِحَارِثَةَ:»
إِنَّ لِكُلِ حَقٍّ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ«؟ الْحَدِيثَ. وَسَأَلَ
رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ:
الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ، فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ
وَالْحِسَابِ فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ. وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ
اللَّهِ تبارك وتعالى:» إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ«- إِلَى قَوْلِهِ-» أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا" فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا. وَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ: مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ حَقًّا، قِيلَ لَهُ:
الْحَقِيقَةُ تُشِيرُ إِلَى إِشْرَافٍ وَاطِّلَاعٍ وَإِحَاطَةٍ، فَمَنْ فَقَدَهُ
بَطَلَ دَعْوَاهُ فِيهَا. يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ
الْمُؤْمِنَ الْحَقِيقِيَّ مَنْ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَمَنْ لَمْ
يَعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ سِرِّ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فَدَعْوَاهُ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ
حقا غير صحيح.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ، أَيِ الْأَنْفَالُ ثَابِتَةٌ لَكَ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ. أَيْ مِثْلَ إِخْرَاجِكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.
وَالْمَعْنَى: امْضِ لِأَمْرِكَ فِي الْغَنَائِمِ وَنَفِّلْ مَنْ شئت وإن كرهوا،
لأن بعض
(١). راجع ج ٤ ص ٢٨٠ و١٨٩.
(٢).
راجع ج ٤ ص ٢٨٠ و١٨٩.
(٣).
راجع ج ١ ص ١٦٤.
الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ حِينَ جَعَلَ لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِأَسِيرٍ شيئا قال: يبقى أكثر الناس
بغير شي. فَمَوْضِعُ الْكَافِ فِي«كَمَا» نَصْبٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ أَيْضًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَسَمٌ، أَيْ وَالَّذِي أَخْرَجَكَ،
فَالْكَافُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وما بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
مَسْعَدَةَ: الْمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ. قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ«كَما
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ» فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا
ذَاتَ بَيْنَكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
كَمَا أَخْرَجَكَ. وَقِيلَ:«كَما أَخْرَجَكَ» مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ«لَهُمْ
دَرَجاتٌ» الْمَعْنَى: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ. أَيْ هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ فِي الْآخِرَةِ كَمَا
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ لَهُ، فَأَنْجَزَكَ
وَعْدَكَ. وَأَظْفَرَكَ بِعَدُوِّكَ وَأَوْفَى لَكَ، لِأَنَّهُ قَالَ عز وجل:«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ». فَكَمَا أَنْجَزَ هَذَا الْوَعْدَ فِي
الدُّنْيَا كَذَا يُنْجِزُكُمْ مَا وَعَدَكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا
قَوْلٌ حَسَنٌ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَاخْتَارَهُ. وَقِيلَ: الْكَافُ فِي«كَما»
كَافُ التَّشْبِيهِ، وَمَخْرَجُهُ عَلَى سَبِيلِ، الْمُجَازَاةِ، كَقَوْلِ
الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: كَمَا وَجَّهْتُكَ إِلَى أَعْدَائِي فَاسْتَضْعَفُوكَ
وَسَأَلْتَ مَدَدًا فَأَمْدَدْتُكَ وَقَوَّيْتُكَ وَأَزَحْتُ عِلَّتَكَ،
فَخُذْهُمُ الْآنَ فَعَاقِبْهُمْ بِكَذَا. وَكَمَا كَسَوْتُكَ وَأَجْرَيْتُ
عَلَيْكَ الرِّزْقَ فَاعْمَلْ كَذَا وَكَذَا. وَكَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ
فَاشْكُرْنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَغَشَّاكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ- يَعْنِي بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ
مَعَهُ- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَأَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةً مُرْدِفِينَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ
أَزَحْتُ عِلَلَكُمْ، وَأَمْدَدْتُكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ فَاضْرِبُوا مِنْهُمْ
هَذِهِ الْمَوَاضِعَ، وَهُوَ الْمَقْتَلُ، لِتَبْلُغُوا مُرَادَ اللَّهِ فِي
إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أَيْ لَكَارِهُونَ تَرْكَ مَكَّةَ
وَتَرْكَ أَمْوَالِهِمْ وَدِيَارِهِمْ.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ
ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
قوله تعالى: (يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) مُجَادَلَتُهُمْ: قَوْلُهُمْ لَمَّا نَدَبَهُمْ
إِلَى الْعِيرِ وَفَاتَ الْعِيرُ وَأَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ وَلَمْ يَكُنْ
مَعَهُمْ كَبِيرُ أُهْبَةٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: لَوْ أَخْبَرْتَنَا
بِالْقِتَالِ لَأَخَذْنَا الْعُدَّةَ. وَمَعْنَى» فِي الْحَقِّ«أي في القتال.»
بَعْدَ ما تَبَيَّنَ ١٠«لَهُمْ أَنَّكَ لَا تَأْمُرُ بِشَيْءٍ إِلَّا بإذن الله.
وقيل: بعد ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ إِمَّا الظَّفَرَ
بِالْعِيرِ أَوْ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِذْ فَاتَ الْعِيرُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ وَالظَّفَرِ بِهِمْ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ الْإِنْكَارُ
لِمُجَادَلَتِهِمْ. (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) كَرَاهَةً لِلِقَاءِ
الْقَوْمِ. (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِهِمْ،
قَالَ اللَّهُ تعالى:»وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
«١»
«أَيْ يَعْلَمُ.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ
دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ
يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)» إِحْدَى«فِي
مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ ثَانٍ.» أَنَّها لَكُمْ«فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْضًا
بَدَلًا مِنْ» إِحْدَى«. وَتَوَدُّونَ أَيْ تُحِبُّونَ (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ غَيْرَ ذَاتِ الْحَدِّ.
وَالشَّوْكَةُ: السِّلَاحُ. وَالشَّوْكُ: النَّبْتُ الَّذِي لَهُ حَدٌّ، وَمِنْهُ
رَجُلٌ شَائِكُ السِّلَاحِ، أَيْ حَدِيدُ السِّلَاحِ. ثُمَّ يُقْلَبُ فَيُقَالُ:
شَاكِي السِّلَاحِ. أَيْ تَوَدُّونَ أَنْ تَظْفَرُوا بِالطَّائِفَةِ الَّتِي
لَيْسَ مَعَهَا سِلَاحٌ وَلَا فِيهَا حَرْبٌ، عَنِ الزَّجَّاجِ. (وَيُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أَيْ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ.
وَالْحَقُّ حَقٌّ أَبَدًا، وَلَكِنَّ إِظْهَارَهُ تَحْقِيقٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ
إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَشْبَهَ الْبَاطِلَ.» بِكَلِماتِهِ«أَيْ بِوَعْدِهِ،
فَإِنَّهُ وَعَدَ نَبِيَّهُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ» الدُّخَانِ«فَقَالَ:» يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ «٢» «أَيْ مِنْ أَبِي جَهْلٍ
وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ:» لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «٣»«. وقيل:»
بِكَلِماتِهِ" أي
(١). راجع ج ١٩ ص ١٨٣.
(٢).
راجع ج ١٦ ص ١٣٣.
(٣).
راجع ج ٨ ص ١٢١. فما بعده.
بِأَمْرِهِ، إِيَّاكُمْ أَنْ
تُجَاهِدُوهُمْ. (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أَيْ يَسْتَأْصِلُهُمْ
بِالْهَلَاكِ. (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) أَيْ يُظْهِرُ دين الإسلام «١» ويعزه.
(وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أَيِ الْكُفْرُ. وَإِبْطَالُهُ إِعْدَامُهُ، كَمَا أَنَّ
إِحْقَاقَ الْحَقِّ إِظْهَارُهُ«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ «٢» زاهِقٌ». (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٩ الى ١٠]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
(٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
قول تَعَالَى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ) الِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ والنصر. غوث الرجل قال: وا غوثاه.
وَالِاسْمُ الْغَوْثُ وَالْغُوَاثُ وَالْغَوَاثُ. وَاسْتَغَاثَنِي فُلَانٌ
فَأَغَثْتُهُ، وَالِاسْمُ الْغِيَاثُ «٣»، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ «٤» عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ
الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ
أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ ائْتِنِي مَا وَعَدْتَنِي. اللَّهُمَّ
إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي
الْأَرْضِ (. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ
فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ
وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ،
فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. (مُرْدَفِينَ) بِفَتْحِ الدَّالِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ. وَالْبَاقُونَ
بِالْكَسْرِ اسْمُ فَاعِلٍ، أَيْ مُتَتَابِعِينَ، تَأْتِي فِرْقَةٌ بَعْدَ
فِرْقَةٍ، وَذَلِكَ أَهْيَبُ فِي الْعُيُونِ. وَ«مُرْدَفِينَ» بِفَتْحِ الدَّالِ
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ قَاتَلُوا يَوْمَ
بَدْرٍ أُرْدِفُوا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ أُنْزِلُوا إِلَيْهِمْ
لِمَعُونَتِهِمْ عَلَى
(١). في ج: دين الله.
(٢).
راجع ج ١١ ص ٢٧٧. [.....]
(٣).
صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
(٤).
الذي في صحيح مسلم:«... تسعة عشر ..». والمشهور: ثلاثمائة وثلاثة عشر كما يأتي.
الْكُفَّارِ. فَمُرْدَفِينَ بِفَتْحِ
الدَّالِ نَعْتٌ لِأَلْفٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي»
مُمِدُّكُمْ«. أَيْ مُمِدُّكُمْ فِي حَالِ إِرْدَافِكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ
رَدَفَنِي وَأَرْدَفَنِي وَاحِدٌ. وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنْ يَكُونَ
أَرْدَفَ بِمَعْنَى رَدِفَ، قَالَ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:» تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «١»
«وَلَمْ يَقُلِ الْمُرْدِفَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ وَغَيْرُهُمَا:
وَقِرَاءَةُ كَسْرِ الدَّالِ أَوْلَى، لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ يُفَسِّرُونَ. أَيْ أَرْدَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلِأَنَّ فِيهَا
مَعْنَى الْفَتْحِ عَلَى مَا حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ
الْقُرَّاءِ. قَالَ سِيبَوَيْهَ: وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ» مُرَدِّفِينَ«بِفَتْحِ
الرَّاءِ وَشَدِّ الدَّالِ. وَبَعْضُهُمْ» مُرِدِّفِينَ«بِكَسْرِ الرَّاءِ.
وَبَعْضُهُمْ» مُرُدِّفِينَ«بِضَمِّ الرَّاءِ. وَالدَّالُ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ
فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تَقْدِيرُهَا عِنْدَ
سِيبَوَيْهَ مُرْتَدِفِينَ، ثُمَّ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ، وَأَلْقَى
حَرَكَتَهَا عَلَى الرَّاءِ لِئَلَّا يَلْتَقِيَ سَاكِنَانِ. وَالثَّانِيَةُ
كُسِرَتْ فِيهَا الرَّاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَضُمَّتِ الرَّاءُ فِي
الثَّالِثَةِ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْمِيمِ، كَمَا تَقُولُ: (رَدَّ وَرُدَّ «٢»
وَرِدَّ) يَا هَذَا. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ:»
بَآلُفٍ«جَمْعُ أَلْفٍ، مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ. وَعَنْهُمَا أَيْضًا»
بِأَلْفٍ«. وَقَدْ مَضَى فِي» آلِ عِمْرَانَ«ذِكْرُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ
وَسِيمَاهُمْ وَقِتَالُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِيهَا الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:»
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى «٣»«. وَالْمُرَادُ الْإِمْدَادُ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْإِرْدَافَ. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) نَبَّهَ
عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ جَلَّ وَعَزَّ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ
لَوْلَا نَصْرُهُ لَمَا انْتُفِعَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ بِالْمَلَائِكَةِ.
وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَكُونُ بِالسَّيْفِ وَيَكُونُ بالحجة.
[سورة
الأنفال (٨): آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ
أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ
بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ
وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ «٤»
يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) مَفْعُولَانِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَهِيَ حَسَنَةٌ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى اللَّهِ عز وجل لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ
فِي قَوْلِهِ:» وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ".
(١). راجع ج ١٩ ص ١٩٣.
(٢).
من ك، هـ، ج.
(٣).
راجع ج ٤ ص ١٩٠ وص ١٩٨.
(٤).
هي قراءة نافع.
وَلِأَنَّ بَعْدَهُ» وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ«فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى اللَّهِ عز وجل. فَكَذَلِكَ الْإِغْشَاءُ يُضَافُ
إِلَى اللَّهِ عز وجل لِيَتَشَاكَلَ الْكَلَامُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو» يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ«بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى النُّعَاسِ.
دَلِيلُهُ» أَمَنَةً نُعاسًا يَغْشى «١» «فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ
أَوْ بِالتَّاءِ، فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى النُّعَاسِ أَوْ إِلَى الْأَمَنَةِ.
وَالْأَمَنَةُ هِيَ النُّعَاسُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّعَاسَ هُوَ الَّذِي يَغْشَى
الْقَوْمَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ» يُغَشِّيكُمْ«بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَشَدِّ
الشِّينِ.» النُّعَاسَ«بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ، لُغَتَانِ
بِمَعْنَى غَشَّى وَأَغْشَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» فَأَغْشَيْناهُمْ «٢»«.
وَقَالَ:» فَغَشَّاها مَا غَشَّى «٣»«. وَقَالَ:» كَأَنَّما أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ «٤» ١٠: ٢٧«. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ ضَمُّ الْيَاءِ
وَالتَّشْدِيدُ وَنَصْبُ النُّعَاسِ، لِأَنَّ بَعْدَهُ» أَمَنَةً
مِنْهُ«وَالْهَاءُ فِي» مِنْهُ ٦٠«لِلَّهِ، فَهُوَ الَّذِي يُغَشِّيهِمُ
النُّعَاسَ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَمَنَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ
وَ» أَمَنَةً«مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: أَمِنَ أَمَنَةً وَأَمْنًا
وَأَمَانًا، كُلُّهَا سَوَاءٌ. وَالنُّعَاسُ حَالَةُ الْآمَنِ الَّذِي لَا
يَخَافُ. وَكَانَ هَذَا النُّعَاسُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ الْقِتَالُ مِنْ
غَدِهَا، فَكَانَ النَّوْمُ عَجِيبًا مَعَ مَا كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ
الْأَمْرِ الْمُهِمِّ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَبَطَ جَأْشَهُمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي
الله عنه قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ
عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ، ذَكَرَهُ
الْبَيْهَقِيُّ «٥». الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي امْتِنَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
بِالنَّوْمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَجْهَانِ:- أَحَدُهُمَا: أَنْ قَوَّاهُمْ
بِالِاسْتِرَاحَةِ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْغَدِ. الثَّانِي: أَنْ أَمَّنَهُمْ
بِزَوَالِ الرُّعْبِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: الْأَمْنُ مُنِيمٌ،
وَالْخَوْفُ مُسْهِرٌ. وَقِيلَ: غَشَّاهُمْ فِي حَالِ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ.
وَقَدْ مَضَى مِثْلُ هَذَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فِي» آلِ عِمْرَانَ". قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ
وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّعَاسَ
كَانَ قَبْلَ الْمَطَرِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: كَانَ الْمَطَرُ قَبْلَ
النُّعَاسِ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبَقُوا
الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، وَبَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ
لَا مَاءَ لَهُمْ، فَوَجَسَتْ «٦» نُفُوسُهُمْ وَعَطِشُوا وأجنبوا وصلوا
(١). راجع ج ٤ ص ٢٤١.
(٢).
راجع ج ١٥ ص ٩.
(٣).
راجع ج ١٧ ص ١١٨.
(٤).
راجع ج ٨ ص ٣٣٢.
(٥).
في ك، ى: والماوردي.
(٦).
وجست: وقع في نفوسهم الفزع.
كَذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي
نُفُوسِهِمْ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول
وَحَالُنَا هَذِهِ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ
لَيْلَةَ بَدْرٍ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى سَالَتِ
الْأَوْدِيَةُ، فَشَرِبُوا وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوُا الظَّهْرَ «١» وَتَلَبَّدَتِ
السَّبِخَةُ «٢» الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
ثَبَتَتْ فِيهَا أَقْدَامُ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ الْقِتَالِ. وقد قيل: إن هذ
الْأَحْوَالَ كَانَتْ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَهُوَ أَصَحُّ، وَهُوَ
الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا
اخْتِصَارُهُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَبِي
سُفْيَانَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ مِنْ الشَّأْمِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ
وَقَالَ:«هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا الْأَمْوَالُ فَاخْرُجُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا» قَالَ: فَانْبَعَثَ مَعَهُ مَنْ خَفَّ،
وَثَقُلَ قَوْمٌ وَكَرِهُوا الْخُرُوجَ، وَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «٣» لَا
يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَ، وَلَا يَنْتَظِرُ مَنْ غَابَ ظَهْرُهُ، فَسَارَ فِي
ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ مُهَاجِرِيٍّ
وَأَنْصَارِيٍّ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ
الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ
نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: كُنَّا
نَتَحَدَّثُ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا ثَلَاثمِائَةٍ وَبِضْعَةَ
عَشَرَ، عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ،
وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي
أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: فَخَرَجْنَا- يَعْنِي إِلَى بَدْرٍ- فَلَمَّا
سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَتَعَادَّ،
فَفَعَلْنَا فَإِذَا نَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا،
فَأَخْبَرْنَا النَّبِيَّ ﷺ بِعِدَّتِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ وَحَمِدَ اللَّهَ
وَقَالَ:«عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ». قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ ظَنَّ
النَّاسُ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ رسول الله ﷺ لا يَلْقَى حَرْبًا فَلَمْ يَكْثُرِ
اسْتِعْدَادُهُمْ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ
يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا
عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ اسْتَنْفَرَ لَكُمُ النَّاسَ، فَحَذِرَ عِنْدَ
ذَلِكَ وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ وَبَعَثَهُ إِلَى
مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا
(١). الظهر: الإبل التي يحمل عليها وتركب.
(٢).
السبخة (محركة): أرض ذات ملح ونز. والمراد بها هنا الأرض التي تسوخ فيها الأرجل.
[.....]
(٣).
لا يلوى: لا يقف ولا ينظر.
يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى
أَمْوَالِهِمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي
أَصْحَابِهِ، فَفَعَلَ ضَمْضَمُ. فَخَرَجَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي أَلْفِ رَجُلٍ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَصْحَابِهِ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ
قُرَيْشٍ بِخُرُوجِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ ﷺ
النَّاسَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، وَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ
فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا
قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ» وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ
مُقَاتِلُونَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ إِلَى بَرْكِ
الْغِمَادِ- يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ- لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ
«١»، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. ثُمَّ
قَالَ:«أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» يُرِيدُ الْأَنْصَارَ. وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ عَدَدُ النَّاسِ، وَكَانُوا حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى
دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَمِنَا، نَمْنَعُكَ
مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى أَنَّ عَلَيْهَا
نُصْرَتَهُ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ
بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ بِغَيْرِ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ كَلِمَةُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ- وَقِيلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ،
وَيُمْكِنُ أَنَّهُمَا تَكَلَّمَا جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ- فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ تُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: (أَجَلْ) فَقَالَ: إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَامْضِ
لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ
بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ:«امْضُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ».
فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَسَبَقَ قُرَيْشًا إِلَى مَاءِ بَدْرٍ. وَمَنَعَ
قُرَيْشًا مِنَ السَّبَقِ إِلَيْهِ مَطَرٌ عَظِيمٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،
وَلَمْ يُصِبْ مِنْهُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مَا شَدَّ لَهُمْ دَهْسَ الْوَادِي
وَأَعَانَهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ. وَالدَّهْسُ: الرَّمْلُ اللَّيِّنُ الَّذِي
تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ
مِيَاهِ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فأشار عليه الحباب
(١). في ج: من دونها.
ابن الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْروِ بْنِ
الْجَمُوحِ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا
الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ
أَوْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟
فَقَالَ عليه السلام:«بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ
وَالْمَكِيدَةُ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ
بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِنَا إِلَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ
وَنُعَوِّرُ «١» مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقَلْبِ «٢»، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا
فَنَمْلَأُهُ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَاسْتَحْسَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ، وَفَعَلَهُ. ثُمَّ الْتَقَوْا فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ
وَالْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ
سَبْعِينَ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَشَفَى اللَّهُ صَدْرَ
رَسُولِهِ عليه السلام وَصُدُورِ أَصْحَابِهِ مِنْ غَيْظِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ
يَقُولُ حَسَّانُ:
عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ
بِالْكَثِيبِ ... كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرِقِ الْقَشِيبِ «٣»
تَدَاوَلَهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ
جَوْنٍ ... مِنَ الْوَسْمِيِّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ «٤»
فَأَمْسَى رَبْعُهَا خَلْقًا
وَأَمْسَتْ ... يَبَابًا «٥» بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ
فَدَعْ عَنْكَ التَّذَكُّرَ كُلَّ
يَوْمٍ ... وَرُدَّ حَرَارَةَ الصَّدْرِ الْكَئِيبِ «٦»
وَخَبِّرْ بِالَّذِي لَا عَيْبَ
فِيهِ ... بِصِدْقٍ غَيْرَ إِخْبَارِ الْكَذُوبِ
بِمَا صَنَعَ الْإِلَهُ غَدَاةَ
بَدْرٍ ... لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصِيبِ
غَدَاةً كَأَنْ جَمَعَهُمْ حِرَاءُ
... بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ
فَلَاقَيْنَاهُمْ مِنَّا بِجَمْعٍ
... كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ
أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ
... عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ
بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٍ
... وكل مجرب خاظي الكعوب «٧»
(١). عور عيون المياه: إذا دفنها وسدها.
(٢).
القلب: جمع قليب، وهى البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في
البراري.
(٣).
الوحى: الكتابة. والقشيب: الجديد.
(٤).
الجون: السحاب. والوسمي: المطر الذي يأتي في الربيع.
(٥).
اليباب: الخراب.
(٦).
الكئيب: الحزين.
(٧).
الخاظى: الكثير اللحم، والمراد الضخم العظيم، أو ذو الشرف والمجد.
بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ
وَازَرَتْهَا ... بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّينِ الصَّلِيبِ «١»
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا
... وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ «٢»
وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي
رِجَالٍ ... ذَوِي نَسَبٍ إِذَا نُسِبُوا حَسِيبِ
يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا
... قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ «٣»
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ
حَقًّا ... وَأَمْرَ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ
فَمَا نَطَقُوا، وَلَوْ نَطَقُوا
لَقَالُوا ... أَصَبْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ
وَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى- قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ
لِلنَّبِيِّ ﷺ: (كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ)؟ قَالَ:«خِيَارُنَا»
فقال:«إِنَّهُمْ كَذَلِكَ فِينَا». فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ شَرَفَ
الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ بِالذَّوَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْعَالِ.
فَلِلْمَلَائِكَةِ أَفْعَالُهَا الشَّرِيفَةُ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى
التَّسْبِيحِ الدَّائِمِ. وَلَنَا أَفْعَالُنَا بِالْإِخْلَاصِ بِالطَّاعَةِ.
وَتَتَفَاضَلُ الطَّاعَاتُ بِتَفْضِيلِ الشَّرْعِ لَهَا، وَأَفْضَلُهَا
الْجِهَادُ، وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ بِنَاءَ الْإِسْلَامِ
كَانَ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ- وَدَلَّ خُرُوجُ النَّبِيِّ ﷺ لِيَلْقَى الْعِيرَ
عَلَى جَوَازِ النَّفِيرِ لِلْغَنِيمَةِ لِأَنَّهَا كَسْبٌ حَلَالٌ. وَهُوَ
يَرُدُّ مَا كَرِهَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ قَالَ: ذَلِكَ قِتَالٌ عَلَى
الدُّنْيَا، وَمَا جَاءَ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُونَ مَنْ يُقَاتِلُ لِلْغَنِيمَةِ،
يُرَادُ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَهُ وَحْدَهُ وَلَيْسَ لِلدِّينِ فِيهِ حَظٌّ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ حِينَ فَرَغَ
مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ، لَيْسَ دونها شي. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ
وَهُوَ فِي الْأَسْرَى: لَا يَصْلُحُ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (وَلِمَ)؟
قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ
اللَّهُ مَا وَعَدَكَ. فَقَالَ النبي ﷺ:
(١). الغطارف: جمع الغطريف، وهو السيد الشريف
السخي. ولصليب: الشديد المتين.
(٢).
الجبوب: وجه الأرض.
(٣).
كباكب: جمع كبكبة وهى الجماعة الكثيرة. والقليب: البئر.
«صَدَقْتَ». وَعَلِمَ ذَلِكَ
الْعَبَّاسُ بِحَدِيثِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَبِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ بَدْرٍ،
فَسَمِعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ. الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٍ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا،
ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: (يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا
أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ
أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا
وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا«. فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُونَ، وَأَنَّى يُجِيبُونَ وَقَدْ جَيَّفُوا؟
قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ
مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا). ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ
فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.» جَيَّفُوا«بِفَتْحِ
الْجِيمِ وَالْيَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَنْتَنُوا فَصَارُوا جِيَفًا. وَقَوْلُ
عُمَرَ:» يَسْمَعُونَ«اسْتِبْعَادٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ (حُكْمُ «١»)
الْعَادَةِ. فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَسَمْعِ
الْأَحْيَاءِ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ
مَحْضٍ وَلَا فَنَاءٍ صِرْفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ
بِالْبَدَنِ وَمُفَارَقَتُهُ، وَحَيْلُولَةٌ بَيْنَهُمَا، وَتَبَدُّلُ حَالٍ
وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إن الْمَيِّتَ
إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ
قَرْعَ نِعَالِهِمْ) الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُثَبِّتَ
بِهِ الْأَقْدامَ) الضَّمِيرُ فِي» بِهِ" عَائِدٌ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي
شَدَّ دَهْسَ الْوَادِي، كَمَا تَقُومُ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى رَبْطِ
الْقُلُوبِ، فَيَكُونُ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ عِبَارَةً عَنِ النَّصْرِ
وَالْمَعُونَةِ في موطن الحرب.
[سورة
الأنفال (٨): آية ١٢]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
(١). من ج، ك، هـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الْعَامِلُ فِي«إِذْ، يُثَبِّتُ»
أَيْ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَقْدَامَ ذَلِكَ الْوَقْتَ. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ«لِيَرْبِطَ» أَيْ وَلِيَرْبِطَ إِذْ يُوحِي. وَقَدْ يَكُونُ
التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ»
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: بِأَنِّي مَعَكُمْ، أَيْ بِالنَّصْرِ
وَالْمَعُونَةِ.«مَعَكُمْ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ ظَرْفٌ، وَمَنْ أَسْكَنَهَا فَهِيَ
عِنْدَهُ حَرْفٌ. (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ بَشِّرُوهُمْ بِالنَّصْرِ
أَوِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ أَوِ الْحُضُورِ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ
الْمَلَكُ يَسِيرُ أَمَامَ الصَّفِّ فِي، صُورَةِ الرَّجُلِ وَيَقُولُ: سِيرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ. وَيَظُنُّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي«آلِ «١» عِمْرَانَ» أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ ذَلِكَ
الْيَوْمَ. فَكَانُوا يَرَوْنَ رُءُوسًا تَنْدُرُ «٢» عَنِ الْأَعْنَاقِ مِنْ
غَيْرِ ضَارِبٍ يَرَوْنَهُ. وَسَمِعَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَلَا
يُرَى شَخْصُهُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ «٣». وَقِيلَ: كَانَ هَذَا التَّثْبِيتُ
ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُؤْمِنِينَ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ مَدَدًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)
تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ بَيَانُهُ. (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) هذا أم
للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و «فَوْقَ» زَائِدَةٌ، قَالَهُ
الْأَخْفَشُ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ. وَقَدْ رَوَى الْمَسْعُودِيُّ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لِأُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا
بُعِثْتُ بِضَرْبِ الرِّقَابِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ«فَوْقَ» تُفِيدُ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ
زِيَادَتُهَا، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُبِيحَ لَهُمْ ضَرْبُ الْوُجُوهِ
وَمَا قَرُبَ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ هَامٍ وَجُمْجُمَةٍ.
وَقِيلَ: أَيْ مَا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ، وَهُوَ الرؤوس، قَالَ عِكْرِمَةُ.
وَالضَّرْبُ عَلَى الرَّأْسِ أَبْلَغُ، لِأَنَّ أدنى شي يؤثر في الدماغ. وقد مضى
شي مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي«النِّسَاءِ» وَأَنَّ«فَوْقَ» لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ،
عِنْدَ قَوْلِهِ:«فَوْقَ اثْنَتَيْنِ «٤»». وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْبَنَانِ بَنَانَةٌ، وَهِيَ هُنَا الْأَصَابِعُ
وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ. والبنان مشتق من
(١). راجع ج ٤ ص ١٩٠، ص ٢٣٢.
[.....]
(٢).
ندر: سقط.
(٣).
حيزوم: ام فرس من خيل الملائكة.
(٤).
راجع ج ٥ ص ٦٣.
قَوْلِهِمْ: أَبَنَ الرَّجُلُ
بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ. فَالْبَنَانُ يُعْتَمَلُ بِهِ مَا يَكُونُ
لِلْإِقَامَةِ وَالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَنَانِ هُنَا أَطْرَافُ
الْأَصَابِعِ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ
فِي الْحَرْبِ وَمَوْضِعِ الضَّرْبِ، فَإِذَا ضَرَبْتَ الْبَنَانَ تَعَطَّلَ مِنَ
الْمَضْرُوبِ الْقِتَالُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَكَانَ فَتَى الْهَيْجَاءِ يَحْمِي
ذِمَارَهَا ... وَيَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بَنَانِ
وَمِمَّا جَاءَ أَنَّ الْبَنَانَ
الْأَصَابِعُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ أَيْضًا:
وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي
إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِيِّ
وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ
الْعَرَبِ، الْبَنَانُ: الْأَصَابِعُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْبَنَانُ
الْأَصَابِعُ، وَيُقَالُ: الْأَطْرَافُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا سُمِّيَتْ
بَنَانًا لِأَنَّ بِهَا صَلَاحَ الْأَحْوَالِ الَّتِي بِهَا يَسْتَقِرُّ الْإِنْسَانُ
وَيَبِنُّ «١» وقال الضحاك: البنان كل مفصل.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ١٣ الى ١٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
»لِكَ
«فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الأمر، أو الأمر ذلك.»اقُّوا اللَّهَ
«أَيْ أَوْلِيَاءَهُ. وَالشِّقَاقُ:
أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي شِقٍّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ
وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) قَالَ الزَّجَّاجُ:» ذلِكُمْ«رُفِعَ
بِإِضْمَارِ الْأَمْرِ أَوِ الْقِصَّةِ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ» ذُوقُوا ١٠«كَقَوْلِكَ: زَيْدًا
فَاضْرِبْهُ. وَمَعْنَى الكلام التوبيخ للكافرين.» وَأَنَّ" فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ عَطْفٌ عَلَى ذَلِكُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى وَبِأَنَّ لِلْكَافِرِينَ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ
يُضْمِرَ وَاعْلَمُوا أَنَّ. الزَّجَّاجُ: لَوْ جَازَ إِضْمَارُ وَاعْلَمُوا لجاز
زيد منطلق
(١). بن بالمكان: أقام.
(٢).
راجع ج ٢ ص ١٤٣.
وَعَمْرًا جَالِسًا، بَلْ كَانَ
يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ زَيْدًا مُنْطَلِقًا، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُعْلِمٌ،
وَهَذَا لَا يقوله أحد من النحويين.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ١٥ الى ١٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا
إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٦)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الأولى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَحْفًا) الزَّحْفُ الدُّنُوُّ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَأَصْلُهُ
الِانْدِفَاعُ عَلَى الْأَلْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مَاشٍ فِي الْحَرْبِ إِلَى
آخَرَ زَاحِفًا. وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ، يُقَالُ: زَحَفَ
إِلَى الْعَدُوِّ زَحْفًا. وازدحف الْقَوْمُ، أَيْ مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
وَمِنْهُ زِحَافُ الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ
فَيَزْحَفُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. يَقُولُ: إِذَا تَدَانَيْتُمْ
وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ.
حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادَ
وَقِتَالَ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَدْبَارُ جَمْعُ دُبُرٍ.
وَالْعِبَارَةُ بِالدُّبُرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنَةُ الْفَصَاحَةِ،
لِأَنَّهَا بَشِعَةٌ عَلَى الْفَارِّ، ذَامَّةٌ لَهُ. الثَّانِيَةُ- أَمَرَ
اللَّهُ عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يُوَلِّيَ الْمُؤْمِنُونَ أَمَامَ
الْكُفَّارِ. وَهَذَا الْأَمْرُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرِيطَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي
مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ «١»، فَإِذَا لَقِيَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِئَةً
هِيَ ضِعْفُ الْمُؤْمِنِينَ «٢» مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَالْفَرْضُ أَلَّا يَفِرُّوا
أَمَامَهُمْ. فَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ فَارٌّ مِنَ الزَّحْفِ. وَمَنْ
فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَيْسَ بِفَارٍّ مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ
عَلَيْهِ الْوَعِيدُ. وَالْفِرَارُ كَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ
وَإِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ
الْمَاجِشُونَ فِي الْوَاضِحَةِ: إِنَّهُ يُرَاعَى الضَّعْفُ وَالْقُوَّةُ
وَالْعِدَّةُ، فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَفِرَّ مِائَةُ فَارِسٍ «٣» مِنْ
مِائَةِ فَارِسٍ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّجْدَةِ
وَالْبَسَالَةِ ضِعْفُ مَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الجمهور فلا يحل
فرار مائة إلا
(١). في ب، ج، هـ، ك: مؤمنة.
(٢).
في ج، هـ: أمام.
(٣).
في ج، هـ: أمام.
مِمَّا زَادَ عَلَى، الْمِائَتَيْنِ،
فَمَهْمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ فَيَجُوزُ
الِانْهِزَامُ، وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ. وَقَدْ وَقَفَ جَيْشُ مُؤْتَةَ وَهُمْ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ فِي مُقَابَلَةِ مِائَتَيْ أَلْفٍ، مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ
الرُّومِ، وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي تَارِيخِ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ، أَنَّ طَارِقًا مَوْلَى
مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ سَارَ فِي أَلْفٍ وَسَبْعمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى
الْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ فِي رَجَبَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ،
فَالْتَقَى وَمَلِكَ الْأَنْدَلُسِ لَذْرِيقَ وَكَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ
عَنَانٍ، فَزَحَفَ إِلَيْهِ طَارِقٌ وَصَبَرَ لَهُ فَهَزَمَ اللَّهُ الطَّاغِيَةَ
لَذْرِيقَ، وَكَانَ الْفَتْحُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يُسْأَلُ
عَنِ الْقَوْمِ يَلْقَوْنَ الْعَدُوَّ أَوْ يَكُونُونَ فِي مَحْرَسٍ يَحْرُسُونَ
فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ يَسِيرٌ، أَيُقَاتِلُونَ أَوْ يَنْصَرِفُونَ فَيُؤْذِنُونَ
أَصْحَابَهُمْ؟ قَالَ: إِنْ كَانُوا يَقْوَوْنَ عَلَى قِتَالِهِمْ قَاتَلُوهُمْ،
وَإِلَّا انْصَرَفُوا إلى أصحابهم فأذنوهم. الثانية- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ
الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَمْ عَامٌّ فِي
الزُّحُوفِ كُلِّهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ
وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكُ، وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَهْلِ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا، وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ
يَكُنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ غَيْرُهُمْ، وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ
فِئَةٌ إِلَّا النَّبِيُّ ﷺ، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ.
قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّهَا الْعِيرُ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَنْ خَفَّ مَعَهُ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:»
يَوْمَئِذٍ«فَقَالُوا: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَنَّهُ نُسِخَ
حُكْمُ الْآيَةِ بِآيَةِ الضِّعْفِ. وَبَقِيَ حُكْمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ
لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ. وَقَدْ فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ» ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ «١» " وَلَمْ يَقَعْ عَلَى ذَلِكَ تَعْنِيفٌ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا ذَلِكَ إشارة
(١). راجع ج ٨ ص ٩٦.
إِلَى يَوْمِ الزَّحْفِ الَّذِي
يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِذا لَقِيتُمُ». وَحُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِشَرْطِ الضِّعْفِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
آيَةٍ أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَانْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَذَهَابِ الْيَوْمِ
بِمَا فِيهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ- وَفِيهِ- وَالتَّوَلِّي
يَوْمَ الزَّحْفِ) وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ
فَإِنَّمَا فَرَّ النَّاسُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ
عُنِّفُوا. وَأَمَّا يَوْمُ حُنَيْنٍ فَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ إِنَّمَا انْكَشَفَ
عَنِ الْكَثْرَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا يجوز لهم
الفرار وإن فر إمامهم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الْآيَةَ. قَالَ:
وَيَجُوزُ الْفِرَارُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ، وَهَذَا مَا لَمْ يَبْلُغْ
عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَإِنْ بَلَغَ اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا لَمْ يَحِلَّ لَهُمُ الْفِرَارُ وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
الضِّعْفِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:«وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا
مِنْ قِلَّةٍ» فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ خَصَّصُوا هَذَا الْعَدَدَ
بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ. قُلْتُ: رَوَاهُ أَبُو بِشْرٍ وَأَبُو
سَلَمَةَ الْعَامِلِيُّ، وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَّافٍ
وَهُوَ مَتْرُوكٌ. قَالَا: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وغلم قَالَ: (يَا أَكْثَمُ بْنَ
الْجَوْنِ اغْزُ مَعَ غَيْرِ قَوْمِكَ يَحْسُنُ خُلُقُكَ وَتَكْرُمُ عَلَى
رُفَقَائِكَ. يَا أَكْثَمُ بْنَ الْجَوْنِ خَيْرُ الرُّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ
وَخَيْرُ الطَّلَائِعِ أَرْبَعُونَ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ
الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُؤْتَى اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ
(. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَهُوَ
قَوْلُهُ لِلْعُمَرِيِّ «١» الْعَابِدِ إِذْ سَأَلَهُ هَلْ لَكَ سَعَةٌ فِي تَرْكِ
مُجَاهَدَةِ مَنْ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ وَبَدَّلَهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَعَكَ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فلا سعة لك في ذلك.
(١). العمرى (بضم العين وفتح الميم) وهو عبد
الله بن عمر الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخطاب، كان من أزهد
أهل زمانه. مات سنة ١٨٤ هـ (عن أنساب السمعاني).
الْخَامِسَةُ- فَإِنْ فَرَّ
فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ عز وجل. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ يَسَارِ
بْنِ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي سَمِعَ النبي صلى الله عيلة
وَسَلَّمَ يَقُولُ:«مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ اللَّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ
قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ». قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مُتَحَرِّفًا
لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ) التَّحَرُّفُ: الزَّوَالُ عَنْ جِهَةِ
الِاسْتِوَاءِ. فَالْمُتَحَرِّفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ لِمَكَايِدِ
الْحَرْبِ غَيْرُ مُنْهَزِمٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ إِذَا نَوَى التَّحَيُّزَ
إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إِلَى
الْقِتَالِ غَيْرُ مُنْهَزِمٍ أَيْضًا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
فَحَاصَ «١» النَّاسُ حَيْصَةً، فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، قَالَ: فَلَمَّا
بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وبونا
بِالْغَضَبِ. فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَتَثَبَّتُ فِيهَا وَنَذْهَبُ
وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ. قَالَ: فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا. قَالَ: فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ صَلَاةِ
الْفَجْرِ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا، نَحْنُ الْفَرَّارُونَ،
فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ:«لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ» قَالَ:
فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ. فَقَالَ: (أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ). قَالَ
ثَعْلَبٌ: الْعَكَّارُونَ هُمُ الْعَطَّافُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ
لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوَلِّي عِنْدَ الْحَرْبِ ثُمَّ يَكِرُّ رَاجِعًا: عَكَّرَ
وَاعْتَكَرَ. وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: انْهَزَمَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلَكْتُ! فَرَرْتُ مِنَ الزَّحْفِ. فَقَالَ عُمَرُ:
أَنَا فِئَتُكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ
جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ
فِئَةً، فَأَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَكُونُ
الْفِرَارُ كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْفِئَةَ هُنَا الْمَدِينَةُ وَالْإِمَامُ
وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ
كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْفِئَةَ هُنَاكَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرَةِ
لِلْحَرْبِ. هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ
كَبِيرَةٌ. قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ ذلك القول
(١). خاص: جال، أي جالوا جولة يطلبون الفرار.
مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَعُمَرَ عَلَى
جِهَةِ الْحَيْطَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
يَثْبُتُونَ لِأَضْعَافِهِمْ مِرَارًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي قَوْلِهِ:»
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ«مَا يَكْفِي. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أَيِ اسْتَحَقَّ الْغَضَبَ. وَأَصْلُ»
بَاءَ«رَجَعَ وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أَيْ مُقَامُهُ.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْخُلُودِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَقَدْ قَالَ ﷺ: (مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ».
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ١٧ الى ١٨]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ
اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى (فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أَيْ يَوْمَ بَدْرٍ. رُوِيَ أَنَّ
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمَّا صَدَرُوا عَنْ بَدْرٍ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَا فَعَلَ: قَتَلْتُ كَذَا، فَعَلْتُ كَذَا، فَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ تَفَاخُرٌ
«٢» وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ إِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
هُوَ الْمُمِيتُ وَالْمُقَدِّرُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ
إِنَّمَا يُشَارِكُ بِتَكَسُّبِهِ وَقَصْدِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى
مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَلْقٌ «٣» لَهُمْ. فَقِيلَ:
الْمَعْنَى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بِسَوْقِهِمْ
إِلَيْكُمْ حَتَّى أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَمَدَّكُمْ بِهِمْ. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)
مِثْلُهُ،«وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الرَّمْيِ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- إِنَّ هَذَا الرَّمْيَ إِنَّمَا كَانَ
فِي حَصْبِ «٤» رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ إِلَّا
وَقَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ القاسم أيضا.
(١). راجع ج ١ ص ٤٣٠.
(٢).
في هـ: مفاخر.
(٣).
في ى: من خلق لهم. [.....]
(٤).
أي رمى في وجه العدو بالحصى.
الثَّانِي- أَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ
أُحُدٍ حِينَ رَمَى أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ فِي عُنُقِهِ، فَكَرَّ
أُبَيٌّ مُنْهَزِمًا. فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللَّهِ مَا بِكَ مِنْ
بَأْسٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. أَلَيْسَ قَدْ
قَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ. وَكَانَ أَوْعَدَ أُبَيٌّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
بِالْقَتْلِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» بَلْ أَنَا
أَقْتُلُكَ«فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ مِنْ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي
مَرْجِعِهِ إِلَى مَكَّةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ» سَرِفَ «١»«. قَالَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَ أُبَيٌّ
مقنعا في الحديد على فرسه لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ، فَحَمَلَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يريه قَتْلَهُ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ: فَاعْتَرَضَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَرَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَخَلَّوْا طَرِيقَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ
يَقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَتَلَ مصعب ابن عُمَيْرٍ، وَأَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ
ﷺ تَرْقُوَةَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ
وَالدِّرْعِ، فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ أُبَيٌّ عَنْ فَرَسِهِ وَلَمْ
يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ. قَالَ سَعِيدٌ: فَكَسَرَ ضِلَعًا مِنْ
أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ: فَفِي ذَلِكَ نَزَلَ» وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللَّهَ رَمى«. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَقِيبَ بَدْرٍ.
الثَّالِثُ- أَنَّ الْمُرَادَ السَّهْمُ الَّذِي رَمَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي
حِصْنِ خَيْبَرَ، فَسَارَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى أَصَابَ ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ
وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ، وَخَيْبَرُ وَفَتْحُهَا
أَبْعَدُ مِنْ أُحُدٍ بِكَثِيرٍ. وَالصَّحِيحُ فِي صُورَةِ قَتْلِ ابْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ غَيْرُ هَذَا. الرَّابِعُ- أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ. وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّ السُّورَةَ بَدْرِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ
جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: (خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ)
فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ فَمَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَأَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَهُ
تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَيَأْتِي. قَالَ
ثَعْلَبٌ: الْمَعْنَى» وَما رَمَيْتَ«الْفَزَعَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ» إِذْ
رَمَيْتَ«بِالْحَصْبَاءِ فَانْهَزَمُوا» وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى " أَيْ
أَعَانَكَ وَأَظْفَرَكَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَمَى اللَّهُ لَكَ، أي أعانك وأظفر
وصنع لك. حكى هذا أبو عبيدة
(١). سرف: موضع قريب من التنعيم وبه تروج
رسول الله أم المؤمنين ميمونة الهلالية وبه توفيت ودفنت رضى الله عنها.
فِي كِتَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: وَمَا رَمَيْتَ بِقُوَّتِكَ، إِذْ رَمَيْتَ، وَلَكِنَّكَ
بِقُوَّةِ اللَّهِ رَمَيْتَ. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا)
البلاء ها هنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف، أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. (ذلِكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ
وَأَبِي عَمْرٍو. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ).
وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ«مُوهِنُ
كَيْدِ الْكافِرِينَ» بِالْإِضَافَةِ وَالتَّخْفِيفِ «١». وَالْمَعْنَى: أَنَّ
اللَّهَ عز وجل يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى يَتَشَتَّتُوا
وَيَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ فَيَضْعُفُوا. وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ. وقد تقدم «٢».
[سورة
الأنفال (٨): آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ
الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ
تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) شرطه وَجَوَابُهُ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ: يَكُونُ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَفْتَحُوا فَقَالُوا:
اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَأَظْلَمُنَا لِصَاحِبِهِ فَانْصُرْهُ عَلَيْهِ،
قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ
وَقْتَ خُرُوجِهِمْ لِنُصْرَةِ الْعِيرِ. وَقِيلَ: قَالَهُ أَبُو جَهْلٍ وَقْتَ
الْقِتَالِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَهُوَ مِمَّنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ. وَالِاسْتِفْتَاحُ:
طَلَبُ النَّصْرِ، أَيْ قَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَلَكِنَّهُ كَانَ
لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْكُمْ. أَيْ فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا بَانَ بِهِ الْأَمْرُ،
وَانْكَشَفَ لَكُمُ الْحَقُّ.«وَإِنْ تَنْتَهُوا» (أَيْ «٣») عَنِ الْكُفْرِ
(فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). (وَإِنْ تَعُودُوا) أَيْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقِتَالِ
مُحَمَّدٍ. (نَعُدْ) إِلَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ)
أي (عن «٤») جَمَاعَتُكُمْ (شَيْئًا). (وَلَوْ كَثُرَتْ) أَيْ فِي الْعَدَدِ.
الثَّانِي- يَكُونُ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ
جَاءَكُمُ النَّصْرُ. وَإِنْ«تَنْتَهُوا» أَيْ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ مِنْ
أَخْذِ الْغَنَائِمِ وَالْأَسْرَى قبل الإذن،«فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ». و «وَإِنْ
تَعُودُوا» أَيْ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ نَعُدْ إلى توبيخكم. كما قال:«لَوْلا كِتابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» الآية «٥».
(١). هذه القراءة عاصم رواية حفص. قال في
البحر: وقرا باقى السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص.
(٢).
راجع ج ٥ ص ٢٨٠.
(٣).
من هـ وج وب.
(٤).
من ج.
(٥).
راجع ج ٨ ص ٥٠.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ- أَنْ
يَكُونَ«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» خِطَابًا
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْكُفَّارِ. أَيْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى
الْقِتَالِ نَعُدْ إِلَى مِثْلِ وَقْعَةِ بَدْرٍ. الْقُشَيْرِيُّ: وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ خِطَابٌ للكفار، فإنهم لما نفروا إلى نصر الْعِيرِ تَعَلَّقُوا
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَهْدَى الطَّائِفَتَيْنِ،
وَأَفْضَلَ الدِّينَيْنِ. الْمَهْدَوِيُّ: وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ خَرَجُوا
مَعَهُمْ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَسْتَفْتِحُونَ بِهَا، أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ
قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا الْحَالَتَيْنِ.
(وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ،
وَبِفَتْحِهَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:«وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ
الْكافِرِينَ». أَوْ عَلَى قَوْلِهِ:«أَنِّي مَعَكُمْ». وَالْمَعْنَى: وَلِأَنَّ
اللَّهَ، وَالتَّقْدِيرُ لِكَثْرَتِهَا وَأَنَّ اللَّهَ. أَيْ مَنْ كَانَ اللَّهُ
فِي نَصْرِهِ لَمْ تَغْلِبْهُ فِئَةٌ وَإِنْ كثرت.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٢٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
(٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ٢٠ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ
الْمُصَدِّقِينَ. أَفْرَدَهُمْ بِالْخِطَابِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ إِجْلَالًا
لَهُمْ. جَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ
وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّوَلِّي عَنْهُ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُنَافِقِينَ.
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وإنما كَانَ مُحْتَمَلًا عَلَى بُعْدٍ فَهُوَ ضَعِيفٌ
جِدًّا، لِأَنَّ «١» اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مَنْ خَاطَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
بِالْإِيمَانِ. وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَتَّصِفُونَ
مِنَ التَّصْدِيقِ بِشَيْءٍ. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ أجنبي من «٢» الآية. (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) ٢٠
التَّوَلِّي الْإِعْرَاضُ. وَقَالَ«عَنْهُ» وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُمَا لِأَنَّ
طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَتُهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٣»».
(١). في ب وج وهـ: لأجل.
(٢).
في ى: في الآية.
(٣).
راجع ج ٨ ص ١٩٣ فما بعد.
(وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) ٢٠ ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ مَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الحجج والبراهين في القرآن.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا
سَمِعْنا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) أَيْ كَالْيَهُودِ أَوِ الْمُنَافِقِينَ أَوِ
الْمُشْرِكِينَ. وَهُوَ مِنْ سَمَاعِ الْأُذُنِ. (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أَيْ
لَا يَتَدَبَّرُونَ مَا سَمِعُوا، وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ
مَنْ لَمْ يَسْمَعْ وَأَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ. نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَكُونُوا مِثْلَهُمْ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُؤْمِنِ:
سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، لَا فَائِدَةَ فِيهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ بِامْتِثَالِ فِعْلِهِ. فَإِذَا قَصَّرَ فِي الْأَوَامِرِ فَلَمْ
يَأْتِهَا، وَاعْتَمَدَ النَّوَاهِيَ فَاقْتَحَمَهَا فَأَيُّ سَمْعٍ عِنْدَهُ
وَأَيُّ طاعة! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافقين الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ،
وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:«وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ». يعني بذلك المنافقين، أو
اليهود أو المشركين، على مما تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ
الْكُفَّارَ شَرُّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ
لَا يَعْقِلُونَ» قَالَ: هُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَالْأَصْلُ
أَشَرُّ، حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَكَذَا خَيْرٌ،
الْأَصْلُ أخير.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٢٣]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ عَلِمَ
اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) قِيلَ: الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ،
إِسْمَاعُ تَفَهُّمٍ. وَلَكِنْ سَبَقَ عِلْمُهُ بِشَقَاوَتِهِمْ (وَلَوْ
أَسْمَعَهُمْ) أَيْ لَوْ أَفْهَمَهُمْ لَمَا آمَنُوا بَعْدَ عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ
بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَأَسْمَعَهُمْ كَلَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ
طَلَبُوا إِحْيَاءَهُمْ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا إِحْيَاءَ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ
وَغَيْرِهِ لِيَشْهَدُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. الزَّجَّاجُ: لَأَسْمَعَهُمْ
جَوَابَ كُلِّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) إِذْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أنهم لا يؤمنون.
[سورة الأنفال (٨): آية ٢٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (٢٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ) هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِلَا خِلَافٍ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ. وَ(يُحْيِيكُمْ) أَصْلُهُ يُحْيِيُكُمْ،
حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا. وَلَا يَجُوزُ الْإِدْغَامُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى«اسْتَجِيبُوا» أَجِيبُوا، وَلَكِنْ عُرْفُ
الْكَلَامُ أَنْ يَتَعَدَّى اسْتَجَابَ بِلَامٍ، وَيَتَعَدَّى أَجَابَ دُونَ لام.
قال الله تعالى:«يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ «١»». وَقَدْ يَتَعَدَّى
اسْتَجَابَ بِغَيْرِ لَامٍ، وَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢»:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ
إِلَى النِّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
تَقُولُ: أَجَابَهُ وَأَجَابَ عَنْ
سُؤَالِهِ. وَالْمَصْدَرُ الْإِجَابَةُ. وَالِاسْمُ الْجَابَةُ، بِمَنْزِلَةِ
الطَّاقَةِ وَالطَّاعَةِ. تَقُولُ: أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ جَابَةً «٣».
هَكَذَا يُتَكَلَّمُ بِهَذَا الْحَرْفِ. وَالْمُجَاوَبَةُ وَالتَّجَاوُبُ: التَّحَاوُرُ.
وَتَقُولُ: إِنَّهُ لَحَسَنُ الْجِيبَةِ (بِالْكَسْرِ) أَيِ الْجَوَابُ. (لِما
يُحْيِيكُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:«اسْتَجِيبُوا». الْمَعْنَى: اسْتَجِيبُوا
لِمَا يُحْيِيكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ
إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ، أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ. وَقِيلَ: أَيْ
إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ، وَهَذَا إِحْيَاءٌ
مُسْتَعَارٌ، لِأَنَّهُ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ
الْقُرْآنُ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهِي، فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ،
وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ«لِما
يُحْيِيكُمْ» الْجِهَادُ، فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ
الْعَدُوَّ إِذَا لَمْ
(١). راجع ج ١٦ ص ٢١٧.
(٢).
هو كعب بن سعد الغنوي يرث ى أخاه أبا المغوار.
(٣).
أصل هذا المثل على ما ذكر الزبير بن بكار أنه كان لسهل بن عمر بن مضعوف فقال له
إنسان: أين أمك (بفتح الهمزة وتشديد الميم المضمومة) أي أين قصدك، فظن أنه يقول
له: أين أمك، (بضم الهمزة والميم) فقال: ذهبت تشترى دقيقا. فقال أبوه: أساء سمعا
... إلخ. (عن اللسان).
يُغْزَ غَزَا، وَفِي غَزْوِهِ
الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ فِي الْجِهَادِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، قَالَ اللَّهُ عز
وجل:» وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ «١»
«وَالصَّحِيحُ الْعُمُومُ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ. الثَّانِيَةُ- رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي
الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ:» أَلَمْ يَقُلِ
اللَّهُ عز وجل«اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ «٢». وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ
الْفَرْضَ أَوِ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إِذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا
تَبْطُلُ، لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ فِي
الصَّلَاةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا
يُصَلِّي فَأَبْصَرَ غُلَامًا يُرِيدُ أَنْ يَسْقُطَ فِي، بِئْرٍ فَصَاحَ بِهِ
وَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَانْتَهَرَهُ لَمْ يكن بذلك بأس. والله أعلم. الثالثة- قوله
تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
قِيلَ: إِنَّهُ يَقْتَضِي النَّصَّ مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى الْكُفْرَ
وَالْإِيمَانَ فَيَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ
الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَلَا يَكْتَسِبُهُ إذا لَمْ يُقَدِرْهُ عَلَيْهِ بَلْ
أَقْدَرَهُ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ. وَهَكَذَا الْمُؤْمِنُ يَحُولُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْرِ. فَبَانَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ
لِجَمِيعِ اكْتِسَابِ «٣» الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ عليه السلام:«لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ». وَكَانَ فِعْلُ
اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَدْلًا فِيمَنْ أَضَلَّهُ وَخَذَلَهُ، إِذْ لَمْ
يَمْنَعْهُمْ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ فَتَزُولَ صِفَةُ الْعَدْلِ، وَإِنَّمَا
مَنَعَهُمْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا مَا وَجَبَ
لَهُمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَلَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَكْفُرَ أَيْضًا إِلَّا
بِإِذْنِهِ، أَيْ بِمَشِيئَتِهِ. وَالْقَلْبُ مَوْضِعُ الْفِكْرِ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ «٤»» بَيَانُهُ. وَهُوَ بِيَدِ اللَّهِ، مَتَى شَاءَ
حَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ بِمَرَضٍ أَوْ آفَةٍ كَيْلَا يَعْقِلَ. أَيْ
بَادِرُوا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ قَبْلَ أَلَّا تَتَمَكَّنُوا مِنْهَا بِزَوَالِ
الْعَقْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى يحول بين المرء
(١). راجع ج ٤ ص ٢٦٨. [.....]
(٢).
راجع ج ١ ص ١٠٨.
(٣).
أي أفعالهم إذ هي مخلوقة له سبحانه والاكتساب للعبد.
(٤).
راجع ج ١ ص ١٨٧.
وَعَقْلِهِ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا
يَصْنَعُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ «١»
قَلْبٌ ٥٠: ٣٧» أَيْ عَقْلٌ. وَقِيلَ: يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِالْمَوْتِ،
فَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ. وَقِيلَ: خَافَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ
بَدْرٍ كَثْرَةَ الْعَدُوِّ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ بِأَنْ يُبَدِّلَهُمْ بَعْدَ الْخَوْفِ أَمْنًا، وَيُبَدِّلَ
عَدُوَّهُمْ مِنَ الْأَمْنِ خَوْفًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُقَلِّبُ الْأُمُورَ
مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا جَامِعٌ. وَاخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ عز وجل بِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِ الْعِبَادِ
مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا شَاءَ، حَتَّى لَا
يُدْرِكَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عز وجل.
(وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عَطْفٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوِ اسْتَأْنَفْتَ
فَكَسَرْتَ،«وَأَنَّهُ ١٣٠» كَانَ صَوَابًا.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٢٥]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (٢٥)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا
الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمُّهُمُ الْعَذَابُ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَ
فِيهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ
سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّا أُرِدْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ
إِلَّا الْيَوْمَ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّهَا إِلَّا فِيمَنْ خُوطِبَ ذَلِكَ
الْوَقْتَ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ
وَغَيْرُهُمَا. قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ (الْآيَةُ «٢») فِي أَهْلِ بَدْرٍ
خَاصَّةً، فَأَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ: وَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ
فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَكُونُ بَيْنَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي
فِتْنَةٌ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ بِصُحْبَتِهِمْ إِيَّايَ يَسْتَنُّ بِهِمْ
فِيهَا نَاسٌ بَعْدَهُمْ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ بِهَا النَّارَ (. قُلْتُ: وَهَذِهِ
التَّأْوِيلَاتُ هِيَ الَّتِي تُعَضِّدُهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ
ﷺ فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينا
(١). راجع ج ١٧ ص ٢٢.
(٢).
من ج.
الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا
كَثُرَ الْخَبَثُ«. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ:) إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا
الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ
بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ. وَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
قَالَ:» مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ
قَوْمٍ اسْتَهَمُوا «١» عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ
أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ
مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نصيبنا خرقا
ولم نوذ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا
وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا«. فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذُنُوبِ الْخَاصَّةِ. وَفِيهِ اسْتِحْقَاقُ
الْعُقُوبَةِ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالْفِتْنَةُ إِذَا عملت هَلَكَ الْكُلُّ. وَذَلِكَ عِنْدَ
ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَانْتِشَارِ الْمُنْكَرِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ، وَإِذَا
لَمْ تُغَيَّرْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ
هِجْرَانُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَالْهَرَبُ مِنْهَا. وَهَكَذَا كَانَ الْحُكْمُ
فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْتِ حِينَ
هَجَرُوا الْعَاصِينَ وَقَالُوا لَا نُسَاكِنُكُمْ. وَبِهَذَا قَالَ السَّلَفُ رضي
الله عنهم. رَوَى
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تُهْجَرُ الْأَرْضُ الَّتِي يُصْنَعُ
فِيهَا الْمُنْكَرُ جِهَارًا وَلَا يُسْتَقَرُّ فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِصَنِيعِ
أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي خُرُوجِهِ عَنْ أَرْضِ مُعَاوِيَةَ حِينَ أَعْلَنَ
بِالرِّبَا، فَأَجَازَ بَيْعَ سِقَايَةِ الذَّهَبِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا.
خَرَّجَهُ الصَّحِيحُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:» إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ
مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ«. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْهَلَاكَ الْعَامَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ طُهْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُ
مَا يَكُونُ نِقْمَةً لِلْفَاسِقِينَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: عَبِثَ «٢» رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
فِي مَنَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ
لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: (الْعَجَبُ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي
يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ». فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ الطَّرِيقَ
(١). استهموا: افترعوا.
(٢).
عبث: معناه اضطرب بجسمه. وقيل: حرك أطرافه كمن يأخذ شيئا أو يدفعه.
قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ. قَالَ:»
نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ «١» والمحبور وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ
مَهْلِكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى نِيَّاتِهِمْ«. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى» وَلا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «٢» «.» كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «٣» «.»
لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ «٤»«. وَهَذَا يُوجِبُ أَلَّا
يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْعُقُوبَةُ بِصَاحِبِ
الذَّنْبِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ إِذَا تَظَاهَرُوا بِالْمُنْكَرِ فَمِنَ
الْفَرْضِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، فَإِذَا سَكَتَ «٥» عَلَيْهِ
فَكُلُّهُمْ عَاصٍ. هَذَا بِفِعْلِهِ وَهَذَا بِرِضَاهُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ
فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الرَّاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ، فَانْتَظَمَ فِي
الْعُقُوبَةِ «٦»، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَهُوَ مَضْمُونُ الْأَحَادِيثِ
كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَقْصُودُ الْآيَةِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً تَتَعَدَّى
الظَّالِمَ، فَتُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ
النُّحَاةُ فِي دُخُولِ النُّونِ فِي» لَا تُصِيبَنَّ«. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، فَهُوَ
جَوَابُ الْأَمْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ، أَيْ إِنْ تَنْزِلْ عَنْهَا لَا
تَطْرَحَنَّكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:» ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ «٧»«. أَيْ إِنْ تَدْخُلُوا لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، فَدَخَلَتِ
النُّونُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ
مَخْرَجَ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ لا تدخل إلا على فعل النهي ألا على جَوَابِ
الْقَسْمِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ نَهْيٌ بَعْدَ
أَمْرٍ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ لِلظَّالِمِينَ، أَيْ لَا تَقْرَبُنَّ الظُّلْمَ.
وَحَكَى سِيبَوَيْهَ: لَا أَرَيَنَّكَ ها هنا، أي لا تكن ها هنا، فإنه من كان ها
هنا رَأَيْتُهُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْمَعْنَى اتَّقُوا فِتْنَةً تُصِيبُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا خَاصَّةً. فَقَوْلُهُ» لَا تُصِيبَنَّ«نَهْيٌ فِي مَوْضِعِ
وَصْفِ النَّكِرَةِ، وَتَأْوِيلُهُ الْإِخْبَارُ بِإِصَابَتِهَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ»
لَتُصِيبَنَّ«بِلَا أَلِفٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ»
لَتُصِيبَنَّ«جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا مَنْ» لَا تُصِيبَنَّ«حُذِفَتِ
الْأَلِفُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ» مَا«وَهِيَ أُخْتُ» لَا«فِي نَحْوِ أَمَ وَاللَّهِ
لَأَفْعَلَنَّ، وَشِبْهِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون مخالقة لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ،
فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خاصة.
(١). المستبصر: هو المستبين للأمر، القاصد
لذلك عمدا. والمجبور: المكره.
(٢).
راجع ج ٧ ص ١٥٥ فما بعد. وج ١٠ ص ٢٣٠ وج ١٧ ص ١١٣.
(٣).
راجع ج ١٩ ص ٨٢ فما بعد.
(٤).
راجع ج ٣ ص ٤٢٤ فما بعد.
(٥).
كذا في ب وج وهـ وك وى. وفى ز: سكتوا.
(٦).
عبارة ابن العربي:» فانتظم الذنب بالعقوبة".
(٧).
راجع ج ١٣ ص ١٦٩ فما بعد. [.....]
[سورة الأنفال (٨): آية ٢٦]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا
إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ،
يَعْنِي وَصْفَ حَالِهِمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَفِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ.
(مُسْتَضْعَفُونَ) نَعْتٌ. (فِي الْأَرْضِ) أَيْ أَرْضِ مَكَّةَ. (تَخافُونَ)
نَعْتٌ. (أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ) في موضع نصب. والخطب: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ.
(النَّاسُ) رُفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ. قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: هُمْ مُشْرِكُو
قُرَيْشٍ. وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَارِسُ وَالرُّومُ. (فَآواكُمْ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِلَى الْأَنْصَارِ. السُّدِّيُّ: إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
آوَى إِلَيْهِ (بِالْمَدِّ): ضَمَّ إِلَيْهِ. وَأَوَى إِلَيْهِ (بِالْقَصْرِ):
انْضَمَّ إِلَيْهِ. (وَأَيَّدَكُمْ) قَوَّاكُمْ. (بِنَصْرِهِ) أَيْ بِعَوْنِهِ
«١». وَقِيلَ: بِالْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ.
(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أَيِ الْغَنَائِمَ. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
قَدْ تقدم معناه «٢».
[سورة
الأنفال (٨): آية ٢٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(٢٧)
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي
لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ أَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ
بِالذَّبْحِ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: وَاللَّهِ مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى
عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ شَدَّ نَفْسَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سِوَارِي الْمَسْجِدِ،
وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ، أَوْ
يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ. الْخَبَرُ مَشْهُورٌ «٣». وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:
لَمَّا كَانَ شَأْنُ قُرَيْظَةَ بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا رضي الله عنه فِيمَنْ
كَانَ عِنْدَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَقَعُوا فِي رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
يَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِ
(١). في ج وك وهـ وى: بقوته.
(٢).
راجع ج ١ ص ٣٩٧.
(٣).
راجع ج ٨ ص ٢٤٢.
جِبْرِيلَ عليهما السلام، فَقُلْتُ:
هَذَا دِحْيَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:» هَذَا جِبْرِيلُ عليه السلام«.
قَالَ:» يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
يَمْنَعُكَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ (؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ:«فَكَيْفَ لِي بِحِصْنِهِمْ» فَقَالَ جِبْرِيلُ:«فَإِنِّي أُدْخِلُ فَرَسِي
هَذَا عَلَيْهِمْ». فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَسًا مُعْرَوْرًى «١»، فَلَمَّا
رَآهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا عَلَيْكَ أَلَّا
تَأْتِيَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَشْتُمُونَكَ. فَقَالَ:«كَلَّا إِنَّهَا سَتَكُونُ
تَحِيَّةً». فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: (يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ
وَالْخَنَازِيرِ) فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كُنْتَ فَحَّاشًا!
فَقَالُوا: لَا نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّا نَنْزِلُ عَلَى
حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَنَزَلَ. فَحَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ
مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«بِذَلِكَ
طَرَقَنِي الْمَلَكُ سَحَرًا». فَنَزَلَ فِيهِمْ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ». نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ، أَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ
حِينَ قَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لَا تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ الذَّبْحُ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي
أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الشَّيْءَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَيُلْقُونَهُ إِلَى
الْمُشْرِكِينَ وَيُفْشُونَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِغُلُولِ الْغَنَائِمِ.
وَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ «٢» الَّذِي أَمَرَ بِقِسْمَتِهَا.
وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِأَنَّهُ الْمُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عز وجل وَالْقَيِّمُ
بِهَا. وَالْخِيَانَةُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: (يَعْلَمُ
خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «٣») ٤٠: ١٩ وَكَانَ عليه السلام يَقُولُ: (اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ ومن الخيانة فإنها
بئست الْبِطَانَةُ). خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ، فَذَكَرَهُ. (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)
فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، نَسَقًا عَلَى
الْأَوَّلِ. وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْجَوَابِ، كَمَا يُقَالُ: لَا تَأْكُلِ
السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ. وَالْأَمَانَاتُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ
اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ. وَسُمِّيَتْ أَمَانَةٌ لِأَنَّهَا يُؤْمَنُ مَعَهَا
مِنْ مَنْعِ الحق، مأخوذ مِنَ الْأَمْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ»
الْقَوْلُ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَدَائِعِ «٤» وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أَيْ مَا فِي الْخِيَانَةِ مِنَ الْقُبْحِ والعار. وقيل:
تعلمون أنها أمانة.
(١). عريانا.
(٢).
من ج.
(٣).
راجع ج ١٥ ص ٣٠١ فما بعد.
(٤).
راجع ج ٥ ص ٢٥٥.
[سورة الأنفال (٨): آية ٢٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا
أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
كَانَ لِأَبِي لُبَابَةَ أَمْوَالٌ
وَأَوْلَادٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى
مُلَايَنَتِهِمْ، فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ. (فِتْنَةٌ) ١٠
أَيِ اخْتِبَارٌ، امْتَحَنَهُمْ
بِهَا. (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
فآثروا حقه على حقكم.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٢٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قد تَقَدَّمَ مَعْنَى«التَّقْوَى».
وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ يَتَّقُونَ أَمْ لَا يَتَّقُونَ. فَذُكِرَ
بِلَفْظِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعِبَادَ بِمَا يُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا. فَإِذَا اتَّقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ- وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ
وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ- وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي
الْمُحَرَّمَاتِ، وَشَحْنِ قَلْبِهِ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَجَوَارِحِهِ
بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَحَفَّظَ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ
وَالظَّاهِرِ بِمُرَاعَاةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالرُّكُونِ إِلَى
الدُّنْيَا بِالْعِفَّةِ عَنِ الْمَالِ، جَعَلَ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
فُرْقَانًا، وَرَزَقَهُ فِيمَا يُرِيدُ مِنَ الْخَيْرِ إِمْكَانًا. قَالَ ابْنُ
وَهْبٍ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:«إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقانًا» قَالَ: مَخْرَجًا، ثُمَّ قَرَأَ«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا «١»». وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ
مِثْلَهُ سَوَاءً، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ قَبْلَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَا لَكَ مِنْ طُولِ الْأَسَى
فُرْقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَيْفَ أُرَجِّي الْخُلْدَ
وَالْمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَا لِي مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ فُرْقَانُ
ابْنُ إِسْحَاقَ:«فُرْقانًا» فَصْلًا
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وقال ابن زيد. السُّدِّيُّ: نَجَاةً. الْفَرَّاءُ:
فَتْحًا وَنَصْرًا. وَقِيلَ: فِي الآخرة، فيدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار.
(١). راجع ج ١٨ ص ١٥٧ فما بعد.
[سورة الأنفال (٨): آية ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
هَذَا إِخْبَارٌ بِمَا اجْتَمَعَ
عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْمَكْرِ بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي دَارِ النَّدْوَةِ،
فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى قتله فبيتوه، ورصدوه على باب منزل طُولَ
لَيْلَتِهِمْ لِيَقْتُلُوهُ إِذَا خَرَجَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَدَعَا اللَّهَ عز وجل أَنْ
يُعَمِّيَ عَلَيْهِمْ أَثَرَهُ، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ، فَخَرَجَ
وَقَدْ غَشِيَهُمُ النَّوْمُ، فوضع على رؤوسهم تُرَابًا وَنَهَضَ. فَلَمَّا
أَصْبَحُوا خَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ فَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَيْسَ فِي الدَّارِ
أَحَدٌ، فَعَلِمُوا أن رسول الله ﷺ قَدْ فَاتَ وَنَجَا. الْخَبَرُ مَشْهُورٌ فِي
السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَمَعْنَى«لِيُثْبِتُوكَ ٣٠» لِيَحْبِسُوكَ، يُقَالُ:
أَثْبَتُّهُ إِذَا حَبَسْتُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:«لِيُثْبِتُوكَ ٣٠» وِثَاقًا.
وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: لِيَسْجِنُوكَ. وَقَالَ أَبَانُ
بْنُ تَغْلِبَ وَأَبُو حَاتِمٍ: لِيُثْخِنُوكَ بِالْجِرَاحَاتِ وَالضَّرْبِ
الشَّدِيدِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقُلْتُ وَيْحَكُمَا مَا فِي
صَحِيفَتِكُمْ ... قَالُوا الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعَا
(أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) ٣٠ عَطْفٌ. (وَيَمْكُرُونَ) ٣٠ مُسْتَأْنَفٌ.
وَالْمَكْرُ: التَّدْبِيرُ فِي الْأَمْرِ فِي خِفْيَةٍ. (وَاللَّهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ هُوَ جَزَاؤُهُمْ
بِالْعَذَابِ عَلَى مَكْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يشعرون.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٣١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ
الْحَارِثِ، كَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَةِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى
أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَلَمَّا قَصَّ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ أَخْبَارَ مَنْ مَضَى قَالَ النَّضْرُ: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ مِثْلَ هَذَا.
وَكَانَ هَذَا وَقَاحَةً وَكَذِبًا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، كَمَا
تَوَهَّمَتْ سَحَرَةُ مُوسَى، ثُمَّ رَامُوا ذَلِكَ فَعَجَزُوا عَنْهُ وَقَالُوا
عِنَادًا: إِنْ هذا إلا أساطير الأولين. وقد تقدم «١».
[سورة
الأنفال (٨): آية ٣٢]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ
هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
الْقُرَّاءُ عَلَى نَصْبِ»
الْحَقِّ«عَلَى خَبَرِ (كانَ). وَدَخَلَتْ (هُوَ) لِلْفَصْلِ. وَيَجُوزُ (هُوَ
الْحَقَّ) بِالرَّفْعِ. (مِنْ عِنْدِكَ) قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا أَعْلَمُ
أَحَدًا قَرَأَ بِهَا. وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَتِهَا وَلَكِنَّ
الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، لَا يُقْرَأُ فِيهَا إِلَّا بِقِرَاءَةٍ مَرْضِيَّةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
جُبَيْرٍ: قَائِلُ هَذَا هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:
قَائِلُهُ أَبُو جَهْلٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ: قَالُوهُ لِشُبْهَةٍ كَانَتْ فِي صُدُورِهِمْ، أَوْ عَلَى وَجْهِ
الْعِنَادِ وَالْإِبْهَامِ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ، ثُمَّ حَلَّ
بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا سَأَلُوا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَقِيَهُ رَجُلٌ
مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ: أَنْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا:» اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ«الْآيَةَ. فَهَلَّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنْ
كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ! إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ
يَجْهَلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنْتَ يَا إِسْرَائِيلِيُّ، مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ لَمْ تَجِفَّ أَرْجُلَهُمْ مِنْ بَلَلِ الْبَحْرِ الَّذِي أُغْرِقُ
فِيهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَأَنْجَى مُوسَى وَقَوْمَهُ، حَتَّى قَالُوا:»
اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «٢» «فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى:» إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ" فَأَطْرَقَ الْيَهُودِيُّ مُفْحَمًا. (فَأَمْطِرْ)
أَمْطَرَ فِي الْعَذَابِ. وَمَطَرَ فِي الرَّحْمَةِ، عَنْ أَبِي عبيدة. وقد تقدم.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٣٣]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
(١). راجع ج ٦ ص ٤٠٤.
(٢).
راجع ص ٢٧٣ من هذا الجزء.
لَمَّا قَالَ أَبُو
جَهْلٍ:«اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ» الْآيَةَ،
نَزَلَتْ«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» كَذَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي ﷺ مِنْهَا
وَالْمُؤْمِنُونَ، يَلْحَقُوا بِحَيْثُ أُمِرُوا. (وَما كانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي
الطَّوَافِ: غُفْرَانَكَ. وَالِاسْتِغْفَارُ وَإِنْ وَقَعَ مِنَ الْفُجَّارِ
يُدْفَعُ بِهِ ضَرْبٌ مِنَ الشُّرُورِ وَالْأَضْرَارِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الِاسْتِغْفَارَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ. أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَفِيهِمْ مَنْ
يَسْتَغْفِرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَرَجُوا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
بَدْرٍ وَغَيْرَهُ،. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ
الِاسْتِغْفَارَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْإِسْلَامُ. أَيْ«وَما كانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» أَيْ يُسْلِمُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ
وَعِكْرِمَةُ. وَقِيلَ:«وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» أَيْ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَقِيلَ:
مَعْنَى«يَسْتَغْفِرُونَ» لَوِ اسْتَغْفَرُوا. أَيْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا لَمْ
يُعَذَّبُوا. اسْتَدْعَاهُمْ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ
زَيْدٍ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ
مِنَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ
يَتَحَرَّجُ، فَلَمَّا أَنْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ لَبِسَ الصُّوفَ وَرَجَعَ
عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الدِّينَ وَالنُّسُكَ. فَقِيلَ لَهُ: لَوْ
فَعَلْتَ هَذَا وَالنَّبِيُّ ﷺ حَيٌّ لَفَرِحَ بِكَ. قَالَ: كَانَ لِي أَمَانَانِ،
فَمَضَى وَاحِدٌ وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ» فَهَذَا أَمَانٌ. وَالثَّانِي«وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».
[سورة
الأنفال (٨): آية ٣٤]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ
اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ
إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَهُمْ
أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) الْمَعْنَى: وَمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ
يُعَذَّبُوا. أَيْ إِنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ لِمَا ارْتَكَبُوا مِنَ
الْقَبَائِحِ وَالْأَسْبَابِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، فَعَذَّبَهُمُ
اللَّهُ
بِالسَّيْفِ بَعْدَ خُرُوجِ
النَّبِيِّ ﷺ. وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ:«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «١» ٧٠: ١»
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ«إِنْ» زَائِدَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَوْ كَانَ كَمَا
قَالَ لَرَفَعَ«يُعَذِّبَهُمُ».«وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» أَيْ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أولياؤه.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ
اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(٣٧)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ
قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ، فَكَانَ
ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ. وَالتَّصْدِيَةُ:
التَّصْفِيقُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم.
وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وَحَلِيلُ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ
مُجَدَّلًا ... تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ «٢»
أَيْ تُصَوِّتُ. وَمِنْهُ مَكَتَ
اسْتُ الدَّابَّةِ إِذَا نُفِخَتْ بِالرِّيحِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُكَاءُ
الصَّفِيرُ، عَلَى لَحْنِ «٣» طَائِرٍ أَبْيَضَ بِالْحِجَازِ يُقَالُ لَهُ
الْمَكَّاءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا غَرَّدَ الْمَكَّاءُ فِي
غَيْرِ رَوْضَةٍ ... فَوَيْلٌ لِأَهْلِ الشَّاءِ وَالْحُمُرَاتِ
قَتَادَةُ: الْمُكَاءُ ضَرْبٌ
بِالْأَيْدِي، وَالتَّصْدِيَةُ صِيَاحٌ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَفِيهِ رَدٌّ
عَلَى الْجُهَّالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْقُصُونَ وَيُصَفِّقُونَ
(وَيُصْعَقُونَ «٤»). وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْكَرٌ يَتَنَزَّهُ عَنْ مِثْلِهِ الْعُقَلَاءُ،
وَيَتَشَبَّهُ فَاعِلُهُ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ
الْبَيْتِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي نجيح عن مجاهد أنه
(١). راجع ج ١٨ ص ٢٧٨.
(٢).
الحليل: الزوج. ويروى: وخليل بالخاء المعجمة. الفريصة: الموضع الذي يرعد من الدابة
والإنسان إذا خاف. والأعلم: المشقوق الشفة العليا.
(٣).
من ج وهـ وك وز وى. وفى ب: نحو.
(٤).
من ب وج وهـ وز ك وى. [.....]
قَالَ: الْمُكَاءُ إِدْخَالُهُمْ
أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ. وَالتَّصْدِيَةُ: الصَّفِيرُ، يُرِيدُونَ أَنْ
يَشْغَلُوا بِذَلِكَ مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: مكا يمكو ومكاء إِذَا صَفَّرَ. وَصَدَّى يُصَدِّي
تَصْدِيَةً إِذَا صَفَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْإِطْنَابَةِ «١»:
وَظَلُّوا جَمِيعًا لَهُمْ ضَجَّةُ
... مُكَاءٍ لَدَى الْبَيْتِ بِالتَّصْدِيَهْ
أَيْ بِالتَّصْفِيقِ. سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى التَّصَدِّيَةِ صَدُّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ،
فَالْأَصْلُ عَلَى هَذَا تصدده، فأبدل من أحد الدالين ياء. (لِيَمِيزَ اللَّهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أَيِ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: هُوَ
عَامٌّ فِي كُلِّ شي، من الأعمال والنفقات وغير ذلك.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٣٨]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
فيه مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَمَرَ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَقُولَ
لِلْكُفَّارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَوَاءٌ قَالَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَوْ
غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ
فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» لَمَّا تَأَدَّتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا بِتِلْكَ
الْأَلْفَاظِ بِعَيْنِهَا، هَذَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَلْفَاظُ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَنْتَهُوا) يُرِيدُ عَنِ الْكُفْرِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا بُدَّ، وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ جَوَابُ
الشَّرْطِ«يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ» وَمَغْفِرَةُ مَا قَدْ سَلَفَ لَا
تَكُونُ إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنِ الْكُفْرِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ أَبُو
سَعِيدِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْرِيُّ:
يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى
إِذَا اعْتَرَفْ ... ثُمَّ انْتَهَى عَمَّا أَتَاهُ وَاقْتَرَفْ
لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي
الْمُعْتَرِفْ ... إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
(١). في القاموس وشرحه:«والإطنابة امرأة من
بنى كنانة بن القيس بن جسر بن قضاعة، وعمرو ابنها شاعر مشهور، واسم أبيه زيد مناة».
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
شَمَّاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي
سِيَاقَةِ الْمَوْتِ يَبْكِي طَوِيلًا. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ
ﷺ:«أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ
تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»
الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ
وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
يُوجِبُ مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً وَلَا
نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ. فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ
التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذْلَ الْمَغْفِرَةِ بِالْإِسْلَامِ،
وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ لِدُخُولِهِمْ فِي
الدِّينِ، وَأَدْعَى إِلَى قَبُولِهِمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ
عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ: أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ
نَفْسًا ثُمَّ سَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَجَاءَ عَابِدًا فَسَأَلَ هَلْ
لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَكَ فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ
مِائَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِ الْعَابِدِ: لَا تَوْبَةَ لك، فلما
علم أنه قد أيئسه قَتَلَهُ، فِعْلُ الْآيِسِ مِنَ الرَّحْمَةِ. فَالتَّنْفِيرُ
مَفْسَدَةٌ للخليفة، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ
فَسَأَلَ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَيَقُولُ: لَا تَوْبَةَ، تَخْوِيفًا
وَتَحْذِيرًا. فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ
تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: لَكَ تَوْبَةٌ، تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ
طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ: فَلَا طَلَاقَ لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ
حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ،
فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ. فَأَمَّا مَنِ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ
أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ
وَالسَّرِقَةِ. وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ، أَوِ اغتصب مسلمة سَقَطَ عَنْهُ
الْحَدُّ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَعْنِي اللَّهُ
عز وجل مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، مِنْ مَالٍ أو دم أو شي. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلُهُ
تَعَالَى:«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ
سَلَفَ»، وَقَوْلُهُ: (الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ)، وَمَا بَيَّنَّاهُ
مِنَ الْمَعْنَى مِنَ التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ. قُلْتُ: أَمَّا
الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي إِسْقَاطِ مَا فَعَلَهُ فِي حَالِ
كُفْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ
مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ سَرَقَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إِذَا
قَذَفَ
حُدَّ ثَمَانِينَ، وَإِذَا سَرَقَ
قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ. وَلَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ عَنْهُ
لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ حَالَ كُفْرِهِ، عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ
وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي النَّصْرَانِيِّ يَزْنِي ثُمَّ
يُسْلِمُ، وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحُكِيَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا
تَغْرِيبَ، لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل:«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مُوَافِقٌ
لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا أَقَرَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ
أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ كَافِرٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَحُكِيَ عَنِ
الْكُوفِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُحَدُّ. الرَّابِعَةُ- فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ
إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ، وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ وَأَتْلَفَ
أَمْوَالًا، فَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ إِذَا أَسْلَمَ،
لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ عز وجل وَلِلْآدَمِيِّ،
بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ
حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ،
وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ قَوْلُ
عُلَمَائِنَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ حَقِّهِ، وَالْآدَمِيُّ
مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ عز وجل لَا تَجِبُ عَلَى
الصَّبِيِّ وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ
تَعَالَى:«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ
سَلَفَ» عام في الحقوق لله تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ
يَعُودُوا) يُرِيدُ إِلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ«عَادَ» إِذَا جَاءَتْ
مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى حَالَةٍ كَانَ الْإِنْسَانُ
عَلَيْهَا ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَسْنَا نَجِدُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ حَالَةٌ تُشْبِهُ مَا ذَكَرْنَا إِلَّا
الْقِتَالَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَوَّلَ إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ
يَنْفَصِلُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي«عاد» إذا كانت مطلقة لأنها قد
تجئ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دَاخِلَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ
مَعْنَاهَا مَعْنَى صَارَ، كَمَا تَقُولُ: عَادَ زَيْدٌ مَلِكًا، يُرِيدُ صَارَ،
وَمِنْهُ
قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي
الصَّلْتِ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ
مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا
وَهَذِهِ لَا تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ
إِلَى حَالَةٍ قَدْ كَانَ الْعَائِدُ عَلَيْهَا قَبْلُ. فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ
بِخَبَرِهَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ دُونَهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ صَارَ.
قوله تعالى: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ) عِبَارَةٌ تَجْمَعُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ وَالتَّمْثِيلَ
بِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ بِعَذَابِ الله.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ
بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أَيْ كُفْرٌ. إِلَى آخَرِ الْآيَةَ تَقَدَّمَ
مَعْنَاهَا وَتَفْسِيرُ أَلْفَاظِهَا في البقرة «١» وغيرها والحمد لله.
(١). راجع ج ٢ ص ٣٥٣.
مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش.
الجزء الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة تفسير سورة الأنفال]
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما
أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
ققوله تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا
أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ
بِاللَّهِ). فِيهِ سِتٌّ «١» وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ
تَعَالَى«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» الْغَنِيمَةُ فِي اللُّغَةِ
مَا يَنَالُهُ الرَّجُلُ أَوِ الْجَمَاعَةُ بِسَعْيٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
الشَّاعِرِ:
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ
حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمُطْعَمُ الْغُنْمِ يَوْمَ
الْغُنْمِ مُطْعَمُهُ ... أَنَّى تَوَجَّهَ وَالْمَحْرُومُ مَحْرُومُ
وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمَةُ
بِمَعْنًى، يُقَالُ: غَنِمَ الْقَوْمُ غُنْمًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ
حَاصِلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ»
مَالُ الْكُفَّارِ إِذَا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ
وَالْقَهْرِ. وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
«٢»، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ. وَسَمَّى
الشَّرْعُ الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ:
غَنِيمَةً وَفَيْئًا. فَالشَّيْءُ الَّذِي يَنَالُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
عَدُوِّهِمْ بِالسَّعْيِ وَإِيجَافِ «٣» الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ يُسَمَّى
غَنِيمَةً. وَلَزِمَ هذا الاسم هذا
(١). يلاحظ أن المسائل خمس وعشرون مسألة.
(٢).
في ز: قدمناه.
(٣).
الإيجاف: سرعة السير، أي لم يعدوا في تحصيله خيلا ولا إبلا، بل حصل بلا قتال.
والركاب: الإبل التي يسافر عليها، لا واحد لها من لفظها.
الْمَعْنَى حَتَّى صَارَ عُرْفًا.
وَالْفَيْءُ مَأْخُوذٌ مِنْ فاء يفئ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دَخَلَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا إِيجَافٍ. كَخَرَاجِ الْأَرْضِينَ
وَجِزْيَةِ الْجَمَاجِمِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَفِيهِمَا
الْخُمُسُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: الْفَيْءُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا صَارَ
لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ قَهْرٍ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.
الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِأَوَّلِ السُّورَةِ، عِنْدَ
الْجُمْهُورِ. وَقَدِ ادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أن هذه
الآية نزلت بعد قوله:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» [الْأَنْفَالِ: ١] وَأَنَّ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْغَانِمِينَ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَنَّ قَوْلَهُ:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» نَزَلَتْ
فِي حِينِ تَشَاجَرَ أَهْلُ بَدْرٍ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ
أَوَّلَ السُّورَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ النَّبِيُّ
ﷺ:) مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَمَنْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا)
وَكَانُوا قَتَلُوا سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ
بْنُ عَمْرٍو بِأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ وَعَدْتَنَا
مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا، وَقَدْ جِئْتُ بِأَسِيرَيْنِ. فَقَامَ سَعْدٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَمْ يَمْنَعْنَا زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ
وَلَا جُبْنٌ عَنِ الْعَدُوِّ وَلَكِنَّا قُمْنَا هَذَا الْمُقَامَ خشية أن يعطف
المشركون، فإنك إن تعطي هؤلاء لا يبقى لأصحابك شي. قَالَ: وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ
يَقُولُونَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فَنَزَلَتْ«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ
قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ» [الأنفال:
١] فَسَلَّمُوا
الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ نَزَلَتْ«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» الْآيَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا
مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
وَلَيْسَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ
الْأَئِمَّةِ. كَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، رضي
الله عنهم، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِفَتْحِ
مَكَّةَ وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: افْتَتَحَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ عَنْوَةً وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ وَلَمْ
يَقْسِمْهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ فَيْئًا. وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ
أَنَّ هَذَا جَائِزٌ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ
مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ» وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْإِمَامِ، إِنْ شَاءَ
حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ،
لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَضَافَ الْغَنِيمَةَ
لِلْغَانِمِينَ فَقَالَ:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» ثُمَّ
عَيَّنَ الْخُمُسَ لِمَنْ سَمَّى فِي كِتَابِهِ، وَسَكَتَ عَنِ الْأَرْبَعَةِ
الْأَخْمَاسِ، كَمَا سَكَتَ عَنِ الثُّلُثَيْنِ فِي قَوْلِهِ:«وَوَرِثَهُ أَبَواهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» «١» [النساء: ١١] فَكَانَ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ
اتِّفَاقًا. وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ إِجْمَاعًا، عَلَى
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالدَّاوُدِيُّ
وَالْمَازِرِيُّ أَيْضًا وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَالْأَخْبَارُ
بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَةٌ، وسيأتي بعضها. ويكون معنى قوله:«يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفالِ» الْآيَةَ، مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِمَنْ شَاءَ لِمَا
يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ:
هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، مِنْ
عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ دَابَّةٍ، يَقْضِي فِيهَا الْإِمَامُ بِمَا أَحَبَّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا أَنْفَالُ السَّرَايَا أَيْ غَنَائِمُهَا، إِنْ شَاءَ
خَمَّسَهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ شَاءَ نَفَّلَهَا كُلَّهَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ فِي الْإِمَامِ يَبْعَثُ السَّرِيَّةَ فَيُصِيبُونَ الْمَغْنَمَ:
إِنْ شَاءَ الْإِمَامُ نَفَّلَهُ كُلَّهُ، وَإِنْ شَاءَ خَمَّسَهُ. وَحَكَاهُ
أَبُو عُمَرَ عَنْ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ ثابت: سألت مكحول وَعَطَاءً
عَنِ الْإِمَامِ يُنَفِّلُ الْقَوْمَ مَا أَصَابُوا، قَالَ: ذَلِكَ لَهُمْ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» [الأنفال: ١] أَنَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ
يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ. وَلَمْ يَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ». وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (الْقَبَسِ
فِي شَرْحِ مُوَطَّإِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ). وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِيمَا أَعْلَمُ أن قوله تعالى«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ»
الْآيَةَ، نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: إِنَّ
قَوْلَهُ:«مَا غَنِمْتُمْ» نَاسِخٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ
التَّحْرِيفُ وَلَا التَّبْدِيلُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
. وَأَمَّا قِصَّةُ فَتْحِ مَكَّةَ
فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي فَتْحِهَا. وَقَدْ قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا نَعْلَمُ مَكَّةَ يُشْبِهُهَا شي مِنَ الْبُلْدَانِ مِنْ
جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ رَسُولَ
(١). راجع ج ٥ ص ٧١.
اللَّهِ ﷺ كَانَ اللَّهُ قَدْ
خَصَّهُ مِنَ الْأَنْفَالِ وَالْغَنَائِمِ مَا لَمْ يجعله لغيره، وذلك
لقوله:«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» [الْأَنْفَالِ: ١] الْآيَةَ، فَنَرَى
أَنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا لَهُ. وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ سَنَّ لِمَكَّةَ
سُنَنًا لَيْسَتْ لِشَيْءٍ مِنَ الْبِلَادِ. وَأَمَّا قِصَّةُ حُنَيْنٍ فَقَدْ
عَوَّضَ الْأَنْصَارَ لَمَّا قَالُوا: يُعْطِي الْغَنَائِمَ قُرَيْشًا
وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ! فَقَالَ لَهُمْ: (أَمَا
تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ
ﷺ إِلَى بُيُوتِكُمْ). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ
يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ
عُلَمَائِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ
أَنَّ قَوْلَهُ:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» لَيْسَ عَلَى
عُمُومِهِ، وَأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ، فَمِمَّا خَصَّصُوهُ بِإِجْمَاعٍ
أَنْ قَالُوا: سَلَبُ الْمَقْتُولِ لِقَاتِلِهِ إِذَا نَادَى بِهِ الْإِمَامُ.
وَكَذَلِكَ الرِّقَابُ، أَعْنِي الْأُسَارَى، الْخِيرَةُ فِيهَا إِلَى الْإِمَامِ
بِلَا خِلَافٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَمِمَّا خُصَّ بِهِ أَيْضًا
الْأَرْضُ. وَالْمَعْنَى: مَا غَنِمْتُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَسَائِرِ
الْأَمْتِعَةِ وَالسَّبْيِ. وَأَمَّا الْأَرْضُ فَغَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ
هَذِهِ الْآيَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
قَالَ: (لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا كَمَا
قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ (. وَمِمَّا يُصَحِّحُ هَذَا الْمَذْهَبَ مَا
رَوَاهُ الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:) مَنَعَتِ
الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا)
الْحَدِيثَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ:«مَنَعَتْ» بِمَعْنَى سَتَمْنَعُ، فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ
لَا يَكُونُ فِيهِ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تُقْسَمُ مَا
بقي لمن جاء بعد الغانمين شي. والله تعالى يقول:«وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ
بَعْدِهِمْ» «١» [الحشر:
١٠] بالعطف
على قوله:«لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» [الحشر: ٨]. قَالَ: وَإِنَّمَا يُقْسَمُ مَا
يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا حَصَلَ
مِنَ الْغَنَائِمِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ شي قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ
دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قُسِمَ، إِلَّا الرِّجَالَ
الْبَالِغِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ
أَوْ يَسْبِيَ. وَسَبِيلُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ وَسُبِيَ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ.
وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ الْآيَةِ. قَالَ: وَالْأَرْضُ مَغْنُومَةٌ لَا مَحَالَةَ،
فَوَجَبَ أن تقسم كسائر الغنائم. وقد قسم
(١). راجع ج ١٨ ص ٣١.
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا افْتَتَحَ
عَنْوَةً مِنْ خَيْبَرَ. قَالُوا: وَلَوْ جَازَ أَنْ يُدَّعَى الْخُصُوصُ فِي
الْأَرْضِ جَازَ أَنْ يُدَّعَى فِي غَيْرِ الْأَرْضِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْآيَةِ.
وَأَمَّا آيَةُ«الْحَشْرِ» فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ
فِي الْفَيْءِ لَا في الغنيمة. وقوله:«وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ»
[الحشر: ١٠] اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ بِالدُّعَاءِ
لِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَيْسَ يَخْلُو
فِعْلُ عُمَرَ فِي تَوْقِيفِهِ الْأَرْضَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ
تَكُونَ غَنِيمَةً اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِهَا، وَطَابَتْ بِذَلِكَ
فَوَقَفَهَا. وَكَذَلِكَ رَوَى جَرِيرٌ أَنَّ عُمَرَ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ
أَهْلِهَا. وَكَذَلِكَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ، لَمَّا
أَتَوْهُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَصْحَابِهِ عَمَّا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ. وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ مَا وَقَفَهُ عُمَرُ فَيْئًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاضَاةِ
أَحَدٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي قَسْمِهَا أَوْ
إِقْرَارِهَا وَتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، وَتَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ
كَأَرْضِ الصُّلْحِ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ رضي الله عنه:
وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ
الدَّلِيلَيْنِ وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رضي
الله عنه قَطْعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ، فَلَمْ يُخْبِرْ
بِنَسْخِ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ، غَيْرَ أَنَّ
الْكُوفِيِّينَ زَادُوا عَلَى مَا فَعَلَ عُمَرُ، فَإِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا
وَقَفَهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُمَلِّكْهَا لِأَهْلِ
الصُّلْحِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِأَهْلِ
الصُّلْحِ. الرَّابِعَةُ- ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى
أَنَّ السَّلَبَ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ، إِلَّا
أَنْ يَقُولَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَيَكُونُ
حِينَئِذٍ لَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ
لِلْقَاتِلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ. إِلَّا
أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ
إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا مُقْبِلًا عَلَيْهِ: وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مُدْبِرًا
عَنْهُ فَلَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ الْحَدِيثُ (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ) عَلَى
عُمُومِهِ، لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَسِيرًا أَوِ
امْرَأَةً أَوْ شَيْخًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَلَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ
مَنْ ذَفَّفَ «١» عَلَى جَرِيحٍ، وَمَنْ قَتَلَ مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُنْهَزِمُ لا يمتنع في انهزامه، وهو
(١). تذفيف الجريح: الإجهاز عليه.
كَالْمَكْتُوفِ «١». قَالَ: فَعُلِمَ
بِذَلِكَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَعَلَ السَّلَبَ لِمَنْ لِقَتْلِهِ مَعْنًى
زَائِدٌ، أَوْ لِمَنْ فِي قَتْلِهِ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ الْقَاتِلُ فِي الإقبال، لما
في ذلك من المئونة. وَأَمَّا مَنْ أُثْخِنَ «٢» فَلَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ، مُقْبِلًا قَتَلَهُ أَوْ مُدْبِرًا، هَارِبًا أَوْ
مُبَارِزًا إِذَا كَانَ فِي الْمَعْرَكَةِ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ نَافِعًا
مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ نَزَلْ نَسْمَعُ إِذَا الْتَقَى
الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا مِنَ
الْكُفَّارِ فَإِنَّ سَلَبَهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْمَعَةِ
الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا. فَظَاهِرُ
هَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الطَّبَرِيِّ لِاشْتِرَاطِهِ فِي السَّلَبِ الْقَتْلَ فِي
الْمَعْرَكَةِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: السَّلَبُ
لِلْقَاتِلِ فِي مَعْرَكَةٍ كَانَ أَوْ غَيْرِ مَعْرَكَةٍ، فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ
وَالْهُرُوبِ وَالِانْتِهَارِ، عَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ ﷺ:
(مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ). قُلْتُ: رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَوَازِنَ فَبَيْنَا
نَحْنُ نَتَضَحَّى «٣» مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ
أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ «٤» فَقَيَّدَ بِهِ
الْجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ،
وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ «٥»، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ
يَشْتَدُّ «٦»، فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ
عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى
نَاقَةٍ وَرْقَاءَ «٧». قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ
وَرِكِ النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ،
ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمَّا
وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ
فَنَدَرَ «٨»، ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ
وَسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ:
(مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ)؟ قَالُوا: ابْنُ الْأَكْوَعِ. قَالَ: (لَهُ سَلَبَهُ
أَجْمَعُ). فَهَذَا سَلَمَةُ قَتَلَهُ هَارِبًا غَيْرَ مُقْبِلٍ، وَأَعْطَاهُ
سَلَبَهُ. وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ من أن السلب لا يستحقه القاتل
(١). في ز: المكفوف.
(٢).
أي أثقل بالجراح.
(٣).
أي نتغدى.
(٤).
الطلق (بالتحريك): قيد من جلود. والحقب: الحبل المشدود على حقو البعير أو من
حقيبته وهي الزيادة التي تجعل في مؤخر القتب، والوعاء الذي يجعل الرجل فيه زاده.
(عن ابن الأثير).
(٥).
أي حالة ضعف وهزال في الإبل.
(٦).
أي خرج مسرعا. [.....]
(٧).
الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد.
(٨).
ندر: سقط.
إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، إِذْ
لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَكْرِيرِ
هَذَا الْقَوْلِ. وَمِنْ حُجَّتِهِ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ
بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: بَارَزْتُ رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ
فَقَتَلْتُهُ وَأَخَذْتُ سَلَبَهُ، فَأَتَيْتُ سَعْدًا فَخَطَبَ سَعْدٌ
أَصْحَابَهُ ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَلَبُ بِشْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، فَهُوَ خَيْرٌ
مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنَّا قَدْ نَفَّلْنَاهُ إِيَّاهُ.
فَلَوْ كَانَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ قَضَاءً مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَا احْتَاجَ
الْأَمْرُ أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِاجْتِهَادِهِمْ،
وَلَأَخَذَهُ الْقَاتِلُ دُونَ أَمْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحِ
أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ ضَرَبَا
أَبَا جَهْلٍ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
فَقَالَ: (أَيُّكُمَا قَتَلَهُ)؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أنا قتلته.
فنظر في السيفين فقال: (كلا كما قَتَلَهُ) وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لَيْسَ
لِلْقَاتِلِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ لَقَسَمَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمَا. وَفِي
الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ
مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ «١»
مِنَ الْيَمَنِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ عَوْفٌ: يَا خَالِدٌ، أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى،
ولكني استكثرته. وأخرجه أبو بكر البر قانئ بِإِسْنَادِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ
مُسْلِمٌ، وَزَادَ فِيهِ بَيَانًا أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ لم يَكُنْ يُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ مَدَدِيًّا كَانَ رَفِيقًا
لَهُمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ فِي طَرَفٍ مِنَ الشَّامِ، قَالَ:
فَجَعَلَ رُومِيٌّ مِنْهُمْ
يَشْتَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ وَسَرْجٍ مُذْهَبٍ
وَمِنْطَقَةٍ مُلَطَّخَةٍ وَسَيْفٍ مُحَلًّى بِذَهَبٍ. قَالَ: فَيُغْرِي بِهِمْ،
قَالَ: فَتَلَطَّفَ لَهُ الْمَدَدِيُّ حَتَّى مَرَّ بِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَ
فَرَسِهِ فَوَقَعَ، وَعَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ سِلَاحَهُ. قَالَ:
فَأَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَحَبَسَ مِنْهُ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ
لَهُ أَعْطِهِ كُلَّهُ، أَلَيْسَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
(السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ)! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قَالَ
عَوْفٌ: وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: لَأُخْبِرَنَّ
رَسُولَ الله صلى الله
(١). أي رجل من المدد الذين جاء وا يمدون جيش
مؤتة ويسا عد ونهم.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَوْفٌ:
فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذكر عَوْفٌ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: (لِمَ لَمْ تُعْطِهِ)؟ قَالَ فَقَالَ:
اسْتَكْثَرْتُهُ. قَالَ: (فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ) فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ أُنْجِزْ لَكَ
مَا وَعَدْتُكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: (يَا خَالِدُ لَا
تَدْفَعْهُ إِلَيْهِ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي) «١». فَهَذَا
يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ
بِنَفْسِ الْقَتْلِ بَلْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ وَنَظَرِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ ابن
حَنْبَلٍ: لَا يَكُونُ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إِلَّا فِي الْمُبَارَزَةِ خَاصَّةً.
الْخَامِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْمِيسِ السَّلَبِ، فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: لَا يُخَمَّسُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِنْ كَانَ السَّلَبُ يَسِيرًا
فَهُوَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا خُمِّسَ. وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ مَعَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ بَارَزَ الْمَرْزُبَانَ
فَقَتَلَهُ، فَكَانَتْ قِيمَةُ مِنْطَقَتِهِ وَسِوَارَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
فَخَمَّسَ ذَلِكَ. أَنَسٌ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَتَلَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ رَجُلٍ إِلَّا رَجُلًا مُبَارَزَةً، وَأَنَّهُمْ لَمَّا
غَزَوُا الزَّارَةَ «٢» خَرَجَ دِهْقَانُ الزَّارَةِ فَقَالَ: رَجُلٌ وَرَجُلٌ،
فَبَرَزَ الْبَرَاءُ فَاخْتَلَفَا بِسَيْفَيْهِمَا ثُمَّ اعْتَنَقَا فَتَوَرَّكَهُ
الْبَرَاءُ فَقَعَدَ عَلَى كَبِدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ السَّيْفَ فَذَبَحَهُ، وَأَخَذَ
سِلَاحَهُ وَمِنْطَقَتَهُ وَأَتَى بِهِ عُمَرَ، فَنَفَّلَهُ السِّلَاحَ وَقَوَّمَ
الْمِنْطَقَةَ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَخَمَّسَهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا مَالٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ: السَّلَبُ مَغْنَمٌ وَفِيهِ الْخُمُسُ.
وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَخَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى فِي السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ
يُخَمِّسِ السَّلَبَ. السَّادِسَةُ- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ
السَّلَبَ لَا يُعْطَى لِلْقَاتِلِ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على قتله.
قال أكثر هم: وَيُجْزِئُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ.
وَقِيلَ: شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُعْطَاهُ
بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَيْسَتِ الْبَيِّنَةُ شَرْطًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ،
بَلْ إِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوْلَى دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ. أَلَا
تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَى أَبَا قَتَادَةَ سَلَبَ مقتوله مِنْ غَيْرِ
شَهَادَةٍ وَلَا يَمِينٍ. وَلَا تَكْفِي شهادة واحد، ولا يناط بها حكم بمجرد ها.
وبه قال الليث بن سعد.
(١). في ب، ز: أسراى.
(٢).
الزارة: قرية بالبحرين.
قُلْتُ: سَمِعْتُ شَيْخَنَا
الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ الشَّافِعِيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْعَظِيمِ
يَقُولُ: إِنَّمَا أَعْطَاهُ النَّبِيُّ ﷺ السَّلَبَ بِشَهَادَةِ الْأَسْوَدِ بْنِ
خُزَاعِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ. وَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ النِّزَاعُ
وَيَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيَطَّرِدُ الْحُكْمُ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
فَيَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِيهِ إِلَى
بَيِّنَةٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْإِمَامِ ابْتِدَاءً عَطِيَّةٌ، فَإِنْ شَرَطَ
الشَّهَادَةَ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ
غَيْرِ شَهَادَةٍ. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلَبِ مَا هُوَ، فَأَمَّا
السِّلَاحُ وَكُلُّ مَا يُحْتَاجُ لِلْقِتَالِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مِنَ
السَّلَبِ، وَفَرَسُهُ إِنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَصُرِعَ عَنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ
فِي الْفَرَسِ: لَيْسَ مِنَ السَّلَبِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي هِمْيَانِهِ «١»
وَفِي مِنْطَقَتِهِ دَنَانِيرُ أَوْ جَوَاهِرُ أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَلَا خِلَافَ
أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّلَبِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ
لِلْحَرْبِ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ السَّلَبِ. وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: لَيْسَ مِنَ السَّلَبِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَحْنُونَ رحمه الله،
إِلَّا الْمِنْطَقَةَ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ السَّلَبِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ
فِي الْوَاضِحَةِ: وَالسِّوَارَانِ مِنَ السَّلَبِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:«فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا نَاسِخٌ
لِقَوْلِهِ عز وجل فِي أَوَّلِ السُّورَةِ«قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ»
[الأنفال: ١] وَلَمْ يُخَمِّسْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
غَنَائِمَ بَدْرٍ، فَنُسِخَ حُكْمُهُ فِي تَرْكَ التَّخْمِيسِ بِهَذَا. إِلَّا
أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ«كَانَ
لِي شَارِفٌ «٢» مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ» الْحَدِيثَ- أَنَّهُ
خَمَّسَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا فَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ مَرْدُودٌ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ الَّذِي ذَكَرَ عَلِيٌّ مِنْ
إِحْدَى الْغَزَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَقَدْ كَانَتْ
غَزْوَةُ بَنِي «٣» سُلَيْمٍ وَغَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَغَزْوَةُ ذِي
أَمَرٍّ وَغَزْوَةُ بُحْرَانَ، وَلَمْ يُحْفَظْ فِيهَا قِتَالٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ
أَنْ غُنِمَتْ غَنَائِمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ
يَرُدُّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ يَوْمَئِذٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ قَسْمِ
غَنَائِمِ بَدْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخُمُسِ إِنْ
كَانَ لَمْ يَقَعْ فِي بَدْرٍ تَخْمِيسٌ، مِنْ خُمُسِ سَرِيَّةِ عَبْدِ الله بن
جحش
(١). الهميان: الذي تجعل فيه النفقة. وشداد
السراويل.
(٢).
الشارف: الناقة المسنة.
(٣).
في شرح المواهب أن غزوة بني سليم هي غزوة البحران.
فَإِنَّهَا أَوَّلُ غَنِيمَةٍ
غُنِمَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ خُمُسٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ
نَزَلَ الْقُرْآنُ«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ». وَهَذَا أَوْلَى مِنَ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّاسِعَةُ-«مَا» فِي قَوْلِهِ:«مَا غَنِمْتُمْ» بِمَعْنَى الَّذِي وَالْهَاءُ
مَحْذُوفَةٌ، أَيِ الَّذِي غَنِمْتُمُوهُ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَنَّ فِي
الْكَلَامِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ. وَ«إِنْ» الثَّانِيَةَ تَوْكِيدٌ لِلْأُولَى،
وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. قَالَ الْحَسَنُ «١»: هَذَا
مِفْتَاحُ «٢» كَلَامٍ، الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ لِلَّهِ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ.
وَاسْتَفْتَحَ عز وجل الْكَلَامَ فِي الْفَيْءِ وَالْخُمُسِ بِذِكْرِ نَفْسِهِ،
لِأَنَّهُمَا أَشْرَفُ الْكَسْبِ، وَلَمْ يَنْسُبِ الصَّدَقَةَ إِلَيْهِ
لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
كَيْفِيَّةِ قَسْمِ الْخُمُسِ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ- قَالَتْ
طَائِفَةٌ: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةٍ، فَيُجْعَلُ السُّدُسُ لِلْكَعْبَةِ،
وَهُوَ الَّذِي لِلَّهِ. وَالثَّانِي لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَالثَّالِثُ لِذَوِي
الْقُرْبَى. وَالرَّابِعُ لِلْيَتَامَى. وَالْخَامِسُ لِلْمَسَاكِينِ،. وَالسَّادِسُ
لِابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ: يُرَدُّ السَّهْمُ
الَّذِي لِلَّهِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ. الثَّانِي- قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ
وَالرَّبِيعُ: تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيُعْزَلُ مِنْهَا سَهْمٌ
وَاحِدٌ، وَتُقْسَمُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى
السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ فَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ من شي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ،
ثُمَّ يَقْسِمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ الَّذِي عَزَلَهُ عَلَى خَمْسَةٍ، سَهْمٍ
لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ
لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ. الثَّالِثُ- قَالَ الْمِنْهَالُ
بْنُ عَمْرٍو: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيَّ
بْنَ الْحُسَيْنِ عَنِ الْخُمُسِ فَقَالَ: هُوَ لَنَا. قُلْتُ لِعَلِيٍّ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ:«وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» فَقَالَ:
أَيْتَامُنَا وَمَسَاكِينُنَا. الرَّابِعُ- قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْسَمُ عَلَى
خَمْسَةٍ. وَرَأَى أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ يُصْرَفُ
فِي مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ
الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ.
(١). هو الحسن بن محمد بن علي المعروف بابن
الحنفية.
(٢).
أي قوله تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) راجع الحديث في كتاب قسم الفيء في سنن
النسائي.
الْخَامِسُ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يُقْسَمُ عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَارْتَفَعَ عِنْدَهُ حُكْمُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَوْتِهِ، كَمَا
ارْتَفَعَ حُكْمُ سَهْمِهِ. قَالُوا: وَيُبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ
الْقَنَاطِرِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْجُنْدِ،
وَرُوِيَ نَحْوَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. السَّادِسُ- قَالَ مَالِكٌ:
هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ
غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي مِنْهُ الْقَرَابَةَ بِاجْتِهَادٍ، وَيَصْرِفُ
الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهِ قَالَ الْخُلَفَاءُ
الْأَرْبَعَةُ، وَبِهِ عَمِلُوا. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ ﷺ: (مَا لِيَ مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ).
فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمْهُ أَخْمَاسًا وَلَا أَثْلَاثًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي
الْآيَةِ مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ
أَهَمِّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ: قَالَ
اللَّهُ عز وجل:» يَسْئَلُونَكَ
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ««١»
[البقرة: ٢١٥] وَلِلرَّجُلِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ
أَنْ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ
النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ،
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يحمل منه ويعطي مِنْهُ وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ وَيَصْنَعُ
بِهِ مَا شاء. الحادية عشرة- قوله تعالى:» وَلِذِي الْقُرْبى " لَيْسَتِ
اللَّامُ لِبَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ
الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ
الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وربيعة ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ،
فَتَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ،
وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرنَا عَلَى
بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فنودي إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبُ
كَمَا يُصِيبُونَ. فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، قَالَ:
وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ «٢» إِلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَلَّا
تُكَلِّمَاهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ
إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ادْعُوَا لِي مَحْمِيَّةَ «٣» - وَكَانَ عَلَى
الْخُمُسِ- ونوفل بن الحارث بن
(١). راجع ج ٣ ص ٢٦.
(٢).
يقال: ألمع ولمع، إذا أشار بثوبه أو بيده.
(٣).
هو محمية بن جزء، رجل من بني أسد.
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قَالَ:
فَجَاءَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: (أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ) -
لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ- فَأَنْكَحَهُ. وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ:
(أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ) يَعْنِي رَبِيعَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: (أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا).
وَقَالَ ﷺ: (مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ
وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ). وَقَدْ أَعْطَى جَمِيعَهُ وَبَعْضَهُ،
وَأَعْطَى مِنْهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، وَلَيْسَ مِمَّنْ ذَكَرَهُمُ
اللَّهُ فِي التَّقْسِيمِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْمُوَفِّقُ
الْإِلَهُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَوِي الْقُرْبَى
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قُرَيْشٌ كُلُّهَا، قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا جَعَلَ يَهْتِفُ: (يَا بَنِي فُلَانٍ يَا
بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي كَعْبٍ يَا بَنِي
مُرَّةَ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ)
الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي«الشُّعَرَاءِ» «١». وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُسْلِمُ بْنُ
خَالِدٍ: بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا
قَسَمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
قَالَ: (إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إنما بنو
هاشم وبنو المطلب شي وَاحِدٌ) وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، أَخْرَجَهُ
النَّسَائِيُّ وَالْبُخَارِيُّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي
يُونُسُ، وَزَادَ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ ﷺ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا
لِبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ
وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ. وَكَانَ
نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لِأَبِيهِمْ. قَالَ النَّسَائِيُّ: وَأَسْهَمَ النَّبِيُّ ﷺ
لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، بَيْنَهُمُ
الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُونَ
الْغَنِيِّ، كَالْيَتَامَى وَابْنِ السَّبِيلِ- وَهُوَ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ
بِالصَّوَابِ عِنْدِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالذَّكَرُ
وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَسَمَهُ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِمْ. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ. الثَّالِثُ- بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ والثوري والأوزاعي وغيرهم.
(١). راجع ج ١٣ ص ١٤٣. [.....]
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- لَمَّا
بَيَّنَ اللَّهُ عز وجل حُكْمَ الْخُمُسِ وَسَكَتَ عَنِ الْأَرْبَعَةِ
الْأَخْمَاسِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ. وَبَيَّنَ
النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ ورسوله ثم هي لكم). وهذا ما لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ
الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي
(أَحْكَامِهِ) وَغَيْرُهُ. بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى
الْأُسَارَى بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ، وَبَطَلَتْ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ فِيهِمْ،
كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: (لَوْ
كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى
«١» - يَعْنِي أُسَارَى بدر- لتركته لَهُ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. مُكَافَأَةً
لَهُ لِقِيَامِهِ فِي شَأْنِ [نَقْضِ] الصَّحِيفَةِ «٢». وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ
جَمِيعَهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عقبة ابن أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ
بَيْنِ الْأَسْرَى صَبْرًا «٣»، وَكَذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَتَلَهُ
بِالصَّفْرَاءِ «٤» صَبْرًا، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَكَانَ لِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ سَهْمٌ كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ، حَضَرَ أَوْ غَابَ. وَسَهْمُ
الصَّفِيِّ، يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ سَهْمًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً.
وَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ مِنَ الصَّفِيِّ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ.
وَكَذَلِكَ ذُو الْفَقَارِ «٥» كَانَ مِنَ الصَّفِيِّ. وَقَدِ انْقَطَعَ
بِمَوْتِهِ، إِلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ
يَجْعَلُهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ ﷺ. وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ. قَالَ
شَاعِرُهُمْ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ مِنْهَا
وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ «٦»
وَقَالَ آخَرُ:
مِنَّا الَّذِي رَبَعَ الْجُيُوشَ،
لِصُلْبِهِ ... عِشْرُونَ وَهْوَ يعد في الأحياء
(١). النتنى: جمع نتن، كزمنى وزمن.
(٢).
أي الصحيفة التي كتبتها قريش في ألا يبايعوا الهاشمية ولا المطلبية ولا يناكحوهم.
وهو مطعم بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مات كافرا في صفر قبل
وقعة بدر بنحو سبعة أشهر. (عن شرح القسطلاني).
(٣).
صبر الإنسان وغيره على القتل: حبسه ورماه حتى يموت.
(٤).
موضع قرب بدر.
(٥).
ذو الفقار: اسم سيف النبي عليه السلام وسمي به لأنه كانت فيه حفر صغار حسان ويقال
للحفرة فقرة.
(٦).
البيت لعبد الله بن عنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة: ما أصاب الرئيس في
الطريق قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته
على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما (عن اللسان).
يُقَالُ: رَبَعَ الْجَيْشَ
يَرْبَعُهُ رَبَاعَةً إِذَا أَخَذَ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
رُبُعٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخُمُسٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ يَأْخُذُ بِغَيْرِ
شَرْعٍ وَلَا دِينٍ الرُّبُعَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَيَصْطَفِي مِنْهَا، ثم يتحكم
بعد الصفي في أي شي أَرَادَ، وَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهَا وَمَا فَضَلَ مِنْ
خُرْثِيٍّ «١» وَمَتَاعٍ لَهُ. فَأَحْكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الدِّينَ
بِقَوْلِهِ:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ». وَأَبْقَى سَهْمَ الصَّفِيِّ لِنَبِيِّهِ ﷺ وَأَسْقَطَ حُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَهْمٌ
يُدْعَى الصَّفِيَّ إِنْ شَاءَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ فَرَسًا يَخْتَارُهُ
قَبْلَ الْخُمُسِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: (أَيْ فُلْ «٢» أَلَمْ أُكْرِمْكَ
وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ
تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ) الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.«تَرْبَعُ» بِالْبَاءِ
الْمُوَحَّدَةِ مِنْ تَحْتِهَا: تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ، أَيِ الرُّبُعَ مِمَّا
يَحْصُلُ لِقَوْمِكَ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْكَسْبِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ كَانَ
النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُهُ فِي كِفَايَةِ أَوْلَادِهِ وَنِسَائِهِ، وَيَدَّخِرُ مِنْ
ذَلِكَ قُوتَ سَنَتِهِ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاعِ «٣» وَالسِّلَاحِ.
وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا رَوَاهُ عُمَرُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ
مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ
الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً،
فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ «٤» مِنْهَا قُوتَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ
فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ: (وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ). الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- لَيْسَ فِي
كِتَابِ «٥» اللَّهِ تَعَالَى دَلَالَةٌ «٦» عَلَى تَفْضِيلِ الْفَارِسِ عَلَى
الرَّاجِلِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
الْأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لَهُمْ وَلَمْ يَخُصَّ رَاجِلًا مِنْ فَارِسٍ. وَلَوْلَا
الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَكَانَ الْفَارِسُ كَالرَّاجِلِ،
وَالْعَبْدُ كَالْحُرِّ، وَالصَّبِيُّ كَالْبَالِغِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي قِسْمَةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، فالذي عليه عامة أهل
(١). الخرثي (بالضم): أثاث البيت أو أردأ
المتاع والغنائم.
(٢).
الحديث أورده مسلم في كتاب الزهد. قال النووي: بضم الفاء وسكون اللام ومعناه يا
فلان وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل هي لغة بمعنى فلان وقال صاحب المرقاة بسكون
اللام وتفتح وتضم.
(٣).
الكراع (بالضم): الخيل.
(٤).
الذي في صحيح مسلم: (... فكان ينفق على أهله نفقة سنة ...) إلخ.
(٥).
في ز: ليس في الآية.
(٦).
في ك: ما يدل.
الْعِلْمِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مالك ابن أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ. وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ
مِصْرَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ. وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ إِلَّا
النُّعْمَانَ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِيهِ السُّنَنَ وَمَا عَلَيْهِ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ
فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ. قَالَ: لَا يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ إِلَّا سَهْمٌ
وَاحِدٌ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ شُبِّهَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا.
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: قَالَ الرَّمَادِيُّ كَذَا يَقُولُ ابْنُ
نُمَيْرٍ قَالَ لَنَا النَّيْسَابُورِيُّ: هَذَا عِنْدِي وَهْمٌ مِنَ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَوْ مِنَ الرَّمَادِيِّ، لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ بِشْرٍ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «١»
[رضي الله عنهما [بِخِلَافِ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا
لَهُ وَسَهْمَيْنِ لفرسه، هكذا رواه عبد الرحمن ابن بِشْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. وَهَذَا
نَصٌّ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَعْطَانِي
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْبَعَةٌ أَسْهُمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي
وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقَرَابَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ:
وَسَهْمًا لِأُمِّهِ سَهْمُ ذَوِي القربى. وخرج عن بشير بن عمرو ابن مُحْصَنٍ
قَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِفَرَسِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَلِي سَهْمًا،
فَأَخَذْتُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِ
الْإِمَامِ، فَيَنْفُذُ مَا رَأَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ-
لَا يُفَاضِلُ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ
فرس واحد، لأنه أكثر عنا وأعظم منفعة،
(١). الذي في نسخة الدارقطني: (عن ابن نمير).
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْجَهْمِ مِنْ
أَصْحَابِنَا، وَرَوَاهُ سَحْنُونُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ
تَرِدْ رِوَايَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَنْ يُسْهَمَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ
وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يُمْكِنُ
أَنْ يُقَاتِلَ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ
فَرَفَاهِيَةٌ وَزِيَادَةُ عُدَّةٍ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ
السُّهْمَانِ، كَالَّذِي مَعَهُ زِيَادَةُ سُيُوفٍ أَوْ رِمَاحٍ، وَاعْتِبَارًا
بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ
يُسْهَمُ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَفْرَاسٌ، لِكُلِّ فَرَسٍ سَهْمٌ. السَّادِسَةَ
عَشْرَةَ- لَا يُسْهَمُ إِلَّا لِلْعِتَاقِ مِنَ الْخَيْلِ، لِمَا فِيهَا مِنَ
الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَمَا كَانَ مِنَ الْبَرَاذِينِ وَالْهُجُنِ بِمَثَابَتِهَا
فِي ذَلِكَ. وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُسْهَمْ له. وقيل: إن أجازهم
الْإِمَامُ أَسْهَمَ لَهَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ
الْمَوْضِعِ، فَالْهُجُنُ وَالْبَرَاذِينُ تَصْلُحُ لِلْمَوَاضِعِ الْمُتَوَعِّرَةِ
كَالشِّعَابِ وَالْجِبَالِ، وَالْعِتَاقُ تَصْلُحُ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي
يَتَأَتَّى فِيهَا الْكَرُّ وَالْفَرُّ، فَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِرَأْيِ
الْإِمَامِ. وَالْعِتَاقُ: خَيْلُ الْعَرَبِ. وَالْهُجُنُ وَالْبَرَاذِينُ: خَيْلُ
الرُّومِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفَرَسِ
الضَّعِيفِ، فَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ: لَا يُسْهَمُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْكَسِيرَ. وَقِيلَ: يُسْهَمُ لَهُ
لِأَنَّهُ يُرْجَى بُرْؤُهُ. ولا يسهم للا عجف إِذَا كَانَ فِي حَيِّزِ مَا لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ، كَمَا لَا يُسْهَمُ لِلْكَسِيرِ. فَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضًا
خَفِيفًا مِثْلَ الرَّهِيصِ «١»، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا لَا يَمْنَعُهُ
الْمَرَضُ عَنْ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُسْهَمُ
لَهُ. وَيُعْطَى الْفَرَسُ الْمُسْتَعَارُ وَالْمُسْتَأْجَرُ، وَكَذَلِكَ
الْمَغْصُوبُ، وَسَهْمُهُ لِصَاحِبِهِ. وَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِلْخَيْلِ وَإِنْ
كَانَتْ فِي السُّفُنِ وَوَقَعَتِ الغنيمة في البحر، لأنها معدة لنزول إِلَى
الْبَرِّ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- لَا حَقَّ فِي الْغَنَائِمِ لِلْحَشْوَةِ «٢»
كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ الْجَيْشَ لِلْمَعَاشِ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا وَلَا خَرَجُوا مُجَاهِدِينَ. وَقِيلَ:
يُسْهَمُ لَهُمْ، لِقَوْلِهِ ﷺ: (الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ).
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ جَاءَ بيانا
(١). الرهيص: الذي أصابته الرهصة وهي وقره-
صدع- تصيب باطن حافر الفرس توهنه. [.....]
(٢).
الحشوة (بضم الحاء وكسرها) رذالة الناس.
لِمَنْ بَاشَرَ الْحَرْبَ وَخَرَجَ
إِلَيْهِ، وَكَفَى بِبَيَانِ اللَّهِ عز وجل الْمُقَاتِلِينَ وَأَهْلَ الْمَعَاشِ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ، لِكُلِّ
وَاحِدَةٍ حَالُهَا فِي حُكْمِهَا، فَقَالَ:«عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ
مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» «١» [المزمل: ٢٠] إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا
قَاتَلُوا لَا يَضُرُّهُمْ كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ، لِأَنَّ سَبَبَ
الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ وَإِنْ قَاتَلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ فِي الْأَجِيرِ: لَا
يُسْهَمُ لَهُ وَإِنْ قَاتَلَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ: كُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَسْقِي
فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ «٢» وَأَخْدُمُهُ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْمَيْنِ، سَهْمَ الْفَارِسِ
وَسَهْمَ الرَّاجِلِ، فَجَمَعَهُمَا لِي. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَاحْتَجَّ ابْنُ
الْقَصَّارِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ: (هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الدَّنَانِيرُ حَظُّهُ «٣» وَنَصِيبُهُ مِنْ
غَزْوَتِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ). التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- فَأَمَّا
الْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ فَمَذْهَبُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُمْ وَلَا
يُرْضَخُ «٤». وَقِيلَ: يُرْضَخُ لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ قَاتَلَتِ الْمَرْأَةُ أُسْهِمَ لَهَا. وَزَعَمَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَسْهَمَ لِلنِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ. قَالَ: وَأَخَذَ
الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ ابْنُ حَبِيبٍ
مِنْ أَصْحَابِنَا. خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي
كِتَابِهِ إِلَى نَجْدَةَ «٥»: تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْزُو
بِالنِّسَاءِ؟ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ
«٦» مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يُضْرَبْ لَهُنَّ. وَأَمَّا
الصِّبْيَانُ فَإِنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَفِيهِ عِنْدَنَا ثَلَاثَةَ
أَقْوَالٍ: الْإِسْهَامُ وَنَفْيُهُ حَتَّى يَبْلُغَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ
يُقَاتِلَ فَيُسْهَمَ لَهُ أَوْ يُقَاتِلَ فَلَا يُسْهَمَ لَهُ. وَالصَّحِيحُ
(١). راجع ج ١٩ ص ٥٤.
(٢).
أحسه: أزيل التراب عنه بالمحسة.
(٣).
في ز: حصته.
(٤).
الرضخ: العطاء ليس بالكثير.
(٥).
هو نجدة بن عامر الحنفي كان من رؤساء الخوارج.
(٦).
يحذين: يعطين الحذوة (بكسر الحاء وضمها) وهي العطية.
الْأَوَّلُ، لِأَمْرِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَيُخَلَّى
مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنْبِتْ. وهذه مراعاة لا طاقة الْقِتَالِ لَا لِلْبُلُوغِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْغِلْمَانُ مِنَ الْأَنْصَارِ
فَيُلْحِقُ مَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمْ، فَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامًا فَأَلْحَقَ
غُلَامًا وَرَدَّنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَقْتَهُ وَرَدَدْتَنِي،
وَلَوْ صَارَعَنِي صَرَعْتُهُ قَالَ: فَصَارَعَنِي فَصَرَعْتُهُ فَأَلْحَقَنِي.
وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ أَيْضًا وَيُرْضَخُ لهم. الموفية
عشرين- الْكَافِرُ إِذَا حَضَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاتَلَ فَفِي الْإِسْهَامِ
لَهُ عِنْدَنَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْإِسْهَامُ وَنَفْيُهُ، وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ. زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ.
وَيُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ- وَهُوَ لِسَحْنُونَ- بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِلَّ
الْمُسْلِمُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ، أَوْ لَا يَسْتَقِلُّوا
وَيَفْتَقِرُوا إِلَى مَعُونَتِهِ فَيُسْهَمُ لَهُ. فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَلَا
يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ مَعَ الْأَحْرَارِ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا اسْتُعِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أُسْهِمَ
لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُسْهَمُ لَهُمْ، وَلَكِنْ
يُرْضَخُ لَهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: يَسْتَأْجِرُهُمُ الْإِمَامُ مِنْ
مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَعْطَاهُمْ سَهْمَ
النَّبِيِّ ﷺ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُرْضَخُ لِلْمُشْرِكِينَ إِذَا
قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّ
الْعَبْدَ، وَهُوَ مِمَّنْ «١» يَجُوزُ أَمَانُهُ، إِذَا قَاتَلَ لَمْ يُسْهَمْ
لَهُ وَلَكِنْ يُرْضَخُ، فَالْكَافِرُ بِذَلِكَ أَوْلَى أَلَّا يُسْهَمَ لَهُ.
الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرُونَ- لَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لُصُوصًا
وَأَخَذُوا مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ لَهُمْ وَلَا يُخَمَّسُ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَدْخُلْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عز وجل:«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ. فَأَمَّا
الْكُفَّارُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَقَالَ سَحْنُونُ. لَا
يُخَمَّسُ مَا يَنُوبُ الْعَبْدَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُخَمَّسُ، لِأَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ وَيُقَاتِلَ عَلَى الدِّينِ،
بِخِلَافِ الْكَافِرِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إِذَا خَرَجَ
الْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم.
(١). في ب: وهو مؤمن يجوز. إلخ.
الثَّانِيَةَ وَالْعِشْرُونَ- سَبَبُ
اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ شُهُودُ الْوَقْعَةِ لِنَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ. فَلَوْ شَهِدَ آخِرَ الْوَقْعَةِ اسْتَحَقَّ. وَلَوْ حَضَرَ بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْقِتَالِ فَلَا. وَلَوْ غَابَ بِانْهِزَامٍ فَكَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ
قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ فَلَا يَسْقُطُ اسْتِحْقَاقُهُ. رَوَى
الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أَبَانَ بْنَ
سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ بْنُ
سَعِيدٍ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخَيْبَرَ بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا،
وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لِيفٌ، فَقَالَ أَبَانٌ: اقْسِمْ لَنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: [فَقُلْتُ [«١» لَا تَقْسِمْ لَهُمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فَقَالَ أَبَانٌ: أَنْتَ بِهَا يا وبرا «٢» تَحَدَّرَ عَلَيْنَا مِنْ
رَأْسٍ ضَالٍّ «٣». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اجْلِسْ يَا أَبَانُ) وَلَمْ
يَقْسِمْ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. الثَّالِثَةَ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ خَرَجَ لِشُهُودِ الْوَقْعَةِ فَمَنَعَهُ الْعُذْرُ مِنْهُ
كَمَرَضٍ، فَفِي ثُبُوتِ الْإِسْهَامِ لَهُ وَنَفْيِهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَيُثْبِتُهُ إِنْ كَانَ
الضَّلَالُ قَبْلَ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْإِدْرَابِ «٤»، وَهُوَ الْأَصَحُّ،
قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَيَنْفِيهِ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ. وَكَمَنَ بَعَثَهُ
الْأَمِيرُ مِنَ الْجَيْشِ فِي أَمْرٍ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَشَغَلَهُ
ذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْوَقْعَةِ فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ
الْمَوَّازِ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ. وَرُوِيَ لَا
يُسْهَمُ لَهُ بَلْ يُرْضَخُ لَهُ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ
السَّهْمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يُسْهَمُ لِلْأَسِيرِ وَإِنْ
كَانَ فِي الْحَدِيدِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحَقٌّ
بِالْقِتَالِ، فَمَنْ غَابَ أَوْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ.
الرَّابِعَةَ وَالْعِشْرُونَ- الْغَائِبُ الْمُطْلَقُ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَلَمْ
يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِغَائِبٍ قَطُّ إِلَّا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُ
أَسْهَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ، لِقَوْلِ
اللَّهِ عز وجل:«وَعَدَكُمُ
اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها» «٥» [الفتح: ٢٠]، قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. وَرُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَسَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُثْمَانَ
وَلِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَطَلْحَةَ، وَكَانُوا غَائِبِينَ، فَهُمْ
(١). من ج، ز، ك.
(٢).
الوبر: دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء. والضال:
شجر السدر من شجر الشوك، وفي ب تدلى علينا من قدوم ضال.
(٣).
الوبر: دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء. والضال:
شجر السدر من شجر الشوك، وفي ب تدلى علينا من قدوم ضال.
(٤).
أدرب القوم: إذا دخلوا أرض العدو.
(٥).
راجع ج ١٦ ص ٢٧٨.
كَمَنْ حَضَرَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. فَأَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ تَخَلَّفَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ بِأَمْرِهِ مِنْ أَجْلِ مَرَضِهَا. فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، فَكَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا «١». وَأَمَّا طَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ فَكَانَ بِالشَّامِ فِي تِجَارَةٍ فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، فَيُعَدُّ لِذَلِكَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَمَّا سَعِيدُ
بْنُ زَيْدٍ فَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ أَيْضًا فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْبَدْرِيِّينَ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَمَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِيعَادًا مِنَ اللَّهِ
اخْتَصَّ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَرَ فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا عُثْمَانُ وَسَعِيدٌ وَطَلْحَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ
لَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ
لِعُذْرٍ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ
بِعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَسَعِيدٍ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ. وَأَنَّ
سَهْمَهُمْ كَانَ مِنْ صُلْبِ الْغَنِيمَةِ كَسَائِرِ مَنْ حَضَرَهَا لَا مِنَ
الْخُمُسِ. هَذَا الظَّاهِرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ
فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا
وَسَهْمَهُ). الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى«إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» قَالَ الزَّجَّاجُ عَنْ فِرْقَةٍ: الْمَعْنَى فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ إِنْ كُنْتُمْ، فَ (إِنْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذَا
الْوَعْدِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ (إِنْ) مُتَعَلِّقَةٌ
بِقَوْلِهِ«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ«وَاعْلَمُوا» يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالِانْقِيَادِ
وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْغَنَائِمِ، فَعَلَّقَ (إِنْ)
بِقَوْلِهِ:«وَاعْلَمُوا» عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
بِاللَّهِ فَانْقَادُوا وَسَلِّمُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيمَا أَعْلَمَكُمْ به من
حال قسمة الغنيمة. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ
الْفُرْقانِ) «٢» (مَا) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ«يَوْمَ
الْفُرْقانِ» أَيِ الْيَوْمُ الَّذِي فَرَّقْتُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،
وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) حِزْبُ اللَّهِ وَحِزْبُ
الشَّيْطَانِ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(١). في ب: فبعد لذلك في أهل بدر.
[.....]
(٢).
المتبادر أن المسألة السادسة والعشرين هي هذه الآية لأنها من تمام الكلام.
[سورة الأنفال (٨): آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ
الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ
تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا
كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أَيْ أَنْزَلْنَا إِذْ
أَنْتُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاذْكُرُوا إذ أنتم.
والعدوة: جانب الوادي. وقرى بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، فَعَلَى الضَّمِّ
يَكُونُ الْجَمْعُ عُدًى وَعَلَى الْكَسْرِ عِدًى، مِثْلَ لِحْيَةٍ وَلِحًى،
وَفِرْيَةٍ وَفِرًى. وَالدُّنْيَا: تَأْنِيثُ الْأَدْنَى. وَالْقُصْوَى: تَأْنِيثُ
الْأَقْصَى. مِنْ دَنَا يَدْنُو، وَقَصَا يَقْصُو. وَيُقَالُ: الْقُصْيَا،
وَالْأَصْلُ الْوَاوُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ قُصْوَى. فَالدُّنْيَا
كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةَ، وَالْقُصْوَى مِمَّا يَلِي مَكَّةَ. أَيْ إِذْ
أَنْتُمْ نُزُولٌ بِشَفِيرِ الْوَادِي بِالْجَانِبِ الْأَدْنَى إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَعَدُوُّكُمْ بِالْجَانِبِ الْأَقْصَى. (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ) يَعْنِي رَكْبَ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ. كَانُوا فِي مَوْضِعٍ
أَسْفَلَ مِنْهُمْ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ. وَقِيلَ: هِيَ
الْإِبِلُ الَّتِي كَانَتْ تَحْمِلُ أَمْتِعَتَهُمْ، وَكَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ
عَلَيْهَا تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ عز وجل لهم، فذكرهم نعمه عليهم.«الرَّكْبُ»
ابْتِدَاءٌ«أَسْفَلَ مِنْكُمْ» ظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. أَيْ مَكَانًا
أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ
وَالْفَرَّاءُ«وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أَيْ أَشَدُّ تَسَفُّلًا مِنْكُمْ.
وَالرَّكْبُ جَمْعُ رَاكِبٍ. وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَكْبٌ إِلَّا
لِلْجَمَاعَةِ الرَّاكِبِي الْإِبِلَ. وَحَكَى ابْنُ السِّكِّيتِ وَأَكْثَرُ
أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ رَاكِبٌ وَرَكْبٌ إِلَّا لِلَّذِي عَلَى
الْإِبِلِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ عَلَى فَرَسٍ أَوْ غَيْرِهَا رَاكِبٌ.
وَالرَّكْبُ وَالْأَرْكُبُ وَالرُّكْبَانُ وَالرَّاكِبُونَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا
عَلَى جِمَالٍ، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعادِ) أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِكُمْ،
فَإِنَّكُمْ لَوْ عَرَفْتُمْ كَثْرَتَهُمْ لَتَأَخَّرْتُمْ «١» فَوَفَّقَ اللَّهُ عز
وجل لَكُمْ. (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا) مِنْ نَصْرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ الدِّينِ. وَاللَّامُ فِي (لِيَقْضِيَ) مُتَعَلِّقَةٌ
بِمَحْذُوفٍ وَالْمَعْنَى: جَمَعَهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ، ثُمَّ كَرَّرَهَا
فقال:«لِيَهْلِكَ»
(١). في ج: لتخلفتم.
أَيْ جَمَعَهُمْ هُنَالِكَ
لِيَقْضِيَ أَمْرًا. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) (مَنْ) في موضع رفع. (وَيَحْيى) فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفٌ عَلَى لِيَهْلِكَ. وَالْبَيِّنَةُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ
وَالْبُرْهَانِ. أَيْ لِيَمُوتَ مَنْ يَمُوتُ عَنْ بَيِّنَةٍ رَآهَا وَعِبْرَةٍ
عَايَنَهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَكَذَلِكَ حَيَاةُ مَنْ يَحْيَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ حُجَّةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ
وَقَطَعَتْ عُذْرَهُ، وَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ عَلَى ذلك. وقرى«من حيي» بيائين عَلَى
الْأَصْلِ. وَبِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، الْأُولَى قِرَاءَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَالْبَزِّيِّ وَأَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِيَةُ قِرَاءَةُ
الْبَاقِينَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ وقعت في
المصحف.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٣]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي
مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
قَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُمُ النَّبِيُّ
ﷺ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَثَبَّتَهُمُ
اللَّهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِالْمَنَامِ مَحَلُّ النَّوْمِ وَهُوَ
الْعَيْنُ، أَيْ فِي مَوْضِعِ مَنَامِكَ، فَحَذَفَ، عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَسْوَغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ،
لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ«وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ
قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ
رُؤْيَةُ الِالْتِقَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ رُؤْيَةُ النَّوْمِ. وَمَعْنَى
(لَفَشِلْتُمْ) لَجَبُنْتُمْ عَنِ الْحَرْبِ. (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ)
اخْتَلَفْتُمْ. (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ.
ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْفَشَلِ. وَيَحْتَمِلُ مِنْهُمَا. وَقِيلَ: سَلَّمَ أَيْ
أَتَمَّ أمر المسلمين بالظفر.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٤]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
(٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) هَذَا فِي
الْيَقِظَةِ. يَجُوزُ حَمْلُ الْأُولَى عَلَى الْيَقِظَةِ أَيْضًا إِذَا قُلْتَ:
الْمَنَامُ مَوْضِعُ النَّوْمِ، وَهُوَ الْعَيْنُ، فَتَكُونُ الْأُولَى عَلَى هَذَا
خَاصَّةً بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَهَذِهِ لِلْجَمِيعِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُلْتُ
لِإِنْسَانٍ كَانَ بِجَانِبِي
يَوْمَ بَدْرٍ: أَتَرَاهُمْ
سَبْعِينَ؟ فَقَالَ: هُمْ نَحْوَ الْمِائَةِ. فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْنَا: كَمْ
كُنْتُمْ؟ فَقَالَ: كُنَّا أَلْفًا. (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) كَانَ
هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ:
إِنَّمَا هُمْ أَكَلَةُ جَزُورٍ «١»، خُذُوهُمْ أَخْذًا وَارْبِطُوهُمْ
بِالْحِبَالِ. فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الْقِتَالِ عَظُمَ الْمُسْلِمُونَ فِي
أَعْيُنِهِمْ فَكَثُرُوا، كَمَا قال:«يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ»
[آل عمران: ١٣] حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي (آلِ
عِمْرَانَ) «٢» بَيَانُهُ. (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا)
تَكَرَّرَ هَذَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ مِنَ اللِّقَاءِ، وَفِي
الثَّانِي مِنْ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازِ الدِّينِ، وَهُوَ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي مصيرها ومردها
إليه.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أَيْ جَمَاعَةً (فَاثْبُتُوا) أَمْرٌ
بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِ الْكُفَّارِ، كَمَا فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا النَّهْيُ
عَنِ الْفِرَارِ عَنْهُمْ، فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى سَوَاءٍ.
وَهَذَا تَأْكِيدٌ عَلَى الْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لِلْعُلَمَاءِ
فِي هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
جَزَعِ قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُعِينُ عَلَى الثَّبَاتِ فِي الشَّدَائِدِ.
الثَّانِي- اثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ، وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، فَإِنَّ
الْقَلْبَ لَا يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ، فَأَمَرَ
بِالذِّكْرِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْبُ عَلَى الْيَقِينِ، وَيَثْبُتَ اللِّسَانُ
عَلَى الذِّكْرِ، وَيَقُولَ مَا قَالَهُ أَصْحَابُ طَالُوتَ:«رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ»
«٣» [البقرة:
٢٥٠]. وَهَذِهِ
الْحَالَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ، وَاتِّقَادِ
الْبَصِيرَةِ، وَهِيَ الشُّجَاعَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي النَّاسِ. الثَّالِثُ-
اذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لَكُمْ فِي ابْتِيَاعِهِ
أَنْفُسَكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ.
(١). أي هم قليل، يشبعهم لحم ناقة.
(٢).
راجع ج ٤ ص ٢٥.
(٣).
راجع ج ٣ ص ٢٥٦.
قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ
ذِكْرُ اللِّسَانِ الْمُوَافِقُ لِلْجَنَانِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ: لَوْ رُخِّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ لَرُخِّصَ
لِزَكَرِيَّا، يَقُولُ اللَّهِ عز وجل:«أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا» «١» [آل عمران: ٤١]. وَلَرُخِّصَ لِلرَّجُلِ يَكُونُ فِي
الْحَرْبِ، يَقُولُ اللَّهِ عز وجل:«إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا». وقال قتادة: افترض الله عز وجل ذِكْرَهُ عَلَى عِبَادِهِ،
أَشْغَلَ مَا يَكُونُونَ عِنْدَ الضِّرَابِ «٢» بِالسُّيُوفِ. وَحُكْمُ هَذَا
الذِّكْرِ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا، لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي مَوَاطِنِ
الْقِتَالِ ردئ مَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ الذَّاكِرُ وَاحِدًا «٣». فَأَمَّا إِذَا
كَانَ مِنَ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَمَلَةِ فَحَسَنٌ، لِأَنَّهُ يَفُتُّ فِي
أَعْضَادِ الْعَدُوِّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ:
كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَكْرَهُونَ الصَّوْتَ عِنْدَ الْقِتَالِ.
وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ التَّلَثُّمُ عِنْدَ الْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَبِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ اسْتَنَّ «٤» الْمُرَابِطُونَ بِطَرْحِهِ عِنْدَ
الْقِتَالِ عَلَى صيانتهم به.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٦]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا) هَذَا اسْتِمْرَارٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ
لَهُمْ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ في اختلافهم في أم بَدْرٍ وَتَنَازُعِهِمْ.
(فَتَفْشَلُوا) نُصِبَ بِالْفَاءِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ. وَلَا يُجِيزُ
سِيبَوَيْهِ حَذْفَ الْفَاءِ وَالْجَزْمِ وأجازه الكسائي. وقرى«تَفْشِلُوا»
بِكَسْرِ الشِّينِ. وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أَيْ
قُوَّتُكُمْ وَنَصْرُكُمْ، كَمَا تَقُولُ: الرِّيحُ لِفُلَانٍ، إِذَا كَانَ
غَالِبًا فِي الْأَمْرِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ
فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سكون «٥»
(١). راجع ج ٤ ص ٨٠.
(٢).
في ب وج وك وز والبحر: الضراب والسيوف.
(٣).
اختلفت الأصول في هذه الجملة، ففي ج: (.. إذا كان ألغاطا ..) وفي ب وك وابن عطية:
(.. إذا كان ألفاظا فأما ..) وفي ز ول: العائط واحدا. وكلها ذات معان.
(٤).
في تفسير ابن عطية (تيمن) والظاهر أنه يريد أن المرابطين آثروا التبرك بطرح التلثم
عملا بما ورد عن ابن عباس على الصيانة به.
(٥).
القافية مرفوعة، واسم (إن) هاهنا ضمير الشان. وقوله (لكل خافقة سكون) خبرها. وفي ج
وهـ: عاصفة. وهي رواية. ومن هذه القصيدة:
وَلَا تَغْفُلْ عَنِ الْإِحْسَانِ
فِيهَا ... فَمَا تَدْرِي السكون متى يكون
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ:
إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ إِلَّا بِرِيحٍ تَهُبُّ فَتَضْرِبُ فِي وُجُوهِ
الْكُفَّارِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ
بِالدَّبُورِ) «١». قَالَ الْحَكَمُ:«وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» يَعْنِي الصَّبَا،
إِذْ بِهَا نُصِرَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام وَأُمَّتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَذَهَبَتْ رِيحُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ حِينَ نَازَعُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أَمْرٌ بِالصَّبْرِ،
وَهُوَ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ وَخَاصَّةً مَوْطِنَ الْحَرْبٍ، كما
قال:«إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا».
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرًا وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ
الْخَارِجِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْعِيرِ. خَرَجُوا بِالْقِيَانِ «٢»
وَالْمُغَنِّيَاتِ وَالْمَعَازِفِ، فَلَمَّا وَرَدُوا الْجُحْفَةَ بَعَثَ خُفَافُ
الْكِنَانِيُّ- وَكَانَ صَدِيقًا لِأَبِي جَهْلٍ- بِهَدَايَا إِلَيْهِ مَعَ ابْنٍ
لَهُ، وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَمْدَدْتُكَ بِالرِّجَالِ، وَإِنْ شِئْتَ
أَمْدَدْتُكَ بِنَفْسِي مَعَ مَنْ خَفَّ مِنْ قَوْمِي. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنْ
كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، فَوَاللَّهِ مَا لَنَا
بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ. وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَوَاللَّهِ إِنَّ
بِنَا عَلَى النَّاسِ لَقُوَّةً، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ عَنْ قِتَالِ مُحَمَّدٍ
حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا
الْقِيَانُ، فَإِنَّ بَدْرًا مَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، وَسُوقٌ مِنْ
أَسْوَاقِهِمْ، حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدرا
و[لكن «٣»] جَرَى مَا جَرَى مِنْ هَلَاكِهِمْ. وَالْبَطَرُ فِي اللُّغَةِ.
التَّقْوِيَةُ بِنِعَمِ اللَّهِ عز وجل وَمَا أَلْبَسَهُ مِنَ الْعَافِيَةِ عَلَى
الْمَعَاصِي. وَهُوَ مَصْدَرٌ في موضع الحال. أي خرجوا بطرين مراءين صادين. وصدهم
إضلال الناس.
(١). الصبا (بالفتح): الريح الشرقية.
والدبور: الغربية.
(٢).
القيان: جمع قينة، وهى الامة مغنية كانت أو غير مغنية. والمعازف: الملاهي.
(٣).
من ج وك وى.
[سورة الأنفال (٨): آية ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ
لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ
لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَهُوَ مِنْ
بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَخَافُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ أَنْ
يَأْتُوهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ. فَلَمَّا
تَمَثَّلَ لَهُمْ قَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
جَاءَهُمْ إِبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَأَلْقَى فِي
قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ لَنْ يُهْزَمُوا وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِ
آبَائِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ
وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام فِي
خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةٍ «١»، وَمِيكَائِيلُ فِي
خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةٍ. وَجَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ
مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمَعَهُ رَايَةٌ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ،
وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ. فَقَالَ
الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جَارٌّ لَكُمْ، فَلَمَّا اصْطَفَّ الْقَوْمُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ:
اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ. وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ
فقال: (يا رب إنك تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ
أَبَدًا). فَقَالَ جِبْرِيلُ: (خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ) فَأَخَذَ قَبْضَةً
مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَهُ. فَوَلَّوْا
مُدْبِرِينَ، وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ
كَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ
ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ،
أَلَمْ تَزْعُمْ أَنَّكَ لنا جار، قال: إني برئ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا
تَرَوْنَ. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
كُرَيْزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله
(١). مجنبة الجيش: هي التي تكون في الميمنة
والميسرة وهما مجنبتان والنون مكسورة. وقيل: هي الكتيبة التي تأخذ إحدى ناحيتي
الطريق. [.....]
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا
رَأَى الشَّيْطَانُ نَفْسَهُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا
أَدْحَرَ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا
رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ
إِلَّا مَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ) قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ (أَمَا إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ «١» الْمَلَائِكَةَ).
وَمَعْنَى نَكَصَ: رَجَعَ بِلُغَةِ سُلَيْمٍ، عَنْ مُؤَرِّجٍ «٢» وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ النُّكُوصُ عَلَى
الْأَدْبَارِ مَكْرُمَةً ... إِنَّ الْمَكَارِمَ إِقْدَامٌ عَلَى الْأَسَلِ «٣»
وَقَالَ آخَرُ:
وَمَا يَنْفَعُ الْمُسْتَأْخِرِينَ
نُكُوصُهُمْ ... وَلَا ضَرَّ أَهْلَ السَّابِقَاتِ التقدم
وليس «٤» ها هنا قَهْقَرَى بَلْ هُوَ
فِرَارٌ، كَمَا قَالَ: (إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَدْبَرَ وَلَهُ ضُرَاطٌ).
(إِنِّي أَخافُ اللَّهَ) قِيلَ: خَافَ إِبْلِيسُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ بَدْرٍ
الْيَوْمَ الَّذِي أُنْظِرَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: كَذَبَ إِبْلِيسُ فِي قَوْلِهِ:«إِنِّي
أَخافُ اللَّهَ» وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لَهُ. وَيُجْمَعُ جَارٌ على
أجوار وجيران، وفي القليل جيرة.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٤٩]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
قِيلَ: الْمُنَافِقُونَ: الَّذِينَ
أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ: الشَّاكُّونَ، وَهُمْ دُونَ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ
بِالْإِسْلَامِ، وَفِيهِمْ بَعْضُ ضَعْفِ نِيَّةٍ. قَالُوا عِنْدَ الْخُرُوجِ
إِلَى الْقِتَالِ وَعِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ.
وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَوْلَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عز وجل:«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»
[البقرة: ٣] ثُمَّ قَالَ«وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» «٥» [البقرة: ٤] وهما لواحد.
(١). يزع الملائكة: أي يرتبهم ويسو يهم
ويصفهم للحرب.
(٢).
هو مؤرج بن عمرو السدوسي يكنى أبا فيد مات سنة ١٩٥ هـ.
(٣).
الأسل: الرماح والنبل.
(٤).
كذا في الأصول ما عدا نخ ز فيها: وليس التقدم هاهنا إلخ ولعل الصواب: وليس النكوص.
(٥).
راجع ج ١ ص ١٦٢.
[سورة الأنفال (٨): الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
قِيلَ: أَرَادَ مَنْ بَقِيَ وَلَمْ
يُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقِيلَ: هِيَ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ. وَجَوَابُ«لَوْ»
مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. (يَضْرِبُونَ) فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ. (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أَيْ أَسْتَاهَهُمْ، كَنَّى عَنْهَا
بِالْأَدْبَارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. الْحَسَنُ:
ظُهُورَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ بِظَهْرِ أَبِي جَهْلٍ مِثْلَ الشِّرَاكِ؟ «١» قَالَ:
(ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ). وَقِيلَ: هَذَا الضَّرْبُ يَكُونُ عِنْدَ
الْمَوْتِ. وَقَدْ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَصِيرُونَ بِهِمْ إِلَى
النَّارِ. (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى
وَيَقُولُونَ ذُوقُوا، فَحُذِفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. وَرُوِيَ أَنَّ
فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ مَقَامِعُ مِنْ
حَدِيدٍ، كُلَّمَا ضَرَبُوا الْتَهَبَتِ النَّارُ فِي الْجِرَاحَاتِ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ:«وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ». وَالذَّوْقُ يَكُونُ مَحْسُوسًا
وَمَعْنًى. وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، تَقُولُ:
ارْكَبْ هَذَا الْفَرَسَ فَذُقْهُ. وَانْظُرْ فُلَانًا فَذُقْ مَا عِنْدَهُ. قَالَ
الشَّمَّاخُ يَصِفُ فَرَسًا:
فَذَاقَ فَأَعْطَتْهُ مِنَ اللِّينِ
جَانِبًا ... كَفَى وَلَهًا أَنْ يُغْرِقَ السَّهْمَ حَاجِزُ «٢»
وَأَصْلُهُ مِنَ الذَّوْقِ
بِالْفَمِ. (ذلِكَ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. أَوْ«ذلِكَ»
جَزَاؤُكُمْ. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أَيِ اكْتَسَبْتُمْ مِنَ الْآثَامِ.
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) إِذْ قَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ
وَبَعَثَ الرُّسُلَ، فَلِمَ خَالَفْتُمْ؟.«وَأَنَّ» فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفٌ
عَلَى«مَا» وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ، بِمَعْنَى وَبِأَنَّ، وَحُذِفَتِ الْبَاءُ.
أَوْ بِمَعْنَى: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ نَسَقًا عَلَى ذلك.
(١). الشراك: سير النعل.
(٢).
في اللسان: أي لها حاجز يمنع من إغراق. أي فيها لين وشدة.
[سورة الأنفال (٨): آية ٥٢]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
الدَّأْبُ الْعَادَةُ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي«آلِ عِمْرَانَ» «١». أَيِ الْعَادَةُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عِنْدَ
قَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَفِي الْقُبُورِ كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى جُوزِيَ هَؤُلَاءِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا جُوزِيَ آلُ فِرْعَوْنَ
بِالْغَرَقِ. أَيْ دَأْبُهُمْ كدأب آل فرعون.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥٣]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
تَعْلِيلٌ. أَيْ هَذَا الْعِقَابُ،
لِأَنَّهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى قُرَيْشٍ الْخِصْبُ
وَالسَّعَةُ، وَالْأَمْنُ وَالْعَافِيَةُ.«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا
حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» «٢» [العنكبوت: ٦٧] الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ فَكَفَرُوا بِهِ، فَنُقِلَ إلى المدينة
وحل بالمشركين العقاب.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
لَيْسَ هَذَا بِتَكْرِيرٍ، لِأَنَّ
الْأَوَّلَ لِلْعَادَةِ فِي التَّكْذِيبِ، وَالثَّانِيَ لِلْعَادَةِ فِي التغيير،
وباقي الآية بين.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٥٥ الى ٥٦]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ
اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ
(٥٦)
(١). راجع ج ٤ ص ٢٢.
(٢).
راجع ج ١٣ ص ٣٦٣.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ مَنْ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي عِلْمِ
اللَّهِ وَحُكْمِهِ. (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
نَظِيرُهُ«الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» «١» [الأنفال: ٢٢]. ثم وصفهم فقال: (الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ)
أَيْ لَا يَخَافُونَ الِانْتِقَامَ. وَ«مِنْ» فِي قَوْلِهِ«مِنْهُمْ» للتبعيض، لان
العهد إنما كان يَجْرِي مَعَ أَشْرَافِهِمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَهُ. وَالْمَعْنِيُّ
بِهِمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. نَقَضُوا
الْعَهْدَ فَأَعَانُوا مُشْرِكِي مَكَّةَ بِالسِّلَاحِ، ثُمَّ اعْتَذَرُوا
فَقَالُوا: نَسِينَا، فَعَاهَدَهُمْ عليه السلام ثَانِيَةً فَنَقَضُوا يوم الخندق.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥٧]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَدَخَلَتِ
النُّونُ تَوْكِيدًا لَمَّا دَخَلَتْ مَا، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ: تَدْخُلُ النُّونُ الثَّقِيلَةُ وَالْخَفِيفَةُ مَعَ«إِمَّا» فِي
الْمُجَازَاةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُجَازَاةِ وَالتَّخْيِيرِ. ومعنى«تثقفنهم»
تأسر هم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقا هم بِحَالِ ضَعْفٍ، تَقْدِرُ عَلَيْهِمْ فِيهَا
وَتَغْلِبُهُمْ. وَهَذَا لَازِمٌ مِنَ اللَّفْظِ، لِقَوْلِهِ:«فِي الْحَرْبِ».
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: تُصَادِفَنَّهُمْ وَتَلْقَاهُمْ. يُقَالُ: ثَقِفْتُهُ
أَثْقَفُهُ ثَقَفًا، أَيْ وَجَدْتُهُ. وَفُلَانٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ أَيْ سَرِيعُ
الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوِلُهُ وَيَطْلُبُهُ. وَثَقْفٌ لَقْفٌ. وَامْرَأَةٌ
ثَقَافٌ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِارْتِبَاطِهِ بِالْآيَةِ كَمَا
بَيَّنَّا. وَالْمُصَادَفُ قَدْ يُغْلَبُ فَيُمْكِنُ التَّشْرِيدُ بِهِ، وَقَدْ
لَا يُغْلَبُ. وَالثِّقَافُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُشَدُّ بِهِ الْقَنَاةُ
وَنَحْوُهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
تَدْعُو قُعَيْنَا وَقَدْ عَضَّ
الْحَدِيدَ بِهَا ... عَضَّ الثِّقَافِ عَلَى صُمِّ الْأَنَابِيبِ «٢»
(فَشَرِّدْ
بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَعْنَى أَنْذِرْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، شَرِّدْ بِهِمْ
سَمِّعْ بِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَكِّلْ بِهِمْ. الزَّجَّاجُ: افْعَلْ
بِهِمْ فعلا
(١). راجع ج ٧ ص ٣٨٨.
(٢).
القعن (بالتحريك): قصر في الأنف فاحش. وقعين: حي مشتق منه، وهما قعينان: قعين في
بني أسد وقعين في قيس عيلان. والأنابيب: جمع أنبوبة وهي كعب القصبة والرمح.
مِنَ الْقَتْلِ تُفَرِّقْ بِهِ مَنْ
خَلْفَهُمْ. وَالتَّشْرِيدُ فِي اللُّغَةِ: التَّبْدِيدُ وَالتَّفْرِيقُ، يُقَالُ:
شَرَّدْتُ بَنِي فُلَانٍ قَلَعْتُهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ وَطَرَدْتُهُمْ عَنْهَا
حَتَّى فَارَقُوهَا. وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ، تَقُولُ: تَرَكْتُهُ شَرِيدًا عَنْ
وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ مِنْ هُذَيْلٍ:
أُطَوِّفُ فِي الْأَبَاطِحِ كُلَّ
يَوْمٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُشَرِّدَ بِي حَكِيمٌ
وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ
وَالدَّابَّةُ إِذَا فارق صاحبه. و «مَنْ» بمعنى الذي، قال الْكِسَائِيُّ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ«فَشَرِّذْ» بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُمَا
لُغَتَانِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: التَّشْرِيذُ (بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ)
التَّنْكِيلُ. وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ التَّفْرِيقُ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الذَّالُ لَا وَجْهَ لَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَدَلًا
مِنَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ لِتَقَارُبِهِمَا، ولا يعرف في اللغة«فشرذ». وقرى«من
خلفهم» بكسر الميم والفاء. (لعلهم يدكرون) أَيْ يَتَذَكَّرُونَ بِوَعْدِكَ
إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَنْ خَلْفَهُمْ، [لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ
لَا يَتَذَكَّرُ أَيْ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [«١» مَنْ عمل بمثل عملهم.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ (٥٨)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أَيْ غِشًّا وَنَقْضًا
لِلْعَهْدِ. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ. وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أن أم بَنِي
قُرَيْظَةَ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ«فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» ثُمَّ
ابْتَدَأَ تبارك وتعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَمْرِهِ فِيمَا يَصْنَعُهُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً، فَتَتَرَتَّبُ فِيهِمْ
هَذِهِ الْآيَةُ. [وَبَنُو قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُونُوا فِي حَدِّ مَنْ تُخَافُ
خِيَانَتُهُ [، وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمْ ظَاهِرَةً] مَشْهُورَةً [«٢».
الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ
الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا يَقِينَ مَعَهُ،
فَكَيْفَ يَسْقُطُ يَقِينُ الْعَهْدِ مَعَ ظَنِّ الْخِيَانَةِ. فَالْجَوَابُ من
(١). من ج، ك، ز، ى.
(٢).
التكملة عن تفسير ابن عطية.
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ
الْخَوْفَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الْيَقِينِ، كَمَا قَدْ يَأْتِي الرَّجَاءُ
بِمَعْنَى الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقارًا» «١» [نوح: ١٣].
الثَّانِي- إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُ
الْخِيَانَةِ وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا، وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ لِئَلَّا يُوقِعَ
التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ، وَجَازَ إِسْقَاطُ الْيَقِينِ هُنَا
ضَرُورَةً. وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْيَقِينُ فَيُسْتَغْنَى عَنْ نَبْذِ الْعَهْدِ
إِلَيْهِمْ، وَقَدْ سَارَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ،
لَمَّا اشْتُهِرَ مِنْهُمْ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ. وَالنَّبْذُ: الرَّمْيُ وَالرَّفْضُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
مَعْنَاهُ إِذَا عَاهَدْتَ قَوْمًا فَعَلِمْتَ مِنْهُمُ النَّقْضَ بِالْعَهْدِ
فَلَا تُوقِعْ بِهِمْ سَابِقًا إِلَى النَّقْضِ حَتَّى تُلْقِيَ إِلَيْهِمْ
أَنَّكَ قَدْ نقضت العهد والموادعة، فَيَكُونُوا فِي عِلْمِ النَّقْضِ
مُسْتَوِيِينَ، ثُمَّ أَوْقِعْ بِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا مِنْ مُعْجِزِ
مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ مِثْلُهُ عَلَى
اخْتِصَارِهِ وَكَثْرَةِ مَعَانِيهِ. وَالْمَعْنَى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ،
أَيْ قُلْ لَهُمْ قَدْ نَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، وَأَنَا مُقَاتِلُكُمْ،
لِيَعْلَمُوا ذَلِكَ فَيَكُونُوا مَعَكَ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً، وَلَا
تُقَاتِلْهُمْ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ يَثِقُونَ بِكَ، فَيَكُونُ
ذَلِكَ خِيَانَةً وَغَدْرًا. ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ:«إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْخائِنِينَ». قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالنَّحَّاسُ مِنْ
إِنْبَاذِ الْعَهْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِنَقْضِهِ يَرُدُّهُ فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي
فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيْهِمْ بَلْ
قَالَ: (اللهم اقطع خبر عَنْهُمْ) وَغَزَاهُمْ. وَهُوَ أَيْضًا مَعْنَى الْآيَةِ،
لِأَنَّ فِي قَطْعِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ وَنَكْثِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ حُصُولُ
نَقْضِ عَهْدِهِمْ وَالِاسْتِوَاءِ مَعَهُمْ. فَأَمَّا مَعَ غَيْرِ الْعِلْمِ
بِنَقْضِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ فَلَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ
وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ
وَالرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ لِيَقْرُبَ حَتَّى إِذَا
انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ
وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، [وَفَاءٌ لَا غَدْرُ [«٢»،
فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إليه معاومة فسأله
فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ
أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ
بِالنَّاسِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حسن صحيح. والسواء: المساواة
والاعتدال.
(١). راجع ج ١٨ ص ٣٠٣. [.....]
(٢).
زيادة عن سنن الترمذي وأبي داود.
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ
الْأَعْدَاءِ ... حَتَّى يُجِيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّوَاءُ
الْعَدْلُ. وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَسَطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فِي
سَواءِ الْجَحِيمِ» «١» [الصافات: ٥٥]. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ«فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» جَهْرًا لَا سِرًّا. الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ أَلَا وَلَا غَادِرَ
أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ). قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ: إِنَّمَا كَانَ الْغَدْرُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَعْظَمَ وَأَفْحَشَ
مِنْهُ فِي غَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا
غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ لَمْ
يَأْمَنْهُمُ الْعَدُوُّ عَلَى عَهْدٍ وَلَا صُلْحٍ، فَتَشْتَدُّ شَوْكَتُهُ
وَيَعْظُمُ ضَرَرُهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنِ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ،
وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْعَدُوِّ عَهْدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَحَيَّلَ عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ،
وَتُدَارَ عَلَيْهِ كُلُّ خَدِيعَةٍ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ ﷺ: (الْحَرْبُ
خُدْعَةٌ) «٢». وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُجَاهَدُ مَعَ الْإِمَامِ الْغَادِرِ
«٣»، عَلَى قَوْلَيْنِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَاتَلُ
مَعَهُ، بِخِلَافِ الْخَائِنِ وَالْفَاسِقِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الجهاد
معه. والقولان في مذهبنا.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أَيْ مَنْ أَفَلَتْ مِنْ وَقْعَةِ
بَدْرٍ سَبَقَ إِلَى الْحَيَاةِ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ:«إِنَّهُمْ لَا
يُعْجِزُونَ» أَيْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُظَفِّرَكَ اللَّهُ بِهِمْ. وَقِيلَ:
يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ«يَحْسَبَنَّ» بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، عَلَى
أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ. وَ«الَّذِينَ كَفَرُوا» مَفْعُولٌ
أَوَّلُ. وَ«سَبَقُوا» مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْيَاءِ فَزَعَمَ
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مِنْهُمْ أبو حاتم
(١). راجع ج ١٥ ص ٨٣.
(٢).
في كشف الخفا: مثلت الخاء والفتح أشهر والدال ساكنة فيهن قالوا: أفصحها الفتح مع
سكون الدال وهي لغة النبي ﷺ.
(٣).
العدو اليوم لا يعتد بعهد ولا ذمة ففاجأته من ضروب الفن الحربي.
أَنَّ هَذَا لَحْنٌ لَا تَحِلُّ
الْقِرَاءَةُ بِهِ، ولا تسع لِمَنْ عَرَفَ الْإِعْرَابَ أَوْ عُرِّفَهُ. قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِ«- يَحْسَبَنَّ» بِمَفْعُولٍ وَهُوَ
يَحْتَاجُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَحَامُلٌ شَدِيدٌ،
وَالْقِرَاءَةُ تَجُوزُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ خَلْفَهُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ،
إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَبْيَنُ. الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ
بِالْيَاءِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ ضَمِيرُ النَّبِيِّ ﷺ،
وَيَكُونَ«الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا» الْمَفْعُولَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ«الَّذِينَ كَفَرُوا» فَاعِلًا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ،
الْمَعْنَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا.
مَكِّيٌّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُضْمَرَ مَعَ سَبَقُوا أَنْ، فَيَسُدَّ مَسَدَّ
الْمَفْعُولَيْنِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
سَبَقُوا، فهو مثل«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» «١» [العنكبوت: ٢] فِي سَدِّ أَنْ مَسَدَّ
الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ«إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ» بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ. وَاسْتَبْعَدَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ
الْبَصْرِيِّينَ، [لَا يَجُوزُ] «٢» حَسِبْتُ زَيْدًا أَنَّهُ خَارِجٌ، إِلَّا
بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ
الْمُبْتَدَأِ، كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ زَيْدًا [أَبُوهُ خَارِجٌ، وَلَوْ
فَتَحْتَ لَصَارَ الْمَعْنَى حَسِبْتُ زَيْدًا] «٣» خُرُوجَهُ. وَهَذَا مُحَالٌ،
وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْبُعْدِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ يَصِحُّ بِهِ
مَعْنًى، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ«لَا» زَائِدَةً، وَلَا وَجْهَ لِتَوْجِيهِ حَرْفٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل إِلَى التَّطَوُّلِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَجِبُ
التَّسْلِيمُ لَهَا. وَالْقِرَاءَةُ جَيِّدَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ. مَكِّيٌّ: فَالْمَعْنَى لَا يَحْسَبَنَّ الْكُفَّارُ
أَنْفُسَهُمْ فَاتُوا لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونِ، أَيْ لَا يَفُوتُونَ. فَ«-
أَنَّ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِحَذْفِ اللَّامِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى
إِعْمَالِ اللَّامِ لِكَثْرَةِ حَذْفِهَا مَعَ«أَنَّ»، وَهُوَ يُرْوَى عَنِ
الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ«إِنَّ» عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِمَا فِيهِ
مِنْ مَعْنَى التَّأْكِيدِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
مُحَيْصِنٍ أَنَّهُ قَرَأَ«لَا يُعَجِّزُونِ» بِالتَّشْدِيدِ وَكَسْرِ النُّونِ.
النَّحَّاسُ: وَهَذَا خَطَأٌ من وجهين: أحدهما-
(١). راجع ج ١٣ ص ٣٢٣.
(٢).
زيادة عن إعراب القرآن للنحاس يقتضيها السياق.
(٣).
زيادة عن إعراب القرآن للنحاس يقتضيها السياق.
أَنَّ مَعْنَى عَجَّزَهُ ضَعَّفَهُ
وَضَعَّفَ أَمْرَهُ. وَالْآخَرُ- أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِنُونَيْنِ.
وَمَعْنَى أَعْجَزَهُ سَبَقَهُ وَفَاتَهُ حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ» أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الْمُؤْمِنِينَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ
تَقْدِمَةَ التَّقْوَى. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَوْ شَاءَ لَهَزَمَهُمْ
بِالْكَلَامِ وَالتَّفْلِ فِي وُجُوهِهِمْ وَبِحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ، كَمَا
فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْتَلِيَ بَعْضَ النَّاسِ
بِبَعْضٍ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ وَقَضَائِهِ النافذ. وكلما تَعُدُّهُ لِصَدِيقِكَ
مِنْ خَيْرٍ أَوْ لِعَدُوِّكَ مِنْ شَرٍّ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُدَّتِكَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُوَّةُ هَاهُنَا السِّلَاحُ وَالْقِسِيُّ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو عَلَى
الْمِنْبَرِ يَقُولُ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا
إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْيُ). وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ عَنْ عُقْبَةَ أَبُو عَلِيٍّ
ثُمَامَةُ بْنُ شُفَيٍّ الْهَمْدَانِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهُ.
وَحَدِيثٌ آخَرُ فِي الرَّمْيِ عَنْ عُقْبَةَ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ وَيَكْفِيكُمُ اللَّهُ فَلَا
يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ). وَقَالَ ﷺ: (كُلُّ شي يَلْهُو
بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ
وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ فَإِنَّهُ مِنَ الْحَقِّ). وَمَعْنَى هَذَا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ: أَنَّ كُلَّ مَا يَتَلَهَّى بِهِ الرَّجُلُ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ فِي
الْعَاجِلِ وَلَا فِي الْآجِلِ فَائِدَةً فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ
أَوْلَى. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُهَا
عَلَى أَنَّهُ يَتَلَهَّى بِهَا وَيَنْشَطُ، فَإِنَّهَا حَقٌّ لِاتِّصَالِهَا
بِمَا قَدْ يُفِيدُ، فَإِنَّ الرَّمْيَ بِالْقَوْسِ وَتَأْدِيبَ الْفَرَسِ
جَمِيعًا مِنْ معاون «١» القتال. وملاعبة
(١). من ج وك وز. وهو جمع معونة. وفي اوب:
تعاون.
الْأَهْلِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى مَا
يَكُونُ عَنْهُ وَلَدٌ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ، فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ
الثَّلَاثَةُ مِنَ الْحَقِّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ
وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنَّ الله
يُدْخِلُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي
صَنَعْتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ وَمُنْبِلَهُ (. وَفَضْلُ الرَّمْيِ عَظِيمٌ
وَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنِكَايَتُهُ شَدِيدَةٌ عَلَى
الْكَافِرِينَ. قَالَ ﷺ:) يَا بَنِي إِسْمَاعِيلَ ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ
رَامِيًا (. وَتَعَلُّمُ الْفُرُوسِيَّةِ وَاسْتِعْمَالُ الْأَسْلِحَةِ فَرْضُ
كِفَايَةٍ. وَقَدْ يَتَعَيَّنُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَمِنْ رِباطِ
الْخَيْلِ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو حَيْوَةَ«وَمِنْ
رُبُطِ الْخَيْلِ» بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاءِ، جَمْعُ رِبَاطٍ، كَكِتَابٍ
وَكُتُبٍ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْلِ
الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا، وَجَمَاعَتُهُ رُبُطٌ. وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِطُ، يُقَالُ
مِنْهُ: رَبَطَ يَرْبِطُ رَبْطًا. وَارْتَبَطَ يَرْتَبِطُ ارْتِبَاطًا. وَمَرْبِطُ
الْخَيْلِ وَمَرَابِطُهَا وَهِيَ ارْتِبَاطُهَا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا
لِعَدُوِّهِ ... فِي الْحَرْبِ إِنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوَفِّقِ
وَقَالَ مَكْحُولُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ:
تَلُومُ عَلَى رَبْطِ الْجِيَادِ
وَحَبْسِهَا ... وَأَوْصَى بِهَا اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا
وَرِبَاطُ الْخَيْلِ فَضْلٌ عَظِيمٌ
وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ. وَكَانَ لِعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ سَبْعُونَ فَرَسًا
مُعَدَّةٌ لِلْجِهَادِ. وَالْمُسْتَحَبُّ منها الإناث، قاله عِكْرِمَةُ
وَجَمَاعَةٌ. وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنُهَا كَنْزٌ وَظَهْرُهَا
عِزٌّ. وَفَرَسُ جِبْرِيلَ كَانَ أُنْثَى. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ لِرَجُلٍ أَجْرٌ
وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ) الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَخُصَّ ذَكَرًا مِنْ
أُنْثَى. وَأَجْوَدُهَا أَعْظَمُهَا أَجْرًا وَأَكْثَرُهَا نَفْعًا. وَقَدْ سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (أَغْلَاهَا ثَمَنًا
وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا). وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي وَهْبٍ
الْجُشَمِيِّ- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
(تَسَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عز
وجل عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَارْتَبِطُوا الْخَيْلَ
وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا
وَأَكْفَالِهَا وَقَلِّدُوهَا وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ «١» وَعَلَيْكُمْ
بِكُلِّ كُمَيْتٍ «٢» أَغَرَّ مُحَجَّلٍ أَوْ أَشْقَرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ أَوْ
أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ (. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:) خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْأَرْثَمُ «٣»
[ثُمَّ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ] «٤» طَلْقُ الْيَمِينِ «٥» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ عَلَى هَذِهِ الشِّيَةِ (. وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ
أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ فَرَسًا، فَأَيُّهَا أَشْتَرِي؟ قَالَ: (اشْتَرِ أَدْهَمَ
أَرْثَمَ مُحَجَّلًا طَلْقَ الْيَدِ الْيُمْنَى أَوْ مِنَ الْكُمَيْتِ عَلَى
هَذِهِ الشِّيَةِ تَغْنَمُ وَتَسْلَمْ). وَكَانَ ﷺ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنَ
الْخَيْلِ. وَالشِّكَالُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ فِي رِجْلِهِ الْيُمْنَى بَيَاضٌ
وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. وَيُذْكَرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّذِي
قُتِلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما كَانَ أَشْكَلَ.
الثَّالِثَةُ- فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ» كَانَ يَكْفِي، فَلِمَ خَصَّ الرَّمْيَ وَالْخَيْلَ بِالذِّكْرِ؟
قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْخَيْلَ لَمَّا كَانَتْ أَصْلَ الْحُرُوبِ وَأَوْزَارَهَا «٦»
الَّتِي عُقِدَ الْخَيْرُ فِي نَوَاصِيهَا، وَهِيَ أَقْوَى الْقُوَّةِ وَأَشَدُّ
الْعُدَّةِ وَحُصُونُ الْفُرْسَانِ، وَبِهَا يُجَالُ فِي الْمَيْدَانِ، خَصَّهَا
بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَأَقْسَمَ بِغُبَارِهَا تَكْرِيمًا. فقال:«وَالْعادِياتِ
ضَبْحًا» «٧» [العاديات:
١] الْآيَةَ.
وَلَمَّا كَانَتِ السِّهَامُ مِنْ أَنْجَعِ مَا يُتَعَاطَى فِي الْحُرُوبِ
وَالنِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ وَأَقْرَبِهَا تَنَاوُلًا لِلْأَرْوَاحِ، خَصَّهَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالذِّكْرِ لَهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. وَنَظِيرُ هذا في
التنزيل،«وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» «٨» [البقرة: ٩٨] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. الرَّابِعَةُ-
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ
الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، وَاتِّخَاذِ الْخَزَائِنِ وَالْخُزَّانِ لَهَا عُدَّةً
لِلْأَعْدَاءِ. وَقَدِ اختلف العلماء «٩» في جواز وقف الحيوان
(١). الأوتار: جمع وتر (بالكسر) وهو الدم.
والمعنى: لا تطلبوا عليها الأوتار والذحول التي وترتم بها في الجاهلية. وقيل: جمع
وتر القوس فإنهم كانوا يعلقونها بأعناق الدواب لدفع العين. وهو من شعار الجاهلية،
فكره ذلك.
(٢).
كميت (بالتصغير): هو الذي لونه بين السواد والحمرة يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والأغر: هو الذي في وجهه بياض. والمحجل: هو الذي في قوائمه بياض.
(٣).
الأرثم: الذي أنفه أبيض وشفته العليا.
(٤).
الأقرح: هو ما كان في جبهته قرحة وهي بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة.
(٥).
أي مطلقها ليس فيها تحجيل.
(٦).
أوزار الحرب: أثقالها من آلة حرب وسلاح وغرة. [.....]
(٧).
راجع ج ٢٠ ص ١٥٣.
(٨).
راجع ج ٢ ص ٣٦.
(٩).
في ج وز وهـ: عن مالك.
كَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ عَلَى
قَوْلَيْنِ: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالصِّحَّةُ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. وَهُوَ أَصَحُّ، لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ فِي الْفَرَسِ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي حَقِّ خَالِدٍ: (وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ
تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ «١» فِي
سَبِيلِ اللَّهِ) الْحَدِيثَ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَعَلَتْ بَعِيرًا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَرَادَ زَوْجُهَا الْحَجَّ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
فَقَالَ: (ادْفَعِيهِ إِلَيْهِ لِيَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ
اللَّهِ). وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي وَجْهِ قُرْبَةٍ، فَجَازَ أَنْ
يُوقَفَ كَالرُّبَاعِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
تَسْمِيَةَ خَيْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَآلَةَ حَرْبِهِ. مَنْ أَرَادَهَا وَجَدَهَا فِي
كِتَابِ الْأَعْلَامِ «٢». الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) يعني تخيفون به [عدو الله و«٣»] عدوكم مِنَ
الْيَهُودِ وَقُرَيْشٍ وَكُفَّارِ الْعَرَبِ. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) يَعْنِي
فَارِسَ وَالرُّومَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: الْجِنُّ. وَهُوَ اخْتِيَارُ
الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَاوَتُهُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قيل لهم قُرَيْظَةُ. وَقِيلَ: هُمْ مِنَ الْجِنِّ. وَقِيلَ
غَيْرُ ذلك. ولا ينبغي أن يقال فيهم شي، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ:«وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ»،
فَكَيْفَ يَدَّعِي أَحَدٌ عِلْمًا بِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ حَدِيثٌ جَاءَ فِي
ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (هُمُ
الْجِنُّ). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَخْبِلُ
أَحَدًا فِي دَارٍ فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ
قَدْ تَخَلَّصَ مِنَ الْهَجَّانَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَسْنَدَهُ الْحَارِثُ
بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُلَيْكِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرُوِيَ: أَنَّ الْجِنَّ لَا تَقْرَبُ دَارًا فِيهَا فَرَسٌ،
وَأَنَّهَا تَنْفِرُ مِنْ صَهِيلِ الْخَيْلِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) أَيْ تَتَصَدَّقُوا. وَقِيلَ: تُنْفِقُوهُ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوْ خَيْلِكُمْ. (فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فِي
الْآخِرَةِ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ [ضِعْفٍ «٤»]،
إِلَى أضعاف كثيرة. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
(١). الاعتاد، آلات الحرب من السلاح والدواب
وغيرها. راجع الحديث وشرحه في صحيح مسلم، كتاب الزكاة
(٢).
هو كتاب التعريف والاعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الاعلام. وهو كتاب مخطوط
محفوظ بدار الكتب تحت رقم ٢٣٢ و٤٣٩ تفسير.
(٣).
من ج، هـ، ز، ك.
(٤).
من ج، هـ، ز.
[سورة الأنفال (٨): آية ٦١]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(٦١)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الاولى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» إِنَّمَا
قَالَ«لَها» لِأَنَّ السَّلْمَ مُؤَنَّثَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْنِيثُ
لِلْفَعْلَةِ. وَالْجُنُوحُ الْمَيْلُ. يَقُولُ: إِنْ مَالُوا- يَعْنِي الَّذِينَ
نُبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدُهُمْ- إِلَى الْمُسَالَمَةِ، أَيِ الصُّلْحُ، فَمِلْ
إِلَيْهَا. وَجَنَحَ الرَّجُلُ إِلَى الْآخَرِ: مَالَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قِيلَ
لِلْأَضْلَاعِ جَوَانِحُ، لِأَنَّهَا مَالَتْ عَلَى الْحَشْوَةِ «١». وَجَنَحَتِ
الْإِبِلُ: إِذَا مَالَتْ أَعْنَاقُهَا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ
أَحْيَيْتُ رُوحَهُ ... بِذِكْرَاكَ وَالْعِيسُ الْمَرَاسِيلُ «٢» جُنَّحُ
وَقَالَ النَّابِغَةُ «٣»:
جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ
قَبِيلَةَ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلُ غَالِبِ
يَعْنِي الطَّيْرَ. وَجَنَحَ
اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ وَأَمَالَ أَطْنَابَهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَالسِّلْمُ
وَالسَّلَامُ هُوَ الصُّلْحُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَالْمُفَضَّلُ«لِلسَّلْمِ» بِكَسْرِ السِّينِ. الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي«الْبَقَرَةِ» «٤» مُسْتَوْفًى. وَقَدْ
يَكُونُ السَّلَامُ مِنَ التَّسْلِيمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ«فَاجْنَحْ» بِفَتْحِ
النُّونِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ«فَاجْنَحْ»
بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَهَذِهِ
اللُّغَةُ هِيَ الْقِيَاسُ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لَا. فَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ:
نَسَخَهَا«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» «٥»
[التوبة: ٥].«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً»
[التوبة: ٣٦] وَقَالَا: نَسَخَتْ بَرَاءَةٌ كُلَّ
مُوَادَعَةٍ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ابْنُ عَبَّاسٍ:
النَّاسِخُ لها«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ»
(١). الحشوة (بالضم والكسر): الأمعاء.
(٢).
العيس: الإبل البيض. والمراسيل: سهلة السير، وهي التي تعطيك ما عندها عفوا. وجنح:
مائلة صدورها إلى الأرض. وقيل: مائلة في سيرها من النشاط.
(٣).
في الأصول: (وقال عنترة) والتوصيب عن كتاب البحر لابي حيان وديوان النابغة.
(٤).
راجع ج ٣ ص ٢٢.
(٥).
راجع ص ٧٢ وص ١٣٦ من هذا الجزء.
«١» [محمد: ٣٥]. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ،
بَلْ أَرَادَ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ. وَقَدْ صَالَحَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي زَمَنِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بَعْدَهُ
مِنَ الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ، عَلَى مَا أَخَذُوهُ
مِنْهُمْ، وَتَرَكُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى
اسْتِئْصَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
الْبِلَادِ عَلَى مَالٍ يُؤَدُّونَهُ، مِنْ ذَلِكَ خَيْبَرُ، رَدَّ أَهْلَهَا
إِلَيْهَا بَعْدَ الْغَلَبَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا وَيُؤَدُّوا النِّصْفَ. قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ مُجَاهِدٌ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ قُرَيْظَةَ، لِأَنَّ
الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فلا يقبل منهم شي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ.: مَعْنَى الْآيَةِ إِنْ دَعَوْكَ إِلَى
الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ. وَلَا نَسْخَ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَبِهَذَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل:«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ» «٢» [محمد: ٣٥]. فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَجَمَاعَةً عَدِيدَةً، وَشِدَّةً شَدِيدَةً فَلَا
صُلْحَ، كَمَا قَالَ:
فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطَعْنَ
الْخَيْلُ بِالْقَنَا ... وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ
وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ
مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ، لِنَفْعٍ يَجْتَلِبُونَهُ، أَوْ ضَرَرٍ يَدْفَعُونَهُ،
فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ [بِهِ «٣»] إِذَا احْتَاجُوا
إِلَيْهِ. وَقَدْ صَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَهَلَّ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا
فَنَقَضَ صُلْحَهُمْ. وَقَدْ صَالَحَ الضَّمْرِيَّ «٤» وَأُكَيْدِرَ دَوْمَةَ
وَأَهْلَ نَجْرَانَ، وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشْرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى
نَقَضُوا عَهْدَهُ. وَمَا زَالَتِ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى هَذِهِ
السَّبِيلِ الَّتِي شَرَعْنَاهَا سَالِكَةً، وَبِالْوُجُوهِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا
عَامِلَةً. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْقُوَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ
فَيَنْبَغِي أَلَّا تَبْلُغَ الْهُدْنَةُ سَنَةً. وَإِذَا كَانَتِ الْقُوَّةُ
لِلْكُفَّارِ جَازَ مُهَادَنَتُهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ.
وَقَدْ هَادَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَهَلَّ مكة عشر سنين. قال ابن النذر: اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رسول الله صلى الله عليه
وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ أَرْبَعَ
سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت
(١). راجع ج ١٦ ص ٢٥٥.
(٢).
راجع ج ١٦ ص ٢٥٥. [.....]
(٣).
من ك وز وى وهـ.
(٤).
الضمري: هو مخشى بن عمرو الضمري، من بني ضمرة بن بكر. وكان هذا في غزوة الأبواء.
وأكيدر: هو أكيدر بن عبد الملك: رجل من كندة. ودومة: هي دومة الجندل مدينة قريبة
من دمشق.
عَشْرَ سِنِينَ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ
مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، عَلَى مَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ،
فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ مُنْتَقَضَةٌ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ فَرْضُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه:
تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ
السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَإِلَى غَيْرِ مُدَّةٍ. قَالَ
الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا قَاضَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي
ظَاهِرُهَا الْوَهَنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِسَبَبِ حَبْسِ اللَّهِ نَاقَةَ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ مَكَّةَ، حِينَ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا فَبَرَكَتْ. وَقَالَ:
(حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ). عَلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صُلْحِ الْمُشْرِكِينَ
وَمُهَادَنَتِهِمْ دُونَ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، إِذَا رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ
وَجْهًا. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ
يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ، لِمُوَادَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ
الْفَزَارِيِّ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ «١» الْمُرِّيِّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ،
عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمَا ثُلُثَ ثَمَرِ الْمَدِينَةِ، وَيَنْصَرِفَا بِمَنْ
مَعَهُمَا مِنْ غَطَفَانَ وَيَخْذُلَا قُرَيْشًا، وَيَرْجِعَا بِقَوْمِهِمَا
عَنْهُمْ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مُرَاوَضَةً «٢» وَلَمْ تَكُنْ عَقْدًا.
فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا قَدْ أَنَابَا وَرَضِيَا
اسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَذَا أَمْرٌ تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ لَكَ، أو شي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ
فَنَسْمَعُ لَهُ وَنُطِيعُ، أَوْ أَمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنَا؟ فَقَالَ: (بَلْ أَمْرٌ
أَصْنَعُهُ لَكُمْ فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ)،
فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ قَدْ كُنَّا
نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا
نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَمَا طَمِعُوا قَطُّ أَنْ يَنَالُوا مِنَّا
ثَمَرَةً، إِلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى، فَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ
بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا!
وَاللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ. فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: (أَنْتُمْ وَذَاكَ).
وَقَالَ لِعُيَيْنَةَ وَالْحَارِثِ: (انْصَرِفَا فَلَيْسَ لَكُمَا عِنْدَنَا
إِلَّا السَّيْفُ). وَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيفَةَ، وَلَيْسَ فِيهَا شَهَادَةُ
[أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله «٣»] فمحاها.
(١). في الأصول: (... بن نوفل) والتصويب عن
كتب السيرة.
(٢).
المراوضة: المداراة والمخاتلة.
(٣).
من ز.
[سورة الأنفال (٨): الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
(٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) أَيْ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَكَ السِّلْمَ، وَيُبْطِنُوا
الْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ، فَاجْنَحْ فَمَا عَلَيْكَ مِنْ نِيَّاتِهِمُ
الْفَاسِدَةِ. (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) كَافِيكَ اللَّهُ، أَيْ يَتَوَلَّى كِفَايَتَكَ
وَحِيَاطَتَكَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ
وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ
أَيْ كَافِيكَ وَكَافِي الضَّحَّاكِ
سَيْفٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أَيْ قَوَّاكَ
بِنَصْرِهِ. يُرِيدُ يَوْمَ بَدْرٍ. (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ
بَشِيرٍ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ. (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أَيْ جَمَعَ
بَيْنَ قُلُوبِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَكَانَ تَأَلُّفُ الْقُلُوبِ مَعَ
الْعَصَبِيَّةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْعَرَبِ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ
وَمُعْجِزَاتِهِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُلْطَمُ اللَّطْمَةَ فَيُقَاتِلُ
عَنْهَا حَتَّى يَسْتَقِيدَهَا. وَكَانُوا أَشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ حَمِيَّةً،
فَأَلَّفَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ، حَتَّى قَاتَلَ الرَّجُلُ أَبَاهُ
وَأَخَاهُ بِسَبَبِ الدِّينِ. وَقِيلَ: أَرَادَ التَّأْلِيفَ بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالْمَعْنَى متقارب.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦٤]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ
اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا فَإِنَّهُ
قَالَ فِيمَا سَبَقَ: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللَّهُ) وَهَذِهِ كِفَايَةٌ خَاصَّةٌ. وَفِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ) أَرَادَ التَّعْمِيمَ، أَيْ حَسْبُكَ اللَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ
كَانَ أَسْلَمَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَسِتُّ نِسْوَةٍ،
فَأَسْلَمَ عُمَرُ وَصَارُوا أَرْبَعِينَ. وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، كُتِبَتْ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ.
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِسْلَامِ
عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ وَقَعَ فِي السِّيرَةِ
خِلَافُهُ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (مَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى
أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ
قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. وَكَانَ
إِسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
إِلَى الْحَبَشَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، سِوَى أَبْنَائِهِمُ
الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا أَوْ وُلِدُوا بِهَا، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ
رَجُلًا، إِنْ كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْهُمْ. وَهُوَ يَشُكُّ فِيهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ
قَبْلَ الْقِتَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
قِيلَ: الْمَعْنَى حَسْبُكَ اللَّهُ، وَحَسْبُكَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَافِيكَ اللَّهُ، وَكَافِي مَنْ تَبِعَكَ، قَالَهُ
الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالْأَوَّلُ عَنِ الْحَسَنِ. وَاخْتَارَهُ
النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. فَ«- مَنِ» عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ، عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. عَلَى مَعْنَى: فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللَّهُ وَأَتْبَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى الثَّانِي عَلَى إِضْمَارٍ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ ﷺ: (يَكْفِينِيهِ اللَّهُ وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ) «١».
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [الْمَعْنَى «٢»] «وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ» حَسْبُهُمُ اللَّهُ، فَيُضْمَرُ الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ«مَنِ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى مَعْنَى: يَكْفِيكَ اللَّهُ وَيَكْفِي
مَنِ اتبعك «٣».
(١). يريد الأوس والخزرج، قبيلتي الأنصار.
وقيلة اسم أم لهم قديمة، وهي قيلة بنت كاهل.
(٢).
من ج وك وهـ.
(٣).
اضطربت عبارة الأصول هنا. والذي في إعراب القرآن للنحاس: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ). ابتداء وخبر، أي كافيك الله. ويقال: أحسبه إذا كفاه. (وَمَنِ
اتَّبَعَكَ) في موضع نصب معطوف على الكاف في التأويل، أي يكفيك الله عز وجل ويكفى
من اتبعك كما قال:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ
وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سيف مهند
ويجوز أن (مَنِ اتَّبَعَكَ) في موضع
رفع، وللنحويين فيه ثلاثة أقوال: قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: يكون
عطفا على اسم الله عز وجل، أي حسبك الله ومن اتبعك. قال: ومثله قول النبي عليه
السلام: (يكفينيه
الله عز وجل وأبناء قيلة). والقول الثاني- أن يكون التقدير: ومن اتبعك من المؤمنين
كذلك، على الابتداء والخبر، كما قال الْفَرَزْدَقُ:
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ
لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المال إلا مسحتا أو مجلف
والقول الثالث أحسنها- أنه يكون على
إضمار، بمعنى وحسبك من اتبعك. وهكذا الحديث على إضمار. وتركنا القول الأول لأنه
قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نهى أن يقال: ما شاء الله وشيت. والثاني-
فالشاعر مضطر، إذ كانت القصيدة مرفوعة. وإن كان فيه غير هذا.
[سورة الأنفال (٨): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أَيْ حُثَّهُمْ وَحُضَّهُمْ.
يُقَالُ: حَارَضَ عَلَى الْأَمْرِ وَوَاظَبَ وَوَاصَبَ وَأَكَبَّ بِمَعْنًى
وَاحِدٍ. وَالْحَارِضُ: الَّذِي قَدْ قَارَبَ الْهَلَاكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز
وجل:«حَتَّى
تَكُونَ حَرَضًا» «١» [يوسف: ٨٥] أَيْ تَذُوبُ غَمًّا، فَتُقَارِبُ
الْهَلَاكَ فَتَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لَفْظُ خَبَرٍ، ضِمْنُهُ وَعْدٌ بِشَرْطٍ،
لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ يَصْبِرْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ.
وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ مَوْضُوعٌ
عَلَى صُورَةِ الْجَمْعِ لِهَذَا الْعَدَدِ. وَيَجْرِي هَذَا الِاسْمُ مَجْرَى
فِلَسْطِينَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ كُسِرَ أَوَّلُ عِشْرِينَ وَفُتِحَ
أَوَّلُ ثَلَاثِينَ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الثَّمَانِينَ إِلَّا سِتِّينَ؟
فَالْجَوَابُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ عِشْرِينَ مِنْ عَشَرَةٍ بِمَنْزِلَةِ
اثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ، فَكُسِرَ أَوَّلُ عِشْرِينَ كَمَا كُسِرَ اثْنَانِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ: سِتُّونَ وَتِسْعُونَ، كَمَا قِيلَ: سِتَّةٌ
وَتِسْعَةٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ«إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» فَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ
عَشَرَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ:«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ» [قَرَأَ أَبُو «٢» تَوْبَةَ [إِلَى قَوْلِهِ:«مِائَةٌ صابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ». قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنَ
الْعَدَدِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: قَالَ قَوْمٌ إِنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَنُسِخَ. وَهَذَا
خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ. وَلَمْ يُنْقَلْ قط أن المشركين صافوا المسلمين
(١). راجع ج ٩ ص ٢٤٩ فما بعد.
(٢).
من ب وج وز وهـ وك.
عليها، ولكن الباري عز وجل فَرَضَ
ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، وَعَلَّقَ «١» ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا
تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا
يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
ذَلِكَ فَرْضٌ. ثُمَّ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَطَّ الْفَرْضَ إِلَى
ثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ، فَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَكَتَبَ عَلَيْهِمْ أَلَّا
يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَخْفِيفٌ لَا
نَسْخٌ. وَهَذَا حَسَنٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ أَنَّ
الْحُكْمَ إِذَا نُسِخَ بَعْضُهُ أَوْ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، أَوْ غُيِّرَ عَدَدُهُ
فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ نُسِخَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِالْأَوَّلِ،
بَلْ هُوَ غيره. وذكر في ذلك خلافا.
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦٧]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:» أَسْرى «جَمْعُ أَسِيرٍ، مِثْلُ قَتِيلٍ وَقَتْلَى وَجَرِيحٍ
وَجَرْحَى. وَيُقَالُ فِي جَمْعِ أَسِيرٍ أَيْضًا: أُسَارَى (بِضَمِّ الْهَمْزَةِ)
وَأَسَارَى (بِفَتْحِهَا) وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ. وَكَانُوا يَشُدُّونَ
الْأَسِيرَ بِالْقَدِّ وَهُوَ الْإِسَارُ، فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ وَإِنْ لَمْ
يُؤْسَرْ أَسِيرًا. قَالَ الْأَعْشَى:
وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ فِي بَيْتِهِ
... كَمَا قَيَّدَ الْآسِرَاتُ الْحِمَارَا
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ»
الْبَقَرَةِ" «٢». وَقَالَ أَبُو عمر بن العلاء: الأسرى هم غير الموثقين عند
ما يُؤْخَذُونَ، وَالْأُسَارَى هُمُ الْمُوثَقُونَ رَبْطًا. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ
أَنَّهُ سَمِعَ هَذَا مِنَ الْعَرَبِ. الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ
يَوْمَ بَدْرٍ، عِتَابًا مِنَ اللَّهِ عز وجل لِأَصْحَابِ نَبِيِّهِ ﷺ.
وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ
الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ يكون للنبي
(١). هكذا في نسخ الأصل، والذي في ابن
العربي: (وعلله بأنكم .. إلخ).
(٢).
راجع ج ص ٢١.
ﷺ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ «١».
وَلَهُمْ هَذَا الْإِخْبَارُ بِقَوْلِهِ«تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا».
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ بِاسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ وَقْتَ الْحَرْبِ، وَلَا
أَرَادَ قَطُّ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ جُمْهُورُ مُبَاشِرِي
الْحَرْبِ، فَالتَّوْبِيخُ وَالْعِتَابُ إِنَّمَا كَانَ مُتَوَجِّهًا بِسَبَبِ
مَنْ أَشَارَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِأَخْذِ الْفِدْيَةِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ. وَجَاءَ ذِكْرُ النَّبِيِّ
ﷺ فِي الْآيَةِ حِينَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حِينَ رَآهُ مِنَ الْعَرِيشِ وإذ كره سعد
ابن مُعَاذٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ،
وَلَكِنَّهُ عليه السلام شَغَلَهُ بَغْتُ الْأَمْرِ وَنُزُولُ النَّصْرِ فَتَرَكَ
النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِبْقَاءِ، وَلِذَلِكَ بَكَى هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ
نَزَلَتِ الْآيَاتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلُهُ فِي«آلِ عِمْرَانَ» «٢» وَهَذَا
تَمَامُهُ. قَالَ أَبُو زَمِيلٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا أَسَرُوا
الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (مَا تَرَوْنَ فِي
هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى)؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ بَنُو
الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونَ لَنَا
قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا تَرَى يَا بْنَ الْخَطَّابِ)؟ قُلْتُ: لَا
وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي
أرى أن تمكنا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنُ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ
فَيُضْرَبُ عنقه، وتمكني مِنْ فُلَانٍ (نَسِيبًا لِعُمَرَ) فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ،
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ
جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شي تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ،
فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ
لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ
أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ
أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) (شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ كَانَتْ مِنْ نَبِيِّ
اللَّهِ ﷺ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل«مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ» إِلَى قَوْلِهِ تعالى:«فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا»
[الأنفال: ٦٩] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ
لَهُمْ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هارون
(١). الإثخان في الشيء: المبالغة فيه
والإكثار منه، والمراد به هنا: المبالغة في قتل الكفار.
(٢).
راجع ج ٤ ص ١٩٣. [.....]
قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كان يوم بدر جئ بِالْأُسَارَى
وَفِيهِمُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ
الْأُسَارَى) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ،
اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرُ:
كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ وَقَاتَلُوكَ، قَدِّمْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ
فَأَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ وَهُوَ يَسْمَعُ: قَطَعْتَ
رَحِمَكَ. قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا.
فَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
وَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ
عُمَرَ. وَقَالَ أُنَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ
فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ وَيَشْدُدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ
حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ). مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ«فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ» «١» [إبراهيم: ٣٦] وَمَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ
عِيسَى إِذْ قَالَ«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «٢» [المائدة: ١١٨]. وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ
نُوحٍ عليه السلام إِذْ قَالَ«رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ
دَيَّارًا» «٣» [نوح: ٢٦].
وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى
عليه السلام إِذْ قَالَ«رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» «٤»
[يونس: ٨٨] أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلَا
يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ (. فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ
الْإِسْلَامَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُنِي أَخْوَفَ
أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:«مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إن كَادَ لَيُصِيبُنَا فِي خِلَافِ ابْنِ الْخَطَّابِ عَذَابٌ
وَلَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مَا أَفْلَتَ إِلَّا عُمَرُ). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ
عُمَرَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَخَذَ- يَعْنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
الْفِدَاءَ، أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل«مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ» إِلَى قَوْلِهِ«لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ»- مِنَ
الْفِدَاءِ-«عَذابٌ عَظِيمٌ» [الأنفال: ٦٨]. ثُمَّ أَحَلَّ الْغَنَائِمَ.
وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّهُ أول وقعة لنا مع المشركين
(١). راجع ج ٩ ص ٣٦٨.
(٢).
راجع ج ٦ ص ٣٧٧.
(٣).
راجع ج ١٨ ص ٣١٢.
(٤).
راجع ج ٨ ص ٣٧٤.
فَكَانَ الْإِثْخَانُ أَحَبَّ
إِلَيَّ. وَالْإِثْخَانُ: كَثْرَةُ الْقَتْلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. أَيْ
يُبَالِغُ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَثْخَنَ فُلَانٌ فِي
هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَالَغَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى يُقْهَرَ وَيُقْتَلَ.
وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ:
تُصَلِّي الضُّحَى مَا دَهْرُهَا
بِتَعَبُّدٍ ... وَقَدْ أَثْخَنْتَ فِرْعَوْنَ فِي كُفْرِهِ كُفْرًا
وَقِيلَ:«حَتَّى يُثْخِنَ»
يَتَمَكَّنُ. وَقِيلَ: الْإِثْخَانُ الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ. فَأَعْلَمَ اللَّهُ سبحانه
وتعالى أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى الَّذِينَ فُودُوا بِبَدْرٍ كَانَ أَوْلَى مِنْ
فِدَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ
وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ
أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل بَعْدَ هَذَا فِي الْأُسَارَى:«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِداءً» «١» [محمد: ٤] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي
سُورَةِ«الْقِتَالِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا
عُوتِبُوا لِأَنَّ قَضِيَّةَ بَدْرٍ كَانَتْ عَظِيمَةَ الْمَوْقِعِ وَالتَّصْرِيفِ
فِي صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ وَسَادَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالتَّمَلُّكِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ عَظِيمُ
الْمَوْقِعِ فَكَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوا الْوَحْيَ وَلَا يَسْتَعْجِلُوا،
فَلَمَّا اسْتَعْجَلُوا وَلَمْ يَنْتَظِرُوا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ مَا تَوَجَّهَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أن رسول الله
ﷺ قَالَ لِلنَّاسِ: (إِنْ شِئْتُمْ أَخَذْتُمْ فِدَاءَ الْأُسَارَى وَيُقْتَلُ
مِنْكُمْ فِي الْحَرْبِ سَبْعُونَ عَلَى عَدَدِهِمْ وَإِنْ شِئْتُمْ قُتِلُوا
وَسَلِمْتُمْ). فَقَالُوا: نَأْخُذُ الْفِدَاءَ وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا سَبْعُونَ.
وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِسَنَدِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام نَزَلَ
عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِتَخْيِيرِ النَّاسِ هَكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي«آلِ
عِمْرَانَ» «٢» الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: طَلَبُوا
الْخِيَرَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ.
وَيَنْشَأُ هُنَا إِشْكَالٌ وَهِيَ:- الرَّابِعَةُ- وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا
كَانَ التَّخْيِيرُ فَكَيْفَ وَقَعَ التَّوْبِيخُ بِقَوْلِهِ«لَمَسَّكُمْ».
فَالْجَوَابُ- أَنَّ التَّوْبِيخَ وَقَعَ أَوَّلًا لِحِرْصِهِمْ عَلَى أَخْذِ
الْفِدَاءِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَتْلِ
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ: أَسِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرٍ الَّذِي أَسَرَ أَخَاهُ: شُدَّ عَلَيْهِ يَدَكَ، فإن له أما
(١). راجع ج ١٦ ص ٢٢٦.
(٢).
راجع ج ٤ ص ١٩٣.
مُوسِرَةً. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
قَصَصِهِمْ وَحِرْصِهِمْ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ. فَلَمَّا تَحَصَّلَ الْأُسَارَى
وَسِيقُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْقَتْلَ فِي
النَّضْرِ وَعُقْبَةَ وَغَيْرِهِمَا وَجَعَلَ يَرْتَئِي فِي سَائِرِهِمْ نَزَلَ
التَّخْيِيرُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَصْحَابَهُ
حِينَئِذٍ، فَمَرَّ عُمَرُ عَلَى أَوَّلِ رَأْيِهِ فِي الْقَتْلِ، وَرَأَى أَبُو
بَكْرٍ الْمَصْلَحَةَ فِي قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَالِ الْفِدَاءِ. وَمَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ. وَكِلَا الرَّأْيَيْنِ اجْتِهَادٌ
بَعْدَ تَخْيِيرٍ. فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ عَلَى هَذَا شي مِنْ تَعْنِيتٍ «١».
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ كَانَ
بِبَدْرٍ أُسَارَى مُشْرِكُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ«مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ
لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ». وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ
وَفَادَوْا وَرَجَعُوا، وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا وَلَمْ
يَرْجِعُوا. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ
رَجُلًا، وَمِثْلُهُمْ أُسِرُوا. وَكَانَ الشهداء قليلا. وقال عَمْرِو بْنُ
الْعَلَاءِ: إِنَّ الْقَتْلَى كَانُوا سَبْعِينَ، وَالْأَسْرَى كَذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ
الصَّحِيحُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا
سَبْعِينَ. وَذَكَرَ البيهقي قالوا: فجئ بِالْأُسَارَى وَعَلَيْهِمْ شُقْرَانُ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا الَّذِينَ
أُحْصُوا، وَهُمْ سَبْعُونَ فِي الْأَصْلِ، مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ لَا شَكَّ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ«وَكَانُوا مُشْرِكِينَ» لِأَنَّ
الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْأُسَارَى قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: آمَنَّا بِكَ. وَهَذَا
كُلُّهُ ضَعَّفَهُ مَالِكٌ، وَاحْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ
رُجُوعِهِمْ وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ غَزَوْهُ فِي أُحُدٍ. قَالَ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ إِسْلَامِ الْعَبَّاسِ،
فَقِيلَ: أَسْلَمَ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: (مَنْ لَقِيَ
الْعَبَّاسَ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا أُخْرِجَ كَرْهًا). وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: (إِنَّ أُنَاسًا مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا لَا حَاجَةَ لَهُمْ
بِقِتَالِنَا فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ
وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ
فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا) وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَذُكِرَ
أَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ خيبر، وكان يكتب
(١). كذا في ج، ك، هـ. وفي ا، ب: تعنيته. وفي
ى: تعييب.
لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَخْبَارِ
الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُهَاجِرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: (أمكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا).
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦٨]
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى:«لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ
قَوْمًا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا مَا سَبَقَ مِنْ
إِحْلَالِ الْغَنَائِمِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ قَبْلَنَا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، أَسْرَعَ النَّاسُ إِلَى الْغَنَائِمِ فأنزل الله عز
وجل«لَوْلا
كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» أَيْ بِتَحْلِيلِ الْغَنَائِمِ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سَلَّامٌ عَنِ الْأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
تَعَجَّلَ النَّاسُ إِلَى الْغَنَائِمِ فَأَصَابُوهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
(إِنَّ الْغَنِيمَةَ لا تحل لاحد سود الرؤوس غيركم). فكان النبي ﷺ وَأَصْحَابُهُ
إِذَا غَنِمُوا الْغَنِيمَةَ جَمَعُوهَا وَنَزَلَتْ نَارٌ من السماء فأكلتها «١»،
فأنزل الله تعالى:«لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ.
وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقاله مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. وَعَنْهُمَا
أَيْضًا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ مَغْفِرَةُ اللَّهِ
لِأَهْلِ بَدْرٍ، مَا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ. وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي هَذَا
الذَّنْبِ، مُعَيَّنًا. وَالْعُمُومُ أَصَحُّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
لِعُمَرَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى
أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ). خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ وَمُحَمَّدٌ عليه
السلام فِيهِمْ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ أَلَّا يُعَذِّبَ أَحَدًا
بِذَنْبٍ أَتَاهُ جَاهِلًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
الْكِتَابُ السَّابِقُ هُوَ مِمَّا قَضَى اللَّهُ مِنْ مَحْوِ الصَّغَائِرِ
بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ
الْمَعَانِيَ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ اللَّفْظِ وَأَنَّهُ يَعُمُّهَا، وَنَكَبَ
عَنْ تخصيص معنى دون معنى.
(١). المشهور أن هذا كان في الأمم السالفة
فليتأمل.
الثَّانِيَةُ- ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ
حَرَامًا مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهُ حَلَالٌ لَهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ،
كَالصَّائِمِ إِذَا قَالَ: هَذَا يَوْمُ نَوْبِي «١» فَأُفْطِرُ الْآنَ. أَوْ
تَقُولُ الْمَرْأَةُ: هَذَا يَوْمُ حَيْضَتِي فَأُفْطِرُ، فَفَعَلَا ذَلِكَ،
وَكَانَ النَّوْبُ وَالْحَيْضُ الْمُوجِبَانِ لِلْفِطْرِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ
الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. وَجْهُ
الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ طُرُوَّ الْإِبَاحَةِ لَا يُثْبِتُ عُذْرًا فِي
عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الْهَتْكِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ
نَكَحَهَا. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ
عِنْدَ اللَّهِ عز وجل فَصَادَفَ الْهَتْكُ مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ
اللَّهِ، فَكَانَ بمنزلة ما لو قصد وطئ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَهُوَ
يَعْتَقِدُهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَتِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ. وَهَذَا
أَصَحُّ. وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سبحانه
وتعالى مَعَ عِلْمِنَا قَدِ اسْتَوَى فِي مَسْأَلَةِ التَّحْرِيمِ، وَفِي
مَسْأَلَتِنَا اخْتَلَفَ فِيهَا عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ فَكَانَ الْمُعَوَّلُ
عَلَى عِلْمِ اللَّهِ. كما قال:«لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ
فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
[سورة
الأنفال (٨): آية ٦٩]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا
طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ أَنْ تَكُونَ
الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا لِلْغَانِمِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا مُشْتَرِكِينَ فِيهَا
عَلَى السَّوَاءِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:«وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» [الأنفال: ٤١] بَيْنَ وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ
مِنْهُ وَصَرْفُهُ إِلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ
فِي هَذَا مستوفى.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٧٠ الى ٧١]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ
فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا
يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ
فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
فيه ثلاث مسائل:
(١). النوب: ما كان منك مسيرة يوم وليلة،
وقيل: على ثلاثة أيام. وقيل: ما كان على فرسخين أو ثلاثة.
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) قِيلَ:
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رضي الله عنه: الْأَسْرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَبَّاسٌ
وَأَصْحَابُهُ. قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَنَشْهَدُ
أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. وَفِي مُصَنَّفِ
أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ
فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ. وَعَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ،
فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ مُسْلِمًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ
فَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَكَانَ عَلَيْنَا فَافْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ
أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَقِيلَ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
فِهْرٍ (. وَقَالَ: مَا ذَاكَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:) فَأَيْنَ
الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا إِنْ
أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ لِبَنِي الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ
وَقُثَمٍ (؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ
اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ،
فَاحْسِبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرِينَ أُوقِيَّةً
مِنْ مَالٍ كَانَ مَعِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا ذَاكَ شي أَعْطَانَا
اللَّهُ مِنْكَ). فَفَدَى نَفْسَهُ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ وَحَلِيفَهُ، وَأَنْزَلَ
اللَّهُ فِيهِ:» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ
الْأَسْرى " الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَكْثَرُ الْأُسَارَى
فِدَاءً الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا،
فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ:
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا
عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ. فَقَالَ: (لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ دِرْهَمًا). وَذَكَرَ
النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُسَارَى كَانَ
أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
(أَضْعِفُوا الْفِدَاءَ عَلَى الْعَبَّاسِ) وَكَلَّفَهُ أَنْ يَفْدِيَ ابْنَيْ
أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل
ابن الْحَارِثِ فَأَدَّى عَنْهُمَا
ثَمَانِينَ أُوقِيَّةً، وَعَنْ نَفْسِهِ ثَمَانِينَ أُوقِيَّةً وَأُخِذَ مِنْهُ
عِشْرُونَ [أُوقِيَّةً «١»] وَقْتَ الْحَرْبِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَحَدَ
الْعَشَرَةِ الَّذِينَ ضَمِنُوا الْإِطْعَامَ لِأَهْلِ بَدْرٍ، فَبَلَغَتِ
النَّوْبَةُ إِلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا قَبْلَ أَنْ يُطْعِمَ،
وَبَقِيَتِ الْعِشْرُونَ مَعَهُ فَأُخِذَتْ مِنْهُ وَقْتَ الْحَرْبِ، فَأُخِذَ
مِنْهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ أُوقِيَّةٍ وَثَمَانُونَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ
الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لَقَدْ تَرَكْتَنِي مَا حَيِيتُ أَسْأَلُ قُرَيْشًا
بِكَفِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي تَرَكْتَهُ عِنْدَ
امْرَأَتِكَ أُمِّ الْفَضْلِ)؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَيُّ ذَهَبٍ؟ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّكَ قُلْتَ لَهَا لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي
هَذَا فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَهُوَ لَكِ وَلِوَلَدِكِ) فَقَالَ: يَا بْنَ
أَخِي، مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: (اللَّهُ أَخْبَرَنِي). قَالَ
الْعَبَّاسُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ
قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ إِلَّا
عَالِمُ السَّرَائِرِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَفَرْتُ بِمَا سِوَاهُ. وَأَمَرَ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ
فَأَسْلَمَا، فَفِيهِمَا نَزَلَتْ«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى». وَكَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ أَبَا الْيُسْرِ
كَعْبَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَلَمَةَ، وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا، وَكَانَ
الْعَبَّاسُ ضَخْمًا طَوِيلًا، فَلَمَّا جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيَّ ﷺ قَالَ
لَهُ: (لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ). الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا) أَيْ إِسْلَامًا.
يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ) أَيْ مِنَ الْفِدْيَةِ. قِيلَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مَالٌ مِنْ
الْبَحْرَيْنِ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ
عَقِيلًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (خُذْ) فَبَسَطَ ثَوْبَهُ وَأَخَذَ مَا
اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ. مُخْتَصَرٌ. فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: فَقَالَ لَهُ
الْعَبَّاسُ هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أُخِذَ مِنِّي، وَأَنَا بَعْدُ أَرْجُو أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَعْطَانِي زَمْزَمَ، وَمَا أُحِبُّ
أَنَّ لِي بِهَا جَمِيعَ أَمْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ إِلَى
الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: فِيَّ
نَزَلَتْ حِينَ أَعْلَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِإِسْلَامِي، وَسَأَلْتُهُ أَنْ
يُحَاسِبَنِي بِالْعِشْرِينَ أُوقِيَّةً الَّتِي أُخِذَتْ مِنِّي قَبْلَ
الْمُفَادَاةِ فَأَبَى. وقال: (ذلك في) فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عِشْرِينَ
عَبْدًا كُلُّهُمْ تَاجَرَ بِمَالِي. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ
(١). من ج وهـ. والجمل عن القرطبي.
عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي
فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ
عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ. قَالَتْ: فَلَمَّا
رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ: (إِنْ
رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي
لَهَا)؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ
أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدُ
بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: (كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ
«١» حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ: حُدِّثْتُ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّهَا
قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ قَالَ لِي: تَجَهَّزِي، فَالْحَقِي
بِأَبِيكِ. قَالَتْ: فَخَرَجْتُ أَتَجَهَّزُ فَلَقِيَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
فَقَالَتْ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكِ تُرِيدِينَ
اللُّحُوقَ بِأَبِيكِ؟ فَقُلْتُ لَهَا: مَا أَرَدْتُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ، أَيْ
بِنْتَ عَمِّ، لَا تَفْعَلِي، إِنِّي امْرَأَةٌ مُوسِرَةٌ وَعِنْدِي سِلَعٌ مِنْ
حَاجَتِكَ، فَإِنْ أَرَدْتِ سِلْعَةً بِعْتُكِهَا، أَوْ قَرْضًا مِنْ نَفَقَةٍ
أَقْرَضْتُكِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ.
قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا لِتَفْعَلَ، فَخِفْتُهَا
فَكَتَمْتُهَا وَقُلْتُ: مَا أُرِيدُ ذَلِكَ. فَلَمَّا فَرَغَتْ زَيْنَبُ مِنْ جِهَازِهَا
ارْتَحَلَتْ وَخَرَجَ بِهَا حَمُوهَا يَقُودُ بِهَا نَهَارًا كِنَانَةُ بْنُ
الرَّبِيعِ. وَتَسَامَعَ بِذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَخَرَجَ فِي طَلَبِهَا
هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ مبق إِلَيْهَا هَبَّارٌ فَرَوَّعَهَا بِالرُّمْحِ وَهِيَ فِي
هَوْدَجِهَا. وَبَرَكَ كِنَانَةُ وَنَثَرَ نَبْلَهُ، ثُمَّ أَخَذَ قَوْسَهُ
وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا.
وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا هَذَا، أَمْسِكْ
عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ:
إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ،
وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا بِبَدْرٍ فَتَظُنُّ الْعَرَبُ
وَتَتَحَدَّثُ أَنَّ هَذَا وَهَنٌ مِنَّا وَضَعْفٌ خُرُوجُكَ إِلَيْهِ بِابْنَتِهِ
عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا. ارْجِعْ بِالْمَرْأَةِ فَأَقِمْ
بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ سُلَّهَا «٢» سَلًّا رَفِيقًا فِي اللَّيْلِ فَأَلْحِقْهَا
بِأَبِيهَا، فَلَعَمْرِي مَا لَنَا
(١). يأجج (كيسمع وينصر ويضرب): موضع بمكة.
(٢).
انطلق بها في استخفاء.
بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا مِنْ
حَاجَةٍ، وَمَا لَنَا فِي ذَلِكَ الْآنَ مِنْ ثَؤْرَةٍ «١» فِيمَا أَصَابَ مِنَّا،
فَفَعَلَ فَلَمَّا مَرَّ بِهِ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ سَلَّهَا، فَانْطَلَقَتْ
حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَذَكَرُوا أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ
أَلْقَتْ- لِلرَّوْعَةِ الَّتِي أَصَابَتْهَا حِينَ رَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ
أُمِّ دِرْهَمٍ- مَا فِي بَطْنِهَا. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ:«لَمَّا أُسِرَ مَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَكَلَّمَ قَوْمٌ
مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُمْضُوا فِيهِ عَزِيمَةً وَلَا اعْتَرَفُوا بِهِ
اعْتِرَافًا جَازِمًا. وَيُشْبِهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْرُبُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَبْعُدُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنْ
تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ وَلَمْ يُمْضِ
فِيهِ عَزِيمَةً لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِ كَانَ كَافِرًا، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا
يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهَا وَأَسْقَطَهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ﷺ الْحَقِيقَةَ فقال: (وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ) أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خِيَانَةً وَمَكْرًا»
فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ«بِكُفْرِهِمْ ومكر هم بِكَ وَقِتَالِهِمْ لَكَ.
وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَيَعْلَمُهُ اللَّهُ فَيَقْبَلُ
مِنْهُمْ ذَلِكَ وَيُعَوِّضُهُمْ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُمْ وَيَغْفِرُ
لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَمَكْرِهِمْ». وَجَمْعُ
خِيَانَةٍ خَيَائِنُ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: خَوَائِنُ لِأَنَّهُ مِنْ
ذَوَاتِ الْوَاوِ، إِلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمْعِ
خَائِنَةٍ. وَيُقَالُ: خَائِنٌ وَخَوَّانٌ وخونة وخانة.
[سورة
الأنفال (٨): الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
(١). الثورة (بالضم): الثأر.
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) خَتَمَ السُّورَةَ بِذِكْرِ
الْمُوَالَاةِ لِيَعْلَمَ كُلُّ فَرِيقٍ وَلِيَّهُ الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ «١» لُغَةً وَمَعْنًى. (وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَهُمُ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَانْضَوَى إِلَيْهِمُ
النَّبِيُّ ﷺ وَالْمُهَاجِرُونَ. (أُولئِكَ) رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. (بَعْضُهُمْ)
ابْتِدَاءٌ ثَانٍ (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) خَبَرُهُ، وَالْجَمِيعُ خَبَرُ«إِنَّ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فِي الْمِيرَاثِ، فَكَانُوا
يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ لَا يَرِثُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ من
هاجر فنسخ الله ذلك بقوله:«وَأُولُوا الْأَرْحامِ» الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو
دَاوُدَ. وَصَارَ الْمِيرَاثُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَا
يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَيْئًا. ثُمَّ جَاءَ قَوْلُهُ عليه السلام:
(أَلْحِقُوا
الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آيَةِ
الْمَوَارِيثِ. وَقِيلَ: لَيْسَ هُنَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي
النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٢». (وَالَّذِينَ
آمَنُوا) ابْتِدَاءٌ وَالْخَبَرُ (مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ«مِنْ وَلايَتِهِمْ»
بِكَسْرِ الْوَاوِ. وَقِيلَ هِيَ لُغَةٌ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ
وَلَّيْتُ الشَّيْءَ، يُقَالُ: وَلِيٌّ بَيِّنُ الْوَلَايَةِ. وَوَالٍ بَيِّنُ
الْوَلَايَةِ. وَالْفَتْحُ فِي هَذَا أَبْيَنُ وَأَحْسَنُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى
النُّصْرَةِ وَالنَّسَبِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْوَلَايَةُ والولاية بمعنى الامارة.
(١). راجع ج ٣ ص ٤٩. [.....]
(٢).
راجع ج ٥ ص ٨٠.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) يُرِيدُ إِنْ دَعَوْا هَؤُلَاءِ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ
بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ فَأَعِينُوهُمْ، فَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْكُمْ
فَلَا تخذلوهم. إلا أن يستنصر وكم عَلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ فَلَا تنصر وهم عَلَيْهِمْ، وَلَا تَنْقُضُوا الْعَهْدَ حَتَّى تَتِمَّ
مُدَّتُهُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِلَّا أَنْ يَكُونُوا [أُسَرَاءَ «١»]
مُسْتَضْعَفِينَ فَإِنَّ الْوَلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ
وَاجِبَةٌ، حَتَّى لَا تَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى تخرج إلى استنقاذ هم
إِنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، أَوْ نَبْذُلُ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي
اسْتِخْرَاجِهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ. كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ
وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، عَلَى
مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ إِخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ
وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ، وَفُضُولُ الْأَحْوَالِ وَالْقُدْرَةُ
وَالْعَدَدُ وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ. الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ«فَعَلَيْكُمُ
النَّصْرُ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةُ
بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ
أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، وَالْكُفَّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، يَتَنَاصَرُونَ
بِدِينِهِمْ وَيَتَعَامَلُونَ بِاعْتِقَادِهِمْ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي
الْكَافِرَةِ يَكُونُ لَهَا الْأَخُ الْمُسْلِمُ: لَا يُزَوِّجُهَا، إِذْ لَا
وِلَايَةَ بَيْنَهُمَا، وَيُزَوِّجُهَا أَهْلُ مِلَّتِهَا. فَكَمَا لَا يُزَوِّجُ
الْمُسْلِمَةَ إِلَّا مُسْلِمٌ فَكَذَلِكَ الْكَافِرَةُ لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا
كَافِرٌ قَرِيبٌ لَهَا، أَوْ أُسْقُفٌ، وَلَوْ مِنْ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ
مُعْتَقَةً، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَقَةِ فُسِخَ إِنْ كَانَ
لِمُسْلِمٍ، وَلَا يَعْرِضُ لِلنَّصْرَانِيِّ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا يُفْسَخُ،
عَقْدُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا
تَفْعَلُوهُ) الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُوَارَثَةِ وَالْتِزَامِهَا.
الْمَعْنَى: إِلَّا تَتْرُكُوهُمْ يَتَوَارَثُونَ كَمَا كَانُوا يَتَوَارَثُونَ،
قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هِيَ عَائِدَةٌ عَلَى التَّنَاصُرِ
وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَاتِّصَالِ الْأَيْدِي. ابْنُ جُرَيْجٍ
وَغَيْرُهُ: وَهَذَا إِنْ لَمْ يُفْعَلْ تَقَعُ الْفِتْنَةُ عَنْهُ عَنْ قَرِيبٍ،
فَهُوَ آكَدُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَسَعْدٍ ابْنَيْ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي
حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إذا جاءكم من ترضون
(١). زيادة عن ابن العربي
دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (. قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟ قَالَ:) إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ
تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: حَدِيثٌ
غَرِيبٌ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى حِفْظِ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي
تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:«إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ».
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ فَهُوَ الْفِتْنَةُ نَفْسُهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ
عَلَى النَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ. وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ
الثَّانِي. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
أَهْلَ وَلَايَتِهِ فِي الدِّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ
بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ:«إِلَّا تَفْعَلُوهُ» وَهُوَ أَنْ
يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.«تَكُنْ فِتْنَةٌ» أَيْ
مِحْنَةٌ بِالْحَرْبِ، وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا مِنَ الْغَارَاتِ وَالْجَلَاءِ
وَالْأَسْرِ. وَالْفَسَادُ الْكَبِيرُ: ظُهُورُ الشِّرْكِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
وَيَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ:«تَكُنْ فِتْنَةٌ» عَلَى مَعْنَى تَكُنْ
فِعْلَتُكُمْ فِتْنَةً وَفَسَادًا كَبِيرًا. (حَقًّا) مَصْدَرٌ، أَيْ حَقَّقُوا
إِيمَانَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَحَقَّقَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ
بِالْبِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أَيْ ثَوَابٌ
عَظِيمٌ فِي الْجَنَّةِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا) يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْعَةِ
الرِّضْوَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ كَانَتْ أَقَلَّ
رُتْبَةً مِنَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى. وَالْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي
وَقَعَ فِيهَا الصُّلْحُ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا نَحْوَ عَامَيْنِ
ثُمَّ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ. وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ). فَبَيَّنَ
أَنَّ مَنْ آمَنَ وَهَاجَرَ مِنْ بَعْدُ يُلْتَحَقُ بِهِمْ. وَمَعْنَى«مِنْكُمْ»
أَيْ مِثْلَكُمْ في النصر والموالاة. السادسة- قوله تعالى: (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ) ابْتِدَاءٌ. وَالْوَاحِدُ ذُو، وَالرَّحِمُ مُؤَنَّثَةٌ، وَالْجَمْعُ
أرحام. والمراد بها ها هنا الْعَصَبَاتُ دُونَ الْمَوْلُودِ بِالرَّحِمِ. وَمِمَّا
يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّحِمِ الْعَصَبَاتُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
وَصَلَتْكَ رَحِمٌ. لَا يُرِيدُونَ قَرَابَةَ الْأُمِّ. قَالَتْ قَتِيلَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ- أُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ- كَذَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهَا بِنْتُ النَّضْرِ لَا أُخْتَهُ، كَذَا وَقَعَ
فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ- تَرْثِي أَبَاهَا حِينَ قَتَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ صبرا-
بالصفراء: «١»
(١). بقعة بين مكة والمدينة وتسمى وادي
الصفراء.
يَا رَاكِبًا إِنَّ الْأَثِيلَ
مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ
أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ
تَحِيَّةً ... مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ
مِنِّي إِلَيْكَ وَعَبْرَةٌ
مَسْفُوحَةٌ ... جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ
هَلْ يَسْمَعُنِي النَّضْرُ إِنْ
نَادَيْتُهُ ... أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا يَنْطِقُ
أَمُحَمَّدُ يَا خَيْرَ ضِنْءِ «١»
كَرِيمَةٍ ... فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقٌ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ
وَرُبَّمَا ... من الفتى وهو المغيط الْمُحْنَقُ
لَوْ كُنْتُ قَابِلَ فِدْيَةٍ
لَفَدَيْتُهُ ... بِأَعَزِ مَا يُفْدَى بِهِ مَا يُنْفِقُ
فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْتُ
قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ
تَنُوشُهُ ... لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ
صَبْرًا يُقَادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ
مُتْعَبًا ... رَسْفَ الْمُقَيَّدِ وَهْوَ عَانٍ مُوثَقُ
السَّابِعَة وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ- وَهُوَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ
فِي الْكِتَابِ- مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِعَصَبَةٍ، كَأَوْلَادِ
الْبَنَاتِ، وَأَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ، وَبَنَاتِ الْأَخِ، وَالْعَمَّةِ
وَالْخَالَةِ، وَالْعَمِّ أَخِ الْأَبِ لِلْأُمِّ، وَالْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ،
وَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ. فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَرِثُ
مَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عَلِيٍّ،
وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. وَقَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ: عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةُ
وَعَلِيٌّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ. وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ، وَقَالُوا: وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي ذَوِي
الْأَرْحَامِ سَبَبَانِ الْقَرَابَةُ وَالْإِسْلَامُ، فَهُمْ أَوْلَى مِمَّنْ لَهُ
سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. أَجَابَ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: هَذِهِ
آيَةٌ مُجْمَلَةٌ جَامِعَةٌ، وَالظَّاهِرُ بِكُلِّ رَحِمٍ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ،
وَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ مُفَسَّرَةٌ وَالْمُفَسَّرُ قَاضٍ عَلَى الْمُجْمَلِ
وَمُبَيِّنٌ. قَالُوا: وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الولاء سببا ثابتا، أقام
(١). الضنء (بالكسر): الأصل.
الْمَوْلَى فِيهِ مَقَامَ
الْعَصَبَةِ فَقَالَ: (الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ). وَنَهَى عَنْ بَيْعِ
الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. احْتَجَّ الْآخَرُونَ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْمِقْدَامِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ
تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيَّ- وَرُبَّمَا قَالَ فَإِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ-
وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ فَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ
أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَعْقِلُ
عَنْهُ وَيَرِثُهُ (. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَتْ
عَائِشَةُ رضي الله عنها:) اللَّهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ،
وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ (. مَوْقُوفٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:) الْخَالُ وَارِثٌ (.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ مِيرَاثِ
الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَقَالَ (لَا أَدْرِي حَتَّى يَأْتِيَنِي جِبْرِيلُ)
ثُمَّ قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ)؟ قَالَ:
فَأَتَى الرَّجُلُ فَقَالَ: (سَارَّنِي جِبْرِيلُ أَنَّهُ لا شي لَهُمَا). قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ مَسْعَدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ
قَالَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِجَلِيسِهِ: هَلْ تَدْرِي كَيْفَ قَضَى
عُمَرُ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ؟ قَالَ لَا. قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ
اللَّهِ كَيْفَ قَضَى فِيهِمَا عُمَرُ، جَعَلَ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ،
وَالْعَمَّةَ بمنزلة الأب.