recent
آخر المقالات

سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ

 

قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.

الْآيَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَإِنَّا نُبَيِّنُ ذَلِكَ.


فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ بِهِ ﷺ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ بِرُوحِهِ ﷺ دُونَ جَسَدِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ فِي الْمَنَامِ لَا الْيَقَظَةِ ; لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِالْجَسَدِ، وَالْمِعْرَاجَ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ ﷺ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، لِأَنَّهُ قَالَ بِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: سُبْحَانَ وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [٥٣ \ ١٧] لِأَنَّ الْبَصَرَ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.

[١٧ \ ١]

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، [١٧ \ ٦٠] فَإِنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ، لَا رُؤْيَا مَنَامٍ، كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةً، وَلَا سَبَبًا لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ ; لَأَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَيْسَتْ مَحَلَّ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ الْمَنَامَ قَدْ يُرَى فِيهِ مَا لَا يَصِحُّ. فَالَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِتْنَةً هُوَ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ.

فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ فِتْنَةً لَهُمْ. وَكَوْنُ الشَّجَرَةِ الْمُعَلْوَنَةِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِتْنَةً لَهُمْ: "أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ:

إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قَالُوا [٣٧ \ ٦٤]، ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ بِالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ، فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ!» كَمَا تَقَدَّمَ فِي «الْبَقَرَةِ».

وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِهَا رُؤْيَا عَيْنٍ يَقَظَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا الْآيَةَ [١٧ \ ١]، وَقَوْلُهُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.

[٥٣ \ ١٧ - ١٨] وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الرُّؤْيَا لَا تُطْلَقُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَةً إِلَّا عَلَى رُؤْيَا الْمَنَامِ مَرْدُودٌ. بَلِ التَّحْقِيقُ: أَنَّ لَفْظَ الرُّؤْيَا يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَقَظَةً أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي وَهُوَ عَرَبِيٌّ قُحٌّ:

فَكَبَّرَ لِلرُّؤْيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ ... وَبَشَّرَ نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا

فَإِنَّهُ يَعْنِي رُؤْيَةَ صَائِدٍ بِعَيْنِهِ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:

وَرُؤْيَاكَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ مِنَ الْغَمْضِ

قَالَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ.

وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [١٧ \ ٦٠] رُؤْيَا مَنَامٍ، وَأَنَّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ، [٤٨ \ ٢٧] وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ.

وَرُكُوبُهُ ﷺ عَلَى الْبُرَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجِسْمِهِ ; لِأَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الرُّكُوبُ عَلَى الدَّوَابِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ: «أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَأَنَّهُ عُرِجَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حَتَّى جَاوَزَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ».

وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كِلَيْهِمَا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا.

وَعَلَى ذَلِكَ مِنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ. وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ الْإِسْرَاءَ

الْمَذْكُورَ وَقَعَ مَنَامًا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ رَأَى الْإِسْرَاءَ الْمَذْكُورَ نَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ فَأُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ. كَمَا رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَجَاءَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ سَبْعٍ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، تَصْدِيقًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ الْآيَةَ [٤٨ \ ٢٧]، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الصَّحِيحُ: «فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ سَاءَ حِفْظُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ. وَرَوَاهَا عَنْ أَنَسٍ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَنَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَرِيكٌ الْمَذْكُورُ. وَانْظُرْ رِوَايَاتِهِمْ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَدْ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا حَسَنًا بِإِتْقَانٍ. ثُمَّ قَالَ رحمه الله: "وَالْحَقُّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُسَرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يَرْقَى فِيهَا، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكَلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي السَّابِعَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَنْزِلَيْهِمَا ﷺ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ - أَيْ: أَقْلَامِ الْقَدَرِ - بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مَنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ، وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَرَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بَانِيَ الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ. لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ ; رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ.

وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا. ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ. فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمَئِذٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَكِنْ

فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ. لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ اجْتَمَعَ بِهِ هُوَ وَإِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عليه السلام فِي ذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثَبَتَ الْإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الْحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكَرُ بَعْضَ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَسْطُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، تَرَكْنَاهُ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَتَوَاتُرِهِ فِي الْأَحَادِيثِ.

وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَائِدَتَيْنِ، قَالَ فِي أُولَاهُمَا:»فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ جَلِيلَةٌ. وَرَوَى الْحَافِظَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ إِلَى قَيْصَرَ. . .». فَذَكَرَ وُرُودَهُ عَلَيْهِ وَقُدُومَهُ إِلَيْهِ، وَفِي السِّيَاقِ دَلَالَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى وُفُورِ عَقْلِ هِرَقْلَ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَنْ بِالشَّامِ مِنَ التُّجَّارِ فَجِيءَ بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَجْتَهِدُ أَنَّ يُحَقِّرَ أَمْرَهُ وَيُصَغِّرَ عِنْدَهُ، قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ: "وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ قَوْلًا أُسْقِطُهُ بِهِ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَكْذِبَ عِنْدَهُ كِذْبَةً يَأْخُذُهَا عَلَيَّ وَلَا يُصَدِّقُنِي فِي شَيْءٍ. قَالَ: حَتَّى ذَكَرْتُ قَوْلَهُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا أُخْبِرُكَ خَبَرًا تَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ إِنَّهُ يَزْعُمُ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِنَا أَرْضِ الْحَرَمِ فِي لَيْلَةٍ، فَجَاءَ مَسْجِدَكُمْ هَذَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ، وَرَجَعَ إِلَيْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الصَّبَاحِ. قَالَ: وَبِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ عِنْدَ رَأْسِ قَيْصَرَ، فَقَالَ بِطْرِيقُ إِيلِيَاءَ: قَدْ عَلِمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.

قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَيْصَرُ. وَقَالَ: وَمَا عِلْمُكَ بِهَذَا؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ لَا أَنَامُ لَيْلَةً حَتَّى أُغْلِقَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ أَغْلَقْتُ الْأَبْوَابَ كُلَّهَا غَيْرَ بَابٍ وَاحِدٍ

غَلَبَنِي، فَاسْتَعَنْتُ عَلَيْهِ بِعُمَّالِي وَمَنْ يَحْضُرُنِي كُلُّهُمْ فَغَلَبَنَا، فَلَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نُحَرِّكَهُ كَأَنَّمَا نُزَاوِلُ بِهِ جَبَلًا، فَدَعَوْتُ إِلَيْهِ النَّجَاجِرَةَ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْبَابَ سَقَطَ عَلَيْهِ النِّجَافُ وَالْبُنْيَانُ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَرِّكَهُ، حَتَّى نُصْبِحَ فَنَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ أَتَى. قَالَ: فَرَجَعْتُ وَتَرَكْتُ الْبَابَيْنِ مَفْتُوحَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَتْ غَدَوْتُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا الْمَجَرُّ الَّذِي فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ مَثْقُوبٌ. وَإِذَا فِيهِ أَثَرُ مَرْبِطِ الدَّابَّةِ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: مَا حُبِسَ هَذَا الْبَابُ اللَّيْلَةَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ وَقَدْ صَلَّى اللَّيْلَةَ فِي مَسْجِدِنَا اهـ.

ثُمَّ قَالَ فِي الْأُخْرَى: «فَائِدَةٌ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْخَطَّابِ عُمَرُ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ (التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ) وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، وَأَبِي حَبَّةَ، وَأَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيَّيْنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَبُرَيْدَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَأَبِي الْحَمْرَاءِ، وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ، وَأُمِّ هَانِئٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ» فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ الزَّنَادِقَةُ وَالْمُلْحِدُونَ ; يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَحْسَنَ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي سُبْحَانَ [١٧ \ ١] أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانًا ; أَيْ تَسْبِيحًا. وَالتَّسْبِيحُ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ: التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لَفْظَةَ سُبْحَانَ عَلَمٌ لِلتَّنْزِيهِ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ لِمَعْنَى التَّنْزِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ يَكُونُ لِلْمَعْنَى كَمَا يَكُونُ لِلذَّاتِ: وَمِثْلُهُ بَرَّةُ لِلْمَبَرَّةِ كَذَا فُجَّارِ عَلَمٌ لِلْفَجَرَةِ

وَعَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ، وَأَنَّ مَعْنَى سُبْحَانَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَلَفْظَةُ سُبْحَانَ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ، وَوُرُودُهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ قَلِيلٌ. كَقَوْلِ

الْأَعْشَى:

فَقُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَلَمٍ مُلَازَمَتُهُ لِلْإِضَافَةِ وَالْأَعْلَامُ تَقِلُّ إِضَافَتُهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ لَفْظَةَ سُبْحَانَ غَيْرَ مُضَافَةٍ مَعَ التَّنْوِينِ وَالتَّعْرِيفِ. فَمِثَالُهُ مَعَ التَّنْوِينِ قَوْلُهُ: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ

وَمِثَالُهُ مُعَرَّفًا قَوْلُ الرَّاجِزِ:

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ذَا السُّبْحَانِ

وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا. إِذْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ وَصْفٌ أَعْظَمُ مِنْهُ لَعَبَّرَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْعَظِيمِ، الَّذِي اخْتَرَقَ الْعَبْدُ فِيهِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ، وَرَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي مَحْبُوبٍ مَخْلُوقٍ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى:

يَا قَوْمُ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّكْتَةِ الْبَلَاغِيَّةِ الَّتِي نَكَّرَ مِنْ أَجْلِهَا لَيْلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي [الْكَشَّافِ]: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا [١٧ \ ١] بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ: مِنَ اللَّيْلِ ; أَيْ بَعْضُ اللَّيْلِ. كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً [١٧ \ ٧٩] يَعْنِي بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ اه. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ: لَيْلًا أَيَّ لَيْلٍ، دَنَا فِيهِ الْمُحِبُّ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنْ أَسْرَى وَسَرَى لُغَتَانِ. كَسَقَى وَأَسْقَى، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ حَسَّانَ رضي الله عنه:

حَيِّ النَّضِيرَةَ رَبَّةَ الْخِدْرِ ... أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي

بِفَتْحِ التَّاءِ مَنْ «تَسْرِي» وَالْبَاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَالْبَاءِ فِي ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ

[٢ \ ١٧] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُ هَذَا فِي «سُورَةِ هُودٍ») .


تَنْبِيهٌ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ أَوْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: «رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا: «لَمْ يَرَهُ». وَهُوَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ: أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ. وَمَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ. فَالْمُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْقَلْبِ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» لَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه (وَهُوَ هُوَ فِي صِدْقِ اللَّهْجَةِ) سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. فَأَفْتَاهُ بِمَا مُقْتَضَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ»؟ .

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي. (ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثْنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ:»رَأَيْتُ نُورًا «هَذَا لَفَظَ مُسْلِمٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ: أَمَّا قَوْلُهُ ﷺ:»نُورًا أَنَّى أَرَاهُ «ا! فَهُوَ بِتَنْوِينِ» نُورٍ «وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي» أَنَّى «وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِهَا. وَ» أَرَاهُ «بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ. وَمَعْنَاهُ: حِجَابُهُ نُورٍ، فَكَيْفَ أَرَاهُ! .

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ رحمه الله: الضَّمِيرُ فِي» أَرَاهُ «عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ النُّورَ مَنَعَنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ. كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِغْشَاءِ الْأَنْوَارِ الْأَبْصَارَ، وَمَنْعِهَا مِنْ إِدْرَاكِ مَا حَالَتْ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَهُ.

وَقَوْلُهُ ﷺ:»رَأَيْتُ نُورًا «مَعْنَاهُ: رَأَيْتُ النُّورَ فَحَسْبُ، وَلَمْ أَرَ غَيْرَهُ. قَالَ: وَرُوِيَ» نُورَانِيٌّ " بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى مَا قُلْنَاهُ.

أَيْ خَالِقُ النُّورِ الْمَانِعِ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَمْ تَقَعْ إِلَيْنَا وَلَا رَأَيْنَاهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُصُولِ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ هُوَ مَا ذُكِرَ ; مِنْ كَوْنِهِ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِقُوَّةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ. وَمَنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ «حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ»؟ . أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ وَحِجَابُهُ نُورٌ، مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُوسَى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [٧ \ ١٤٣] ; لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ الْمُسْتَحِيلَ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ شَرْعًا وَوَاقِعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مُمْتَنِعَةٌ شَرْعًا فِي الدُّنْيَا قَالَ: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [٧ \ ١٤٣] إِلَى قَوْلِهِ: جَعَلَهُ دَكًّا [٧ \ ١٤٣] .

وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ [٥٣ \ ٨ - ٩] فَذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.

أَظْهَرُ التَّفْسِيرَاتِ فِيهِ: أَنَّ مَعْنَى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [١٧ \ ١] أَكْثَرْنَا حَوْلَهُ الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ بِالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [٢١ \ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [٢١ \ ٨١] ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ: الشَّامُ. وَالْمُرَادُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا: أَنَّهُ أَكْثَرَ فِيهَا الْبَرْكَةَ وَالْخَيْرَ بِالْخَصْبِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْمِيَاهِ. كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا أَنَّهُ بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ مِنْهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.

الظَّاهِرُ إِنَّمَا أَرَاهُ اللَّهَ مِنْ آيَاتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَرَاهُ إِيَّاهُ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. فَهَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ دَاخِلَةٌ عَلَى رَأَى الْبَصَرِيَّةِ ; كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا دَارَ عَمْرٍو. أَيْ جَعَلْتَهُ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ. ومِنْ فِي الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمَعْنَى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا: أَيْ بَعْضَ آيَاتِنَا فَنَجْعَلُهُ يَرَاهَا بِعَيْنِهِ. وَذَلِكَ مَا رَآهُ ﷺ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ. كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ.

وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [٥٣ \ ١٧ - ١٨] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ

; لِمَا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِظَمَ شَأْنِ نَبِيهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ذَكَرَ عِظَمَ شَأْنِ مُوسَى بِالْكِتَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. مُبَيِّنًا أَنَّهُ جَعَلَهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَكَرَّرَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [٣٢ \ ٢٣ - ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ [٢٨ \ ٤٣]، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [٦ \ ٥٤]، وَقَوْلِهِ: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [٧ \ ١٤٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا.

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ قَرَأَهُ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَلَا تَتَّخِذُونَ بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا فَ «أَنْ» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ. فَجَعَلَ التَّوْرَاةَ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُفَسِّرٌ بِنَهْيِهِمْ عَنِ اتِّخَاذِ وَكَيْلٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ كُلَّهُ فِي عِبَادَتِهِ هُوَ ثَمَرَةُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَ «لَا» فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَتَّخِذُوا [١٧ \ ٢] نَاهِيَةٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنَّ» وَصِلَتِهَا مَجْرُورٌ بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفِ. أَيْ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَجْلِ أَلَّا يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا. لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَكِيلِ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ، وَتُفَوَّضُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ مِنَ الْهُدَى. فَمَرْجِعُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ.

وَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ [٧٣ \ ٩]، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [٦٧ \ ٢٩] . وَقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ [٩ \ ١٢٩]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [٦٥ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [١٤ \ ١١ - ١٢]، وَقَوْلِهِ: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ [١١ \ ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [١٠ \ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [٣٣ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [٢٥ \ ٥٨]، وَقَوْلِهِ: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [٣ \ ١٧٣]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا.

وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ ; أَيْ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، تُفَوِّضُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. فَيُوصِلُ إِلَيْكُمُ النَّفْعَ، وَيَكُفُّ عَنْكُمُ الضُّرَّ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكِيلًا [١٧ \ ٢] ; أَيْ رِبًّا تَكِلُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ.

وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ وَكِيلٌ لِكِفَايَتِهِ وَقِيَامِهِ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى ارْتِفَاعِ مَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَانْحِطَاطِ أَمْرِ الْوَكِيلِ اه. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكِيلًا ; أَيْ شَرِيكًا، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ. حَكَاهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: رَبًّا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ. قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَافِيًا اه وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ: مَنْ يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ. فَتُفَوَّضُ الْأُمُورُ إِلَيْهِ، لِيَأْتِيَ بِالْخَيْرِ، وَيَدْفَعَ الشَّرَّ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَلِهَذَا حَذَّرَ مِنَ اتِّخَاذِ وَكِيلٍ دُونَهُ. لِأَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ، وَلَا كَافِيَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا. . عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ، تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجَّاهُمْ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ، لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ تَهْيِيجٌ لِذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ; أَيْ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ، فَنَجَّيْنَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، تَشَبَّهُوا بِأَبِيكُمْ، فَاشْكُرُوا نِعَمِنَا. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ الْآيَةَ [١٩ \ ٥٨] .

وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ مِنْ هُمْ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي حَمَلَهُمْ فِيهِ، وَبَيَّنَ مَنْ بَقِيَ لَهُ نَسْلٌ، وَعَقِبٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ انْقَطَعَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ مَعَ نُوحٍ: هُمْ أَهْلُهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ.

[١١ \ ٤٠] وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ قَوْمِهِ قَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [١١ \ ٤٠] .

وَبَيَّنَ أَنَّ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ بِالشَّقَاءِ امْرَأَتَهُ وَابْنَهُ. قَالَ فِي امْرَأَتِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ [٦٦ \ ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [٦٦ \ ١٠] . وَقَالَ فِي ابْنِهِ: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [١١ \ ٤٣] ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ الْآيَةَ. [١١ \ ٤٦]، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [١١ \ ٤٦] أَيِ: الْمَوْعُودُ بِنَجَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ الْآيَةَ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ فِيهِ هُوَ السَّفِينَةُ فِي قَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا الْآيَةَ [١١ \ ٤٠] ; أَيِ السَّفِينَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [٢٣ \ ٢٧] . أَيْ أَدْخِلْ فِيهَا - أَيِ السَّفِينَةِ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [٢٣ \ ٢٧] .

وَبَيَّنَ أَنَّ ذُرِّيَّةَ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا ذُرِّيَّةُ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [٣٧ \ ٧٧]، وَكَانَ نُوحٌ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا.

وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ [١٧ \ ٣]، أَنَّهُ مُنَادَى بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ، أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ: أَنَّهُ بِمَعْنَى أَخْبَرْنَاهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ.

وَمِنْ مَعَانِي الْقَضَاءِ: الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [١٥ \ ٦٦]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِـ «إِلَى» لِأَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْإِيحَاءِ. وَقِيلَ: مُضَمَّنٌ مَعْنَى: تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ - أَيْ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ - فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً. وَأَنَّ مَنْ أَسَاءَ - أَيْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي - فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُسِيءُ عَلَى نَفْسِهِ. لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا الْآيَةَ [٤١ \ ٤٦ و٤٥ \ ١٥]، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩ \ ٧ - ٨]، وَقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [٣٠ \ ٤٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [١٧ \ ٧] بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ فَعَلَيْهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [٤١ \ ٤٦، ٤٥ \ ١٥] . وَمِنْ إِتْيَانِ اللَّامِ بِمَعْنَى عَلَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ الْآيَةَ [١٧ \ ١٠٩] ; أَيْ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: فَسَلَامٌ لَكَ الْآيَةَ [٥٦ \ ٩١] . أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: قَوْلُ جَابِرٍ التَّغْلِبِيِّ، أَوْ شُرَيْحٍ الْعَبْسِيِّ، أَوْ زُهَيْرٍ الْمُزْنِيِّ أَوْ غَيْرِهِمْ:

تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى لَهُ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ

أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ. وَالتَّعْبِيرُ بِهَذِهِ اللَّامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ. كَمَا قَدَّمْنَا فِي نَحْوِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ الْآيَةَ [٤٢ \ ٤٠]، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

عَلَيْهِ الْآيَةَ [٢ \ ١٩٤] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ

الْآيَةَ. جَوَابُ إِذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَسُوءُوا [١٧ \ ٧] وَتَقْدِيرُهُ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَاهُمْ لِيَسُؤُوَا وُجُوهَكُمْ. بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأُولَى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا الْآيَةَ [١٧ \ ٥]، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مُشْكَلِ الْقُرْآنِ: وَنَظِيرُهُ فِي حَذْفِ الْعَامِلِ قَوْلُ حُمَيْدٍ بْنِ ثَوْرٍ:

رَأَتْنِي بِحَبَلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ

أَيْ: رَأَتْنِي أَقْبَلَتْ، أَوْ مُقْبِلًا. وَفِي هَذَا الْحَرْفِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ: قَرَأَهُ عَلَى الْكِسَائِيِّ «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ ; أَيْ لِنَسُوءَهَا بِتَسْلِيطِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْكُمْ يَقْتُلُونَكُمْ وَيُعَذِّبُونَكُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «لِيَسُوءَ وُجُوهُكُمْ» بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ. أَيْ لِيَسُوءَ هُوَ - أَيِ: اللَّهُ - وُجُوهَكُمْ بِتَسْلِيطِهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْكُمْ.

وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: [١٧ \ ٧] لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَاوُ الْجَمْعِ الَّتِي هِيَ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَنَصَبَهُ فَحَذَفَ النُّونَ، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَسْؤُوَا وُجُوهَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْقَتْلِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.

لَمَّا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَضَى إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأُولَى مِنْهُمَا: بَعَثَ عَلَيْهِمْ عِبَادًا لَهُ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، فَاحْتَلُّوا بِلَادَهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ. وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ: بَعَثَ عَلَيْهِمْ قَوْمًا لِيَسُوءُوا وُجُوهَهُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا.

وَبَيَّنَ أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧ \ ٨] وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا: هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ أَوْ لَا؟

وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَتْمِ صِفَاتِهِ وَنَقْضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ. فَعَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [١٧ \ ٨] فَسَلِّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، فَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ

وَخَيْبَرَ مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ.

فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [٢ \ ٨٩، ٩٠]، وَقَوْلُهُ: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [٢ \ ١٠٠]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ الْآيَةَ [٥ \ ١٣]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٥٩ \ ٢ - ٣، ٤٦]، وَتَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا الْآيَةَ [٣٣ \ ٢٦، ٢٧]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَتَرَكْنَا بَسْطَ قِصَّةِ الَّذِينَ سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا

. فِي قَوْلِهِ: حَصِيرًا [١٧ \ ٨] فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ قُرْآنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ، وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ ; فَنُورِدُ جَمِيعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَصِيرَ: الْمَحْبَسُ وَالسِّجْنُ ; مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ حَصَرَهُ يَحْصُرُهُ حَصْرًا: ضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَأَحَاطَ بِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ

تَعَالَى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [٢٥ \ ١٣]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى حَصِيرًا ; أَيْ: فِرَاشًا وَمِهَادًا، مِنَ الْحَصِيرِ الَّذِي يُفْرَشُ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبِسَاطَ الصَّغِيرَ حَصِيرًا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ الْآيَةَ [٧ \ ٤١]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

الْآيَةَ، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَجْمَعُهَا لِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَآخِرُهَا عَهْدًا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا، يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ; أَيِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي هِيَ أَسَدُّ وَأَعْدَلُ وَأَصْوَبُ. فَ الَّتِي نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ

وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْحَالَاتِ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَجْمَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهَا جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى إِلَى خَيْرِ الطَّرْقِ وَأَعْدَلِهَا وَأَصْوَبِهَا، فَلَوْ تَتَبَّعْنَا تَفْصِيلَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَأَتَيْنَا عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِشُمُولِهَا لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى إِلَى خَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَلَكِنَّنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَنَذْكُرُ جُمَلًا وَافِرَةً فِي جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هُدَى الْقُرْآنِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بَيَانًا لِبَعْضِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، تَنْبِيهًا بِبَعْضِهِ عَلَى كُلِّهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِظَامِ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُلْحِدُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَطَعَنُوا بِسَبَبِهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكَمِهَا الْبَالِغَةِ.

فَمِنْ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَدْ هَدَى الْقُرْآنُ فِيهِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا، وَهِيَ تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَفِي عِبَادَتِهِ، وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: تَوْحِيدُهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فِطْرُ الْعُقَلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الْآيَةَ [٤٣ \ ٨٧]، وَقَالَ: قُلْ مَنْ

يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنَ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [١٠ \ ٣١]، وَإِنْكَارُ فِرْعَوْنَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [٢٦ \ ٢٣] تَجَاهُلٌ عَنْ عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [١٧ \ ١٠٢]، وَقَوْلُهُ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [٢٧ \ ١٤]، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢ \ ١٠٦]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا.

الثَّانِي: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي عِبَادَتِهِ، وَضَابِطُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَهِيَ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا: خَلْعُ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ. وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا: إِفْرَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ بِإِخْلَاصٍ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَكْثَرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْمَعَارِكُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [٣٨ \ ٥] .

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الْآيَةَ [٤٧ \ ١٩]، وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [١٦ \ ٣٦]، وَقَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [٢١ \ ٢٥]، وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [٤٣ \ ٤٥]، وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [٢١ \ ١٠٨]، فَقَدْ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مَحْصُورٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، لِشُمُولِ كَلِمَةِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» لِجَمِيعِ مَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ ; لِأَنَّهَا تَقْتَضِي طَاعَةَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ. فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ كَثِيرَةٌ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ

يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي صِفَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [٤٢ \ ١١] .

وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ مَعَ قَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ، قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [٢٠ \ ١١٠]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُسْتَوْفًى مُوَضَّحًا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ «فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ» .

وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْكُفَّارِ بِاعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدٍ فِي عِبَادَتِهِ ; وَلِذَلِكَ يُخَاطِبُهُمْ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَوَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ [١٠ \ ٣١] إِلَى قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [١٠ \ ٣١] . فَلَّمَا أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِهِ غَيْرَهُ، بِقَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [١٠ \ ٣١] .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [٢٣ \ ٨٤، ٨٥]، فَلَمَّا اعْتَرَفُوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [٢٣ \ ٨٥]، ثُمَّ قَالَ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [٢٣ \ ٨٦ - ٨٧]، فَلَمَّا أَقَرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [٢٣ \ ٨٧]، ثُمَّ قَالَ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [٢٣ \ ٨٨، ٨٩]، فَلَمَّا أَقَرُّوا وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [٢٣ \ ٨٩] .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [١٣ \ ١٦]، فَلَمَّا صَحَّ الِاعْتِرَافُ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [١٣ \ ١٦] .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٤٣ \ ٨٧]، فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [٤٣ \ ٨٧] .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٢٩ \ ٦١]، فَلَمَّا صَحَّ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [٢٩ \ ٦١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٢٩ \ ٦٣]، فَلَمَّا صَحَّ إِقْرَارُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [٢٩ \ ٦٣]، وَقَوْلُهُ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٣١ \ ٢٥]، فَلَمَّا صَحَّ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٣١ \ ٢٥]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [٢٧ \ ٥٩ - ٦٠]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُمُ الْبَتَّةَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا، خَيْرٌ مِنْ جَمَادٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [٢٧ \ ٦٠]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [٢٧ \ ٦١] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ كَمَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢٧ \ ٦١]، ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [٢٧ \ ٦٢] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبْلَهُ. فَلَمَّا تَعَيَّنَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [٢٧ \ ٦٢]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [٢٧ \ ٦٣]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبِلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ إِقْرَارُهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [٢٧ \ ٦٣]، ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [٢٧ \ ٦٤]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ كَمَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ الِاعْتِرَافُ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٢٧ \ ٦٤]، وَقَوْلُهُ: اللَّهُ

الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [٣٠ \ ٤٠]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُمْ غَيْرُهُ هُوَ: لَا، أَيْ: لَيْسَ مِنْ شُرَكَائِنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، فَلَمَّا تَعَيَّنَ اعْتِرَافُهُمْ وَبَّخَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [٣٠ \ ٤٠] .

وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ هَذَا كَثِيرَةٌ جَدًّا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامَاتُ تَقْرِيرٍ، يُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا أَقَرُّوا رَتَّبَ لَهُمُ التَّوْبِيخَ وَالْإِنْكَارَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ ; لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ ضَرُورَةً ; نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [١٤ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [٦ \ ١٦٤]، وَإِنَّ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَلَيْسَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الرُّبُوبِيَّةَ، كَمَا رَأَيْتَ كَثْرَةَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.

وَالْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ التَّوْحِيدِ سَتَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، بِحَسْبَ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَى بَيَانِهَا بِآيَاتٍ أُخَرَ.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ جَعْلُهُ الطَّلَاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ [٦٥ \ ١]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ النِّسَاءَ مَزَارِعُ وَحُقُولٌ، تُبْذَرُ فِيهَا النُّطَفُ كَمَا يُبْذَرُ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [٢ \ ٢٢٣] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ: أَنَّ الزَّارِعَ لَا يُرْغَمُ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِي حَقْلٍ لَا يَرْغَبُ الزِّرَاعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَيْرَ صَالِحٍ لَهُ، وَالدَّلِيلُ الْحِسِّيُّ الْقَاطِعُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ زَارِعٌ، وَالْمَرْأَةَ مَزْرَعَةٌ، أَنَّ آلَةَ الِازْدِرَاعِ مَعَ الرَّجُلِ، فَلَوْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُجَامِعَ الرَّجُلَ وَهُوَ كَارِهٌ لَهَا، لَا رَغْبَةَ لَهُ فِيهَا لَمْ يَنْتَشِرْ، وَلَمْ يَقُمْ ذَكَرُهُ إِلَيْهَا فَلَا تَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرْغِمُهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَتَحْمِلُ وَتَلِدُ، كَمَا قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:

مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقُدٌ حُبُكَ ... النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ

فَدَلَّتِ الطَّبِيعَةُ وَالْخِلْقَةُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَأَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهِ، وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى نِسْبَةِ

الْوَلَدِ لَهُ لَا لَهَا.

وَتَسْوِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ مُكَابَرَةً فِي الْمَحْسُوسِ، كَمَا لَا يَخْفَى.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِبَاحَتُهُ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، لَزِمَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا، هِيَ إِبَاحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِأُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ يَعْرِفُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ.

مِنْهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ تَحِيضُ وَتَمْرَضُ، وَتَنْفَسُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ مِنْ قِيَامِهَا بِأَخَصِّ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالرَّجُلُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّسَبُّبِ فِي زِيَادَةِ الْأُمَّةِ، فَلَوْ حُبِسَ عَلَيْهَا فِي أَحْوَالِ أَعْذَارِهَا لَعُطِّلَتْ مَنَافِعُهُ بَاطِلًا فِي غَيْرِ ذَنْبٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الرِّجَالَ أَقَلُّ عَدَدًا مِنَ النِّسَاءِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ تَعَرُّضًا لِأَسْبَابِ الْمَوْتِ مِنْهُنَّ فِي جَمِيعِ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ قَصَرَ الرَّجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ، لَبَقِيَ عَدَدٌ ضَخْمٌ مِنَ النِّسَاءِ مَحْرُومًا مِنَ الزَّوَاجِ، فَيَضْطَرُّونَ إِلَى رُكُوبِ الْفَاحِشَةِ فَالْعُدُولُ عَنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَيَاعِ الْأَخْلَاقِ، وَالِانْحِطَاطِ إِلَى دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ فِي عَدَمِ الصِّيَانَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرَفِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِنَاثَ كُلَّهُنَّ مُسْتَعِدَّاتٌ لِلزَّوَاجِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِلَوَازِمِ الزَّوَاجِ لِفَقْرِهِمْ، فَالْمُسْتَعِدُّونَ لِلزَّوَاجِ مِنَ الرِّجَالِ أَقَلُّ مِنَ الْمُسْتَعِدَّاتِ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا عَائِقَ لَهَا، وَالرَّجُلُ يَعُوقُهُ الْفَقْرُ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى لَوَازِمَ النِّكَاحِ، فَلَوْ قَصَرَ الْوَاحِدُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، لَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْتَعِدَّاتِ لِلزَّوَاجِ أَيْضًا بِعَدَمِ وُجُودِ أَزْوَاجٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَيَاعِ الْفَضِيلَةِ وَتَفَشِّي الرَّذِيلَةِ، وَالِانْحِطَاطِ الْخُلُقِيِّ، وَضَيَاعِ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، فَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ الْآيَةَ [١٦ \ ٩٠]، وَالْمَيْلُ بِالتَّفْضِيلِ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُنَّ لَا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [٤ \ ١٢٩]، أَمَّا الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ بِمَحَبَّةِ بَعْضِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ دَفْعُهُ لِلْبَشَرِ، لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ وَتَأَثُّرٌ نَفْسَانِيٌّ لَا فِعْلٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [٤ \ ١٢٩]، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ أَعْدَاءِ دِينِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ يُلْزِمُهُ الْخِصَامَ وَالشَّغَبَ الدَّائِمَ الْمُفْضِي إِلَى نَكَدِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَرْضَى إِحْدَى الضَّرَّتَيْنِ سَخِطَتِ الْأُخْرَى، فَهُوَ بَيْنُ سَخْطَتَيْنِ دَائِمًا، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهُوَ كَلَامٌ سَاقِطٌ، يَظْهَرُ سُقُوطُهُ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ الْخِصَامَ وَالْمُشَاغَبَةَ بَيْنَ أَفْرَادِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْوَاحِدَةِ. فَهُوَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ، وَهُوَ فِي جَنْبِ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنْ صِيَانَةِ النِّسَاءِ وَتَيْسِيرِ التَّزْوِيجِ لِجَمِيعِهِنَّ، وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْأُمَّةِ لِتَقُومَ بِعَدَدِهَا الْكَثِيرِ فِي وَجْهِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ كَلَا شَيْءٍ; لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُظْمَى يُقَدَّمُ جَلْبُهَا عَلَى دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الصُّغْرَى.

فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُشَاغَبَةَ الْمَزْعُومَةَ فِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مَفْسَدَةٌ، أَوْ أَنَّ إِيلَامَ قَلْبِ الزَّوْجَةِ الْأَوْلَى بِالضَّرَّةِ مَفْسَدَةٌ، لَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْمَصَالِحُ الرَّاجِحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ عَاطِفًا عَلَى مَا تُلْفِي فِيهِ الْمَفْسَدَةَ الْمَرْجُوحَةَ فِي جَنْبِ الْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ:

أَوْ رَجَّحَ الْإِصْلَاحَ كَالْأَسَارَى ... تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى

وَانْظُرْ تَدَلِّي دَوَالِي الْعِنَبِ ... فِي كُلِّ مَشْرِقِ وَكُلِّ مَغْرِبٍ

فَفِدَاءُ الْأُسَارَى مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وَدَفْعُ فَدَائِهِمُ النَّافِعِ لِلْعَدُوِّ مَفْسَدَةٌ مَرْجُوحَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ، أَمَّا إِذَا تَسَاوَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمُفْسَدَةُ، أَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ أَرْجَحَ كَفِدَاءِ الْأُسَارَى بِسِلَاحٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ الْعَدُوُّ مِنْ قَتْلِ قَدْرِ الْأُسَارَى أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ تُلْغَى لِكَوْنِهَا غَيْرَ رَاجِحَةٍ، كَمَا قَالَ فِي الْمَرَاقِي:

اخْرُمْ مُنَاسِبًا بِمُفْسِدٍ لَزِمْ ... لِلْحُكْمِ وَهُوَ غَيْرُ مَرْجُوحٍ عُلِمْ

وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ تُعْصَرُ مِنْهُ الْخَمْرَ وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِلَّا أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُودِ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهَا أُلْغِيَتْ لَهَا تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ الْمَرْجُوحَةُ، وَاجْتِمَاعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الزِّنَى إِلَّا أَنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ مِنْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ يَجِبُ عَزْلُ النِّسَاءِ فِي مَحَلٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الرِّجَالِ، وَأَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِنَّ حِصْنٌ قَوِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهِنَّ مَعَهُ، وَتُجْعَلُ الْمَفَاتِيحُ بِيَدِ أَمِينٍ

مَعْرُوفٌ بِالتُّقَى وَالدِّيَانَةِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.

فَالْقُرْآنُ أَبَاحَ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ حِرْمَانِهَا مِنَ الزَّوَاجِ، وَلِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ بِعَدَمِ تَعَطُّلِ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعُذْرِ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ لِيَكْثُرَ عَدَدُهَا فَيُمْكِنُهَا مُقَاوَمَةُ عَدُوِّهَا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ تَشْرِيعُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لَا يَطْعَنُ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِظُلُمَاتِ الْكُفْرِ. وَتَحْدِيدُ الزَّوْجَاتِ بِأَرْبَعٍ ; تَحْدِيدٌ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَمْرٌ وَسَطٌ بَيْنَ الْقِلَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى تَعَطُّلِ بَعْضِ مَنَافِعِ الرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِلَوَازِمَ الزَّوْجِيَّةِ لِلْجَمِيعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: تَفْضِيلُهُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٤ \ ١٧٦] .

وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ هَذَا الْبَيَانَ الَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لِئَلَّا يَضِلُّوا، فَمِنْ سَوَّى بَيْنِهِمَا فِيهِ فَهُوَ ضَالٌّ قَطْعًا.

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَبِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٤ \ ١٧٦]، وَقَالَ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤ \ ١١] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدَلُهَا: تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ ; أَيْ وَهُوَ الرِّجَالُ عَلَى بَعْضٍ [٤ \ ٣٤]، أَيْ وَهُوَ النِّسَاءُ، وَقَوْلِهِ: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [٢ \ ٢٢٨]، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ فِي كَمَالٍ خِلْقِيٍّ، وَقُوَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ، وَشَرَفٍ وَجَمَالٍ، وَالْأُنُوثَةُ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وَضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، كَمَا هُوَ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، لَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ فِي الْمَحْسُوسِ.

وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ \ ١٨] ; لِأَنَّ اللَّهَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا لَهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَلَدِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَسَبُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ وَأَنْقَصَهُمَا وَأَضْعَفَهُمَا، وَلِذَلِكَ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ; أَيِ: الزِّينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ لِيَجْبُرَ نَقْصَهُ الْخِلْقِيَّ

الطَّبِيعِيَّ بِالتَّجْمِيلِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَهُوَ الْأُنْثَى. بِخِلَافِ الرَّجُلِ، فَإِنَّ كَمَالَ ذُكُورَتِهِ وَقُوَّتَهَا وَجَمَالَهَا يَكْفِيهِ عَلَى الْحُلِيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةً مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا ... كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا

وَقَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [٥٣ \ ٢١ - ٢٢]، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ ضِيزَى - أَيْ غَيْرُ عَادِلَةٍ - لِأَنَّ الْأُنْثَى أَنْقَصُ مِنَ الذَّكَرِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً، فَجَعَلُوا هَذَا النَّصِيبَ النَّاقِصَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلْوًا كَبِيرًا! وَجَعَلُوا الْكَامِلَ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [١٦ \ ٦٢]، أَيْ وَهُوَ الْبَنَاتُ. وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [١٦ \ ٥٨، ٥٩]، وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا - أَيْ وَهُوَ الْأُنْثَى - ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [٤٣ \ ١٧] .

وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُنْثَى نَاقِصَةٌ بِمُقْتَضَى الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَأَنَّ الذَّكَرَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا: أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [٣٧ \ ١٥٣ - ١٥٤]، أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا الْآيَةَ [١٧ \ ٤٠]، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْأُنْثَى مَتَاعٌ لَا بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِشُئُونِهَا وَيُحَافِظُ عَلَيْهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّمَتُّعِ بِالزَّوْجَةِ: هَلْ هُوَ قُوتٌ؟ أَوْ تَفَكُّهٌ؟ وَأَجْرَى عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حُكْمَ إِلْزَامِ الِابْنِ بِتَزْوِيجِ أَبِيهِ الْفَقِيرِ، قَالُوا: فَعَلَى أَنَّ النِّكَاحَ قُوتٌ فَعَلَيْهِ تَزْوِيجُهُ؟ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوتِ الْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَلَى أَنَّهُ تَفَكُّهٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فَانْظُرْ شِبْهَ النِّسَاءِ بِالطَّعَامِ وَالْفَاكِهَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْجِهَادِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الْغَانِمِينَ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْأُولَى خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِ الرَّجُلِ الْأَوَّلِ. فَأَصْلُهَا جُزْءٌ مِنْهُ. فَإِذَا عَرَفَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ: أَنَّ الْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وَضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُدْرِكُ الْحِكَمَ وَالْأَسْرَارَ، يَقْضِي بِأَنَّ النَّاقِصَ الضَّعِيفَ بِخِلْقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ نَظَرِ الْكَامِلِ فِي خِلْقَتِهِ، الْقَوِيِّ بِطَبِيعَتِهِ ;

لِيَجْلِبَ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ مِنَ الضُّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٤ \ ٣٤] .

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّعِيفُ النَّاقِصُ مُقَوَّمًا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْقَوِيِّ الْكَامِلِ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُلْزَمًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نِسَائِهِ، وَالْقِيَامِ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِنَّ فِي الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [٤ \ ٣٤]، وَمَالُ الْمِيرَاثِ مَا مَسَحَا فِي تَحْصِيلِهِ عَرَقًا، وَلَا تَسَبَّبَا فِيهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْلِيكٌ مِنَ اللَّهِ مَلَّكَهُمَا إِيَّاهُ تَمْلِيكًا جَبْرِيًّا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ أَنْ يُؤْثِرَ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْمِيرَاثِ وَإِنْ أَدْلَيَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دَائِمًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نِسَائِهِ، وَبِذْلِ الْمُهُورِ لَهُنَّ، وَالْبَذْلِ فِي نَوَائِبِ الدَّهْرِ، وَالْمَرْأَةُ مُتَرَقِّبَةٌ لِلزِّيَادَةِ بِدَفْعِ الرَّجُلِ لَهَا الْمَهْرَ، وَإِنْفَاقِهِ عَلَيْهَا وَقِيَامِهِ بِشُئُونِهَا، وَإِيثَارُ مُتَرَقِّبُ النَّقْصِ دَائِمًا عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ دَائِمًا لِجَبْرِ بَعْضِ نَقْصِهِ الْمُتَرَقِّبِ، حِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ، لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤ \ ١١]، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي بَيِّنَا بِهَا فَضْلَ نَوْعِ الذَّكَرِ عَلَى نَوْعِ الْأُنْثَى فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، جَعَلَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الرَّجُلَ هُوَ الْمَسْئُولَ عَنِ الْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا. وَخَصَّهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَافَةِ دُونَهَا، وَمَلَّكَهُ الطَّلَاقَ دُونَهَا، وَجَعَلَهَ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ دُونَهَا، وَجَعَلَ انْتِسَابَ الْأَوْلَادِ إِلَيْهِ لَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [٢ \ ٢٨٢]، وَجَعَلَ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقَصَاصِ دُونَهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَارِقِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُمَا.

أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّعْفَ الْخِلْقِيَّ وَالْعَجْزَ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ عَيْبٌ نَاقِصٌ فِي الرِّجَالِ، مَعَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا الْقُلُوبَ، قَالَ جَرِيرٌ:

إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمَّ يُحْيِينَ قَتْلَانَا

يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ ... بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا

وَقَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ:

بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا ... لَهُ بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ

فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ ... وَلَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبُ

فَالْأَوَّلُ: تَشَبَّبَ بِهِنَّ بِضَعْفِ أَرْكَانِهِنَّ، وَالثَّانِي: بِعَجْزِهِنَّ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ \ ١٨]، وَلِهَذَا التَّبَايُنِ فِي الْكَمَالِ وَالْقُوَّةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّعْنَ عَلَى مَنْ تَشَبَّهَ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [٥٩ \ ٧]، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَمَا تَقَدَّمَ.

فَلْتَعْلَمْنَ أَيَّتُهَا النِّسَاءُ اللَّاتِي تُحَاوِلْنَ أَنْ تَكُنَّ كَالرِّجَالِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ أَنَّكُنَّ مُتَرَجِّلَاتٌ مُتَشَبِّهَاتٌ بِالرِّجَالِ، وَأَنَّكُنَّ مَلْعُونَاتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُونَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِالنِّسَاءِ، فَهُمْ أَيْضًا مَلْعُونُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ فِيهِمْ:

وَمَا عَجَبِي أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ ... وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عُجَابُ

وَاعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ: أَنَّ هَذِهِ الْفِكْرَةَ الْكَافِرَةَ، الْخَاطِئَةَ الْخَاسِئَةَ، الْمُخَالِفَةَ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلَ، وَلِلْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ وَتَشْرِيعِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ مِنْ تَسْوِيَةِ الْأُنْثَى بِالذِّكْرِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالْمَيَادِينِ، فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ الْأُنْثَى بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا صَالِحَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، صَلَاحًا لَا يُصْلِحُهُ لَهَا غَيْرُهَا، كَالْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَالْإِرْضَاعِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَالْقِيَامِ عَلَى شُئُونِهِ. مِنْ طَبْخٍ وَعَجْنٍ وَكَنْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْخِدْمَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا لِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ دَاخِلَ بَيْتِهَا فِي سَتْرٍ وَصِيَانَةٍ، وَعَفَافٍ وَمُحَافِظَةٍ عَلَى الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا تَقِلُّ عَنْ خِدْمَةِ الرَّجُلِ بِالِاكْتِسَابِ، فَزَعَمَ أُولَئِكَ السَّفَلَةُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَتْبَاعِهِمْ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ فِي الْخِدْمَةِ خَارِجَ بَيْتِهَا مِثْلُ مَا لِلرَّجُلِ، مَعَ أَنَّهَا فِي زَمَنِ حَمْلِهَا وَرِضَاعِهَا وَنِفَاسِهَا، لَا تَقْدِرُ عَلَى مُزَاوَلَةِ أَيِّ عَمَلٍ فِيهِ أَيُّ مَشَقَّةٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا بَقِيَتْ خِدْمَاتُ الْبَيْتِ كُلُّهَا ضَائِعَةً: مِنْ حِفْظِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، وَإِرْضَاعِ مَنْ هُوَ فِي زَمَنِ الرَّضَاعُ مِنْهُمْ، وَتَهْيِئَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلرَّجُلِ إِذَا جَاءَ مِنْ عَمَلِهِ، فَلَوْ أَجْرَوْا إِنْسَانًا يَقُومُ مَقَامَهَا، لِتُعَطِّلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ التَّعَطُّلَ الَّذِي خَرَجَتِ

الْمَرْأَةُ فِرَارًا مِنْهُ ; فَعَادَتِ النَّتِيجَةُ فِي حَافِرَتِهَا عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ وَابْتِذَالَهَا فِيهِ ضَيَاعُ الْمُرُوءَةِ وَالدِّينِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَاعٌ، هُوَ خَيْرُ مَتَاعٍ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَشَدُّ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا تَعَرُّضًا لِلْخِيَانَةِ.

لِأَنَّ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا فَقَدِ اسْتَغَلَّتْ بَعْضَ مَنَافِعِ ذَلِكَ الْجَمَالِ خِيَانَةً وَمَكْرًا. فَتَعْرِيضُهَا لِأَنْ تَكُونَ مَائِدَةً لِلْخَوَنَةِ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمَسَ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا بَدَنُ خَائِنٍ سَرَتْ لَذَّةُ ذَلِكَ اللَّمْسِ فِي دَمِهِ وَلَحْمِهِ بِطَبِيعَةِ الْغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَغَلَّ نِعْمَةَ ذَلِكَ الْبَدَنِ خِيَانَةً وَغَدْرًا، وَتَحْرِيكُ الْغَرَائِزِ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ يَكُونُ غَالِبًا سَبَبًا لِمَا هُوَ شَرُّ مِنْهُ. كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِكَثْرَةٍ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَخَلَّتْ عَنْ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، وَتَرَكَتِ الصِّيَانَةَ. فَصَارَتْ نِسَاؤُهَا يَخْرُجْنَ مُتَبَرِّجَاتٍ عَارِيَاتِ الْأَجْسَامِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. لِأَنَّ اللَّهَ نَزَعَ مِنْ رِجَالِهَا صِفَةَ الرُّجُولَةِ وَالْغِيرَةِ عَلَى حَرِيمِهِمْ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مَنْ مَسْخِ الضَّمِيرِ وَالذَّوْقِ، وَمِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَدَعْوَى الْجَهَلَةِ السَّفَلَةِ: أَنَّ دَوَامَ خُرُوجِ النِّسَاءِ بَادِيَةَ الرُّءُوسِ وَالْأَعْنَاقِ وَالْمَعَاصِمِ، وَالْأَذْرُعِ وَالسُّوقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ يُذْهِبُ إِثَارَةَ غَرَائِزِ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ كَثْرَةَ الْإِمْسَاسِ تُذْهِبُ الْإِحْسَاسَ ; كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْخِسَّةِ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ: إِشْبَاعُ الرَّغْبَةِ مِمَّا لَا يَجُوزُ، حَتَّى يَزُولَ الْأَرَبُ مِنْهُ بِكَثْرَةِ مُزَاوَلَتِهِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى. وَلِأَنَّ الدَّوَامَ لَا يُذْهِبُ إِثَارَةَ الْغَرِيزَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ يَمْكُثُ مَعَ امْرَأَتِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَلِدَ أَوْلَادَهُمَا، وَلَا تَزَالُ مُلَامَسَتُهُ لَهَا، وَرُؤْيَتُهُ لِبَعْضِ جِسْمِهَا تُثِيرُ غَرِيزَتَهُ. كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ:

لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

وَقَدْ أَمَرَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَالِقُ هَذَا الْكَوْنِ وَمُدَبِّرُ شُئُونِهِ، الْعَالِمُ بِخَفَايَا أُمُورِهِ وَبِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا لَا يَحِلُّ ; قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ. . . الْآيَةَ [٢٤ \ ٣٠، ٣١] .

وَنَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا لِتُسْمِعَ الرِّجَالَ صَوْتَ خَلْخَالِهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [٢٤ \ ٣١]، وَنَهَاهُنَّ عَنْ لِينِ الْكَلَامِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُ الْخَنَى فِيهِنَّ، قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ

وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [٣٢ \ ٣٣]، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِجَابِ فِي (سُورَةِ الْأَحْزَابِ)، كَمَا قَدَّمْنَا الْوَعْدَ بِذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: مِلْكُ الرَّقِيقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [٢٣ \ ٥ - ٦] فِي «سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَأَلَ سَائِلٌ»، وَقَوْلِهِ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣٦]، وَقَوْلِهِ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ الْآيَةَ [٤ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الْآيَةَ [٢٤ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ الْآيَةَ [٣٣ \ ٥٢] .

وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ [٣٣ \ ٥٠]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [٣٣ \ ٥٥]، وَقَوْلِهِ: أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [٢٤ \ ٣١]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [٤ \ ٢٥]، وَقَوْلِهِ: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [١٦ \ ٧١]، وَقَوْلِهِ: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ الْآيَةَ [٣٠ \ ٢٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَالْمُرَادُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا: مِلْكُ الرَّقِيقِ بِالرِّقِّ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَلِكِ الرَّقِيقِ قَوْلُهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا الْآيَةَ [١٦ \ ٧٥]، وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ الْآيَةَ [٢ \ ٢٢١]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَسَبَبُ الْمِلْكِ بِالرِّقِّ: هُوَ الْكُفْرُ، وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا أَقْدَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاهِدِينَ الْبَاذِلِينَ مُهَجَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَجَمِيعَ قُوَاهُمْ، وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا عَلَى الْكُفَّارِ، جَعَلَهُمْ مِلْكًا لَهُمْ بِالسَّبْيِ ; إِلَّا إِذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَحْكَامِ وَأَوْضَحِهَا وَأَظْهَرِهَا حِكْمَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ، وَيَمْتَثِلُوا أَوَامَرَهُ وَيَجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [٥١ \ ٥٦، ٥٧] . وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.

كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [١٤ \ ٣٤]، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي «سُورَةِ النَّحْلِ»: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [١٦ \ ١٨]، وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِيَشْكُرُوهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [١٦ \ ٧٨] فَتَمَرَّدَ الْكُفَّارُ عَلَى رَبِّهِمْ وَطَغَوْا وَعَتَوْا، وَأَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى رُسُلِهِ لِئَلَّا تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا جَمِيعَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مُحَارَبَتِهِ، وَارْتِكَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِهِ الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا أَكْبَرُ جَرِيمَةٍ يَتَصَوَّرُهَا الْإِنْسَانُ.

فَعَاقَبَهُمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ جَلَّ وَعَلَا عُقُوبَةً شَدِيدَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَتَهُمْ. فَسَلَبَهُمُ التَّصَرُّفَ، وَوَضَعَهُمْ مِنْ مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى مَقَامٍ أَسْفَلَ مِنْهُ كَمَقَامِ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَجَازَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُمْ حُقُوقَ الْإِنْسَانِيَّةِ سَلْبًا كُلِّيًّا. فَأَوْجَبَ عَلَى مَالِكِيهِمُ الرِّفْقَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يُطْعِمُونَ، وَيُكْسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ، وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِنْ كَلَّفُوهُمْ أَعَانُوهُمْ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ ﷺ مَعَ الْإِيصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣٦] كَمَا تَقَدَّمَ.

وَتَشَوَّفَ الشَّارِعُ تَشَوُّفًا شَدِيدًا لِلْحُرِّيَّةِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الرِّقِّ، فَأَكْثَرَ أَسْبَابَ ذَلِكَ، كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ مِنْ قَتْلٍ خَطَأٍ وَظِهَارٍ وَيَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوْجَبَ سَرَايَةَ الْعِتْقِ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [٢٤ \ ٣٣]، وَرَغَّبَ فِي الْإِعْتَاقِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا، وَلَوْ فَرَضْنَا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ حُكُومَةً مِنْ هَذِهِ الْحُكُومَاتِ الَّتِي تُنْكِرُ الْمِلْكَ بِالرِّقِّ، وَتُشَنِّعُ فِي ذَلِكَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ رَعَايَاهَا كَانَتْ تُغْدِقُ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَتُسْدِي إِلَيْهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَدَبَّرَ عَلَيْهَا ثَوْرَةً

شَدِيدَةً يُرِيدُ بِهَا إِسْقَاطَ حُكْمَهَا، وَعَدَمَ نُفُوذِ كَلِمَتِهَا، وَالْحَيْلُولَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تُرِيدُهُ مِنْ تَنْفِيذِ أَنْظِمَتِهَا، الَّتِي يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ بِهِمَا صَلَاحَ الْمُجْتَمَعِ، ثُمَّ قَدَرَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ مُقَاوَمَةٍ شَدِيدَةٍ فَإِنَّهَا تَقْتُلُهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ يَسْلُبُهُ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِهِ وَجَمِيعَ مَنَافِعِهِ، فَهُوَ أَشَدُّ سَلْبًا لِتَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ وَمَنَافِعِهِ مِنَ الرِّقِّ بِمَرَاحِلَ، وَالْكَافِرُ قَامَ بِبَذْلِ كُلِّ مَا فِي وُسْعِهِ لِيَحُولَ دُونَ إِقَامَةِ نِظَامِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِيَسِيرَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، فَيُنْشَرُ بِسَبَبِهِ فِي الْأَرْضِ الْأَمْنُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالرَّخَاءُ وَالْعَدَالَةُ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَنْتَظِمُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلِهَا وَأَسْمَاهَا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [١٦ \ ٩٠] فَعَاقَبَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمُعَاقَبَةَ بِمَنْعِهِ التَّصَرُّفَ، وَوَضْعُ دَرَجَتِهِ وَجَرِيمَتِهِ تَجْعَلُهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الرَّقِيقُ مُسْلِمًا فَمَا وَجْهُ مِلْكِهِ بِالرِّقِّ؟ مَعَ أَنَّ سَبَبَ الرِّقِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ وَمُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قَدْ زَالَ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَكَافَّةِ الْعُقَلَاءِ: أَنَّ الْحَقَّ السَّابِقَ لَا يَرْفَعُهُ الْحَقُّ اللَّاحِقُ، وَالْأَحَقِّيَّةُ بِالْأَسْبَقِيَّةِ ظَاهِرَةٌ لَا خَفَاءَ بِهَا، فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَمَا غَنِمُوا الْكُفَّارَ بِالسَّبْيِ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الْمِلْكِيَّةِ بِتَشْرِيعِ خَالِقِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ هَذَا الْحَقُّ وَثَبَتَ، ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّقِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ حَقُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الرِّقِّ بِالْإِسْلَامِ مَسْبُوقًا بِحَقِّ الْمُجَاهِدِ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ الْمِلْكِيَّةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ رَفْعُ الْحَقِّ السَّابِقِ بِالْحَقِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، نَعَمْ، يَحْسُنُ بِالْمَالِكِ وَيَجْمُلُ بِهِ أَنْ يُعْتِقَهُ إِذَا أَسْلَمَ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ بِذَلِكَ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَفَتَحَ لَهُ الْأَبْوَابَ الْكَثِيرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٦ \ ١١٥]، فَقَوْلُهُ صِدْقًا أَيْ فِي الْإِخْبَارِ، وَقَوْلُهُ: وَعَدْلًا ; أَيْ فِي الْأَحْكَامِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ: الْمِلْكَ بِالرِّقِّ وَغَيْرَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: الْقِصَاصُ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا غَضِبَ وَهَمَّ بِأَنْ يَقْتُلَ إِنْسَانًا آخَرَ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، خَافَ الْعَاقِبَةَ فَتَرَكَ الْقَتْلَ، فَحَيِيَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ

قَتْلَهُ، وَحَيِيَ هُوَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا، فَقَتْلُ الْقَاتِلِ يَحْيَا بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَثْرَةً كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ تَعَالَى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [٢ \ ١٧٩]، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْدَلِ الطُّرُقِ وَأَقْوَمِهَا، وَلِذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا قِلَّةُ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ رَادِعٌ عَنْ جَرِيمَةِ الْقَتْلِ. كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَمَا يَزْعُمُهُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِقْلَالَ عَدَدِ الْمُجْتَمَعِ بِقَتْلِ إِنْسَانٍ ثَانٍ بَعْدِ أَنْ مَاتَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فَيُحْبَسُ، وَقَدْ يُولَدُ لَهُ فِي الْحَبْسِ فَيَزِيدُ الْمُجْتَمَعُ. كُلُّهُ كَلَامٌ سَاقِطٌ، عَارٍ مِنَ الْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الْقَتْلِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ رَادِعَةً فَإِنَّ السُّفَهَاءَ يَكْثُرُ مِنْهُمُ الْقَتْلُ، فَيَتَضَاعَفُ نَقْصُ الْمُجْتَمَعِ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» .

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ مِنَ الْكُوعِ، وَأَنَّهَا الْيُمْنَى. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يَقْرَءُونَ «فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا» .

وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَيَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنَّ سَرَقَ فَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُعَزَّرُ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ» كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأَحَادِيثِ.

وَلَيْسَ قَصْدُنَا هُنَا تَفْصِيلَ أَحْكَامِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِ الْقَطْعِ، كَالنِّصَابِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ، وَلَكِنَّ مُرَادَنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْيَدَ الْخَبِيثَةَ الْخَائِنَةَ، الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَبْطِشَ وَتَكْتَسِبَ فِي كُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَمَدَّتْ أَصَابِعَهَا الْخَائِنَةَ إِلَى مَالِ الْغَيْرِ لِتَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاسْتَعْمَلَتْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمُودَعَةَ فِيهَا فِي الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْقَبِيحِ، يَدٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ، سَاعِيَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْمُجْتَمَعِ، إِذْ لَا نِظَامَ لَهُ بِغَيْرِ الْمَالِ، فَعَاقَبَهَا خَالِقُهَا بِالْقَطْعِ وَالْإِزَالَةِ ; كَالْعُضْوِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجُرُّ الدَّاءَ لِسَائِرِ الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ يُزَالُ بِالْكُلِّيَّةِ إِبْقَاءً عَلَى الْبَدَنِ وَتَطْهِيرًا لَهُ مِنَ الْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ يُطَهِّرُ السَّارِقَ مِنْ دَنَسِ ذَنْبِ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ السَّرِقَةِ، مَعَ الرَّدْعِ الْبَالِغِ

بِالْقِطَعِ عَنِ السَّرِقَةِ ; قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ الْحُدُودِ كَفَّارَةٌ»، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ، فَقَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا «فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» . اه هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «فَهُوَ كَفَّارَتُهُ» نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تُطَهِّرُ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا مِنَ الذَّنْبِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ مَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ يُطَهَّرُ مِنْهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَحَقُّ الْمَخْلُوقِ يَبْقَى، فَارْتِكَابُ جَرِيمَةِ السَّرِقَةِ مَثَلًا يُطَهَّرُ مِنْهُ بِالْحَدِّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالْمَالِ تَبْقَى ; لِأَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ مُوجِبَةُ حُكْمَيْنِ: وَهُمَا الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ. قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:

وَذَاكَ فِي الْحُكْمِ الْكَثِيرِ أُطْلِقُهُ ... كَالْقَطْعِ مَعَ غُرْمِ نِصَابِ السَّرِقَةِ

مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: لَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ ; لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهَا نَصَّتْ عَلَى الْقَطْعِ وَلَمْ تَذْكُرْ غُرْمًا.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يُغَرَّمُ الْمَسْرُوقَ مُطْلَقًا، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا، وَيُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا إِنْ كَانَ مُعْسِرًا.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ: يَرُدُّ الْمَسْرُوقُ إِنْ كَانَ قَائِمًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا رَدَّ قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا.

وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَطْعُ السَّارِقِ كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ.

وَعَقَدَ ابْنُ الْكَلْبِي بَابًا لِمَنْ قُطِعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِينَ سَرَقُوا غَزَالَ الْكَعْبَةِ فَقُطِعُوا فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَذَكَرَ مِمَّنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَقِيسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَهْمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ عَوْفًا السَّابِقَ لِذَلِكَ، انْتَهَى.

وَكَانَ مِنْ هَدَايَا الْكَعْبَةِ صُورَةُ غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، أَهْدَتْهُمَا الْفُرْسُ لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، كَمَا عَقَدَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ:

وَمِنْ خَبَايَاهُ غَزَالًا ذَهَبْ ... أَهْدَتْهُمَا الْفُرْسُ لِبَيْتِ الْعَرَبْ

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ الْخِيَارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَ الْيَمَنِيِّ الَّذِي سَرَقَ الْعَقْدَ. وَقَطَعَ عُمَرُ يَدَ ابْنِ سَمُرَةَ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ اه.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله مِنْ أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَطَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهَا أَوَّلًا هِيَ مُرَّةُ بِنْتُ سُفْيَانَ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، الَّذِي كَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ، قُتِلَ أَبُوهَا كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، وَقَطْعُ النَّبِيِّ ﷺ يَدَهَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَأَمَّا سَرِقَةُ أُمِّ عَمْرِو بِنْتِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ ابْنَةِ عَمِّ الْمَذْكُورَةِ، وَقَطْعُ النَّبِيِّ ﷺ يَدَهَا فَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بَعْدَ قِصَّةِ الْأَوْلَى بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ غَيْرَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارِ فَصَاعِدًا» وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّهُ عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْيَدَ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وِدِيَةُ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ. فَتَكُونُ دِيَةُ الْيَدِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ فِي مُقَابَلَةِ رُبْعِ دِينَارٍ؟ وَمَا وَجْهُ الْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي ذَلِكَ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ اعْتِرَاضَاتِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، هُوَ الَّذِي نَظَمَهُ الْمِعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ

وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ نَظْمًا وَنَثْرًا ; مِنْهَا قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مُجِيبًا لَهُ فِي بَحْرِهِ وَرَوِيِّهِ:

عِزُّ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا خَانَتْ هَانَتْ. وَمِنَ الْوَاضِحِ: أَنَّ تِلْكَ الْيَدَ الْخَسِيسَةَ الْخَائِنَةَ لَمَّا

تَحَمَّلَتْ رَذِيلَةَ السَّرِقَةِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ السَّرِقَةِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ حَقِيرٍ كَثَمَنِ الْمِجَنِّ وَالْأُتْرُجَّةِ، كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ الْمَعْقُولِ أَنْ تُؤْخَذَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، الَّذِي تَحَمَّلَتْ فِيهِ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ الْكُبْرَى.

وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ إِنَّا أَجَبْنَا عَنْ هَذَا الطَّعْنِ، بِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَطَعَ يَدَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الدَّنَاءَةَ وَالْخَسَاسَةَ فِي سَرِقَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ يُعَاقِبَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبِ تِلْكَ الدَّنَاءَةِ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ اه.

فَانْظُرْ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّنَزُّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ، وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ السَّمَاوِيَّ يَضَعُ دَرَجَةَ الْخَائِنِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دَرَجَةٍ إِلَى رُبْعِ دَرَجَةٍ، فَانْظُرْ هَذَا الْحَطَّ الْعَظِيمَ لِدَرَجَتِهِ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ الرَّذَائِلِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ قَطَعَ يَدِ السَّارِقِ فِي السَّرِقَةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالْغَصْبِ، وَالِانْتِهَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: صَانَ اللَّهُ الْأَمْوَالَ بِإِيجَابِ قَطْعِ سَارِقِهَا، وَخَصَّ السَّرِقَةَ لِقِلَّةِ مَا عَدَاهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، مِنَ الِانْتِهَابِ وَالْغَصْبِ، وَلِسُهُولَةِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا عَدَا السَّرِقَةَ بِخِلَافِهَا، وَشَدَّدَ الْعُقُوبَةَ فِيهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ دِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يَقْطَعُ فِيهِ حِمَايَةً لِلْيَدِ، ثُمَّ لَمَّا خَانَتْ هَانَتْ، وَفِي ذَلِكَ إِثَارَةٌ إِلَى الشُّبْهَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إِلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فِي قَوْلِهِ:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ

فَأَجَابَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ:

صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... حِمَايَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الدِّيَةَ لَوْ كَانَتْ رُبْعَ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَيْدِي، وَلَوْ كَانَ نِصَابُ الْقَطْعِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ لَكَثُرَتِ الْجِنَايَاتُ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ صِيَانَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.

وَقَدْ عَسَرَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ النَّهْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى بَعْضِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، فَقَالَ: الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْغَصْبَ أَكْثَرُ هَتْكًا لِلْحُرْمَةِ مِنَ السَّرِقَةِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ فِي الْأَعْلَى فَلَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسَاوِي.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفَ لِإِيرَادِهَا، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. اه بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْبَ وَالْغَصْبَ وَنَحْوَهُمَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّرِقَةِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الظَّاهِرَ غَالِبًا تُوجَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ السَّارِقَ إِنَّمَا يَسْرِقُ خِفْيَةً بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَعْسُرُ الْإِنْصَافُ مِنْهُ، فَغَلُظَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَجَلْدُ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةَ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.

أَمَا الرَّجْمُ: فَهُوَ مَنْصُوصٌ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحِكَمِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .

وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَمَّ الْقُرْآنِ لِلْمُعْرِضِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ، فَدَلَّ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُحْكَمَةٍ كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ الْآيَةَ [٥ \ ٤١]، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [٣ \ ٢٣] عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا ﷺ لِذَمِّهِ فِي كِتَابِنَا لِلْمُعْرِضِ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ لَا يُنَافِي قَوْلَ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ رَجَمَ امْرَأَةً يَوْمَ الْجُمْعَةِ: «رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: «فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلُ إِلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. . .» الْحَدِيثَ.

وَالْمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّجْمَ قَتْلٌ وَحْشِيٌّ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي الْأَنْظِمَةِ الَّتِي يُعَامَلُ بِهَا الْإِنْسَانُ، لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِمْ عَنْ فَهْمِ حِكَمِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ فِي تَشْرِيعِهِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الرَّجْمَ عُقُوبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَمَّا أَدْخَلَ فَرَّجَهُ

فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ عَلَى وَجْهِ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ أَخَسَّ جَرِيمَةٍ عَرَفَهَا الْإِنْسَانُ بِهَتْكِ الْأَعْرَاضِ، وَتَقْذِيرِ الْحُرُمَاتِ، وَالسَّعْيِ فِي ضَيَاعِ أَنْسَابِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُطَاوِعُهُ فِي ذَلِكَ مِثْلُهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نَجِسٌ قَذِرٌ لَا يَصْلُحُ لِلْمُصَاحَبَةِ، فَعَاقَبَهُ خَالِقُهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ بِالْقَتْلِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ الْبَالِغَ غَايَةَ الْخُبْثِ وَالْخِسَّةِ، وَشَرَّ أَمْثَالِهِ عَنِ الْمُجْتَمَعِ، وَيُطَهِّرُهُ هُوَ مِنَ التَّنْجِيسِ بِتِلْكَ الْقَاذُورَةِ الَّتِي ارْتَكَبَ، وَجَعَلَ قِتْلَتَهُ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ ; لِأَنَّ جَرِيمَتَهُ أَفْظَعُ جَرِيمَةٍ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَقَدْ دَلَّ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ عَلَى أَنَّ إِدْخَالَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَغْتَسِلَ بِالْمَاءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَتَطَلَّبُ طَهَارَةً فِي الْأَصْلِ، وَطَهَارَتُهُ الْمَعْنَوِيَّةُ إِنْ كَانَ حَرَامًا قَتْلُ صَاحِبِهِ الْمُحْصَنِ، لِأَنَّهُ إِنْ رُجِمَ كَفَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ ذَنْبَ الزِّنَى، وَيَبْقَى عَلَيْهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ ; كَالزَّوْجِ إِنْ زَنَى بِمُتَزَوِّجَةٍ، وَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِي إِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا.

وَشِدَّةُ قُبْحِ الزِّنَى أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الطَّبَائِعِ، وَقَدْ قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَهِيَ كَافِرَةٌ: مَا أَقْبَحَ ذَلِكَ الْفِعْلَ حَلَالًا! فَكَيْفَ بِهِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَغَلَّظَ جَلَّ وَعَلَا عُقُوبَةَ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ تَغْلِيظًا أَشَدَّ مِنْ تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ الْبِكْرِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْمُحْصَنَ قَدْ ذَاقَ عُسَيْلَةَ النِّسَاءِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ، فَلَمَّا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الزِّنَى أَعْظَمَ، كَانَ الرَّادِعُ عَنْهُ أَعْظَمَ وَهُوَ الرَّجْمُ.

وَأَمَّا جَلْدُ الزَّانِي الْبِكْرِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِائَةَ جَلْدَةٍ فَهَذَا مَنْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢] ; لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ تَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنِ الزِّنَى، وَتُطَهِّرُهُ مِنْ ذَنْبِ الزِّنَى كَمَا تَقَدَّمَ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَفْصِيلُ مَا يَلْزَمُ الزُّنَاةَ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، وَعَبِيدٍ وَأَحْرَارٍ «فِي سُورَةِ النُّورِ» .

وَتَشْرِيعُ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ جَلَّ وَعَلَا مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْحِكَمِ مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَالْجَرْيِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَقْوَمِ الطُّرُقِ مُعَاقَبَةُ فَظِيعِ الْجِنَايَةِ بِعَظِيمِ الْعِقَابِ جَزَاءً وِفَاقًا.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: هَدْيُهُ إِلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ لَا يُنَافِي التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، فَمَا خَيَّلَهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ لِضِعَافِ الْعُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ: مِنْ أَنَّ التَّقَدُّمَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالِانْسِلَاخِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَاطِلٌ لَا أَسَاسَ لَهُ، وَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يَدْعُو إِلَى التَّقَدُّمِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ الَّتِي لَهَا أَهَمِّيَّةٌ فِي دُنْيَا أَوْ دِينٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ فِي حُدُودِ الدِّينِ، وَالتَّحَلِّي بِآدَابِهِ الْكَرِيمَةِ، وَتَعَالِيمِهِ السَّمَاوِيَّةِ ; قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الْآيَةَ

[٨ \ ٦٠]، وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا الْآيَةَ [٣٤ \ ١٠، ١١] . فَقَوْلُهُ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَقَوْلِهِ: وَاعْمَلُوا صَالِحًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادَ لِمُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ فِي حُدُودِ الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَدَاوُدُ مِنْ أَنْبِيَاءِ «سُورَةِ الْأَنْعَامِ» الْمَذْكُورِينَ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ الْآيَةَ [٦ \ ٨٤]، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا ﷺ وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ \ ٩٠] .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السَّجْدَةَ «فِي ص» فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [٦ \ ٨٤ - ٩٠]، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَا مُخَاطَبُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِمَّا أُمِرَ بِهِ دَاوُدُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعِدَّ لِكِفَاحِ الْعَدُوِّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِدِينِنَا، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ قُوَّةٍ وَلَوْ بَلَغَتِ الْقُوَّةُ مِنَ التَّطَوُّرِ مَا بَلَغَتْ، فَهُوَ أَمْرٌ جَازِمٌ بِمُسَايَرَةِ التَّطَوُّرِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَدَمِ الْجُمُودِ عَلَى الْحَالَاتِ الْأُوَلِ إِذَا طَرَأَ تَطَوُّرٌ جَدِيدٌ، وَلَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الْآيَةَ [٤ \ ١٠٢] ; فَصَلَاةُ الْخَوْفِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْجَمْعِ بَيْنَ مُكَافَحَةِ الْعَدُوِّ، وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ دِينِهِ، فَأَمْرُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الْتِحَامِ الْكِفَاحِ الْمُسَلَّحِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٨ \ ٤٥]، فَأَمْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا دَلَالَةً وَاضِحَةً، فَالْكُفَّارُ خَيَّلُوا لِضِعَافِ الْعُقُولِ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ، وَالسِّمَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، تَبَايَنُ مُقَابَلَةٍ كَتَبَايُنِ النَّقِيضَيْنِ كَالْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوِ الضِّدَّيْنِ

كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، أَوِ الْمُتَضَائِفَيْنِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ، وَالْفَوْقِ وَالتَّحْتِ، أَوِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ كَالْبَصَرِ وَالْعَمَى.

فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ مَثَلًا، وَكَذَلِكَ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ، فَكُلُّ ذَاتٍ ثَبَتَتْ لَهَا الْأُبُوَّةُ لَذَاتٍ اسْتَحَالَتْ عَلَيْهَا النُّبُوَّةُ لَهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ شَخْصٌ أَبًا وَابْنًا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، كَاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي نُقْطَةٍ بَسِيطَةٍ، أَوِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فِي جُرْمٍ، وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ وَالْعَمَى لَا يَجْتَمِعَانِ.

فَخَيَّلُوا لَهُمْ أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مُتَبَايِنَانِ تَبَايُنَ مُقَابَلَةٍ، بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَكَانَ مِنْ نَتَائِجِ ذَلِكَ انْحِلَالُهُمْ مِنَ الدِّينِ رَغْبَةً فِي التَّقَدُّمِ، فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَقْلِ وَحْدَهُ، وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِنَّمَا هِيَ تَبَايُنُ الْمُخَالَفَةِ، وَضَابِطُ الْمُتَبَايِنَيْنِ تَبَايُنَ الْمُخَالَفَةِ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُمَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا عَقْلًا فِي ذَاتٍ أُخْرَى ; كَالْبَيَاضِ وَالْبُرُودَةِ، وَالْكَلَامِ وَالْقُعُودِ، وَالسَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ.

فَحَقِيقَةُ الْبَيَاضِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْبُرُودَةِ، وَلَكِنَّ الْبَيَاضَ وَالْبُرُودَةَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ كَالثَّلْجِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالْقُعُودُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ تُبَايِنُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ، مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَاعِدًا مُتَكَلِّمًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَهَكَذَا فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالتَّقَدُّمِ بِالنَّظَرِ إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَكَمَا أَنَّ الْجِرْمَ الْأَبْيَضَ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ بَارِدًا كَالثَّلْجِ، وَالْإِنْسَانَ الْقَاعِدَ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا، فَكَذَلِكَ الْمُتَمَسُّكُ بِالدِّينِ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، إِذْ لَا مَانِعَ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ كَوْنِ الْمُحَافِظِ عَلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، مُشْتَغِلًا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ التَّقَدُّمِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَكَمَا عَرَفَهُ التَّارِيخُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ الْآيَةَ [٢٢ \ ٤٠] وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [٣٠ \ ٤٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ

[٣٧ \ ١٧١ - ١٧٣] وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [٥٨ \ ٢١] وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [٤٠ \ ٥١]، وَقَوْلِهِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [٩ \ ١٤]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ.

فَإِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالتَّقَدُّمِ، كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ ; لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مَلْزُومٌ لِلتَّقَدُّمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ لَا تَعْدُو أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُسَاوَاةَ أَوِ الْخُصُوصَ الْمُطْلَقَ ; لِأَنَّ الْمَلْزُومَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مَنْ لَازِمِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: الْإِنْسَانُ مَثَلًا، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْبَشَرِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ إِنْسَانًا أَنْ يَكُونَ بَشَرًا وَأَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، وَأَحَدُ هَذَيْنِ اللَّازِمَيْنِ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْمَاصَدَقِ وَهُوَ الْبَشَرُ. وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنْهُ مَا صِدْقًا وَهُوَ الْحَيَوَانُ، فَالْإِنْسَانُ أَخَصُّ مِنْهُ خُصُوصًا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

فَانْظُرْ كَيْفَ خَيَّلُوا لَهُمْ أَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْمَلْزُومِ وَلَازِمِهِ كَالتَّنَافِي الَّذِي بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ، وَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ لِسَذَاجَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَعَمَى بَصَائِرِهِمْ، فَهُمْ مَا تَقَوَّلُوا عَلَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَرَمَوْهُ بِمَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ إِلَّا لِيُنَفِّرُوا مِنْهُ ضِعَافَ الْعُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي لِلْإِسْلَامِ لِيُمْكِنَهُمُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوا الدِّينَ حَقًّا وَاتَّبَعُوهُ لَفَعَلُوا بِهِمْ مَا فَعَلَ أَسْلَافُهُمْ بِأَسْلَافِهِمْ، فَالدِّينُ هُوَ هُوَ، وَصِلَتُهُ بِاللَّهِ هِيَ هِيَ، وَلَكِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ فِي جُلِّ أَقْطَارِ الدُّنْيَا تَنَكَّرُوا لَهُ، وَنَظَرُوا إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْمَقْتِ وَالِازْدِرَاءِ، فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ أَرِقَّاءَ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، وَلَوْ رَاجَعُوا دِينَهُمْ لَرَجَعَ لَهُمْ عِزُّهُمْ وَمَجْدُهُمْ، وَقَادُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [٤٧ \ ٤] .


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بَيَانُهُ أَنَّهُ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ التَّشْرِيعِ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَاتِّبَاعُهُ لِذَلِكَ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ كُفْرٌ بَوَاحٌ، مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمَّا قَالَ الْكُفَّارُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: الشَّاةُ تُصْبِحُ مَيِّتَةً مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: «اللَّهُ قَتَلَهَا» فَقَالُوا لَهُ: مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيهِمْ حَلَالٌ، وَمَا ذَبَحَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ تَقُولُونَ إِنَّهُ حَرَامٌ! فَأَنْتُمْ إِذَنْ أَحْسَنُ مِنَ

اللَّهِ؟ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [٦ \ ١٢١] وَحَذْفُ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يَدُلُّ عَلَى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمٍ ... جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ

إِذْ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا:

وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جَعَلْ ... شَرْطًا لَأَنَّ أَوْ غَيْرَهَا لَمْ يَنْجَعِلْ

فَهُوَ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا أَقْسَمَ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فِي تَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ، وَهَذَا الشِّرْكُ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [٣٦ \ ٦٠] لِأَنَّ طَاعَتَهُ فِي تَشْرِيعِهِ الْمُخَالِفِ لِلْوَحْيِ هِيَ عِبَادَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [٤ \ ١١٧]، أَيْ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِهِمْ تَشْرِيعَهُ. وَقَالَ: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الْآيَةَ [٦ \ ١٣٧]، فَسَمَّاهُمْ شُرَكَاءَ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [١٩ \ ٤٤]، أَيْ بِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَلَمَّا سَأَلَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا الْآيَةَ [٩ \ ٣١]، بَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ ثُمَّ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [٤ \ ٦٠]، وَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [٥ \ ٤٤]، وَقَالَ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [٦ \ ١١٤] .


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هَدْيُهُ إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَأَنْ يُنَادَى بِالِارْتِبَاطِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا إِنَّمَا هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ،

لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ حَتَّى يَصِيرَ بِقُوَّةِ تِلْكَ الرَّابِطَةِ جَمِيعُ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، فَرَبْطُ الْإِسْلَامِ لَكَ بِأَخِيكِ كَرَبْطِ يَدِكَ بِمِعْصَمِكَ، وَرِجْلِكَ بِسَاقِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ النَّفْسِ وَإِرَادَةُ الْأَخِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ رَابِطَةَ الْإِسْلَامِ تَجْعَلُ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ٨٤]، أَيْ لَا تُخْرِجُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَقَوْلِهِ: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا [٢٤ \ ١٢]، أَيْ بِإِخْوَانِهِمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [٤٩ \ ١١]، أَيْ إِخْوَانَكُمْ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَوْلِهِ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ١٨٨]، أَيْ لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» .

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الدِّينُ، وَأَنَّ تِلْكَ الرَّابِطَةَ تَتَلَاشَى مَعَهَا جَمِيعُ الرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [٥٨ \ ٢٢]، إِذْ لَا رَابِطَةَ نِسْبِيَّةً أَقْرَبُ مِنْ رَابِطَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالْعَشَائِرِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ [٩ \ ٧١]، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [٤٩ \ ١٠]، وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا الْآيَةَ [٣ \ ١٠٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالْعَصَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْقَوْمِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٦٣ \ ٨]، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ! وَقَالَ

الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ قَالَ: «مَا هَذَا»؟ فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُ هَذَا الْأَنْصَارِيِّ: يَا لِلْأَنْصَارِ، وَهَذَا الْمُهَاجَرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ هُوَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» يَقْتَضِي وُجُوبَ تَرْكِ النِّدَاءِ بِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: «دَعُوهَا» أَمْرٌ صَرِيحٌ بِتَرْكِهَا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢٤ \ ٦٣]، وَيَقُولُ لِإِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ \ ١٢] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى فِي خِطَابِهِ لِأَخِيهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [٢٠ \ ٩٣]، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ: وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ \ ٣٦] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ مَانِعٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ، مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ بِالتَّرْكِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وَحَسْبُكَ بِالنَّتَنِ مُوجِبًا لِلتَّبَاعُدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْخُبْثِ الْبَالِغِ.

فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ بِرَابِطَةِ الْقَوْمِيَّةِ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ يَتَعَاطَى الْمُنْتِنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْتِنَ خَبِيثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢٦]، وَيَقُولُ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [٧ \ ١٥٧] وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ.» الْحَدِيثَ.

وَقَدْ عَرَفْتَ وَجْهَ دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ: «يَا لِبَنِي فُلَانٍ» مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. وَإِذَا صَحَّ بِذَلِكَ

أَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ: «لَيْسَ مِنَّا مِنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ دَعَا تِلْكَ الدَّعْوَى لَيْسَ مِنَّا، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ تَعَزَّى عَلَيْكُمْ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا سَمِعْتُمْ مَنْ يُعْتَزَى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعَضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا» وَأَشَارَ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ أُبَيٍّ رضي الله عنه، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَزَّى. .» إِلَخْ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ. وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: وَرَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ، قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْعَزِيزِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ فِيهِ الشَّيْخُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَجْلُونِيُّ فِي كِتَابِهِ (كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلُ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتُهِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ) قَالَ النَّجْمُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه. وَمُرَادُهُ بِالنَّجْمِ: الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ نَجْمُ الدِّينِ الْغُزِّيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (إِتْقَانُ مَا يُحْسِنُ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّائِرَةِ عَلَى الْأَلْسُنِ) فَانْظُرْ كَيْفَ سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ النِّدَاءَ «عَزَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ» وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ لِلدَّاعِي بِهِ «اعْضَضْ عَلَى هِنِّ أَبِيكَ» أَيْ فَرْجِهِ، وَأَنْ يُصَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكِنَايَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ قُبْحِ هَذَا النِّدَاءِ، وَشِدَّةِ بُغْضِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ رُؤَسَاءَ الدُّعَاةِ إِلَى نَحْوِ هَذِهِ الْقَوْمِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ: أَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو لَهَبٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا الْآيَةَ [٥ \ ١٠٤] وَقَوْلِهِ: قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا الْآيَةَ [٢ \ ١٧٠]، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ - كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا - فِي مَنْعِ النِّدَاءِ بِرَابِطَةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَالْقَوْمِيَّاتِ وَالْعَصَبِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ النِّدَاءُ بِالْقَوْمِيَّةِ يُقْصَدُ مِنْ وَرَائِهِ الْقَضَاءُ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ وَإِزَالَتُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ النِّدَاءَ بِهَا حِينَئِذٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ: أَنَّهُ نِدَاءٌ

إِلَى التَّخَلِّي عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَرَفْضِ الرَّابِطَةِ السَّمَاوِيَّةِ رَفْضًا بَاتًّا، عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَعْتَاصَ مِنْ ذَلِكَ رَوَابِطَ عَصَبِيَّةً قَوْمِيَّةً، مَدَارُهَا عَلَى أَنَّ هَذَا مِنَ الْعَرَبِ، وَهَذَا مِنْهُمْ أَيْضًا مَثَلًا. فَالْعُرُوبَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِبْدَالُهَا بِهِ صَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ، فَهِيَ كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:

بَدَّلْتُ بِالْجَمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدُّرْدُرَا

كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا

وَقَدْ عُلِمَ فِي التَّارِيخِ حَالُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَحَالُهُمْ بَعْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي جَعْلِهِ بَنِي آدَمَ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ هِيَ التَّعَارُفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَتْ هِيَ أَنْ يَتَعَصَّبَ كُلُّ شَعْبٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى غَيْرِهَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [٤٩ \ ١٣]، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَعَارَفُوا لَامُ التَّعْلِيلِ، وَالْأَصْلُ لِتَتَعَارَفُوا، وَقَدْ حُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ; فَالتَّعَارُفُ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ [٤٩ \ ١٣]، وَنَحْنُ حِينَ نُصَرِّحُ بِمَنْعِ النِّدَاءِ بِالرَّوَابِطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ النِّسْبِيَّةِ، وَنُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْمُسْلِمَ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِرَوَابِطَ نِسْبِيَّةٍ لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا نَفَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ عَطْفَ ذَلِكَ الْعَمِّ الْكَافِرِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [٩٣ \ ٦]، أَيْ آوَاكَ بِأَنْ ضَمَّكَ إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ.

وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ ﷺ:

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينًا

كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ هُودٍ.

وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِتِلْكَ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ شُعَيْبًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [١١ \ ٩١] .

وَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ صَالِحًا أَيْضًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [٢٧ \ ٤٩]، فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَخَافُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ صَالِحٍ،

وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَكِّرُوا أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ سُوءًا إِلَّا لَيْلًا خِفْيَةً. وَقَدْ عَزَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ أَنْكَرُوا وَحَلَفُوا لِأَوْلِيَائِهِ أَنَّهُمْ مَا حَضَرُوا مَا وَقَعَ بِصَالِحٍ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَلَمَّا كَانَ لُوطٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عُصْبَةَ لَهُ فِي قَوْمِهِ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [١١ \ ٨٠]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي «سُورَةِ هُودٍ» .

فَيَلْزَمُ النَّاظِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ النِّدَاءَ بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ الْقَضَاءَ عَلَى رَابِطَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِزَالَتَهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يُسَايِرُ التَّطَوُّرَ الْجَدِيدَ، أَوْ أَنَّهُ جُمُودٌ وَتَأَخُّرٌ عَنْ مُسَايَرَةِ رَكْبِ الْحَضَارَةِ - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَمْسِ الْبَصِيرَةِ - وَأَنَّ مَنْعَ النِّدَاءِ بِرَوَابِطِ الْقَوْمِيَّاتِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا انْتَفَعَ الْمُسْلِمُ بِنُصْرَةِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ بِسَبَبِ الْعَوَاطِفِ النِّسْبِيَّةِ وَالْأَوَاصِرِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَمُتُّ إِلَى الْإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» وَلَكِنَّ تِلْكَ الْقَرَابَاتِ النِّسْبِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ الرَّابِطَةَ بَيْنَ الْمُجْتَمَعِ، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ عَدُوُّ الْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ [٥٨ \ ٢٢]، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي تَجْمَعُ الْمُفْتَرَقَ وَتُؤَلِّفُ الْمُخْتَلَفَ هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الرَّابِطَةَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ كَأَنَّهُ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَتَجْعَلُهُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، عَطَفَتْ قُلُوبَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٤٠ \ ٧ - ٩] . فَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي رَبَطَتْ بَيْنَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى دَعَوُا اللَّهَ لَهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الصَّالِحَ الْعَظِيمَ، إِنَّمَا هِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّهُ قَالَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ

[٤٠ \ ٧] فَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَنْ بَنِي آدَمَ فِي اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [٤٠ \ ٧]، فَوَصَفَهُمْ أَيْضًا بِالْإِيمَانِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّابِطَةَ بَيْنَهُمْ هِيَ الْإِيمَانُ، وَهُوَ أَعْظَمُ رَابِطَةً.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الرَّابِطَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَبِي لَهَبٍ عَمِّ النَّبِيِّ ﷺ: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [١١١ \ ٣] وَيُقَابِلُ ذَلِكَ بِمَا لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبِ

وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ: عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْقُرَبَاءِ إِلَّا ابْنٌ كَافِرٌ، أَنَّ إِرْثَهُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ الَّذِي هُوَ كَافِرٌ، وَالْمِيرَاثُ دَلِيلُ الْقَرَابَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ أَقْرَبُ مِنَ الْبُنُوَّةِ النِّسْبِيَّةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّابِطَةَ الَّتِي تَرْبُطُ أَفْرَادَ أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَرْبُطُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، هِيَ رَابِطَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَلَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ النِّدَاءُ بِرَابِطَةٍ غَيْرَهَا. وَمَنْ وَالَى الْكُفَّارَ بِالرَّوَابِطِ النِّسْبِيَّةِ مَحَبَّةً لَهُمْ، وَرَغْبَةً فِيهِمْ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [٥ \ ٥١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [٨ \ ٧٣]، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمَصَالِحُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الشَّرَائِعِ ثَلَاثَةٌ:

الْأُولَى: دَرْءُ الْمَفَاسِدِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالضَّرُورِيَّاتِ.

وَالثَّانِيَةُ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْحَاجِيَّاتِ.

وَالثَّالِثَةُ: الْجَرْيُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالتَّحْسِينِيَّاتِ وَالتَّتْمِيمَاتِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الثَّلَاثِ هَدَى فِيهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الطُّرُقِ وَأَعْدُلُهَا.

فَالضَّرُورِيَّاتُ الَّتِي هِيَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ إِنَّمَا هِيَ دَرْؤُهَا عَنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ:

الْأَوَّلُ: الدِّينُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢ \ ١٩٣]، وَفِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الْآيَةَ ٣٩]، وَقَالَ تَعَالَى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [٤٨ \ ١٦]، وَقَالَ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ ﷺ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ.

وَالثَّانِي: النَّفْسُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الْآيَةَ [٢ \ ١٧٩]، وَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ [٢ \ ١٧٨]، وَقَالَ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [١٧ \ ٣٣] .

الثَّالِثُ: الْعَقْلُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إِلَى قَوْلِهِ - فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [٥ \ ٩٠، ٩١]، وَقَالَ ﷺ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَقَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى «فِي سُورَةِ النَّحْلِ»، وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَقْلِ أَوْجَبَ ﷺ حَدَّ الشَّارِبِ دَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنِ الْعَقْلِ.

الرَّابِعُ: النَّسَبُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الزِّنَى وَأَوْجَبَ فِيهِ الْحَدَّ الرَّادِعَ، وَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ عَلَى النِّسَاءِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ بِطَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ، لِئَلَّا يَخْتَلِطَ مَاءُ رَجُلٍ بِمَاءٍ آخَرَ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَنْسَابِ ; قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [١٧ \ ٣٢]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الْآيَةَ [٢٤ \ ٢]، وَقَدْ قَدَّمْنَا آيَةَ الرَّجْمِ وَالْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي إِيجَابِ الْعِدَّةِ حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ الْآيَةَ [٢ \ ٢٢٨]، وَقَالَ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [٢ \ ٢٣٤] وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهَا شِبْهَ تَعَبُّدٍ لِوُجُوبِهَا مَعَ عَدَمِ الْخَلْوَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.

وَلِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى النِّسَبِ مَنَعَ سَقْيَ زَرْعِ الرَّجُلِ بِمَاءِ غَيْرِهِ ; فَمَنَعَ نِكَاحَ الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ، قَالَ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [٦٥ \ ٤] .

الْخَامِسُ: الْعِرْضُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَنَهَى

الْمُسْلِمَ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَخِيهِ بِمَا يُؤْذِيهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ إِنْ رَمَاهُ بِفِرْيَةٍ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ جِلْدَةً، قَالَ تَعَالَى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [٤٩ \ ١٢]، وَقَبَّحَ جَلَّ وَعَلَا غِيبَةَ الْمُسْلِمِ غَايَةَ التَّقْبِيحِ بِقَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [٤٩ \ ١٢]، وَقَالَ: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٤٩ \ ١١] وَقَالَ فِي إِيجَابِ حَدِّ الْقَاذِفِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [٢٤ \ ٤، ٥] .

السَّادِسُ: الْمَالُ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ أَخْذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ، وَأَوْجَبَ عَلَى السَّارِقِ حَدَّ السَّرِقَةِ وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [٤ \ ٢٩]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢ \ ١٨٨]، وَقَالَ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [٥ \ ٣٨]، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الْمَالِ وَدَرْءًا لِلْمَفْسَدَةِ عَنْهُ.

الْمَصْلَحَةُ الثَّانِيَةُ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَفَتَحَ الْأَبْوَابِ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [٦٢ \ ١٠]، وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [٢ \ ١٩٨]، وَقَالَ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [٧٣ \ ٢٠]، وَقَالَ: بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [٤ \ ٢٩] .

وَلِأَجْلِ هَذَا جَاءَ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ بِإِبَاحَةِ الْمَصَالِحِ الْمُتَبَادَلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، لِيَسْتَجْلِبَ كُلٌّ مَصْلَحَتَهُ مِنَ الْآخَرِ، كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْأَكْرِيَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.

الْمَصْلَحَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرْيُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَالْحَضُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ خُلُقِهِ ﷺ قَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ

فِي نَبِيِّهِ ﷺ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [٦٨ \ ٤] .

فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَةِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ بَعْضًا مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ٢٣٧] .

فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْحَضِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ وَالنَّهْيِ عَنْ نِسْيَانِ الْفَضْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا الْآيَةَ [٥ \ ٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [٥ \ ٨] . فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَمْرُ بِأَنْ تُعَامِلَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِأَنْ تُطِيعَهُ فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣٦] فَانْظُرْ إِلَى هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءِ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [١٦ \ ٩٠]، وَقَالَ تَعَالَى: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الْآيَةَ [٧ \ ٣١]، وَقَالَ: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [٦ \ ١٥١]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [٢٥ \ ٧٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [٢٨ \ ٥٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ.


وَمِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ: هَدْيُهُ إِلَى حَلِّ الْمَشَاكِلِ الْعَالَمِيَّةِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، وَنَحْنُ دَائِمًا فِي الْمُنَاسَبَاتِ نُبَيِّنُ هَدْيَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى حَلِّ ثَلَاثِ مُشْكِلَاتٍ، هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَانِيهِ الْعَالَمُ فِي جَمِيعِ الْمَعْمُورَةِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ، تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا: الْمُشْكِلَةُ الْأُولَى: هِيَ ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا فِي الْعَدَدِ وَالْعِدَدِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ هَدَى الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى حَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ بِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَعْدَلِهَا، فَبَيَّنَ أَنَّ عِلَاجَ الضَّعْفِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ بِصِدْقِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِهِ

وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، قَاهِرٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْلِبَهُ الْكُفَّارُ وَلَوْ بَلَغُوا مِنَ الْقُوَّةِ مَا بَلَغُوا.

فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا ضَرَبُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْحِصَارَ الْعَسْكَرِيَّ الْعَظِيمَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [٣٣ \ ١٠ - ١١]، كَانَ عِلَاجُ ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَانْظُرْ شِدَّةَ هَذَا الْحِصَارِ الْعَسْكَرِيِّ وَقُوَّةَ أَثَرِهِ فِي الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقَاطِعُوهُمْ سِيَاسَةً وَاقْتِصَادًا، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَاجَ الَّذِي قَابَلُوا بِهِ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ، وَحَلُّوا بِهِ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ الْعُظْمَى، هُوَ مَا بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا (فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ) بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [٣٣ \ ٢٢] .

فَهَذَا الْإِيمَانُ الْكَامِلُ، وَهَذَا التَّسْلِيمُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، ثِقَةً بِهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، هُوَ سَبَبُ حَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ الْعُظْمَى.

وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَتِيجَةِ هَذَا الْعِلَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [٣٣ \ ٢٥، ٢٦، ٢٧] .

وَهَذَا الَّذِي نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ، وَلَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ بِهِ وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ وَالرِّيحُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [٣٣ \ ٩]، وَلَمَّا عَلِمَ جَلَّ وَعَلَا مِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الْإِخْلَاصَ الْكَامِلَ، وَنَوَّهَ عَنْ إِخْلَاصِهِمْ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [٤٨ \ ١٨]: أَيْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، كَانَ مِنْ نَتَائِجَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [٤٨ \ ٢١]، فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا

عَلَيْهَا، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَحَاطَ بِهَا فَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ نَتَائِجِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَشِدَّةِ إِخْلَاصِهِمْ.

فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَقُوَّةَ الْإِيمَانِ بِهِ، هُوَ السَّبَبُ لِقُدْرَةِ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ وَغَلَبَتِهِ لَهُ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [٢ \ ٢٤٩]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا [٤٨ \ ٢١] فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ - «أَعْنِي الَّذِي يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ فِعْلَ الْأَمْرِ أَوِ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ أَوِ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ» - يَنْحَلُّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَبَعْضِ الْبَلَاغِيِّينَ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

الْمَصْدَرُ اسْمُ مَا سِوَى الزَّمَانِ مِنْ ... مَدْلُولَيِ الْفِعْلِ كَأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ

وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الْبَلَاغِيِّينَ، فِي بَحْثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ.

فَالْمَصْدَرُ إِذَنْ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ إِجْمَاعًا، فَيَتَسَلَّطُ النَّفْيُ الدَّاخِلُ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي مَفْهُومِهِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَجْعَلُهُ مُعَرَّفَةً، فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.

فَقَوْلُهُ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا [٤٨ \ ٢١] فِي مَعْنَى: لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهَا، وَهَذَا يَعُمُّ سَلْبَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ وَشُمُولِهِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُنْوَانِ. كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا مَسْلُوبٌ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَحَاطَ بِهَا فَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا، لِمَا عَلِمَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [٣٧ \ ١٧٣] .

الْمُشْكِلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ تَسْلِيطُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَأَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْكُفَّارَ عَلَى الْبَاطِلِ.

وَهَذِهِ الْمُشْكِلَةُ اسْتَشْكَلَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَفْتَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِيهَا، وَبَيَّنَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ بِفَتْوَى سَمَاوِيَّةٍ تُتْلَى فِي كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: فَقُتِلَ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَابْنُ

عَمَّتِهِ، وَمُثِّلَ بِهِمَا، وَقُتِلَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقُتِلَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَجُرِحَ ﷺ، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ، وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ ﷺ.

اسْتَشْكَلَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: كَيْفَ يُدَالُ مِنَّا الْمُشْرِكُونَ وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُبِينٍ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [٣ \ ١٦٥] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، فِيهِ إِجْمَالٌ بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا - إِلَى قَوْلِهِ - لِيَبْتَلِيَكُمْ [٣ \ ١٥٢] .

فَفِي هَذِهِ الْفَتْوَى السَّمَاوِيَّةِ بَيَانٌ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ سَبَبَ تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هُوَ فَشَلُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنَازُعُهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعِصْيَانُهُمْ أَمْرَهُ ﷺ، وَإِرَادَةُ بَعْضِهِمُ الدُّنْيَا مُقَدِّمًا لَهَا عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ ﷺ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَمَنْ عَرَفَ أَصْلَ الدَّاءِ عَرَفَ الدَّوَاءَ، كَمَا لَا يَخْفَى.

الْمُشْكِلَةُ الثَّالِثَةُ: هِيَ اخْتِلَافُ الْقُلُوبِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي الْقَضَاءِ عَلَى كِيَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لِاسْتِلْزَامِهِ الْفَشَلَ، وَذَهَابَ الْقُوَّةِ وَالدَّوْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْآيَةَ ٨ \ ٤٦] .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» .

فَتَرَى الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ الْيَوْمَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا يُضْمِرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَإِنْ جَامَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهَا مُجَامِلَةً، وَأَنَّ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّاءِ الَّذِي عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى إِنَّمَا هُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ ; قَالَ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [٥٩ \ ١٤]، ثُمَّ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِكَوْنِ قُلُوبِهِمْ شَتَّى بُقُولِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [٥٩ \ ١٤]، وَلَا شَكَّ أَنَّ دَاءَ ضَعْفِ الْعَقْلِ الَّذِي يُصِيبُهُ فَيُضْعِفُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالنَّافِعِ مِنَ الضَّارِّ، وَالْحَسَنِ مِنَ الْقَبِيحِ، لَا دَوَاءَ لَهُ إِلَّا إِنَارَتُهُ بِنُورِ الْوَحْيِ ; لِأَنَّ نُورَ الْوَحْيِ يَحْيَا بِهِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا وَيُضِيءُ الطَّرِيقَ لِلْمُتَمَسِّكِ بِهِ، فَيُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَالنَّافِعَ نَافِعًا، وَالضَّارَّ ضَارًّا، قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ [٦ \ ١٢٢]

وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [٢ \ ٢٥٧] وَمَنْ أُخْرِجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَبْصَرَ الْحَقَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ النُّورَ يَكْشِفُ لَهُ عَنِ الْحَقَائِقِ فَيُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٦٧ \ ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [٣٥ \ ١٩ - ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْآيَةَ [١١ \ ٢٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُكْسِبُ الْإِنْسَانَ حَيَاةً بَدَلًا مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَنُورًا بَدَلًا مِنَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي كَانَ فِيهَا.

وَهَذَا النُّورُ عَظِيمٌ يَكْشِفُ الْحَقَائِقَ كَشْفًا عَظِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ - إِلَى قَوْلِهِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٢٤ \ ٣٥]، وَلَمَّا كَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَقْتَضِي تَتَبُّعَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَجَمِيعِ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [٥٩ \ ٧]، وَكَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ.

وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ [١٧ \ ١١]، كَأَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ الضَّجَرِ مِنْ أَمْرٍ، فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَهْلِكْنِي، أَوْ أَهْلِكْ وَلَدِي، فَيَدْعُو بِالشَّرِّ دُعَاءً لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَقَوْلُهُ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ يَدْعُو بِالشَّرِّ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ عِنْدَ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ وَلَدِي، كَمَا يَقُولُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ عَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ.

وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِالشَّرِّ لَهَلَكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [١٠ \ ١١] أَيْ: لَوْ عَجَّلَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالشَّرِّ كَمَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ; أَيْ لَهَلَكُوا

وَمَاتُوا، فَالِاسْتِعْجَالُ بِمَعْنَى التَّعْجِيلِ.

وَيَدْخُلُ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ قَوْلُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيِّ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [٨ \ ٣٢] .

وَمِمَّنْ فَسَّرَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِمَا ذَكَرْنَا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ التَّفْسِيرَيْنِ لِدَلَالَةِ آيَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَالسَّلَامَةَ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَذَلِكَ قَدْ يَدْعُو بِالشَّرِّ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ الزِّنَى بِمَفْسُوقَتِهِ، أَوْ قَتْلَ مُسْلِمٍ هُوَ عَدُوٌّ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنُ جَامِعٍ:

أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِيمَنْ يَطُوفُ ... وَأَرْفَعُ مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَلِ

وَأَسْجُدُ بِاللَّيْلِ حَتَّى الصَّبَاحَ ... وَأَتْلُو مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ

عَسَى فَارِجُ الْهَمَّ عَنْ يُوسُفَ ... يُسَخِّرُ لِي رَبَّةَ الْمَحْمَلِ


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، أَيْ عَلَامَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكُ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَكَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [٤١ \ ٣٧]، وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [٣٦ \ ٣٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [١٠ \ ٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣ \ ١٩٠]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - إِلَى قَوْلِهِ - لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ \ ١٦٤]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٣ \ ٨٠]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [٢٥ \ ٦٢]، وَقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [٣٩ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [٦ \ ٩٦]، وَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا الْآيَةَ [٩١ \ ١ - ٤]، وَقَوْلِهِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى الْآيَةَ [٩٢ \ ١، ٢]، وَقَوْلِهِ: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى الْآيَةَ [٩٣ \ ١ - ٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [١٧ \ ١٢] يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا لِلْهُدُوءِ وَالرَّاحَةِ، وَالنَّهَارَ مُضِيئًا مُنَاسِبًا لِلْحَرَكَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا، فَيَسْعَوْنَ فِي مَعَاشِهِمْ فِي النَّهَارِ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ لَيْلًا لَصَعُبَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَأَهْلَكَهُمُ التَّعَبُ مِنْ دَوَامِ الْعَمَلِ.

فَكَمَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهُمَا أَيْضًا نِعْمَتَانِ مَنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢٨ \ ٧١ - ٧٣] .

فَقَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [٢٨ \ ٧٣]، أَيْ فِي النَّهَارِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا الْآيَةَ [٧٨ \ ٩ - ١١]، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [٢٥ \ ٤٧]، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [٣٠ \ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [٦ \ ٦٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [١٧ \ ١٢]، بَيَّنَ فِيهِ نِعْمَةً أُخْرَى عَلَى خُلُقِهِ، وَهِيَ مَعْرِفَتُهُمْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ بِاخْتِلَافِ

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْلَمُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلُّوا فِيهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَشْهُرَ الْحَجِّ، وَيَعْلَمُونَ مُضِيَّ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ لِمَنْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [٦٥ \ ٤]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [٢ \ ٢٣٤] . وَيَعْرِفُونَ مُضِيِّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْإِجَارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [١٠ \ ٥] . وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [٢ \ ١٨٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [١٧ \ ١٢] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَآيَةُ اللَّيْلِ هِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ هِيَ الشَّمْسُ، وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ قِيلَ مَعْنَاهُ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَمُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

وَقِيلَ: مَعْنَى فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [١٧ \ ١٢]، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ فِي الْقَمَرِ شُعَاعًا كَشُعَاعِ الشَّمْسِ تَرَى بِهِ الْأَشْيَاءَ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، فَنَقُصُّ نُورَ الْقَمَرِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ هُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي لِمُقَابَلَتِهِ تَعَالَى لَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [١٧ \ ١٢]، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى مَحْوِ آيَةِ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَبَعْضُ أَجِلَّاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ; أَيِ الشَّمْسَ مُبْصِرَةً، أَيْ: ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ.

قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارَ: إِذَا أَضَاءَ وَصَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ

بِهَا، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أَمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمُحِبِّ بِنَائِمِ

وَغَايَةُ مَا فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ: حَذْفُ مُضَافٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا

وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [١٧ \ ١٢]، فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَهُمَا لَا هُمَا أَنْفَسَهُمَا، وَحَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [١٢ \ ٨٢]، وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [٤ \ ٢٣] ; أَيْ نِكَاحُهَا، وَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [٥ \ ٣]، أَيْ أَكْلُهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ تَقَدَّمَتْ مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ، تَنْزِيلًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَعْنَى، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الْآيَةَ [٢ \ ١٨٥]، وَرَمَضَانُ هُوَ نَفْسُ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ الْآيَةَ [١٢ \ ١٠٩]، وَالدَّارُ هِيَ الْآخِرَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ [٦ \ ٣٢] بِالتَّعْرِيفِ، وَالْآخِرَةُ نَعْتٌ لِلدَّارِ، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ \ ١٦]، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ: وَمَكْرَ السَّيِّئِ الْآيَةَ [٣٥ \ ٤٣]، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيْءُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [٣٥ \ ٤٣]

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبَيَاضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذَّاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ

لِأَنَّ الْمُقَانَاةَ هِيَ الْبِكْرُ بِعَيْنِهَا، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

وَمِشَكٍّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ... بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ

لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ: السَّابِغَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمِشَكِّ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا: أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ تَغَايُرَ اللَّفْظَيْنِ رُبَّمَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدَ ... مَعْنًى وَأَوَّلْ مُوَهَّمًا إِذَا وَرَدَ

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ:

وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ ... حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبَعَ الَّذِي رَدَفَ

لِأَنَّ إِيجَابَ إِضَافَةِ الْعَلَمِ إِلَى اللَّقَبِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّأْوِيلِ، وَمَنْعُ الْإِتْبَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسَالِيبِهَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَلَى الْمُحْتَاجِ إِلَى تَأْوِيلٍ كَمَا تَرَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَالْمَعْنَى: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلَنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ مُبْصِرَةً، أَيْ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مَمْحُوَّ الضَّوْءِ مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا تُسْتَبَانُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا، أَيْ تُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [١٧ \ ١٢] تَقَدَّمَ إِيضَاحَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا

عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [١٦ \ ٨٩] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.

فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ [١٧ \ ١٣] ، وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ: الْعَمَلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ لَهُ سَهْمٌ إِذَا خَرَجَ لَهُ، أَيْ: أَلْزَمْنَاهُ مَا طَارَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ مَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ ; لِأَنَّ مَا يَطِيرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ.

فَإِذَا عَرَفْتَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ أَوْ أَقْوَالٌ، وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنُ، فَنَذْكُرُ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ.

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِطَائِرِهِ عَمَلُهُ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لَازِمٌ لَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الْآيَةَ [٤ \ ١٢٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٦٦ \ ٧]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [٨٤ \ ٦]، وَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [٤١ \ ٤٦]، وَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩ \ ٧، ٨] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِطَائِرِهِ نَصِيبُهُ الَّذِي طَارَ لَهُ فِي الْأَزَلِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [٦٤ \ ٢]، وَقَوْلِهِ: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [٧ \ ٣٠]، وَقَوْلِهِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [٤٢ \ ٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِي عُنُقِهِ [١٧ \ ١٣] ; أَيْ: جَعَلْنَا عَمَلَهُ، أَوْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ شَقَاوَةٍ فِي عُنُقِهِ، أَيْ: لَازِمًا لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوِ الْغِلِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَقَلَّدَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ، وَقَوْلُهُمْ: الْمَوْتُ فِي الرِّقَابِ، وَهَذَا الْأَمْرُ رِبْقَةٌ فِي رَقَبَتِهِ،

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طَوَّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ

فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: اللُّزُومُ وَعَدَمُ الِانْفِكَاكِ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [١٧ \ ١٣]، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الَّذِي أَلْزَمَ الْإِنْسَانَ إِيَّاهُ يُخْرِجُهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كِتَابٍ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.

وَبَيَّنَ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَلْقَاهُ مَنْشُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقُونَ ; أَيْ خَائِفُونَ مِمَّا فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا حَاضِرًا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَائِبًا، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يَظْلِمُهُمْ فِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ \ ٤٩] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُؤْتَى هَذَا الْكُتَّابُ بِيَمِينِهِ - جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ - وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِيَمِينِهِ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَنَّهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [٨٤ \ ٧ - ٩]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [٦٩ \ ١٩ - ٢٣] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِشَمَالِهِ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَهُ، وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فَيَصْلَى الْجَحِيمَ، وَيُسْلَكُ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [٦٩ \ ٢٥ - ٣٢]

أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ، وَمِمَّا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ يَصْلَى السَّعِيرَ، وَيَدْعُو الثُّبُورَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [٨٤ \ ١٠ - ١٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ \ ١٤]، يَعْنِي أَنَّ نَفْسَهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا عَمِلَ ; لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَذَكَّرُ كُلَّ مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [٧٥ \ ١٣] .

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ شَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٤١ \ ٢٣]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [٧٥ \ ١٤ - ١٥]، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ.


تَنْبِيهٌ

لَفْظَةُ «كَفَى» تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالَيْنِ:

تُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيَةً، وَهِيَ تَتَعَدَّى غَالِبًا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَفَاعِلُ هَذِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ لَا يَجُرُّ بِالْبَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [٣٣ \ ٢٥]، وَكَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الْآيَةَ [٣٩ \ ٣٦]، وَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [٢ \ ١٣٧]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَتَسْتَعْمِلُ لَازِمَةً، وَيَطَّرِدُ جَرُّ فَاعِلِهَا بِالْبَاءِ الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الْكِفَايَةِ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ \ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَقَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيَكْثُرُ إِتْيَانُ التَّمْيِيزِ بَعْدَ فَاعِلِهَا الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ

جَرَّ فَاعِلِهَا بِالْبَاءِ لَازِمٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَدَمُ جَرِّهِ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

عَمِيرَةُ وَدَّعَ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ ... كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرًا

وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَلْقَاهُ ; بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يُلْقِيهِ ذَلِكَ الْكِتَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَحَذَفَ الْفَاعِلَ فَبَنِي الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ.

وَقِرَاءَةُ مِنْ قَرَأَ: يَخْرُجُ - بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُضَارِعٌ خَرَجَ مَبْنِيًا لِلْفَاعِلِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الطَّائِرِ بِمَعْنَى الْعَمَلِ، وَقَوْلُهُ كِتَابًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، أَيْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْرُجُ هُوَ، أَيِ الْعَمَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّائِرِ فِي حَالِ كَوْنِهِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. وَكَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ يُخْرَجُ - بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ - فَالْضَمِيرُ النَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ أَيْضًا إِلَى الطَّائِرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ، أَيْ يَخْرُجُ لَهُ هُوَ، أَيْ طَائِرُهُ بِمَعْنَى عَمَلِهِ، فِي حَالِ كَوْنِهِ كِتَابًا.

وَعَلَى قِرَاءَةِ «يَخْرِجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ كِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْرِجُ هُوَ، أَيِ اللَّهُ لَهُ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا.

وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمُ السَّبْعَةُ: فَالنُّونُ فِي نُخْرِجُ نُونُ الْعَظَمَةِ لِمُطَابَقَةِ قَوْلِهِ: أَلْزَمْنَاهُ وَكِتَابًا مَفْعُولٌ بِهِ لِنَخْرُجَ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنِ اهْتَدَى فَعَمِلَ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ اهْتِدَاءَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَائِدَةُ ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ، وَثَمَرَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ فَعَمِلَ بِمَا يُسْخِطُ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ ضَلَالَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبَهُ السَّيِّئَةَ الْوَخِيمَةَ، فَيَخْلُدُ بِهِ فِي النَّارِ.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا الْآيَةَ [٤١ \ ٤٦]، وَقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [٣٠ \ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [٦ \ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [١٠ \ ١٠٨]،

وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ أُخْرَى، بَلْ لَا تَحْمَلُ نَفْسٌ إِلَّا ذَنْبَهَا.

فَقَوْلُهُ: وَلَا تَزِرُ [١٧ \ ١٥]، أَيْ لَا تَحْمِلُ، مِنْ وَزَرَ يَزِرُ إِذَا حَمَلَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ أَعْبَاءَ تَدْبِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ، يُقَالُ: وَزَرَ يَزِرُ وِزْرًا، إِذَا أَثِمَ. وَالْوِزْرُ أَيْضًا: الثُّقْلُ الْمُثْقَلُ، أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ، أَيْ: آثِمَةٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى. أَيْ إِثْمَهَا، أَوْ حِمْلَهَا الثَّقِيلِ، بَلْ لَا تَحْمِلُ إِلَّا وِزْرَ نَفْسِهَا.

وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [٣٥ \ ١٨]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ الْآيَةَ [٦ \ ١٦٤]، وَقَوْلِهِ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» بِإِيضَاحٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُعَارِضُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ الْآيَةَ [٢٩ \ ١٣]، وَلَا قَوْلُهُ: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [١٦ \ ٢٥] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ حَمَلُوا أَوْزَارَ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَوْزَارَ إِضْلَالِهِمْ غَيْرَهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.


تَنْبِيهٌ

يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مِنْ «أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذِّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ تَعْذِيبِهِ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ، إِذْ مُؤَاخَذَتُهُ بِبُكَاءِ غَيْرِهِ قَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ أَخْذِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ؟

السُّؤَالُ الثَّانِي: إِيجَابُ دِيِّ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ إِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ

بِجِنَايَةِ إِنْسَانٍ آخَرَ؟

وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ حَمَلُوهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالنَّوْحِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَابِنَّةَ مَعْبَدِ

لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يُنَاحَ عَلَيْهِ: فَتَعْذِيبُهُ بِسَبَبِ إِيصَائِهِ بِالْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ لَا فِعْلِ غَيْرِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَهْمِلَ نَهْيَهُمْ عَنِ النَّوْحِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ إِهْمَالَهُ نَهْيَهُمْ تَفْرِيطٌ مِنْهُ، وَمُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [٦٦ \ ٦] فَتَعْذِيبُهُ إِذًا بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ، وَتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: قُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى.

وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ إِيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَيْسَ مِنْ تَحْمِيلِهِمْ وِزْرَ الْقَاتِلِ، وَلَكِنَّهَا مُوَاسَاةٌ مَحْضَةٌ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي ; لِأَنَّ الْجَانِيَ لَمْ يَقْصِدْ سُوءًا، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَأَوْجَبَ اللَّهُ فِي جِنَايَتِهِ خَطَأً الدِّيَةَ بِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَأَوْجَبَ الْمُوَاسَاةَ فِيهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي إِيجَابِ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ مُوَاسَاةَ بَعْضِ خَلْقِهِ، كَمَا أَوْجَبَ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَرَدِّهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ، وَاعْتَقَدَ مَنْ أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ دِيوَانِ الْقَاتِلِ خَطَأً كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فَأَوْجَبَهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: "وَأَجْمَعَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ: أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ. حَتَّى جَعَلَ عُمَرُ الدِّيوَانَ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ دِيوَانٌ، وَأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الدِّيوَانَ، وَجَمَعَ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَعَلَ أَهْلَ كُلِّ نَاحِيَةٍ يَدًا، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا

ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا يُنْذِرُهُ وَيُحَذِّرُهُ، فَيُعْصَى ذَلِكَ الرَّسُولُ، وَيُسْتَمَرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ

وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [٤ \ ١٦٥]، فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ كُلِّ أَحَدٍ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمُ النَّارَ.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْضَحَ هُنَا قَطَعَهَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، بَيَّنَهَا فِي آخِرِ سُورَةِ طه بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [٢٠ \ ١٣٤] .

وَأَشَارَ لَهَا فِي سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٢٨ \ ٤٧]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [٦ \ ١٣١]، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ الْآيَةَ [٥ \ ١٩]، وَكَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ الْآيَةَ [٦ \ ١٥٥ - ١٥٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَيُوَضِّحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: «بِأَنْ لَمْ يْدْخِلْ أَحَدًا النَّارَ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [٦٧ \ ٨، ٩] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَفْوَاجِ الْمُلْقِينَ فِي النَّارِ.

قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي» الْبَحْرِ الْمُحِيطِ «فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا مَا نَصُّهُ:»وَكُلَّمَا " تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا

بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [٣٩ \ ٧١]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ.

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ الْمُوصُولَاتِ كَالَّذِي وَالَّتِي وَفُرُوعِهِمَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا، وَعَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ:

صِيغَةُ كُلٍّ أَوِ الْجَمِيعِ ... وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعَ

وَمُرَادُهُ بِالْبَيْتِ: أَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ، وَجَمِيعٍ، وَالَّذِي، وَالَّتِي» وَفُرُوعِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصِّيَغِ الْعُمُومِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا - إِلَى قَوْلِهِ - قَالُوا بَلَى [٣٩ \ ٧١] عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قَدْ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَعَصَوُا أَمْرَ رَبِّهِمْ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [٣٥ \ ٣٦]، فَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ - إِلَى قَوْلِهِ - وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [٣٥ \ ٣٧]، عَامٌّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [٤٠ \ ٤٩، ٥٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ أَنْذَرَتْهُمُ الرُّسُلُ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى عُذْرِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ وَلَوْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهَذَا قَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [٤ \ ١٨]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [٢ \ ١٦١]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ

أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [٣ \ ٩١]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤ \ ٤٨]، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [٢٢ \ ٣١]، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَقَوْلُهُ: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [٧ \ ٥٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَظَاهِرُ جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعُمُومُ، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَصَّصْ كَافِرًا دُونَ كَافِرٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا شُمُولُ جَمِيعِ الْكُفَّارِ.

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُعْذَرُونَ فِي كُفْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» اه. وَقَالَ مُسْلِمٌ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَزِيدَ - يَعْنِي ابْنَ كِيسَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي»، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كِيسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» اه، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ عُذْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْفَتْرَةِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ: هَلِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْفَتْرَةِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ فِي النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، أَوْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ؟ وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:

ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ ... وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ

وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فِي النَّارِ: النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْقِيحِ الْإِجْمَاعَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ «نَشْرِ الْبُنُودِ».

وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥] مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ الْمَنْفِيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الْآيَةَ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ

الْآيَاتِ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ، كَمَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِذًا فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّعْذِيبَ فِي الْآخِرَةِ.

وَنَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ، وَالشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفَاسِيرِهِمْ إِلَى الْجُمْهُورِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ الْمَنْصُوصَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الْآيَةَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ، أَمَّا الْوَاضِحُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَقْلٌ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ أَحَدٌ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ، الْخَالِقُ الرَّازِقُ، النَّافِعُ، الضَّارُّ، وَيَتَحَقَّقُونَ كُلَّ التَّحَقُّقِ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَلَا عَلَى دَفْعِ ضُرٍّ، كَمَا قَالَ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ [٢١ \ ٦٥]، وَكَمَا جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ بِكَثْرَةٍ بِأَنَّهُمْ وَقْتَ الشَّدَائِدِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، كَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [٢٩ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [٣١ \ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٦٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ غَالَطُوا أَنْفُسَهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِأَوْثَانِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ; مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْطَعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عِنْدَهُمْ بَقِيَّةَ إِنْذَارٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا ﷺ ; كَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَجَزَمَ بِهَذَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعِبَادِي فِي (الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ) .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِعُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ، فَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْذِيبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥]، إِنَّمَا هُوَ التَّعْذِيبُ الدُّنْيَوِيُّ دُونَ الْأُخْرَوِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِلَافَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ انْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ مُطْلَقًا، فَهُوَ أَعَمُّ

مِنْ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَصَرْفُ الْقُرْآنَ عَنْ ظَاهِرِهِ مَمْنُوعٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَنْ شُمُولِ التَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ ; كَقَوْلِهِ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى [٦٧ \ ٨، ٩]، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْوَاجِ أَهْلِ النَّارِ مَا عُذِّبُوا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِنْذَارِ الرُّسُلِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مَحَلَّ الْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ فِي غَيْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يُخْفَى عَلَى أَحَدٍ بِنَفْسِ الْجَوَابَيْنِ الْمَذْكُورِينَ آنِفًا ; لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاضِحِ وَغَيْرِهِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَا عُذِّبُوا بِهَا حَتَّى كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاضِحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْعَبَّادِيُّ وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا قَبْلَهُ ﷺ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ، لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُصَرِّحَةِ بِبُطْلَانِهِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ أُنْذِرُوا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنُ يَنْفِي هَذَا نَفْيًا بَاتًّا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي» يس «: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [٣٦ \ ٦] وَ» مَا «فِي قَوْلِهِ: مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [٣٦ \ ٦] نَافِيَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، لَا مَوْصُولَةٌ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ غَافِلُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي» الْقَصَصِ «: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [٢٨ \ ٤٦]، وَكَقَوْلِهِ فِي» سَبَأٍ «وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [٣٤ \ ٤٤]، وَكَقَوْلِهِ فِي» الم السَّجْدَةِ ": أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [٣٢ \ ٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَجَابُوا عَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَخْبَارُ آحَادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْقَاطِعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥]، وَقَوْلُهُ: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى [٦٧ \ ٨ - ٩]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْعُذْرِ بِالْفَتْرَةِ أَيْضًا عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [٤ \ ١٨]، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ

مِنَ الْآيَاتِ، بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَكَذَّبُوهُمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥] . وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَعْذِيبِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ: إِنَّ الْقَاطِعَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْذِيبِ بَعْضِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، كَحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَالْحَدِيثَيْنِ كِلَاهُمَا خَاصٌّ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; لِأَنَّ الْخَاصَّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

فَمًا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ خَرَجَ مِنَ الْعُمُومِ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بَقِيَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.

وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ يُبْطِلُ حِكْمَةَ الْعَامِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا تَمَدَّحُ بِكَمَالِ الْإِنْصَافِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ حَتَّى يَقْطَعَ حُجَّةَ الْمُعَذَّبِ بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْصَافَ الْكَامِلَ، وَالْإِعْذَارَ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الْعُذْرِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ، فَلَوْ عَذَّبَ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ إِنْذَارٍ لَاخْتَلَّتْ تِلْكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهَا، وَلَثَبَتَتْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ لِقَطْعِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الْآيَةَ [٤ \ ١٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [٢٠ \ ١٣٤]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّ عَدَمَ الْإِنْذَارِ فِي دَارِ الدُّنْيَا عِلَّةٌ لِعَدَمِ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَحَصَلَتْ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الْإِنْذَارِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ لِلنَّصِّ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى التَّعْذِيبِ فِيهَا، فَإِنَّ وُجُودَ عِلَّةِ الْحُكْمِ مَعَ فَقْدِ الْحُكْمِ الْمُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ. بِـ «النَّقْضِ» تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ قَصَرَ لَهَا عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَعْلُولِهَا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ ; أَيْ قَصْرُهُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَالْخِلَافُ فِي النَّقْضِ هَلْ هُوَ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، أَوْ تَخْصِيصٌ لَهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَعَقَدَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ:

مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ ... سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ

وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ ... بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصٌ ... إِنْ يَكُ الِاسْتِنْبَاطُ لَا التَّنْصِيصُ

وَعَكْسُ هَذَا قَدْ رَآهُ الْبَعْضُ ... وَمُنْتَقَى ذِي الِاخْتِصَارِ النَّقْضُ

إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً بِظَاهِرٍ ... وَلَيْسَ فِيمَا اسْتُنْبِطَتْ بِضَائِرِ

إِنْ جَا لِفَقْدِ الشَّرْطِ أَوْ لِمَا مَنَعَ ... وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ

فَقَدْ أَشَارَ فِي الْأَبْيَاتِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فِي النَّقْضِ: هَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ، أَوْ إِبْطَالٌ لِلْعِلَّةِ، مَعَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ.

وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْوَصْفِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِفَقْدِ شَرْطِ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ نَقْضٌ وَإِبْطَالٌ لَهَا، فَالْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعَدُوَّانُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ إِجْمَاعًا.

فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ الْمُرَكَّبَ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ لِكَوْنِ الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْقُوضَةٌ، لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، بَلْ هِيَ عِلَّةُ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِهَا مَانِعٌ، فَيُخَصَّصُ تَأْثِيرُهَا بِمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ.

وَكَذَلِكَ مَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَغَرَّهُ فَزَعَمَ لَهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَ مِنْهَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ حُرًّا، مَعَ أَنَّ رِقَّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ كُلَّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا ; لِأَنَّ الْغُرُورَ مَانِعٌ مَنَعَ مِنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ رِقُّ الْأُمِّ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رِقُّ الْوَلَدِ.

وَكَذَلِكَ الزِّنَى ; فَإِنَّهُ عَلِمَ لِلرَّجْمِ إِجْمَاعًا.

فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الزِّنَى فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي هِيَ الرَّجْمُ، وَنَعْنِي بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْإِحْصَانَ، فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ مَنْقُوضَةٌ، بَلْ هِيَ عِلَّةٌ تَخَلَّفَ شَرْطُ تَأْثِيرِهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ آيَةَ «الْحَشْرِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، وَاللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَنَعْنِي بِآيَةِ «الْحَشْرِ» قَوْلَهُ تَعَالَى فِي بَنِي النَّضِيرِ: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [٥٩ \ ٣] .

ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا عِلَّةَ هَذَا الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ [٥٩ \ ٤]، وَقَدْ يُوجَدُ بَعْضُ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَمْ يُعَذِّبْ بِمِثْلِ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ، مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ لَا نَقْضٌ لَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

أَمَّا مَثَلُ بَيْعِ التَّمْرِ الْيَابِسِ بِالرَّطْبِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَرَايَا، فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ إِجْمَاعًا لَا نَقْضَ لَهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْأَبْيَاتِ بِقَوْلِهِ:

وَالْوَفْقُ فِي مِثْلِ الْعَرَايَا قَدْ وَقَعَ

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ: هَلْ يَعْذُرُ الْمُشْرِكُونَ بِالْفَتْرَةِ أَوْ لَا؟ هُوَ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِالْفَتْرَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَارٍ يَأْمُرُهُمْ بِاقْتِحَامِهَا، فَمَنِ اقْتَحَمَهَا دَخْلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُصَدِّقُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنِ امْتَنَعَ دَخَلَ النَّارَ وَعُذِّبَ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ لَوْ جَاءَتْهُ فِي الدُّنْيَا ; لَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا عَامِلِينَ لَوْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَثُبُوتُهُ عَنْهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; فَلَا وَجْهَ لِلنِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ مَعَ ذَلِكَ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ الدَّالَّةَ عَلَى عُذْرِهِمْ بِالْفَتْرَةِ وَامْتِحَانِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَادًّا عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَضْعِيفَ أَحَادِيثِ عُذْرِهِمْ وَامْتِحَانِهِمْ، بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا عَمَلٍ، وَأَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُخُولِ النَّارِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ مَا نَصَّهُ:

وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَيْفٌ يَتَقَوَّى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ مُتَّصِلَةً مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ، أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ، وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ امْتِحَانِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ

وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [٦٨ \ ٤٢] .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَيَعُودُ ظَهْرُهُ كَالصَّفِيحَةِ الْوَاحِدَةِ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا: «أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عُهُودَهُ وَمَوَاثِيقَهُ أَلَّا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَابْنَ آدَمَ، مَا أَعْذَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمُ اللَّهُ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ؟ فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. وَمِنْهُمُ السَّاعِي، وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوسُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا، بَلْ هَذَا أُطْمٌ وَأَعْظَمَا

وَأَيْضًا: فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، وَهُمْ فِي عَمَايَةِ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِقَلِيلٍ مَا نَصُّهُ:

وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْمَحْشَرِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا، وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ، الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الِاعْتِقَادِ) وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ

مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا هَذَا الْقَوْلُ بِالْعُذْرِ وَالِامْتِحَانِ، فَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ، وَيَتَّفِقُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارُ عَمَلٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَرِدَ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا (دَفَعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [١٧ \ ١٦] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ: فَفَسَقُوا، أَيْ: خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، أَيْ أَهْلَكْنَاهَا إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، وَأَكَّدَ فِعْلَ التَّدْمِيرِ بِمَصْدَرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ الْآيَةَ [٧ \ ٢٨] . فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا [١٧ \ ١٦]، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [٣٤ \ ٣٤، ٣٥] .

فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الْآيَةَ

[٤٣ \ ٢٣]، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَتَبَجَّحُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ: أَنَّ مَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَنَّ هَذَا مَجَازٌ تَنْزِيلًا لِإِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ لِبَطَرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، كَلَامٌ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ إِبْطَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ»، وَالرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ عَارِفٌ فِي بُطْلَانِهِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْمَأْلُوفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، أَيْ أَمَرْتُهُ بِالطَّاعَةِ فَعَصَى. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالْعِصْيَانِ كَمَا لَا يَخْفَى.

الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسَخَّرْنَاهُمْ لَهُ ; لِأَنَّ كَلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ كَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [٥٤ \ ٥٠]، وَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٢ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [١٠ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣٦ \ ٨٢] .

الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ «أَمَرْنَا» بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَرْنَا بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَآمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ».

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رحمه الله فِي كِتَابِهِ (الْغَرِيبِ): الْمَأْمُورَةُ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَالسِّكَّةُ: الطَّرِيقَةُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخْلِ. وَالْمَأْبُورَةُ: مِنَ التَّأْبِيرِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الذَّكَرِ عَلَى النَّخْلَةِ لِئَلَّا يُسْقَطَ ثَمَرَهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِتْيَانَ الْمَأْمُورَةِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُجَرَّدًا عَنِ الزَّوَائِدِ، مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَتَّضِحُ كَوْنُ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَعَدِّي أَمْرِ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى الْإِكْثَارِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالُوا: حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ الِازْدِوَاجِ، كَقَوْلِهِمْ: الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَكَحَدِيثِ «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» ; لِأَنَّ الْغَدَايَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا سَاغَ

لِلِازْدِوَاجِ مَعَ الْعَشَايَا، وَكَذَلِكَ مَأْزُورَاتٌ بِالْهَمْزِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ الْمَادَّةَ مِنَ الْوِزْرِ بِالْوَاوِ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَ فِي قَوْلِهِ: «مَأْزُورَاتٍ» لِلِازْدِوَاجِ مَعَ «مَأْجُورَاتٍ»، وَالِازْدِوَاجُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: «مَأْمُورَةٌ» إِتْبَاعٌ لِقَوْلِهِ: «مَأْبُورَةٌ» وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْرُنَا [١٧ \ ١٦]، قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: «أَمَّرْنَا» بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَيْ سَلَّطْنَا شَرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ.

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ «أَمَّرْنَا» بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ.

وَقَالَهُ ابْنُ عَزِيزٍ: وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: «آمَرْنَا» بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ ; أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «آمَرْتُهُ - بِالْمَدِّ - وَأَمَرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى أَكْثَرْتُهُ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ» خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " ; أَيْ كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ: آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَكْثَرْنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: أَمَرْنَا - بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ - عَلَى فِعْلِنَا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَأَصْلُهَا أَأَمَرْنَا فَخَفَّفَ ; حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ.

وَفِي الصِّحَاحِ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ - بِالْكَسْرِ - أَيْ كَثُرَ. وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْأَعْشَى:

طَرِفُونَ وَلَادُّونَ كُلَّ مُبَارَكٍ ... أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ

وَآمَرَ اللَّهُ مَالَهُ ; بِالْمَدِّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا: إِذَا كَثُرُوا.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا: أَمَرَ أَمْرٍ بَنِي فُلَانٍ ; قَالَ

لَبِيدٌ:

كُلُّ بَنِي حُرَّةَ مَصِيرُهُمْ ... قُلْ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنَ الْعَدَدِ

إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمَرُوا ... يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهَلَكِ وَالنَّكَدِ

قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَقَدْ أَمَرَ أَمْرَ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لِيَخَافَهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ; أَيْ كَثُرَ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ أَمَرَ فَهِيَ لُغَةٌ، وَوَجْهُ تَعْدِيَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِـ (عَمَرَ) مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْكَثْرَةُ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْعِمَارَةِ، فَعَدَّى كَمَا عَدَّى عَمَرَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقِيلَ أَمَرْنَاهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ، أَيْ غَيْرُ مُؤَمِّرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: بَعَثْنَا مُسْتَكْبَرِيهَا. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: بَعَثْنَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَحَكَى النَّحَّاسُ: وَقَالَ هَارُونُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا أَمْرَنَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.


تَنْبِيهٌ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَسْنَدَ الْفِسْقَ فِيهَا لِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [١٧ \ ١٦] مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ عُمُومَ الْهَلَاكِ لِجَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ وَغَيْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِ: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [١٧ \ ١٦] يَعْنِي الْقَرْيَةَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ؟

وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ تَبَعٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمُتْرَفِينَ الَّذِينَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ ; لِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [٣٣ \ ٦٧]، وَكَقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ الْآيَةَ [٢ \ ١٦٦]، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا الْآيَةَ [٧ \ ٣٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [١٤ \ ٢١]، وَقَوْلِهِ: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [٤٠ \ ٤٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ إِنْ عَصَى اللَّهَ وَبَغَى وَطَغَى وَلَمْ يَنْهَهُمُ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْهَلَاكَ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [٨ \ ٢٥]، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرِبْ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ» - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُوَضِّحًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.


قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ كَمْ فِي قَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا [١٧ \ ١٧] خَبَرِيَّةٌ، مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا خَبِيرٌ بَصِيرٌ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَكَفَى بِرَبِّكَ الْآيَةَ [١٧ \ ١٧] .

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوْضَحَتْهُ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ:

الْأُولَى: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَهْدِيدًا لِكُفَّارِ مَكَّةَ، وَتَخْوِيفًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا ; أَيْ أَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرَةً مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، فَلَا تُكَذِّبُوا رَسُولَنَا لِئَلَّا نَفْعَلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِهِمْ.

وَالْآيَاتُ الَّتِي أَوْضَحَتْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٧ \ ١٣٧ - ١٣٨]، وَكَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [١٥ \ ٧٥، ٧٦]، وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢٩ \ ٣٥]، وَقَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [٤٧ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا إِهْلَاكَهُ لِقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ

صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [٢٦ \ ٨]، وَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ مُوسَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [٧٩ \ ٢٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَقَوْلِهِ: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ الْآيَةَ [٤٤ \ ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَّ تَخْوِيفِهِمْ بِمَا وَقَعَ لِمَنْ قَبْلَهُمْ.

الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْقُرُونَ تَعَرَّضَتْ لِبَيَانِهَا آيَاتٌ أُخَرَ ; فَبَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنَّ تِلْكَ الْقُرُونَ كَثِيرَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَعَادًا وَثَمُودًا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [٢٥ \ ٣٨] وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [١٤ \ ٩] . وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّ رُسُلَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّ خَبَرَهُ عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ عَلَيْهِ، وَهَمَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [٤ \ ١٦٤]، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [٤٠ \ ٧٨] .

الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [١٧ \ ١٧] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَنَّهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ الْآيَةَ [٢ \ ٢١٣]، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا الْآيَةَ [١٠ \ ١٩] ; لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْكُفْرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ، مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالنَّارِ، وَأَوَّلُهُمْ فِي ذَلِكَ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ الْآيَةَ [٤ \ ١٦٣] . وَفِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِنُوحٍ: إِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعْثَهُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

الْجِهَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [١٧ \ ١٧] فِيهِ أَعْظَمُ زَجْرٍ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى.

وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ \ ١٦] وَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [١١ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [٢ \ ٢٣٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مُوَضَّحًا فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ. وَلَفْظَةُ «كَمْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ «أَهْلَكْنَا» وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَمْ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ بِالْجِنْسِ. وَأَمَّا لَفْظُهُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ»، وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ أَنَّ «مِنْ» الثَّانِيَةِ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا [١٧ \ ١٩] أَيْ عَمِلَ لَهَا عَمَلَهَا الَّذِي تَنَالُ بِهِ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتنَابُ نَهْيِهِ بِإِخْلَاصٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [١٧ \ ١٩] أَيْ مُوَحِّدٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، غَيْرُ مُشْرِكٍ بِهِ وَلَا كَافِرٍ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُ سَعْيَهُ، بِأَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عَنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ.

وَفِي الْآيَةِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.

لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [١٧ \ ١٩] .

وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ

ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [٤ \ ١٢٤]، وَقَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ \ ٩٧] وَقَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [٤٠ \ ٤٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ بِإِخْلَاصٍ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ; لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَفْهُومَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ \ ٢٣]، وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ الْآيَةَ [١٤ \ ١٨]، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا الْآيَةَ [٢٤ \ ٣٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ عَمَلَ الْكَافِرِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ يُجَازَى بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. كَقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١١ \ ١٥، ١٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [٤٢ \ ٢٠] .

وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوُ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ: مِنَ انْتِفَاعِ الْكَافِرِ بِعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا الْآخِرَةَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» .

حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضِرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمُ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» .

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَّرَنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا:

كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَالْجَارِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلِّهِ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ الْآيَةَ [١٧ \ ١٨] .

فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُقَيِّدَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:

وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبْ ... إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبْ


قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا

الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، لِيَشْرَعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّهُ ﷺ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْعُدُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ ﷺ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ لَا نَفْسُ خِطَابِهِ هُوَ ﷺ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [١٧ \ ٢٣] ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْآيَةَ [١٧ \ ٢٣]، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَالِدَيْهِ قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ بَعْدَ أَنْ مَاتَا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ التَّشْرِيعُ لِغَيْرِهِ ﷺ، وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ خِطَابُهُمْ إِنْسَانًا وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ السَّائِرَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ، وَهُوَ سَهْلُ بْنُ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ:

إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ

وَسَبَبُ هَذَا الْمَثَلِ: أَنَّهُ زَارَ حَارِثَةَ بْنَ لَأْمٍ الطَّائِيَّ فَوَجَدَهُ غَائِبًا، فَأَنْزَلَتْهُ أُخْتُهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَأَعْجَبَهُ جَمَالُهَا، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِأُخْرَى غَيْرَهَا لِيَسْمِعَهَا هِيَ:

يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ

أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ

فَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مُرَادَهُ، وَأَجَابَتْهُ بِقَوْلِهَا:

إِنِّي أَقُولُ يَا فَتَى فَزَارَهْ ... لَا أَبْتَغِي الزَّوْجَ وَلَا الدَّعَارَهْ

وَلَا فِرَاقَ أَهْلِ هَذِي الْحَارَهْ ... فَارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِاسْتِحَارَهْ

وَالظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَهَا «بِاسْتِحَارَهْ» أَنَّ أَصْلَهُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بِمَعْنَى رَجْعِ الْكَلَامِ بَيْنَهُمَا، أَيِ ارْحَلْ إِلَى أَهْلِكَ بِالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَهِيَ كَلَامُكَ وَجَوَابِي لَهُ، وَلَا تَحْصُلُ مِنِّي عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ! وَالْهَاءُ فِي «الِاسْتِحَارَةِ» عِوَضٌ مِنَ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ بِالْإِعْلَالِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فَنِّ الصَّرْفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: إِفْرَادُ الْخِطَابِ مَعَ قَصْدِ التَّعْمِيمِ ; كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ... وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ

وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَتَقْعُدَ [١٧ \ ٢٢] أَيْ: تَصِيرُ. وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ مِنْهُ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ ... وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ

مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِيَ الْأَرْكَابُ ... وَيَقْعُدَ الْأَيْرُ لَهُ لُعَابُ

أَيْ يَصِيرُ لَهُ لُعَابٌ.

وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: قَعَدَ لَا يُسْأَلُ حَاجَةً إِلَّا قَضَاهَا. بِمَعْنَى صَارَ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.

ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: وَالْقُعُودُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْمُكْثِ، أَيْ فَتَمْكُثُ فِي النَّاسِ مَذْمُومًا مَخْذُولًا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ سَأَلَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ: هُوَ قَاعِدٌ فِي أَسْوَأِ حَالٍ ; وَمَعْنَاهُ مَاكِثٌ وَمُقِيمٌ. سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَمْ جَالِسًا. وَقَدْ يُرَادُ الْقُعُودُ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَذْمُومِ

الْمَخْذُولِ أَنْ يَقْعُدَ حَائِرًا مُتَفَكِّرًا، وَعَبَّرَ بِغَالِبِ حَالِهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، وَقِيلَ: مَعْنَى فَتَقْعُدَ [١٧ \ ٢٢] فَتَعْجَزُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِ الْمَكَارِمِ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ.

وَالْمَذْمُومُ هُنَا: هُوَ مَنْ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْعُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ ; حَيْثُ أَشْرَكَ بِاللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.

وَالْمَخْذُولُ: هُوَ الَّذِي لَا يَنْصُرُهُ مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مِنْهُ النَّصْرَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

إِنَّ الْمَرْءَ مَيِّتًا بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِ ... وَلَكِنْ بِأَنْ يَبْغَى عَلَيْهِ فَيُخْذُلَا


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

، أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَقَرَنَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ.

وَجَعْلُهُ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ هُنَا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ»: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الْآيَةَ [٤ \ ٣٦]، وَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الْآيَةَ [٢ \ ٨٣]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [٣١ \ ١٤]، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بِرَّهُمَا لَازِمٌ وَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى شِرْكِهِمَا ; كَقَوْلِهِ فِي «لُقْمَانَ»: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [٣١ \ ١٥]، وَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ»: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الْآيَةَ [٢٩ \ ٨] .

وَذِكْرُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِتَوْحِيدِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي عِبَادَتِهِ، يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَأَكُّدِ وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ. وَجَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.

وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [١٧ \ ٢٣] بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [١٧ \ ٢٣ - ٢٤] ; لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِيضَاحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّلِّ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ»، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ «مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَضَى رَبُّكَ [١٧ \ ٢٣] مَعْنَاهُ: أَمَرَ وَأَلْزَمَ، وَأَوْجَبَ وَوَصَّى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَضَى رَبُّكَ [١٧ \ ٢٣]، أَيْ أَمَرَ أَمْرًا مَقْطُوعًا بِهِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» أَنَّ إِعْرَابَ قَوْلِهِ: إِحْسَانًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنْ فِعْلِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَعَطْفُ الْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوِ الصَّرِيحِ عَلَى النَّهْيِ مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ:

وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيِّهِمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلَكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أَوْ بِأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا

، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْهُمُ [١٧ \ ٢٨] ، رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ الْآيَةَ [١٧ \ ٢٦] . وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ تُعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلَمْ تُعْطَهُمْ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَكَ، وَإِعْرَاضُكَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا [١٧ \ ٢٨]، أَيْ رِزْقٍ حَلَالٍ ; كَالْفَيْءِ يَرْزُقُكَهُ اللَّهُ فَتُعْطِيهِمْ مِنْهُ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، أَيْ لَيِّنًا لَطِيفًا طَيِّبًا، كَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ إِذَا يَسَّرَ مِنْ فَضْلِهِ رِزْقًا أَنَّكَ تُعْطِيهِمْ مِنْهُ.

وَهَذَا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِعْطَاءِ الْجَمِيلِ فَلْيَتَجَمَّلْ فِي عَدَمِ الْإِعْطَاءِ ; لِأَنَّ الرَّدَّ الْجَمِيلَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعْطَاءِ الْقَبِيحِ.

وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، صَرَّحَ بِهِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى الْآيَةَ [٢ \ ٢٦٣]، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

إِلَّا تَكَنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجْوَدُ بِهَا ... لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ

لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِي

وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ ﷺ لَا يُعْرِضُ عَنِ الْإِعْطَاءِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعْطَى مِنْهُ، وَأَنَّ الرِّزْقَ الْمُنْتَظَرَ إِذَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُمْ. وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الْجُودِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلًا مَيْسُورًا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ مِنْ لَفْظِ الْيُسْرِ

كَالْمَيْمُونِ.

وَقَدْ عَلِمَتْ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [١٧ \ ٢٨] مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ تُعْرِضَنَّ لَا بِجَزَاءِ الشَّرْطِ.

وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ تَعَلُّقَهُ بِالْجَزَاءِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ يَسِّرْ عَلَيْهِمْ وَالْطُفْ بِهِمْ، لِابْتِغَائِكَ بِذَلِكَ رَحْمَةَ اللَّهِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» بِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ. قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ إِنْ يَقُمْ فَاضْرِبْ خَالِدًا أَنْ تَقُولَ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا فَاضْرِبْ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [١٧ \ ٢٨] رَاجِعٌ لِلْكُفَّارِ ; أَيْ إِنْ تُعْرِضَ عَنِ الْكُفَّارِ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ نَصْرٍ لَكَ عَلَيْهِمْ، أَوْ هِدَايَةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ: الْمُدَارَاةُ بِاللِّسَانِ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانُ الدِّمَشْقِيُّ، انْتَهَى مِنَ الْبَحْرِ. وَيَسَرَ بِالتَّخْفِيفِ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمَيْسُورٌ مِنَ الْمُتَعَدِّي، تَقُولُ: يَسَّرْتُ لَكَ كَذَا إِذَا أَعْدَدْتُهُ ; قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ أَيْضًا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ، وَوَعَدَهُ بِأَنَّهُ مَنْصُورٌ.

وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ هَنَا شَامِلٌ ثَلَاثَ صُوَرٍ:

الْأُولَى: أَنْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِوَاحِدٍ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَقَوْلِ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ فِي حَرْبِ الْبَسُوسِ الْمَشْهُورَةِ: بُؤْ بِشَسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ ; فَغَضِبَ الْحَارِثُ بْنُ عَبَّادٍ، وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ:

قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وَائِلٍ عَنْ حِيَالِ

قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي ... إِنَّ بَيْعَ الْكِرَامِ بِالشَّسْعِ غَالِي

، إِلَخْ

وَقَالَ مُهَلْهِلٌ أَيْضًا:

كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غَرَّهُ ... حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلَ آلُ مُرَّهْ

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَتْلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي قَتْلِهِ: إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الثَّانِيَةُ أَنْ يَقْتُلَ بِالْقَتِيلِ وَاحِدًا فَقَطْ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ الْقَاتِلِ ; لِأَنَّ قَتْلَ الْبَرِيءِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَ الْقَاتِلِ وَيُمَثِّلَ بِهِ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْمُثْلَةِ إِسْرَافٌ فِي الْقَتْلِ أَيْضًا.

وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَالَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْضَ الْمَيْلِ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: فَلَا يُسْرِفُ الظَّالِمُ الْجَانِي فِي الْقَتْلِ ; تَخْوِيفًا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَالنَّصْرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ، لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [١٧ \ ٣٣] .

وَهَذَا السُّلْطَانُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا بَيَانًا مُفَصَّلًا، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ هُوَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنَ السُّلْطَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ، مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ قَتْلِهِ إِنْ أَحَبَّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ أَوْ مَجَّانًا.

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ هُنَا: فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [١٧ \ ٣٣ بَعْدَ ذِكْرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ مُقْتَرِنًا بِذِكْرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ ذَلِكَ الْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ.

الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الْآيَةَ [٢ \ ١٧٨ - ١٧٩]، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْقِصَاصِ هَذِهِ، وَخَيْرُ مَا يُبَيَّنُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.


مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مَظْلُومًا أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَ مَظْلُومٍ لَيْسَ لِوَلِيِّهِ سُلْطَانٌ عَلَى قَاتِلِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَدَمَهُ حَلَالٌ، وَلَا سُلْطَانَ لِوَلِيِّهِ فِي قَتْلِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا بِذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَحُلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» .

وَبَيَّنَا هَذَا الْمَفْهُومَ فِي قَوْلِهِ: مَظْلُومًا يَظْهَرُ بِهِ بَيَانُ الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ أَيْضًا

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [١٧ \ ٣٣] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَدِلَّةِ أَسْبَابٌ أُخَرُ لِإِبَاحَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. مِنْ ذَلِكَ: الْمُحَارِبُونَ إِذَا لَمَّ يَقْتُلُوا أَحَدًا. عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الْآيَةَ [٥ \ ٣٣]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» .

وَمِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ فِي فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ وَأَدِلَّتَهَا بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ «هُودٍ» .

وَأَمَّا قَتْلُ السَّاحِرِ فَلَا يَبْعُدُ دُخُولُهُ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: «التَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ» لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ الْآيَةَ [٢ \ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ الْآيَةَ [٢ \ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [٢ \ ١٠٢] .

وَأَمَّا قَتْلُ مَانِعِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ دَاخِلٌ فِي «التَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ»، وَأَمَّا إِنْ مَنَعَهَا وَهُوَ مُقِرٌّ بِوُجُوبِهَا فَالَّذِي يَجُوزُ فِيهِ: الْقِتَالُ لَا الْقَتْلُ، وَبَيْنَ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْرُوفٌ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً يُقْتَلُ هُوَ وَتُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ مَعَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ»: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ ; لِأَنَّ حَصْرَ مَا يُبَاحُ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَعَ التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفُرُوعِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَصْرُ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ

الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا ثَبَتَ بِوَحْيٍ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، لِقُوَّتِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ خَطَأً لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [٣٣ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا الْآيَةَ [٢ \ ٢٨٦]، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَرَأَهَا، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتَ. وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [٤ \ ٩٢] ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَلْزَمُ الْقَاتِلَ خَطَأً بِقَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الْآيَةَ [٤ \ ٩٢]، وَقَدْ بَيَّنَ ﷺ الدِّيَةَ قَدْرًا وَجِنْسًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا [١٧ \ ٣٣] أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَتْلُ بِمُحَدَّدٍ كَالسِّلَاحِ، وَبِغَيْرِ مُحَدَّدٍ كَرَضْخِ الرَّأْسِ بِحَجَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ.

وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ»: هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.

وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ فِيمَا كَانَ مَعْرُوفًا بِقَتْلِ النَّاسِ كَالْمَنْجَنِيقِ، وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِأَدِلَّةٍ:

الْأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ. الثَّانِي: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ: أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوَضَاحٍ لَهَا، فَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، رَضَّ رَأْسَهُ بِهِمَا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَيْهِ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِهِ: بِاسْتِوَاءِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْمَعْصُومِ الدَّمُ كَالذِّمِّيِّ.

الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ مِنَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمِسْطَحِ. قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ نَشَدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ حُجْرَتِي امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ ﷺ فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ فِي قَضِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي جَنِينِهَا بِغُرَّةٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمِسْطَحُ هُوَ الصَّوْلَجُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمِسْطَحُ عُودٌ مِنْ أَعْوَادِ الْخِبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ نَشَدَ النَّاسَ قَضَاءَ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ (يَعْنِي فِي الْجَنِينِ) فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةَ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَقَتَلَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ، وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا. انْتَهَى مِنَ السُّنَنِ الثَّلَاثِ بِأَلْفَاظِهَا.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ صَحِيحٌ، فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ الْمِصِّيصِيِّ وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ يُوسُفَ النَّيْسَابُورِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمِصِّيصِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَجَمِيُّ نَزِيلُ طَرْسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عَارِفٌ. وَرِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِمِيِّ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرِ الدَّارِمِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَكِلَاهُمَا (أَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَأَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ) رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ وَهُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُسْلِمٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُوَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَالضَّحَّاكُ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، وَكَانَ يُدَلِّسُ وَيُرْسِلُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فَقِيهٌ فَاضِلٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ حَمْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ فَهِيَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْمِصِّيصِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيُّ الْأَعْوَرُ أَبُو مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيُّ الْأَصْلِ نُزِيلُ بَغْدَادَ ثُمَّ الْمِصِّيصَةِ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ قَبْلَ مَوْتِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، إِلَى آخَرَ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَخْلِطْ فِيهِ حَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَتِهِ لَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ; بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي عَاصِمٍ لَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَرِوَايَةِ حَجَّاجٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَأَبُو عَاصِمٍ ثِقَ ثَبْتٌ.

رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَجَزَمَ بِصِحَّةِ هَذَا الْإِسْنَادِ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ حَمَلٍ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَفِيمَا ذَكَرَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «الْعِلَلِ» قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا (يَعْنِي الْبُخَارِيَّ) عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ حَافِظٌ اه.

فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ قَوِيٌّ فِي الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; لِأَنَّ الْمِسْطَحُ عَمُودٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: وَالْمِسْطَحُ أَيْضًا عَمُودُ الْخِبَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ:

تَعَرَّضُ ضَيْطَارُو خُزَاعَةَ دُونَنَا ... وَمَا خَيْرُ ضَيْطَارٍ يَقْلِبُ مِسْطَحَا

يَقُولُ: تَعَرَّضَ لَنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لِيُقَاتِلُونَا وَلَيْسُوا بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهُمْ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ سِوَى الْمِسْطَحِ وَالضَّيْطَارُ، هُوَ الرَّجُلُ الضَّخْمُ الَّذِي لَا غِنَاءَ عِنْدَهُ.

الرَّابِعُ: ظَوَاهِرُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [٢ \ ١٩٤]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [١٦ \ ١٢٦]، وَقَوْلِهِ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [٤٢ \ ٤٠]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [٢٢ \ ٦٠]، وَقَوْلِهِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ الْآيَةَ [٤٢ \ ٤١ - ٤٢] .

وَفِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ قُدَامَةَ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَقَادَ وَلِيَّ رَجُلٍ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصًا. فَقَتَلَهُ وَلَيُّهُ

بِعَصًا.

قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصًا أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْعَمْدُ وَفِيهِ الْقِصَاصُ.

قَالَ مَالِكٌ: فَقَتْلُ الْعَمْدِ عِنْدَنَا أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ حَتَّى تَفِيضَ نَفْسُهُ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنَ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ رحمهم الله، فَقَالُوا: لَا قِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا أَنَّ الْقِصَاصَ يُشْتَرَطُ لَهُ الْعَمْدُ، وَالْعَمْدُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَرَائِنِ الْجَازِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بِآلَةِ الْقَتْلِ كَالْمُحَدَّدِ، عُلِمَ أَنَّهُ عَامِدُ قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ عُمَدُهُ لِلْقَتْلِ ; لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِ أَنْ يَشُجَّهُ أَوْ يُؤْلِمَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ قَتْلِهِ فَيُئَوَّلُ إِلَى شِبْهِ الْعَمْدِ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مَنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا» .

وَفِي رِوَايَةٍ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ; فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ; فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا» .

قَالُوا: فَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ; لِأَنَّ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا أَنَّهَا قَتَلَتْهَا بِعَمُودٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا قَتَلَتْهَا بِحَجَرٍ.

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلِيٍّ، وَأَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا قَوْدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ» . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «كُلُّ شَيْءٍ

خَطَأٌ إِلَّا السَّيْفَ، وَلِكُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ» .

وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ حُجَجِ مُخَالِفِيهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ رَضَّ النَّبِيِّ ﷺ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا. وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ ; وَلِذَلِكَ فَعَلَ بِهِ ﷺ مَا فَعَلَ.

وَرَدُّ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ لَا بِالْقِصَاصِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (السُّنَنِ الْكُبْرَى) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِحَّةَ إِسْنَادِ الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْقِصَاصِ مِنَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ كَمَا تَقَدَّمَ مَا نَصُّهُ: إِلَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ زِيَادَةً لَمْ أَرَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ قَتْلُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا، وَحَدِيثِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا ثَابِتًا أَنَّهُ قَضَى بِدِيَتِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ.

وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رُوجِعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ ابْنَ طَاوُسٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَلَى خِلَافِ رِوَايَةِ عَمْرٍو، فَقَالَ لِلَّذِي رَاجِعْهُ: شَكَّكْتَنِي.

وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجَاجَاتِ: بِأَنَّ رَضَّهُ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ قِصَاصٌ ; فَفِي رِوَايَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَقْتُلْهُ حَتَّى اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَ الْجَارِيَةَ ; فَهُوَ قَتْلُ قِصَاصٍ بِاعْتِرَافِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِوَاءِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ كَالذِّمِّيِّ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَأَجَابُوا عَنْ كَوْنِ الْعَمْدِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَامِدًا إِلَّا إِذَا ضَرَبَ بِالْآلَةِ الْمَعْهُودَةِ لِلْقَتْلِ بِأَنَّ الْمُثْقَلَ كَالْعَمُودِ وَالصَّخْرَةِ الْكَبِيرَةِ مِنْ آلَاتِ الْقَتْلِ كَالسَّيْفِ ; لِأَنَّ الْمَشْدُوخَ رَأْسُهُ بِعَمُودٍ أَوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ حَالًا عَادَةً كَمَا يَمُوتُ الْمَضْرُوبُ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ يَكْفِي مِنَ الْقَرِينَةِ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ.

وَأَجَابُوا عَمَّا ثَبَتَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ بِعَمُودٍ أَوْ حَجَرٍ بِالدِّيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ

مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ كَصَاحِبِ الْقِصَّةِ. لِأَنَّ الْقَاتِلَةَ وَالْمَقْتُولَةَ زَوْجَتَاهُ مِنْ كَوْنِهِ ﷺ قَضَى فِيهَا بِالْقِصَاصِ لَا بِالدِّيَةِ.

الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَجَرٍ صَغِيرٍ وَعَمُودٍ صَغِيرٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَجُبْ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ عَلَى الْجَانِي، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاهِيرِ اه كَلَامُ النَّوَوِيِّ رحمه الله.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ وَجِيهٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهَا قُتِلَتْ بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ، وَحِمْلُهُ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَقْتُلُ غَالِبًا بَعِيدٌ.

الثَّالِثُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» مِنْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَا تَقْصِدُ غَالِبًا قَتْلَ الْأُخْرَى، قَالَ مَا نَصُّهُ:

وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهِ - يَعْنِي الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ - بِأَنَّ عَمُودَ الْفُسْطَاطِ يَخْتَلِفُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ، بِحَيْثُ يَقْتُلُ بَعْضُهُ غَالِبًا وَلَا يَقْتُلُ بَعْضُهُ غَالِبًا، وَطَرْدُ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ إِنَّمَا يُشْرَعُ فِيمَا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.

وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَوْدُ لِأَنَّهَا لَمْ يَقْصِدْ مِثْلُهَا وَشَرْطُ الْقَوْدِ الْعَمْدُ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ وَلَا عَكْسِهِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لِضَرَّتِهَا خَطَأٌ فِي الْقَتْلِ شِبْهُ عَمْدٍ ; لِقَصْدِ الضَّرْبِ دُونَ الْقَتْلِ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، تَصْرِيحُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ ﷺ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: «لَا قَوْدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ» بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى» بَعْدَ أَنْ سَاقَ طُرُقَهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم مَا نَصُّهُ:

وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِسْنَادٌ فَعَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ الطَّحَّانُ مَتْرُوكٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ضَعِيفٌ، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَجَابِرُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ مَطْعُونٌ فِيهِ اه.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ «فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي بَابِ إِذَا قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ عَصَا» مَا نَصُّهُ:

وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «لَا قَوْدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ الِاخْتِلَافَ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ: وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَتِهِمْ فِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَلَا تُخَصِّصُهُ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى غَيْرِ الْمُثْلَةِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» مَا نَصُّهُ:

وَذَهَبَتِ الْعِتْرَةُ وَالْكُوفِيُّونَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الِاقْتِصَاصَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارِ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا «لَا قَوْدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَالْبَزَّارُ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا.

وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا لَا تَخْلُو وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ مَتْرُوكٍ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: طُرُقُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إِسْنَادٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الشَّوْكَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وَقَدْ حَاوَلَ الشَّيْخُ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ تَقْوِيَتَهُ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ» بِدَعْوَى تَقْوِيَةِ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، وَمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، مَعَ أَنَّ جَابِرًا ضَعِيفٌ رَافِضِيٌّ، وَمُبَارَكٌ يُدَلِّسُ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ عِنْدِي: هُوَ الْقِصَاصُ مُطْلَقًا فِي الْقَتْلِ عَمْدًا بِمُثْقَلٍ كَانَ أَوْ بِمُحَدَّدٍ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ الْآيَةَ [٢ \ ١٧٩] ; لِأَنَّ الْقَاتِلَ بِعَمُودٍ أَوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ جَرَّأَهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَتْلِ، فَتَنْتَفِي بِذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ الْآيَةَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا يَسْتَلْزِمُ الْخِيَارَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْقِصَاصُ، وَالْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ جَبْرًا عَلَى

الْجَانِي، وَالْعَفْوُ مَجَّانًا فِي غَيْرِ مُقَابِلٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَزَاهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ إِلَى الْجُمْهُورِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ رحمهم الله، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقِصَاصُ، أَوِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، فَلَوْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ، وَقَالَ الْجَانِي: لَا أَرْضَى إِلَّا الْقَتْلَ، أَوِ الْعَفْوَ مَجَّانًا، وَلَا أَرْضَى الدِّيَةَ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ إِلْزَامُهُ الدِّيَةَ جَبْرًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْخِيَارَ لِلْوَلِيِّ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ مَا يُوجِبُهُ الْقَتْلُ عَمْدًا إِلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَوْدُ فَقَطْ ; وَعَلَيْهِ فَالدِّيَةُ بَدَلٌ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: هُمَا الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ.

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي عَفْوًا مُطْلَقًا، لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإِرَادَةِ الدِّيَةِ وَلَا الْعَفْوِ عَنْهَا. فَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنًا الْقِصَاصُ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَلْزَمُ مَعَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ. أَمَّا لَوْ عَفَا عَلَى الدِّيَةِ فَهِيَ لَازِمَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ رِوَايَتَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ; لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: «إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ» . وَمَعْنَى «يُفْدَى» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، «وَيُودَى» فِي بَعْضِهَا: يَأْخُذُ الْفِدَاءَ بِمَعْنَى الدِّيَةِ. وَقَوْلُهُ «يَقْتُلُ» بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: أَيْ يَقْتُلُ قَاتِلَ وَلَيِّهِ.

قَالُوا: فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مُصَرِّحٌ بِأَنْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَأَنَّ لَهُ إِجْبَارَ الْجَانِي عَلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ، وَهَذَا الدَّلِيلُ قَوِيٌّ دَلَالَةً وَمَتْنًا كَمَا تَرَى.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [٢ \ ١٧٨]، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا رَتَّبَ الِاتِّبَاعَ بِالدِّيَةِ بِالْفَاءِ عَلَى الْعَفْوِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ تَلْزَمُ الدِّيَةُ، وَهُوَ دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ قَوِيٌّ أَيْضًا.

وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِلْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا ; كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ أَنَّ الْحُجَّةَ لَهُمْ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عَمَّتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ»، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَلَمْ يُخَيِّرْ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ لِأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ; إِذْ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَكَّمَ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ بِأَحَدِهِمَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا حَكَمَ بِالْقِصَاصِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»، أَيْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَرْضَى الْجَانِي أَنْ يُغَرَّمَ الدِّيَةَ اه.

وَتَعَقَّبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» احْتِجَاجَ الطَّحَاوِيِّ هَذَا بِمَا نَصُّهُ: وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» إِنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ طَلَبِ أَوْلِيَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ الْقَوْدَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ اللَّهِ نَزَلَ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ إِذَا طَلَبَ الْقَوْدَ أُجِيبَ إِلَيْهِ ; وَلَيْسَ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ.

الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا: مِنْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ قَالَ لِلْقَاتِلِ: رَضِيتُ أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا عَلَى أَلَّا أَقْتُلَكَ. أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَرْهًا، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْقِنَ دَمَ نَفْسِهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ. .» الْحَدِيثُ جَارٍ مَجْرَى الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّ إِذَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ لَهُ، لِاحْتِمَالِ قَصْدِ نَفْسِ الْأَغْلَبِيَّةِ دُونَ قَصْدِ إِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الْآيَةَ [٤ \ ٢٣] ; لِجَرْيِهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» أَنَّ الْجَانِيَ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الدِّيَةِ وَقَدَّمَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ مُمْتَنِعًا مِنْ إِعْطَاءِ الدِّيَةِ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِعْطَائِهَا ; لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ النَّظَرَيْنِ اللَّذَيْنِ خَيَّرَ الشَّارِعُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ بَيْنَهُمَا، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ عَلَى مَالِهِ فَيَفْتَدِي بِمَالِهِ مِنَ الْقَتْلِ. وَجَرَيَانُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْغَالِبِ يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَعَقَدَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ:

أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ ... لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ قَوْلُهُ: «أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ هُوَ الْمُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَوْ أَرَادَ الدِّيَةَ وَامْتَنَعَ الْجَانِي فَلَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى دَفْعِهَا ; لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَالَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [٤ \ ٢٩]، وَيَقُولُ: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [٢ \ ١٩٥] .

وَمِنَ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ صَوْنًا لِمَالِهِ لِلْوَارِثِ: أَنَّ الشَّارِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ الزَّائِغِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى صَوْنِ دَمِهِ بِمَالِهِ.

وَمَا احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَذَا عَلَى أَلَّا أَقْتُلَكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْطِنِي الدِّيَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ; لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ الْمَذْكُورَيْنِ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَذَا غَيْرَ الدِّيَةِ لَمْ يُجْبَرْ، لِأَنَّهُ طَلَبٌ غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْأُولَى: الْعَمْدُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا.

وَالثَّانِيَةُ: شِبْهُ الْعَمْدِ. وَالثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ. وَنَقَلَهُ فِي الْمُغْنِي عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.

وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ مَالِكٌ رحمه الله فَقَالَ: الْقَتْلُ لَهُ حَالَتَانِ فَقَطْ. الْأُولَى: الْعَمْدُ، وَالثَّانِيَةُ الْخَطَأُ. وَمَا يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ شِبْهُ الْعَمْدِ جَعَلَهُ مِنَ الْعَمْدِ. وَاسْتَدَلَّ رحمه الله بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، بَلْ

ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ الْآيَةَ [٤ \ ٩٢]، ثُمَّ قَالَ فِي الْعَمْدِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ الْآيَةَ [٤ \ ٩٣]، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَاسِطَةً، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ الْآيَةَ [٣٣ \ ٥]، فَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَاسِطَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ.

وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَالْعَمْدِ الْمَحْضِ، تُسَمَّى خَطَأَ شِبْهِ عَمْدٍ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا هُوَ عَيْنُ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ مَنْ ضَرَبَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، وَهُوَ قَاصِدٌ لِلضَّرْبِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْمَضْرُوبَ لَا يَقْتُلُهُ ذَلِكَ الضَّرْبُ، فَفِعْلُهُ هَذَا شِبْهُ الْعَمْدِ مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ أَصْلَ الضَّرْبِ وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقْصِدُ الْقَتْلَ، بَلْ وَقَعَ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ إِيَّاهُ.

وَالثَّانِي: حَدِيثٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَمُسَدَّدٌ - الْمَعْنَى - قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ مُسَدَّدٌ: خَطَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ (إِلَى هَا هُنَا حَفِظْتُهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، ثُمَّ اتَّفَقَا): أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُذْكَرُ وَتُدْعَى مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ أَوْ سَدَانَةِ الْبَيْتِ - ثُمَّ قَالَ - أَلَا إِنَّ دِيَةِ الْخَطَأِ شِبْهَ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، وَحَدِيثُ مُسَدَّدٍ أَتَمُّ.

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ مَعْنَاهُ.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَعْنَاهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ - أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ - عَلَى دَرَجَةِ الْبَيْتِ أَوِ الْكَعْبَةِ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَرَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِثْلُ حَدِيثِ خَالِدٍ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ السَّدُوسِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ عَلَى أَيُّوبَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ عَلَى خَالِدٍ الْحَذَّاءِ فِيهِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَرَكْنَا لَفْظَ كَلَامِهِ لِطُولِهِ.

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: أَرْبَعُونَ مِنْهَا خِلْفَةٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا».

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، سَمِعَهُ مِنَ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا». اه.

وَسَاقَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي فِي إِسْنَادِهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ السُّكَّرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ الْمُزَنِيَّ يَوْمًا، وَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ شِبْهِ الْعَمْدِ، فَقَالَ السَّائِلُ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى وَصَفَ الْقَتْلَ فِي كِتَابِهِ صِفَتَيْنِ: عَمْدًا وَخَطَأً، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ؟ وَلِمَ قُلْتُمْ شِبْهَ الْعَمْدِ؟

فَاحْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ مُنَاظِرُهُ: أَتَحْتَجُّ بِعَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ؟ فَسَكَتَ الْمُزَنِيُّ فَقُلْتُ لِمُنَاظِرِهِ: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ. فَقَالَ: وَمَنْ رَوَاهُ غَيْرُ عَلِيٍّ؟ قُلْتُ: رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ. قَالَ لِي: فَمَنْ عُقْبَةُ بْنُ أَوْسٍ؟ فَقُلْتُ: عُقْبَةُ بْنُ أَوْسٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ مَعَ جَلَالَتِهِ. فَقَالَ

لِلْمُزَنِيِّ: أَنْتَ تُنَاظِرُ أَوْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَهُوَ يُنَاظِرُ. لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي، ثُمَّ أَتَكَلَّمُ أَنَا، اه. ثُمَّ شَرَعَ الْبَيْهَقِيُّ يَسُوقُ طُرُقَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأَسَانِيدِ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهْمٌ، وَآفَتُهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ.

وَالْمَعْرُوفُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ: أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا جَاءَ صَحِيحًا مَنْ وَجْهٍ لَا يُعَلُّ بِإِتْيَانِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَالْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي مُنَاظَرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ لِلْعِرَاقِيِّ الَّذِي نَاظَرَ الْمُزَنِيَّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا عَرَفْتَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي حَالَاتِ الْقَتْلِ: هَلْ هِيَ ثَلَاثٌ، أَوِ اثْنَتَانِ؟ وَعَرَفْتَ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ: عَمْدٌ مَحْضٌ، وَخَطَأٌ مَحْضٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا أَثْبَتَ شَيْئًا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ، فَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ زِيَادَةُ أَمْرٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ». وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، خِلَافًا لِمَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ حَالَاتِ الْقَتْلِ ثَلَاثٌ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حُكْمَ الْعَفْوِ فِيهِ. وَالْخَطَأُ شِبْهُ الْعَمْدِ. وَالْخَطَأُ الْمَحْضُ فِيهِمَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.


وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَسْنَانِ الدِّيَةِ فِيهِمَا، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَادِيرَ الدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ إِذَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ.

اعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْنَانِهَا فِيهِمَا، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا.

وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَالْمُغِيرَةِ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ. لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَبَعْضُ طُرُقِهِ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بَيَانِ السِّتِّينَ الَّتِي لَمَّ يَتَعَرَّضُ لَهَا هَذَا الْحَدِيثُ: (بَابُ صِفَةِ السِّتِّينَ الَّتِي مَعَ الْأَرْبَعِينَ) ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيٍّ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ عَنْهُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي مُسْتَدِلًّا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَدَلِيلُهُ هُوَ مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّ شَاءُوا قَتَلُوهُ، وَإِنَّ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَمَا صُولِحُوا فَهُوَ لَهُمْ»، وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ الْقَتْلِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الَّذِي قَدَّمْنَا.

ثُمَّ قَالَ مُسْتَدِلًّا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَرْبَاعًا: خَمْسًا وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ حِقَّةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ» وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ اه مِنْهُ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَانَ يَقُولُ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ

وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا: أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ، وِديَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَفِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ثَنْيَةً إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، وَكُلُّهَا خِلْفَةٌ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: أَنَّهَا أَرْبَاعٌ: رُبْعٌ بَنَاتُ لَبُونٍ، وَرُبْعٌ حِقَاقٌ وَرُبْعٌ جِذَاعٌ " وَرُبْعٌ ثَنْيَةٌ إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، هَذَا حَاصِلُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا: مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ كَوْنِهَا ثَلَاثَةً حِقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا.

وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ مَا نَصُّهُ: قَدِ اخْتَلَفُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ، وَقَوْلُ مَنْ يُوَافِقُ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ الْمَذْكُورَةَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

تَنْبِيهٌ

اعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ إِذَا عَفَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ: إِنَّمَا هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ إِجْمَاعًا، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا حَالَةٌ غَيْرُ مُنَجَّمَةٍ فِي سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: بِتَنْجِيمِهَا.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ أَصْلًا، بَلِ الْوَاجِبُ فِيهِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَانِي وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ حَالٌ عِنْدَهُ.

أَمَّا الدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَهِيَ مُنَجَّمَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، يُدْفَعُ ثُلُثُهَا فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ السَّنَةَ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالدِّيَةِ، وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ رحمهم الله وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي مَالِ الْجَانِي لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ; لِقَصْدِهِ الضَّرْبَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْلَ. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، اه مِنْ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ، لِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا مَالِكٌ رحمه الله فَلَا يَقُولُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ أَصْلًا، فَهُوَ عِنْدَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَهُوَ أَخْمَاسٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَاتَّفَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى السِّنِّ وَالصِّنْفِ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَامِسِ، أَمَّا الْأَرْبَعُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ فَهِيَ عِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَأَمَّا الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: هُوَ عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْوَارِدِ بِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، ثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا»، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَةَ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حِقَّةً.

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا الصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ، ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا» وَنَحْوُ هَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنْ فِيهِ: وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ بَدَلَ بَنِي مَخَاضٍ.

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ»: إِنَّ إِسْنَادَهُ أَقْوَى مِنْ إِسْنَادِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فِي هَذَا الْخَامِسِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّهُ عِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا، مَعَ عِشْرِينَ جَذَعَةً، وَعِشْرِينَ حَقَّةً، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»، وَقَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنِ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ» وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الرَّفَّاءُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنْبَأَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ وَعِيسَى بْنُ مِينَا، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: كَانَ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِي يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ ; وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، فِي مَشْيَخَةٍ جُلَّةٍ سِوَاهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، وَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَذْنَا بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْعَقْلُ فِي الْخَطَأِ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ: فَخُمْسٌ جِذَاعٌ، وَخُمْسٌ حِقَاقٌ، وَخُمْسٌ بَنَاتُ لَبُونٍ، وَخُمْسٌ بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَخُمْسٌ بَنُو لَبُونٍ ذُكُورٍ، وَالسِّنُّ فِي كُلِّ جُرْحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ رحمه الله.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: جَعَلَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّنْفَ الْخَامِسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ الذُّكُورِ لَا مِنْ أَبْنَاءِ اللَّبُونِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ الْمُصَرِّحِ بِقَضَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ. قَالَ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِغَيْرِهِ مِنَ الرَّأْيِ.

وَسَنَدُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ فَإِنَّ فِيهِ كَلَامًا كَثِيرًا وَاخْتِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَثِّقُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَعِّفُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ تَضْعِيفُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ.

وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَالتَّدْلِيسِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: حَجَّاجٌ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَعَلَّ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْحَدِيثَ بِالْوَقْفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالُوا: رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ خَطَأٌ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ قَرِيبًا.

أَمَّا وَجْهُ صَلَاحِيَّةِ بَقِيَّةِ رِجَالِ السُّنَنِ، فَالطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنْ سَنَدِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مُسَدَّدٌ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ صَدُوقٌ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ الْعَبْدِيُّ مَوْلَاهُمُ الْبَصْرِيُّ ثِقَةٌ، فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَعْمَشِ وَحْدَهُ مَقَالٌ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مُتْقِنٌ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُمَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ الْمَذْكُورُ.

وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ عِنْدَهُمَا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَهُوَ ثِقَةٌ.

وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ عِنْدَهُمَا خَشْفُ بْنُ مَالِكٍ الطَّائِيُّ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ.

وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَالطَّبَقَةُ الْأُولَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَاصِمٍ الْجُعْفِيُّ الْهِسِنْجَانِيُّ الرَّازِيُّ، وَهُوَ مَقْبُولٌ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُ الصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ التَّيْمِيُّ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الرَّيِّ وَهُوَ صَدُوقٌ، رُبَّمَا خَالَفَ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ الْمَذْكُورِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْحَدِيثَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأَوْلَى مِنْ قِبَلِ حَجَّاجِ بْنِ

أَرْطَاةَ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ، وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَالثَّانِيَةُ إِعْلَالُهُ بِالْوَقْفِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «وَدَى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ» وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخَاضٍ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الَّذِي قُتِلَ فِي خَيْبَرَ قُتِلَ عَمْدًا، وَكَلَامُنَا فِي الْخَطَأِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ يَجْعَلُ أَبْنَاءَ اللَّبُونِ بَدَلَ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ رِوَايَةَ الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَرْفُوعَةَ الَّتِي قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ سَنَدَهَا أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبْنَاءِ الْمَخَاضِ، وَكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَفِي دِيَةِ الْخَطَأِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَاسْتَدَلُّوا لَهَا بِأَحَادِيثَ أُخْرَى انْظُرْهَا فِي «سُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيِّ» وَغَيْرِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَا شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ.

قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، قَالَ: فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ.

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قَضَى فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَمْحِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ مُحَمَّدٌ».

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَرَأْتُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيِّ قَالَ: ثِنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: ذَكَرَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَرَضَ

رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. . فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ مُوسَى، وَقَالَ: وَعَلَى أَهْلِ الطَّعَامِ شَيْئًا لَمْ أَحْفَظْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مِنْ قُتِلَ خَطَأً فَدَيْتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حَقَّةً، وَعَشَرَةٌ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ».

قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ عَدْلَهَا مِنَ الْوَرِقِ، وَيُقَوِّمُهَا عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ إِذَا غَلَتْ رَفَعَ قِيمَتَهَا، وَإِذَا هَانَتْ نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا عَلَى نَحْوِ الزَّمَانِ مَا كَانَ. فَبَلَغَ قِيمَتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، إِلَى ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ عَدْلِهَا مِنَ الْوَرَقِ.

قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ مَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الْبَقَرِ: عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ فِي الشَّاءِ: أَلْفَيْ شَاةٍ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ، فَمَا فَضَلَ فَلِلْعَصَبَةِ» وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَنْ يَعْقِلَ عَلَى الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا، وَلَا يَرِثُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَرَثَتِهَا، وَإِنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ يَقْتُلُونَ قَاتِلَهَا». وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ (ح)، وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَذَكَرَ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [٩ \ ٧٤] فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قَضَى بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» - يَعْنِي فِي الدِّيَةِ - انْتَهَى كَلَامُ النَّسَائِيِّ رحمه الله.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، ثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [٩ \ ٧٤] قَالَ: بِأَخْذِهِمُ الدِّيَةَ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ مَالِكٌ: فَأَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ.

وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا: أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ الدِّيَةَ تَقْطَعُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ، قَالَ مَالِكٌ: وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَى فِي ذَلِكَ.

قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ الذَّهَبُ وَلَا الْوَرِقُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ الْوَرِقُ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ الذَّهَبُ.


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْأَوَّلُ: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، يَدْفَعُ ثُلْثَهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ; فَإِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا رضي الله عنهما جَعَلَا دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ اه.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» مَعَ بَيَانِ شَرْطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ ... فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِهِمْ قَدِ اشْتُهِرْ

فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِي نَمَّا ... تَفْرِيعَهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا

وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي ... مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ

وَتَأْجِيلُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.


الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْسِ الْجَانِي ; هَلْ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ، أَوْ لَا.

فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ الْجَانِيَ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِنَ الدِّيَةِ كَوَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِلَةِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ، لِظَاهِرِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ» وَظَاهِرُهُ قَضَاؤُهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنْ أَصْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ مُعِينُونَ لَهُ، فَيَتَحَمَّلُ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا يَتَحَمَّلُ رَجُلٌ مِنْ عَاقِلَتِهِ.


الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَنِ الْجَانِي دِيَةَ الْخَطَأِ.

فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِ الْقَاتِلِ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ، وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ، وَهُمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ كَتَبَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الدِّيوَانِ لِمُنَاصَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ، وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَتَّسِعِ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصِبَاتِ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله: الْبُدَاءَةُ بِأَهْلِ الدِّيوَانِ أَيْضًا، فَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَطَاؤُهُمْ قَائِمًا فَعَاقِلَتُهُ عَصَبَتُهُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَلَا يَحْمِلُ النِّسَاءَ وَلَا الصِّبْيَانَ شَيْئًا مِنَ الْعَقْلِ.

وَلَيْسَ لِأَمْوَالِ الْعَاقِلَةِ حَدٌّ إِذَا بَلَغَتْهُ عَقَلُوا، وَلَا لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ حَدٌّ، وَلَا يُكَلَّفُ أَغْنِيَاؤُهُمُ الْأَدَاءَ عَنْ فُقَرَائِهِمْ.

وَمِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَصَبَةً فَعَقْلُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالْمَوَالِي بِمَنْزِلَةِ الْعَصَبَةِ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْقَرَابَةِ الِابْنُ وَالْأَبُ.

قَالَ سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ أَلْفًا فَهُمْ قَلِيلٌ، يُضَمُّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إِلَيْهِمْ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَصَبَةِ مِنَ الدِّيَةِ أَكْثَرُ مِنْ دِرْهَمٍ وَثُلُثٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ لَا مَدْخَلَ لَهُمْ فِي الْعَقْلِ إِلَّا إِذَا كَانُوا عَصَبَةً، وَمَذْهَبُهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الْعَصَبَةُ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ وَالْآبَاءُ؟ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْعَصَبَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْعَاقِلَةِ ; لِظَاهِرِ حَدِيثِ

أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ: «أَنَّ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ لِوَلَدِهَا، وَالدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهَا»، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ دُخُولِ أَوْلَادِهَا، فَقِيسَ الْآبَاءُ عَلَى الْأَوْلَادِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

فَقَالَ أَحْمَدُ: يَحْمِلُونَ عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَ. هَذَا لَا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ وَلَا يُؤْذِي، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ ; لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ فَكَانَ مُعَبَّرًا بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبُعُ مِثْقَالٍ ; لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَمَا دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ لَا تُقْطَعُ فِيهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ. اه كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» .


الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنَ الْكَفَّارَةِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [٤ \ ٩٢]، بَلْ هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي إِجْمَاعًا، وَشَذَّ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَالْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا بِنَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمْدِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ مَشْهُورٌ، وَأَجْرَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ ; لِأَنَّ الْعُمَدَ فِي الْقَتْلِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهُ الْعِتْقُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [٤ \ ٩٣]، فَهَذَا الْأَمْرُ أَعْلَى وَأَفْخَمُ مِنْ أَنْ يُكَّفَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالدِّيَةُ لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَّأً ثَابِتًا بِإِقْرَارِ الْجَانِي وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، بَلْ إِنَّمَا تَحْمِلُهَا إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَالثَّوْرِيُّ،

وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ الْخَامِسُ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَحَكَى غَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَالْأَصَمِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: دِيَتُهَا كَدِيَةِ الرَّجُلِ. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.

وَجِرَاحُ الْمَرْأَةِ تُسَاوِي جِرَاحَ الرَّجُلِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَعَلَى النِّصْفِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَوِيَانِ إِلَى النِّصْفِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ; لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَةُ نَفْسِهِمَا فَاخْتَلَفَ أَرْشُ جِرَاحِهُمَا. اه وَهَذَا الْقَوْلُ أَقِيسُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ وَالْخِرَقِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمَا أَنَّ دِيَةَ جَائِفَةِ الْمَرْأَةِ وَمَأْمُومَتِهَا كَدِيَةِ جَائِفَةِ الرَّجُلِ وَمَأْمُومَتِهِ ; لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَأَنَّ عَقْلَهَا لَا يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عَقْلِهِ إِلَّا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، كَدِيَةِ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ، فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعِينَ مِنَ الْإِبِلِ، إِذْ فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرٌ، وَالْأَرْبَعُونَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلْثِ الْمِائَةِ. وَكَلَامُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا بَلَغَ الثُّلُثُ كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ تَكُونُ دِيَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَحَلَّ اسْتِوَائِهَا

إِنَّمَا هُوَ فِيمَا دُونَ الثُّلْثِ خَاصَّةً كَالْمُوَضَّحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْإِصْبَعِ وَالْإِصْبَعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَهُمَا قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَصَحَّهُمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ بِالْحَدِيثِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّ قَطَعَتْ مِنْ يَدِهَا ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ كَانَتْ دِيَتُهَا ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ كَأَصَابِعِ الرَّجُلِ، لِأَنَّهَا دُونَ الثُّلْثِ، وَإِنْ قَطَعَتْ مِنْ يَدِهَا أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ كَانَتْ دِيَتُهَا عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهَا زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ فَصَارَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَكَوْنُ دِيَةِ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وِدِيَةِ الْأَصَابِعِ الْأَرْبَعَةِ عِشْرِينَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ كَمَا تَرَى.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ، فَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ رحمه الله عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا نَقَصَ عَقْلُهَا؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ. بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقَالَ سَعِيدٌ: هِيَ السُّنَّةُ يَابْنَ أَخِي.

وَظَاهِرُ كَلَامِ سَعِيدٍ هَذَا: أَنَّ هَذَا مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ. وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ سَعِيدًا لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ مُرَادَهُ بِالسُّنَّةِ هُنَا سُنَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا» اه وَهَذَا يُعَضِّدُ قَوْلَ سَعِيدٍ: إِنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِسْنَادُ النَّسَائِيِّ هَذَا ضَعِيفٌ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ جِهَتَيْنِ.

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ لَيْسَ بِشَامِيٍّ، بَلْ هُوَ حِجَازِيٌّ مَكِّيٌّ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْعَنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ رحمه الله مُدَلِّسٌ، وَعَنْعَنَةُ الْمُدَلِّسُ لَا يُحْتَجُّ بِهَا مَا لَمْ يَثْبُتِ السَّمَاعُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْإِعْلَالَ مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله: مِنْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - قَالَ: إِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ الْمَذْكُورِ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ تَصْحِيحَ ابْنِ خُزَيْمَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «بُلُوغِ الْمَرَامِ» وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثُونَ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ عِشْرُونَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَهِدَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا الشَّرْعِ الْكَرِيمِ كَمَا تَرَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنْ جَعَلَ الْمَرْأَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيمَا بَلَغَ الثَّالِثَ فَصَاعِدًا أَنَّهُ فِي الزَّائِدِ فَقَطْ، فَيَكُونُ فِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ، فَيَكُونُ النَّقْصُ فِي الْعَشْرَةِ الرَّابِعَةُ فَقَطْ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَظَاهِرٌ، وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ: مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنَمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ»، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ، فَالضَّعْفُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي الْكُلِّ» . وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْهُ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَعَنْ عُمَرَ، قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ رحمه الله.


الْفَرْعُ السَّادِسُ: اعْلَمْ أَنَّ أَصَحَّ الْأَقْوَالِ وَأَظْهَرُهَا دَلِيلًا: أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ دِيَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ عِنْدَ تَقْوِيمِهِ الدِّيَةَ لَمَّا غَلَتِ الْإِبِلُ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مَوْهَبٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ،

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مِثْلَهُ اه.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. . - وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ» .

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قَضَى أَنَّ عَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ»: وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: دِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ; كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْرُ ثُلْثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. كَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِأَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهِدِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ضَعْفَهَا فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى»، وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ التُّرْكُمَانِيِّ رحمه الله فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ صَالِحَةً لِلِاحْتِجَاجِ، وَهِيَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ.

أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [٤ \ ٩٢]، فَيُقَالُ فِيهِ: هَذِهِ دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ، وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْ قَدْرَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَلَا الْكَافِرِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

أَمَّا اسْتِوَاؤُهُمَا فِي قَدْرِ الْكَفَّارَةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ، لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.

وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا دَلَالَتَهَا أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَقْوَى، وَيُؤَيِّدُهَا: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» فَمَفْهُومُ

قَوْلِهِ «الْمُؤْمِنَةِ» أَنَّ النَّفْسَ الْكَافِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ فِي هَذِهِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِهِ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَنْهُ. وَلَا يَقُولُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ، فَيَسْتَدِلُّ بِإِطْلَاقِ النَّفْسِ عَنْ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي الْأَدِلَّةِ الْأُخْرَى عَلَى شُمُولِهَا لِلْكَافِرِ، وَالْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ عَمْدًا فَتَكُونُ دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ خَطَأً فَتَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لَا نَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا دِيَةُ الْمَجُوسِيِّ: فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا ثُلْثُ خُمْسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ; فَهِيَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ.

وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: دِيَتُهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ.

وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ بِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» لَا يَتَّجِهُ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا صَلَاحِيَةَ الْحَدِيثِ لِلِاحْتِجَاجِ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ فَقَطْ، بِدَلِيلِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ لَا تَحِلُّ، وَذَبَائِحُهُمْ لَا تُؤْكَلُ اه.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: إِنَّ قَوْلَ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنَّ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثُ خُمْسِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لَمْ يُخَالِفْهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حُجَّةٌ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: دِيَةُ الْمُرْتَدِّ إِنْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ كَدِيَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْحَرُبِيُّونَ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ مُطْلَقًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ، وَبِمَ تُغَلَّظُ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْقَتْلُ فِي الْحَرَمِ، وَكَوْنُ الْمَقْتُولِ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ; فَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِزِيَادَةِ ثُلُثِهَا.

فَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ فِدْيَةٌ وَثُلْثَانِ، وَمَنْ قَتَلَ مُحْرِمًا فِي الْحَرَمِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَدِيَتَانِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم ; نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَغَيْرُهُمْ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي.

وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: تُغَلِّظُ الدِّيَةُ بِالْحَرَمِ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذِي الرَّحِمِ الْمُحْرِمِ، وَفِي تَغْلِيظِهَا بِالْإِحْرَامِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ.

وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هِيَ أَنْ تَجْعَلَ دِيَةَ الْعَمْدِ فِي الْخَطَأِ، وَلَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله فِي قَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ قَتْلًا شِبْهَ عَمْدٍ ; كَمَا فَعَلَ الْمُدْلِجِيُّ بِأَبِيهِ، وَالْجَدُّ وَالْأُمُّ عِنْدَهُ كَالْأَبِ.

وَتَغْلِيظُهَا عِنْدَهُ: هُوَ تَثْلِيثُهَا بِكَوْنِهَا ثَلَاثِينَ حَقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الْأَسْنَانِ كَانَتْ، وَلَا يَرِثُ الْأَبُ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ دِيَةِ الْوَلَدِ وَلَا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا.

وَظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مُطْلَقًا مِنْ دِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْخَطَأِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنَعُوا مِيرَاثَهُ مِنَ الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ مَالِ التَّرِكَةِ. وَالْإِطْلَاقُ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقِصَّةُ الْمُدْلِجِيُّ: هِيَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ «قَتَادَةُ» حَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ ; فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنَزَّى فِي جُرْحِهِ فَمَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جَعْشَمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَعْدِدْ عَلَى مَاءِ قَدِيدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حَقَّةً، وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خِلْفَةً، وَقَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: هَاأَنَذَا. قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» .

الْفَرْعُ الثَّامِنُ: اعْلَمْ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ; كَسَائِرِ مَا خَلَّفَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، لَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ قَتْلُهُمْ أَشْيَمَ خَطَأً. وَمَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه. رُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَزُرَارَةُ بْنُ جَرِيٍّ. كَمَا ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قَضَى أَنَّ الْعَقْلَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى فَرَائِضِهِمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَصَّ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَوَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ ; قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا تَقَدَّمَ وَبِمَا يَأْتِي، وَبِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مُقْتَضَاهُ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ قُرَّةَ بْنِ دَعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَنَا وَعَمِّي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدَ هَذَا دِيَةُ أَبِي فَمُرْهُ يُعْطِنِيهَا. وَكَانَ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «أَعْطِهِ دِيَةَ أَبِيهِ» فَقُلْتُ: هَلْ لِأُمِّي فِيهَا حَقٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَكَانَتْ دِيَتُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ.

وَقَدْ سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ هَكَذَا: قَالَ قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ: أَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: أَنَا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دَعْمُوصٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَنَا وَعَمِّي - إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا - وَسَكَتَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ رحمه الله، وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيُّ فَلَمْ نَرَ مَنْ جَرَحَهُ وَلَا مَنْ عَدَلَهُ.

وَذَكَرَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ تَرْجَمَةً، وَذَكَرَا أَنَّهُ سَمِعَ قُرَّةَ بْنَ دَعْمُوصٍ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ جَرْحًا وَلَا تَعْدِيلًا.

وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ تُقَسَّمُ كَسَائِرِ تَرَكَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهَا مِيرَاثٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ

الدِّيَةَ لَا يَرِثُهَا إِلَّا الْعَصَبَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا هُوَ رَأْيُ عُمَرَ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ إِيَّاهُ: أَنْ يُوَرِّثَ زَوْجَةَ أَشْيَمَ الْمَذْكُورِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا.

وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ مِيرَاثٌ، وَلَكِنَّهَا لَا تَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ، وَلَا تَنْفُذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَقُتِلَ وَأُخِذَتْ دِيَتُهُ ; فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

وَالْأُخْرَى: لَيْسَ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ.

وَمَبْنَى هَذَا: عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ بَدَلَهَا لَهُ كَدِيَةِ أَطْرَافِهِ الْمَقْطُوعَةِ مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهَا عَنِ الْقَاتِلِ بَعْدَ جُرْحِهِ إِيَّاهُ كَانَ صَحِيحًا وَلَيْسَ لَهُ إِسْقَاطُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ مَوْرُوثٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهِ. وَالْأُخْرَى أَنَّهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْمَوْتِ تَزُولُ أَمْلَاكُ الْمَيِّتِ الثَّابِتَةُ لَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِوَرَثَتِهِ ابْتِدَاءً، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمَيِّتَ يُجَهَّزُ مِنْهَا. اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُدَامَةَ رحمه الله.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ يُقَرَّرُ مِلْكُ الْمَيِّتِ لِدِيَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَتُوَرَّثُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ; لِتَصْرِيحِ النَّبِيِّ ﷺ لِلضَّحَّاكِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِتَوْرِيثِ امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ، وَالْمِيرَاثُ لَا يُطْلِقُ شَرْعًا إِلَّا عَلَى مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَيِّتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هَذَا السُّلْطَانَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [١٧ \ ٣٣] .

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ فِي الْآيَةِ: الْوَرَثَةُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ; فَإِنْ عَفَا مَنْ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَطَاوُسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ عَفْوٌ ; أَيْ: فَهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ عِنْدَهُمْ فِي اسْمِ الْوَلِيِّ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ فِي الْآيَةِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَوْرُوثٌ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً، وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ تَفْصِيلٌ: فَالْوَلِيُّ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّذِي هُوَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ أَوِ الْعَفْوُ عِنْدَهُ هُوَ أَقْرَبُ الْوَرَثَةِ الْعَصَبَةِ الذُّكُورِ، وَالْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ:

وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْعَاصِبِ كَالْوَلَاءِ ...، إِلَّا الْجَدُّ وَالْأُخْوَةُ فَسِيَّانٌ

اه.

وَلَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ عِنْدَهُ حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ وَلَا الْعَفْوِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ غَيْرُ الْوَارِثَاتِ: كَالْعَمَّاتِ، وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ.

أَمَّا النِّسَاءُ الْوَارِثَاتُ: كَالْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ، وَالْأُمَّهَاتِ فَلَهُنَّ الْقِصَاصُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ مُسَاوٍ لَهُنَّ فِي الدَّرَجَةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ:

وَلِلنِّسَاءِ إِنْ وَرِثْنَ وَلَمْ يُسَاوِهُنَّ عَاصِبٌ

فَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: «إِنْ وَرِثْنَ» أَنَّ غَيْرَ الْوَارِثَاتِ لَا حَقَّ لَهُنَّ، وَهُوَ كَذَلِكَ.

وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: «وَلَمْ يُسَاوِهُنَّ عَاصِبٌ» أَنَّهُنَّ إِنْ سَاوَاهُنَّ عَاصِبٌ: كَبَنِينٍ، وَبَنَاتٍ، وَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ، فَلَا كَلَامَ لِلْإِنَاثِ مَعَ الذُّكُورِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ عَاصِبٌ غَيْرُ مُسَاوٍ لَهُنَّ: كَبَنَاتٍ، وَإِخْوَةٍ ; فَثَالِثُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْقِصَاصَ وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ ; أَعْنِي وَلَوْ عَفَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ:

وَلِكُلٍّ الْقَتْلُ وَلَا عَفْوَ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ

; يَعْنِي: وَلَوْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْوَرَثَةُ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ الْوَلِيِّ عَلَى الْأُنْثَى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْوَلِيِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ سَبَبٌ يَجْعَلُ كُلًّا مِنْهُمَا يُوَالِي

الْآخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [٩ \ ٧١]، وَقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ الْآيَةَ [٨ \ ٧٥] .

وَالدَّلِيلُ عَلَى شُمُولِ الْوَلِيِّ فِي الْآيَةِ لِلْوَارِثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَلَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: (بَابُ عَفْوِ النِّسَاءِ عَنِ الدَّمِ): حَدَّثْنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الْأَزْوَاعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ حِصْنًا، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً» .

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَفْوَ النِّسَاءِ فِي الْقَتْلِ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الْأَوْلِيَاءِ، وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: «يَنْحَجِزُوا» يَكُفُّوا عَنِ الْقَوَدِ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ رحمه الله فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حِصْنٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ (ح) . وَأَنْبَأْنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «وَعَلَى الْمُقْتَتَلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً» اه.

وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُقَارِبٌ ; لِأَنَّ رِجَالَهُ صَالِحُونَ لِلِاحْتِجَاجِ، إِلَّا حِصْنًا الْمَذْكُورَ فِيهِ فَفِيهِ كَلَامٌ.

فَطَبَقَتُهُ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: هِيَ دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ الْهَاشِمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْخَوَارِزْمِيِّ نَزِيلُ بَغْدَادَ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عَمَّارٍ الْمَرْوَزِيُّ ثِقَةٌ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ ثِقَةٌ، لَكِنَّهُ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ وَالتَّسْوِيَةُ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ الْإِمَامُ الْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو أَبُو [عَمْرٍو] الْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْمَشْهُورُ، ثِقَةٌ جَلِيلٌ.

وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ عِنْدَهُمَا: هِيَ حِصْنٌ الْمَذْكُورُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوِ ابْنُ مِحْصَنٍ التَّرَاغِمِيُّ أَبُو حُذَيْفَةَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ»: مَقْبُولٌ. وَقَالَ فِيهِ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ»: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ شَيْخٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، لَهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ حَدِيثٌ

وَاحِدٌ «عَلَى الْمُقْتَتِلِينَ أَنْ يَنْحَجِزُوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً»، قَلْتُ: وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا يُعْرَفُ حَالُهُ (اهـ) وَتَوْثِيقُ ابْنِ حِبَّانَ لَهُ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهِ ; لِأَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ مُدَّعٍ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ» عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ الْأَوْزَاعِيِّ.

وَالطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ عِنْدَهُمَا: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.

وَالطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ عِنْدَهُمَا: عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ رحمه الله ذَكَرَ حِصْنًا الْمَذْكُورَ فِي الثِّقَاتِ، وَأَنَّ بَقِيَّةَ طَبَقَاتِ السَّنَدِ كُلِّهَا صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


تَنْبِيهٌ

إِذَا كَانَ بَعْضُ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ غَائِبًا ; فَهَلْ لِلْبَالِغِ الْحَاضِرِ الْعَاقِلِ: الْقِصَاصُ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَبُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ؟ أَوْ يَجِبُ انْتِظَارُ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَبُلُوغِ الصَّغِيرِ. .! إِلَخْ.

فَإِنْ عَفَا الْغَائِبُ بَعْدَ قُدُومِهِ، أَوِ الصَّغِيرُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَثَلًا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ; فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ انْتِظَارِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ.

وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْكِبَارِ الْعُقَلَاءِ اسْتِيفَاؤُهُ ; وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُغْنِي.

وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِ قُدُومِ الْغَائِبِ، وَمِنْهُ اسْتِبْدَادُ الْحَاضِرِ دُونَهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ قَرِيبَةً فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَفِيهِ

خِلَافٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الِانْتِظَارُ وَلَوْ بَعُدَتْ غَيْبَتُهُ.

وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، مِنْهُمْ سَحْنُونٌ: لَا يُنْتَظَرُ بَعِيدُ الْغَيْبَةِ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى بِقَوْلِهِ: وَانْتَظِرْ غَائِبًا لَمْ تَبْعُدْ غَيْبَتُهُ، لَا مُطْبِقًا وَصَغِيرًا لَمْ يَتَوَقَّفِ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» مَا نَصُّهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فِيهِ حَقًّا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَاسْتَحَقَّهُ ; وَلَوْ نَافَاهُ الصِّغَرُ مَعَ غَيْرِهِ لَنَافَاهُ مُنْفَرِدًا كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا عِنْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ مُسْتِحَقًّا بَعْدَهُ ; كَالرَّقِيقِ إِذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَالِ لَاسْتَحَقَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتِحَقًّا لِلْقِصَاصِ لَمَا اسْتَحَقَّ بَدَلَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الصَّغِيرُ لَاسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَمْ يَرِثْهُ كَسَائِرِ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ.

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ انْتِظَارُ بُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَلَا إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْقَاصِرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ كَانَ غَيْرُهُ يَتَوَلَّى النَّظَرُ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي جَمِيعِ حُقُوقِهِ، وَأَوْلَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْقِصَاصِ الْوَرَثَةُ الْمُشَارِكُونَ لَهُ فِيهِ. وَهَذَا لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي ; لِأَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِمُوجِبِهَا فَيُقَالُ فِيهِ: هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَكِنَّهُ قَاصِرٌ فِي الْحَالِ، فَيَعْمَلُ غَيْرُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ ; وَلَا سِيَّمَا شَرِيكُهُ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِتَعْطِيلِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ إِلَى زَمَنٍ بَعِيدٍ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَتَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ قِصَاصًا بِقَتْلِهِ عَلِيًّا رضي الله عنه، وَبَعْضُ أَوْلَادِ عَلِيٍّ إِذْ ذَاكَ صِغَارٌ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ رضي الله عنه كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ، وَلَوْ كَانَ انْتِظَارُ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَاجِبًا لَانْتَظَرَهُ.

وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا مِنْ قِبَلِ الْمُخَالِفِينَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ مُسْتَحِلٌّ دَمَ عَلِيٍّ، وَمَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مِثْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِذَا كَانَ كَافِرًا فَلَا حُجَّةَ فِي قَتْلِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَهُوَ مُحَارِبٌ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَلَ وَجَبَ قَتْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ عَفَا أَوْلِيَاءُ الدَّمِ ; كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» وَإِذَنْ فَلَا

دَاعِي لِلِانْتِظَارِ.

قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا اسْتَبَدَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما بِقَتْلِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ; لِأَنَّهُ قَتَلَهُ حَدًّا لِكُفْرِهِ لَا قِصَاصًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي»: فَأَمَّا ابْنُ مُلْجِمٍ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قَتَلَهُ بِكُفْرِهِ ; لِأَنَّهُ قَتَلَ عَلِيًّا مُسْتَحِلًّا لِدَمِهِ، مُعْتَقِدًا كُفْرَهُ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: قَتَلَهُ لِسَعْيِهِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ، فَيَكُونُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَتَلَ، وَقَتْلُهُ مُتَحَتِّمٌ، وَهُوَ إِلَى الْإِمَامِ، وَالْحَسَنُ هُوَ الْإِمَامُ، وَلِذَلِكَ لَمَّ يَنْتَظِرِ الْغَائِبِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِي وُجُوبِ انْتِظَارِهِمْ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى خِلَافِهِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْمُغْنِي.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَتْلَ مُحَارَبَةٍ لَا قِصَاصًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اه.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ كَافِرٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ»؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: «صَدَقْتَ. فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ»؟ قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى يَافُوخِهِ - فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ دَمِ رَأْسِهِ» قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ «وَقَدْ سَاقَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي» الِاسْتِيعَابِ " وَغَيْرُهُمَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّارِيخِ وَالْأَخْبَارِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ قَتْلَ ابْنِ مُلْجِمٍ كَانَ قِصَاصًا لِقَتْلِهِ عَلِيًّا رضي الله عنه، لَا لِكُفْرٍ وَلَا حَرَابَةٍ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه لَمْ يَحْكُمْ بِكُفْرِ الْخَوَارِجِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُمْ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوا ابْنَ مُلْجِمٍ وَيُحْسِنُوا إِسَارَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَتَلُوهُ بِهِ قِصَاصًا، وَإِنْ حَيِيَ فَهُوَ وَلِيُّ دَمِهِ ; كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْأَثِيرِ، وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمْ فِي تَوَارِيخِهِمْ.

وَذِكْرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِخْبَارِيِّينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ

مُتَأَوِّلٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ فَاسِدٌ، مُورِدُ صَاحِبِهِ النَّارَ، وَلَمَّا ضَرَبَ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ: الْحُكْمُ لِلَّهِ يَا عَلِيُّ، لَا لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ، وَمُرَادُهُ أَنَّ رِضَاهُ بِتَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ: أَبِي مُوسَى، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كُفْرٌ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ; لِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [٦ \ ٥٧ - ١٢ \ ٤٠] .

وَلَمَّا أَرَادَ أَوْلَادُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنْ يَتَشَفَّوْا مِنْهُ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرَجُلَاهُ لَمْ يَجْزَعْ، وَلَا فَتَرَ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ كُحِّلَتْ عَيْنَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَقَرَأَ سُورَةَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [٩٦ \ ١] إِلَى آخِرِهَا، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلَانِ عَلَى خَدَّيْهِ، ثُمَّ حَاوَلُوا لِسَانَهُ لِيَقْطَعُوهُ فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَمْكُثَ فَوَاقًا لَا أَذْكُرُ اللَّهَ (اهـ) ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.

وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ السَّدُوسِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ مُلْجِمٍ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فِي قَتْلِهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا رضي الله عنه:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا

إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا

وَجَزَى اللَّهُ خَيْرًا الشَّاعِرَ الَّذِي يَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ:

قُلْ لِابْنِ مُلْجِمٍ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ ... هَدَمْتَ وَيْلَكَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانَا

قَتَلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا وَإِيمَانَا

وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ بِمَا ... سَنَّ الرَّسُولُ لَنَا شَرْعًا وَتِبْيَانَا

صِهْرُ النَّبِيِّ وَمَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ ... أَضْحَتْ مَنَاقِبُهُ نُورًا وَبُرْهَانَا

وَكَانَ مِنْهُ عَلَى رَغْمِ الْحَسُودِ لَهُ ... مَكَانُ هَارُونَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَا

ذَكَرْتُ قَاتِلَهُ وَالدَّمْعُ مُنْحَدِرٌ ... فَقَلْتُ سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ سُبْحَانَا

إِنِّي لَأَحْسَبُهُ مَا كَانَ مِنْ بَشَرٍ ... يَخْشَى الْمَعَادَ وَلَكِنْ كَانَ شَيْطَانَا

أَشْقَى مُرَادٍ إِذَا عُدَّتْ قَبَائِلُهَا ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا

كَعَاقِرِ النَّاقَةِ الْأُولَى الَّتِي جَلَبَتْ ... عَلَى ثَمُودَ بِأَرْضِ الْحِجْرِ خُسْرَانَا

قَدْ كَانَ يُخْبِرُهُمْ أَنْ سَوْفَ يُخَضِّبُهَا ... قَبْلَ الْمَنِيَّةِ أَزْمَانًا فَأَزْمَانَا

فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ مَا تَحَمَّلَهُ ... وَلَا سَقَى قَبْرَ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَا

لِقَوْلِهِ فِي شَقِيٍّ ظَلَّ مُجْتَرِمًا ... وَنَالَ مَا نَالَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانَا

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا

بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ غَوِيٍّ أَوْرَدَتْهُ لَظًى ... فَسَوْفَ يَلْقَى بِهَا الرَّحْمَنَ غَضْبَانَا

كَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَصْدًا بِضَرْبَتِهِ ... إِلَّا لِيَصْلَى عَذَابَ الْخُلْدِ نِيرَانَا

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَنْهُ لِابْنِ مُلْجِمٍ قَبْلَ بُلُوغِ الصِّغَارِ مِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ يُقَوِّي حُجَّةَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ انْتِظَارِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ.

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ أَيْضًا بِكُفْرِهِ قَوِيَّةٌ ; لِلْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ أَشْقَى الْآخِرِينَ، مَقْرُونًا بِقَاتِلِ نَاقَةِ صَالِحٍ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ ظُلْمًا، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِهِ هَذَا السُّلْطَانَ وَالنَّصْرَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [١٧ \ ٣٣]، يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اثْنَانِ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَوَاحِدٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

أَمَّا الِاثْنَانِ الْمُتَّفَقُ عَلَى ثُبُوتِهِ بِهِمَا: فَهُمَا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ، وَالْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ مَعَ وُجُودِ اللَّوْثِ، وَهَذِهِ أَدِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ.

أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ: فَقَدْ دَلَّتْ أَدِلَّةٌ عَلَى لُزُومِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «بَابُ إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ» حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرْنَا حِبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ؟ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّي الْيَهُودِيُّ. فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ.

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: (بَابُ سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ)، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا، وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ فَرَضَّ رَأْسَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَاضِحٌ عَلَى لُزُومِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِقْرَارِ الْقَاتِلِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ

الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنَسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَقَتَلْتَهُ»؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ. قَالَ: «كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟» قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي فَأَغْضَبَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ»؟ قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلَّا كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: «فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ» قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى إِلَيْهِ بِنَسْعَتِهِ، وَقَالَ: «دُونَكَ صَاحِبَكَ. .» الْحَدِيثَ. وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالْإِقْرَارِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحُ إِلْزَامِ الْإِنْسَانِ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي سُورَةِ «الْقِيَامَةِ» .


وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ بِالْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا: فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِهَا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، ثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَصْبَحَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَقْتُولًا بِخَيْبَرَ ; فَانْطَلَقَ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ»؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ يَهُودٌ، وَقَدْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَعْظَمِ مِنْ هَذَا، قَالَ: «فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ، فَاسْتَحْلِفُوهُمْ فَأَبَوْا. فَوَدَاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ اه» .

فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «لَكُمْ شَاهِدَانِ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِكُمْ»، فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رِجَالَ هَذَا الْإِسْنَادِ كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ، إِلَّا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّقْرِيبِ»: صَدُوقٌ رُمِيَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّدْلِيسِ.

وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةَ الْأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلًا

عَلَى أَبْوَابِهِمْ، قَالَ: «فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَا أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَتَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَتَهُ عَلَيْهِمْ وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا. اهـ.

فَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَقِمْ شَاهِدَيْنَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ثُبُوتِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنَ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ الْحُسْنُ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ»: هَذَا السَّنَدُ صَحِيحٌ حَسَنٌ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ تَعْتَضِدُ بِمُوَافَقَةِ الْإِجْمَاعِ لَهَا حَتَّى تَصِيرَ قَطْعِيَّةً كَالْمُتَوَاتِرِ، لِاعْتِضَادِهَا بِالْمَعْصُومِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ اعْتِضَادَ خَبَرِ الْآحَادِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُصَيِّرُهُ قَطْعِيًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي مَبْحَثِ أَخْبَارِ الْآحَادِ:

وَلَا يُفِيدُ الْقَطْعَ مَا يُوَافِقُ الْ ... إِجْمَاعَ وَالْبَعْضُ بِقَطْعٍ يَنْطِقُ

وَبَعْضُهُمْ يُفِيدُ حَيْثُ عَوَّلَا ... عَلَيْهِ وَأَنِفَهُ إِذَا مَا قَدْ خَلَا

مَعَ دَوَاعِي رَدِّهِ مِنْ مُبْطِلٍ ... كَمَا يَدُلُّ لِخِلَافَةِ عَلِي

وَقَوْلُهُ: وَأَنِفَهُ إِذَا مَا قَدْ خَلَا. . إِلَخْ ; مَسْأَلَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِارْتِبَاطِ بَعْضِ الْأَبْيَاتِ بِبَعْضٍ.


وَأَمَّا أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ مَعَ وُجُودِ اللَّوْثِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهَا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ.

فَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجَعَ عَنْهُ.

وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَاللَّيْثِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ.

وَقَضَى بِالْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَبُوهُ مَرْوَانُ ; وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْنَا

بِهَا وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُتَوَافِرُونَ، إِنِّي لَأَرَى أَنَّهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمُ اثْنَانِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ (فِي فَتْحِ الْبَارِي): إِنَّمَا نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ; كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، وَإِلَّا فَأَبُو الزِّنَادِ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ رَأَى عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ أَلْفٍ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْقَوَدُ: الشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُثْمَانَ الْبُتِّيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ: الْقَتْلُ بِهَا أَيْضًا.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَتَادَةَ، وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَإِلَيْهِ يَنْحُو الْبُخَارِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ.

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ، وَمَحَا أَسْمَاءَ الَّذِينَ حَلَفُوا أَيْمَانَهُمْ مِنَ الدِّيوَانِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.


فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَسَامَةِ فَدُونَكَ أَدِلَّتَهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِالْقِصَاصِ بِالْقَسَامَةِ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ بِخَيْبَرَ، مُخَاطِبًا لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ. .» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُمْ لِيَقْتُلُوهُ بِصَاحِبِهِمْ. وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: صَحِيحٌ حَسَنٌ. فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ: «أَقِمْ شَاهِدَيْنَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ» صَرِيحٌ أَيْضًا فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَادِّعَاءُ أَنَّ مَعْنَى دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ بِرُمَّتِهِ: أَيْ لِيَأْخُذُوا مِنْهُ الدِّيَةَ، بِعِيدٌ جِدًّا كَمَا تَرَى.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ. أَوْ: صَاحِبَكُمْ. .» الْحَدِيثَ، قَالُوا: فَعَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ «قَاتِلَكُمْ» فَهِيَ صَرِيحٌ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ. وَعَلَى أَنَّهَا «صَاحِبَكُمْ» فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ احْتِمَالًا قَوِيًّا. وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِلشَّكِّ فِي اللَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ «صَاحِبَكُمْ» لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْتُولَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: تَسْتَحِقُّونَ دِيَتَهُ. وَالِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي يُبْطِلُ الِاسْتِدْلَالَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ ; لِأَنَّ مُسَاوَاةَ الِاحْتِمَالَيْنِ يَصِيرُ بِهَا اللَّفْظُ مُجْمَلًا، وَالْمُجْمَلُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ عَنْهُ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تُسَمُّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمَّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ نُسَلِّمُهُ».

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» قَالُوا: مَعْنَى «دَمَ صَاحِبِكُمْ» قَتْلُ الْقَاتِلِ.

وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ «بِدَمِ صَاحِبِكُمْ» الدِّيَةُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الدَّمَ عَلَى الدِّيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ (ح)، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أَنَّهُ قَتَلَ بِالْقَسَامَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ بِبَحْرَةِ الرُّغَاةِ عَلَى شَطِّ لِيَّةِ الْبَحْرَةِ، قَالَ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ مِنْهُمْ، وَهَذَا لَفْظُ مَحْمُودٍ: بِبَحْرَةٍ، أَقَامَهُ مَحْمُودٌ وَحْدَهُ عَلَى شَطِّ لِيَّةَ اهـ. وَانْقِطَاعُ سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ:»عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «كَمَا تَرَى. وَقَدْ سَاقَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ هَذَا، وَقَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ» أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ الطَّائِفَ "، وَهُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ

رَجُلًا ضَرَبَهُ بِشَوِيقٍ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ قَاطِعَةٌ إِلَّا لَطْخٌ أَوْ شَبِيهُ ذَلِكَ، وَفِي النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمِنْ فُقَهَاءِ النَّاسِ مَا لَا يُحْصَى، وَمَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنْ يَحْلِفَ وُلَاةُ الْمَقْتُولِ وَيَقْتُلُوا أَوْ يَسْتَحْيُوا، فَحَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا وَقَتَلُوا، وَكَانُوا يُخْبِرُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِالْقَسَامَةِ، وَيَرَوْنَهَا لِلَّذِي يَأْتِي بِهِ مِنَ اللَّطْخِ أَوِ الشُّبْهَةِ أَقْوَى مِمَّا يَأْتِي بِهِ خَصْمُهُ، وَرَأَوْا ذَلِكَ فِي الصُّهَيْبِيِّ حِينَ قَتَلَهُ الْحَاطِبِيُّونَ وَفِي غَيْرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَزَادَ فِيهِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ حَقًّا أَنْ يُحَلِّفَنَا عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إِلَيْنَا.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ آلِ صُهَيْبٍ مُنَازَعَةٌ. . . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قَتْلِهِ، قَالَ: فَرَكِبَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي ذَلِكَ، فَقَضَى بِالْقَسَامَةِ عَلَى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ آلِ حَاطِبٍ، فَثَنَّى عَلَيْهِمُ الْأَيْمَانَ، فَطَلَبَ آلُ حَاطِبٍ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى اثْنَيْنِ وَيَقْتُلُوهُمَا، فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ، فَحَلَفُوا عَلَى الصُّهَيْبِيِّ فَقَتَلُوهُ. قَالَ هِشَامٌ: فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُرْوَةُ، وَرَأَى أَنْ قَدْ أُصِيبَ فِيهِ الْحَقُّ، وَرُوِّينَا فِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ.

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمَا أَقَادَا بِالْقَسَامَةِ.

وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلَّا فَلَا تُظْلَمُ النَّاسُ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ رحمه الله.

هَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ أَوْجَبَ الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ.

وَأَمَّا حُجَجُ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ بِهَا إِلَّا الدِّيَةُ فَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ:

أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَاهُ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بِقَسَامَتِكُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ - أَيْ: يَدْفَعُوا إِلَيْكُمْ دِيَتَهُ - وَإِمَّا أَنْ يُعْلِمُونَا أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنِ الْتِزَامِ أَحْكَامِنَا، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ، وَيَصِيرُونَ حَرْبًا لَنَا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ. اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ،

رحمه الله.

وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالُوا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِنَّمَا هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ (فِي فَتْحِ الْبَارِي)، قَالَ: وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ فِيهَا إِلَّا الدِّيَةُ بِمَا أَخْرَجَهُ الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ، قَالَ: وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمْرُ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا وَجَدْتُمُوهُ إِلَيْهِ أَقْرَبَ فَأَحْلِفُوهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَأَغْرِمُوهُمُ الدِّيَةَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عُمْرَ كَتَبَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ خِيرَانَ وَوَدَاعَةَ أَنْ يُقَاسَ مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ ; فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ أُخْرِجَ إِلَيْهِ مِنْهَا خَمْسُونَ رَجُلًا حَتَّى يُوَافُوهُ فِي مَكَّةَ، فَأَدْخَلَهُمُ الْحِجْرَ فَأَحْلَفَهُمْ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ، فَقَالَ: «حَقَنْتُ بِأَيْمَانِكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَلَا يُطَلُّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ».

قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَهُ الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَالْحَارِثُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. انْتَهَى. وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ حَيَّيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ «أَنْ يُقَاسَ إِلَى أَيِّهِمَا أَقْرَبُ فَأَلْقَى دِيَتَهُ عَلَى الْأَقْرَبِ»، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ: أَعَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَلِمَ تَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا؟ فَسَكَتَ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْقَسَامَةِ: تُوجِبُ الْعَقْلَ وَلَا تُسْقِطُ الدَّمَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

فَهَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الدِّيَةَ وَلَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ.

وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقَسَامَةَ لَا يَلْزَمُ بِهَا حُكْمٌ، فَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَحْضُرُوهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَحَلِفُ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ مِنْ آلِ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو

قِلَابَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالُوا: نَقُولُ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ. قَالَ لِي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ؟ وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الْأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ، أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ. . . إِلَى آخِرِ حَدِيثِهِ.

وَمُرَادُ أَبِي قِلَابَةَ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يُقْتَلُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ يَحْلِفُونَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَحْضُرُوهُ.

هَذَا هُوَ حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، وَهَذِهِ حُجَجُهُمْ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي دَلِيلًا - الْقَوَدُ بِالْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي قَدَّمْنَا فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّهُمْ إِنْ حَلَفُوا أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ دَفَعَ الْقَاتِلَ بِرُمَّتِهِ إِلَيْهِمْ»، وَهَذَا مَعْنَاهُ الْقَتْلُ بِالْقَسَامَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يُعَارِضُ هَذَا. وَالْقَسَامَةُ أَصْلٌ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ قَطْعٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو قِلَابَةَ فِي كَلَامِهِ الْمَارِّ آنِفًا ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، شُرِعَ لِحَيَاةِ النَّاسِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ، وَلَمْ تُمَكَّنْ فِيهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ لَوْثٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بِهِ صِدْقُهُمْ فِي ذَلِكَ.


تَنْبِيهٌ

اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّتِي فِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «لَمَّا سَأَلَ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ هَلْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ» وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ بَيِّنَةٌ، قَالَ: «يَحْلِفُونَ» يَعْنِي الْيَهُودَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ أَصْلًا - لَا دَلِيلَ فِيهَا لِمَنْ نَفَى الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدٍ وَهِمَ فِيهَا، فَأَسْقَطَ مِنَ السِّيَاقِ تَبْرِئَةَ الْمُدَّعِينَ بِالْيَمِينِ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَتِهِ رَدَّ الْيَمِينِ. وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَرَضَ الْأَيْمَانَ أَوَّلًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا أَبَوْا عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَدَّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ. فَاشْتَمَلَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَلَى زِيَادَةٍ

مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ فَوَجَبَ قَبُولُهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله رِوَايَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ (فِي بَابِ الْقَسَامَةِ) وَذَكَرَ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (فِي بَابِ الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ) وَفِيهَا: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ» أَوْ صَاحِبَكُمْ. . . الْحَدِيثَ. وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ» لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ.

وَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيمِ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ عَلَى رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ - ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ ثِقَةٍ حَافِظٍ لَمْ يُعَارِضْهَا غَيْرُهَا فَيَجِبُ قَبُولُهَا ; كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَعِلْمِ الْأُصُولِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا الْآيَةَ [٢ \ ٧٣]، وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيثَ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ - يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ. وَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ، فَقَدْ وَصَلَهُ جَمَاعَةُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ.

وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله (فِي الْمُوَطَّأِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورَةِ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ: أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ. اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ يُشْتَرَطُ لَهَا لَوْثٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ اللَّوْثِ الَّذِي تُحْلَفُ مَعَهُ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ رحمه الله إِلَى أَنَّهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَهَلْ يَكْفِي شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ، أَوْ لَا بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ؟ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ.

وَالثَّانِي: أَنَّ تَشْهَدَ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ كَاثْنَيْنِ غَيْرِ عَدْلَيْنِ.

قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَالَّذِي سَمِعْتُهُ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ، وَالَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعُونَ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُونَ، وَأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ يَأْتِيَ وُلَاةُ الدَّمِ بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً عَلَى الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّمُ، فَهَذَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ لِمُدَّعِي الدَّمَ عَلَى مَنِ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةَ عِنْدَنَا إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ

الْوَجْهَيْنِ. اهـ مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ، هَكَذَا قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ، وَسَتَأْتِي زِيَادَةٌ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ رحمه الله إِيجَابَهُ الْقَسَامَةَ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ.

قَالُوا: هَذَا قَتْلُ مُؤْمِنٍ بِالْأَيْمَانِ عَلَى دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ.

وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رحمه الله بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ طَبْعِ النَّاسِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ: الْإِنَابَةُ وَالتَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [٦٣ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [٤ \ ١٨]، وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [٤٠ \ ٨٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَهَذَا مَعْهُودٌ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدَعَ قَاتِلَهُ وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا نَادِرٌ فِي النَّاسِ لَا حُكْمَ لَهُ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ قِصَّةَ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ.

فَقَدِ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ بِقِصَّةِ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، أَوْ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ.

وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَازِمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، فَافْتَرَقَا.

وَرَدَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي إِحْيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ.

قَالَ: وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ. اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَتِيلَ إِذَا ضُرِبَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَحَيِيَ أَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ، فَانْقَطَعَ بِذَلِكَ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [٢ \ ٧٢] . فَالْغَرَضُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ قَطَعُ النِّزَاعِ بِمَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ بِإِخْبَارِ الْمَقْتُولِ إِذَا ضُرِبَ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لَوْثٌ عِنْدَ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ

يُقْسَمُ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمَعَ الْمَرْأَةِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَوْثٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَوْثٌ، دُونَ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ.

وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ بِقَوْلِهِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ: اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.

وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِهِ جِرَاحٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ.

وَالَّذِي بِهِ الْحُكْمُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ جُرْحٍ أَوْ ضَرْبٍ بِالْمَقْتُولِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِدُونِ وُجُودِ أَثَرِ الضَّرْبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَتْ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ مَالِكٍ.

الْأُولَى: أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ بِالضَّرْبِ، ثُمَّ يَعِيشُ الْمَضْرُوبُ بَعْدَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ يَمُوتُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ إِفَاقَةٍ. وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ أَيْضًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقِصَاصُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عَلَى الضَّرْبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوجَدَ مَقْتُولٌ وَعِنْدَهُ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ مَنْ بِيَدِهِ آلَةُ الْقَتْلِ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الدَّمِ مَثَلًا، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ فَتُشْرَعُ الْقَسَامَةُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَيَلْحَقُ بِهَذَا أَنْ تَفْتَرِقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مُقْتَتِلَتَيْنِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الطَّائِفَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْهَا الْقَتِيلُ إِنْ كَانَ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ.

أَمَّا إِنَّ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمَا مَعًا مُطْلَقًا. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ.

وَأَمَّا اللَّوْثُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْقَسَامَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ لَمْ يُدْرَ قَاتِلُهُ، فَيَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ يَتَخَيَّرُهُمُ الْوَلِيُّ: مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ إِذَا حَلَفُوا غُرِّمَ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ الدِّيَةَ، وَلَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ، وَلَيْسَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَسَامَةٌ إِلَّا بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ بِمَحِلَّةٍ لَوْثٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ: الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.

وَشَرْطُ هَذَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلَّا الْحَنَفِيَّةَ: أَنْ يُوجَدَ بِالْقَتِيلِ أَثَرٌ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ بِمَحِلَّةٍ لَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، بَلْ يَكُونُ هَدَرًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ وَيُلْقَى فِي الْمَحِلَّةِ لِتُلْصَقَ بِهِمُ التُّهْمَةُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُونُوا أَعْدَاءً لِلْمَقْتُولِ وَلَمْ يُخَالِطْهُمْ غَيْرُهُمْ وَإِلَّا وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ ; كَقِصَّةِ الْيَهُودِ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رحمه الله، فَإِنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِ ; كَالْوَاحِدِ أَوْ جَمَاعَةٍ غَيْرِ عُدُولٍ. وَكَذَلِكَ تَجِبُ عِنْدَهُ بِوُجُودِ الْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَعِنْدَهُ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ مَنْ بِيَدِهِ آلَةُ الْقَتْلِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الدَّمِ مَثَلًا، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَيَلْحَقُ بِهِ افْتِرَاقُ الْجَمَاعَةِ عَنْ قَتِيلٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْجُمْهُورِ فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ: أَنَّ الْقَسَامَةَ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى دُونَ طَائِفَتِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ تَجِبُ عِنْدَهُ فِيمَا كَانَ كَقِصَّةِ الْيَهُودِيِّ مَعَ الْأَنْصَارِيِّ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَاللَّوْثُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْقَسَامَةُ عِنْدَهُ، فِيهِ رِوَايَتَانِ.

الْأُولَى: أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَنَحْوِ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ، وَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالْأَحْيَاءِ وَأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ بَيْنَهُمُ الدِّمَاءُ وَالْحُرُوبُ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَلَّا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّأٍ. وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَلَّا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; قَالَهُ فِي الْمُغْنِي.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَوْثًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنِ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ فَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوجَدَ الْمَقْتُولُ وَيُوجَدَ بِقُرْبِهِ رَجُلٌ مَعَهُ سِكِّينٌ أَوْ سَيْفٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ.

الرَّابِعُ: أَنْ تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَفْتَرِقُوا عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى.

ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا تَصِلُ سِهَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عَقْلَ الْقَتِيلِ عَلَى الَّذِينَ نَازَعُوهُمْ فِيمَا إِذَا اقْتَتَلَتِ الْفِئَتَانِ إِلَّا أَنْ يَدَّعُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ فَاسْتَوَى الْجَمِيعُ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَشْهَدَ بِالْقَتْلِ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ ; فَعَنْ أَحْمَدَ هُوَ لَوْثٌ، لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي، وَعَنْهُ: لَيْسَ بِلَوْثٍ، لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ.

فَأَمَّا الْقَتِيلُ الَّذِي يُوجَدُ فِي الزِّحَامِ كَالَّذِي يَمُوتُ مِنَ الزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَوْثٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ مَاتَ بِالزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّ سَعِيدًا رَوَى فِي سُنَنِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُتِلَ رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ. فَجَاءَ أَهْلُهُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِنْ عَلِمْتَ قَاتِلَهُ وَإِلَّا فَأَعْطِهِمْ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. انْتَهَى مِنَ الْمُغْنِي.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ (فِي بَابِ إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ بِهِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ الْيَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ رضي الله عنهما مَا نَصُّهُ: وَحُجَّتُهُ (يَعْنِي إِعْطَاءَ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ قِصَّةِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ وَالِدَ حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَيْضًا (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ) وَرَوَى مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ مَذْكُورٍ: أَنَّ رَجُلًا زُحِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ، فَوَدَاهُ عَلِيٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى (مِنْهَا) قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَنَّهُ يُقَالُ لِوَلِيِّهِ ادَّعِ عَلَى مَنْ شِئْتَ وَاحْلِفْ، فَإِنْ حَلَفْتِ اسْتَحْقَقْتَ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلْتَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالطَّلَبِ.

(وَمِنْهَا) قَوْلُ مَالِكٍ: دَمُهُ هَدَرٌ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ أَحَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّاجِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ) انْتَهَى

كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله.

وَالتَّرْجِيحُ السَّابِقُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ قَوْلُهُ فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ خَطَأً: «غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ» اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ حَضَرَ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ»، عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَهُوَ لَا يَعْفُو إِلَّا عَنْ شَيْءٍ اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَكَأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي اللَّوْثِ الَّذِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِهِ: أَنَّهُ كُلُّ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي دَعْوَاهُمْ ; لِأَنَّ جَانِبَهُمْ يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ فَيَحْلِفُونَ مَعَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ «أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الرِّوَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ مَا تَحْصُلُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ» وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي شُرُوطِ الرَّاوِي:

بِغَالِبِ الظَّنِّ يَدُورُ الْمُعْتَبَرْ ... فَاعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ كُلُّ مَنْ غَبَرْ

، إِلَخْ


فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَا يَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ فِي الْقَسَامَةِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ فِيهَا الرِّجَالُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ فِي قَسَامَةِ الْعَمْدِ، وَأَجَازَ حَلِفَ النِّسَاءِ الْوَارِثَاتِ فِي قَسَامَةِ الْخَطَإِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إِلَّا الرِّجَالُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْقَسَامَةِ يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ. قَالُوا: وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الرِّجَالِ لَا يُقْسِمُ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ ﷺ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ»، فَجَعَلَ الْحَالِفَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْوَارِثِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَلِفُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ.

وَأَجَابَ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ بِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ ﷺ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» مَا نَصُّهُ: هَذَا مِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْوَارِثِ خَاصَّةً لَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَبِيلَةِ. وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا، وَالْحَالِفُ هُمُ الْوَرَثَةُ، فَلَا يَحْلِفُ أَحَدٌ مِنَ

الْأَقَارِبِ غَيْرُ الْوَرَثَةِ، يَحْلِفُ كُلُّ الْوَرَثَةِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَوَافَقَنَا مَالِكٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَقَالَ: يَحْلِفُ الْأَقَارِبُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ. وَوَافَقَهُ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ رحمه الله.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي أَوَّلُوا بِهِ الْحَدِيثَ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِتَمْيِيزِ الْخَمْسِينَ بِالرَّجُلِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ.


الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ ; فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ نَكَلُوا رُدِّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ; فَإِنْ حَلَفُوهَا بُرِّئُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ ﷺ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ» أَيْ يَبْرَءُونَ مِنْكُمْ بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ أَنْ يُغَرَّمُوا الدِّيَةَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ أَنْ حَلَفُوا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَا حَلِفَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعُونَ مِنَ الْحَلِفِ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ \ ٢١] .


الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِنْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْرَأُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَحْلِفَ بِانْفِرَادِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ.

قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ: تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُتَسَاوُونَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَمِينِ فَقِيلَ يُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ

مَالِكٍ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ طَالَ حَبْسُهُمْ وَلَمْ يَحْلِفُوا تُرِكُوا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَلْدُ مِائَةٍ وَحَبْسُ سَنَةٍ، وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا دَلِيلًا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ بِنُكُولِهِمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَرَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنُّكُولِ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ هَاهُنَا كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ; قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْعَدَدِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ ; فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ ابْنٌ وَاحِدٌ مَثَلًا اسْتَعَانَ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ وَلَوْ غَيْرَ وَارِثٍ يَحْلِفُ مَعَهُ أَيْمَانَهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا هُوَ صِحَّةُ اسْتِعَانَةِ الْوَارِثِ بِالْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ.» الْحَدِيثَ. وَهُمَا ابْنَا عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَلَا يَرِثَانِ فِيهِ لِوُجُودِ أَخِيهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ»، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْمَقْتُولِ عِشْرُونَ رَجُلًا وَارِثُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ إِلَّا أَخُوهُ وَمَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبُ مِنْهُ نَسَبًا.

وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمَجْمُوعِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْوَارِثُونَ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ; فَإِنْ كَانُوا خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وُزِّعَتْ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَإِنْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ النَّاكِلُ مُعِينًا لَا وَارِثًا، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ، سَقَطَ الْقَوَدُ بِنُكُولِهِ، وَرُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله.

وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله فَيَحْلِفُ أَيْمَانَهَا الْوَارِثُونَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا وَاحِدٌ وَلَوِ امْرَأَةٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْحَقُّ حَتَّى يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ خَاصَّةً خَمْسِينَ يَمِينًا سَوَاءٌ قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَاسْتَحَقَّ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ أَوْ بِالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا

الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْعَصَبَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا، كُلُّ رَجُلٍ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ وُجِدَتِ الْخَمْسُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَذَلِكَ، وَإِلَّا كُمِّلَتِ الْخَمْسُونَ مِنَ الْعَصَبَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، الْأَقْرَبِ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ حَتَّى تَتِمَّ الْخَمْسُونَ، وَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلٍ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ.

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ إِلَّا الْوَرَثَةُ خَاصَّةً، وَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ وَاسْتَحَقَّ، إِلَّا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَالْمُرَادُ بِالْوَرَثَةِ عِنْدَهُ الذُّكُورُ خَاصَّةً. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ.

وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَهُ لَا يَحْلِفُهَا إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ، فَيُقْسِمُونَ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا.

تَنْبِيهٌ

قَدْ عَلِمْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا وُزِّعَتْ عَلَى عَدَدٍ أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِينَ وَوَقَعَ فِيهَا انْكِسَارٌ، فَإِنْ تَسَاوَوْا جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ; فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا، وَهُوَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثُلُثَانِ، فَيُتَمَّمُ الْكَسْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا.

فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ خِلَافُ الشَّرْعِ فِي زِيَادَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى خَمْسِينَ يَمِينًا ; لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ يَمِينًا.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَقْصَ الْأَيْمَانِ عَنْ خَمْسِينَ لَا يَجُوزُ، وَتَحْمِيلُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ زِيَادَةً عَلَى الْآخَرِينَ لَا يَجُوزُ، فَعُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي جَبْرِ الْكَسْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُنْكَسِرَةُ لَمْ يَسْتَوِ فِي قَدْرِ كَسْرِهَا الْحَالِفُونَ، كَأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَعَلَى آخَرَ ثُلُثُهَا، وَعَلَى آخَرَ سُدُسُهَا، حَلَفَهَا مَنْ عَلَيْهِ نِصْفُهَا تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالسُّدُسِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُجْبَرُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ خَمْسِينَ يَمِينًا، سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِي الْمِيرَاثِ أَوِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ لَحَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا. قَالَ: وَمَا يَحْلِفُهُ مُنْفَرِدًا يَحْلِفُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْقَسَامَةِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ عَدَدَ أَيْمَانِهَا خَمْسُونَ فَقَطْ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ تَصِيرُ بِهِ مِئَاتٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ السَّادِسُ: لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْقَوَدَ بِهَا إِلَّا وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوَدِ بِهَا، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالزُّهْرِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ.

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ:

«يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ.» الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ ﷺ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ كَالْبَيِّنَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو ثَوْرٍ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.

وَهَلْ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْقَسَامَةِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تُسْمَعُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُسْمَعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مُسْتَدِلًّا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَقْتُولِ بِخَيْبَرَ ; لِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ادَّعَوْا عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى فِيهَا لَا تُسْمَعُ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، قَالُوا: وَلَا دَلِيلَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ وَالْأَنْصَارِيِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِيهَا: «يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ.

وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ.

وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَشْتَرِطُ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: يَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَهُمْ: هَلْ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ: لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى جَمَاعَةٍ وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا لِلْقَتْلِ،

وَيُسْجَنُ الْبَاقُونَ عَامًا، وَيُضْرَبُونَ مِائَةً.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُحْلَفُ عَلَى الْبَتِّ، وَدَعْوَى الْقَتْلِ أَيْضًا عَلَى الْبَتِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْلِفُ الْغَائِبُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَكَيْفَ يَأْذَنُ الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَكْفِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحَلِفِ.

الْفَرْعُ الثَّامِنُ: إِنْ مَاتَ مُسْتَحِقُّ الْأَيْمَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهَا انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ، وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ فِيهَا عَلَيْهِمْ كَمَا يُجْبَرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ.

وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْقَسَامَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَهَا كَثِيرَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَسَطَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا الْكَلَامَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.


غَرِيبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا أَيَّامَ النِّزَاعِ بَيْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّ السَّلْطَنَةَ وَالْمُلْكَ سَيَكُونَانِ لِمُعَاوِيَةَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [١٧ \ ٣٣]، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ عَنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ بِسَنَدِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا

نَهَى جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ. وَسَمِعْتُ، وَلَمْ يَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ. وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَقَدْ أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

[٢ \ ١٦٩]، وَقَوْلِهِ:

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [٧ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ الْآيَةَ [٤٩ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ \ ٥٩]، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [٥٣ \ ٢٨]، وَقَوْلِهِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [٤ \ ١٥٧]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْعِلْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» .


تَنْبِيهٌ

أَخَذَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَنْعَ التَّقْلِيدِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ اتِّبَاعُ غَيْرِ الْعِلْمِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: لَا شَكَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَنْعِهِ، وَكُفْرِ مُتَّبِعِهِ ; كَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ \ ١٠٤] وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ \ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [٣١ \ ٢١]، وَقَوْلِهِ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [٢١ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [١٤ \ ١٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.


أَمَّا اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ كَابْنِ حَزْمٍ وَمَنْ تَبِعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى مَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا، وَتَضْلِيلِ الْقَائِلِ بِهِ، وَمَنْعِ التَّقْلِيدِ مِنْ أَصْلِهِ - فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَتَفْسِيرِهِ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ، كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي

الظَّاهِرِيَّةِ ; لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ سُؤَالِ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ وَعَمَلِهِ بِفُتْيَاهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ الْعَامِّيُّ يَسْأَلُ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَيُفْتِيهِ فَيَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; كَمَا أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَاجْتِهَادُ الْعَالِمِ حِينَئِذٍ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ فِي تَفَهُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ لِيَعْرِفَ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ - لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَكَانَ جَارِيًا بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَسَنُوضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَشْرِ» مَسْأَلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِ، وَاسْتِنْبَاطِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ، قِيَاسًا كَانَ الْإِلْحَاقُ أَوْ غَيْرُهُ، وَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ، وَنُوَضِّحُ رَدَّ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَالنَّظَّامِ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَحَادِيثَ وَآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، وَبِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ حَتَّى يَتَّضِحَ بُطْلَانُ جَمِيعِ ذَلِكَ.


وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَأَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ الْكَرِيمِ.

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله «الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ» وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأُصُولِ لَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ الْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّهُ إِلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ; أَعْنِي الْفَرْقَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ \ ٢٣]، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّأَفُّفِ الْمَنْطُوقِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩ \ ٧، ٨] فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمِثَالِ الذَّرَّةِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ، وَالْإِثَابَةِ بِمِثْقَالِ الْجَبَلِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ الْآيَةَ [٦٥ \ ٢]، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ مَسْكُوتًا عَنْهَا.

وَنَهْيُهُ ﷺ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى الْآيَةَ [٤ \ ١٠]، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ

يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إِحْرَاقِ مَالِ الْيَتِيمِ وَإِغْرَاقِهِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ إِتْلَافٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي أَمَةٍ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، لِمَا عُرِفَ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ أَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَ طَرْدِيَّيْنِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ كَالشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِمَا.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ قَضَاءِ الْحَكَمِ فِي كُلِّ حَالٍ يَحْصُلُ بِهَا التَّشْوِيشُ الْمَانِعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ ; كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالسُّرُورِ وَالْحُزْنِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْحَقْنِ وَالْحَقْبِ الْمُفْرِطَيْنِ.

وَنَهْيُهُ ﷺ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي قَارُورَةٍ مَثَلًا، وَصَبِّ الْبَوْلِ مِنَ الْقَارُورَةِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ ; إِذْ لَا فَرْقَ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ مُبَاشَرَةً وَصَبِّهِ فِيهِ مِنْ قَارُورَةٍ وَنَحْوِهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ فِيهَا إِلَّا مُكَابِرٌ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتِدْلَالًا بِمَنْطُوقٍ بِهِ عَلَى مَسْكُوتٍ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ نَوْعُ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ «بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ» لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْكِرَهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَمَسَائِلُهُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُكَابِرٍ لَا يُحِيطُ بِهَا الْحَصْرُ، وَسَنَذْكُرُ أَمْثِلَةً مِنْهَا ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [٥ \ ٩٥] فَكَوْنُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُمَاثِلُهُ النَّوْعُ الْمُعَيَّنُ مِنَ النَّعَمِ اجْتِهَادٌ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ هَذَا الْحُكْمِ، نَصَّ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الِاجْتِهَادَ فِي الشَّرْعِ مُسْتَحِيلًا مِنْ أَصْلِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ، وَتَحْدِيدُ الْقَدْرِ اللَّازِمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ، وَتَحْدِيدُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اجْتِهَادٍ، وَالزَّكَاةُ لَا تُصْرَفُ إِلَّا فِي مَصْرِفِهَا، كَالْفَقِيرِ وَلَا يُعْلِمُ فَقْرُهُ إِلَّا بِأَمَارَاتٍ ظَنِّيَّةٍ يُجْتَهَدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا بِالْقَرَائِنِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَاطِنِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُحْكَمُ إِلَّا بِقَوْلِ الْعَدْلِ، وَعَدَالَتُهُ إِنَّمَا تُعْلَمُ بِأَمَارَاتٍ ظَنِّيَّةٍ يُجْتَهَدُ فِي مَعْرِفَتِهَا بِقَرَائِنِ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَطُولِ الْمُعَاشَرَةِ. وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالْأَمَارَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى.

وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ، قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ

يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .

وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِي عَقِبِ الْحَدِيثِ: قَالَ يَزِيدُ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ - حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، مِثْلَ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا. انْتَهَى.

فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ دَعْوَى الظَّاهِرِيَّةِ مَنْعَ الِاجْتِهَادِ مِنْ أَصْلِهِ، وَتَضْلِيلَ فَاعِلِهِ وَالْقَائِلِ بِهِ قَطْعًا بَاتًّا كَمَا تَرَى.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ ; فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْكُمَ فَاجْتَهَدَ. قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ، فَإِنْ حَكَمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ آثِمٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَا ; لِأَنَّ إِصَابَتَهُ اتِّفَاقِيَّةٌ لَيْسَتْ صَادِرَةً عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لَا، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ كُلُّهَا، وَلَا يُعْذَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي السُّنَنِ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ. قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.

فَإِنْ قِيلَ: الِاجْتِهَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا صَرْفٌ لِكَلَامِهِ ﷺ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ - مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. اهـ. فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ مِنْ أَصْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمُحَاوَلَةُ ابْنِ حَزْمٍ تَضْعِيفَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، الَّذِي رَأَيْتَ أَنَّهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَيْهِ - لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِبْطَالِهَا لِظُهُورِ سُقُوطِهَا كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: «فَبِمَ تَحْكُمُ»؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ»؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ»؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ» .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ (فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ) بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ: قَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَالْحَارِثُ وَالرِّجَالُ مَجْهُولُونَ ; قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه. انْتَهَى.

وَمُرَادُ ابْنِ قُدَامَةَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ رَدَّ الظَّاهِرِيَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِجَهَالَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مُعَاذٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ هِيَ مُرَادَ ابْنِ كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُسْنَدِ وَلَا فِي

السُّنَنِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِجَوْدَةِ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ الْحَارِثَ ابْنَ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ يَرَاهُمْ عُدُولًا لَيْسَ فِيهِمْ مَجْرُوحٌ وَلَا مُتَّهَمٌ، وَسَيَأْتِي اسْتِقْصَاءُ الْبَحْثِ فِي طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ثِقَةٌ فَاضِلٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ قِيلَ صَحَابِيٌّ، وَذَكَرُهُ الْعِجْلِيُّ فِي كِبَارِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ هَذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ»، وَ«سُورَةِ الْحَشْرِ» مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ فِي الشَّرْعِ جَائِزٌ: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نُذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: «أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا»؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهِ عَنْهَا»؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» . انْتَهَى.

وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُعَدُّ اضْطِرَابًا، لِأَنَّهَا وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ: سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَفْتَاهَا، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَأَفْتَاهُ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ الْمَرْأَةَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ.

وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، صَرِيحٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ إِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ ﷺ بَيَّنَ إِلْحَاقَ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ حَقٌّ مُطَالَبٌ بِهِ تَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ بِأَدَائِهِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا تَرَى.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ لَكَ إِبِلٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا»؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ»؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا. قَالَ: «فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ»؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: «وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . اهـ.

فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَرِيحٌ فِي قِيَاسِ النَّظِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ سَوَادِ الْوَلَدِ مَعَ بَيَاضِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، لَيْسَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ ; فَلَمْ يَجْعَلْ سَوَادَهُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ بِإِنْسَانٍ أَسْوَدَ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ هُوَ أَسْوَدُ فَنَزَعَهُ إِلَى السَّوَادِ سَوَادُ ذَلِكَ الْجَدِّ ; كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِبِلَ الْحُمْرَ فِيهَا جِمَالٌ وُرْقٌ يُمْكِنُ أَنَّ لَهَا أَجْدَادًا وُرْقًا نَزَعَتْ أَلْوَانُهَا إِلَى الْوُرْقَةِ، وَبِهَذَا اقْتَنَعَ السَّائِلُ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: هَشَشْتُ يَوْمًا فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا! قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ وَأَنْتَ صَائِمٌ»؟ فَقُلْتُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. فَقَالَ ﷺ «فَمَهْ» . اهـ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ.

قُلْنَا: صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ. قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ: أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثَنَا اللَّيْثُ (ح) وَثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ. . إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ طَبَقَتَهُ الْأُولَى أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، أَمَّا أَحْمَدُ فَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْكُوفِيُّ التَّمِيمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ ثِقَةٌ حَافِظٌ، وَعِيسَى بْنُ حَمَّادٍ التَّجِيبِيُّ أَبُو مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ الْمُلَقَّبُ زُغْبَةَ، ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الثَّانِيَةُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَهْمِيُّ أَبُو الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، فَقِيهٌ إِمَامٌ مَشْهُورٌ. وَطَبَقَتُهُ الثَّالِثَةُ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ أَبُو يُوسُفَ الْمَدَنِيُّ، نَزِيلُ مِصْرَ ; ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الرَّابِعَةُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ. وَطَبَقَتُهُ الْخَامِسَةُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ; فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَمَا تَرَى. فَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ ﷺ قَاسَ الْقُبْلَةَ عَلَى الْمَضْمَضَةِ ; لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةُ الشُّرْبِ، وَالْقُبْلَةَ مُقَدِّمَةُ الْجِمَاعِ، فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُقَدِّمَةُ الْفِطْرِ، وَهِيَ لَا تُفْطِرُ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهَا.

فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا - فِيهَا الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ مِنَ الشَّرْعِ لَا مُخَالِفَ لَهُ ; لِأَنَّهُ ﷺ فَعَلَهُ، وَاللَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [٣٣ \ ٢١]، وَهُوَ ﷺ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا لِيُنَبِّهَ النَّاسَ لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ ﷺ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ.

قُلْنَا: فِعْلُهُ حُجَّةٌ فِي فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ بِوَحْيٍ كَسَائِرِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ، فَكُلُّهَا تَثْبُتُ بِهَا الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ ﷺ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.


مَسْأَلَةٌ

قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١٧ \ ٣٦] دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَبِهَذَا احْتَجَجْنَا عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَالْخَرْصِ ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ يُسَمَّى عِلْمًا اتِّسَاعًا، فَالْقَائِفُ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُلْحِقُ الْفَقِيهُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ عَنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ» وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا. اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي لَاعَنَتْ زَوْجَهَا وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شَبِيهٍ جِدًّا بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّبَهَ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًى وَلَمْ يَجْلِدِ الْمَرْأَةَ.

قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ لَأَثْبَتَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةُ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ ابْنُ زِنًى، وَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي إِيضَاحُهُ (فِي سُورَةِ النُّورِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَهَذَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنَ السُّرُورِ.

قَالُوا: وَمَا كَانَ ﷺ لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ; لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله قَائِلًا: إِنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ، وَعَقَدَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:

وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ ... وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ


تَنْبِيهَانِ

الْأَوَّلُ: لَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ ; فَقَالَ ﷺ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلَكِنَّهُ ﷺ اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رضي الله عنها: «احْتَجِبِي عَنْهُ» مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.


التَّنْبِيهُ الثَّانِي

قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبُهْتُ وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَسَاقَ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، وَقَوْلُهُ «لَا نَقْفُو أُمَّنَا» أَيْ لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَنَسُبُّهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:

فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا

وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:

وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ أَصْلَ الْقَفْوِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الِاتِّبَاعُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْمَسَاوِي كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْقَذْفُ وَالْبُهْتُ.


وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١٧ \ ٣٦] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَفْعَالِ جَوَارِحِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [١٦ \ ٩٣]، وَقَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٥ \ ٩٢ - ٩٣]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِ صَاحِبِهَا، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِمَا فَعَلَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَهَذَا الْمَعْنَى أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ ; فَإِنَّهُ يَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ، كَمَا قَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٣٦ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٤١ \ ٢٠] .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ عِنْدِي، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نُكْتَةٌ نَبَّهَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١٧ \ ٣٦]، يُفِيدُ تَعْلِيلَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١٧ \ ٣٦] بِالسُّؤَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ «إِنَّ» الْمَكْسُورَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: انْتَهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ لِتَشْكُرَهُ، وَهُوَ مُخْتَبِرُكَ بِذَلِكَ وَسَائِلُكَ عَنْهُ، فَلَا تَسْتَعْمِلْ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَةٍ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

[١٦ \ ٧٨]، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِشَارَةِ «أُولَئِكَ» لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْعَرْجِيُّ:

يَا مَا أُمَيْلَحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ... مِنْ هَاؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ وَالسَّمُرِ

وَقَوْلُ جَرِيرٍ:

ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ

خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ لَا شَاهِدَ فِيهِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ «بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ» وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا

نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ التَّجَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ. وَقَوْلُهُ: مَرَحًا [١٧ \ ٣٧] مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ، وَهُوَ حَالٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَمَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حَالًا يَقَعْ ... بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْدٌ طَلَعْ

وَقُرِئَ: «مَرِحًا» بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ الْوَصْفُ مِنْ مَرِحَ (بِالْكَسْرِ) يَمْرَحُ (بِالْفَتْحِ) أَيْ: لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ فِي حَالِ كَوْنِكَ مُتَبَخْتِرًا مُتَمَايِلًا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ.

وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ الْآيَةَ [٣١ \ ١٨، ١٩]، وَقَوْلِهِ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الْآيَةَ [٢٥ \ ٦٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَصْلُ الْمَرَحِ فِي اللُّغَةِ: شِدَّةُ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَشْيِ الْإِنْسَانِ مُتَبَخْتِرًا مَشْيَ الْمُتَكَبِّرِينَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ شِدَّةِ الْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ عَادَةً.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ [١٧ \ ٣٧] أَنَّ مَعْنَاهُ لَنْ تَجْعَلَ فِيهَا خَرْقًا بِدَوْسِكَ لَهَا وَشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [١٧ \ ٣٧] أَيْ: أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَبِّرُ الْمُخْتَالُ ضَعِيفٌ حَقِيرٌ عَاجِزٌ مَحْصُورٌ بَيْنَ جَمَادَيْنِ، أَنْتَ عَاجِزٌ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيهِمَا، فَالْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ

تُؤَثِّرَ فِيهَا فَتَخْرِقَهَا بِشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَالْجِبَالُ الشَّامِخَةُ فَوْقَكَ لَا يَبْلُغُ طُولُكَ طُولَهَا ; فَاعْرِفْ قَدْرَكَ، وَلَا تَتَكَبَّرْ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا.

الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ [١٧ \ ٣٧] لَنْ تَقْطَعَهَا بِمَشْيِكَ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ:

وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ ... مُشْتَبَهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَقْ

لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمُخْتَرَقِ: مَكَانُ الِاخْتِرَاقِ. أَيِ الْمَشْيِ وَالْمُرُورِ فِيهِ. وَأَجْوَدُ الْأَعَارِيبِ فِي قَوْلِهِ: طُولًا أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَنْ يَبْلُغَ طُولُكَ الْجِبَالَ، خِلَافًا لِمَنْ أَعْرَبَهُ حَالًا وَمَنْ أَعْرَبَهُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا ... فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ

وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ وَحِرْزٍ وَمَنَعَةٍ ... فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمْ مِنْكَ أَمْنَعُ

وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [١٧ \ ٣٧] عَلَى مَنْعِ الرَّقْصِ وَتَعَاطِيهِ ; لِأَنَّ فَاعِلَهُ مِمَّنْ يَمْشِي مَرَحًا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا

الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [١٧ \ ٤٠] لِلْإِنْكَارِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَفَخَصَّكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ وَالصَّفَاءِ بِأَفْضَلِ الْأَوْلَادِ وَهُمُ الْبَنُونَ، لَمْ يَجْعَلْ فِيهِمْ نَصِيبًا لِنَفْسِهِ، وَاتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَدْوَنَهُمْ وَهِيَ الْبَنَاتُ! وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْعَادَةِ، فَإِنَّ السَّادَةَ لَا يُؤْثِرُونَ عَبِيدَهُمْ بِأَجْوَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَصْفَاهَا مِنَ الشَّوْبِ، وَيَتَّخِذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَرْدَأَهَا وَأَدْوَنَهَا، فَلَوْ كَانَ جَلَّ وَعَلَا مُتَّخِذًا وَلَدًا سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لَاتَّخَذَ أَجْوَدَ النَّصِيبَيْنِ وَلَمْ يَتَّخِذْ أَرْدَأَهُمَا، وَلَمْ يَصْطَفِكُمْ دُونَ نَفْسِهِ بِأَفْضَلِهِمَا.

وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَقَدْ جَعَلُوا لَهُ الْأَوْلَادَ! وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلُوا لَهُ أَضْعَفَهَا وَأَرْدَأَهَا وَهُوَ الْإِنَاثُ، وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [٥٣ \ ٢١ - ٢٢]، وَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [٣٩ \ ٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ فِي «سُورَةِ النَّحْلِ»، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ \ ٤٠] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ ادِّعَاءَ الْأَوْلَادِ لِلَّهِ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - أَمْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وَقَدْ بَيَّنَ شِدَّةَ عِظَمِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [١٩ \ ٨٨ - ٩٥]، فَالْمُشْرِكُونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ ; فَاقْتَرَفُوا الْجَرِيمَةَ الْعُظْمَى فِي الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْهَمْزَةُ وَالْفَاءُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ [١٧ \ ٤٠] قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا بِإِيضَاحٍ فِي «سُورَةِ النَّحْلِ» أَيْضًا.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا.

قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ «كَمَا تَقُولُونَ» بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ كَمَا يَقُولُونَ [١٧ \ ٤٢] بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، كِلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ كِلَاهُمَا حَقٌّ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقٌّ.

الْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ أُخْرَى كَمَا يَزْعُمُ الْكُفَّارُ لَابْتَغَوْا (أَيِ الْآلِهَةُ الْمَزْعُومَةُ) أَيْ لَطَلَبُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ (أَيْ إِلَى اللَّهِ) سَبِيلًا ; أَيْ إِلَى مُغَالَبَتِهِ وَإِزَالَةِ مُلْكِهِ، لِأَنَّهُمْ إِذًا يَكُونُونَ شُرَكَاءَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا!

وَهَذَا الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [٢٣ \ ٩١، ٩٢]، وَقَوْلُهُ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [٢١ \ ٢٢] وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَالنَّقَّاشِ، وَأَبِي مَنْصُورٍ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا

أَيْ: طَرِيقًا وَوَسِيلَةً تُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِفَضْلِهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٥٧]، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ قَتَادَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ فِي الْآيَةِ فَرْضَ الْمُحَالِ، وَالْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ مُشَارِكَةٍ لَهُ، لَا يَظْهَرُ مَعَهُ أَنَّهَا تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، بَلْ تُنَازِعُهُ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَلَكِنَّهَا مَعْدُومَةٌ مُسْتَحِيلَةُ الْوُجُودِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا ; أَيْ حَائِلًا وَسَاتِرًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ وَإِدْرَاكِهِ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ فَيَنْتَفِعُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْحِجَابُ الْمَسْتُورُ هُوَ مَا حَجَبَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِكِتَابِهِ، وَالْآيَاتُ الشَّاهِدَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [٤١ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [٢ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ الْآيَةَ [١٨ \ ٥٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِجَابِ الْمَسْتُورِ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُهُ عَنْ أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ، قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [١١١ \ ١] أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ وَهِيَ تَقُولُ:

مُذَمَّمًا أَبَيْنَا. . وَدِينَهُ قَلَيْنَا. . وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا

وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَقَدْ أَقْبَلَتْ هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا

[١٧ \ ٤٥]، فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ مَا نَصُّهُ: وَلَقَدِ اتَّفَقَ لِي بِبِلَادِنَا - الْأَنْدَلُسِ - بِحِصْنِ مَنْثُورٍ مِنْ أَعْمَالِ قُرْطُبَةَ مِثْلُ هَذَا، وَذَلِكَ أَنِّي هَرَبْتُ أَمَامَ الْعَدُوِّ وَانْحَزْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ عَنْهُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِي فَارِسَانِ وَأَنَا فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ قَاعِدٌ لَيْسَ يَسْتُرُنِي عَنْهُمَا شَيْءٌ، وَأَنَا أَقْرَأُ أَوَّلَ سُورَةِ يس وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَبَرَا عَلَيَّ ثُمَّ رَجَعَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا، وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: هَذَا دُيْبَلَةٌ (يَعْنُونَ شَيْطَانًا) وَأَعْمَى اللَّهُ عز وجل أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوْنِي. اهـ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْأَظْهَرُ.

وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: حِجَابًا مَسْتُورًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ; أَيْ حِجَابًا سَاتِرًا، وَقَدْ يَقَعُ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [٨٦ \ ٦] أَيْ مَدْفُوقٍ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [٦٩ \ ٢١] أَيْ مَرْضِيَّةٍ. فَإِطْلَاقُ كُلٍّ مِنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةُ الْآخَرِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْبَيَانِيُّونَ يُسَمُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ «مَجَازًا عَقْلِيًّا» وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِطْلَاقِ الْمَفْعُولِ وَإِرَادَةِ الْفَاعِلِ كَالْقَوْلِ فِي الْآيَةِ ; قَوْلُهُمْ: مَيْمُونٌ وَمَشْئُومٌ، بِمَعْنَى يَامِنٍ وَشَائِمٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: مَسْتُورًا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِجَابَ مَسْتُورٌ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ، أَوْ مَسْتُورًا بِهِ الْقَارِئُ فَلَا يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ أَكِنَّةً (جَمْعُ كِنَانٍ) وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الشَّيْءَ وَيُغَطِّيهِ وَيُكِنُّهُ، لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْقَهُوهُ لِحَيْلُولَةِ تِلْكَ الْأَكِنَّةِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ فِقْهِ الْقُرْآنِ ; أَيْ فَهْمِ مَعَانِيهِ فَهْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ; أَيْ صَمَمًا وَثِقَلًا لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ سَمَاعَ قَبُولٍ وَانْتِفَاعٍ.

وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سَبَبَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ كُفْرُهُمْ،

فَجَازَاهُمُ اللَّهُ عَلَى كُفْرِهِمْ بِطَمْسِ الْبَصَائِرِ وَإِزَاغَةِ الْقُلُوبِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالْأَكِنَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ الْآيَةَ [٦١ \ ٥]، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ \ ١٥٥]، وَقَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [٦ \ ١١٠]، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [٢ \ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [٩ \ ١٢٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

تَنْبِيهٌ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّدُّ الْوَاضِحُ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الشَّرَّ لَا يَقَعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بَلْ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ ; سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ لَيْسَ بِمَشِيئَتِهِ؟ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [٦ \ ١٠٧]، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الْآيَةَ [٣٢ \ ١٣]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [٦ \ ٣٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا ذَكَرَ رَبَّهُ وَحْدَهُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَلَّى الْكَافِرُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، بُغْضًا مِنْهُمْ لِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَحَبَّةً لِلْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، مُبَيِّنًا أَنَّ نُفُورَهُمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا سَبَبُ خُلُودِهِمْ فِي النَّارِ، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [٣٩ \ ٤٥]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [٤٠ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [٣٧ \ ٣٥، ٣٦]، وَقَوْلِهِ: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْآيَةَ [٤٢ \ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [٢٢ \ ٧٢]، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [٤١ \ ٧٢] .

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نُفُورًا [١٧ \ ٤٦] جَمْعُ نَافِرٍ ; فَهُوَ حَالٌ. أَيْ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ نَافِرِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ إِشْرَاكٍ، وَالْفَاعِلُ يُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ كَسَاجِدٍ وَسُجُودٍ، وَرَاكِعٍ وَرُكُوعٍ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «نُفُورًا» مَصْدَرٌ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَّوْا ; لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ عَنْ ذِكْرِهِ وَحْدَهُ بِمَعْنَى النُّفُورِ مِنْهُ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا

; بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الَّذِينَ زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ عَابِدِيهِمْ ; أَيْ إِزَالَةَ الْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ، وَلَا تَحْوِيلًا، أَيْ تَحْوِيلَهُ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ تَحْوِيلَ الْمَرَضِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى، وَالْقَحْطِ إِلَى الْجَدْبِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّ الْمَعْبُودِينَ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ الْكَفَّارُ مَنْ دُونِ اللَّهِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، أَيِ الطَّرِيقَ إِلَى رِضَاهُ وَنَيْلَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِطَاعَتِهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ خُزَاعَةَ - أَوْ غَيْرِهِمْ - كَانُوا يَعْبُدُونَ رِجَالًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَبَقِيَ الْكُفَّارُ يَعْبُدُونَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الْآيَةَ [١٧ \ ٥٧]، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَأُمَّهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَنْفَعُ عَابِدَهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَمُحْتَاجٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ «فِي سَبَأٍ»: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [٣٤ \ ٢٢ - ٢٣]، وَقَوْلِهِ «فِي الزُّمَرِ»: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ

[٣٩ \ ٣٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا «فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ» أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «وَفِي آيَةِ الْمَائِدَةِ»: هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:

أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... بَلَى كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّهِ وَاسِلُ

وَقَدْ قَدَّمْنَا «فِي الْمَائِدَةِ» أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ قَوْلَ عَنْتَرَةَ:

إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي

مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَى وَسَائِلَ، كَقَوْلِهِ:

إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ

وَأَصَحُّ الْأَعَارِيبِ فِي قَوْلِهِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [١٧ \ ٥٧]، أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَبْتَغُونَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا «فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ» بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ، أَيْ: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا. وَهَذَا النَّعْتُ الْمَحْذُوفُ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [٢٨ \ ٥٩]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [٦ \ ١٣١]، أَيْ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُنْذِرَهُمُ الرُّسُلُ فَيَكْفُرُوا بِهِمْ وَبِرَبِّهِمْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [١١ \ ١١٧]، وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [٦٥ \ ٨، ٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ حَذْفُ النَّعْتِ مَعَ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [١٨ \ ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ ; بِدَلِيلِ أَنَّ خَرْقَ الْخَضِرِ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي رَكِبَ فِيهَا هُوَ وَمُوسَى يُرِيدُ بِهِ سَلَامَتَهَا مِنْ أَخْذِ الْمَلِكِ لَهَا ; لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَةَ الَّتِي فِيهَا الْخَرْقُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ، وَمِنْ حَذْفِ النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [٢ \ ٧١] ; أَيْ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا لَبْسَ مَعَهُ فِي صِفَاتِ الْبَقَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَهُوَ الْمُرَقَّشُ الْأَكْبَرُ:

وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ ... مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ

أَيْ فَرْعٌ فَاحِمٌ وَجِيدٌ طَوِيلٌ.

وَقَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:

مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ ... فِعْلٌ وَمَنْ نَائِلُهُ نَائِلُ

أَيْ قَوْلُهُ قَوْلٌ فَصْلٌ، وَفِعْلُهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ، وَنَائِلُهُ نَائِلٌ جَزِيلٌ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ... يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، فَالْقَرْيَةُ الصَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْمَوْتِ، وَالْقَرْيَةُ الطَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْعَذَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخُلْعَتَهُ مَا ... تُكْمِلُ الْتَيْمُ فِي دِيوَانِهَا سَطَرَا

وَمَا يَرْوِيهِ مُقَاتِلٌ عَنْ كِتَابِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مِنْ أَنَّ مَكَّةَ تُخَرِّبُهَا الْحَبَشَةُ، وَتَهْلِكُ الْمَدِينَةُ بِالْجُوعِ، وَالْبَصْرَةُ بِالْغَرَقِ، وَالْكُوفَةُ بِالتُّرْكِ، وَالْجِبَالُ بِالصَّوَاعِقِ وَالرَّوَاجِفِ، وَأَمَّا خُرَاسَانُ فَهَلَاكُهَا ضُرُوبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ بَلَدًا بَلَدًا - لَا يَكَادُ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ الْجَزِيرَةَ آمِنَةٌ مِنَ الْخَرَابِ حَتَّى تُخَرَّبَ أَرْمِينِيَةُ، وَأَرْمِينِيَةُ آمِنَةٌ حَتَّى تُخَرَّبَ مِصْرُ، وَمِصْرُ آمِنَةٌ حَتَّى تُخَرَّبَ الْكُوفَةُ، وَلَا تَكُونُ الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى حَتَّى تُخَرَّبَ الْكُوفَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى فُتِحَتْ قُسْطَنْطِينَةُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَخَرَابُ الْأَنْدَلُسِ مِنْ قِبَلِ الزِّنْجِ، وَخَرَابُ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأَنْدَلُسِ، وَخَرَابُ مِصْرَ مِنَ انْقِطَاعِ النِّيْلِ وَاخْتِلَافِ الْجُيُوشِ فِيهَا، وَخَرَابُ الْعِرَاقِ مِنَ الْجُوعِ، وَخَرَابُ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ عَدُوٍّ يَحْصُرُهُمْ وَيَمْنَعُهُمُ الشَّرَابَ مِنَ الْفُرَاتِ، وَخَرَابُ الْبَصْرَةِ مِنْ قَبِيلِ الْغَرَقِ، وَخَرَابُ الْأُبُلَّةِ مِنْ عَدُوٍّ يَحْصُرُهُمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَخَرَابُ الرَّيِّ مِنَ الدَّيْلَمِ، وَخَرَابُ خُرَاسَانَ مِنْ قِبَلِ التِّبِتِ، وَخَرَابُ التِّبِتِ مِنْ قِبَلِ الصِّينِ، وَخَرَابُ الْهِنْدِ وَالْيَمَنِ مِنْ قِبَلِ الْجَرَادِ وَالسُّلْطَانِ، وَخَرَابُ مَكَّةَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَخَرَابُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْجُوعِ. اهـ.

كُلُّ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا

الْآيَةَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ آتَى ثَمُودَ النَّاقَةَ فِي حَالِ كَوْنِهَا آيَةً مُبْصِرَةً، أَيْ بَيِّنَةً تَجْعَلُهُمْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَاضِحًا لَا لَبْسَ فِيهِ فَظَلَمُوا بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ ظُلْمَهُمْ بِهَا هَاهُنَا، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ،

كَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [٧ \ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا الْآيَةَ [٩١ \ ١٤]، وَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [٥٤ \ ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ

الْآيَةَ [١٧ \ ٦٠] ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنَّهُ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ; أَيْ فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ فَيُسَلِّطُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَحْفَظُهُ مِنْهُمْ.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فَصَّلَتْ بَعْضَ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْإِحَاطَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [٥٤ \ ٤٥]، وَقَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ الْآيَةَ [٣ \ ١٢]، وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [٥ \ ٦٧]، وَفِي هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَبَعْضُ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَدَنِيٌّ. أَمَّا آيَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [٥٤ \ ٤٥]، الْآتِيَةُ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْبَيَانِ بِهَا لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ.

التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ مَا أَرَاهُ نَبِيَّهُ ﷺ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ; لِأَنَّ عُقُولَ بَعْضِهِمْ ضَاقَتْ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ، مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، قَالُوا: كَيْفَ يُصَلِّي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقَ، وَيَرَى مَا رَأَى فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُصْبِحُ فِي مَحِلِّهِ بِمَكَّةَ؟ هَذَا مُحَالٌ، فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِتْنَةً لَهُمْ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ، وَأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوهُ ﷺ يَقْرَأُ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [٣٧ \ ٦٤]، قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ، فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ؟ فَصَارَ ذَلِكَ فِتْنَةً. وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الشَّجَرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِتْنَةً لَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [٣٧ \ ٦٢ - ٦٤] وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى الرُّؤْيَا الَّتِي جَعَلَهَا فِتْنَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [٥٣ \ ١٢ - ١٨]، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ

أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا هِيَ رُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي الْقُرْآنِ بَنُو أُمَيَّةَ - لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ; إِذْ لَا أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الشَّجَرَةَ بِاللَّعْنِ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ النَّارِ، وَأَصْلُ النَّارِ بَعِيدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ لِخُبْثِ صِفَاتِهَا الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي الْقُرْآنِ، أَوْ لِلَعْنِ الَّذِينَ يَطْعَمُونَهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا.

قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ إِبْلِيسَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [١٧ \ ٦١]، يَدُلُّ فِيهِ إِنْكَارُ إِبْلِيسَ لِلسُّجُودِ بِهَمْزَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى إِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ السُّجُودِ لِمَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَصَرَّحَ بِهِمَا مَعًا «فِي الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٢ \ ٣٤]، وَصَرَّحَ بِإِبَائِهِ «فِي الْحِجْرِ» بِقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [١١٥ \ ٣١]، وَبِاسْتِكْبَارِهِ فِي «ص» بِقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٣٨ \ ٧٤]، وَبَيَّنَ سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [١٢، ١٨ \ ٧٦]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ «فِي الْبَقَرَةِ»، وَقَوْلُهُ: طِينًا حَالٌ ; أَيْ لِمَنْ خَلَقْتَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ طِينًا. وَتَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ كَوْنَهُ حَالًا مِنْ نَفْسِ الْمَوْصُولِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدِي. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ; أَيْ مِنْ طِينٍ. وَقِيلَ: تَمْيِيزٌ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ [١٧ \ ٦٢] ، أَيْ أَخْبِرْنِي: هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَأَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ لَهُ وَهُوَ آدَمُ ; أَيْ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهَ. وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ حَرْفُ خِطَابٍ، وَ«هَذَا» مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «أَرَأَيْتَ» .

وَالْمَعْنَى: أَخْبِرْنِي. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَ«هَذَا» مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [١٧ \ ٦٢]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَأَحْتَوِيَنَّهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَأُضِلَّنَّهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. أَيْ لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَلَأَجْتَاحَنَّهُمْ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ، أَيْ لَأَقُودَنَّهُمْ إِلَى مَا أَشَاءُ ; مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: احْتَنَكْتُ الْفَرَسَ: إِذَا جَعَلْتَ الرَّسَنَ

فِي حَنَكِهِ لِتَقُودَهُ حَيْثُ شِئْتَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَكْتُ الْفَرَسَ أَحْنُكُهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ) وَاحْتَنَكْتُهُ: إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ الرَّسَنَ ; لِأَنَّ الرَّسَنَ يَكُونُ عَلَى حَنَكِهِ. وَقَوْلُ الْعَرَبِ: احْتَنَكَ الْجَرَادُ الْأَرْضَ: أَيْ أَكَلَ مَا عَلَيْهَا. مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ بِأَفْوَاهِهِ، وَالْحَنَكُ حَوْلَ الْفَمِ. هَذَا هُوَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الظَّاهِرِ، فَالِاشْتِقَاقُ فِي الْمَادَّةِ مِنَ الْحَنَكِ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِهْلَاكِ مُطْلَقًا وَالِاسْتِئْصَالِ ; كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:

أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا وَأَضْعَفَتْ

وَاحْتَنَكَتْ أَمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْ

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا عَنْ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٦٢]، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [٧ \ ١٦، ١٧]، وَقَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [٣٨ \ ٨٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ «فِي سُورَةِ النِّسَاءِ» وَغَيْرِهَا.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَّا قَلِيلًا [١٧ \ ٦٢] بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَلِيلِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [٣٨ \ ٨٢، ٨٣]، وَقَوْلِهِ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [١٥ \ ٣٩ - ٤٠] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَوْلُ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٦٢]، قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُ هَذَا الظَّنُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٣٤ \ ٢٠] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ اذْهَبْ [١٧ \ ٦٣] ، هَذَا أَمْرُ إِهَانَةٍ ; أَيِ اجْهَدْ جَهْدَكَ، فَقَدْ أَنَظَرْنَاكَ فَمَنْ تَبِعَكَ، أَيْ: أَطَاعَكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [١٧ \ ٦٣] أَيْ وَافِرًا. عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ: اذْهَبْ لَيْسَ مِنَ الذَّهَابِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَجِيءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ. وَعَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا جَرَّهُ سُوءُ اخْتِيَارِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [١٧ \ ٦٣] .

وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [٣٨ \ ٨٤ - ٨٥]، وَقَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَزَاءً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ قَبْلَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:

بِمِثْلِهِ أَوْ فِعْلٍ اوْ وَصْفٍ نُصِبْ ... وَكَوْنُهُ أَصْلًا لِهَذَيْنِ انْتُخِبْ

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ «مَوْفُورًا» بِمَعْنَى «وَافِرٍ» لَا دَاعِيَ لَهُ. بَلْ «مَوْفُورًا» اسْمُ مَفْعُولٍ عَلَى بَابِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَرَ الشَّيْءَ يَفِرُهُ، فَالْفَاعِلُ وَافِرٌ، وَالْمَفْعُولُ مَوْفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ

وَعَلَيْهِ: فَالْمَعْنَى: جَزَاءً مُكَمَّلًا مُتَمَّمًا. وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ لَازِمَةً أَيْضًا تَقُولُ: وَفَرَ مَالُهُ فَهُوَ وَافِرٌ ; أَيْ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: «مَوْفُورًا» نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَذَا أَمْرٌ قَدَرِيٌّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [١٩ \ ٨٣] ; أَيْ تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا، وَتَسُوقُهُمْ إِلَيْهَا سَوْقًا. انْتَهَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ صِيَغَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ [١٧ \ ٦٤] ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَوْلِهِ: وَشَارِكْهُمْ، إِنَّمَا هِيَ لِلتَّهْدِيدِ، أَيِ افْعَلْ ذَلِكَ فَسَتَرَى عَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ ; كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [٤١ \ ٤٠]، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو حَيَّانَ «فِي الْبَحْرِ»، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ، أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَفِزَّهُ مِنْهُمْ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ. وَرَجُلٌ فَزٌّ: أَيْ خَفِيفٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِوَلَدِ الْبَقَرَةِ: فَزٌّ. لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

كَمَا اسْتَغَاثَ بِسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خَافَ الْعُيُونَ وَلَمْ يَنْظُرْ بِهِ الْحَشِكُ

«وَالسَّيْءُ» فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ هَمْزٌ: اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَطْرَافِ الْأَخْلَافِ قَبْلَ نُزُولِ الدِّرَّةِ، وَالْحَشَكُ أَصْلُهُ السُّكُونُ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرُ حَشَكَتِ الدِّرَّةُ: إِذَا امْتَلَأَتْ، وَإِنَّمَا حَرَّكَهُ زُهَيْرٌ لِلْوَزْنِ. وَالْغَيْطَلَةُ هُنَا: بَقَرَةُ الْوَحْشِ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَقَوْلُهُ ; بِصَوْتِكَ [١٧ \ ٦٤]، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ ; أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ مِنْهُمْ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْتُهُ يَشْمَلُ كُلَّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ طَاعَةً لَهُ. وَقِيلَ: بِصَوْتِكَ: أَيْ وَسْوَسَتِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَجْلِبْ أَصْلُ الْإِجْلَابِ: السَّوْقُ بِجَلَبَةٍ مِنَ السَّائِقِ. وَالْجَلَبَةُ: الْأَصْوَاتُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْلَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَجَلَبَ عَلَيْهِ: إِذَا صَاحَ بِهِ مِنْ خَلْفٍ وَاسْتَحَثَّهُ لِلسَّبْقِ. وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْأَفْرَاسِ، وَعَلَى الْفَوَارِسِ الرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَالرَّجْلُ: جَمْعُ رَاجِلٍ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: جَمْعُ «الْفَاعِلِ» وَصْفًا عَلَى «فَعْلٍ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَأَوْضَحْنَا أَمْثِلَتَهُ بِكَثْرَةٍ، وَاخْتَرْنَا أَنَّهُ جَمْعٌ مَوْجُودٌ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ ; إِذْ لَيْسَتْ فَعْلٌ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - عِنْدَهُمْ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَيَقُولُونَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاجِلٍ وَرَجْلٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَشَارِبٍ وَشَرْبٍ: إِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.

وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ [١٧ \ ٦٤] بِكَسْرِ الْجِيمِ - لُغَةٌ فِي الرَّجْلِ جَمْعِ رَاجِلٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ «فَعِلًا» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ وَمَعْنَاهُ: «وَجَمْعِكَ الرَّجِلِ» . اهـ ; أَيْ: الْمَاشِينَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ.

وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ [١٧ \ ٦٤]، أَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ فَعَلَى أَصْنَافٍ: (مِنْهَا) مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ طَاعَةً لَهُ ; كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ طَاعَةً لَهُ.

وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ فَعَلَى أَصْنَافٍ أَيْضًا:

مِنْهَا قَتْلُهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ طَاعَةً لَهُ.

وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يُمَجِّسُونَ أَوْلَادَهُمْ وَيُهَوِّدُونَهُمْ وَيُنَصِّرُونَهُمْ طَاعَةً لَهُ وَمُوَالَاةً.

وَمِنْهَا تَسْمِيَتُهُمْ أَوْلَادَهُمْ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ عَبِيدًا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ طَاعَةً لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَوْلَادُ الزِّنَى ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَسَبَّبُوا فِي وُجُودِهِمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ؛ طَاعَةً لَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بَعْضَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [٦ \ ١٤٠] فَقَتْلُهُمْ أَوْلَادَهُمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَوْلَادِهِمْ حَيْثُ قَتَلُوهُمْ فِي طَاعَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ طَاعَةً لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ أَيْضًا ; وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [٦ \ ١٣٦]، وَكَقَوْلِهِ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [٦ \ ١٣٨]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ \ ٥٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ بَعْضَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ»، وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ» انْتَهَى.

فَاجْتِيَالُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ (فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ) وَضُرُّهَا لَهُمْ لَوْ تَرَكُوا التَّسْمِيَةَ (فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ: «فَاجْتَالَتْهُمْ» أَصْلُهُ افْتَعَلَ مِنَ الْجَوَلَانِ ; أَيِ اسْتَخَفَّتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الضَّلَالِ. يُقَالُ: جَالَ وَاجْتَالَ: إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَاجْتَالَ الشَّيْءَ: إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَسَاقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ ;

كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ.

وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [١٧ \ ٦٤] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ كُلَّهَا غُرُورٌ وَبَاطِلٌ ; كَوَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا جَعَلَ لَهُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فِي الدُّنْيَا سَيَجْعَلُ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [٤ \ ١٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [٥٧ \ ١٤]، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [١٤ \ ٢٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ

الْآيَةَ [١٧ \ ٦٥]، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَمَا قَدَّرْنَا، وَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَحْذُوفَةِ إِضَافَتُهُ الْعِبَادَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَتَدُلُّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَيْضًا آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [١٥ \ ٤٠]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ \ ٩٩ - ١٠٠]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [١٥ \ ٤٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ; أَيِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ فَغَشِيَتْهُمْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - ضَلَّ عَنْهُمْ ; أَيْ غَابَ عَنْ أَذْهَانِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلُّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَا يَدْعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنْقِذُ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُرُوبِ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا،

فَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِمْ فِيهِ هَوْلُ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ، وَوَصَلُوا الْبَرَّ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [١٧ \ ٦٧] .

وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [١٠ \ ٢٢ - ٢٣]، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [٦ \ ٦٣ - ٦٤]، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [٢٩ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [٣١ \ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [٣٩ \ ٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ» وَغَيْرِهَا.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ سَخَافَةَ عُقُولِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْبَرِّ وَنَجَوْا مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ رَجَعُوا إِلَى كُفْرِهِمْ آمِنِينَ عَذَابَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبِرِّ، بِأَنْ يَخْسِفَ بِهِمْ جَانِبَ الْبَرِّ الَّذِي يَلِي الْبَحْرَ فَتَبْتَلِعَهُمُ الْأَرْضُ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَتُهْلِكَهُمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ فَتُغْرِقَهُمْ أَمْوَاجُهُ الْمُتَلَاطِمَةُ، كَمَا قَالَ هُنَا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَمْنَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بَعْدَ وُصُولِ الْبَرِّ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [١٧ \ ٦٨] وَهُوَ الْمَطَرُ أَوِ الرِّيحُ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْحِجَارَةُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [١٧ \ ٦٩] ; أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْقَاصِفُ: رِيحُ الْبِحَارِ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَغَيْرَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَامٍ:

إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ

يَعْنِي: إِذَا مَا هَبَّتْ بِشِدَّةٍ كَسَرَتْ عِيدَانَ شَجَرِ نَجْدٍ؛ رَتَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [٣٤ \ ٩]، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْآيَةَ [٦ \ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [٦٧ \ ١٦ - ١٧]، وَقَوْلِهِ «فِي قَوْمِ لُوطٍ»: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [٥٤ \ ٣٤]، وَقَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [٥١ \ ٣٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْحَاصِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهَا السَّحَابَةُ أَوِ الرِّيحُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تُسَمَّى حَاصِبًا وَحَصْبَةً، وَكُلُّ سَحَابَةٍ تَرْمِي بِالْبَرَدِ تُسَمَّى حَاصِبًا أَيْضًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:

مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُنَا ... بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ

وَقَوْلُ لَبِيدٍ:

جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا ... أَذْيَالَهَا كُلُّ عُصُوفٍ حَصِبَهْ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [١٧ \ ٩٦]، «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» . أَيْ تَابِعًا يَتْبَعُنَا بِالْمُطَالَبَةِ بِثَأْرِكُمْ ; كَقَوْلِهِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [٩١ \ ١٤، ١٥]، أَيْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ تَبِعَةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَكُلُّ مُطَالِبٍ بَدِينٍ أَوْ ثَأْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ تَبِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ يَصِفُ عُقَابًا:

تَلُوذُ ثَعَالِبُ الشَّرَفَيْنِ مِنْهَا ... كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ

أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ وَكَأَنَّهَا ... ضَوَامِنُ غُرْمٍ لَهُنَّ تَبِيعُ

أَيْ خَصْمُهُنَّ مُطَالَبٌ بَدِينٍ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ الْآيَةَ [٢ \ ١٧٨]، وَقَوْلُهُ ﷺ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: «تَبِيعًا» أَيْ نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا.

تَنْبِيهٌ

لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْكُفَّارَ وَعَاتَبَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ خَاصَّةً يُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ لِمَخْلُوقٍ، وَفِي وَقْتِ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ وَحْدَهُ، الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ جَهَلَةِ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَغَشِيَتْهُمُ الْأَهْوَالُ وَالْكُرُوبُ الْتَجَئُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلِصُ فِيهِ الْكُفَّارُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الْكَرْبِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ النَّمْلِ»: آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ الْآيَاتِ [٣٧ \ ٢٧] ٥٩ - ٦٢، فَتَرَاهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ جَعَلَ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ ; كَخَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْبَاتِهِ بِهِ الشَّجَرَ، وَجَعْلِهِ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعْلِهِ خِلَالَهَا أَنْهَارًا، وَجَعْلِهِ لَهَا رَوَاسِيَ، وَجَعْلِهِ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا، إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ ; سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: كَانَ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ; فَإِنَّهُ لِمَا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَأَجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا. فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رضي الله عنه. اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ تَبِيعًا [١٧ \ ٦٩] رَاجِعٌ إِلَى الْإِهْلَاكِ بِالْإِغْرَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [١٧ \ ٦٩]، أَيْ لَا تَجِدُونَ تَبِيعًا يَتْبَعُنَا بِثَأْرِكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِغْرَاقِ.

وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: وَضَمِيرُ «بِهِ» قِيلَ لِلْإِرْسَالِ، وَقِيلَ لِلْإِغْرَاقِ، وَقِيلَ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَكْرِيمِهِ لِبَنِي آدَمَ خَلْقُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ وَأَحْسَنِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [٩٥ \ ٤]، وَقَوْلُهُ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [٤٠ \ ٦٤] وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ غَيْرُ هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

الْآيَةَ، أَيْ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ.

وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [٢٣ \ ٢٢]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [٤٣ \ ١٢]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى بِإِيضَاحٍ «فِي سُورَةِ النَّحْلِ» .


قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ «بِإِمَامِهِمْ» هُنَا كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [٣٦ \ ١٢]، وَقَوْلُهُ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ \ ٢٨]، وَقَوْلُهُ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ الْآيَةَ [١٨ \ ٤٩]، وَقَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [١٧ \ ١٣]، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ كَثِيرٍ ; لِدَلَالَةِ آيَةِ «يس» الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ نَبِيُّهُمْ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [١٠ \ ٤٧]، وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا الْآيَةَ [٤ \ ٤١]، وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَةَ [١٦ \ ٨٩]، وَقَوْلُهُ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ الْآيَةَ [٣٩ \ ٦٩] .

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَفِي هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بِإِمَامِهِمْ ; أَيْ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مِنَ التَّشْرِيعِ ; وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [١٧ \ ٧١]، أَيْ نَدْعُو كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَأْتَمُّونَ بِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ أَئِمَّتُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ أَئِمَّتُهُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ [٢٨ \ ٤١]، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

فَقَدْ رَأَيْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يَشْهَدُ لَهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [١٧ \ ٧١]، مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْجِيحِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِتَابُ الْأَعْمَالِ.

وَذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كِتَابَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ يَقْرَءُونَهُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا.

وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [٦٩ \ ١٩]- إِلَى قَوْلِهِ - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [٦٩ \ ٢٥]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ «أُمَّهَاتُهُمْ» أَيْ يُقَالُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةٍ - قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يُرْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ» .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.

الْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَمَى الْقَلْبِ لَا عَمَى الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [٢٢ \ ٤٦] ; لِأَنَّ عَمَى الْعَيْنِ مَعَ إِبْصَارِ الْقَلْبِ لَا يَضُرُّ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; فَإِنَّ أَعْمَى الْعَيْنِ يَتَذَكَّرُ فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى بِبَصِيرَةِ قَلْبِهِ، قَالَ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [٨٠ \ ١ - ٤] .

إِذَا بَصُرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَمَّا عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ:

إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنِي نُورَهُمَا ... فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ

قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ ... وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [١٧ \ ٧٢]، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَتِ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى كَذَلِكَ لَا يَهْتَدِي إِلَى نَفْعٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ لَفْظَةَ «أَعْمَى» الثَّانِيَةَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; أَيْ هُوَ أَشَدُّ عَمًى فِي الْآخِرَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا ; فَإِنَّهَا صِيغَةُ تَفْضِيلٍ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ وَصِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِيَانِ مِنْ فِعْلٍ، الْوَصْفُ مِنْهُ عَلَى «أَفْعَلَ» الَّذِي أُنْثَاهُ فَعْلَاءُ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصُوغًا مِنْ صِيغَةِ تَفْضِيلٍ أَوْ تَعَجُّبٍ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ لِلشُّرُوطِ، أَنَّهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ ... وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

مَا فِي الْمَعَالِي لَكُمْ ظِلٌّ وَلَا ثَمَرُ ... وَفِي الْمَخَازِي لَكُمْ أَشْبَاحُ أَشْيَاخِ

أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ ... لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ «وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ» لَيْسَ صِيغَةَ

تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْتَ وَحْدَكَ الْأَبْيَضُ سِرْبَالَ طَبَّاخٍ مِنْ بَيْنِهِمْ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.

رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُ ﷺ: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى تُلِمَّ بِآلِهَتِنَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، أَتَوُا النَّبِيَّ فَسَأَلُوهُ شَطَطًا، قَالُوا: مَتِّعْنَا بِآلِهَتِنَا سَنَةً حَتَّى نَأْخُذَ مَا يُهْدَى لَهَا، وَحَرِّمْ وَادِيَنَا كَمَا حَرَّمْتَ مَكَّةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ، أَيْ قَارَبُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَفْتِنُونَكَ: يُزِلُّونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ نُوحِهِ إِلَيْكَ.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَارَبُوا ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا فِيمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَطَرَ فِي قَلْبِهِ ﷺ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَحَبُّوا لِيَجُرَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِهِمْ.

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ; بَلْ يَتَّبِعُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [١٠ \ ١٥]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَادُوا [١٧ \ ٧٣]، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ هُنَا مُهْمَلَةٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ ... وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَالْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ فِعْلٍ إِلَّا إِنْ كَانَ نَاسِخًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا ... تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِي مُوصَلَا

كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَثْبِيتَهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَعِصْمَتَهُ لَهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ لَأَذَاقَهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ

وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ; أَيْ: مِثْلَيْ عَذَابِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَمِثْلَيْ عَذَابِ الْمَمَاتِ فِي الْآخِرَةِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِضِعْفِ عَذَابِ الْمَمَاتِ: الْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ فِي الْقَبْرِ. وَالْمُرَادُ بِضِعْفِ الْحَيَاةِ: الْعَذَابُ الْمُضَاعَفُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ حَيَاةِ الْبَعْثِ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْآيَةُ تَشْمَلُ الْجَمِيعَ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ شِدَّةِ الْجَزَاءِ لِنَبِيِّهِ - لَوْ خَالَفَ - بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْآيَةَ [٦٩ \ ٤٤ - ٤٦] .

وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى كَانَ الْجَزَاءُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ أَعْظَمَ - بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ; كَقَوْلِهِ: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [٣٣ \ ٣٠] .، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ

تَنْبِيهٌ

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوْضَحَتْ غَايَةَ الْإِيضَاحِ بَرَاءَةَ نَبِيِّنَا ﷺ مِنْ مُقَارَبَةِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، فَضْلًا عَنْ نَفْسِ الرُّكُونِ ; لِأَنَّ لَوْلَا [١٧ \ ٧٤] حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ ; فَمُقَارَبَةُ الرُّكُونِ مَنَعَتْهَا لَوْلَا الِامْتِنَاعِيَّةُ لِوُجُودِ التَّثْبِيتِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ ﷺ، فَصَحَّ يَقِينًا انْتِفَاءُ مُقَارَبَةِ الرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ نَفْسِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يُقَارِبِ الرُّكُونَ إِلَيْهِمُ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا [١٧ \ ٧٤]، أَيْ قَارَبْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ - هُوَ عَيْنُ الْمَمْنُوعِ بِـ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةِ كَمَا تَرَى، وَمَعْنَى تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ: تَمِيلُ إِلَيْهِمْ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ

الْآيَةَ، قَدْ بَيَّنَّا «فِي سُورَةِ النِّسَاءِ»: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَتْ لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [١٧ \ ٧٨] أَيْ لِزَوَالِهَا عَلَى التَّحْقِيقِ، فَيَتَنَاوَلُ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ; بِدَلِيلِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ; أَيْ ظَلَامِهِ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيْ صَلَاةَ الصُّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ وَأَشَرْنَا لِلْآيَاتِ الْمُشِيرَةِ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ; كَقَوْلِهِ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ الْآيَةَ [١١ \ ١١٤]، وَقَوْلِهِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْآيَةَ [٣٠ \ ١٧] . وَأَقَمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ

مِنَ السُّنَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [٤ \ ١٠٣]، فَرَاجِعْهُ هُنَاكَ إِنْ شِئْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، الْحَقُّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الثَّابِتُ الَّذِي لَيْسَ بِزَائِلٍ وَلَا مُضْمَحِلٍّ، وَالْبَاطِلُ: هُوَ الذَّاهِبُ الْمُضْمَحِلُّ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ فِيهَا: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْمَعَاصِي الْمُخَالِفَةُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَأَنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ زَهَقَ ; أَيْ ذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ وَزَالَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: زَهَقَتْ نَفْسُهُ: إِذَا خَرَجَتْ وَزَالَتْ مِنْ جَسَدِهِ.

ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، أَيْ مُضْمَحِلًّا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَقَّ يُزِيلُ الْبَاطِلَ وَيُذْهِبُهُ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [٣٤ \ ٤٨، ٤٩]، وَقَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [١٧ \ ٨١] ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [٣٤ \ ٤٩] .

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأُكِبَّتْ لِوَجْهِهَا، وَقَالَ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [١٧ \ ٨١] .

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَشَدَّ لَهُمْ إِبْلِيسُ أَقْدَامَهَا بِالرَّصَاصِ ; فَجَاءَ وَمَعَهُ قَضِيبٌ فَجَعَلَ يَهْوِي إِلَى كُلِّ صَنَمٍ مِنْهَا فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ فَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [١٧ \ ٨١]،

حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلِّهَا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَسْرِ نُصُبِ الْمُشْرِكِينَ وَجَمِيعِ الْأَوْثَانِ إِذَا غُلِبَ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُلُ بِالْمَعْنَى كَسْرُ آلَةِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ كَالطَّنَابِيرِ وَالْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا اللَّهْوُ بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي مَعْنَى الْأَصْنَامِ: الصُّوَرُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْمَدَرِ وَالْخَشَبِ وَشِبْهِهَا، وَكُلُّ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا اللَّهْوُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا الْأَصْنَامَ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ إِذَا غُيِّرَتْ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَصَارَتْ نِقَرًا أَوْ قِطَعًا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَالشِّرَاءُ بِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَمَا كُسِرَ مِنْ آلَاتِ الْبَاطِلِ وَكَانَ فِي حَبْسِهَا بَعْدَ كَسْرِهَا مَنْفَعَةٌ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى بِهَا مَكْسُورَةً، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ حَرْقَهَا بِالنَّارِ عَلَى مَعْنَى التَّشْدِيدِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَرْقُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَقَدْ هَمَّ النَّبِيُّ ﷺ بِتَحْرِيقِ دُورِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، مَعَ قَوْلِهِ ﷺ فِي النَّاقَةِ الَّتِي لَعَنَتْهَا صَاحِبَتُهَا «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ»، فَأَزَالَ مِلْكَهَا عَنْهَا تَأْدِيبًا لِصَاحِبَتِهَا، وَعُقُوبَةً لَهَا فِيمَا دَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا دَعَتْ بِهِ، وَقَدْ أَرَاقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ عَلَى صَاحِبِهِ. اهـ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. .

وَقَوْلُهُ ﷺ: «وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ» الْحَدِيثَ، مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا.

قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ; كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [٩ \ ١٢٤، ١٢٥]، وَقَوْلُهُ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [٤١ \ ٤٤] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا هُوَ شِفَاءٌ [١٧ \ ٨٢] يَشْمَلُ كَوْنَهُ شِفَاءً لِلْقَلْبِ مِنْ أَمْرَاضِهِ ; كَالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَوْنَهُ شِفَاءً لِلْأَجْسَامِ إِذَا رُقِيَ عَلَيْهَا بِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قِصَّةُ الَّذِي رَقَى الرَّجُلَ اللَّدِيغَ بِالْفَاتِحَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنُنْزِلُ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا

; بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ، أَيْ تَبَاعَدَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ وَنَأَى بِجَانِبِهِ [١٧ \ ٨٣] تَأْكِيدٌ لِلْإِعْرَاضِ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُرْضَ وَجْهِهِ. وَالنَّأْيُ بِالْجَانِبِ: أَنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ، وَيُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، وَأَرَادَ الِاسْتِكْبَارَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَالْيَئُوسُ: شَدِيدُ الْيَأْسِ، أَيِ الْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ هُودٍ» وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [١١ \ ٩ - ١٠] وَقَوْلِهِ فِي «آخَرَ فُصِّلَتْ»: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [٤١ \ ٤٩ - ٥١]، وَقَوْلِهِ: «فِي سُورَةِ الرُّومِ»: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [٣٠ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [٣٠ \ ٣٦]، وَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ يُونُسَ»: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ الْآيَةَ [١٠ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ «فِي سُورَةِ الزُّمَرِ»: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الْآيَةَ [١٠ \ ١٢]، وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٣٩ \ ٤٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ «فِي سُورَةِ هُودٍ»: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [١١ \ ١١] كَمَا تَقَدَّمَ

إِيضَاحُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ «وَنَاءَ» كَجَاءَ، وَهُوَ بِمَعْنَى نَأَى ; كَقَوْلِهِمْ: رَاءَ، فِي: رَأَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ مَا أَعْطَى خَلْقَهُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ جَلَّ وَعَلَا ; لِأَنَّ مَا أُعْطِيَهُ الْخَلْقُ مِنَ الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْخَالِقِ قَلِيلٌ جِدًّا.

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [١٨ \ ١٠٩]، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [٣١ \ ٢٧] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا

، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ كَبِيرٌ.

وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [٤ \ ١١٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [٤٨ \ ١ - ٣]، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٩٤ \ ١ - ٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فَضْلَهُ كَبِيرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [٣٣ \ ٤٧]، وَبَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْكَبِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [٤٢ \ ٢٢] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا، بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ عِنَادِ الْكُفَّارِ وَتَعَنُّتِهِمْ، وَكَثْرَةَ اقْتِرَاحَاتِهِمْ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ لَا لِطَلَبِ الْحَقِّ ; فَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ ﷺ: إِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَهُ - أَيْ: لَنْ يُصَدِّقُوهُ - حَتَّى يَفْجُرَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنْ: نَبَعَ، أَيْ: مَاءٌ غَزِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ

[٣٩ \ ٢١]، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ [١٧ \ ٩١] أَيْ بُسْتَانٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَيُفَجِّرَ خِلَالَهَا - أَيْ وَسَطَهَا - أَنْهَارًا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ كِسَفًا: أَيْ قِطَعًا كَمَا زَعَمَ، أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [٣٤ \ ٩]، أَوْ يَأْتِيَهِمْ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا: أَيْ مُعَايَنَةً. قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ «كَقَوْلِهِ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [٢٥ \ ٢١] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَبِيلًا: أَيْ كَفِيلًا ; مِنْ تَقَبَّلَهُ بِكَذَا: إِذَا كَفَلَهُ بِهِ. وَالْقَبِيلُ وَالْكَفِيلُ وَالزَّعِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَبِيلًا بِمَا تَقُولُ: شَاهِدًا بِصِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الْقَبِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْكَفِيلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَبِيلًا شَهِيدًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ جَمْعُ قَبِيلَةٍ ; أَيْ تَأْتِي بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. أَوْ يَكُونَ لَهُ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ: أَيْ مِنْ ذَهَبٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ» فِي الزُّخْرُفِ «: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ - إِلَى قَوْلِهِ - وَزُخْرُفًا [٤٣ \ ٣٣ - ٣٥]، أَيْ ذَهَبًا. أَوْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ: أَيْ يَصْعَدَ فِيهِ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لِرُقِيِّهِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ صُعُودِهِ، حَتَّى يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا يَقْرَءُونَهُ. وَهَذَا التَّعَنُّتُ وَالْعِنَادُ الْعَظِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنِ الْكُفَّارِ هُنَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلَ اللَّهُ مَا اقْتَرَحُوا مَا آمَنُوا. لِأَنَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ لَا يُؤْمِنُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [٦ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [٦ \ ١١١]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [١٥ \ ١٤ - ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [٦ \ ١٠٩]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [١٠ \ ٩٦ - ٩٧]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كِتَابًا نَقْرَؤُهُ، أَيْ كِتَابًا مِنَ اللَّهِ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا.

وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى» فِي الْمُدَّثِّرِ ": بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً

[الْآيَةُ ٥٢] كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الْآيَةَ [٦ \ ١٢٤] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [١٧ \ ٩٣]، أَيْ تَنْزِيهًا لِرَبِّي جَلَّ وَعَلَا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَنْزِيهُهُ عَنِ الْعَجْزِ عَنْ فِعْلِ مَا اقْتَرَحْتُمْ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَأَنَا بَشَرٌ أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ إِلَيَّ رَبِّي.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [١٨ \ ١١٠]، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ الْآيَةَ [٤١ \ ٦] ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [١٤ \ ١١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَرَأَ تَفْجُرَ، الْأُولَى عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ مَكْسُورَةً، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى هَذَا فِي الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ كِسَفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِإِسْكَانِهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: تُنْزِلَ بِإِسْكَانِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا.

هَذَا الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَادِيٌّ ; لِأَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ جَمِيعِ الْأُمَمِ بِاسْتِغْرَابِهِمْ بَعْثَ اللَّهِ رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ ; كَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [١٤ \ ١٠]، وَقَوْلِهِ: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا الْآيَةَ [٢٣ \ ٤٧]، وَقَوْلِهِ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [٥٤ \ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا الْآيَةَ [٦٤ \ ٦]، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [٢٣ \ ٣٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَادِيٌّ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِمَانِعٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا «فِي سُورَةِ الْكَهْفِ» وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [١٨ \ ٥٥]، فَهَذَا الْمَانِعُ الْمَذْكُورُ «فِي الْكَهْفِ» مَانِعٌ حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُ

الْعَذَابُ قُبُلًا فَإِرَادَتُهُ بِهِ ذَلِكَ مَانِعَةٌ مِنْ خِلَافِ الْمُرَادِ ; لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقَعَ خِلَافُ مُرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا، بِخِلَافِ الْمَانِعِ «فِي آيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» هَذِهِ، فَهُوَ مَانِعٌ عَادِيٌّ يَصِحُّ تَخَلُّفُهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» .


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الرَّسُولَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانَ مُرْسِلًا رَسُولًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا مِثْلَهُمْ، أَيْ وَإِذَا أَرْسَلَ إِلَى الْبَشَرِ أَرْسَلَ لَهُمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ.

وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [٦ \ ٨ - ٩]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [٢١ \ ٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [٢٥ \ ٢٠] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مَعَ عِظَمِهِمَا قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ فَهُوَ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ قَادِرٌ بِلَا شَكٍّ.

وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الْآيَةَ [٤٠ \ ٥٧]، أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [٣٦ \ ٨١]، وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى [٤٦ \ ٣٣]، وَقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ \ ٢٧ - ٣٣] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا.

بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ بَنِي آدَمَ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ - أَيْ خَزَائِنَ الْأَرْزَاقِ وَالنِّعَمِ - لَبَخِلُوا بِالرِّزْقِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَأَمْسَكُوا عَنِ الْإِعْطَاءِ، خَوْفًا مِنَ الْإِنْفَاقِ لِشِدَّةِ بُخْلِهِمْ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَتُورٌ، أَيْ بَخِيلٌ مُضَيِّقٌ ; مِنْ قَوْلِهِمْ: قَتَّرَ عَلَى عِيَالِهِ، أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [٤ \ ٥٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الْآيَةَ [٧٠ \ ١٩ - ٢٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ «لَوْ» لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْأَفْعَالِ، فَيُقَدَّرُ لَهَا فِي الْآيَةِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بَعْدَ «لَوْ» أَصْلُهُ فَاعِلُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْفِعْلُ فُصِلَ الضَّمِيرُ. وَالْأَصْلُ قُلْ لَوْ تَمْلِكُونَ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ فَبَقِيَتِ الْوَاوُ فَجُعِلَتْ ضَمِيرًا مُنْفَصِلًا، هُوَ: أَنْتُمْ. هَكَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ

الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ، هِيَ: الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسُّنُونَ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ.

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [٧ \ ١٠٧ - ١٠٨]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [٧ \ ١٣٠]، وَقَوْلِهِ: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [٢٦ \ ٦٣] وَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ [٧ \ ١٣٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجَبَلَ بَدَلَ «السِّنِينَ» وَعَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [٧ \ ١١٧]، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ

الْآيَةَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ عَالِمٌ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ مَا أَنْزَلَهَا إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ، أَيْ حُجَجًا وَاضِحَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [٢٠ \ ٤٩]، وَقَوْلَهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [٢٦ \ ٢٣] كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ.

وَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الْمَعْنَى مُبَيِّنًا سَبَبَ جُحُودِهِ لِمَا عَلِمَهُ «فِي سُورَةِ النَّمْلِ» بِقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا الْآيَةَ [٢٧ \ ١٢ - ١٤] .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ بِالْحَقِّ: أَيْ مُتَلَبِّسًا بِهِ مُتَضَمِّنًا لَهُ ; فَكُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ فَأَخْبَارُهُ صِدْقٌ، وَأَحْكَامُهُ عَدْلٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [٦ \ ١١٥] وَكَيْفَ لَا وَقَدْ أَنْزَلَهُ جَلَّ وَعَلَا بِعِلْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [٤ \ ١٦٦] . وَقَوْلُهُ: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [١٧ \ ١٠٥] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ فِي طَرِيقِ إِنْزَالِهِ.

لِأَنَّ الرَّسُولَ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى إِنْزَالِهِ قَوِيٌّ لَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يُغَيَّرَ فِيهِ، أَمِينٌ لَا يُغَيِّرُ وَلَا يُبَدِّلُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ الْآيَةَ [٢٦ \ ١٩٣، ١٩٤]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ الْآيَةَ [٨١ \ ١٩ - ٢١]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَقَوْلُ رَسُولٍ، أَيْ لَتَبْلِيغُهُ عَنْ رَبِّهِ، بِدَلَالَةِ لَفْظِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِهِ.


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ.

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ «فَرَقْنَاهُ» بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ بَيَّنَّاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَفَصَّلْنَاهُ وَفَرَّقْنَا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَرَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَمِنْ إِطْلَاقِ فَرَقَ بِمَعْنَى بَيَّنَ وَفَصَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. الْآيَةَ [٤٤ \ ٤]

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ بَيَّنَ هَذَا الْقُرْآنَ لِنَبِيِّهِ لِيَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ مَهَلٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَثَبُّتٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ إِلَّا كَذَلِكَ، وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [٧٣ \ ٤]، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [٢٥ \ ٣٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرْآنًا [١٧ \ ١٠٦] مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا حَتْمًا مُوَافِقٍ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا


قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.

أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَدْعُوهُ بِمَا شَاءُوا مِنْ أَسْمَائِهِ، إِنْ شَاءُوا قَالُوا: يَا أَللَّهُ، وَإِنْ شَاءُوا قَالُوا: يَا رَحْمَنُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا.

وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٧ \ ١٨٠]، وَقَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٥٩ \ ٢٢، ٢٣] .

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّهُمْ تَجَاهَلُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [٢٥ \ ٦٠]، وَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْضَ أَفْعَالِ الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [٥٥ \ ١ - ٤]، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [٢٥ \ ٦٠]، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ «فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ» .


قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا.

أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ النَّاسَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ (لِأَنَّ أَمْرَ الْقُدْوَةِ أَمْرٌ لِأَتْبَاعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا) أَنْ يَقُولُوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» أَيْ: كُلُّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ لَائِقٍ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، ثَابِتٌ لَهُ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْعِزَّةِ بِالْأَوْلِيَاءِ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا.

فَبَيَّنَ تَنَزُّهَهُ عَنِ الْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [١١٢ \ ١] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [٧٢ \ ٣]، وَقَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [٦ \ ١٠١]، وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا

الْآيَةَ [١٩ \ ٨٨ - ٩٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، أَيْ وَلَا فِي عِبَادَتِهِ ; كَقَوْلِهِ: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [٣٤ \ ٢٢]، وَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [٤٠ \ ١٦]، وَقَوْلِهِ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٦٧ \ ١]، وَقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ الْآيَةَ [٣ \ ٢٦]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [١٧ \ ١١١]، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُذَلُّ فَيَحْتَاجُ إِلَى وَلِيٍّ يَعِزُّ بِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْقَهَّارُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ الْآيَةَ [١٢ \ ٢١]، وَقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [٢ \ ٢٠٩] وَالْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [٦ \ ١٨]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَقَوْلُهُ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [١٧ \ ١١١] أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَيَظْهَرُ تَعْظِيمُ اللَّهِ فِي شِدَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى كُلِّ مَا يُرْضِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [٢ \ ١٨٥] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُعَلِّمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ أَهْلِهِ هَذِهِ الْآيَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا الْآيَةَ [١٧ \ ١١١]، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمَّى هَذِهِ الْآيَةَ آيَةَ الْعِزِّ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إِنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي بَيْتٍ فِي لَيْلَةٍ فَيُصِيبُهُ سَرَقٌ أَوْ آفَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقْتَضَاهُ: أَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ الْآيَةِ تُذْهِبُ السَّقَمَ وَالضُّرَّ، ثُمَّ قَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَهَذَا آخِرُ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الرَّابِعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوَّلُهُ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

google-playkhamsatmostaqltradent