recent
آخر المقالات

تفسير سورة المائدة

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رب يسر تفسير سورة المائدة بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ: (يَا عَلِيُّ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ، أَمَا إِنَّا نَقُولُ: سُورَةُ«الْمَائِدَةِ، وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ» فَلَا نَأْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّبِيِّ ﷺ. وَرُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ الْمُنْقِذَةَ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ). وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمِنْهَا مَا أُنْزِلَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ قوله تعالى:«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ»] المائدة: ٢] الْآيَةَ. وَكُلُّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ فِي سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ. وَإِنَّمَا يُرْسَمُ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ:«الْمَائِدَةُ» مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ:«الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ»] المائدة: ٣]،«وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ»،«وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ»] المائدة: ٤]،«وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ»] المائدة: ٥] «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ»] المائدة: ٥]، وتمام الطهور«إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ»] المائدة: ٦]،«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ»] المائدة: ٣٨]،«لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»] المائدة: ٩٥] إلى قوله:«عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ»] المائدة: ٩٥] وَ«مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ١٠»] المائدة: ١٠٣]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:«شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ١٠»] المائدة: ١٠٦] الْآيَةَ. قُلْتُ: وَفَرِيضَةٌ تَاسِعَةَ عَشْرَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجلوَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ»] المائدة: ٥٨] لَيْسَ لِلْأَذَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَّا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ«الْجُمُعَةِ» فَمَخْصُوصٌ بِالْجُمُعَةِ،


وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ» فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا) وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَوْقُوفًا، قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ»؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا قَوْلُهُ:«وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ» [المائدة: ٢] الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُسِخَ مِنْهَا«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ١٠» [المائدة: ١٠٦].

[سورة المائدة (٥): آيَةً ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ١٠ قَالَ عَلْقَمَةُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ١٠» فَهُوَ مدني و «يا أَيُّهَا النَّاسُ»] النساء: ١] فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَهَذَا خُرِّجَ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، الثَّانِي: تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، الثَّالِثُ- اسْتِثْنَاءُ مَا يَلِي بَعْدَ ذَلِكَ، الرَّابِعُ- اسْتِثْنَاءُ حَالِ الْإِحْرَامِ فِيمَا يُصَادُ، الْخَامِسُ- مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ مِنْ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: نَعَمْ! أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ«الْمَائِدَةِ» فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهْيٌ عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا،


(١). راجع ج ١ ص ٢٢٩.

ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْفُوا) ٤٠ يُقَالُ: وَفَى وَأَوْفَى لُغَتَانِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» «١»] التوبة: ١١١]، وقال تعالى:«وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» «٢»] النجم: ٣٧] وقال الشاعر: «٣»
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. (بِالْعُقُودِ) الْعُقُودُ الرُّبُوطُ، وَاحِدُهَا عَقْدٌ، يُقَالُ: عَقَدْتُ الْعَهْدَ وَالْحَبْلَ، وَعَقَدْتُ الْعَسَلَ «٤» فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَجْسَامِ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «٥»
فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ عُقُودَ الدَّيْنِ وَهِيَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، مَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْقِيَامِ وَالنَّذْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا نَذْرُ المباح فلا يلزم بإجماع من الامة، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» [آل عمران: ١٨٧] «٦». قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمُّ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَقْدًا فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، «٧» فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وَغَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مَعْنَاهُ بِمَا أَحَلَّ وَبِمَا حَرَّمَ وَبِمَا فَرَضَ وَبِمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابن شهاب:


(١). راجع ج ٨ ص ٢٦٦.
(٢). راجع ج ١٧ ص ١١٢.
(٣). هو طفيل الغنوي وقلاص النجم: هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا كما تزعم العرب.
(٤). كذا في الأصول وفي حاشية الجمل عن القرطبي: عقدت الغل.
(٥). العناج: خيط أو سير يشد في أسفل الدلو ثم يشد في عروتها: والكرب الحبل الذي يشد على الدلو بعد المنين، وهو الحبل الأول: فإذا انقطع المنين بقي الكرب. وقيل: غير هذا. وهذه أمثال ضربها الحطيئة لايفائهم بالعهد.
(٦). راجع ج ٤ ص ٣٠٤.
(٧). في ز: ويعم أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَفِي حاشية الجمل عن القرطبي: وهم من أمة محمد. إلخ. قلت: يعني أمة غير الإجابة. مصححه.

قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فَكَتَبَ الْآيَاتِ فِيهَا إِلَى قوله:«إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ»] المائدة: ٤] (. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوْفُوا بِعَقْدِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، قَالَ ﷺ: (الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) وَقَالَ: (كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ أَوِ الْعَقْدَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ أَيْ دِينَ اللَّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ رُدَّ، كَمَا قَالَ ﷺ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ- لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ- فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ [عَبْدِ اللَّهِ] «١» بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ ادُّعِيَ «٢» بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ). وَهَذَا الْحِلْفُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: (وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً) لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَعُقُودِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْغَارَاتِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى الحسين ابن عَلِيٍّ فِي مَالٍ لَهُ- لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ- فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا، وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنِ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِهِ وَكَمَالِهِ، وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ سُنَنٌ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ والوصيلة والحام، يأتي


(١). من ج وز. [.....]
(٢). في الروض الأنف: لو دعيت إليه.

بَيَانُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِتِلْكَ الْأَوْهَامِ الْخَيَالِيَّةِ، وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلِيَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى«بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» وَالْبَهِيمَةُ اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِهَا وَفَهْمِهَا وَعَدَمِ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا، وَمِنْهُ بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ مُغْلَقٌ، وَلَيْلٌ بَهِيمٌ، وَبُهْمَةٌ لِلشُّجَاعِ الَّذِي لا يدرى من أين يؤتى له. و «الْأَنْعامِ»: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ مَشْيِهَا «١»، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ»] النحل: ٥] إلى قوله:«وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ»] النحل: ٧] «٢»، وقال تعالى:«وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا» «٣»] الانعام: ١٤٢] يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا، ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ:«ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ»] الانعام: ١٤٣] إلى قوله:«أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ»] البقرة: ١٣٣] وَقَالَ تَعَالَى:«وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها ٨٠» «٤»] النحل: ٨٠] يَعْنِي الْغَنَمَ«وَأَوْبارِها ٨٠» يَعْنِي الْإِبِلَ«وَأَشْعارِها ٨٠» يَعْنِي الْمَعْزَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ الْأَنْعَامِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ، الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَإِذَا قِيلَ النَّعَمُ فَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ قَوْمٌ«بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَكَرَهُ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ عَنْ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ، فَأُضِيفَ الْجِنْسُ إِلَى أَخَصِّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ، وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ لَهُ أَنْعَامٌ بِمَجْمُوعِهِ مَعَهَا، وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِسَ كَالْأَسَدِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَنْعَامِ، فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهَا ذَوَاتُ الْحَوَافِرِ لِأَنَّهَا رَاعِيَةٌ غَيْرُ مُفْتَرِسَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:«وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ»] النحل: ٥] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ:«وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ»] النحل: ٨] فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذِكْرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقِيلَ:«بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» مَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا، لِأَنَّ الصَّيْدَ يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَةً، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:«بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، فَهِيَ تُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وفية بعد،


(١). في مفردات الراغب: أن تسمية الإبل بذلك لأنها عندهم أعظم نعمة. ولا يقال لها أنعام حتى يكون في جملتها الإبل.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٦٨. وص ١٥٢.
(٣). راجع ج ٧ ص ١١١.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٦٨. وص ١٥٢.

لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:» إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ«وَلَيْسَ فِي الْأَجِنَّةِ مَا يُسْتَثْنَى، قَالَ مَالِكٌ: ذَكَاةُ الذَّبِيحَةِ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا إِذَا لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا وَكَانَ قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ وَتَمَّ خَلْقُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ لَمْ يُؤْكَلْ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا فَيُذَكَّى، وَإِنْ بَادَرُوا إِلَى تَذْكِيَتِهِ فَمَاتَ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ: هُوَ ذَكِيٌّ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِذَكِيٍّ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ) أَيْ يُقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قوله تعالى:» حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ«] المائدة: ٣] وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: (وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ) «١». فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَيْسَ السُّنَّةَ، قُلْنَا: كُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ الْعَسِيفِ (لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) وَالرَّجْمُ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ. الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ» الْحَشْرِ««٢». وَيَحْتَمِلُ» إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ«الْآنَ أَوْ» مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ«فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أَيْ مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي» إِلَّا مَا يُتْلى «هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ» بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ«وَ» غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ«استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناء ان جَمِيعًا مِنْ قَوْلِهِ:» بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ«وَهِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا، التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ:» إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ««٣»] الحجر: ٥٩ - ٥٨] عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عز وجلإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ«وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَحْظُورِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ تعالى:» إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ"


(١). رواية مسلم والنسائي: (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام).
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٧.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٦.

مُسْتَثْنًى مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ سَاقِطٌ، فَإِذًا مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْضًا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ» إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ«فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ عَلَى أَنْ يُعْطَفَ بِإِلَّا كَمَا يُعْطَفُ بِلَا، وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا فِي النَّكِرَةِ أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ] أَسْمَاءِ [«١» الْأَجْنَاسِ نَحْوَ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ. وَالنَّصْبُ عِنْدَهُ بِأَنَّ» غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ«نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي» أَوْفُوا ٤٠«، قَالَ الْأَخْفَشُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: حَالٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي» لَكُمْ«وَالتَّقْدِيرُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ. ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْإِحْلَالُ إِلَى النَّاسِ، أَيْ لَا تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ أَحْلَلْتُ لَكُمُ الْبَهِيمَةَ إِلَّا مَا كَانَ صَيْدًا فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ، كَمَا تَقُولُ: أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحٍ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَإِذَا قُلْتَ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى: غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ، فَحُذِفَتِ النُّونُ تَخْفِيفًا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يَعْنِي الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَقَوْمٌ حُرُمٌ إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢»:
فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي ... حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أَيْ مُلَبٍّ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِحْرَامًا لِمَا يُحَرِّمُهُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا. وَيُقَالُ: أَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، فَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمِ أَيْضًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ» حُرْمٌ«بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ يَقُولُونَ فِي رُسُلٍ: رُسْلٌ وَفِي كُتُبٍ كُتْبٌ وَنَحْوَهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) تَقْوِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ، أَيْ فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّامِعُ لِنَسْخِ تِلْكَ الَّتِي عَهِدْتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ تَنَبَّهْ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ مَالِكُ الْكُلِّ» يَحْكُمُ ما يُرِيدُ«» لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ" «٣»] الرعد: ٤١] يشرع ما يشاء كما يشاء.


(١). الزيادة عن ابن عطية.
(٢). هو المضرب بن كعب بن زهير.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٣٤.

[سورة المائدة (٥): آية ٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، أَيْ لَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ شِعَارَةٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ. وَالشَّعِيرَةُ الْبَدَنَةُ تُهْدَى، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُجَزَّ سَنَامُهَا حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ. وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ مِنْ طَرِيقِ الْإِحْسَاسِ، يُقَالُ: أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَةً لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَمِنْهُ الْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ، وَاحِدُهَا مَشْعَرٌ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ. وَمِنْهُ الشِّعْرُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَقَعُ الشُّعُورُ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ، لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِفِطْنَتِهِ لِمَا لَا يَفْطِنُ لَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ الشَّعِيرُ لِشَعْرَتِهِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، فَالشَّعَائِرُ عَلَى قَوْلٍ مَا أُشْعِرَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ لِتُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلٍ جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْهَدْيُ وَالْبُدْنُ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشَّعَائِرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ «١»:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهَا يُتَقَرَّبُ
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيُهْدُونَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ». وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: شَعَائِرُ اللَّهِ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ:«ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» «٢»] الحج: ٣٢] أي دين الله.


(١). البيت كما رواه اللسان وفي أوج وز: نقاتلهم بهم نتقرب.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٥٦.

قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِعُمُومِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِشْعَارِ الْهَدْيِ وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ جِهَةٍ يُشْعَرُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَشْعَرَ نَاقَتَهُ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَشْعَرَ بَدَنَةً مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَصَفْحَةُ السَّنَامِ جَانِبُهُ، وَالسَّنَامُ أَعْلَى الظَّهْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَوْغَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ حِينَ لَمْ يَرَ الْإِشْعَارَ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ! لَهِيَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ مَنْصُوصًا فِي كُتُبِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ، لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَمَّا كَانَ إِعْلَامًا كَانَ سُنَّةً بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيدِ، وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جَرْحٌ وَمُثْلَةٌ كَانَ حَرَامًا، فَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَجُعِلَ مُبَاحًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشْعَارَ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَهِبُ كُلَّ مَالٍ إِلَّا مَا جُعِلَ هَدْيًا، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْهَدْيَ إِلَّا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ زَالَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَضْعِ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ السَّرَايَةُ «١»، أَمَّا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ فَعَلَ كَمَا كَانَ يفعل في عهد رسول الله صلى


(١). اسراية: هي من قول الفقهاء. سرى الجرح إلى النفس أي دام ألمه حتى حدث منه الموت. كما يستفاد من المصباح. [.....]

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ. فَهَذَا اعْتِذَارُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْإِشْعَارِ، فَقَدْ سَمِعُوهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمُوهُ، قَالُوا: وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَصِيرُ بِهِ أَحَدٌ مُحْرِمًا، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْمَكْرُوهِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْمَنَاسِكِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ فِي جَمِيعِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ «١» سَرْدٌ، يَأْتِي بَيَانُهَا فِي«بَرَاءَةٌ» «٢»، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَحِلُّوهَا لِلْقِتَالِ وَلَا لِلْغَارَةِ وَلَا تُبَدِّلُوهَا، فَإِنَّ اسْتِبْدَالَهَا اسْتِحْلَالٌ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من النسي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ» أَيْ لَا تَسْتَحِلُّوهُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَلَا ذَوَاتِ الْقَلَائِدِ جَمْعُ قِلَادَةٍ. فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْهَدْيِ جُمْلَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّدَ مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي التَّقْلِيدِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) الْهَدْيُ مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، الْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ وَهَدِيَّةٌ وَهَدْيٌ. فَمَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكَ قَالَ: ذَكَرَ الْهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلَى تَخْصِيصِهَا. وَمَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْهَدْيُ قَالَ: إِنَّ الشَّعَائِرَ مَا كَانَ مُشْعَرًا أَيْ مُعَلَّمًا بِإِسَالَةِ الدَّمِ مِنْ سَنَامِهِ، وَالْهَدْيُ مَا لَمْ يُشْعَرْ، اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَقِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَالْهَدْيُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ مَا يُهْدَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الهدي عاما فِي جَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام (الْمُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً) إِلَى أَنْ قَالَ: (كَالْمُهْدِي بَيْضَةً) فَسَمَّاهَا هَدْيًا، وَتَسْمِيَةُ الْبَيْضَةِ هَدْيًا لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا قَالَ جَعَلْتُ ثَوْبِي هَدْيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَسَوْقُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وَهَذَا إِنَّمَا تُلُقِّيَ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» «٣»] البقرة: ١٩٦] وَأَرَادَ بِهِ الشَّاةَ، وَقَالَ تَعَالَى:«يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ» «٤»] المائدة: ٩٥] وقال تعالى:


(١). سرد: متتابعة.
(٢). راجع ج ٨ ص ٧١.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٦٥.
(٤). راجع ص ٣١٢ من هذا الجزء.

«فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ»] البقرة: ١٩٦] وَأَقَلُّهُ شَاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ ثَوْبِي هَدْيٌ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي هَدْيٍ.«وَالْقَلائِدَ» مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا أَصْحَابَ الْقَلَائِدِ ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنَ«الْمَائِدَةِ» آيَةُ الْقَلَائِدِ وَقَوْلُهُ:«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ»] المائدة: ٤٢] فَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَنَسَخَهَا الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا وَفِي أَيِّ شَهْرٍ كَانُوا. وَأَمَّا الْأُخْرَى فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»] المائدة: ٤٩] عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَلَائِدِ نَفْسَ الْقَلَائِدِ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَخْذِ لِحَاءِ «١» شَجَرِ الْحَرَمِ حَتَّى يُتَقَلَّدَ بِهِ طَلَبًا لِلْأَمْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إِلَى مَكَّةَ. وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلَامَةً أَنَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، وَهِيَ سُنَّةُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَإِلَى هَذَا صَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ حَبِيبٍ، وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، أَوْ بَلَغَ لَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لِانْفِرَادِ الْأَسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أسنمة أشعرت كالبدن، قاله ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقَلَّدُ وَتُشْعَرُ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ إِذْ لَيْسَ لَهَا سَنَامٌ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْغَنَمِ مِنْهَا بِالْإِبِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- وَاتَّفَقُوا فِيمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً عَلَى نِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَسَاقَهَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» إِلَى أَنْ قَالَ:«فَاصْطادُوا» وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِحْرَامَ لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ عرف أنه بمنزلة الإحرام.


(١). لحاء الشجر: قشره.

السَّادِسَةُ- فَإِنْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ وَلَمْ يَسُقْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شي أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ جَالِسًا فَقَدَّ قَمِيصَهُ مِنْ جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: (إِنِّي أُمِرْتُ بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ وَتُشْعَرَ عَلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَلَبِسْتُ قَمِيصِي وَنَسِيتُ فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِجَ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي) وَكَانَ بَعَثَ بِبُدْنِهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ. فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ «١» وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَإِنْ قَلَّدَ شَاةً وَتَوَجَّهَ مَعَهَا فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الشَّاةِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَلَا مِنَ الشَّعَائِرِ، لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَلَا تَصِلُ إِلَى الْحَرَمِ بِخِلَافِ الْبُدْنِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَرِدَ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ وَتَصِلَ إِلَى الْحَرَمِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي. الْعِهْنُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:«وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ١٠: ٥» [القارعة: ٥] «٢». السَّابِعَةُ- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهَدْيِ وَلَا هِبَتُهُ إِذَا قُلِّدَ أَوْ أُشْعِرَ، لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ، وَإِنْ مَاتَ مُوجِبُهُ لَمْ يُوَرَّثْ عَنْهُ وَنَفَذَ لِوَجْهِهِ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالذَّبْحِ خَاصَّةً عِنْدَ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ قَبْلَ الذَّبْحِ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً تَعَيَّنَتْ، وَعَلَيْهِ، إِنْ تَلِفَتْ ثُمَّ وَجَدَهَا أَيَّامَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا ذَبَحَهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً غَيْرَهَا ذَبَحَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَدَلَ عَلَيْهِ إِذَا ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ، إِنَّمَا الْإِبْدَالُ فِي الْوَاجِبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ضلت فقد أجزأت. ومن


(١). في التهذيب: (ابن بنت أبي لبيبة).
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٦٥.

مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ كَانَتْ ضَحِيَّتُهُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ كَسَائِرِ مَالِهِ بِخِلَافِ الْهَدْيِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تُذْبَحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُذْبَحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْأُضْحِيَّةِ فَتُبَاعُ فِي دَيْنِهِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ ذَبْحِهَا لَمْ يَرِثْهَا عَنْهُ وَرَثَتُهُ، وَصَنَعُوا بِهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَا، وَلَا يَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ. وَمَا أَصَابَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ مِنَ الْعُيُوبِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا بَدَلُهَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ، هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْهَدْيِ عَلَى صَاحِبِهِ الْبَدَلُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يَعْنِي الْقَاصِدِينَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ أَمَمْتُ كَذَا أَيْ قَصَدْتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:«وَلَا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ» بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ:«غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ» وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوا الْكُفَّارَ الْقَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ وَالْقُرْبَةِ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ نَهْيٍ عَنْ مُشْرِكٍ، أَوْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةٍ لَهُ بِقِلَادَةٍ، أَوْ أَمِّ الْبَيْتِ فَهُوَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي قوله:«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» «١»] التوبة: ٥] وَقَوْلُهُ:«فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا»] التوبة: ٢٨] فَلَا يُمَكَّنُ الْمُشْرِكُ مِنَ الْحَجِّ، وَلَا يُؤَمَّنُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَإِنْ أَهْدَى وَقَلَّدَ وَحَجَّ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ إِخَافَةِ مَنْ يَقْصِدُ بَيْتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّهْيُ عَامٌّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ الشَّهْرَ الْحَرَامِ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا وَتَفْضِيلًا، وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ اللَّهِ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَمَا أَعْلَمَهُ النَّاسُ فَلَا تُحِلُّوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا«الْقَلائِدَ» وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَلَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ الْحَرَمِ «٢» فَلَا يُقْرَبُ فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَهْيٌ عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ عَامَ الْفَتْحِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ، جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ«وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ». وقيل:


(١). راجع ج ٨ ص ٧١ وص ١٠٣.
(٢). أي لحاء شجر الحرم.

كَانَ هَذَا لِأَمْرِ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيِّ «١» - ويلقب بالحطم- أخذته جند رسول الله عليه وسلم وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي عُمْرَتِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَدْرَكَ الْحُطَمُ هَذَا رِدَّةَ الْيَمَامَةِ فَقُتِلَ مُرْتَدًّا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو النَّاسَ؟ فَقَالَ: (إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فَقَالَ: حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ لِي أُمَرَاءَ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ وَلَعَلِّي أُسْلِمُ وَآتِي بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ) ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بِقَفَا غَادِرٍ وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ). فَمَرَّ بِسَرْحِ «٢» الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ، فَطَلَبُوهُ فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ «٣» ... لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ
وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ «٤» ... بَاتُوا نِيَامًا وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم «٥» ... خذلّج «٦» السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ الْقَدَمْ «٧»
فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ الْقَضِيَّةِ «٨» سَمِعَ تَلْبِيَةَ حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ فَقَالَ: (هَذَا الْحُطَمُ وَأَصْحَابُهُ). وَكَانَ قَدْ قَلَّدَ مَا نَهَبَ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَأَهْدَاهُ إِلَى مَكَّةَ «٩»، فَتَوَجَّهُوا فِي طَلَبِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَا أُشْعِرَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. التَّاسِعَةُ- وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:«لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» يُوجِبُ إِتْمَامَ أُمُورِ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ فَسَدَ حَجُّهُ، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) «١٠» وَقَوْلِهِ: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ فَكُلُّ مَنْ قلد الهدي


(١). في ز: الكندي وفي أسباب النزول للواحدي: نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي.
(٢). السرح: المال السائم.
(٣). رجل حطم وحطمة: إذا كان قليل الرحمة للماشية يهشم بعضها ببعض.
(٤). الوضم: كل شي يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير يوقى به من الأرض.
(٥). الزلم: (بفتح الزاي وضمها) القدح، والجمع الأزلام وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. [.....]
(٦). خدلج الساقين: عظيمهما.
(٧). خفاق القدم: عريض صدر القدمين.
(٨). القضية: قضاء العمرة التي أحصر عنها.
(٩). في ج وز: الكعبة.
(١٠). راجع ج ٨ ص ١٣٦.

وَنَوَى الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحِلَّ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بَعْضُهَا مَنْسُوخٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا) قَالَ فِيهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ الْفَضْلَ وَالْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ، وَيَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوَانَهُ فِي ظَنِّهِمْ وَطَمَعِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي التِّجَارَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ بِالْحَجِّ رِضْوَانَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهُ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَعْتَقِدُ جَزَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْلَافٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَرَبِ وَلُطْفٌ بِهِمْ، لِتَنْبَسِطَ النُّفُوسُ، وَتَتَدَاخَلُ النَّاسُ، وَيَرِدُونَ الْمَوْسِمَ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَقُومُ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ كَالَّذِي كَانَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهَ بَعْدَ عَامٍ سَنَةَ تِسْعٍ، إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَنُودِيَ النَّاسُ بِسُورَةِ«بَرَاءَةٌ». الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أَمْرُ إِبَاحَةٍ- بِإِجْمَاعِ النَّاسِ- رَفَعَ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، حَكَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ صِيغَةُ«أَفْعَلِ» الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَتَقَدُّمَ الْحَظْرِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» «١»] التوبة: ٥] فَهَذِهِ«أَفْعَلُ» عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجِهَادُ، وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْإِبَاحَةُ هُنَاكَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ:«فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ١٠» «٢»] الجمعة: ١٠] «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» «٣» مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ، لَا مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) شأي لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: «٤»
وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا


(١). راجع ج ٨ ص ٧١.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٠٨.
(٣). راجع ج ٣ ص ٩٠.
(٤). هو أبو أسماء بن الضريبة ويقال: هو عطية بن عفيف. وطعنت (بفتح التاء) لأنه يخاطب كرزا العقيلي ويرثيه وقبل البيت:
يا كرز إنك قد قتلت بفارس ... بطل إذا هاب الكماة وجببوا
وكان كرز قد طعن أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري. (اللسان).

وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ وَلَا يُحِقَّنَّكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَى«لَا يَجْرِمَنَّكُمْ» أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَدْلَ إِلَى الظُّلْمِ، قَالَ عليه السلام: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ»] البقرة: ١٩٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى «١». وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، فَالْجَرِيمَةُ وَالْجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ. وَأَجْرَمَ فُلَانٌ أَيِ اكْتَسَبَ الْإِثْمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢»:
جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا
مَعْنَاهُ كَاسِبُ قُوتٍ، وَالصَّلِيبُ الْوَدَكُ «٣»، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي بِنَاءِ جَ رَ مَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وَأَجْرَمَ، وَلَا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، وَأَصْلُهَا مِنْ جَرَمَ أَيِ اكْتَسَبَ، قَالَ:
جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا

وَقَالَ آخَرُ:
يَا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا «٤» وَمَا جَرَمَتْ ... إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ وَإِبْآسِ
وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إِذَا قَطَعَ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ بِمَعْنَى حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ لِأَنَّ الْحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ:«لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» «٥»] النحل: ٦٢] لَقَدْ حَقَّ أَنَّ لَهُمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَرَمَ وَأَجْرَمَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ اكْتَسَبَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ«يَجْرِمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَكْسِبَنَّكُمْ، وَلَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ الضَّمَّ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: جَرَمَ لَا غَيْرَ. وَالشَّنَآنُ الْبُغْضُ. وقرى بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِهَا، يُقَالُ: شَنِئْتُ الرَّجُلَ أَشْنَؤُهُ شنأ وشنأة وشنآنا


(١). راجع ج ٢ ص ٣٥٦ وما بعدها.
(٢). هو أبو خراش الهذلي يذكر عقابا شبه فرسه بها والناهض فرخ العقاب والنبق أرفع موضع في الجبل.
(٣). الودك: دسم اللحم.
(٤). عكل (بالضم): أبو قبيلة فيهم غباوة اسمه عوف بن عبد مناة حضنته أمة تدعى عكل فلقب بها. (القاموس).
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٢٠. [.....]

وَشَنْآنًا بِجَزْمِ النُّونِ، كُلُّ ذَلِكَ إِذَا أَبْغَضْتُهُ، أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ بِصَدِّهِمْ إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا صُدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مَرَّ بِهِمْ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَصُدُّهُمْ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا تَصُدُّوهُمْ«أَنْ صَدُّوكُمْ» أَصْحَابُهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ صَدُّوكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ«إِنْ صَدُّوكُمْ» وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ«إِنْ يَصُدُّوكُمْ». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ لِلْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَأَمَّا«إِنْ صَدُّوكُمْ» بِكَسْرِ«إِنْ» فَالْعُلَمَاءُ الْجُلَّةُ بِالنَّحْوِ وَالْحَدِيثِ وَالنَّظَرِ يَمْنَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَالصَّدُّ كَانَ قَبْلَ الْآيَةِ، وَإِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا إِنْ قَاتَلَكَ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ فَتَحْتَ كَانَ لِلْمَاضِي، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجُوزَ إِلَّا«أَنْ صَدُّوكُمْ». وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَصِحْ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ الْفَتْحُ وَاجِبًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ:«لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْهَوْنَ عَنْ هَذَا إِلَّا وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الصَّدِّ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَوَجَبَ مِنْ هَذَا فَتْحُ«أَنْ» لِأَنَّهُ لِمَا مَضَى. (أَنْ تَعْتَدُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لأنه مفعول به، أي لا يجر منكم شَنَآنُ قَوْمٍ الِاعْتِدَاءَ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ«شَنْآنُ» بِإِسْكَانِ النُّونِ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ إِنَّمَا تَأْتِي فِي مِثْلِ هَذَا مُتَحَرِّكَةٌ، وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَصْدَرًا وَلَكِنَّهُ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى وَزْنِ كَسْلَانَ وَغَضْبَانَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَقْطُوعٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَيْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَحَاثُّوا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَامْتَنِعُوا مِنْهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ). وَقَدْ قيل:

الدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَصَانِعِهِ. ثُمَّ قِيلَ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُرِّرَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً، إِذْ كُلُّ بِرٍّ تَقْوَى وَكُلُّ تَقْوَى بِرٌّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا تَسَامُحٌ مَا، وَالْعُرْفُ فِي دَلَالَةِ هَذَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى رِعَايَةُ الْوَاجِبِ، فَإِنْ جُعِلَ أَحَدُهُمَا بَدَلَ الْآخَرِ فَبِتَجَوُّزٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى لَهُ، لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْبِرِّ رِضَا النَّاسِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَا النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ فِي أَحْكَامِهِ: وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُعِينَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمُهُمْ «١»، وَيُعِينُهُمُ الْغَنِيُّ بِمَالِهِ، وَالشُّجَاعُ بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ (الْمُؤْمِنُونَ تتكافؤ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ). وَيَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُتَعَدِّي وَتَرْكِ النُّصْرَةِ لَهُ وَرَدِّهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَهَى فَقَالَ. (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وَهُوَ الْحُكْمُ اللَّاحِقُ عَنِ الْجَرَائِمِ «٢»، وَعَنِ«الْعُدْوانِ» وَهُوَ ظُلْمُ النَّاسِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَتَوَعَّدَ تَوَعُّدًا مُجْمَلًا فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

[سورة المائدة (٥): آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)


(١). في ز: فيعلمهم ويفتيهم. وفيها: كاليد الواحدة تتكافؤ دماءهم إلخ.
(٢). تفسير (للإثم) كما في (ابن عطية).

فِيهِ سِتٌّ وَعِشْرُونَ «١» مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْبَقَرَةِ «٢». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُنْخَنِقَةُ) هِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا، وَهُوَ حَبْسُ النَّفَسِ سَوَاءٌ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ آدَمِيٌّ أَوِ اتَّفَقَ لَهَا ذَلِكَ فِي حَبْلٍ أَوْ بَيْنَ عُودَيْنِ أَوْ نَحْوُهُ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ وَغَيْرَهَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمَوْقُوذَةُ) الْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى أَوْ تُضْرَبُ بِحَجَرٍ أَوْ عَصًا حَتَّى تَمُوتَ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، يقال منه: وقذه يقده وَقْذًا وَهُوَ وَقِيذٌ. وَالْوَقْذُ شِدَّةُ الضَّرْبِ، وَفُلَانٌ وَقِيذٌ أَيْ مُثْخَنٌ ضَرْبًا. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُونَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَنْعَامَ بِالْخَشَبِ لِآلِهَتِهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهَا فَيَأْكُلُوهَا، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
شَغَّارَةٌ «٣» تَقِذُ الْفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فَطَّارَةٌ لِقَوَادِمِ الْأَبْكَارِ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنِّي أَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ «٤» الصَّيْدَ فَأُصِيبُ، فَقَالَ: (إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ «٥» فَكُلْهُ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ (فَإِنَّهُ وَقِيذٌ). قَالَ أَبُو عُمَرَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي الصَّيْدِ بِالْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَقِيذٌ لَمْ يُجِزْهُ إِلَّا مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ. وَخَالَفَهُمُ الشَّامِيُّونَ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمِعْرَاضِ، كُلْهُ خَزَقَ أَوْ لَمْ يَخْزِقْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن عمر


(١). كذا في الأصول وهي سبع وعشرون.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢١٦ وما بعدها.
(٣). الشغارة: هي الناقة ترفع قوائهما لتضرب. الفطر: الحلب بالسبابة والوسطى ويستعين بطرف الإبهام. وخلفا الضرع المقدمان: هما القادمان وجمعه القوادم. والأبكار تحلب فطرا لأنه لا يستمكن أن يحلبها ضبا لقصر الخلف لأنها صغار.
(٤). المعراض: سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده.
(٥). خزق السهم: نفذ في الرمية والمعنى: نفذ وأسال الدم لأنه ربما قتال بعرضه ولا يجوز.

وَمَكْحُولٌ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَكَذَا ذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَفِيهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَفِيهِ (وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذٌ) الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ فَتَمُوتُ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ مُتَفَعِّلَةٌ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَسَوَاءٌ تَرَدَّتْ بِنَفْسِهَا أَوْ رَدَّاهَا غَيْرُهَا. وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ إِلَى الْأَرْضِ حَرُمَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ بِالصَّدْمَةِ وَالتَّرَدِّي لَا بِالسَّهْمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَأْكُلُ الْمُتَرَدِّيَ وَلَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ مَيْتَةً إِلَّا مَا مَاتَ بِالْوَجَعِ وَنَحْوِهِ دُونَ سَبَبٍ يُعْرَفُ، فَأَمَّا هَذِهِ الْأَسْبَابُ فَكَانَتْ عِنْدَهَا كَالذَّكَاةِ، فَحَصَرَ الشَّرْعُ الذَّكَاةَ فِي صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا، وَبَقِيَتْ هَذِهِ كُلُّهَا مَيْتَةً، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ الَّتِي فَاتَ نَفَسُهَا بِالنَّطْحِ وَالْأَكْلِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّطِيحَةُ) النَّطِيحَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٌ، وَهِيَ الشَّاةُ تَنْطَحُهَا أُخْرَى أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تُذَكَّى. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ النَّطِيحَةَ بِمَعْنَى النَّاطِحَةِ، لِأَنَّ الشَّاتَيْنِ قَدْ تَتَنَاطَحَانِ فَتَمُوتَانِ. وَقِيلَ: نَطِيحَةٌ وَلَمْ يَقُلْ نَطِيحٌ، وَحَقُّ فَعِيلٍ لَا يُذْكَرُ فِيهِ الْهَاءُ كَمَا يُقَالُ: كَفٌّ خَضِيبٌ وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، لَكِنْ ذَكَرَ الْهَاءَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْهَاءَ إِنَّمَا تُحْذَفُ مِنَ الْفَعِيلَةِ إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَنْطُوقٍ بِهِ، يُقَالُ: شَاةٌ نَطِيحٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَإِنْ لَمْ تَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ أَثْبَتَّ الْهَاءَ فَتَقُولُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ نَطِيحَةُ الْغَنَمِ، لِأَنَّكَ لَوْ لَمْ تَذْكُرِ الْهَاءَ فَقُلْتَ: رَأَيْتُ قَتِيلَ بَنِي فُلَانٍ لَمْ يُعْرَفْ أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ«وَالْمَنْطُوحَةُ». السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) يُرِيدُ كُلَّ مَا افْتَرَسَهُ ذُو نَابٍ وَأَظْفَارٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبْعِ وَنَحْوِهَا، هَذِهِ كُلُّهَا سِبَاعٌ. يُقَالُ: سَبَعَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ عَضَّهُ بِسِنِّهِ، وَسَبَعَهُ أَيْ عَابَهُ وَوَقَعَ فِيهِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَا أَكَلَ مِنْهُ

السَّبُعُ، لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ فَقَدْ فَنِيَ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُوقِفُ اسْمَ السَّبُعِ عَلَى الْأَسَدِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَخَذَ السَّبُعُ شَاةً ثُمَّ خَلَصَتْ مِنْهُ أَكَلُوهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ بَعْضَهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ«السَّبْعُ» بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ نَجْدٍ. وَقَالَ حَسَّانٌ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
مَنْ يَرْجِعُ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا أَكِيلُ السَّبْعِ بِالرَّاجِعِ
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:«وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ» وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ:«وَأَكِيلُ السَّبُعِ». السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ. وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى كُلِّ مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ وَفِيهِ حَيَاةٌ، فَإِنَّ الذَّكَاةَ عَامِلَةٌ فِيهِ، لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يُجْعَلُ مُنْقَطِعًا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ وَشَرِيكٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذِئْبٍ عَدَا عَلَى شَاةٍ فَشَقَّ بَطْنَهَا حَتَّى انْتَثَرَ قُصْبُهَا «١» فَأَدْرَكْتُ ذَكَاتَهَا فَذَكَّيْتُهَا فَقَالَ: كُلْ وَمَا انْتَثَرَ مِنْ قُصْبِهَا فَلَا تَأْكُلْ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: السُّنَّةُ فِي الشَّاةِ عَلَى مَا وَصَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهَا وَإِنْ خَرَجَتْ مَصَارِينُهَا فَإِنَّهَا حَيَّةٌ بَعْدُ، وَمَوْضِعُ الذَّكَاةِ مِنْهَا سَالِمٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَحَيَّةٌ هِيَ أَمْ مَيِّتَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى فِعْلٍ هَلْ يَعِيشُ مِثْلُهَا؟ فَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ وَذُكِرَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَالْأَشْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَأَحْفَظُ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ إِذَا بَلَغَ مِنْهَا السَّبُعُ أَوِ التَّرَدِّيُ إِلَى مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي تَلْقِينِهِ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَجَمَاعَةُ الْمَالِكِيِّينَ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ


(١). في ا: ثم انتثر. والقصب: المعى، والجمع أقصاب.

فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا مَا ذُكِّيَ بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ، وَالَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي، وَهِيَ تَضْطَرِبُ فَلْيَأْكُلْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ طُولَ عُمْرِهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَاتِ النَّادِرَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَةِ أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ تَذْكِيَتِهَا وَلَوْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ حَيَاةٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ مَرَضٍ، وَبَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ سَبُعٍ لَوِ اتَّسَقَ النَّظَرُ، وَسَلِمَتْ مِنَ الشُّبْهَةِ الْفِكَرُ!. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: قَدْ أَجْمَعُوا فِي الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تُرْجَى حَيَاتُهَا أَنَّ ذَبْحَهَا ذَكَاةٌ لَهَا إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْحَيَاةُ فِي حِينِ ذَبْحِهَا، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَا ذَكَرُوا مِنْ حَرَكَةِ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهَا إِذَا صَارَتْ فِي حَالِ النَّزْعِ وَلَمْ تُحَرِّكْ يَدًا وَلَا رِجْلًا أَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُتَرَدِّيَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا فِي الْآيَةِ.] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«١»
. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«ذَكَّيْتُمْ» الذَّكَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الذَّبْحُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي] الْمُحْكَمِ [وَالْعَرَبُ تَقُولُ (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ)، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ. وَذَكَّى الْحَيَوَانَ ذَبَحَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُذَكِّيهَا الْأَسَلْ «٢»

قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ). وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْجَنِينُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، لِأَنَّ ذَكَاةَ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ الْأُمِّ، وَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُعْتِقَتْ أَمَةٌ حَامِلٌ إِنَّ عِتْقَهُ عِتْقُ أُمِّهِ، وَهَذَا يَلْزَمُهُ أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِتْقُ وَاحِدٍ عِتْقَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةُ وَاحِدٍ ذَكَاةَ اثْنَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا عَلَيْهِ جُلُّ النَّاسِ مُسْتَغْنًى بِهِ عَنْ] قَوْلِ كُلِّ «٣»
قَائِلٍ [. وَأَجْمَعَ أَهْلُ العلم على


(١). من ج وز وك.
(٢). الأسل هنا: الرماح والنبل.
(٣). من ك.

أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ لَيْسَتْ بِذَكَاةٍ لَهُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا ذُكِّيَتِ الْأُمُّ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ قَدْ تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مَيِّتًا أَوْ خَرَجَ بِهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُذْبَحَ إِنْ خَرَجَ يَتَحَرَّكُ، فَإِنْ سَبَقَهُمْ بِنَفْسِهِ أُكِلَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ضَحَّيْتُ بِنَعْجَةٍ فَلَمَّا ذَبَحْتُهَا جَعَلَ يَرْكُضُ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهَا حَتَّى يَمُوتَ فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُمْ فَشَقُّوا جَوْفَهَا فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَذَبَحْتُهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ، فَأَمَرْتُ أَهْلِي أَنْ يَشْوُوهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: إِذَا أَشْعَرَ الْجَنِينُ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمِمَّنْ قَالَ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه وسعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعَرْ» إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«ذَكَّيْتُمْ» الذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَمَامُ السِّنِّ. وَالْفَرَسُ الْمُذَكَّى الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقُرُوحِ «١»
بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ تَمَامُ اسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ. وَيُقَالُ: ذَكَّى يُذَكِّي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَرْيُ «٢»
الْمُذَكِّيَاتِ غِلَابٌ. وَالذَّكَاءُ حدة القلب، وقال الشاعر «٣»
:
يُفَضِّلُهُ إِذَا اجْتَهَدُوا عَلَيْهِ ... تَمَامُ السِّنِّ مِنْهُ وَالذَّكَاءُ
وَالذَّكَاءُ سُرْعَةُ الْفِطْنَةِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ ذَكِيَ يَذْكَى ذَكًا، وَالذَّكْوَةُ مَا تَذْكُو بِهِ النَّارُ، وَأَذْكَيْتُ الْحَرْبَ وَالنَّارَ أَوْقَدْتُهُمَا. وَذُكَاءُ اسْمُ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تَذْكُو كَالنَّارِ، وَالصُّبْحُ ابْنُ ذُكَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ ضَوْئِهَا. فَمَعْنَى«ذَكَّيْتُمْ» أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ عَلَى التَّمَامِ. ذَكَّيْتُ الذَّبِيحَةَ أُذَكِّيهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّطَيُّبِ، يُقَالُ: رَائِحَةٌ ذَكِيَّةٌ، فَالْحَيَوَانُ إِذَا أُسِيلَ دَمُهُ فَقَدْ طُيِّبَ، لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ التَّجْفِيفُ، وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما«ذكاة الأرض يبسها» يريد


(١). قرح الفرس قروحا: إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهي في خمس سنين.
(٢). المعنى: جرى للسان القرح من الخيل أن تغالب الجري غلابا.
(٣). هو زهير. [.....]

طهارتها من النجاسة، فالذكاة في الذبيحة لَهَا، وَإِبَاحَةٌ] لِأَكْلِهَا فَجُعِلَ يُبْسُ الْأَرْضِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ تَطْهِيرًا لَهَا وَإِبَاحَةُ [«١»
الصَّلَاةِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ لِلذَّبِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْهَارِ الدَّمِ وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ، مَقْرُونًا بِنِيَّةِ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَذِكْرِهِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الذَّكَاةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَهُوَ مِنْ آلَاتِ الذَّكَاةِ مَا خَلَا السِّنَّ وَالْعَظْمَ، عَلَى هَذَا تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ، وَقَالَ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا فِي التَّذْكِيَةِ هُمَا غَيْرُ الْمَنْزُوعَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ خَنْقًا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْخَنْقُ، فَأَمَّا الْمَنْزُوعَانِ فَإِذَا فَرَيَا الْأَوْدَاجَ فَجَائِزٌ الذَّكَاةُ بِهِمَا عِنْدَهُمْ. وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَنْزُوعَةً أَوْ غَيْرَ مَنْزُوعَةٍ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنا لاقوا الْعَدُوَّ غَدًا وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى- فِي رِوَايَةٍ- فندكي بِاللِّيطِ؟. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ رجل من الأنصار عن معاذ ابن سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِسَلْعٍ «٢»
فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِهَا وَكُلُوهَا). وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ «٣»
وَشِقَّةِ «٤»
الْعَصَا؟ قَالَ: (أَعْجِلْ وَأَرِنْ «٥»
مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَسَأُحَدِّثُكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذُبِحَ بِاللِّيطَةِ وَالشَّطِيرِ وَالظُّرَرِ فَحِلٌّ ذَكِيٌّ. اللِّيطَةُ فِلْقَةُ القصبة ويمكن بها الذبح والنحر. والشطير


(١). من ج وز وك.
(٢). السلع: الشق في الجبل.
(٣). المروة: حجر أبيض براق يجعل منه كالسكين.
(٤). في ج وك وز: شعبة.
(٥). أرن: أعجل، قال النووي: أرن (بفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان النون) وروى (بإسكان الراء وكسر النون) وروى أرني (بإسكان الراء وزيادة ياء). وقال الخطابي: أرن على وزن أعجل وهو بمعناه، وهو من النشاط والخفة، أي أعجل ذبحها لئلا تموت حتفا.

فِلْقَةُ الْعُودِ، وَقَدْ يُمْكِنُ بِهَا الذَّبْحُ لِأَنَّ لَهَا جَانِبًا دَقِيقًا. وَالظُّرَرُ فِلْقَةُ الْحَجَرِ يُمْكِنُ الذَّكَاةُ بِهَا وَلَا يُمْكِنُ النَّحْرُ، وَعَكْسُهُ الشِّظَاظُ «١»
يُنْحَرُ بِهِ، لِأَنَّهُ كَطَرَفِ السِّنَانِ وَلَا يُمْكِنُ بِهِ الذَّبْحُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ. وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمري وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْوَدَجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُمَا حَيَاةٌ، وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ. وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ اعْتَبَرُوا الْمَوْتَ عَلَى وَجْهٍ يَطِيبُ مَعَهُ اللَّحْمُ، وَيَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَلَالُ- وَهُوَ اللَّحْمُ- مِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي قَوْلِهِ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ). وَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والودجين والمري، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ «٢»
، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ هَلْ هُوَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَهْمَا كَانَ فِي الْحَلْقِ تَحْتَ الْغَلْصَمَةِ فَقَدْ تَمَّتِ الذَّكَاةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا ذُبِحَ فَوْقَهَا وَجَازَهَا «٣»
إِلَى الْبَدَنِ هَلْ ذَلِكَ ذَكَاةٌ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَهَا مِنَ الْقَفَا وَاسْتَوْفَى الْقَطْعَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ وَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ لَمْ تُؤْكَلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِنْهَارُ الدَّمِ فَفِيهَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَقَدْ ذَبَحَ ﷺ فِي الْحَلْقِ وَنَحَرَ فِي اللَّبَّةِ «٤»
وَقَالَ: (إِنَّمَا الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) فَبَيَّنَ مَحِلَّهَا وَعَيَّنَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ). فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَقَعْ بِنِيَّةٍ وَلَا بِشَرْطٍ وَلَا بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ زَالَ مِنْهَا حَظُّ التَّعَبُّدِ، فَلَمْ تُؤْكَلْ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الذَّكَاةِ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْفَوْرِ وَأَكْمَلَ الذَّكَاةَ، فَقِيلَ: يُجْزِئُهُ. وَقِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ جَرَحَهَا ثُمَّ ذَكَّاهَا بَعْدُ وَحَيَاتُهَا مُسْتَجْمَعَةٌ فيها.


(١). الشظاظ: خشيبة محددة الطرف تدخل في عروتي الجوالقين لتجمع بينهما عند حملهما على البعير.
(٢). في ك: ابن أبي ثور.
(٣). في ج وك وز: حازها.
(٤). اللبة: اللهزمة التي فوق الصدر وفيها تنحر الإبل.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَيُسْتَحَبُّ أَلَّا يَذْبَحَ إِلَّا مَنْ تُرْضَى حَالُهُ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاقَهُ وَجَاءَ بِهِ عَلَى سُنَّتِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ جَازَ ذَبْحُهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَذَبْحُ الْمُسْلِمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَبْحِ الْكِتَابِيِّ، وَلَا يَذْبَحُ نُسُكًا إِلَّا مُسْلِمٌ، فَإِنْ ذَبَحَ النُّسُكَ كِتَابِيٌّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي تَحْصِيلِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ أَجَازَهُ أَشْهَبُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَمَا اسْتَوْحَشَ مِنَ الْإِنْسِيِّ لَمْ يَجُزْ فِي ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا يَجُوزُ فِي ذَكَاةِ الْإِنْسِيِّ، فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّيُ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ الذَّكَاةُ فِيهِ إِلَّا فِيمَا بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ عَلَى سُنَّةِ الذَّكَاةِ. وَقَدْ خَالَفَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَتَمَامُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (فَمُدَى الْحَبَشَةِ) قَالَ: وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ «١»
كَأَوَابِدَ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شي فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا- وَفِي رِوَايَةٍ- فَكُلُوهُ). وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ؟ قَالَ: (لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ). قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَرَوَاهُ عَنْ «٢»
أَبِي دَاوُدَ، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا يَصْلُحُ هَذَا إِلَّا فِي الْمُتَرَدِّيَةِ وَالْمُسْتَوْحِشِ. وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ حَبِيبٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَقَطَ فِي مَهْوَاةٍ فَلَا يُوصَلُ إِلَى ذَكَاتِهِ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الذَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلٌ انْفَرَدَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يُؤْكَلُ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الْوَحْشِيُّ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ لَمَّا كَانَ الْوَحْشِيُّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْإِنْسِيُّ، لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ إِذَا تَوَحَّشَ أَوْ صَارَ فِي مَعْنَى الْوَحْشِيِّ مِنِ الِامْتِنَاعِ أَنْ يَحِلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الْوَحْشِيُّ.


(١). الأوابد (جمع آبده): وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنسي.
(٢). في ز: رواه أبو داود. لكن في التهذيب: قال أبو داود سمعه منى أحمد بن حنبل.

قُلْتُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِأَنْ قَالُوا: تَسْلِيطُ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَظَاهِرِهِ، لِقَوْلِهِ: (فَحَبَسَهُ) وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ السَّهْمَ قَتَلَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ السَّهْمَ حَبَسَهُ وَبَعْدَ أَنْ صَارَ مَحْبُوسًا صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَلُ إِلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْعُشَرَاءِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ:«حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَلَا نَعْرِفُ لِأَبِي الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ أَبِي الْعُشَرَاءِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْمُهُ أسامة ابن قِهْطِمٍ، وَيُقَالُ: اسْمُهُ يَسَارُ بْنُ بَرْزٍ- وَيُقَالُ: بَلْزٍ- وَيُقَالُ: اسْمُهُ عُطَارِدٌ نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ». فَهَذَا سَنَدٌ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَمَتْ صِحَّتُهُ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ، إِذْ مُقْتَضَاهُ جَوَازُ الذَّكَاةِ فِي أَيِّ عُضْوٍ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ فِي الْمَقْدُورِ، فَظَاهِرُهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ قَطْعًا. وَتَأْوِيلُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حَبِيبٍ لَهُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ «١»
يَنِدَّ الْإِنْسِيُّ أَنَّهُ لَا يُذَكَّى إِلَّا بِمَا يُذَكَّى بِهِ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كل شي فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) فَذَكَرَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِحْسَانُ الذَّبْحِ فِي الْبَهَائِمِ الرِّفْقُ بِهَا، فَلَا يَصْرَعُهَا بِعُنْفٍ وَلَا يَجُرُّهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَإِحْدَادُ الْآلَةِ، وَإِحْضَارُ نِيَّةِ الْإِبَاحَةِ وَالْقُرْبَةِ وَتَوْجِيهُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالْإِجْهَازُ «٢»
، وَقَطْعُ الْوَدَجَيْنِ وَالْحُلْقُومِ، وَإِرَاحَتُهَا وَتَرْكُهَا إِلَى أَنْ تَبْرُدَ، وَالِاعْتِرَافُ لِلَّهِ بِالْمِنَّةِ، وَالشُّكْرُ لَهُ بِالنِّعْمَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَنَا مَا لَوْ شَاءَ لَسَلَّطَهُ عَلَيْنَا، وَأَبَاحَ لنا ما لو شاء


(١). كذا في الأصول. لعل أصل العبارة: لوند. إلخ.
(٢). أجهزت على الجريح: إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه.

لَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مِنْ إِحْسَانِ الذَّبْحِ أَلَّا يَذْبَحَ بَهِيمَةً وَأُخْرَى تَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَحُكِيَ جَوَازُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَأَمَّا حُسْنُ القتلة فعام في كل شي مِنَ التَّذْكِيَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، زَادَ ابْنُ عِيسَى فِي حَدِيثِهِ (وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَتُقْطَعُ وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَمُوتُ). السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قَالَ ابْنُ فَارِسٍ:«النُّصُبِ» حَجَرٌ كَانَ يُنْصَبُ فَيُعْبَدُ وَتُصَبُّ عَلَيْهِ دِمَاءُ الذَّبَائِحِ، وَهُوَ النَّصْبُ أَيْضًا. وَالنَّصَائِبُ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ حَوَالَيْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَتُجْعَلُ عَضَائِدَ، وَغُبَارٌ مُنْتَصِبٌ مُرْتَفِعٌ. وَقِيلَ:«النُّصُبِ» جَمْعٌ، وَاحِدُهُ نِصَابٌ كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، وَكَانَتْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ حَجَرًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ«النُّصْبُ» بِجَزْمِ الصَّادِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ«النَّصْبُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَجَزْمِ الصَّادِ. الْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ جَعَلَهُ اسْمًا مُوَحَّدًا كَالْجَبَلِ وَالْجَمَلِ، وَالْجَمْعُ أَنْصَابٌ، كَالْأَجْمَالِ وَالْأَجْبَالُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوَالَيْ مَكَّةَ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتَنْضَحُ بِالدَّمِ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَيُشَرِّحُونَ اللَّحْمَ وَيَضَعُونَهُ عَلَى الْحِجَارَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَ هَذَا الْبَيْتَ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَكَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها» «١»
] الحج: ٣٧] وَنَزَلَتْ«وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ لَا أَنَّ «٢»
الذَّبْحَ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبَ «٣» الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ ... لِعَافِيَةٍ «٤»
وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا
وَقِيلَ:«عَلَى» بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ لِأَجْلِهَا، قَالَ قُطْرُبٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أهل به لغير الله شي وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ وشرف الموضع وتعظيم النفوس له.


(١). راجع ج ١٢ ص ٦٥. [.....]
(٢). في ك وز: لان الذبح عليها غير جائز.
(٣). وذا النصب بمعنى إياك وذا النصب. (اللسان).
(٤). في اوج: لعاقبة، وفي الديوان: بعاقبة.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) معطوف على ما قبله، و «أن» فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامُ. وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَاحِدُهَا زَلَمٌ وَزُلَمٌ، قَالَ:
بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ «١»

وَقَالَ آخَرُ، فَجَمَعَ:
فَلَئِنْ جَذِيمَةَ قَتَّلَتْ سَرَوَاتِهَا ... فَنِسَاؤُهَا يَضْرِبْنَ بِالْأَزْلَامِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ ابْنَ وَكِيعٍ حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَزْلَامَ حَصًى بِيضٌ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: قَالَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ. فَأَمَّا قَوْلُ لَبِيَدٍ:
تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلَامُهَا «٢»

فَقَالُوا: أَرَادَ أَظْلَافَ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ. والأزلام العرب ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي كَانَ يَتَّخِذُهَا كُلُّ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ، عَلَى أَحَدِهَا افْعَلْ، وَعَلَى الثاني لا تفعل، والثالث مهمل لا شي عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُهَا فِي خَرِيطَةٍ مَعَهُ، فَإِذَا أَرَادَ فعل شي أَدْخَلَ يَدَهُ- وَهِيَ مُتَشَابِهَةٌ- فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهَا ائْتَمَرَ وَانْتَهَى بِحَسَبِ مَا يَخْرُجُ لَهُ، وَإِنْ خرج القدح الذي لا شي عَلَيْهِ أَعَادَ الضَّرْبَ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حِينَ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذَا الْفِعْلِ: اسْتِقْسَامٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ، كَمَا يُقَالُ: الِاسْتِسْقَاءُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ لِلسَّقْيِ. وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ الْمُنَجِّمِ: لَا تَخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا، وَاخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا. وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ:«وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا» «٣»
الآية] لقمان: ٣٤]. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي- سَبْعَةُ قِدَاحٍ كَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا مَا يَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ النَّوَازِلِ، كُلُّ قِدْحٍ مِنْهَا فيه كتاب، قدح فيه العقل من أم الدِّيَاتِ، وَفِي آخَرَ«مِنْكُمْ» وَفِي آخَرَ«مِنْ غَيْرِكُمْ»، وَفِي آخَرَ«مُلْصَقٌ» «٤»
، وَفِي سَائِرِهَا أَحْكَامُ المياه وغير ذلك،


(١). تقدم الكلام عليه في غير موضع، راجع قداح الميسر في ج ٣ ص ٥٨.
(٢). البيت بتمامه:
حتى إذا حسر الظلام وأسفرت ... بكرت تزل عن الثرى (أزلامها)

(٣). راجع ج ١٤ ص ٨٢.
(٤). كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف. (سيرة ابن هشام).

وَهِيَ الَّتِي ضَرَبَ بِهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِيهِ إِذْ كَانَ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِهِمْ إِذَا كَمَلُوا عَشَرَةً، الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أَيْضًا كَانَتْ عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِ الْعَرَبِ وَحُكَّامِهِمْ، عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ هُبَلَ. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: هو قداح المسير وَهِيَ عَشَرَةٌ، سَبْعَةٌ مِنْهَا فِيهَا حُظُوظٌ، وَثَلَاثَةٌ أَغْفَالٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا مُقَامَرَةً لَهْوًا وَلَعِبًا، وَكَانَ عُقَلَاؤُهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا إِطْعَامَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُعْدَمِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّفِ «١»
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَزْلَامُ هِيَ كِعَابُ «٢»
فَارِسٍ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ، فَالِاسْتِقْسَامُ بِهَذَا كُلِّهِ هُوَ طَلَبُ الْقَسْمِ وَالنَّصِيبِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَكُلُّ مُقَامَرَةٍ بِحَمَامٍ أَوْ بِنَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْعَابِ فَهُوَ اسْتِقْسَامٌ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَزْلَامِ حَرَامٌ كُلُّهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكَهُّنِ وَالتَّعَرُّضِ لِدَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلِهَذَا نَهَى أَصْحَابُنَا عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُنَجِّمُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي مَعَهُمْ، وَرِقَاعُ الْفَأْلِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْغَيْبِ، فَإِنَّهُ لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا يُصِيبُهَا غَدًا، فَلَيْسَ لِلْأَزْلَامِ فِي تَعْرِيفِ الْمُغَيَّبَاتِ أَثَرٌ، فَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنْ هَذَا الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْإِقْرَاعِ بَيْنَ الْمَمَالِيكِ فِي الْعِتْقِ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْجَاهِلُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بُنِيَ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَلَيْسَ مِمَّا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ خُرُوجَ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِتْقِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَلَا يُسَاوِي ذَلِكَ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا فَعَلْتَ كَذَا أَوْ قُلْتَ كَذَا فَذَلِكَ يَدُلُّكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقِدَاحِ عَلَمًا عَلَى شي يَتَجَدَّدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ خُرُوجُ الْقُرْعَةِ عَلَمًا عَلَى الْعِتْقِ قَطْعًا، فَظَهَرَ افْتِرَاقُ الْبَابَيْنِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ طَلَبُ الْفَأْلِ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُعْجِبُهُ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يعجبه الفأل لأنه


(١). في ك: لمتحرف.
(٢). كعاب (جمع كعب): وهو فص كفص النرد.

تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَبُلُوغِ الْأَمَلِ، فَيَحْسُنُ الظَّنُّ بِاللَّهِ عز وجل، وَقَدْ قَالَ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي). وَكَانَ عليه السلام يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّهَا تَجْلِبُ ظَنَّ السُّوءِ بِاللَّهِ عز وجل. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ أَنَّ الْفَأْلَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَالطِّيَرَةُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ طريق الاتكال على شي سِوَاهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَوْنٍ عَنِ الْفَأْلِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَسْمَعُ يَا سَالِمٌ، أَوْ يَكُونَ بَاغِيًا «١»
فَيَسْمَعُ يَا وَاجِدٌ، وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ). وَسَيَأْتِي لِمَعْنَى الطِّيَرَةِ مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَنَالُونَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا، مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ مِنْ طِيَرَةٍ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكُمْ فِسْقٌ) إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَالْفِسْقُ الْخُرُوجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢»
. وَقِيلَ يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنِ الِاسْتِحْلَالِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وكل شي مِنْهَا فِسْقٌ وَخُرُوجٌ مِنَ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَالِانْكِفَافُ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، إذ قال:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»] المائدة: ١]. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) يَعْنِي أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ كُفَّارًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَتَحَ مَكَّةَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَيُقَالُ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَدَخَلَهَا وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ«أَلَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ وَضَعَ السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمن». وفي«يئس» لغتان، يئس ييئس يأسا، وأيس يأيس


(١). الباغي: الذي يطلب الشيء الضال.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٤٤ وما بعدها.

إِيَاسًا وَإِيَاسَةً، قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) ١٥٠ أَيْ لَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي فَإِنِّي أَنَا الْقَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَى أَنْ حَجَّ، فَلَمَّا حَجَّ وَكَمُلَ الدِّينُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الْآيَةَ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا» فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ] وَالْمَكَانَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ [«١»
، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ما يُبْكِيكَ)؟ فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يكمل شي إِلَّا نَقَصَ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (صَدَقْتَ). وَرَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَكَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ «٢»، فَكَادَ «٣» عَضُدُ النَّاقَةِ يَنْقَدُّ مِنْ ثِقَلِهَا فَبَرَكَتْ. و «الْيَوْمَ» قَدْ يُعَبَّرُ بِجُزْءٍ مِنْهُ عَنْ جَمِيعِهِ، وَكَذَلِكَ عَنِ الشَّهْرِ بِبَعْضِهِ، تَقُولُ: فَعَلْنَا فِي شَهْرِ كذا كذا وَفِي سَنَةِ كَذَا كَذَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّكَ لَمْ تَسْتَوْعِبِ الشَّهْرَ وَلَا السَّنَةَ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَالدِّينُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَ وَفَتَحَ لَنَا، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ نُجُومًا وَآخِرُ مَا نَزَلَ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حُكْمٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ مُعْظَمُ الْفَرَائِضِ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ، قالوا: وقد نزل


(١). من ج وك وز. العضباء: اسم ناقة النبي ﷺ.
(٢). من ج وك وز. العضباء: اسم ناقة النبي ﷺ.
(٣). في ز: كادت. وهي لغة تهامة. [.....]

بَعْدَ ذَلِكَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَنَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كمل معظم الدين وأمر الحج، إذا لَمْ يَطُفْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُشْرِكٌ، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَوَقَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِعَرَفَةَ. وَقِيلَ:«أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» بِأَنْ أَهْلَكْتُ] لَكُمْ [«١» عَدُوَّكُمْ وَأَظْهَرْتُ دِينَكُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَمَا تَقُولُ: قَدْ تَمَّ لَنَا مَا نُرِيدُ إِذَا كُفِيتَ عَدُوَّكَ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» أَيْ بِإِكْمَالِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَإِظْهَارِ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا وَعَدْتُكُمْ، إِذْ قُلْتُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ١٥٠] البقرة: ١٥٠] وَهِيَ دُخُولُ مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا انْتَظَمَتْهُ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ كَانَ غَيْرَ كَامِلٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ وَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْبَيْعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ مَعَ عَظِيمِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحَنِ مَاتُوا عَلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينٍ نَاقِصٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّقْصَ عَيْبٌ، وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى قِيَمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:«دِينًا قِيَمًا» «٢»] الانعام: ١٦١] فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ إِنَّ كُلَّ نَقْصٍ فَهُوَ عَيْبٌ وَمَا دَلِيلُكُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ نُقْصَانَ الشَّهْرِ هَلْ كون عَيْبًا، وَنُقْصَانَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ أَهُوَ عَيْبٌ لَهَا، وَنُقْصَانَ الْعُمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:«وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ» «٣»] فاطر: ١١] أَهُوَ عَيْبٌ لَهُ، وَنُقْصَانُ أَيَّامِ الْحَيْضِ عَنِ الْمَعْهُودِ، وَنُقْصَانَ أَيَّامِ الْحَمْلِ، وَنُقْصَانَ الْمَالِ بِسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ غَرَقٍ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ صَاحِبُهُ، فَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّ نُقْصَانَ أَجْزَاءِ الدِّينِ فِي الشَّرْعِ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ الْأَجْزَاءُ الْبَاقِيَةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَيْنٍ وَلَا عَيْبٍ، وَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» يُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَلَّغْتُهُ أَقْصَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدِي فِيمَا قَضَيْتُهُ وَقَدَّرْتُهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا نُقْصَانَ عَيْبٍ، لكنه يوصف بنقصان مقيد


(١). من ك.
(٢). راجع ج ٧ ص ١٥٣.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٣٢.

فَيُقَالُ] لَهُ [«١»: إِنَّهُ كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُلْحِقُهُ بِهِ وَضَامُّهُ إِلَيْهِ، كَالرَّجُلِ يُبَلِّغُهُ اللَّهُ مِائَةَ سَنَةٍ فَيُقَالُ: أَكْمَلَ اللَّهُ عُمُرَهُ، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ حِينَ كَانَ ابْنَ سِتِّينَ كَانَ نَاقِصًا نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: (مَنْ عَمَّرَهُ اللَّهُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ). وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِنُقْصَانٍ مُقَيَّدٍ فَيُقَالُ: كَانَ نَاقِصًا عَمَّا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ وَمُعَمِّرُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَوْ قِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَهَا لَكَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَلَا يَجِبُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ نَاقِصَةً نَقْصَ قُصُورٍ وَخَلَلٍ، وَلَوْ قِيلَ: كَانَتْ نَاقِصَةً عَمَّا عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ ضَامُّهُ إِلَيْهَا وَزَائِدُهُ عَلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فَهَكَذَا، هَذَا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَا كَانَ شُرِعَ مِنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ أَنْهَى اللَّهُ الدِّينَ مُنْتَهَاهُ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» أَنَّهُ وَفَّقَهُمْ لِلْحَجِّ الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ غَيْرُهُ، فَحَجُّوا، فَاسْتَجْمَعَ لَهُمُ الدِّينُ أَدَاءً لِأَرْكَانِهِ وَقِيَامًا بِفَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ عليه السلام: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ كَانُوا تَشَهَّدُوا وَصَلُّوا وَزَكُّوا وَصَامُوا وَجَاهَدُوا وَاعْتَمَرُوا وَلَمْ يَكُونُوا حَجُّوا، فَلَمَّا حَجُّوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ بِالْمَوْقِفِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فَإِنَّمَا أَرَادَ أَكْمَلَ وَضْعَهُ لَهُمْ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِسْلَامٌ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا» أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِرِضَايَ بِهِ لَكُمْ دِينًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ رَاضِيًا بِالْإِسْلَامِ لَنَا دِينًا، فَلَا يَكُونُ لِاخْتِصَاصِ الرِّضَا بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَائِدَةٌ إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَ«دِينًا» نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَرَضِيتُ عَنْكُمْ إِذَا انْقَدْتُمْ «٢» لِيَ بِالدِّينِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ. وَيَحْتَمِلُ أن يريد«رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا» أَيْ وَرَضِيَتُ إِسْلَامَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ الْيَوْمَ دِينًا بَاقِيًا بِكَمَالِهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ «٣» لَا أَنْسَخُ مِنْهُ شَيْئًا. وَاللَّهُ أعلم. و «الْإِسْلامَ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تعالى:


(١). من ك.
(٢). في ك: أقررتم.
(٣). في كل الأصول: إلى آخر الآية. والصواب ما في البحر لابي حيان: إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شي.

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ»] آل عمران: ١٩] وَهُوَ الَّذِي يُفَسَّرُ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ وَالشُّعَبُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) يَعْنِي مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةٌ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَخْمَصَةُ الْجُوعُ وَخَلَاءُ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ. وَالْخَمْصُ ضُمُورُ الْبَطْنِ. وَرَجُلٌ خَمِيصٌ وَخُمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخُمْصَانَةٌ، وَمِنْهُ أَخْمَصُ الْقَدَمِ، وَيُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْجُوعِ وَالْغَرَثِ، قَالَ الْأَعْشَى:
تَبِيتُونَ فِي الْمَشْتَى مِلَاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى «١» يَبِتْنَ خَمَائِصَا
أَيْ مُنْطَوِيَاتٍ عَلَى الْجُوعِ قَدْ أَضْمَرَ بُطُونَهُنَّ. وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي خَمْصِ الْبَطْنِ مِنْ جِهَةٍ ضُمْرِهِ:
وَالْبَطْنُ ذُو عُكَنٍ «٢» خَمِيصٌ لَيِّنٌ ... وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ «٣» بِثَدْيٍ مقعد
وفي الحديث: (خماص البطون جفاف الظُّهُورِ). الْخِمَاصُ جَمْعُ الْخَمِيصِ الْبَطْنِ، وَهُوَ الضَّامِرُ. أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعِفَّاءُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْهُ الحديث: (إن الطير تغدو خماصا وتروج بِطَانًا). وَالْخَمِيصَةُ أَيْضًا ثَوْبٌ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْخَمَائِصُ ثِيَابُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمَةٍ، وَهِيَ سَوْدَاءُ، كَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الاضطرار وحكمه في البقرة»
. السابعة والعشرن- قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أَيْ غَيْرَ مَائِلٍ لِحَرَامٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى«غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ»] البقرة: ١٧٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ الْحَرَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ «٥» رضي الله عنه: مَا تَجَانَفْنَا فِيهِ لِإِثْمٍ، أَيْ مَا مِلْنَا وَلَا تَعَمَّدْنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ: وَكُلُّ مَائِلٍ فَهُوَ مُتَجَانِفٍ وَجَنِفٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالسُّلَمِيُّ مُتَجَنِّفٌ دُونَ أَلِفٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ شَدَّ الْعَيْنِ يَقْتَضِي مُبَالَغَةً وَتَوَغُّلًا فِي الْمَعْنَى وَثُبُوتًا لِحُكْمِهِ، وَتَفَاعُلٌ إِنَّمَا هُوَ مُحَاكَاةُ الشَّيْءِ


(١). غرثى: جوعي.
(٢). العكن والأعكان: الاطواء في البطن من السمن.
(٣). نفج ثدي المرأة قميصها إذا رفعه.
(٤). راجع ج ٢ ص ٢٢٤ وما بعدها وص ٢٣١.
(٥). كان قد أفطر الناس في رمضان ثم ظهرت الشمس فقال: نقيضه ما تجانفنا .. إلخ.

والتقرب منه، ألا ترى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَمَايَلَ الْغُصْنُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأَوُّدًا وَمُقَارَبَةَ مَيْلٍ، وَإِذَا قُلْتَ: تَمَيَّلَ فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الْمَيْلِ، وَكَذَلِكَ تَصَاوَنَ الرَّجُلُ وَتَصَوَّنَ، وَتَعَاقَلَ وَتَعَقَّلَ، فَالْمَعْنَى غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ لِمَعْصِيَةٍ فِي مَقْصِدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ غَفُورٌ رحيم فحذف، وأنشد سيبويه «١»:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
أَرَادَ لَمْ أَصْنَعْهُ فَحَذَفَ. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
فيه ثماني عشرة مسألة «٢»: الاولى- قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ) الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ مُهَلْهَلٍ وَهُوَ زَيْدُ الْخَيْلِ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدُ الْخَيْرِ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ، وَإِنَّ الْكِلَابَ تَأْخُذُ الْبَقَرَ وَالْحُمُرَ وَالظِّبَاءَ فَمِنْهُ مَا نُدْرِكُ ذَكَاتَهُ، وَمِنْهُ مَا تَقْتُلُهُ فَلَا نُدْرِكَ ذَكَاتَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) «مَا» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، والخبر«أُحِلَّ لَهُمْ» و «ذا» زَائِدَةٌ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ الْخَبَرُ«قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» وَهُوَ الْحَلَالُ، وَكُلُّ حَرَامٍ فَلَيْسَ بِطَيِّبٍ. وَقِيلَ: مَا الْتَذَّهُ آكِلُهُ وَشَارِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الطَّيِّبَاتُ الذَّبَائِحُ، لِأَنَّهَا طَابَتْ بِالتَّذْكِيَةِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما عَلَّمْتُمْ) أَيْ وَصَيْدَ مَا عَلَّمْتُمْ، فَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحِلُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ متنا ولا للمعلم من الجوارح المكلبين،


(١). الرجز لابي النجم العجلي، وام الخيار امرأته.
(٢). هكذا في الأصول، والمذكور تسع عشرة مسألة.

وَذَلِكَ لَيْسَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ، فَإِنَّ الَّذِي يُبِيحُ لَحْمَ الْكَلْبِ فَلَا يُخَصِّصُ الْإِبَاحَةَ بِالْمُعَلَّمِ، وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي أَكْلِ الْكَلْبِ فِي» الْأَنْعَامِ««١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَتَنَاوَلُ مَا عَلَّمْنَاهُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْأَكْلُ مِنَ الْجَوَارِحِ أَيِ الْكَوَاسِبِ مِنَ الْكِلَابِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ، وَكَانَ لِعَدِيٍّ كِلَابٌ خَمْسَةٌ قَدْ سَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ أَعْلَامٍ، وَكَانَ أَسْمَاءُ أَكْلُبِهِ سَلْهَبٌ وَغَلَّابٌ وَالْمُخْتَلِسُ وَالْمُتَنَاعِسُ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَخَامِسٌ أَشُكُّ، قَالَ فِيهِ أَخْطَبُ، أَوْ قَالَ فِيهِ وَثَّابٌ. الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ وَعَلَّمَهُ مُسْلِمٌ فينشلي إذا أشلي «٢» ويجيب إذ دُعِيَ، وَيَنْزَجِرُ بَعْدَ ظَفَرِهِ بِالصَّيْدِ إِذَا زُجِرَ، وَأَنْ يَكُونَ لَا يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِهِ الَّذِي صَادَهُ، وَأَثَّرَ فِيهِ بِجُرْحٍ أَوْ تَنْيِيبٍ، وَصَادَ بِهِ مُسْلِمٌ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ أَنَّ صَيْدَهُ صَحِيحٌ يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ دَخَلَ الْخِلَافُ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي يُصَادُ بِهِ غَيْرُ كَلْبٍ كَالْفَهْدِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَكَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الطَّيْرِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا صَادَ بَعْدَ التَّعْلِيمِ فَهُوَ جَارِحٌ كَاسِبٌ. يُقَالُ: جَرَحَ فُلَانٌ وَاجْتَرَحَ إِذَا اكْتَسَبَ، وَمِنْهُ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهَا يُكْتَسَبُ بِهَا، وَمِنْهُ اجْتِرَاحُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
ذَا جُبَارٌ «٣» مُنْضِجًا مِيسَمُهْ ... يُذْكِرُ الْجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ
وَفِي التَّنْزِيلِ» وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ «٤» ٦٠«] الانعام: ٦٠] وقال:» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
«٥» الجاثية: ٢١]. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُكَلِّبِينَ) مَعْنَى«مُكَلِّبِينَ» أَصْحَابُ الْكِلَابِ وَهُوَ كَالْمُؤَدِّبِ صَاحِبِ التَّأْدِيبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، قال الرماني: وكلا


(١). راجع ج ٧ ص ١١٥. [.....]
(٢). أشليت الكلب على الصيد دعوته فأرسلته، وقيل: أغريته.
(٣). الجبار: الهدر. الميسم: اسم لأثر الوسم وهو الكي والمعنى: أن من أهجوه يبقى هجوي له ظاهرا ولا يستطيع رفعه. والشطر الأول في الأصول (ذات جد منضج ميسمها)، والتصويب عن (الصبح المنير في شعر أبي بصير).
(٤). راجع ج ٧ ص ٥.
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٦٥.

الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَلٌ. وَلَيْسَ فِي«مُكَلِّبِينَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ صَيْدُ الْكِلَابِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ:«مُؤْمِنِينَ» وَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَصَرَ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْكِلَابِ خَاصَّةً. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: وَأَمَّا مَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْبُزَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّيْرِ فَمَا أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَلَا تطعمه. قال ابن المنذر: وسيل أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الْبَازِي يَحِلُّ صَيْدُهُ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ:«وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» هِيَ الْكِلَابُ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ أَسْوَدَ بَهِيمًا فَكَرِهَ صَيْدَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِيهِ إِذَا كَانَ بَهِيمًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، فَأَمَّا عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ فَيَرَوْنَ جَوَازَ صَيْدِ كُلِّ كَلْبٍ مُعَلَّمٍ، أَمَّا مَنْ مَنَعَ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَلِقَوْلِهِ ﷺ: (الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ)، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا فِي جَوَازِ صَيْدِ الْبَازِي بِمَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، وَبِمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي فَقَالَ: (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ). فِي إِسْنَادِهِ مُجَالِدٌ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَأَتَّى مِنَ الْكَلْبِ يَتَأَتَّى مِنَ الْفَهْدِ مَثَلًا فَلَا فَارِقَ إِلَّا فِيمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ السَّيْفِ عَلَى الْمُدْيَةِ وَالْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ- وإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا بد لِلصَّائِدِ أَنْ يَقْصِدَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ التَّذْكِيَةَ وَالْإِبَاحَةَ، وَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ) وَهَذَا يَقْتَضِي النِّيَّةَ وَالتَّسْمِيَةَ، فَلَوْ قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ اللَّهْوَ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ اللَّيْثِ: مَا رَأَيْتُ حَقًّا أَشْبَهَ بِبَاطِلٍ مِنْهُ، يَعْنِي الصَّيْدَ، فَأَمَّا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ التَّذْكِيَةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَسَادِ وَإِتْلَافِ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا بِالْقَوْلِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ، لِقَوْلِهِ: (وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ) فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ لَمْ يُؤْكَلِ الصَّيْدُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ

مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ مَا صَادَهُ الْمُسْلِمُ وَذَبَحَهُ وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى النَّدْبِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فَقَالَ: لَا تُؤْكَلُ مَعَ الْعَمْدِ وَتُؤْكَلُ مَعَ السَّهْوِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي«الْأَنْعَامِ» «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثم لأبد أَنْ يَكُونَ انْبِعَاثُ الْكَلْبِ بِإِرْسَالٍ مِنْ يَدِ الصَّائِدِ بِحَيْثُ يَكُونُ زِمَامُهُ بِيَدِهِ. فَيُخَلِّي عَنْهُ وَيُغْرِيهِ عَلَيْهِ فَيَنْبَعِثُ، أَوْ يَكُونَ الْجَارِحُ سَاكِنًا مَعَ رُؤْيَتِهِ الصَّيْدَ فَلَا يَتَحَرَّكُ لَهُ إِلَّا بِالْإِغْرَاءِ مِنَ الصَّائِدِ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا زِمَامُهُ بِيَدِهِ فَأَطْلَقَهُ مُغْرِيًا لَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا لَوِ انْبَعَثَ الْجَارِحُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ وَلَا إِغْرَاءٍ فَلَا يَجُوزُ صَيْدُهُ وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَادَ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ وَأَمْسَكَ عَلَيْهَا، وَلَا صُنْعَ لِلصَّائِدِ فِيهِ، فَلَا يُنْسَبُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه السلام: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ). وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْكَلُ صَيْدُهُ إِذَا كَانَ أَخْرَجَهُ لِلصَّيْدِ. السَّابِعَةُ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ«عَلَّمْتُمْ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ. وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ مِنْ أَمْرِ الْجَوَارِحِ وَالصَّيْدِ بِهَا. وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ، وَسُمِّيَتْ أَعْضَاءُ الْإِنْسَانِ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا تَكْسِبُ وَتَتَصَرَّفُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا تَجْرَحُ وَتُسِيلُ الدَّمَ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَوْمٍ. وَ«مُكَلِّبِينَ» قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَالْمُكَلِّبُ مُعَلِّمُ الْكِلَابِ وَمُضْرِيهَا «٢». وَيُقَالُ لِمَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَ الْكَلْبِ: مُكَلِّبٌ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ كَالْكَلْبِ، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ. وَيُقَالُ لِلصَّائِدِ: مُكَلِّبٌ فَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ صَائِدِينَ. وَقِيلَ: الْمُكَلِّبُ صَاحِبُ الْكِلَابِ، يُقَالُ: كَلَّبَ فَهُوَ مُكَلِّبٌ وَكَلَّابٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ«مُكْلِبِينَ» بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَمَعْنَاهُ أَصْحَابُ كِلَابٍ، يُقَالُ: أَمْشَى الرَّجُلُ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ، وَأَكْلَبَ كَثُرَتْ
كِلَابُهُ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ «٣»:
وَكُلُّ فَتًى وَإِنْ أَمْشَى فَأَثْرَى ... سَتُخْلِجُهُ عَنِ الدُّنْيَا مَنُونَ


(١). راجع ج ٧ ص ٧٥.
(٢). مولعها بالصيد.
(٣). البيت للنابغة. تخلجه تنتزعه

الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) أَنَّثَ الضَّمِيرَ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْجَوَارِحِ، إِذْ هُوَ جَمْعُ جَارِحَةٍ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطَيْنِ فِي التَّعْلِيمِ وَهُمَا: أَنْ يَأْتَمِرَ إِذَا أُمِرَ «١» وَيَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَ، لَا خِلَافَ فِي هَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فِي الْكِلَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سِبَاعِ الْوُحُوشِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الطَّيْرِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَطٌ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَنْزَجِرَ إِذَا زُجِرَتْ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهَا غَالِبًا، فَيَكْفِي أَنَّهَا إِذَا أُمِرَتْ أَطَاعَتْ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: مَا أَجَابَ مِنْهَا إِذَا دُعِيَ فَهُوَ الْمُعَلَّمُ الضَّارِي، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَيَوَانِ بِطَبْعِهِ يَنْشَلِي «٢». وَقَدْ شَرَطَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعْلِيمِ أَنْ يُمْسِكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي إِذَا أَشْلَاهُ صَاحِبُهُ انْشَلَى، وَإِذَا دَعَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا مِرَارًا وَقَالَ أَهْلُ الْعُرْفِ: صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ الْمُعَلَّمُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَالْكُوفِيِّينَ: إِذَا أُشْلِيَ فَانْشَلَى وَإِذَا أَخَذَ حَبَسَ وَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أُكِلَ صَيْدُهُ فِي الثَّالِثَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ فِي الرَّابِعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا فَعَلَ] ذَلِكَ [«٣» مَرَّةً فَهُوَ مُعَلَّمٌ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ فِي الثَّانِيَةِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أَيْ حَبَسْنَ لَكُمْ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: الْمَعْنَى وَلَمْ يَأْكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ لَمْ يُؤْكَلْ مَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى رَبِّهِ. وَالْفَهْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ كَالْكَلْبِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطُّيُورِ بَلْ يُؤْكَلُ مَا أَكَلَتْ مِنْهُ. وَقَالَ سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عُمَرَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا: الْمَعْنَى وَإِنْ أَكَلَ، فَإِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ كَلْبًا كَانَ أَوْ فَهْدًا أَوْ طَيْرًا أُكِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا بَضْعَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَدِيٍّ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ (وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أمسك على نفسه) أخرجه مسلم. الثاني-


(١). في ك: إذا أرسل.
(٢). يغرى.
(٣). من ج وك.

حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَكُلْ مَا ردت عليك يدك) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ وَلَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ، وَلَمَّا تَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ رَامَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلُوا حَدِيثَ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْوَرَعِ، وَحَدِيثَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَأَفْتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْكَفِّ وَرَعًا، وَأَبَا ثَعْلَبَةَ كَانَ مُحْتَاجًا فَأَفْتَاهُ بِالْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى صحة هذا التأويل قول عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ: (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) هَذَا تَأْوِيلُ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ«الِاسْتِذْكَارِ»: وَقَدْ عَارَضَ حَدِيثَ عَدِيٍّ هَذَا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ نَاسِخٌ لَهُ، فَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَكَلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ أَكَلَ). قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ التَّارِيخَ مَجْهُولٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْأَكْلُ عَنْ فَرْطِ جُوعٍ مِنَ الْكَلْبِ أُكِلَ وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ تَعْلِيمِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنَ السَّلَفِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ وَالْفَهْدُ فَمَنَعُوهُ، وَبَيْنَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي فَأَجَازُوهُ، قال النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا: الْكَلْبُ وَالْفَهْدُ يُمْكِنُ ضَرْبُهُ وَزَجْرُهُ، وَالطَّيْرُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ، وَحَدُّ تَعْلِيمِهِ أَنْ يُدْعَى فَيُجِيبُ، وَأَنْ يُشْلَى فَيَنْشَلِي، لَا يُمْكِنُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ يُؤْذِيهِ. الْعَاشِرَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ العلماء عل أَنَّ الْجَارِحَ إِذَا شَرِبَ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ، قَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ شُرْبُ الدَّمِ بِأَكْلٍ، وَكَرِهَ أَكْلَ ذَلِكَ الصَّيْدِ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ أَنَّ سَبَبَ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ عَقْرُ الْجَارِحِ لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ، وَهِيَ: الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ وَجَدَ الصَّائِدُ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا آخَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنْ صَائِدٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا انْبَعَثَ فِي طَلَبِ الصَّيْدِ بِطَبْعِهِ وَنَفْسِهِ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:

(وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ- فِي رِوَايَةٍ- فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ). فَأَمَّا لَوْ أَرْسَلَهُ صَائِدٌ آخَرُ فَاشْتَرَكَ الْكَلْبَانِ فِيهِ فَإِنَّهُ لِلصَّائِدَيْنِ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ. فَلَوْ أَنْفَذَ أَحَدُ الْكَلْبَيْنِ مَقَاتِلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَهُوَ لِلَّذِي أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ مَا رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَدِيٍّ: (وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك (. وَهَذَا نَصٌّ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- لَوْ مَاتَ الصَّيْدُ فِي أَفْوَاهِ الْكِلَابِ مِنْ غَيْرِ بَضْعٍ لَمْ يُؤْكَلْ، لِأَنَّهُ مَاتَ خَنْقًا فَأَشْبَهَ أَنْ يُذْبَحَ بِسِكِّينٍ كَالَّةٍ فَيَمُوتُ فِي الذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَى حَلْقُهُ. وَلَوْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ مِنَ الْجَوَارِحِ وَذَبْحُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَانَ مُقَصِّرًا فِي الذَّكَاةِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَى ذَبْحِهِ، وَذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ تُخَالِفُ ذَكَاةَ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ السِّكِّينَ، أَوْ تَنَاوَلَهَا وَهِيَ مَعَهُ جَازَ أَكْلُهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ السِّكِّينُ مَعَهُ فَتَشَاغَلَ بِطَلَبِهَا لَمْ تُؤْكَلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ وَلَمْ تُدْمِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا- أَلَّا يُؤْكَلَ حَتَّى يُجْرَحَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«مِنَ الْجَوارِحِ» وهو قول ابن الْقَاسِمِ، وَالْآخَرُ- أَنَّهُ حِلٌّ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، قَالَ أَشْهَبُ: إِنْ مَاتَ مِنْ صَدْمَةِ الْكَلْبِ أُكِلَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ: (فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ) وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ (فَكُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَا لَمْ يُنْتِنْ) يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ عليه السلام: (كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ). فَالْإِصْمَاءُ مَا قُتِلَ مُسْرِعًا وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَالْإِنْمَاءُ أَنْ تَرْمِيَ الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْكَ فَيَمُوتُ وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ، يُقَالُ: قَدْ أَنْمَيْتُ الرَّمِيَّةَ فَنَمَتْ تَنْمِي إِذَا غَابَتْ ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَهْوَ لَا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ ... مَالَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ الْغَائِبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: يُؤْكَلُ، وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ السَّهْمُ أَوِ الْكَلْبُ. الثَّانِي: لا يؤكل شي مِنْ ذَلِكَ إِذَا غَابَ، لِقَوْلِهِ: (كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ).

وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْكَلْ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ غَيْرُ السَّهْمِ مِنَ الْهَوَامِّ. الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْمِ فَيُؤْكَلُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ فَلَا يُؤْكَلُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّهْمَ يَقْتُلُ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُشْكِلُ، وَالْجَارِحُ عَلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُشْكِلُ، وَالثَّلَاثَةُ الْأَقْوَالُ لِعُلَمَائِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ: إِذَا بَاتَ الصَّيْدُ ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُنْفِذِ الْبَازِي أَوِ الْكَلْبُ أَوِ السَّهْمُ مَقَاتِلَهُ لَمْ يَأْكُلْهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ مَقَاتِلَهُ كَانَ حَلَالًا عِنْدَهُ أَكْلُهُ وَإِنْ بَاتَ، إِلَّا أَنَّهُ يَكْرَهُهُ إِذَا بَاتَ، لِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«وَإِنْ غَابَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلَا تَأْكُلْ» وَنَحْوُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِذَا غَابَ عَنْكَ يَوْمًا كَرِهْتُ أَكْلَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ أَلَّا يَأْكُلَهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ مَصْرَعُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ وَجَدَهُ مِنَ الْغَدِ مَيِّتًا وَوَجَدَ فِيهِ سَهْمَهُ أَوْ أَثَرًا مِنْ كَلْبِهِ فَلْيَأْكُلْهُ، وَنَحْوَهُ قَالَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَأَصْبَغُ، قَالُوا: جَائِزٌ أَكْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ بَاتَ إِذَا نَفَذَتْ مَقَاتِلَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: (مَا لَمْ يُنْتِنْ) تَعْلِيلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْتَنَ لَحِقَ بِالْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي تَمُجُّهَا الطِّبَاعُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا، فَلَوْ أَكَلَهَا لَجَازَ، كَمَا أَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْإِهَالَةُ «١» السَّنِخَةُ وَهِيَ الْمُنْتِنَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مُعَلَّلٌ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ عَلَى آكِلِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَكُونُ أَكْلُهُ مُحَرَّمًا إِنْ كَانَ الْخَوْفُ مُحَقَّقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الصَّيْدِ بِكَلْبِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا، فَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَمَّا كَلْبُ الْمَجُوسِيِّ وَبَازُهُ وَصَقْرُهُ فكره الصيد بها جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَأَجَازَ الصَّيْدَ بِكِلَابِهِمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الصَّائِدُ مُسْلِمًا، قَالُوا: وَذَلِكَ مِثْلَ شَفْرَتِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَيْدِهِ غَيْرَ مَالِكٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ ذَبِيحَتِهِ، وَتَلَا:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» «٢»] المائدة: ٩٤]، قَالَ: فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي هَذَا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ: صَيْدُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ حَلَالٌ كَذَبِيحَتِهِ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ صَيْدُ الصَّابِئِ وَلَا ذَبْحُهُ، وَهُمْ قوم بين اليهود والنصارى


(١). روى أن خياطا دَعَا النَّبِيَّ ﷺ إِلَى طعام فقدم إليه إهالة سنخة وخبز شعير. الإهالة: الدسم ما كان، والسنخة المتغيرة الريح.
(٢). راجع ص ٢٩٩ من هذا الجزء.

وَلَا دِينَ لَهُمْ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِدُ مجوسا فَمَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَجُمْهُورُ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَالْآخَرُ: أَنَّ الْمَجُوسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّ صَيْدَهُمْ جَائِزٌ. وَلَوْ اصْطَادَ السَّكْرَانُ أَوْ ذَبَحَ لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ، وَالسَّكْرَانُ لَا قَصْدَ لَهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي«مِنْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» فَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ:«كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ» «١»] الانعام: ١٤١]. وَخَطَّأَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَقَالُوا:«مِنْ» لَا تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَقَوْلُهُ:«مِنْ ثَمَرَةٍ»،«يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» «٢»] البقرة: ٢٧١] و «لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «٣» ١٠»] الأحقاف: ٣١] لِلتَّبْعِيضِ، أَجَابَ فَقَالَ: قَدْ قَالَ:«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «٤»»] نوح: ٤] بِإِسْقَاطِ«مِنْ» فَدَلَّ عَلَى زِيَادَتِهَا فِي الْإِيجَابِ، أُجِيبُ بِأَنَّ«مِنْ» هَاهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ مِنَ الصَّيْدِ اللَّحْمُ دُونَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. قُلْتُ: هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا مَعْهُودٍ فِي الْأَكْلِ فَيُعَكِّرُ عَلَى مَا قَالَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ«مِمَّا أَمْسَكْنَ» أَيْ مِمَّا أَبْقَتْهُ الْجَوَارِحُ لَكُمْ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَوْ أَكَلَ الْكَلْبُ الْفَرِيسَةَ لَمْ يَضُرْ وَبِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَكْلِ الصَّيْدِ إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ وَاقْتِنَائِهَا لِلصَّيْدِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ وَزَادَتِ الْحَرْثَ وَالْمَاشِيَةَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى كَانَ يُقْتَلُ كَلْبُ الْمُرَيَةِ «٥» مِنَ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا، رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ). قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذُكِرَ لِابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَجُعِلَ النَّقْصُ مِنْ أَجْرِ مَنِ اقْتَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين


(١). راجع ج ٧ ص ٩٩.
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٣٢. [.....]
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٩٩ وص ٨٦.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٢٩٩ وص ٨٦.
(٥). المرية: هي مصغر المرأة، والأصل المرئية.

وَتَشْوِيشِهِ عَلَيْهِمْ بِنُبَاحِهِ- كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ نَزَلَ بِعَمَّارٍ فَسَمِعَ لِكِلَابِهِ نُبَاحًا فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نَزَلْنَا بِعَمَّارٍ «١» فَأَشْلَى كِلَابَهُ ... عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ
نُؤْكَلُ فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي أُسِرُّ إِلَيْهِمُ ... أَذَا الْيَوْمُ أَمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُ
أَوْ لِمَنْعِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ الْبَيْتَ، أَوْ لِنَجَاسَتِهِ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ، أَوْ لِاقْتِحَامِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: (قِيرَاطَانِ) وَفِي الْأُخْرَى (قِيرَاطٌ) وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْعَيْنِ مِنَ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنَ الْآخَرِ، كَالْأَسْوَدِ الَّذِي أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حِينَ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا فَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ، فَيَكُونُ مُمْسِكُهُ بِالْمَدِينَةِ مَثَلًا أَوْ بِمَكَّةَ يُنْقَصُ قِيرَاطَانِ، وَبِغَيْرِهِمَا قِيرَاطٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ فَلَا يَنْقُصُ أَجْرُ مُتَّخِذِهِ كَالْفَرَسِ وَالْهِرِّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، حَتَّى قَالَ سَحْنُونٌ: وَيَحُجُّ بِثَمَنِهِ. وَكَلْبُ الْمَاشِيَةِ الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ عِنْدَ مَالِكٍ هُوَ الَّذِي يَسْرَحُ مَعَهَا لَا الَّذِي يَحْفَظُهَا فِي الدَّارِ مِنَ السُّرَّاقِ. وَكَلْبُ الزَّرْعِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْوُحُوشِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا مِنَ السُّرَّاقِ. وَقَدْ أَجَازَ غَيْرُ مَالِكٍ اتِّخَاذُهَا لِسُرَّاقِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ وَالدَّارِ فِي الْبَادِيَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِلْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْكَلْبَ إِذَا عُلِمَ يَكُونُ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْكِلَابِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ لَهُ عِلْمٌ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجهه أنه قال: لكل شي قِيمَةٌ وَقِيمَةُ الْمَرْءِ مَا يُحْسِنُهُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أَمْرٌ بِالتَّسْمِيَةِ، قِيلَ: عِنْدَ الْإِرْسَالِ عَلَى الصَّيْدِ، وَفِقْهُ الصَّيْدِ وَالذَّبْحِ فِي] مَعْنَى [«٢» التَّسْمِيَةِ وَاحِدٌ، يَأْتِي بَيَانُهُ فِي«الْأَنْعَامِ» «٣». وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ هُنَا التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ


(١). البيت لزيادة الأعجم. وعمار اسم شخص، وروى في (اللسان): أتينا أبا عمرو ... إلخ.
(٢). من ج وك وز.
(٣). راجع ج ٧ ص ٧٥.

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: (يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ). وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أن الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِلَّا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الْحَدِيثَ. فَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلَ الْأَكْلِ فليسم آخره، وروى النسائي عن أمية ابن مَخْشِيٍّ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ لُقْمَةٍ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا سَمَّى قَاءَ مَا أَكَلَهُ). التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أَمْرٌ بِالتَّقْوَى عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِشَارَةُ الْقَرِيبَةُ هِيَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْأَوَامِرِ. وَسُرْعَةُ الْحِسَابِ هِيَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعَالَى قَدْ أحاط بكل شي علما وأحصى كل شي عَدَدًا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُحَاوَلَةِ عَدٍّ وَلَا عَقْدٍ كَمَا يَفْعَلُهُ الْحُسَّابُ، وَلِهَذَا قَالَ:«وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» «١»] الأنبياء: ٤٧] فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ حِسَابَ اللَّهِ لَكُمْ سَرِيعٌ إِتْيَانُهُ، إِذْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْحِسَابِ الْمُجَازَاةَ، فَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَ فِي الدُّنْيَا بِمُجَازَاةٍ سَرِيعَةٍ قريبة إن لم يتقوا الله.

[سورة المائدة (٥): آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أَيْ«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» وَ«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» فَأَعَادَ تَأْكِيدًا أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الَّتِي سألتم عنها، وكانت


(١). راجع ج ١١ ص ٢٩٣.

الطَّيِّبَاتُ أُبِيحَتْ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهَذَا جَوَابُ سُؤَالِهِمْ إِذْ قَالُوا: مَاذَا أُحِلَّ لَنَا؟. وَقِيلَ: أَشَارَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ إِلَى وَقْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ أَيَّامُ فُلَانٍ، أَيْ هَذَا أَوَانُ ظُهُورِكُمْ وَشُيُوعِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَكْمَلْتُ بِهَذَا دِينَكُمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ وَالذَّبَائِحُ مِنْهُ، وَهُوَ هُنَا خَاصٌّ بِالذَّبَائِحِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» «١»] الانعام: ١٢١]، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:«وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» يَعْنِي ذَبِيحَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ يَقُولُ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَالْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بِاسْمِ عُزَيْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ عَلَى الْمِلَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلْ مِنْ ذَبِيحَةِ النَّصْرَانِيِّ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ مَا يَقُولُونَ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ: كُلْ مِنْ ذَبِيحَتِهِ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ سَرْجِسَ «٢» - اسْمُ كَنِيسَةٍ لَهُمْ- وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ، وَرُوِيَ عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة ابن الصَّامِتِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ عز وجل فَلَا تَأْكُلْ، وَقَالَ بِهَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ»] الانعام: ١٢١]. وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ. قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الَّذِي حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ ذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَقَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ عَلَى الذَّبِيحَةِ إِلَّا الْإِلَهَ الَّذِي لَيْسَ مَعْبُودًا حَقِيقَةً مِثْلَ الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ، وَلَوْ سَمَّوُا الْإِلَهَ حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَاشْتِرَاطُ التَّسْمِيَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ، وَوُجُودُ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْكَافِرِ وَعَدَمِهَا بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذَا لَمْ تُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْعِبَادَةُ، وَلِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ إِنَّمَا يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ مُطْلَقًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ على أن


(١). راجع ج ٧ ص ٧٤.
(٢). ولعل الصواب: جرجس.

التَّسْمِيَةَ لَا تُشْتَرَطُ أَصْلًا كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَسَيَأْتِي مَا فِي هَذَا لِلْعُلَمَاءِ فِي«الْأَنْعَامِ» «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَالطَّعَامِ الَّذِي لَا مُحَاوَلَةَ فِيهِ كَالْفَاكِهَةِ وَالْبُرِّ جَائِزٌ أَكْلُهُ، إِذْ لَا يَضُرُّ فِيهِ تَمَلُّكُ أَحَدٍ. وَالطَّعَامُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ مُحَاوَلَةٌ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا- مَا فِيهِ مُحَاوَلَةُ صَنْعَةٍ لَا تَعَلُّقَ لِلدِّينِ بِهَا، كَخَبْزِ الدَّقِيقِ، وَعَصْرِ الزَّيْتِ وَنَحْوِهِ، فَهَذَا إِنْ تُجُنِّبَ مِنَ الذِّمِّيِّ فَعَلَى وَجْهِ التَّقَزُّزِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي- هِيَ التَّذْكِيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الدِّينِ وَالنِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ أَلَّا تَجُوزَ ذَبَائِحُهُمْ- كَمَا نَقُولُ إِنَّهُمْ لَا صَلَاةَ لَهُمْ وَلَا عِبَادَةَ مَقْبُولَةٌ- رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَبَائِحِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَخْرَجَهَا النَّصُّ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيمَا ذَكَّوْهُ هَلْ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيمَا حُرِّمَ عليهم أولا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَامِلَةٌ فِي كُلِّ الذَّبِيحَةِ مَا حَلَّ لَهُ مِنْهَا وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُذَكًّى. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا حَلَّ لَنَا مِنْ ذَبِيحَتِهِمْ مَا حَلَّ لَهُمْ، لِأَنَّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِيهِ تَذْكِيَتُهُمْ، فَمَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الطَّرِيفَ «٢»، وَالشُّحُومَ الْمَحْضَةَ مِنْ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَصَرَتْ لَفْظَ الطَّعَامِ عَلَى الْبَعْضِ، وَحَمَلَتْهُ الْأُولَى عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ. وَهَذَا الْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَرِهَ مَالِكٌ شُحُومَ الْيَهُودِ وَأَكْلَ مَا نَحَرُوا مِنَ الْإِبِلِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي«الْأَنْعَامِ» «٣» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ مَالِكٌ رحمه الله يَكْرَهُ مَا ذَبَحُوهُ إِذَا وُجِدَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَسْوَاقٌ يَبِيعُونَ فِيهَا مَا يَذْبَحُونَ، وَهَذَا مِنْهُ رحمه الله تَنَزُّهٌ. الْخَامِسَةُ- وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَالْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ- إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ- عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ لَا تُؤْكَلُ وَلَا يُتَزَوَّجُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. ولا بأس بأكل


(١). ج ٧ ص ٧٥.
(٢). كلمة عبرية، في الخرشي على (مختصر خليل) (الطريقة): هي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة أي ملتصقة بظهر الحيوان، وإنما كانت الطريقة عندهم محرمة لان ذلك علامة على أنها لا تعيش من ذلك فلا تعمل فيها الذكاة عندهم بمنزلة منفوذة المقاتل عندنا.
(٣). ج ٧ ص ١٢٤.

طَعَامِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ كَالْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاةٍ، إِلَّا الْجُبْنَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ «١» الْمَيْتَةِ. فَإِنْ كَانَ أَبُو الصَّبِيِّ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ كِتَابِيَّةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الصَّبِيِّ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مِمَّنْ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ. السَّادِسَةُ- وَأَمَّا ذَبِيحَةُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَذَبَائِحُ كُلِّ دَخِيلٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ يُنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ النَّصَارَى الْمُحَقَّقِينَ مِنْهُمْ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ: إِنَّ ذَبِيحَةَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ حَلَالٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:» وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ«»
] المائدة: ٥١]، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَنُو تَغْلِبَ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ. السَّابِعَةُ- وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّبْخِ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ، مَا لَمْ تَكُنْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ جِلْدَ خِنْزِيرٍ بَعْدَ أَنْ تُغْسَلَ وَتُغْلَى، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَاتِ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَاتِ، فَإِذَا طَبَخُوا فِي تِلْكَ الْقُدُورِ تَنَجَّسَتْ، وَرُبَّمَا سَرَتِ النَّجَاسَاتُ فِي أَجْزَاءِ قُدُورِ الْفَخَّارِ، فَإِذَا طُبِخَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ تُوُقِّعَ مُخَالَطَةُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ النَّجِسَةِ لِلْمَطْبُوخِ فِي الْقِدْرِ ثَانِيَةً، فَاقْتَضَى الْوَرَعُ الْكَفَّ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ غُسِلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَخَّارٍ أُغْلِيَ فِيهِ الْمَاءُ ثُمَّ غُسِلَ- هَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ- وَقَالَهُ مَالِكٌ، فَأَمَّا مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِغَيْرِ الطَّبْخِ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بَيْتٍ نَصْرَانِيٍّ فِي حُقٍّ نَصْرَانِيَّةٍ «٣»، وَهُوَ صَحِيحٌ وَسَيَأْتِي فِي» الْفُرْقَانِ «٤» " بِكَمَالِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ؟؟ الْخُشَنِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِيَ الْمُعَلَّمِ، وَأَصِيدُ بِكَلْبِيَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: (أَمَّا مَا ذكرت


(١). الإنفحة (بكسر الهمزة وفتح الفاء): كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش، يستخرج منه شي لونه أصفر يوضع على اللبن فيتجبن.
(٢). راجع ص ٢١٦ من هذا الجزء. [.....]
(٣). الحق والحقة (بالضم): وعاء من خشب أو عاج.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٤٤.

أَنَّكُمْ بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ تَأْكُلُونَ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا) ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِتَفَاصِيلَ شَرْعِنَا، أَيْ إِذَا اشْتَرَوْا مِنَّا اللَّحْمَ يَحِلُّ لَهُمُ اللَّحْمُ وَيَحِلُّ لَنَا الثَّمَنُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية. قد تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي«الْبَقَرَةِ» «١» وَ«النِّسَاءِ» «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ». هُوَ عَلَى الْعَهْدِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ خَاصًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ نِكَاحُ الذِّمِّيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:«الْمُحْصَناتُ» الْعَفِيفَاتُ الْعَاقِلَاتُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ أَنْ تُحْصِنَ فَرْجَهَا فَلَا تَزْنِي، وَتَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ«وَالْمُحْصِنَاتُ» بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:«الْمُحْصَناتُ» الْحَرَائِرُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» «٣»] النساء: ٢٥] وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُلَّةُ الْعُلَمَاءِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) قِيلَ: لَمَّا قال تعالى:«الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» قَالَ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ دِينَنَا لَمْ يُبِحْ لَكُمْ نِكَاحَنَا، فَنَزَلَتْ«وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ» أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الْبَاءُ صِلَةٌ، أَيْ وَمَنْ يَكْفُرُ الْإِيمَانَ أَيْ يَجْحَدُهُ (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ«فَقَدْ حَبِطَ» بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقِيلَ: لَمَّا ذُكِرَتْ فَرَائِضُ وَأَحْكَامٌ يَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهَا، ذُكِرَ الْوَعِيدُ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَأْكِيدِ الزَّجْرِ عَنْ تَضْيِيعِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَمَعْنَاهَا بِرَبِّ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية، لان


(١). راجع ج ٣ ص ٦٩ وما بعدها.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٢٠.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٢٠.

الْإِيمَانَ مَصْدَرُ آمَنَ يُؤْمِنُ إِيمَانًا، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤْمِنٌ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تعالى كلاما «١».

[سورة المائدة (٥): آية ٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
فيه اثنتان وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ حِينَ فَقَدَتِ الْعِقْدَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَهِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْوُضُوءُ مُتَقَرِّرًا عِنْدَهُمْ مُسْتَعْمَلًا، فَكَانَ الْآيَةُ لَمْ تَزِدْهُمْ فِيهِ إِلَّا تِلَاوَتُهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَتْهُمُ الْفَائِدَةُ وَالرُّخْصَةُ فِي التَّيَمُّمِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي آيَةِ«النِّسَاءِ» «٢» خِلَافَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْآيَةِ دَاخِلٌ فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ مِنْ إِتْمَامِ النِّعَمِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ:«إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» عَلَى أَقْوَالٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذَا لَفْظٌ عَامٌّ فِي كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَائِمُ مُتَطَهِّرًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَفْعَلُهُ وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ «٣» فِي مُسْنَدِهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ الْخُلَفَاءُ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صلاة.


(١). في نسخة ز ما نصه:] وجد في ورقة بخط المصنف من هاهنا إلى آخر الصفحة: قوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). العلماء أي أجر عمله وثوابه لان الكفر وإن وقع والعياذ بالله منه وأحبط ما تقدم من إيمانه ينقلب الوجود منه معدوما من أصله وإنما يحبط أجره ويبطل ثوابه وفي إجماع المسلمين على إثبات الردة ما دل على ثبوت الايمان قبله فبان بهذا أن الكفر إذا طرأ على الايمان قطعه من حيث وجد إلى أن مضى. حبط أجره لا أن عينه تحبط فيصير كأن لم يكن وينقلب الموجود منه حقيقة معدودا وهذا واضح والله أعلم [
(٢). راجع ج ٥ ص ٢١٤.
(٣). الدارمي (بكسر الراء): نسبه إلى دارم، بطن من تميم.

قُلْتُ: فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْخِطَابُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ ﷺ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلُ «١»: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأُمِرَ بِالسِّوَاكِ وَرُفِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ الْفَغْوَاءِ عَنْ أَبِيهِ- وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ دَلِيلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ، وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يَرُدُّ سَلَامًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا هُوَ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمِ ابْنُ عُمَرَ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَلَبًا لِلْفَضْلِ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، إِرَادَةَ الْبَيَانِ لِأُمَّتِهِ ﷺ. قُلْتُ: وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ قَبْلَ وُرُودِ النَّاسِخِ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَا إِيجَابًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَرَدَ، مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ سِيرَتِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْفَرْضَ فِي كُلِّ وُضُوءٍ كَانَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ نُسِخَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذَا غَلَطٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنَّ أُمَّتَهُ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي، وَلِحَدِيثِ سويد ابن النُّعْمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى وَهُوَ بِالصَّهْبَاءِ «٢» الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَنَةُ سَبْعٍ، وَفَتْحُ مَكَّةَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَبَانَ بِهَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْفَتْحِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ «٣» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئًا لم تكن


(١). كذا في الأصول. والغسيل هو حنظلة رضى الله عنه نفر حين سمع الهائعة وهو جنب فاستشهد فغسلته الملائكة.
(٢). الصهباء: موقع قرب خيبر.
(٣). في أسد الغابة: الحصيب بضم المهملة وفتح الصاد.

تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: (عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ). فَلِمَ سَأَلَهُ عُمَرُ وَاسْتَفْهَمَهُ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلَهُ لِمُخَالَفَتِهِ عَادَتَهُ مُنْذُ صَلَاتِهِ بِخَيْبَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ، قَالَ حُمَيْدٌ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَوَضَّأُ وُضُوءًا وَاحِدًا، قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ) فَكَانَ عليه السلام يَتَوَضَّأُ مُجَدِّدًا لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَدْ سَلَّمَ عليه وجل وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ السَّلَامِ وَقَالَ: (إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مَعْنَى الْآيَةِ» إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ«يُرِيدُ مِنَ الْمَضَاجِعِ يَعْنِي النَّوْمَ، وَالْقَصْدُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَعُمَّ الْأَحْدَاثُ بِالذِّكْرِ، وَلَا سِيَّمَا النَّوْمُ الَّذِي هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ هُوَ حَدَثٌ فِي نَفْسِهِ أَمْ لَا؟ وَفِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، أَوْ جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النِّسَاءَ- يَعْنِي الْمُلَامَسَةَ الصُّغْرَى- فَاغْسِلُوا، فَتَمَّتْ أَحْكَامُ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ. ثُمَّ قَالَ:» وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا«فَهَذَا حُكْمُ نَوْعٍ آخَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا:» وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا«] النساء: ٤٣]. وَقَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ- رحمه الله وَغَيْرُهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، بَلْ تَرَتَّبَ فِي الْآيَةِ حُكْمُ وَاجِدِ الْمَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: فَاطَّهَّرُوا» وَدَخَلَتِ الْمُلَامَسَةُ الصُّغْرَى فِي قَوْلِهِ«مُحْدِثِينَ». ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ:«وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا» حُكْمَ عَادِمِ الْمَاءِ مِنَ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، وَكَانَتِ الْمُلَامَسَةُ هِيَ الْجِمَاعَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ الْجُنُبَ الْعَادِمَ الْمَاءَ كَمَا ذَكَرَ الْوَاجِدَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وغيره، وعليه تجئ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ] وَغَيْرِهِمْ [«١». قُلْتُ: وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَعْنَى«إِذا قُمْتُمْ» إِذَا أَرَدْتُمْ، كَمَا قال تعالى:«فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ» «٢»] النحل: ٩٨]، أَيْ إِذَا أَرَدْتَ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلى الصلاة لا يمكن.


(١). من ج وك وز.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٧٤.

الثالثة- قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)] ذَكَرَ تَعَالَى أَرْبَعَةَ أَعْضَاءٍ: الْوَجْهُ وَفَرْضُهُ الْغَسْلُ وَالْيَدَيْنِ كَذَلِكَ وَالرَّأْسُ وَفَرْضُهُ الْمَسْحُ اتِّفَاقًا وَاخْتُلِفَ فِي الرِّجْلَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي، لَمْ يُذْكَرْ سِوَاهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا آدَابٌ وَسُنَنٌ. وَاللَّهُ] أَعْلَمُ [«١» وَلَا بُدَّ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ مِنْ نَقْلِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَإِمْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْغَسْلِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي«النِّسَاءِ» «٢». وَقَالَ غَيْرُنَا: إِنَّمَا عَلَيْهِ إِجْرَاءُ الْمَاءِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلْكٌ بِيَدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا انْغَمَسَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ وَغَمَسَ وَجْهَهُ أَوْ يَدَهُ وَلَمْ يُدَلِّكْ يُقَالُ: غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ حُصُولِ الِاسْمِ، فَإِذَا حَصَلَ كَفَى. وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ، وَهُوَ عُضْوٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَعْضَاءٍ وَلَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، فَحَدُّهُ فِي الطُّولِ مِنْ مُبْتَدَأِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ فِي الْعَرْضِ، وَهَذَا فِي الْأَمْرَدِ، وَأَمَّا الْمُلْتَحِي فَإِذَا اكْتَسَى الذَّقَنُ بِالشَّعْرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَيْثُ تَبِينُ مِنْهُ الْبَشَرَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا فَقَدِ انْتَقَلَ الْفَرْضُ إِلَيْهِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ، ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى الذَّقَنِ مِنَ الشَّعْرِ وَاسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ سَحْنُونٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا سُئِلَ: هَلْ سَمِعْتَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ فَلْيُمِرَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَخْلِيلُهَا فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، وَعَابَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يُحَرِّكُ الْمُتَوَضِّئُ ظَاهِرَ لِحْيَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهَا، قَالَ: وَهِيَ مِثْلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَاجِبٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ وُجُوهٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ، إلا شي رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَوْلَهُ: مَا بَالُ الرَّجُلِ يَغْسِلُ لِحْيَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ فَإِذَا نَبَتَتْ لَمْ يَغْسِلْهَا، وَمَا بَالُ الْأَمْرَدِ يَغْسِلُ ذَقْنَهُ وَلَا يَغْسِلُهُ ذُو اللِّحْيَةِ؟ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: التَّيَمُّمُ وَاجِبٌ فِيهِ مَسْحُ الْبَشَرَةِ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ فِي الْوَجْهِ ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَهُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ. فَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ جَعَلَ غَسْلَ اللِّحْيَةِ كُلِّهَا وَاجِبًا جَعَلَهَا وَجْهًا، لِأَنَّ الْوَجْهَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ، وَاللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ أَمْرًا مُطْلَقًا لَمْ يَخُصَّ صَاحِبَ لِحْيَةٍ مِنْ أَمْرَدَ، فَوَجَبَ غَسْلُهَا بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة.


(١). هذه الزيادة من ك وز. [.....]
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٠٩ وما بعدها.

قُلْتُ: وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَغْسِلُ لِحْيَتَهُ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَعُيِّنَ الْمُحْتَمَلُ بِالْفِعْلِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ عَامِدًا أَعَادَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ غَسْلُ مَا انْسَدَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمَأْمُورَ بِغَسْلِهِ الْبَشَرَةُ، فَوَجَبَ غَسْلُ مَا ظَهَرَ فَوْقَ الْبَشَرَةِ، وَمَا انْسَدَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ تَحْتَهُ مَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ، فَيَكُونُ غَسْلُ اللِّحْيَةِ بَدَلًا مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي غَسْلِ مَا وَرَاءَ الْعِذَارِ إِلَى الْأُذُنِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَيْسَ مَا خَلْفَ الصُّدْغِ الَّذِي مِنْ وَرَاءِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِلَى الذَّقَنِ مِنَ الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْبَيَاضُ بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ مِنَ الْوَجْهِ. وَغَسْلُهُ وَاجِبٌ، وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقِيلَ: يُغْسَلُ الْبَيَاضُ اسْتِحْبَابًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ إِلَّا لِلْأَمْرَدِ لَا لِلْمُعْذِرِ «١». قُلْتُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ تَقَعُ عَلَيْهِ الْمُوَاجَهَةُ أَمْ لَا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ بَاطِنَ الْأَنْفِ وَالْفَمِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، إِلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْشَاقَ فِي وُضُوئِهِ وَلَا يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ الْمَضْمَضَةَ. وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: هُمَا سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، وَالْعَرَبُ لَا تُسَمِّي وَجْهًا إِلَّا مَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي كِتَابِهِ، وَلَا أَوْجَبَهُمَا الْمُسْلِمُونَ، وَلَا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ، وَالْفَرَائِضُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي«النِّسَاءِ» «٢». وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ دَاخِلَ الْعَيْنَيْنِ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ الْمَاءَ فِي عَيْنَيْهِ، وإنما سقط غسلهما للتأذي


(١). عذر الغلام: نبت شعر عذاره.
(٢). راجع ج ٥ ص ٢١٢ وما بعدها.

بِذَلِكَ وَالْحَرَجِ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا عَمِيَ يَغْسِلُ عَيْنَيْهِ إِذْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حُكْمِ الْوَجْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، كَمَا لَا بُدَّ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ عُمُومِ الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِ جُزْءٍ مَعَهُ مِنَ الْوَجْهِ لَا يَتَقَدَّرُ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ:«أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ). قَالَ الْبُخَارِيُّ: فَدَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالْأَحْكَامُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» «١»] الاسراء: ٨٤]، يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ). وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا حَاجَةَ إِلَى نِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: لَا تَجِبُ النِّيَّةُ إِلَّا فِي الْفُرُوضِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ لِأَعْيَانِهَا وَلَمْ تُجْعَلْ سَبَبًا لِغَيْرِهَا، فَأَمَّا مَا كَانَ شَرْطًا لِصِحَّةِ فِعْلٍ آخَرَ فَلَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ بِنَفْسِ وُرُودِ الْأَمْرِ إِلَّا بِدَلَالَةٍ تُقَارِنُهُ، وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ، فَإِنَّ مَنْ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الطَّهَارَةِ، كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ. احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» فَلَمَّا وَجَبَ فِعْلُ الْغَسْلِ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْفِعْلِ، أن الْفَرْضَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ النِّيَّةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَصْدُ إِلَى فِعْلِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي اغْتَسَلَ تَبَرُّدًا أَوْ لِغَرَضٍ مَا، قَصَدَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُكَفِّرُ، فَلَوْ صَحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمَا كَفَّرَ. وَقَالَ تَعَالَى:«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» «٢»] البينة: ٥]. الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَى النَّهْرِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ فِي الطَّرِيقِ] وَلَوْ خَرَجَ إِلَى الْحَمَّامِ فَعَزَبَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ [«٣» بَطَلَتِ النِّيَّةُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رضي الله عنه: فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَةُ الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ لَا يُفَرِّقُ بين الظن واليقين بأنه قال:


(١). راجع ج ١٠ ص ٣٢١.
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٤٤.
(٣). من ج وى وز.

يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ فِيهَا النِّيَّةُ عَلَى التَّكْبِيرِ، وَيَا لَلَّهِ وَيَا لَلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا سَدَّدَهَا!، اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا، وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ! هَلْ هَذَا إِلَّا غَايَةُ الْغَبَاوَةِ؟ وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ فِيهِ لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي التَّحْدِيدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: نَعَمْ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ«إِلَى» إِذَا كَانَ مِنْ نَوْعِ ما قبلها دخل فيه، قاله سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي«الْبَقَرَةِ» «١» مُبَيَّنًا. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ الْمِرْفَقَانِ فِي الْغَسْلِ، وَالرِّوَايَتَانِ مَرْوِيَّتَانِ عَنْ مَالِكٍ، الثَّانِيَةُ لِأَشْهَبَ، وَالْأُولَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرْفِقَيْهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ«إِلَى» بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِمْ: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ «٢»، أَيْ مَعَ الذَّوْدِ، وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي«النِّسَاءِ» «٣»، وَلِأَنَّ الْيَدَ عِنْدَ الْعَرَبِ تَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْكَتِفِ، وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ تَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ إِلَى أَصْلِ الْفَخِذِ، فَالْمِرْفَقُ دَاخِلٌ تَحْتَ اسْمِ الْيَدِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَعَ الْمَرَافِقِ لَمْ يُفِدْ، فَلَمَّا قَالَ:«إِلَى» اقْتَطَعَ مِنْ حَدِّ الْمَرَافِقِ عَنِ الْغَسْلِ، وَبَقِيَتِ الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إِلَى الظُّفْرِ، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا فَهِمَ أَحَدٌ مَقْطَعَ الْمَسْأَلَةِ إِلَّا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ«إِلَى الْمَرافِقِ» حَدٌّ لِلْمَتْرُوكِ مِنَ اليدين لا للمغسول فيه، ولذلك تدخل المرافق في الغسل. قلت: وما كَانَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ تَنْطَلِقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِالْوُضُوءِ إِبْطَهُ وَسَاقَهُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ خَلِيلِي ﷺ يَقُولُ: (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ


(١). راجع ج ٢ ص ٣٢٧.
(٢). هذا مثل معناه: القليل يضم إلى القليل فيصير كثيرا. والذود القطيع من الإبل الثلاث إلى التسع: وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: من ثلاث إلى خمس عشرة، وقيل غير ذلك.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٠.

حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ (. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالنَّاسُ مُجْمِعُونَ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَأَلَّا يَتَعَدَّى بِالْوُضُوءِ حُدُودَهُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:) فَمَنْ زَادَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ (. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مَذْهَبًا لَهُ وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، وَلَمْ يَحْكِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: (أَنْتُمُ الْغُرُّ «١» الْمُحَجَّلُونَ) وَمِنْ قَوْلِهِ: (تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ) كَمَا ذُكِرَ. السابعة- قوله تعالى:«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٢» أَنَّ الْمَسْحَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. وَأَمَّا الرَّأْسُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَعْلَمُهَا النَّاسُ ضَرُورَةً وَمِنْهَا الْوَجْهُ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ عز وجل فِي الْوُضُوءِ وَعَيَّنَ الْوَجْهَ لِلْغَسْلِ بَقِيَ بَاقِيهِ لِلْمَسْحِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْغَسْلَ لَلَزِمَ مَسْحُ جَمِيعِهِ، مَا عَلَيْهِ شَعْرٌ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ، وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ فِي وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الذِي يَتْرُكُ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ تَرَكَ غَسْلَ بَعْضِ وَجْهِهِ أَكَانَ يُجْزِئُهُ؟ وَوَضَحَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ، وَأَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الرَّأْسِ خِلَافًا لِلزُّهْرِيِّ حَيْثُ قَالَ: هُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ، وَخِلَافًا لِلشَّعْبِيِّ، حَيْثُ قَالَ: مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنَ الْوَجْهِ وَظَاهِرُهُمَا مِنَ الرَّأْسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُجَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرَّأْسُ رَأْسًا لِعُلُوِّهِ وَنَبَاتُ الشَّعْرِ فِيهِ، وَمِنْهُ رَأْسُ الْجَبَلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ أَعْضَاءٍ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا احْتَمَلُوا رَأْسِيَ وَفِي الرَّأْسِ أَكْثَرِي ... وَغُودِرَ عِنْدَ الْمُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي
الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيرِ مَسْحِهِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، ثَلَاثَةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَسِتَّةُ أَقْوَالٍ لِعُلَمَائِنَا، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْمِيمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَفَعَلَ مَا يَلْزَمُهُ، وَالْبَاءُ مُؤَكِّدَةٌ زَائِدَةٌ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ: وَالْمَعْنَى وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. وَقِيلَ: دُخُولُهَا حسن كدخولها في التيمم


(١). الغر (جمع الأغر) من الغرة، بياض الوجه: يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة.
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٣٨ وما بعدها.

فِي قَوْلِهِ:«فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ» فَلَوْ كَانَ مَعْنَاهَا التَّبْعِيضُ لَأَفَادَتْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَهَذَا قَاطِعٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا دَخَلَتْ لِتُفِيدَ مَعْنًى بَدِيعًا وَهُوَ أَنَّ الْغَسْلَ لُغَةً يَقْتَضِي مَغْسُولًا بِهِ، وَالْمَسْحَ لُغَةً لَا يَقْتَضِي مَمْسُوحًا بِهِ، فَلَوْ قَالَ: وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ إِمْرَارًا مِنْ غير شي عَلَى الرَّأْسِ، فَدَخَلَتِ الْبَاءُ لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ وَهُوَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمُ الْمَاءَ، وَذَلِكَ فَصِيحٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ، إِمَّا على القلب كما أنشد سيبويه «١»:
كنواح ريش حمامة بخديه ... وَمَسَحْتِ بِاللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الْإِثْمِدِ
وَاللِّثَةُ هِيَ الْمَمْسُوحَةُ بِعَصْفِ الْإِثْمِدِ فَقَلَبَ، وَأَمَّا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر «٢»:
مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أَوْ بلغت سوأتهم هَجَرُ
فَهَذَا مَا لِعُلَمَائِنَا فِي مَعْنَى الْبَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: احْتَمَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» بَعْضَ الرَّأْسِ وَمَسْحَ جَمِيعِهِ فَدَلَّتِ السُّنَّةُ أَنَّ مَسْحَ بَعْضِهِ يُجْزِئُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجلفَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ» فِي التَّيَمُّمِ أَيُجْزِئُ بَعْضُ الْوَجْهِ فِيهِ؟ قِيلَ لَهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْحِ عَلَى جَمِيعِ مَوْضِعِ الْغَسْلِ مِنْهُ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا. أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنْ قَالُوا: لَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ لَا سِيَّمَا وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُ ﷺ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْأَعْذَارِ، وَمَوْضِعُ الِاسْتِعْجَالِ وَالِاخْتِصَارِ، وَحَذْفُ كَثِيرٍ مِنَ الْفَرَائِضِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّاتِ وَالْأَخْطَارِ، ثُمَّ هُوَ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّاصِيَةِ حَتَّى مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَاجِبًا لَمَا مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


(١). البيت لخفاف بن ندبة السلمى، وصف فيه شفتي المرأة، فشبههما بنواحي ريش الحمامة في الرقة واللطافة. الاستدارة، وأراد لثاتها تضرب إلى السمرة كأنها مسحت بالإثمد وعصف الإثمد ما سحق منه.
(٢). البيت للأخطل يهجو جريرا، والقنافذ جمع قنفذ وهو حيوان معروف يضرب به المثل في سرى الليل. والهداج المرتعش في مشيه والمعنى: أن رهط جرير كالقنافذ لمشيهم في الليل للسرقة والفجور.

التَّاسِعَةُ- وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَسْحَةً وَاحِدَةً مُوعِبَةً كَامِلَةً تُجْزِئُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثَلَاثًا، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَمْسَحُ مَرَّتَيْنِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلَاثًا، قَالُوا فِيهَا: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ بِمَسْحِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ يَذْهَبُ بِيَدَيْهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ يَقُولُ: يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ، عَلَى حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ بْنِ عَفْرَاءَ، وَهُوَ حَدِيثٌ يُخْتَلَفُ فِي أَلْفَاظِهِ، وَهُوَ يدور على عبد الله بن محمد ابن عَقِيلٍ وَلَيْسَ بِالْحَافِظِ عِنْدَهُمْ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرُّبَيِّعِ، وَرَوَى ابْنُ عَجْلَانَ عَنْهُ عَنِ الرُّبَيِّعِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ عِنْدَنَا فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ قَرْنِ الشَّعْرِ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ، لَا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ «١» عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَبْدَأُ مِنْ وَسَطِ رَأْسِهِ. وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الباب حديث عبد الله ابن زَيْدٍ، وَكُلُّ مَنْ أَجَازَ بَعْضَ الرَّأْسِ فَإِنَّمَا يَرَى ذَلِكَ الْبَعْضَ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ] أَنَّهُمَا [«٢» قَالَا: أَيُّ نَوَاحِي رَأْسِكَ مَسَحْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ. وَمَسَحَ عُمَرُ الْيَافُوخَ فَقَطْ. وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ مَعًا، وَعَلَى الْإِجْزَاءِ إِنْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى عَمَّ مَا يَرَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مِنَ الرَّأْسِ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ سُفْيَانُ: إِنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ سُنَّةِ الْمَسْحِ وَكَأَنَّهُ لَعِبَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةِ مَرَضٍ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُخْتَلَفَ فِي الْإِجْزَاءِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُجْزِئُ مَسْحُ الرَّأْسِ بأقل من ثلاث أَصَابِعَ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ الْيَدَيْنِ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ- بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَةَ الْأُولَى فَرْضٌ بِالْقُرْآنِ- فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ. وَقِيلَ: هُوَ فَرْضٌ.


(١). في ا: القصة. [.....]
(٢). من ك.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَلَوْ غَسَلَ مُتَوَضِّئٌ رَأْسَهُ بَدَلَ الْمَسْحِ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، إِلَّا مَا أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الشَّاشِيُّ فِي الدَّرْسِ عَنْ أَبِي العباس ابن الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَهَذَا تَوَلُّجٌ فِي مَذْهَبِ الدَّاوُدِيَّةِ الْفَاسِدِ مِنِ اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ الْمُبْطِلِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ فِي قوله:«يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» «١»] الروم: ٧] وقال تعالى:«أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» «٢»] الرعد: ٣٣] وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِلُ بِمَا أُمِرَ وَزِيَادَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ زِيَادَةٌ خَرَجَتْ عَنِ اللَّفْظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ، قُلْنَا: وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَاهُ فِي إِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَلَقَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَسْحِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْأُذُنَانِ فهما الرَّأْسِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَسْتَأْنِفُ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا سِوَى الْمَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ الرَّأْسَ، عَلَى مَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ، وَقَالَ: هُمَا سُنَّةٌ عَلَى حَالِهِمَا لَا مِنَ الْوَجْهِ وَلَا مِنَ الرَّأْسِ، لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْلِقُ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الشَّعْرِ فِي الْحَجِّ، وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي هَذَا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ دَاوُدُ: إِنْ مَسَحَ أذنيه فحسن، وإلا فلا شي عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَتَا مَذْكُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ. قِيلَ لَهُ: اسْمُ الرَّأْسِ تَضَمَّنَهُمَا كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَأَبِيٍ دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي صِمَاخَيْهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَدَمُ ذِكْرِهِمَا مِنَ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِفَرْضٍ كَغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَثَبَتَتْ سُنَّةُ مَسْحِهِمَا بِالسُّنَّةِ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ لِلْمُتَوَضِّئِ تَرْكَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُ تَارِكَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ إِعَادَةً إِلَّا إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ تَرَكَ مَسْحَ أُذُنَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ تَرَكَهُمَا عَمْدًا أَحْبَبْتُ أَنْ يعيد. وروي عن علي ابن زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَوِ الصَّلَاةِ عَامِدًا أَعَادَ، وَهَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ لِقَائِلِهِ سَلَفٌ وَلَا لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، ولو كان كذلك لم يعرف


(١). راجع ج ١٤ ص ٧.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٢١.

الْفَرْضُ الْوَاجِبُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ: هُمَا مِنَ الْوَجْهِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: (سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ) فَأَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حُكْمُ الْوَجْهِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: فَغَسَلَ بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُونَ عَنِ الْوُضُوءِ؟ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ: يُغْسَلُ ظاهرهما مع الوجه، وباطنها يُمْسَحُ مَعَ الرَّأْسِ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَأَمَرَ بِمَسْحِ الرَّأْسِ، فَمَا وَاجَهَكَ مِنَ الْأُذُنَيْنِ وَجَبَ غَسْلُهُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ وَمَا لَمْ يُوَاجِهْكَ وَجَبَ مَسْحُهُ لِأَنَّهُ مِنَ الرَّأْسِ، وَهَذَا تَرُدُّهُ الْآثَارُ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَمْسَحُ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ وَبَاطِنَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالرُّبَيِّعِ وَغَيْرِهِمْ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ: هُمَا مِنَ الرَّأْسِ بِقَوْلِهِ ﷺ مِنْ حَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ: (فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج أُذُنَيْهِ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَرْجُلَكُمْ» قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ«وَأَرْجُلَكُمْ» بِالنَّصْبِ، وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ نافع أنه قسرأ«وَأَرْجُلُكُمْ» بِالرَّفْعِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ«وَأَرْجُلِكُمْ» بِالْخَفْضِ وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، فمن قرأ بالنصب جعل العامل«فَاغْسِلُوا» وَبَنَى عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرِّجْلَيْنِ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْكَافَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الثَّابِتُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَاللَّازِمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، وَقَدْ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ (وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ). ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَدَّهُمَا فَقَالَ:«إِلَى الْكَعْبَيْنِ» كَمَا قَالَ فِي الْيَدَيْنِ«إِلَى الْمَرافِقِ» فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ جَعَلَ الْعَامِلَ الْبَاءَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اتَّفَقَتِ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا، وَمَا عَلِمْتُ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ سِوَى الطَّبَرِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالرَّافِضَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَتَعَلَّقَ الطَّبَرِيُّ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ.

قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ بِالْأَهْوَازِ فَذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، فإنه ليس شي مِنِ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ مِنْ خَبَثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ، فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا وَعَرَاقِيبَهُمَا. فَسَمِعَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الحجاج، قال الله وتعالى«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ». قَالَ: وَكَانَ إِذَا مَسَحَ رِجْلَيْهِ بَلَّهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّةُ بِالْغَسْلِ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَمْسَحُ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: لَيْسَ فِي الرِّجْلَيْنِ غَسْلٌ إِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمَا الْمَسْحُ. وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يُمْسَحُ فِيهِ مَا كَانَ غُسْلًا، وَيُلْغَى مَا كَانَ مَسْحًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ. وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَرْضَهُمَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ»
، قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، أَنَّ الْمَسْحَ وَالْغَسْلَ وَاجِبَانِ جَمِيعًا، فَالْمَسْحُ وَاجِبٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ، وَالْغَسْلُ وَاجِبٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَالْقِرَاءَتَانِ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْكَسْرِ إِلَى أَنَّ الْمَسْحَ فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْغَسْلُ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ مُشْتَرَكٌ، يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَسْحِ وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَخْبَرَنَا الْأَزْهَرِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدَّارِيُّ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: الْمَسْحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَكُونُ غَسْلًا وَيَكُونُ مَسْحًا، وَمِنْهُ يُقَالُ:] لِلرَّجُلِ [«٢» إِذَا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ أَعْضَاءَهُ: قَدْ تَمَسَّحَ، وَيُقَالُ: مَسَحَ اللَّهُ مَا بِكَ إِذَا غَسَلَكَ وَطَهَّرَكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّقْلِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ الْمَسْحَ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ فَتَرَجَّحَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ الْغَسْلُ، بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا، وَبِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ بِالْغَسْلِ، وَالتَّوَعُّدِ عَلَى تَرْكِ غَسْلِهَا فِي أَخْبَارٍ صِحَاحٍ لَا تُحْصَى كَثْرَةً أَخْرَجَهَا الْأَئِمَّةُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَسْحَ فِي الرَّأْسِ إِنَّمَا دَخَلَ بَيْنَ مَا يُغْسَلُ لِبَيَانِ التَّرْتِيبِ عَلَى] أَنَّهُ [«٣» مَفْعُولٌ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ، التَّقْدِيرُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، فَلَمَّا كان الرأس مفعولا قبل


(١). كالروايتين في الخبر، يعمل بهما إذا لم يتناقضا. ابن العربي.
(٢). من ك وج.
(٣). من ج وز وك.

الرِّجْلَيْنِ قُدِّمَ عَلَيْهِمَا فِي التِّلَاوَةِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَا أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانَ مَعَ الرَّأْسِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَةِ التَّطْهِيرِ. وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- عَلَيَّ (وَأَرْجُلِكُمْ) فَسَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ: (وَأَرْجُلَكُمْ) هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: اغْسِلُوا الْأَقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مسعود وابن عباس أنهما قرءا (وَأَرْجُلَكُمْ) بِالنَّصْبِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْخَفْضَ فِي الرِّجْلَيْنِ إِنَّمَا جَاءَ مُقَيَّدًا لِمَسْحِهِمَا لَكِنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِمَا خُفَّانِ، وَتَلَقَّيْنَا هَذَا الْقَيْدَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ لَمْ يَصِحْ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ رِجْلَيْهِ إِلَّا وَعَلَيْهِمَا خُفَّانِ، فَبَيَّنَ ﷺ بِفِعْلِهِ الْحَالَ الَّتِي تُغْسَلُ فِيهِ الرِّجْلُ وَالْحَالَ الَّتِي تُمْسَحُ فِيهِ، وَهَذَا حَسَنٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخٌ بِسُورَةِ (الْمَائِدَةِ) - وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَدَّ الْمَسْحَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ، وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ] فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ [«١» - فَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا وَأَثْبَتَهُ غَيْرُهُ فَلَا حُجَّةَ لِلنَّافِي، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُمْ مَسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ (الْمَائِدَةِ) وَهَذَا نَصٌّ يَرُدُّ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ رِوَايَةِ الواقدي عن عبد الحميد ابن جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَرِيرًا أَسْلَمَ فِي سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ (الْمَائِدَةَ) نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ عَرَفَاتٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ لِوَهَاهُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ مِنْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَا أَسْتَحْسِنُ حَدِيثَ جَرِيرٍ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ (الْمَائِدَةِ) وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَلَا يَصِحُّ، أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا بِذَلِكَ عِلْمٌ، وَلِذَلِكَ رَدَّتِ السَّائِلَ إِلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَحَالَتْهُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: سَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الحديث.


(١). من ك.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مُنْكَرٌ لَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لِابْنِ نَافِعٍ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ آخُذَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِي بِالطُّهُورِ وَلَا أَرَى من مسح مقصرا فيما بجب عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا حَمَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْسَحُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ. قَالَ أَحْمَدُ: كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا خِفَافَهُمْ وَخَلَعَ هُوَ وَتَوَضَّأَ وَقَالَ: حُبِّبَ إِلَيَّ الْوُضُوءُ، وَنَحْوَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَقَالَ أَحْمَدُ رضي الله عنه: فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا تَرَكَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَمَالِكٌ لَمْ أُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ وَلَمْ نَعِبْهُ، إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ وَلَا يَرَاهُ كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الْبِدَعِ، فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ.] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«١» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ«وَأَرْجُلَكُمْ» مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْغَسْلِ فَإِنَّ الْمُرَاعَى الْمَعْنَى لَا اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا خُفِضَ لِلْجِوَارِ كَمَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ» «٢»] الرحمن: ٣٥] بِالْجَرِّ لِأَنَّ النُّحَاسَ الدُّخَانُ. وَقَالَ:«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «٣»] البروج: ٢٢ - ٢١] بالجر. قال امرؤ القيس:
كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ «٤»

فَخَفَضَ مُزَمَّلَ بِالْجِوَارِ، وَإِنَّ الْمُزَّمِّلَ الرَّجُلُ وَإِعْرَابُهُ الرَّفْعُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا ... بَعْدِي سَوَافِي «٥» الْمُورِ وَالْقَطْرِ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ الْوَجْهُ الْقَطْرُ بِالرَّفْعِ وَلَكِنَّهُ جَرَّهُ عَلَى جِوَارِ الْمُورِ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، فَجَرُّوهُ وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَرَدَّهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ غَلَطٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ الْجِوَارَ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ وَنَظِيرُهُ الْإِقْوَاءُ. قُلْتُ: وَالْقَاطِعُ فِي الْبَابِ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ الْغَسْلُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام (وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ) فَخَوَّفَنَا بِذِكْرِ النار «٦» على


(١). من ك.
(٢). قراءة ابن كثير. راجع ج ١٧ ص ١٦٨.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢٩٦.
(٤). صدر البيت:
كان أبانا في أفانين دقه

والبجاد الكساء المخطط، والمزمل المدثر في الثياب. والمعنى أن ما ألبسه الخبل من المطر، وأحاط به إلى رأسه كشيخ في كساء مخطط.
(٥). السوافي جمع سافية وهي الريح الشديدة التي تسفى التراب أي تطيره، والمور التراب.
(٦). كذا في ج وز وك. وهي رواية أحمد.

مُخَالَفَةِ مُرَادِ اللَّهِ عز وجل، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ لَا يُعَذَّبُ بِهَا إِلَّا مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْحَ لَيْسَ شَأْنَهُ الِاسْتِيعَابُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ظُهُورِهِمَا لَا عَلَى بُطُونِهِمَا، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ، إِذْ لَا مَدْخَلَ لِمَسْحِ بُطُونِهِمَا عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ يُدْرَكُ بِالْغَسْلِ لَا بِالْمَسْحِ. وَدَلِيلٌ آخر من وجهة الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ غَسَلَ قَدَمَيْهِ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَسَحَ قَدَمَيْهِ، فَالْيَقِينُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ دُونَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَنَقَلَ الْجُمْهُورُ كَافَّةً عَنْ كَافَّةٍ عَنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ مَرَّةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا حَتَّى يُنْقِّيَهُمَا، وَحَسْبُكَ بِهَذَا حُجَّةٌ فِي الْغَسْلِ مَعَ مَا بَيَّنَّاهُ، فَقَدْ وَضَحَ وَظَهَرَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ الْمَعْنِيُّ فِيهَا الْغَسْلُ لَا الْمَسْحُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّ الْعَامِلَ فِي قَوْلِهِ«وَأَرْجُلَكُمْ» قَوْلَهُ:«فَاغْسِلُوا» وَالْعَرَبُ قَدْ تَعْطِفُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ بِفِعْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا تَقُولُ: أَكَلْتُ الْخُبْزَ وَاللَّبَنَ أَيْ وَشَرِبْتُ اللَّبَنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا «١»

وَقَالَ آخَرُ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى «٢» ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَقَالَ آخَرُ «٣»:
وَأَطْفَلَتْ ... بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
شَرَّابُ أَلْبَانٍ وَتَمْرٍ وَأَقِطٍ

التَّقْدِيرُ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا مَاءً. وَمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا. وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَفَرَّخَتْ نَعَامُهَا، وَالنَّعَامُ لَا يَطْفُلُ إِنَّمَا يُفْرِخُ. وَأَطْفَلَتْ كان لها أطفال، والجلهتان


(١). رجز مشهور لم يعرف قائله وعجز البيت (حتى شتت همالة عيناها) وبعضهم أورد لها صدرا وجعل المذكور هكذا:
لما حططت الرجل عنها واردا ... علفتها تبنا وماء باردا

[.....]
(٢). كذا بالأصول، وروى في (خزانة الأدب) و(كتاب سيبويه):
يا ليت زوجك قد غدا

... إلخ
(٣). البيت للبيد ورواه (اللسان) في باب (جلة) و(طفل) هكذا:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها

جَنْبَتَا الْوَادِي. وَشَرَّابُ أَلْبَانٍ وَآكِلُ تَمْرٍ، فَيَكُونُ قوله:«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» عَطْفٌ بِالْغَسْلِ عَلَى الْمَسْحِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَالْمُرَادُ الْغَسْلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِلَى الْكَعْبَيْنِ» رَوَى الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي موسى قال أنبأنا وهيب عن عمروهو ابْنُ يَحْيَى- عَنْ أَبِيهِ قَالَ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ ﷺ فَدَعَا بِتَوْرٍ «١» مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنَ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ثَلَاثًا «٢»، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ على أن الباء في قوله«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» زَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ: فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْسِهِ، وَأَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَبَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَعْبَيْنِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي جَنْبَيْ الرِّجْلِ. وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلَ النَّاسِ: إِنَّ الْكَعْبَ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ، قَالَهُ فِي (الصِّحَاحِ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا جَعَلَ حَدَّ الْوُضُوءِ إِلَى هَذَا، وَلَكِنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي التَّلْقِينِ جَاءَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظٍ فِيهِ تَخْلِيطٌ وَإِيهَامٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ فِي مَجْمَعِ مَفْصِلِ السَّاقِ، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: الْكَعْبَانِ اللَّذَانِ يَجِبُ الْوُضُوءُ إِلَيْهِمَا هُمَا الْعَظْمَانِ الْمُلْتَصِقَانِ بِالسَّاقِ الْمُحَاذِيَانِ لِلْعَقِبِ، وَلَيْسَ] الْكَعْبُ [«٣» بِالظَّاهِرِ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لُغَةً وَسُنَّةً فَإِنَّ الْكَعْبَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ، وَكَعَبَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَلَّكَ ثَدْيُهَا، وَكَعْبُ الْقَنَاةِ أنبوبها، وأنبوب ما بين كل عقدتين


(١). التور إناء يشرب فيه، أو طست أو قدح أو مثل القدر من صفر أو حجارة.
(٢). الذي في صحيح البخاري: ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين.
(٣). الزيادة عن ابن عطية.

كَعْبٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرَفِ وَالْمَجْدِ تَشْبِيهًا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «١». (وَاللَّهِ لَا يَزَالُ كَعْبُكَ عَالِيًا). وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ ﷺ فيما رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْصِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتَهِ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهِ بِكَعْبِهِ. وَالْعَقِبُ هُوَ مُؤَخَّرُ الرِّجْلِ تَحْتَ الْعُرْقُوبِ، وَالْعُرْقُوبُ هُوَ مَجْمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ) يَعْنِي إِذَا لَمْ تُغْسَلْ، كَمَا قَالَ: (وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ). الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَلَا فِي الْغُسْلِ، وَلَا خَيْرَ فِي الْجَفَاءِ وَالْغُلُوِّ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: مَنْ لم يخلل أصابع رجليه فلا شي عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ تَوَضَّأَ عَلَى نَهَرٍ فَحَرَّكَ رِجْلَيْهِ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُمَا بِيَدَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ قَدَرَ عَلَى غَسْلِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى أَجْزَأَهُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِيهِمَا إِلَّا غَسْلُ مَا بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الرِّجْلِ إِذْ ذَلِكَ مِنَ الرِّجْلِ، كَمَا أَنَّ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدِ مِنَ الْيَدِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِانْفِرَاجِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَانْضِمَامِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الرِّجْلِ جَمِيعِهَا كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الْيَدِ جَمِيعِهِا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَدْلُكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ، مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رحمه الله فِي آخِرِ عُمْرِهِ يَدْلُكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ أَوْ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ لِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ «٢» عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ فَيُخَلِّلُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، فَقَالَ لِي مَالِكٌ: إِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ، وَمَا سَمِعْتُهُ قَطُّ إِلَّا السَّاعَةَ، قال ابن وهب: وسمعته سئل


(١). هو حديث (قيلة) بنت مخرمة العنبرية، هاجرت إلى النبي ﷺ مع حريث بن حسان تريد الصحبة. راجع (الإصابة في تمييز الصحابة.
(٢). بضم المهملة والموحدة.

بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ فَأَمَرَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تُخَلِّلُهَا النَّارُ) وَهَذَا نَصٌّ فِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ التَّخْلِيلِ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- أَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ، وَهِيَ إِتْبَاعُ الْمُتَوَضِّئِ الْفِعْلَ الْفِعْلَ إِلَى آخِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ، وَلَا فَصْلَ بِفِعْلٍ لَيْسَ مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ وَهْبٍ: ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ فِي الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُجْزِئُهُ نَاسِيًا وَمُتَعَمِّدًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي«الْمُدَوَّنَةِ» وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ: إِنَّ الْمُوَالَاةَ سَاقِطَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ فَرَّقَهُ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ وَيُجْزِئُهُ نَاسِيًا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ: يُجْزِئُهُ فِي الْمَغْسُولِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي الْمَمْسُوحِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ ابْتُنِيَتْ «١» عَلَى أَصْلَيْنِ: الْأَوَّلُ- أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَمَرَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَوَالِ أَوْ فَرِّقْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وُجُودُ الْغَسْلِ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي- أَنَّهَا عِبَادَاتٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَوَجَبَ فِيهَا التَّوَالِي كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَتَتَضَمَّنُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ أَيْضًا التَّرْتِيبَ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ، فَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّنْكِيسَ لِلنَّاسِي يُجْزِئُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْعَامِدِ فَقِيلَ: يُجْزِئُ وَيُرَتِّبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ عَابِثٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُصْعَبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٍ مَعَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ قَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ عَلَى تَرْتِيبِ الْآيَةِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِمَا صَلَّى بِذَلِكَ الْوُضُوءِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَأَشْهَرِهَا أَنَّ«الْوَاوَ» لَا تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَلَا تُعْطِي رُتْبَةً، وَبِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْمُزَنِيِّ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ» يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ فَرَّقَ أَوْ جَمَعَ أَوْ وَالَى عَلَى مَا هو الصحيح من مذهب الشافعي،


(١). في ج وز: أثبتت.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ «١». قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَسْتَحِبُّ لَهُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ عَلَى النَّسَقِ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَكَانَهُ أَعَادَ غَسْلَ ذِرَاعَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى صَلَّى أَعَادَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، قَالَ عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَيُعِيدُ الْوُضُوءَ لِمَا يُسْتَأْنَفُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ«الْفَاءَ» تُوجِبُ التَّعْقِيبَ فِي قَوْلِهِ:«فَاغْسِلُوا» فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ جَوَابًا لِلشَّرْطِ رَبَطَتِ الْمَشْرُوطَ بِهِ، فَاقْتَضَتِ التَّرْتِيبَ فِي الْجَمِيعِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَتِ الْبُدَاءَةَ فِي الْوَجْهِ إِذْ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ، وَإِنَّمَا كُنْتَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْجَمِيعِ لَوْ كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعْنًى وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَتْ جُمَلًا كُلُّهَا جَوَابًا لَمْ تُبَالِ بِأَيِّهَا بَدَأْتَ، إِذِ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُهَا. قِيلَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ الْوَاوِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّكَ تَقُولُ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَتَخَاصَمَ بَكْرٌ وَخَالِدٌ، فَدُخُولُهَا فِي بَابِ الْمُفَاعَلَةِ يُخْرِجُهَا عَنِ التَّرْتِيبِ. وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ مُتَلَقًّى مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ- أَنْ يَبْدَأَ بِمَا بَدَأَ الله به كم قَالَ عليه الصلاة والسلام حِينَ حَجَّ: (نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ). الثَّانِي- مِنْ إِجْمَاعِ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرَتِّبُونَ. الثَّالِثُ- مِنْ تَشْبِيهِ الْوُضُوءِ بِالصَّلَاةِ. الرَّابِعُ- مِنْ مُوَاظَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ. احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْجَنَابَةِ، فَكَذَلِكَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْغَسْلُ لَا التَّبْدِيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أُبَالِي إِذَا أَتْمَمْتُ وُضُوئِي بِأَيِ أَعْضَائِي بَدَأْتُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلَيْكَ قَبْلَ يَدَيْكَ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَا يَثْبُتُ، وَالْأَوْلَى وُجُوبُ التَّرْتِيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- إِذَا كَانَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْوُضُوءِ فَوَاتُ الْوَقْتِ لَمْ يَتَيَمَّمْ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمَالِكٌ يُجَوِّزُ التَّيَمُّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْأَصْلِ لِحِفْظِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ. احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا» وَهَذَا وَاجِدٌ، فَقَدْ عَدِمَ شَرْطَ صِحَّةِ التيمم فلا يتيمم.


(١). في ز: علمائنا.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لأنه قال:«إذ قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ» وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِنْجَاءَ وَذَكَرَ الْوُضُوءَ، فَلَوْ كَانَتْ إِزَالَتُهَا وَاجِبَةً لَكَانَتْ أَوَّلَ مَبْدُوءٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إِزَالَتُهَا وَاجِبَةٌ فِي الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تَجِبُ إِزَالَتُهَا مَعَ الذِّكْرِ، وَتَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ إِذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ «١» - يُرِيدُ الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الْمِثْقَالِ- قِيَاسًا عَلَى فَمِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ. وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي صَاحِبَيِ الْقَبْرَيْنِ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ بَوْلِهِ) وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إِنَّمَا بَيَّنَ مِنْ آيَةِ الْوُضُوءِ صِفَةَ الْوُضُوءِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا غَيْرِهَا. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَمَا بينا، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنْكَرَةٌ وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّانِيَةُ- يَمْسَحُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ بِالْمَسْحِ إِنَّمَا هِيَ فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثُ السُّبَاطَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ «٢» حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ- زَادَ فِي رِوَايَةٍ- فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً،- وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ- يَمْسَحُ حضرا وسفرا، وقد تقدم ذكرها.


(١). ذكر الدميري ضربا من النقود يقال لها البغلية، قال: إن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية.
(٢). السباطة الموضع الذي يرمى فيه التراب وما يكنس من المنازل، وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص لا ملك، لأنها كانت مواتا مباحة.

الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَيَمْسَحُ الْمُسَافِرُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدِنَا فِي ذَلِكَ وَقْتٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: (يَوْمًا) قَالَ: وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: (وَيَوْمَيْنِ) قَالَ: وَثَلَاثَةَ] أيام [؟ «١» قال: (نعم وما شئت) في رِوَايَةٍ (نَعَمْ وَمَا بَدَا لَكَ). قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنُّعْمَانُ وَالطَّبَرِيُّ: يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى حَدِيثِ شُرَيْحٍ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، وَرُوِيَ عن مالك في رسالته إلى هرون أَوْ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ، وَأَنْكَرَهَا «٢» أَصْحَابُهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَالْمَسْحُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لِمَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى وضوء، لحديث المغيرة ابن شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ- الْحَدِيثَ- وَفِيهِ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: (دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. وَرَأَى أَصْبَغُ أَنَّ هَذِهِ طَهَارَةُ التَّيَمُّمِ، وَهَذَا بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ. وَشَذَّ دَاوُدُ فقال: المراد بالطهارة ها هنا هِيَ الطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَسِ فَقَطْ، فَإِذَا كَانَتْ رِجْلَاهُ طَاهِرَتَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ الطَّهَارَةِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَرْقٌ يَسِيرٌ: قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ مِنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَمِنْ لُبْسِهِ، وَيَكُونُ مِثْلُهُ يُمْشَى فِيهِ. وَبِمِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا قَالَ اللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ إِجَازَةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ جُمْلَةً. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الْقَدَمِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ مَا ظَهَرَ مِنَ الرِّجْلِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ أصابع مسح، ولا يمسح ذا ظَهَرَ ثَلَاثٌ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَخْفَافَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت


(١). الزيادة عن أبي داود.
(٢). في ج وز وك: أنكره.

لَا تَسْلَمُ مِنَ الْخَرْقِ الْيَسِيرِ، وَذَلِكَ مُتَجَاوَزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ إِذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مُقَدَّمِ الرِّجْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ إِذَا كَانَ مَا ظَهَرَ منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شي مِنَ الْقَدَمِ لَمْ يَمْسَحْ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ: الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أن رسول الله ﷺ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَّصِلِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ] وَأَبُو [«١» مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. قُلْتُ: وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ فَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ «٢» قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ فَوَسَّعَ ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ لَرَأَيْتُ أَنَّ بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ رحمه الله: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بقوله تعالى:«فامسحوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ». قُلْتُ: وَقَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه لَرَأَيْتُ أَنَّ بَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا مِثْلُهُ قَالَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ على ظاهر خفيه. قال


(١). التصويب عن (كتاب) أبي داود. وفي الأصل (ابن مسعود). [.....]
(٢). كان اسمه (عبد شر) فغيره النبي ﷺ (الإصابة).

مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَنْ مَسَحَ ظُهُورَ خُفَّيْهِ دُونَ بُطُونِهِمَا: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَمَنْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِ الْخُفَّيْنِ دُونَ ظَاهِرِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ جَمِيعُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَّا شي رُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ قَالَ: بَاطِنُ الْخُفَّيْنِ وَظَاهِرُهُمَا سَوَاءٌ، وَمَنْ مَسَحَ بَاطِنَهُمَا دُونَ ظَاهِرِهِمَا لَمْ يُعِدْ إِلَّا فِي الْوَقْتِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُجْزِئُهُ مَسْحُ بُطُونِهِمَا دُونَ ظُهُورِهِمَا، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَنْ مَسَحَ بُطُونَهُمَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا لَمْ يُجْزِهِ وَلَيْسَ بِمَاسِحٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يَمْسَحُ ظَاهِرَيِ الْخُفَّيْنِ دُونَ بَاطِنِهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا مَسْحُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ شِهَابٍ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: وَضَّأْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَمَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رُوِيَ أَنَّ ثَوْرًا لَمْ يَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَقَدْ مَسَحَ عَلَيْهِمَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ- يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ مَكَانَهُ وَإِنْ أَخَّرَ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ، قَالَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَلَمْ يَذْكُرُوا مَكَانَهُ. الثَّانِي- يَسْتَأْنِفُ الْوُضُوءَ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَرُوِيَ عن الأوزاعي والنخعي. الثالث- ليس عليه شي وَيُصَلِّي كَمَا هُوَ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رضي الله عنهم. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) وَقَدْ مَضَى فِي» النِّسَاءِ««١» مَعْنَى الْجُنُبِ. وَ» اطَّهَّرُوا«أَمْرٌ بِالِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ، وَلِذَلِكَ رَأَى عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ الْبَتَّةَ بَلْ يَدَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ: بَلْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ لِوَاجِدِ الْمَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَ الْجُنُبُ بَعْدُ فِي أحكام عادم الماء بقوله:» أو لامستم


(١). راجع ج ٥ ص ٢٠٤.

النِّسَاءَ» وَالْمُلَامَسَةُ هُنَا الْجِمَاعُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عمرو ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَنَّ الْجُنُبَ يَتَيَمَّمُ. وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ: (يَا فُلَانٌ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ) فَقَالَ: يا رسول الله أصابتني جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «١» مُسْتَوْفًى، وَنَزِيدُ هُنَا مَسْأَلَةً أُصُولِيَّةً أَغْفَلْنَاهَا هُنَاكَ، وَهِيَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَإِنَّ الْغَائِطَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَحْدَاثِ الْخَارِجَةِ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي«النِّسَاءِ» فَهُوَ عَامٌّ، غَيْرَ أَنَّ جُلَّ عُلَمَائِنَا خَصَّصُوا ذَلِكَ بِالْأَحْدَاثِ الْمُعْتَادَةِ الْخَارِجَةِ. عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، فَلَوْ خَرَجَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ، أَوْ خَرَجَ الْمُعْتَادُ عَلَى وجه السلس والمرض لم يكن شي مِنْ ذَلِكَ نَاقِضًا. وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مَهْمَا تَقَرَّرَ لِمَدْلُولِهِ عُرْفٌ غَالِبٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، سَبَقَ ذَلِكَ الْغَالِبُ لِفَهْمِ السَّامِعِ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ، وَصَارَ غَيْرُهُ مِمَّا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ بَعِيدًا عَنِ الذِّهْنِ، فَصَارَ غَيْرَ مَدْلُولٍ لَهُ، وَصَارَ الْحَالُ فِيهِ كَالْحَالِ فِي الدَّابَّةِ، فَإِنَّهَا إِذَا أُطْلِقَتْ سَبَقَ مِنْهَا الذِّهْنُ إِلَى ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَلَمْ تَخْطُرِ النَّمْلَةُ بِبَالِ السَّامِعِ فَصَارَتْ غَيْرَ مُرَادَةٍ وَلَا مَدْلُولَةٍ لِذَلِكَ اللَّفْظِ ظاهرا. والمخالف يقول: لا يلزم من أسبقية الْغَالِبِ أَنْ يَكُونَ النَّادِرُ غَيْرَ مُرَادٍ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لَهُمَا وَاحِدٌ وَضْعًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شُعُورِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِمَا قَصْدًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَتَتِمَّتُهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) رَوَى عُبَيْدَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقُبْلَةُ مِنَ اللَّمْسِ، وَكُلُّ مَا دُونَ الْجِمَاعِ لَمْسٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي قَوْلِهِ:«وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا». وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: اللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَالْغِشْيَانُ الْجِمَاعُ، ولكنه عز وجل يكني. وقال


(١). راجع ج ٥ ص ٢١٢.

مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ عز وجلوَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا» «١»] الفرقان: ٧٢] قَالَ: إِذَا ذَكَرُوا النِّكَاحَ كَنَّوْا عَنْهُ، وَقَدْ مَضَى فِي«النِّسَاءِ» «٢» الْقَوْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) قَدْ تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٣» أَنَّ عَدَمَهُ يَتَرَتَّبُ لِلصَّحِيحِ الْحَاضِرِ بِأَنْ يُسْجَنَ أَوْ يُرْبَطَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَخَشِيَ خُرُوجَ الْوَقْتِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي ولا شي عَلَيْهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا يُصَلِّي وَلَا يَقْضِي»
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ «٥». قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا أَعْرِفُ كَيْفَ أَقْدَمَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرَ، وَعَلَى خِلَافِهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةُ الْمَالِكِيِّينَ. وَأَظُنُّهُ ذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ- الْحَدِيثَ- وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَمْ يَذْكُرْ إِعَادَةً، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. قَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَهُوَ الْقِيَاسُ. قُلْتُ: وَقَدِ احْتَجَّ الْمُزَنِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ بِمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ الْقِلَادَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ ضَلَّتْ، وَأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِطَلَبِ الْقِلَادَةِ صَلَّوْا بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ وَلَا وُضُوءٍ وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا بِلَا وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ، وَالتَّيَمُّمُ مَتَى لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فَقَدْ صَلَّوْا بِلَا طَهَارَةٍ أَصْلًا. وَمِنْهُ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَلَا إِعَادَةَ، وَهُوَ نَصٌّ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ وَهَذَا مَعَهُ عَقْلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ عَقْلُهُ، فَإِذَا زَالَ المانع له توضأ


(١). راجع ج ١٣ ص ٧٩.
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٢٣، ص ٢٢٨ وما بعدها.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٢٣، ص ٢٢٨ وما بعدها.
(٤). راجع ج ٣ ص ٢٢٥ ففيها نقيض هذا.
(٥). كذا في الأصول. ولعله قول مهجور لابي حنيفة، وإلا فإنه لا يقول بعدم القضاء، بل قال: يؤخر الصلاة فقط، والراجح من مذهبه قول صاحبيه من أن فاقد الطهورين يصلى صلاة صورية ويعيد متى قدر.

أَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ رِوَايَتَانِ، الْمَشْهُورُ عَنْهُ يُصَلِّي كَمَا هُوَ وَيُعِيدُ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا كَانَ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تُرَابٍ نَظِيفٍ صَلَّى وَأَعَادَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: الْمَحْبُوسُ فِي الْحَضَرِ لَا يُصَلِّي وَإِنْ وَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا. وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ عِنْدَهُ فِي الْحَضَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: مَنْ قَالَ يُصَلِّي كَمَا هُوَ وَيُعِيدُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُمُ احْتَاطُوا لِلصَّلَاةِ بِغَيْرِ طُهُورٍ، قَالُوا: وَقَوْلُهُ عليه السلام: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ) لِمَنْ قَدَرَ عَلَى طُهُورٍ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَقْتَ فَرْضٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي كَمَا قَدَرَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يُعِيدُ، فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْوَقْتِ وَالطَّهَارَةِ جَمِيعًا. وَذَهَبَ الَّذِينَ قَالُوا لَا يُصَلِّي لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنُ نَافِعٍ وَأَصْبَغُ قَالُوا: مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالصَّعِيدَ لَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَقْضِ إِنْ خَرَجَ وَقْتَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ عَدَمَ قَبُولِهَا لِعَدَمِ شُرُوطِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا حَالَةَ عَدَمِ شروطها فلا يترتب شي فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَقْضِي، قَالَهُ غَيْرُ «١» أَبِي عُمَرَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ. الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) قَدْ مَضَى فِي«النِّسَاءِ» «٢» اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّعِيدِ، وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ نَصَّ عَلَى مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الصَّعِيدُ التُّرَابَ لَقَالَ عليه السلام لِلرَّجُلِ عَلَيْكَ بِالتُّرَابِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ، فَلَمَّا قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ) أَحَالَهُ على وجه الأرض. والله أعلم. (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٣» الْكَلَامُ فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- وَإِذَا انْتَهَى الْقَوْلُ بِنَا فِي الْآيِ إِلَى هُنَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَكَلَّمُوا فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالطَّهَارَةِ وَهِيَ خَاتِمَةُ الْبَابِ: قَالَ ﷺ: (الطُّهُورُ «٤» شَطْرُ الْإِيمَانِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» الْكَلَامُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْوُضُوءُ أَصْلٌ فِي الدِّينِ، وَطَهَارَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَخُصُوصًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعَالَمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأَ وَقَالَ: (هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قبلي


(١). في ك: قاله أبو عمر.
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٣٦، ص ٢٣٨ فما بعدها.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٣٦، ص ٢٣٨ فما بعدها.
(٤). الطهور (بالضم) التطهير و(بالفتح) الماء كالوضوء والوضوء. وقال سيبويه: الطهور (بالفتح) يطلق على الماء والمصدر معا، وعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها. (النهاية) لابن الأثير.

وَوُضُوءُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ، قَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ هَذَا بِمُعَارَضٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام: (لَكُمْ «١» سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ، وَإِنَّمَا الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ لَا بِالْوُضُوءِ، وَهُمَا تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى اخْتَصَّ بِهِمَا هَذِهِ الْأُمَّةَ شَرَفًا لَهَا وَلِنَبِيِّهَا ﷺ كَسَائِرِ فَضَائِلِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا فَضَّلَ نَبِيَّهَا ﷺ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَغَيْرِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ «٢»: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْبِيَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فَيَكْتَسِبُونَ بِذَلِكَ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ وَلَا يَتَوَضَّأُ أَتْبَاعُهُمْ، كَمَا جَاءَ عَنْ مُوسَى عليه السلام قَالَ:«يَا رَبِّ أَجِدُ أُمَّةً كُلَّهُمْ كَالْأَنْبِيَاءِ فَاجْعَلْهَا أُمَّتِي» فَقَالَ لَهُ:«تِلْكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ» فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ. وَقَدْ رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدِّثُ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جُمِعُوا لِلْحِسَابِ، ثُمَّ دُعِيَ الْأَنْبِيَاءُ مَعَ كُلِّ نَبِيٍّ أُمَّتُهُ، وَأَنَّهُ رَأَى لِكُلِّ نَبِيٍّ نُورَيْنِ يَمْشِي بَيْنَهُمَا، وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ نُورًا وَاحِدًا يَمْشِي بِهِ، حَتَّى دُعِيَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَإِذَا شَعْرُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نُورٌ كُلُّهُ يَرَاهُ كُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَإِذَا لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ نُورَانِ كَنُورِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّهَا رُؤْيَا: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا عِلْمُكَ بِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا رُؤْيَا، فَأَنْشَدَهُ كَعْبٌ، اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتَ مَا تَقُولُ فِي مَنَامِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ كَعْبٌ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- أَوْ قَالَ وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ- إِنَّ هَذِهِ لَصِفَةُ أَحْمَدَ وَأُمَّتِهُ، وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، لَكَانَ مَا تَقُولُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ. أَسْنَدَهُ فِي كِتَابِ«التَّمْهِيدِ» قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا لَا أَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ «٣» فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ السَّمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ (. وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ عبد الله الصنابحي


(١). علامة.
(٢). في اوج: ابن عمر. وهو خطا الناسخ. [.....]
(٣). هو شك من الراوي، وكذا قوله:«مع الماء أو مع آثر قطر الماء». النووي.

كمل «١»، وَالصَّوَابُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ مِمَّا وَهِمَ فِيهِ مَالِكٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ تَابِعِيٌّ شَامِيٌّ كَبِيرٌ لِإِدْرَاكِهِ أَوَّلَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ: قَدِمْتُ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْيَمَنِ فَلَمَّا وَصَلْنَا الْجُحْفَةَ إِذَا بِرَاكِبٍ قُلْنَا لَهُ مَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَغَيْرِهِ تُفِيدُكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا كَوْنُ الْوُضُوءِ مَشْرُوعًا عِبَادَةً لِدَحْضِ الْآثَامِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي افْتِقَارَهُ إِلَى نِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِمَحْوِ الْإِثْمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أَيْ مِنْ ضِيقٍ فِي الدِّينِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «٢»] الحج: ٧٨]. وَ«مِنْ» صِلَةٌ أَيْ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ حَرَجًا. (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالصُّنَابِحِيِّ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ. وَقِيلَ: لِتَسْتَحِقُّوا الْوَصْفَ بِالطَّهَارَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا أَهْلُ الطَّاعَةِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ«لِيُطَهِّرَكُمْ» وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، كَمَا يُقَالُ: نَجَّاهُ وَأَنْجَاهُ.«وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ» أَيْ بِالتَّرْخِيصِ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. وَقِيلَ: بِتِبْيَانِ الشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَفِي الْخَبَرِ (تَمَامُ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ).«لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» أَيْ لِتَشْكُرُوا نِعْمَتَهُ فَتُقْبِلُوا عَلَى طَاعَتِهِ.

[سورة المائدة (٥): آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ). قِيلَ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ عز وجلوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» «٣»] الأعراف: ١٧٢]، قاله مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فَقَدْ أَخْبَرَنَا الصَّادِقُ بِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ نُؤْمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ بِحِفْظِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ من المفسرين كابن عباس والسدي


(١). الحديث أخرجه مالك في (الموطأ).
(٢). راجع ج ١٢ ص ٩٩.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣١٣.

هُوَ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ الَّذِي جَرَى لَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهُ إِذْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، كَمَا جَرَى لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَتَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَضَافَهُ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ:«إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» «١»] الفتح: ١٠] فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الْعَقَبَةِ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَأَنْ يَرْحَلَ إِلَيْهِمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ، وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ فِي التَّوَثُّقِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالشَّدُّ لِعَقْدِ أَمْرِهِ، وَهُوَ القائل: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا «٢»، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَيَأْتِي ذِكْرُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فِي مَوْضِعِهَا «٣». وَقَدِ اتَّصَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»] المائدة: ١] فَوَفَّوْا بِمَا قَالُوا، جَزَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ وَعَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ فِي مُخَالَفَتِهِ إِنَّهُ عالم بكل شي.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٨ الى ١٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي«النساء» «٤». والمعنى: أتمم عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَكُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ ثَوَابِ اللَّهِ، فَقُومُوا بِحَقِّهِ، وَاشْهَدُوا بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى أَقَارِبِكُمْ، وَحَيْفٍ عَلَى أَعْدَائِكُمْ. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ وَإِيثَارِ الْعُدْوَانِ عَلَى الْحَقِّ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي الله تعالى


(١). راجع ج ١٦ ص ٢٦٧، وص ٢٧٤. في ك وج وه: بيعة الشجرة.
(٢). أزرنا أي نساءنا وأهلنا كنى عنهن بالأرز. وقيل: أراد أنفسنا. راجع (سيرة ابن هشام) ج ١ ص ٢٩٣ طبع أوربا.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٦٧، وص ٢٧٤. في ك وج وه: بيعة الشجرة.
(٤). راجع ج ٥ ص ٤١٠.

وَنُفُوذِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَأَنَّ الْمُثْلَةَ بِهِمْ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَإِنْ قَتَلُوا نِسَاءَنَا وَأَطْفَالَنَا وَغَمُّونَا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُمْ بِمُثْلَةٍ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ «١»، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ «٢» معنى قوله:«لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ». وقرى«وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ» قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى«لَا يُجْرِمَنَّكُمْ» لَا يُدْخِلَنَّكُمْ فِي الْجُرْمِ، كَمَا تَقُولُ: آثَمَنِي أَيْ أَدْخَلَنِي فِي الْإِثْمِ. وَمَعْنَى (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أَيْ لِأَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ. وَقِيلَ: لِأَنْ تَتَّقُوا النَّارَ. وَمَعْنَى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أَيْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ:«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» أَيْ لَا تَعْرِفُ كُنْهَهُ أَفْهَامُ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ:«فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «٣»] السجدة: ١٧]. وَإِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«أَجْرٌ عَظِيمٌ» وَ«أَجْرٍ كَرِيمٍ»] يس: ١١] و «أَجْرٌ كَبِيرٌ»] هود: ١١] فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقْدُرُ قَدْرَهُ؟. وَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ مِنْ قُبَيلِ الْقَوْلِ حَسُنَ إِدْخَالُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ:«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَوْعُودِ بِهِ، عَلَى مَعْنَى وَعَدَهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً أَوْ وَعَدَهُمْ مَغْفِرَةً إِلَّا أَنَّ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «٤»:
وَجَدْنَا الصَّالِحِينَ لَهُمْ جَزَاءٌ ... وجنات وعينا سلسبيلا
وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهَا بِالنَّصْبِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَوْعُودُ بِهِ مَحْذُوفًا، عَلَى تَقْدِيرِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْحَسَنِ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) نَزَلَتْ فِي بني النضير. وقيل: في جميع الكفار.

[سورة المائدة (٥): آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)


(١). كذا في كل الأصول، ويبدو فيه سقط. والمراد بالقصة- والله أعلم- ما حدث لزينب بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ راجع الروض الأنف ج ٢ ص ٨٢.
(٢). راجع ص ٤٤ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٤ ص ١٠٣.
(٤). هو عبد العزيز الكلابي.

قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) قَالَ جَمَاعَةٌ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ حِينَ اخْتَرَطَ «١» سَيْفُ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ: مَنْ يَعْصِمُكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٢». وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ «٣». وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ. وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهُ ضَرَبَ بِرَأْسِهِ فِي سَاقِ شَجَرَةٍ حَتَّى مَاتَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ غورث ابن الْحَارِثِ (بِالْغَيْنِ مَنْقُوطَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَسُكُونُ الْوَاوِ بَعْدَهَا] راء و[ثاء مُثَلَّثَةٌ) وَقَدْ ضَمَّ بَعْضُهُمُ الْغَيْنَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ اسْمَهُ دُعْثُورُ بْنَ الْحَارِثِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ «٤» مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اسْمَهُ عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ وَهُوَ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قِصَّةَ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ ﷺ الله فَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ فِي قِصَّةٍ ثُمَّ يَنْزِلُ ذِكْرُهَا مَرَّةً أُخْرَى لِادِّكَارِ مَا سَبَقَ.«أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» أَيْ بِالسُّوءِ«فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» أَيْ منعهم.

[سورة المائدة (٥): آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)


(١). اخترط السيف سله من غمده.
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٧٢. [.....]
(٣). أي لم يعاقب الاعرابي استئلافا للكفار.
(٤). في ج وهـ وك: وحكى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الْمُتَضَمِّنَةُ الْخَبَرَ عَنْ نَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَ اللَّهِ تَعَالَى تُقَوِّي أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي كَفِّ الْأَيْدِي إِنَّمَا كَانَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي كَيْفِيَّةِ بَعْثِ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النَّقِيبَ كَبِيرُ الْقَوْمِ، الْقَائِمُ بِأُمُورِهِمِ الَّذِي يُنَقِّبُ عَنْهَا وَعَنْ مَصَالِحِهِمْ فِيهَا. وَالنَّقَّابُ: الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ فِي عُمَرَ رضي الله عنه: إِنَّهُ كَانَ لَنَقَّابًا. فَالنُّقَبَاءُ الضُّمَّانُ، وَاحِدُهُمْ نَقِيبٌ، وَهُوَ شَاهِدُ الْقَوْمِ وَضَمِينُهُمْ، يُقَالُ: نَقَبَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ حَسَنُ النَّقِيبَةِ أَيْ حَسَنُ الْخَلِيقَةِ. وَالنَّقْبُ وَالنُّقْبُ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: نَقِيبٌ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ دَخِيلَةَ أَمْرِ الْقَوْمِ، وَيَعْرِفُ مَنَاقِبَهُمْ وَهُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: النُّقَبَاءُ الْأُمَنَاءُ عَلَى قَوْمِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَالنَّقِيبُ أَكْبَرُ مَكَانَةً مِنَ الْعَرِيفِ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. قَالَ قَتَادَةُ- رحمه الله وَغَيْرُهُ: هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءُ قَوْمٌ كِبَارٌ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ، تَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ بِسِبْطِهِ بِأَنْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا اللَّهَ، وَنَحْوَ هَذَا كَانَ النُّقَبَاءُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، بَايَعَ فِيهَا سَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ. فَاخْتَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ السَّبْعِينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَمَّاهُمُ النُّقَبَاءُ اقْتِدَاءً بِمُوسَى ﷺ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّمَا بُعِثَ النُّقَبَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمَنَاءَ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى الْجَبَّارِينَ وَالسَّبْرِ لِقُوَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، فَسَارُوا لِيَخْتَبِرُوا حَالَ مَنْ بها، ويعلموه بما اطلعوه عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى يَنْظُرَ فِي الْغَزْوِ إِلَيْهِمْ، فَاطَّلَعُوا مِنَ الْجَبَّارِينَ عَلَى قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ- عَلَى مَا يَأْتِي- وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، فَتَعَاقَدُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يُخْفُوا ذَلِكَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يُعْلِمُوا بِهِ مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا انْصَرَفُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَانَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فَعَرَّفُوا قَرَابَاتِهِمْ، وَمَنْ وَثِقُوهُ عَلَى سِرِّهِمْ، فَفَشَا الْخَبَرُ حَتَّى اعْوَجَّ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا:«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ»] المائدة: ٢٤ [. الثَّانِيَةُ- فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى اطِّلَاعِهِ مِنْ حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَتُرَكَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَقَدْ جَاءَ

] أَيْضًا [مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ ﷺ لِهَوَازِنَ: (ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. الثَّالِثَةُ- وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْجَاسُوسِ. وَالتَّجَسُّسُ: التَّبَحُّثُ. وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَسْبَسَةَ عَيْنًا «١»، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْجَاسُوسِ فِي«الْمُمْتَحِنَةِ» «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا أَسْمَاءُ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ فِي«الْمُحَبَّرِ» «٣» فَقَالَ: مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ شموعُ بْنُ ركوبَ، وَمِنْ سِبْطِ شَمْعُونَ شوقوطُ بْنُ حُورِيِّ، وَمِنْ سِبْطِ يَهُوذَا كَالِبُ بْنُ يُوقِنَا، وَمِنْ سِبْطِ السَّاحِرِ يوغولُ بن يوسف، ومن سبط أفراثيم ابن يُوسُفَ يُوشَعُ بْنُ النُّونِ، وَمِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ يلظَى بْنُ روقو، وَمِنْ سِبْطِ ربالُونَ كرابيلُ ابن سودَا وَمِنْ سِبْطِ منشَا بْنِ يُوسُفَ كدي بْنُ سوشا، وَمِنْ سِبْطِ دَانَ عمائِيلُ بْنُ كسلَ، وَمِنْ سِبْطِ شيرَ ستورُ بْنُ مِيخَائِيلَ، وَمِنْ سِبْطِ نفتَالَ يُوحَنَّا بْنُ وقوشا، وَمِنْ سبط كاذكوال ابن موخى، فالمؤمنان مِنْهُمْ يُوشَعُ وَكَالِبُ، وَدَعَا مُوسَى عليه السلام عَلَى الْآخَرِينَ فَهَلَكُوا مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَأَمَّا نُقَبَاءُ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ فَمَذْكُورُونَ فِي سِيرَةِ ابْنِ «٤» إِسْحَاقَ فَلْيُنْظَرُوا هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) الآية. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ ذَلِكَ لِلنُّقَبَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قَالَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وكسرت«إن» لأنها مبتدأة.«مَعَكُمْ» منصوب لِأَنَّهُ ظَرْفٌ، أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْعَوْنِ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:«لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» إِلَى أَنْ قَالَ«لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ). وَاللَّامُ فِي«لَئِنْ» لَامُ تَوْكِيدٍ وَمَعْنَاهَا الْقَسَمُ، وَكَذَا«لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ»،«وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ». وَقِيلَ: المعنى


(١). كان ذلك في غزوة بدر قيل: هو ابن عمرو الأنصاري أرسله النبي ﷺ لتقصى أنباء عير أبي سفيان.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٥٣.
(٣). قال أبو حيان في (البحر): ذكر محمد بن حبيب في (المحبر) أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة، بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا تنضبط أيضا. وفي هامش الطبري: وقع تحريف واختلاف بين كتب التاريخ في أسماء الأسباط والنقباء منهم فلتحرر.
(٤). راجع سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٩٧ طبع أوربا.

لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَتَضَمَّنَ شَرْطًا آخَرَ لِقَوْلِهِ:«لَأُكَفِّرَنَّ» أَيْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَأُكَفِّرَنَّ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ«لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» جَزَاءً لِقَوْلِهِ:«إِنِّي مَعَكُمْ» وَشَرْطٌ لِقَوْلِهِ:«لَأُكَفِّرَنَّ» وَالتَّعْزِيرُ: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٌ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ فِي النَّدِيِّ
أَيْ يُعَظَّمُ وَيُوَقَّرُ. وَالتَّعْزِيرُ: الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ، وَالرَّدُّ، تَقُولُ: عَزَّرْتُ فُلَانًا إِذَا أَدَّبْتُهُ وَرَدَدْتُهُ عَنِ الْقَبِيحِ. فَقَوْلُهُ:«عَزَّرْتُمُوهُمْ» أَيْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ. (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يَعْنِي الصَّدَقَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ إِقْرَاضًا، وَهَذَا مِمَّا جَاءَ مِنَ الْمَصْدَرِ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتًا) «١»، (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». ثُمَّ قِيلَ: (حَسَنًا) أَيْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ. وَقِيلَ: يَبْتَغُونَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. وَقِيلَ: حَلَالًا. وَقِيلَ: (قَرْضًا) اسْمٌ لَا مَصْدَرَ. (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ) أَيْ بَعْدَ الْمِيثَاقِ. (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أَيْ أَخْطَأَ قَصْدَ الطريق. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي فبنقضهم ميثاقهم،«فَبِما» زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، عَنْ قَتَادَةَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا تُؤَكِّدُ الْكَلَامَ بِمَعْنَى تُمَكِّنُهُ فِي النَّفْسِ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ النَّظْمِ، وَمِنْ جِهَةِ تَكْثِيرِهِ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قَالَ:
لِشَيْءٍ مَا يُسَوَّدُ من يسود


(١). راجع ج ١٨ ص ٣٠٥.
(٢). راجع ج ٤ ص ٦٩.

فَالتَّأْكِيدُ بِعَلَامَةٍ مَوْضُوعَةٍ كَالتَّأْكِيدِ بِالتَّكْرِيرِ. (لَعَنَّاهُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَّبْنَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: بِالْمَسْخِ. عَطَاءٌ: أَبْعَدْنَاهُمْ وَاللَّعْنُ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ. (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أَيْ صُلْبَةً لَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْعَلُهُ، وَالْقَاسِيَةُ وَالْعَاتِيَةُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ:«قَسِيَّةً» بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ. وَالْعَامُ الْقَسِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا مَطَرَ فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّاتِ أَيِ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ، فَمَعْنَى«قَسِيَّةً» عَلَى هَذَا لَيْسَتْ بِخَالِصَةِ الْإِيمَانِ، أَيْ فِيهَا نِفَاقٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ إِذَا كَانَ مَغْشُوشًا بِنُحَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ (مُخَفَّفُ السِّينِ مُشَدَّدُ الْيَاءِ) مِثَالُ شَقِيٍّ أَيْ زَائِفٍ، ذَكَرَ ذلك أبو عبيد وأنشد:
لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلَامِ كَمَا ... صَاحَ الْقَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ «١»
يَصِفُ وَقْعَ الْمَسَاحِي «٢» فِي الْحِجَارَةِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ كَأَنَّهُ مُعَرَّبُ قَاشِي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، بَلِ الدِّرْهَمُ الْقَسِيُّ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا قَلَّتْ نَقْرَتُهُ يَقْسُو وَيَصْلُبُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:«قَسِيَةٌ» بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنٍ فَعِلَةٍ نَحْوَ عَمِيَةٍ وَشَجِيَةٍ، مِنْ قَسَى يَقْسِي لَا مِنْ قَسَا يَقْسُو. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْعَلِيَّةِ وَالْعَالِيَةِ، وَالزَّكِيَّةِ وَالزَّاكِيَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: أَوْلَى مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ قَسِيَّةً بِمَعْنَى قَاسِيَةٍ، إِلَّا أَنَّ فَعِيلَةً أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلَةٍ. فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ غَلِيظَةً نَابِيَةً عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ لِطَاعَتِي، لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُوصَفُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَوْصُوفَةً بِأَنَّ إِيمَانَهَا خَالَطَهُ كُفْرٌ، كَالدَّرَاهِمِ الْقَسِيَّةِ الَّتِي خَالَطَهَا غِشٌّ. قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ قَسَوْتِ وَقَسَتْ لِدَاتِي

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُلْقُونَ ذَلِكَ إِلَى الْعَوَامِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُبَدِّلُونَ حُرُوفَهُ. وَ«يُحَرِّفُونَ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ جَعَلْنَا قلوبهم قاسية محرفين.


(١). البيت لابي زيد الطائي. والصواهل (جمع الصاهلة) مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل وهو الصوت.
(٢). المساحي (جمع مسحاة): وهي المجرفة من الحديد.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالنَّخَعِيُّ«الْكَلَامَ» بِالْأَلِفِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَآيَةَ الرَّجْمِ. (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ نَسُوا عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.، وَبَيَانِ نَعْتِهِ.«وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ» أَيْ وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَزَالُ الْآنَ تَقِفُ«عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» وَالْخَائِنَةُ الْخِيَانَةُ، قَالَ قَتَادَةُ. وَهَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: قَائِلَةٌ بِمَعْنَى قَيْلُولَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ فِرْقَةٌ خَائِنَةٌ. وَقَدْ تَقَعُ«خائِنَةٍ» لِلْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ نَسَّابَةٌ وَعَلَّامَةٌ، فَخَائِنَةٌ عَلَى هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَائِنَةٌ إِذَا بَالَغْتَ فِي وَصْفِهِ بِالْخِيَانَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ»
حَدَّثْتُ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الْإِصْبَعِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«عَلى خائِنَةٍ» أَيْ مَعْصِيَةٍ. وَقِيلَ: كَذِبٌ وَفُجُورٌ. وَكَانَتْ خِيَانَتُهُمْ نَقْضَهُمُ الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمُظَاهَرَتَهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ] رَسُولِ اللَّهِ ﷺ [«٢»، كَيَوْمِ الْأَحْزَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ وَسَبِّهِ. (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لَمْ يَخُونُوا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي«خائِنَةٍ مِنْهُمْ». (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ مَا دَامَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ عز وجل«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً» «٣»] الأنفال: ٥٨].

[سورة المائدة (٥): الآيات ١٤ الى ١٦]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)


(١). هو الكلابي يخاطب قرينا أخا عمير الحنفي وكان له عنده دم. وقبله:
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... نعما يبتن إلى جوانب صلقع
(اللسان).
(٢). من ج وك.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣١.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) أَيْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، إِذْ هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ. (فَنَسُوا حَظًّا) وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْهَوَى وَالتَّحْرِيفَ سَبَبًا لِلْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَمَعْنَى» أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ«هُوَ كَقَوْلِكَ: أَخَذْتُ مِنْ زَيْدٍ ثَوْبَهُ وَدِرْهَمَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَرُتْبَةُ» الَّذِينَ«أَنْ تَكُونَ بَعْدَ» أَخَذْنا«وَقَبْلَ الْمِيثَاقِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَخَذْنَا مِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مِيثَاقَهُمْ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَخَذْنَا. وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ: وَمِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَنْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُ، فَالْهَاءُ وَالْمِيمُ تَعُودَانِ عَلَى» مَنْ«الْمَحْذُوفَةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَعُودَانِ عَلَى» الَّذِينَ«. وَلَا يُجِيزُ النَّحْوِيُّونَ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مِنَ الذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى، وَلَا أَلْيَنَهَا لَبِسْتُ مِنَ الثِّيَابِ، لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ مُضْمَرٌ عَلَى ظَاهِرٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ:» إِنَّا نَصارى «وَلَمْ يَقُلْ مِنَ النَّصَارَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ ابْتَدَعُوا النَّصْرَانِيَّةَ وَتَسَمَّوْا بِهَا، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أَيْ هَيَّجْنَا. وَقِيلَ: أَلْصَقْنَا بِهِمْ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَاءِ وَهُوَ مَا يُلْصِقُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ كَالصَّمْغِ وَشِبْهِهِ. يُقَالُ: غَرِيَ بِالشَّيْءِ يَغْرَى غَرًا» بِفَتْحِ الْغَيْنِ«مَقْصُورًا وَغِرَاءً» بِكَسْرِ الْغَيْنِ" مَمْدُودًا إِذَا أُولِعَ بِهِ كَأَنَّهُ الْتَصَقَ بِهِ. وَحَكَى الرُّمَّانِيُّ: الْإِغْرَاءُ تَسْلِيطُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: الْإِغْرَاءُ التَّحْرِيشُ، وَأَصْلُهُ اللُّصُوقُ، يُقَالُ: غَرِيتُ بِالرَّجُلِ غَرًا- مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ مَفْتُوحُ الأول- إذ لَصِقْتَ بِهِ. وَقَالَ كُثَيْرٌ: إِذَا قِيلَ مَهْلًا قَالَتِ الْعَيْنُ بِالْبُكَا غِرَاءً وَمَدَّتْهَا حَوَافِلُ نُهَّلُ «١»


(١). كذا بالأصول والذي في (اللسان). إذا قلت أسلو غارت العين بالبكا غراء ومدتها مدامع حفل [.....]

وَأَغْرَيْتُ زَيْدًا بِكَذَا حَتَّى غَرِيَ بِهِ، وَمِنْهُ الْغِرَاءُ الَّذِي يُغْرَى بِهِ لِلُصُوقِهِ، فَالْإِغْرَاءُ بِالشَّيْءِ الْإِلْصَاقُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيطِ عَلَيْهِ. وَأَغْرَيْتُ الْكَلْبَ أَيْ أَوْلَعْتُهُ بِالصَّيْدِ.«بَيْنَهُمُ» ظَرْفٌ لِلْعَدَاوَةِ.«وَالْبَغْضاءَ» الْبُغْضُ. أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا. عَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. وَقِيلَ: أَشَارَ إِلَى افْتِرَاقِ النَّصَارَى خَاصَّةً، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ افْتَرَقُوا إِلَى الْيَعَاقِبَةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلِكَانِيَّةِ، أَيْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى«فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ» أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ وَإِبْغَاضِهِمْ، فَكُلُّ فِرْقَةٍ مَأْمُورَةٍ بِعَدَاوَةِ صَاحِبَتِهَا وَإِبْغَاضِهَا لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ. وَقَوْلُهُ: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ)
تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ نَقْضِ الْمِيثَاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتابِ) الْكِتَابُ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى الْكُتُبِ، فَجَمِيعُهُمْ مُخَاطَبُونَ. (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) مُحَمَّدٌ ﷺ. (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أَيْ مِنْ كُتُبِكُمْ، مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَمِنْ آيَةِ الرَّجْمِ، وَمِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أَيْ يَتْرُكُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ، وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ مَا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِهِ وَشَهَادَةٌ بِرِسَالَتِهِ، وَيَتْرُكُ مَا لَمْ يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل:«وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» يَعْنِي يَتَجَاوَزُ عَنْ كَثِيرٍ فَلَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ. وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَحْبَارِهِمْ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا هَذَا عَفَوْتَ عَنَّا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يُظْهِرَ مُنَاقَضَةَ كَلَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَذَهَبَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَقُولُ: لِأَنَّهُ كَانَ وَجَدَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لَهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ.«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ» أَيْ ضِيَاءٌ، قِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ عليه السلام، عَنِ الزَّجَّاجِ. (وَكِتابٌ مُبِينٌ) أَيِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أَيْ مَا رَضِيَهُ اللَّهُ. (سُبُلَ السَّلامِ) طُرُقَ السَّلَامَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ الْمُنَزَّهَةِ عَنْ كُلِّ آفَةٍ، وَالْمُؤَمَّنَةِ مِنْ كُلِّ مَخَافَةٍ، وَهِيَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ:«السَّلامِ» اللَّهُ عز وجل، فَالْمَعْنَى دِينُ اللَّهِ- وَهُوَ الْإِسْلَامُ- كَمَا قال:


(١). راجع ص ٢٧ من هذا الجزء.

«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» «١»] آل عمران: ١٩]. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَالْهِدَايَاتِ. (بِإِذْنِهِ) أي بتوفيقه وإرادته.

[سورة المائدة (٥): آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) تَقَدَّمَ فِي آخِرِ«النِّسَاءِ» «٢» بَيَانُهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ. وَكُفْرُ النَّصَارَى فِي دَلَالَةِ هَذَا الْكَلَامِ إِنَّمَا كَانَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى جِهَةِ الدَّيْنُونَةِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ مُنْكِرِينَ لَهُ لَمْ يَكْفُرُوا. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أَيْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَ«يَمْلِكُ» بِمَعْنَى يَقْدِرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ مَلَكْتُ عَلَى فُلَانٍ أَمْرَهُ أَيِ اقْتَدَرْتُ عَلَيْهِ. أَيْ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ مَا يَنْزِلُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ أَمَاتَ أُمَّهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهَا، فَلَوْ أَهْلَكَهُ هُوَ أَيْضًا فَمَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَرُدُّهُ. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ بَيْنَهُمَا مَخْلُوقَانِ مَحْدُودَانِ مَحْصُورَانِ، وَمَا أَحَاطَ بِهِ الْحَدُّ وَالنِّهَايَةُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. وَقَالَ«وَما بَيْنَهُما» وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ وَالصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي:
طَرَقَا فَتِلْكَ هَمَاهِمِي «٣» أَقْرِيهِمَا ... قُلُصًا «٤» لَوَاقِحَ كَالْقِسِيِّ وَحُوَّلَا «٥»
فَقَالَ:«طَرَقَا» ثُمَّ قَالَ:«فَتِلْكَ هَمَاهِمِي». (يَخْلُقُ مَا يَشاءُ) عِيسَى مِنْ أُمٍّ بلا أب آية لعباده.


(١). راجع ج ٤ ص ٤٣.
(٢). راجع ص ٢١ وما بعدها من هذا الجزء.
(٣). الهماهم: بمعنى الهموم.
(٤). قلص (جمع قلوص): وهي الفتية من الإبل.
(٥). حول (جمع حائل): وهي التي حمل عليها فلم تلقح، وقيل هي الناقة التي تحمل سنة أو سنتين أو سنوات.

[سورة المائدة (٥): آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَوَّفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ الْعِقَابَ فَقَالُوا: لَا نَخَافُ فَإِنَّا أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نُعْمَانُ بْنُ أَضَا وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَأْسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ وَكَلَّمَهُمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ؟، نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِيهِمْ» وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
«إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: مَا قُلْنَا هَذَا لَكُمْ، وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجليَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ«إِلَى قَوْلِهِ:» وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ«. السُّدِّيُّ: زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيلَ عليه السلام أَنَّ وَلَدَكَ بِكْرِيٌّ مِنَ الْوَلَدِ. قَالَ غَيْرُهُ: وَالنَّصَارَى قَالَتْ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، لِأَنَّ فِي الْإِنْجِيلِ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى» أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ". وَقِيلَ: الْمَعْنَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ رُسُلِ اللَّهِ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ مُضَافٍ. وَبِالْجُمْلَةِ. فَإِنَّهُمْ رَأَوْا لِأَنْفُسِهِمْ فَضْلًا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ فَقَالَ (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فَلَمْ يَكُونُوا يَخْلُونَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقُولُوا هُوَ يُعَذِّبُنَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَلَسْتُمْ إِذًا أَبْنَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ، فَإِنَّ الْحَبِيبَ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ، وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ بِعَذَابِهِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِكُمْ- وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ بِبُرْهَانِ الْخُلْفِ- أَوْ يَقُولُوا

: لَا يُعَذِّبُنَا فَيُكَذِّبُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَيُبِيحُوا الْمَعَاصِيَ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِعَذَابِ الْعُصَاةِ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ كُتُبِهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى«يُعَذِّبُكُمْ» عَذَّبَكُمْ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، أَيْ فَلِمَ مَسَخَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ؟ وَلِمَ عَذَّبَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَهُمْ أَمْثَالُكُمْ؟ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَقُولُونَ لَا نُعَذَّبُ غَدًا، بَلْ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَرَفُوهُ. ثُمَّ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أَيْ كَسَائِرِ خَلْقِهِ يُحَاسِبُكُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَمِلَ. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أَيْ لِمَنْ تَابَ مِنَ الْيَهُودِ. (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فَلَا شَرِيكَ لَهُ يُعَارِضُهُ. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَيْ يَئُولُ أَمْرُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ في الآخرة.

[سورة المائدة (٥): آية ١٩]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ. (يُبَيِّنُ لَكُمْ) انْقِطَاعَ حُجَّتِهِمْ حَتَّى لَا يَقُولُوا غَدًا مَا جَاءَنَا رَسُولٌ. (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أَيْ سُكُونٍ، يُقَالُ فَتَرَ الشَّيْءُ سَكَنَ. وَقِيلَ:«عَلى فَتْرَةٍ» عَلَى انْقِطَاعٍ مَا بَيْنَ النَّبِيِّينَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ، قَالَ: وَالْأَصْلُ فِيهَا انْقِطَاعُ الْعَمَلِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَرَ عَنْ عَمَلِهِ وَفَتَّرْتُهُ عَنْهُ. وَمِنْهُ فَتَرَ الْمَاءُ إِذَا انْقَطَعَ عَمَّا كَانَ مِنَ السُّخُونَةِ إِلَى الْبَرْدِ. وَامْرَأَةٌ فَاتِرَةُ الطَّرْفِ أَيْ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ حِدَّةِ النَّظَرِ. وَفُتُورُ الْبَدَنِ كَفُتُورِ الْمَاءِ. وَالْفِتْرُ مَا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ إِذَا فَتَحْتُهُمَا. وَالْمَعْنَى، أَيْ مَضَتْ لِلرُّسُلِ مُدَّةٌ قَبْلَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مُدَّةِ تِلْكَ الْفَتْرَةِ، فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ«الطَّبَقَاتِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام أَلْفُ سَنَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ «١» سَنَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ، وَأَنَّهُ أُرْسِلَ بَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ مِنْ بني إسرائيل


(١). على المشهور. وفي الأصول: ألف سنة وتسعمائة.

سِوَى مَنْ أُرْسِلَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ بَيْنَ مِيلَادِ عِيسَى وَالنَّبِيِّ ﷺ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، بُعِثَ فِي أَوَّلِهَا ثَلَاثَةُ أَنْبِيَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» «١» [يس: ١٤] وَالَّذِي عُزِّزَ بِهِ«شَمْعُونُ» وَكَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ فِيهَا رَسُولًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَنْبِيَاءَ، وَاحِدٌ «٢» مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي عَبْسٍ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سِنَانَ. قَالَ القشيري: ومثل هذا مما لم لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ صِدْقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام سِتُّمِائَةِ سنة، وقاله مقاتل والضحاك ووهب ابن مُنَبِّهٍ، إِلَّا أَنَّ وَهْبًا زَادَ عِشْرِينَ سَنَةً. وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ قَالُوا: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، وَالْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، وَالْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، وَالْقَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، فَهَذَا مَا بَيْنَ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام مِنَ الْقُرُونِ وَالسِّنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَنْ تَقُولُوا) أَيْ لِئَلَّا أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.«مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ» أَيْ مُبَشِّرٍ.«وَلا نَذِيرٍ» أَيْ مُنْذِرٍ. وَيَجُوزُ«مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» عَلَى الْمَوْضِعِ «٣». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ لِلْيَهُودِ، يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَتَصِفُونَهُ بِصِفَتِهِ، فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى وَلَا أَرْسَلَ بَعْدَهُ مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عَلَى إِرْسَالِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: قَدِيرٌ عَلَى إنجاز ما بشر به وأنذر منه.


(١). راجع ج ١٥ ص ١٣.
(٢). راجع هامش ص ١٦ من هذا الجزء.
(٣). وزيادة (من) في الفاعل للمبالغة في نفى المجيء. (روح المعاني).

[سورة المائدة (٥): الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) تَبْيِينٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَسْلَافَهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَعَصَوْهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا قِصَّةَ مُوسَى. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ«يَا قَوْمُ اذْكُرُوا» بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ، وَتَقْدِيرُهُ يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ. (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) لَمْ يَنْصَرِفْ، لِأَنَّهُ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) أَيْ تَمْلِكُونَ أَمْرَكُمْ لَا يَغْلِبُكُمْ عَلَيْهِ غَالِبٌ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْنَ مَقْهُورِينَ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ بِالْغَرَقِ، فَهُمْ مُلُوكٌ بِهَذَا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما. قال السدي: ملك

كل واحد منهم نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ:«وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا» لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُدِمَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقِبْطَ قَدْ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَظَاهِرُ أَمْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُسَخِّرُ بَعْضًا مُذْ تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَقَطْ. وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ ذَوِي مَنَازِلَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ بَيْتَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ مَلِكٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَزَيْدِ بن أسلم أن مَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَنْزِلٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ وَالْمُلُوكِ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ «١» وَالْغَمَامِ، أَيْ هُمْ مَخْدُومُونَ كَالْمُلُوكِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَعْنِي الْخَادِمَ وَالْمَنْزِلَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَزَادُوا الزَّوْجَةَ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيمَا يُعْلَمُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ- أَوْ قَالَ مَنْزِلٌ- يَأْوِي إِلَيْهِ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ يَخْدُمُهُ فَهُوَ مَلِكٌ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَيُقَالُ: مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهَذَا كَمَا قَالَ ﷺ: (مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بدنه وله قوت يومه فكأنما جيزت لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَآتاكُمْ) أَيْ أَعْطَاكُمْ (مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ). وَالْخِطَابُ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ. مُجَاهِدٌ: وَالْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ المن


(١). هي إخراج المياه العذبة من الحجر بالتفجير.

وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرُ وَالْغَمَامُ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ. وَقِيلَ: قُلُوبًا سَلِيمَةً مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ. وَقِيلَ: إِحْلَالُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلْ لِأَحَدٍ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ حَتَّى تُعَزَّزَ وَتَأْخُذَ الْأَمْرَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ بِقُوَّةٍ، وَتَنْفُذَ فِي ذَلِكَ نُفُوذَ مَنْ أَعَزَّهُ اللَّهُ وَرَفَعَ مِنْ شَأْنِهِ. وَمَعْنَى«مِنَ الْعالَمِينَ» أَيْ عَالَمِي زَمَانِكُمْ، عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ: الْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ بِمَا لَا يَحْسُنُ مِثْلُهُ. وَتَظَاهَرَتِ الاخبار أن دمشق قاعدة الجبارين. و «الْمُقَدَّسَةَ» مَعْنَاهُ الْمُطَهَّرَةُ. مُجَاهِدٌ: الْمُبَارَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْقُحُوطِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِهِ. قَتَادَةُ: هِيَ الشَّامُ. مُجَاهِدٌ: الطُّورُ وَمَا حَوْلَهُ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَرِيحَاءُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ: الْأُرْدُنِ. وَقَوْلُ قَتَادَةَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ. (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أَيْ فَرَضَ دُخُولَهَا عَلَيْكُمْ وَوَعَدَكُمْ دُخُولَهَا وَسُكْنَاهَا لَكُمْ. وَلَمَّا خَرَجَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ أَمَرَهُمْ بِجِهَادِ أَهْلِ أَرِيحَاءَ مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ فَقَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا بِتِلْكَ الدِّيَارِ، فَبَعَثَ بِأَمْرِ اللَّهِ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلٌ يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَرَأَوْا سُكَّانَهَا الْجَبَّارِينَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ، وَهُمْ ذَوُو أَجْسَامٍ هَائِلَةٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ بَعْضَهُمْ رَأَى هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ فَأَخَذَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ فَاكِهَةٍ كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانِهِ وَجَاءَ بِهِمْ إِلَى الْمَلِكِ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدِهِ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَخْبِرُوهُ خَبَرَنَا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا أَخَذُوا مِنْ عِنَبِ تِلْكَ الْأَرْضَ عُنْقُودًا فَقِيلَ: حَمَلَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: حَمَلَهُ النُّقَبَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ. قُلْتُ: وَهَذَا أَشْبَهُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْجَبَّارِينَ وَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحَدِهِمْ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهُ خمسة أنفس أو أربعة «١».


(١). قال الألوسي: هذه الاخبار عندي كأخبار (عوج بن عوق) وهي حديث خرافة.

قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجَبَّارَ الَّذِي أَخَذَهُمْ فِي كُمِّهِ- وَيُقَالُ: فِي حِجْرِهِ- هُوَ عُوجُ «١» بْنُ عُنَاقٍ وَكَانَ أَطْوَلَهُمْ قَامَةً وَأَعْظَمَهُمْ خَلْقًا، عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ طول سائرهم ستة أذرع ونصف فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ طُولُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا أَذَاعُوا الْخَبَرَ مَا عَدَا يُوشَعَ وَكَالِبَ ابن يُوقِنَا، وَامْتَنَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِهَادِ عُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ مَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَنَشَأَ أَوْلَادُهُمْ، فَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أَيْ لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَتِي وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: لَا تَرْجِعُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ) أَيْ عِظَامُ الْأَجْسَامِ طِوَالٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، يُقَالُ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ أَيْ طَوِيلَةٌ. وَالْجَبَّارُ الْمُتَعَظِّمُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الذُّلِّ وَالْفَقْرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ الْعَاتِي، وَهُوَ الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَأَصْلُهُ عَلَى هَذَا مِنَ الْإِجْبَارِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَإِنَّهُ يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ، وَأَجْبَرَهُ أَيْ أَكْرَهَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَبْرِ الْعَظْمِ، فَأَصْلُ الْجَبَّارِ عَلَى هَذَا الْمُصْلِحُ أَمْرَ نَفْسِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَنْ جَرَّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ. وَقِيلَ: إِنَّ جَبْرَ الْعَظْمِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِكْرَاهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ. ثُمَّ قِيلَ: كَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَقَايَا عَادٍ. وَقِيلَ: هُمْ مِنْ وَلَدِ عيصو بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَانُوا مِنَ الرُّومِ، وَكَانَ مَعَهُمْ عُوجٌ الْأَعْنَقُ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ «٢» ذِرَاعٍ وثلاثمائة وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَكَانَ يَحْتَجِنُ السَّحَابَ أَيْ يَجْذِبُهُ بِمِحْجَنِهِ وَيَشْرَبُ مِنْهُ، وَيَتَنَاوَلُ الْحُوتَ مِنْ قَاعِ الْبَحْرِ فَيَشْوِيهِ بِعَيْنِ الشَّمْسِ يَرْفَعُهُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَأْكُلُهُ. وَحَضَرَ طُوفَانَ نُوحٍ عليه السلام وَلَمْ يُجَاوِزْ رُكْبَتَيْهِ وَكَانَ عمره ثلاثة آلاف


(١). عوج بن عناق: هكذا في الأصول. والذي ذكر في القاموس مادة (عوق) (وعوق كنوح والد عوج الطويل ومن قال: عوج بن عنق فقد أخطأ) وقال في شرحه: (هذا الذي خطأه هو المشهور على الألسنة قال شيخنا: وزعم قوم من حفاظ التواريخ أن عنق هي أم عوج وعوق أبوه فلا خطأ ولا غلط، وفي شعر عرقلة الدمشقي المذكور في بدائع البداية المتوفى سنة ٥٦٧ (أعور الرجال يمشي: خلف عوج بن عناق) وهو ثقة عارف. (عن القاموس وشرحه).
(٢). في ج وهـ وك وز: ثلاثة آلاف وعشرون ألفا. إلخ. [.....]

وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ قَلَعَ صَخْرَةً عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِ مُوسَى لِيَرْضَخَهُمْ بِهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ طَائِرًا فَنَقَرَهَا وَوَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ فَصَرَعَتْهُ. وَأَقْبَلَ مُوسَى عليه السلام وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَعَصَاهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ وَتَرَقَّى فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَمَا أَصَابَ إِلَّا كَعْبَهُ وَهُوَ مَصْرُوعٌ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: بَلْ ضَرَبَهُ فِي الْعِرْقِ الَّذِي تَحْتَ كَعْبِهِ فَصَرَعَهُ فَمَاتَ وَوَقَعَ عَلَى نِيلِ مِصْرَ فَجَسَرَهُمْ «١» سَنَةً. ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ وَمَكِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عُوجٌ مِنْ وَلَدِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ حَيْثُ وَقَعَا بالمرأة فحملت. والله أعلم. قوله تعالى (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) يَعْنِي الْبَلْدَةَ إِيلِيَاءَ، وَيُقَالُ: أَرِيحَاءَ (حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) أَيْ حَتَّى يُسَلِّمُوهَا لَنَا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْجَبَّارِينَ وَلَمْ يَقْصِدُوا الْعِصْيَانَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا:«فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قَالَ ابْنُ عباس وغيره: هما يوشع وكالب ابن يُوقِنَا وَيُقَالُ ابْنُ قَانِيَا، وَكَانَا مِنِ الِاثْنَيْ عشر نقيبا. و «يَخافُونَ» أَيْ مِنَ الْجَبَّارِينَ. قَتَادَةُ: يَخَافُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمَا رَجُلَانِ كَانَا فِي مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ عَلَى دِينِ مُوسَى، فَمَعْنَى«يَخافُونَ» عَلَى هَذَا أَيْ مِنَ الْعَمَالِقَةِ مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ فَيَفْتِنُوهُمْ وَلَكِنْ وَثِقَا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: يَخَافُونَ ضَعْفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجُبْنَهُمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ«يُخَافُونَ» بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُمَا مِنْ غَيْرِ قَوْمِ مُوسَى. (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أَيْ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْيَقِينِ وَالصَّلَاحِ. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) قَالَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَهُولَنَّكُمْ عِظَمُ أَجْسَامِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ مُلِئَتْ رُعْبًا مِنْكُمْ، فَأَجْسَامُهُمْ عَظِيمَةٌ وَقُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ كَانَ لَهُمُ الْغَلَبُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا قَالَا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَا: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مُصَدِّقِينَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصُرُكُمْ. ثُمَّ قِيلَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لَمَّا قَالَا هَذَا أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ رَجْمَهُمَا بِالْحِجَارَةِ، وَقَالُوا: نُصَدِّقُكُمَا وَنَدَعُ قَوْلَ عَشَرَةٍ! ثُمَّ قَالُوا لِمُوسَى: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَدًا مَا دامُوا فِيها) وَهَذَا عناد وحيد عن


(١). أي صار لهم جسرا يعبرون عليه. كل ما ذكره المؤلف في هذا المقام من الإسرائيليات التي لا يعول عليها.

الْقِتَالِ، وَإِيَاسٌ مِنَ النَّصْرِ. ثُمَّ جَهِلُوا صِفَةَ الرَّبِّ تبارك وتعالى فَقَالُوا» فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) «وَصَفُوهُ بِالذَّهَابِ وَالِانْتِقَالِ، وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مِنْهُمْ بِاللَّهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ. وَقِيلَ: أَيْ أَنَّ نُصْرَةَ رَبِّكَ [لَكَ] «١» أَحَقُّ مِنْ نُصْرَتِنَا، وَقِتَالَهُ مَعَكَ- إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ- أَوْلَى مِنْ قِتَالِنَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ كُفْرٌ، لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي رِسَالَتِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: اذْهَبْ أَنْتَ فَقَاتِلْ وَلْيُعِنْكَ رَبُّكَ. وَقِيلَ: أرادوا بالرب هرون، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَكَانَ مُوسَى يُطِيعُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ فَسَقُوا بِقَوْلِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:» فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ«أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أَيْ لَا نَبْرَحُ وَلَا نُقَاتِلُ. وَيَجُوزُ» قَاعِدِينَ«عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ قَبْلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لِأَنَّهُ كَانَ يُطِيعُهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:» وَأَخِي«. أَيْ وَأَخِي أَيْضًا لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، فَأَخِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى نَفْسِي، وَعَلَى الثَّانِي فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ عَطَفْتَ عَلَى اسْمِ إِنَّ وَهِيَ الْيَاءُ، أَيْ إِنِّي وَأَخِي لَا نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا. وَإِنْ شِئْتَ عَطَفْتَ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي أَمْلِكُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَمْلِكُ أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسَنَا. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) يُقَالُ: بِأَيِ وَجْهٍ سَأَلَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ، الْأَوَّلُ- بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَذَهَابِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ فِيمَا ارْتَكَبُوا مِنَ الْعِصْيَانِ، وَلِذَلِكَ أُلْقُوا فِي التِّيهِ. الثَّانِي- بِطَلَبِ التَّمْيِيزِ أَيْ مَيِّزْنَا عَنْ جَمَاعَتِهِمْ وَجُمْلَتِهِمْ وَلَا تُلْحِقْنَا بِهِمْ فِي الْعِقَابِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَاقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِعِصْمَتِكَ إِيَّانَا مِنَ الْعِصْيَانِ الَّذِي ابْتَلَيْتَهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ قول تعالى:» فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ" «٢»] الدخان: ٤] أَيْ يُقْضَى. وَقَدْ فَعَلَ لَمَّا أَمَاتَهُمْ فِي التِّيهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ فِي الْآخِرَةِ، أَيِ اجْعَلْنَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَجْعَلْنَا مَعَهُمْ فِي النَّارِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُبَاعَدَةِ فِي الْأَحْوَالِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثنين


(١). من ج.
(٢). راجع ج ١٦ ص ١٢٦.

وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ:«فَافْرِقْ» بِكَسْرِ الرَّاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:«قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَعَاقَبَهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَصْلُ التِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ يَتِيهُ تِيهًا وَتَوْهًا إِذَا تَحَيَّرَ. وَتَيَّهْتُهُ وَتَوَّهْتُهُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَالْيَاءُ أَكْثَرُ. وَالْأَرْضُ التَّيْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ وَتَيْهَاءُ ومنها قال «١»:
تِيهٌ أَتَاوِيهُ عَلَى السُّقَّاطِ

وَقَالَ آخَرُ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزَنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
فَكَانُوا يَسِيرُونَ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ- قِيلَ: فِي قَدْرِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ- يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ فَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، فَكَانُوا سَيَّارَةً لَا قَرَارَ لَهُمْ. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ معهم موسى وهرون؟ فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ التِّيهَ عُقُوبَةٌ، وَكَانَتْ سِنُو «٢» التِّيهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَقُوبِلُوا عَلَى كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً، وَقَدْ قَالَ:«فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ». وَقِيلَ: كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا كَمَا جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى«مُحَرَّمَةٌ» أَيْ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: حَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَكَ عَلَى النَّارِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ دُخُولَ الدَّارِ، فَهُوَ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمَ شَرْعٍ، عَنْ أكثر أهل التفسير، كما قَالَ الشَّاعِرُ:
جَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصُرِي ... إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أَيْ أَنَا فَارِسٌ فَلَا يُمْكِنُكِ صَرْعِي. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ «٣» مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فِي فَرَاسِخَ يَسِيرَةٍ فَلَا يَهْتَدُوا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا؟ فَالْجَوَابُ- قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يَكُونُ ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم


(١). هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت:
وبسطه بسعة البساط

والبساط المكان الواسع من الأرض. وقيل هذا البيت:
وبلدة بعيدة النياط ... مجهولة تغتال خطو الخاطي

(٢). في ج، سنون.
(٣). في ج: كبيرة.

إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَدَءُوا مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ الِاشْتِبَاهِ وَالْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ.«أَرْبَعِينَ» ظَرْفَ زَمَانٍ لِلتِّيهِ، فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، قَالَا: وَلَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى«عَلَيْهِمْ». وَقَالَ الرَّبِيعُ ابن أَنَسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ«أَرْبَعِينَ سَنَةً» ظَرْفٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى«أَرْبَعِينَ سَنَةً»، فَعَلَى الْأَوَّلِ إِنَّمَا دَخَلَهَا أَوْلَادُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوشَعُ وَكَالِبُ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ يُوشَعُ بِذُرِّيَّاتِهِمْ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَفَتَحُوهَا. وَعَلَى الثَّانِي- فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً دَخَلُوهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ موسى وهرون مَاتَا فِي التِّيهِ. قَالَ غَيْرُهُ: وَنَبَّأَ اللَّهُ يُوشَعَ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَفِيهَا حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَفِيهَا أُحْرِقَ الَّذِي وُجِدَ الْغُلُولُ عِنْدَهُ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِذَا غَنِمُوا نَارٌ بَيْضَاءُ فَتَأْكُلُ الْغَنَائِمَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا غُلُولٌ لَمْ تَأْكُلْهُ، وَجَاءَتِ السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ فَأَكَلَتْهُ، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَلَمْ تَأْكُلْ مَا غَنِمُوا فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمُ الْغُلُولَ فَلْتُبَايِعْنِي كُلُّ قَبِيلَةٍ فَبَايَعَتْهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ فَلْيُبَايِعْنِي كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَبَايَعُوهُ رَجُلًا رَجُلًا حَتَّى لَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فقال: عند الْغُلُولُ فَأَخْرَجَ مِثْلَ رَأْسِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذَهَبٍ «١»، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتِ الْغَنَائِمَ. وَكَانَتْ نَارًا بَيْضَاءَ مِثْلَ الْفِضَّةِ لَهَا حَفِيفٌ أَيْ صَوْتٌ مِثْلُ صَوْتِ الشَّجَرِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ فِيمَا يَذْكُرُونَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أُحْرِقَ الْغَالُّ وَمَتَاعُهُ بِغَوْرٍ يُقَالُ لَهُ الآن غور عَاجِزٌ، عُرِفَ بِاسْمِ الْغَالِّ، وَكَانَ اسْمُهُ عَاجِزًا. قُلْتُ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا عُقُوبَةُ الْغَالِّ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ «٢» فِي مِلَّتِنَا. وَبَيَانُ مَا انْبَهَمَ مِنِ اسْمِ النَّبِيِّ وَالْغَالِّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ قَالَ: (فَغَزَا فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ «٣» حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وأنا مأمور اللهم أحبسها «٤» على شيئا


(١). كقدرة أو كصورته من ذهب كان غله وأخفاه.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٥٤ وما بعدها.
(٣). لفظ البخاري (فدنا من القرية) ولعل ما هنا على حذف المفعول أي قرب جيوشه وجموعه لها. النووي
. (٤). أي أمنعها من السير زمانا حتى يتيسر لي الفتح نهارا.

فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ- قَالَ: فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ: فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ- قَالَ- فَلَصِقَتْ] يَدُهُ [بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ) وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْحِكْمَةُ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ عَلَى يُوشَعَ عِنْدَ قِتَالِهِ أَهْلَ أَرِيحَاءَ وَإِشْرَافِهِ عَلَى فَتْحِهَا عَشِيَّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِشْفَاقِهِ مِنْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُحْبَسْ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ لِأَجْلِ السَّبْتِ، وَيَعْلَمُ بِهِ عَدُوُّهُمْ فَيُعْمِلُ فِيهِمُ السَّيْفَ وَيَجْتَاحُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً لَهُ خُصَّ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَابِتَةً بِخَبَرِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، عَلَى مَا يُقَالُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ عليه السلام: (فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:» وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ«إِنَّهُ تَحْلِيلُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ] «١» وَالسَّلَامُ مَاتَ بِالتِّيهِ عمرو بن ميمون الأودي، وزاد: وهرون، وَكَانَا خَرَجَا فِي التِّيهِ إِلَى بَعْضِ الْكُهُوفِ فمات هرون فَدَفَنَهُ مُوسَى وَانْصَرَفَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: ما فعل هرون؟ فَقَالَ: مَاتَ، قَالُوا: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَتَلْتَهُ لِحُبِّنَا لَهُ، وَكَانَ مُحَبًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِ انْطَلِقْ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فَإِنِّي بَاعِثُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فنادى يا هرون فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَنَا قَاتِلُكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي مُتُّ، قَالَ: فَعُدْ إِلَى مَضْجَعِكَ، وَانْصَرَفَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ بِالتِّيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ مُوسَى فَتَحَ أَرِيحَاءَ، وَكَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فَقَاتَلَ الْجَبَابِرَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، ثُمَّ دَخَلَهَا مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَقَامَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُ بِقَبْرِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الموت إلى موسى عليه [الصلاة و] «٢» السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ:» أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ«قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ:» ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ«قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ»، قَالَ:«ثُمَّ الْمَوْتُ» قَالَ:«فَالْآنَ»، فَسَأَلَ اللَّهُ أن


(١). من ج.
(٢). من ج.

يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) فَهَذَا نَبِيُّنَا ﷺ قَدْ عَلِمَ قَبْرَهُ وَوَصَفَ مَوْضِعَهُ، وَرَآهُ فِيهِ قَائِمًا يُصَلِّي كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنِ الْخَلْقِ سِوَاهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعْبَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَعْنِي بِالطَّرِيقِ طَرِيقَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ مَكَانَ الطَّرِيقِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ لَطْمِ مُوسَى عَيْنَ ملك الموت وفقيها عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مُتَخَيَّلَةً لَا حَقِيقَةً، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَا يَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعْنَوِيَّةً وَإِنَّمَا فَقَأَهَا بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْرِفْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا، وَتَجِبُ الْمُدَافَعَةُ فِي هَذَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ وَالصَّكِّ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ:«يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ» فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ مُوسَى لَمَا صَدَقَ الْقَوْلُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى:«أَجِبْ رَبَّكَ» يَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ «١» وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ، وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كَمَا تَرَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ ابْتِدَاءُ مِثْلِ هَذَا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَمِنْهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مُوسَى عليه] الصلاة و[«٢» السلام عَرَفَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ لكنه جاء مجيء الجازم بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَعِنْدَ مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْ (أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ رُوحَ نَبِيٍّ حَتَّى يخبره) فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أُعْلِمَ بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ إِلَى أَدَبِهِ، فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ امْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالتَّخْيِيرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فخيره بين الحياة والموت اختار الموت


(١). القلنسوة: ما يلبس على الرأس.
(٢). من ج. [.....]

وَاسْتَسْلَمَ. وَاللَّهُ بِغَيْبِهِ أَحْكَمُ وَأَعْلَمُ. هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي وَفَاةِ مُوسَى عليه السلام. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَصًا وَأَخْبَارًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَفِي الصَّحِيحِ غُنْيَةٌ عَنْهَا. وَكَانَ عُمْرُ مُوسَى مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَيُرْوَى أَنَّ يُوشَعُ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ وَجَدْتَ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ:«كَشَاةٍ تُسْلَخُ وَهِيَ حَيَّةٌ». وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى، قَالَ: ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ«التَّذْكِرَةِ». وَقَوْلُهُ:«فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» أَيْ لَا تَحْزَنْ. وَالْأَسَى الْحُزْنُ، أَسَى يَأْسَى أَسًى أَيْ حَزِنَ، قَالَ «١»:
يَقُولُونَ لَا تهلك أسى وتحمل

[سورة المائدة (٥): آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الْآيَةَ. وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا التَّنْبِيهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ظُلْمَ الْيَهُودِ، وَنَقْضَهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ كَظُلْمِ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ. الْمَعْنَى: إِنْ هَمَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بِالْفَتْكِ بِكَ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ قَتَلُوا قَبْلَكَ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ، وَالشَّرُّ قَدِيمٌ. أَيْ ذَكِّرْهُمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ قِصَّةُ صِدْقٍ، لَا كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِمَنْ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ. وَاخْتُلِفَ فِي ابْنَيْ آدَمَ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَا لِصُلْبِهِ، كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- ضَرَبَ اللَّهُ بِهِمَا الْمَثَلَ فِي إِبَانَةِ حَسَدِ الْيَهُودِ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ، فَتَقَرَّبَا بِقُرْبَانَيْنِ وَلَمْ تَكُنِ الْقَرَابِينُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَهْمٌ، وَكَيْفَ يَجْهَلُ صُورَةَ الدَّفْنِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِالْغُرَابِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا ابْنَاهُ لِصُلْبِهِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وَكَانَ قُرْبَانُ قَابِيلَ حزمة من سنبل- لأنه كان


(١). هو امرؤ القيس، وصدر البيت: (وقوفا بها صحبي على مطيهم).

صَاحِبَ زَرْعٍ- وَاخْتَارَهَا مِنْ أَرْدَأِ زَرْعِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً طَيِّبَةً فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا. وَكَانَ قُرْبَانُ هَابِيلَ كَبْشًا- لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ- أَخَذَهُ مِنْ أَجْوَدِ غَنَمِهِ.«فَتُقُبِّلَ» فَرُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْعَى فِيهَا إِلَى أَنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ عليه السلام، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا- قَالَ لَهُ قَابِيلُ حسدا: أنه كَانَ كَافِرًا- أَتَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ يَرَاكَ النَّاسُ أَفْضَلَ مِنِّي! «لَأَقْتُلَنَّكَ» وَقِيلَ: سَبَبُ هَذَا الْقُرْبَانِ أَنَّ حَوَّاءَ عليها السلام كَانَتْ تَلِدُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى- إِلَّا شِيثَا عليه السلام فَإِنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِدًا عِوَضًا مِنْ هَابِيلَ عَلَى مَا يَأْتِي، وَاسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِحَوَّاءَ لَمَّا وَلَدَتْهُ: هَذَا هِبَةُ اللَّهِ لَكِ بَدَلَ هَابِيلَ. وَكَانَ آدَمُ يَوْمَ وُلِدَ شِيثُ ابْنَ ثَلَاثِينَ «١» وَمِائَةِ سَنَةٍ- وَكَانَ يُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ الْأُنْثَى مِنَ الْبَطْنِ الْآخَرِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ تَوْأَمَتُهُ، فَوَلَدَتْ مَعَ قَابِيلَ أُخْتًا جَمِيلَةً وَاسْمُهَا إِقْلِيمِيَاءَ، وَمَعَ هَابِيلَ أُخْتًا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاسْمُهَا لِيُوذَا، فَلَمَّا أَرَادَ آدَمُ تَزْوِيجَهُمَا قَالَ قَابِيلُ: أَنَا أَحَقُّ بِأُخْتِي، فَأَمَرَهُ آدَمُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ، وَزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى التَّقْرِيبِ، قال جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمِ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ حَضَرَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ جَعْفَرِ الصَّادِقِ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنِ ابْنِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ آدَمُ لَمَا رَغِبَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا كان دين آدم إلا يكن النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى الْأَرْضِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَدَتْ حَوَّاءُ بِنْتًا فَسَمَّاهَا عَنَاقًا فَبَغَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ بَغَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ قَتَلَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ لِآدَمَ قَابِيلَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ هَابِيلَ، فَلَمَّا أَدْرَكَ قَابِيلُ أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ جِنِّيَّةً مِنْ وَلَدِ الْجِنِّ، يُقَالُ لَهَا: جَمَّالَةٌ فِي صُورَةِ إِنْسِيَّةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْهَا مِنْ قَابِيلَ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ. فَلَمَّا أَدْرَكَ هَابِيلَ أَهْبَطَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ حُورِيَّةً «٢» فِي صِفَةٍ إِنْسِيَّةٍ وَخَلَقَ لَهَا رَحِمًا، وَكَانَ اسْمُهَا بَزْلَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا هَابِيلُ أَحَبَّهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْ بَزْلَةَ مِنْ هَابِيلَ فَفَعَلَ. فَقَالَ قَابِيلُ: يَا أَبَتِ أَلَسْتُ أَكْبَرَ مِنْ أَخِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكُنْتُ أَحَقَّ بِمَا فَعَلْتَ بِهِ مِنْهُ! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيَّ. فَقَالَ آدَمُ:«فَقَرِّبَا قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ فهو أحق بالفضل».


(١). في ج وى: ثمانين.
(٢). في ج وى: حوراء.

قلت: هذه القضية عَنْ جَعْفَرٍ مَا أَظُنُّهَا تَصِحُّ، وَأَنَّ الْقَوْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ لِجَارِيَةِ تِلْكَ الْبَطْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً» «١»] النساء: ١]. وَهَذَا كَالنَّصِّ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ«الْبَقَرَةِ» «٢». وَكَانَ جَمِيعُ مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاءُ أَرْبَعِينَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ إِقْلِيمِيَاءُ، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ. ثُمَّ بَارَكَ اللَّهُ فِي نَسْلِ آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ- مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلَدَتْ بِنْتًا وَأَنَّهَا بَغَتْ- فَيُقَالُ: مَعَ مَنْ بَغَتْ؟ أَمَعَ جِنِّيٍّ تَسَوَّلَ «٣» لَهَا! وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: وَفِي قَوْلِ هَابِيلَ«قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» كَلَامٌ قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ قَابِيلُ:«لَأَقْتُلَنَّكَ» قَالَ لَهُ: وَلِمَ تَقْتُلُنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا؟، وَلَا ذَنْبَ لِي فِي قَبُولِ اللَّهِ قُرْبَانِي، أَمَا إِنِّي اتَّقَيْتُهُ وَكُنْتُ عَلَى لَاحِبِ «٤» الْحَقِّ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ عطِيَّةَ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ الشِّرْكِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّدٌ فَأَعْمَالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيهَا نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا الْمُتَّقِي الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ فَلَهُ الدَّرَجَةُ] الْعُلْيَا [«٥» مِنَ الْقَبُولِ وَالْخَتْمِ بِالرَّحْمَةِ، عُلِمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا. وَقَالَ عَدِيُّ «٦» بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ: قُرْبَانُ مُتَّقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ. قُلْتُ: وَهَذَا خَاصٌّ فِي نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها ورجله التي يمشي بها ولين سألني لأعطينه ولين استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شي أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الموت وأنا أكره مساءته).


(١). راجع ج ٥ ص ٢.
(٢). راجع ج ٢ ص ٦٢ فما بعدها.
(٣). في ى: نزل بها.
(٤). لاحب: واضح.
(٥). من ك وهـ وج وز وى.
(٦). في ك: علي.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٢٨ الى ٢٩]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) الْآيَةَ. أَيْ لَئِنْ قَصَدْتَ قَتْلِي فَأَنَا لَا أَقْصِدُ قَتْلَكَ، فَهَذَا اسْتِسْلَامٌ مِنْهُ. وَفِي الْخَبَرِ: (إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ فَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رسول: إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ] إِلَيَّ [«١» لِيَقْتُلَنِي؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ) وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ«لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي». قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أَلَّا يَسْتَلَّ أَحَدٌ سَيْفًا، وَأَلَّا يَمْتَنِعَ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي شَرْعِنَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إِجْمَاعًا. وَفِي وُجُوبٍ ذَلِكَ عَلَيْهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي الْحَشْوِيَّةِ قَوْمٌ لَا يُجَوِّزُونَ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ الدَّفْعَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «٢»، وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ، وَكَفِّ الْيَدِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ«التَّذْكِرَةِ». وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَجُمْهُورُ النَّاسِ: كَانَ هَابِيلُ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قَابِيلَ وَلَكِنَّهُ تَحَرَّجَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهذا هو الأظهر، ومن ها هنا يَقْوَى أَنَّ قَابِيلَ إِنَّمَا هُوَ عَاصٍ لَا كَافِرٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ هُنَا وَجْهٌ، وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّحَرُّجِ فِي هَذَا أَنَّ الْمُتَحَرِّجَ يَأْبَى أَنْ يُقَاتِلَ مُوَحِّدًا، وَيَرْضَى بِأَنْ يُظْلَمَ لِيُجَازَى فِي الْآخِرَةِ، وَنَحْوَ هَذَا فَعَلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أَقْصِدُ قَتْلَكَ بَلْ أَقْصِدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِي، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: كَانَ نَائِمًا فَجَاءَ قَابِيلُ وَرَضَخَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ عَلَى مَا يَأْتِي وَمُدَافَعَةُ الْإِنْسَانِ عَمَّنْ يُرِيدُ ظُلْمَهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِ الْعَادِي. وَقِيلَ: لَئِنْ بَدَأْتَ بِقَتْلِي فَلَا أَبْدَأُ بِالْقَتْلِ. وَقِيلَ: أَرَادَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ظُلْمًا فَمَا أَنَا بظالم، إني أخاف الله رب العالمين.


(١). من ج وى وز ك.
(٢). حديث أبي ذر: راجع أحكام الجصاص ج ١ ص ٤٠٢ ط الاستانة. ففيه الحديث بتمامه.

الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) قِيلَ: مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) وَكَانَ هَابِيلُ أَرَادَ أَنِّي لَسْتُ بِحَرِيصٍ عَلَى قَتْلِكَ، فَالْإِثْمُ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ أُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَهُ أَنْتَ مَعَ إِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى«بِإِثْمِي» الَّذِي يَخْتَصُّ بِي فِيمَا فَرَّطْتُ «١»، أَيْ يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِي فَتُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي، وَتَبُوءَ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِكَ، وَهَذَا يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: (يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ (. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «٢» (. وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنِّي أُرِيدُ أَلَّا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:«وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» «٣»] النحل: ١٥] أي لئلا تميد بكم. وقول تعالى:«يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» «٤»] النساء: ١٧٦] أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا فَحَذَفَ«لَا». قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِقَوْلِهِ عليه السلام: (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِثْمَ الْقَتْلِ حَاصِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمَعْنَى، تَرْجِعُ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي عَمِلْتُهُ قَبْلَ قَتْلِي. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ، أَيْ أَوَ إِنِّي أُرِيدُ؟ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» «٥» أَيْ أَوَ تِلْكَ نِعْمَةٌ؟ وَهَذَا لِأَنَّ إِرَادَةَ القتل معصية.] حكاه القشيري [«٦» وسيل أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: كَيْفَ يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَأْثَمَ أَخُوهُ وَأَنْ يَدْخُلَ النَّارَ؟ فَقَالَ: إنما وقعت الإرادة بعد ما بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي لَأَمْتَنِعَنَّ مِنْ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلثَّوَابِ، فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ قَالَ: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَأَيُ إِثْمٍ لَهُ إِذَا قُتِلَ؟ فَقَالَ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ، أَحَدُهَا- أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِ قَتْلِي وإثم ذنبك الذي من


(١). في ج وى: فرط لي.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٣٠.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٩٠. [.....]
(٤). راجع عن ٢٩ من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٩٣.
(٦). من ج وى وك وز وهـ.

أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ- أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِ اعْتِدَائِكَ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ قَدْ يَأْثَمُ بِالِاعْتِدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ- أَنَّهُ لَوْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهِ أَثِمَ، فَرَأَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ فَإِثْمُهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ. فَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِكَ: الْمَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدٍ، أَيِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا، فَالْمَعْنَى أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِنَا. وَأَصْلُ بَاءَ رَجَعَ إِلَى الْمَبَاءَةِ، وهي المنزل.«وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ»] البقرة: ٦١] أَيْ رَجَعُوا. وَقَدْ مَضَى فِي«الْبَقَرَةِ» «١» مُسْتَوْفًى. وَقَالَ الشَّاعِرُ «٢»:
أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... محارمنا لا يبؤ «٣» الدَّمُ بِالدَّمِ
أَيْ لَا يَرْجِعُ الدَّمُ بِالدَّمِ فِي الْقَوَدِ. (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُكَلَّفِينَ قَدْ لَحِقَهُمُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِ هَابِيلَ لِأَخِيهِ قَابِيلَ:«فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، لِأَنَّ لَفْظَ أَصْحَابِ النَّارِ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْكُفَّارِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ هُنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَمَعْنَى«مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» مُدَّةُ كَوْنِكَ فِيهَا. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ». أَيْ سَوَّلَتْ وَسَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَشَجَّعَتْهُ وَصَوَّرَتْ لَهُ أَنَّ قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعٌ سَهْلٌ] لَهُ [«٤» يُقَالُ: طَاعَ الشَّيْءُ يُطَوِّعُ أَيْ سَهُلَ وَانْقَادَ. وَطَوَّعَهُ فُلَانٌ لَهُ أَيْ سَهَّلَهُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: طَوَّعَتْ وَأَطَاعَتْ «٥» وَاحِدٌ، يُقَالُ: طَاعَ لَهُ كَذَا إِذَا أَتَاهُ طَوْعًا. وَقِيلَ: طَاوَعَتْهُ نَفْسُهُ فِي قَتْلِ أَخِيهِ، فنزع الخافض فانتصب. وروي أنه


(١). راجع ج ١ ص ٤٣٠.
(٢). هو جابر بن جبير التغلبي.
(٣). هكذا روى في كتاب سيبويه، وساقه شاهدا على جزم (يبؤ) في جواب الاستفهام وقال في شواهده: التقدير انته عنا لا يبؤ الدم بالدم- أي- إن انتهت عنا ولم تقتل منا لم يقتل واحد بآخر. وروى في (اللسان) بغير هذا.
(٤). من ج، و، ز، هـ.
(٥). في ك: وطاوعت، وفي ز، و، هـ: وطاعت.

جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُهُ فَجَاءَ إِبْلِيسُ بِطَائِرٍ- أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ- فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ليقتدي به قابيل ففعل، قال ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَجَدَهُ نَائِمًا فَشَدَخَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَوْرٍ- جَبَلٌ بِمَكَّةَ- قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءٍ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ. وَكَانَ لِهَابِيلَ يَوْمَ قَتَلَهُ قَابِيلُ عِشْرُونَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ قَابِيلَ كَانَ يَعْرِفُ الْقَتْلَ بِطَبْعِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ لَمْ يَرَ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِطَبْعِهِ أَنَّ النَّفْسَ فَانِيَةٌ وَيُمْكِنُ إِتْلَافُهَا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَتَلَهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فَقَعَدَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ إِذْ أَقْبَلَ غُرَابَانِ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ثُمَّ حَفَرَ له حفرة فدفنه، ففعل القاتل بأخيه كذلك. وَالسَّوْءَةُ يُرَادُ بِهَا الْعَوْرَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهَا جِيفَةُ الْمَقْتُولِ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ إِلَى أَرْضِ عَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ أَخِيكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ النَّارَ، فَانْصِبْ أَنْتَ أَيْضًا نَارًا تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ النَّارَ فِيمَا قِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ وَآدَمُ بِمَكَّةَ اشْتَاكَ الشَّجَرُ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَطْعِمَةُ، وَحَمُضَتِ الْفَوَاكِهُ، وَمَلُحَتِ الْمِيَاهُ، وَاغْبَرَّتِ الْأَرْضُ، فَقَالَ آدَمُ عليه السلام: قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، فَأَتَى الْهِنْدَ فَإِذَا قَابِيلُ قَدْ قَتَلَ هَابِيلَ. وَقِيلَ: إِنَّ قَابِيلَ هُوَ الَّذِي انْصَرَفَ إِلَى آدَمَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَيْنَ هَابِيلُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي كَأَنَّكَ وَكَّلْتَنِي بِحِفْظِهِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَفَعَلْتَهَا؟! وَاللَّهِ إِنَّ دَمَهُ لَيُنَادِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ أَرْضًا شَرِبَتْ دَمَ هَابِيلَ. فَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ حِينِئِذٍ مَا شَرِبَتْ أَرْضٌ دَمًا. ثُمَّ إِنَّ آدَمَ بَقِيَ مِائَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ، حَتَّى جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: حَيَّاكَ اللَّهُ يَا آدَمُ وَبَيَّاكَ. فَقَالَ: مَا بَيَّاكَ؟ قال: أضحكك، قاله مُجَاهِدٌ «١» وَسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ. وَلَمَّا مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً- وَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلِ بِخَمْسِ سِنِينَ وَلَدَتْ لَهُ شيثا، وَتَفْسِيرُهُ هِبَةُ اللَّهِ، أَيْ خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قَبْلَ قَتْلِ قَابِيلَ هَابِيلَ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ تَسْتَأْنِسُ بِآدَمَ «٢»، فَلَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ هَرَبُوا «٣»، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بِالْهَوَاءِ، وَالْوُحُوشُ بالبرية، و] لحقت [«٤» السِّبَاعُ بِالْغِيَاضِ. وَرُوِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا تَغَيَّرَتِ الحال قال:


(١). مجاهد ساقط من ج، ز، و.
(٢). في ك: بابن آدم.
(٣). كذا في الأصول.
(٤). من ك.

تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةً الْوَجْهُ الْمَلِيحُ
فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَكَذَا هُوَ الشِّعْرُ بِنَصْبِ«بَشَاشَةً» وَكَفِّ التَّنْوِينِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قَالَ آدَمُ الشِّعْرَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ فِي النَّهْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، لَكِنْ لَمَّا قُتِلَ هَابِيلُ رَثَاهُ آدَمُ وَهُوَ سُرْيَانِيُّ، فَهِيَ مَرْثِيَّةٌ بِلِسَانِ السُّرْيَانِيَّةِ أَوْصَى بِهَا إِلَى ابْنِهِ شِيثَ وَقَالَ: إِنَّكَ وَصِيِّي فَاحْفَظْ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ لِيُتَوَارَثَ، فَحُفِظَتْ مِنْهُ إِلَى زَمَانِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، فَتَرْجَمَ عَنْهُ يَعْرُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ «١» وَجَعَلَهُ شِعْرًا «٢». الثَّانِيَةُ- رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ فَقَالَ: (يَوْمُ الدَّمِ فِيهِ حَاضَتْ حَوَّاءُ وَفِيهِ قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ). وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ). وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ عَلَى إِبْلِيسَ كِفْلٌ مِنْ مَعْصِيَةِ كُلِّ مَنْ عَصَى بِالسُّجُودِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَى بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، قَالَ ﷺ: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ ﷺ:) إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ (. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ، وَنَصٌّ صَحِيحٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَتُبِ الْفَاعِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ آدَمَ عليه السلام كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ فِي أَكْلِ ما نهى عنه، ولا يكون عليه شي مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَصَى بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عنه ولا شربه ممن بَعْدِهِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ آدَمَ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وتاب الله عليه،


(١). في ج، ز، و، هـ: بالعبرانية وهو خطأ.
(٢). قال الألوسي: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والاولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. وقال أبو حيان في البحر: ويروى بنصب (بشاشة) من غير تنوين على التمييز ورفع (الوجه المليح) وليس بلحن. [.....]

فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يَجْنِ. وَوَجْهٌ آخَرُ: فَإِنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي«الْبَقَرَةِ» «١» وَالنَّاسِي غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُؤَاخَذٍ. الثَّالِثَةُ- تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْبَيَانَ عَنْ حَالِ الْحَاسِدِ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُهُ حَسَدُهُ عَلَى إِهْلَاكِ نَفْسِهِ بِقَتْلِ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ قَرَابَةً، وَأَمَسُّهُ بِهِ رَحِمًا، وَأَوْلَاهُمْ بِالْحُنُوِّ عَلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَذِيَّةِ عَنْهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَيْ مِمَّنْ خَسِرَ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ، عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ، وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُسْرَانِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» وَإِلَّا فَالْخُسْرَانُ يَعُمُّ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى«فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» أَيْ فِي الدنيا. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) قَالَ مُجَاهِدٌ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا حَتَّى قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ حَفَرَ فَدَفَنَهُ. وَكَانَ ابْنُ آدَمَ هَذَا أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْغُرَابَ بَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى طُعْمِهِ «٢» لِيُخْفِيَهُ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ فِعْلُ ذلك، فتنبه قابيل ذلك عَلَى مُوَارَاةِ أَخِيهِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ هَابِيلَ جَعَلَهُ فِي جِرَابٍ، وَمَشَى بِهِ يَحْمِلُهُ فِي عُنُقِهِ مِائَةَ سَنَةٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وروى ابن القاسم عن مالك «٣»


(١). راجع ج ١ ص ٣٠٦، وهذا هو اللائق بالعصمة النبوية.
(٢). طعمه: أكله.
(٣). في ك، ز: عن محمد.

أَنَّهُ حَمَلَهُ سَنَةً وَاحِدَةً، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: حَتَّى أَرْوَحَ «١» وَلَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ إِلَى أَنِ اقْتَدَى بِالْغُرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ بِالرِّيحِ بَعْدَ الرُّوحِ فَلَوْلَا أَنَّ الرِّيحَ يَقَعُ بَعْدَ الرُّوحِ مَا دَفَنَ حَمِيمٌ حَمِيمًا وَبِالدُّودِ فِي الْجُثَّةِ فَلَوْلَا أَنَّ الدُّودَ يَقَعُ فِي الْجُثَّةِ لَاكْتَنَزَتْهَا الْمُلُوكُ وَكَانَتْ خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِالْمَوْتِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْبَرُ حَتَّى يَمَلَ نَفْسَهُ وَيَمَلَّهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ فَكَانَ الْمَوْتُ أَسْتَرَ لَهُ (. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ قَابِيلُ يَعْلَمُ الدَّفْنَ، وَلَكِنْ تَرَكَ أَخَاهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ التُّرَابَ عَلَى هَابِيلَ لِيَدْفِنَهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:«يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» حَيْثُ رَأَى إِكْرَامَ اللَّهِ لِهَابِيلَ بِأَنْ قَيَّضَ لَهُ الْغُرَابَ حَتَّى وَارَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَدَمَ تَوْبَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَدَمُهُ كَانَ عَلَى فَقْدِهِ لَا عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فَلَمْ يَكُنْ مُوَفِّيًا شُرُوطَهُ. أَوْ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرْ نَدَمُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ كَانَتْ نَدَامَتُهُ عَلَى قَتْلِهِ لَكَانَتِ النَّدَامَةُ تَوْبَةً مِنْهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَتَيَا قَبْرَهُ وَبَكَيَا أَيَّامًا عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ قَابِيلَ كَانَ عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ فَنَطَحَهُ ثَوْرٌ فَوَقَعَ إِلَى السَّفْحِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عُرُوقُهُ. وَيُقَالُ: دَعَا عَلَيْهِ آدَمُ فَانْخَسَفَتْ بِهِ الْأَرْضُ. وَيُقَالُ: إِنَّ قَابِيلَ اسْتَوْحَشَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلَ وَلَزِمَ الْبَرِيَّةَ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ إِلَّا مِنَ الْوَحْشِ، فَكَانَ إِذَا ظَفِرَ بِهِ وَقَذَهُ «٢» حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ يَأْكُلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتِ الْمَوْقُوذَةُ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُسَاقُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:«رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»] فصلت: ٢٩] [الْآيَةَ] «٣» فَإِبْلِيسُ رَأْسُ الْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَابِيلُ رَأْسُ الْخَطِيئَةِ مِنَ الْإِنْسِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي«حم فُصِّلَتْ» «٤» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّدَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً، وَاللَّهُ بِكُلِّ ذَلِكَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَابِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَيِّتٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلِذَلِكَ جُهِلَتْ سُنَّةُ الْمُوَارَاةِ، وَكَذَلِكَ حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ] ابْنِ [«٥» إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا فِي كتب الأوائل. و] قوله [«٦»


(١). أروح: أنتن.
(٢). الوقذ: الضرب الشديد.
(٣). من ج وك وهـ. راجع ج ١٥ ص ٣٥٥.
(٤). من ج وك وهـ. راجع ج ١٥ ص ٣٥٥.
(٥). من ج.
(٦). من ك.

«يَبْحَثُ» مَعْنَاهُ يُفَتِّشُ التُّرَابَ بِمِنْقَارِهِ وَيُثِيرُهُ. وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ سُورَةُ«بَرَاءَةٌ» الْبُحُوثُ «١»، لِأَنَّهَا فَتَّشَتْ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنِ النَّاسُ غَطَّوْنِي تَغَطَّيْتُ عَنْهُمُ ... وَإِنْ بَحَثُونِي كَانَ «٢» فِيهِمْ مَبَاحِثُ
وَفِي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ كَالْبَاحِثِ عَلَى الشَّفْرَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَكَانَتْ كَعَنْزِ السُّوءِ قَامَتْ بِرِجْلِهَا ... إِلَى مُدْيَةٍ مَدْفُونَةٍ تَسْتَثِيرُهَا
الثَّانِيَةُ- بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَ حِكْمَةً، لِيَرَى ابْنُ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:«ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» «٣»] عبس: ٢١] فَصَارَ فِعْلُ الْغُرَابِ فِي الْمُوَارَاةِ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ، فَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَأَخَصُّ النَّاسِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ يَلُونَهُ، ثُمَّ الْجِيرَةُ، ثُمَّ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخُ الضَّالُّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: (اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ التُّرَابَ ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي) فَذَهَبْتُ فَوَارَيْتُهُ وَجِئْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ وَدَعَا لِي. الثَّالِثَةُ- وَيُسْتَحَبُّ فِي الْقَبْرِ سَعَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا). وَرُوِيَ عَنِ الْأَدْرَعِ السُّلَمِيِّ قَالَ: جِئْتُ لَيْلَةً أَحْرُسُ النَّبِيَّ ﷺ، فَإِذَا رَجُلٌ قِرَاءَتُهُ عَالِيَةٌ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا مُرَاءٍ «٤»، قَالَ: فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فَفَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ فَحَمَلُوا نَعْشَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (ارْفُقُوا بِهِ رَفَقَ اللَّهُ بِهِ إِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). قَالَ: وَحَضَرَ حُفْرَتَهُ فَقَالَ: (أَوْسِعُوا لَهُ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ) فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ:] يَا رَسُولَ اللَّهِ [«٥» لَقَدْ حَزِنْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: (أَجَلْ إِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ سَعِيدِ بن أبي سعيد.


(١). البحوث (بضم الباء) جمع بحث، وقال ابن الأثير: رأيت في (الفائق) سورة (البحوث) بفتح (الباء) فإن صحت فهي فعول من أبنية المبالغة، ويكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.
(٢). كذا في ابن عطية، والذي في الأصول: كنت فيهم مباحث.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢١٥.
(٤). من الرياء وكأنه عليه الصلاة والسلام أعرض عن كلامه تنبيها على أنه خطأ، ثم بين في وقت آخر أن الامر على خلاف ما زعم. (هامش ابن ماجة).
(٥). الزيادة عن (ابن ماجة). [.....]

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَدْرَعُ السُّلَمِيُّ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَرَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أبي سعيد المقبري، و؟؟ هِشَامُ بْنُ عَامِرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْحَسْحَاسِ بن عامر ابن غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيُّ، كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ شِهَابًا فَغَيَّرَ النَّبِيُّ ﷺ اسْمَهُ فَسَمَّاهُ هِشَامًا، وَاسْتُشْهِدَ أَبُوهُ عَامِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ. سَكَنَ هِشَامُ الْبَصْرَةَ وَمَاتَ بِهَا، ذُكِرَ هَذَا فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ. الرَّابِعَةُ- ثُمَّ قِيلَ: اللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ، فَإِنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ﷺ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ «١» وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أول عَمِلَ عَمَلَهُ، فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما. وَالرَّجُلَانِ هُمَا أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَلْحَدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَشُقُّ. وَاللَّحْدُ هُوَ أَنْ يَحْفِرَ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ إِنْ كَانَتْ تُرْبَةً صُلْبَةً، يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صنع برسول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا). الْخَامِسَةُ- رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْدِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا أَخَذَ فِي تَسْوِيَةِ [اللَّبِنِ عَلَى] «٢» اللَّحْدِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهَا، وَصَعِّدْ رُوحَهَا وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا. قُلْتُ يَا ابْنَ عُمَرَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَمْ قُلْتَهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: إِنِّي إذا لقادر على القول! بل شي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ


(١). يلحد كيمنع، أو من ألحد.
(٢). الزيادة عن (ابن ماجة).

ﷺ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ فَحَثَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا. فَهَذَا مَا تَعَلَّقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَالْأَصْلُ فِي» يَا وَيْلَتى «يَا وَيْلَتِي ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ أَلِفٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ عَلَى الْأَصْلِ بِالْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، لِأَنَّ حَذْفَ الْيَاءِ فِي النِّدَاءِ أَكْثَرُ. وَهِيَ كَلِمَةٌ تَدْعُو بِهَا الْعَرَبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ، قال سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ:» وَيْلٌ«بُعْدٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:» أَعَجِزْتُ" بِكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، إِنَّمَا يُقَالُ عَجِزَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا عَظُمَتْ عَجِيزَتُهَا، وَعَجَزْتُ عَنِ الشَّيْءِ عَجْزًا وَمَعْجِزَةً وَمَعْجَزَةً. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ وَجَرِيرَتِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مِنْ جِنَايَتِهِ، يُقَالُ: أَجَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ شَرًّا يَأْجُلُ أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذ. قَالَ الْخِنَّوْتُ «١»:
وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٍ كُنْتُ بَيْنَهُمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهُ
أَيْ جَانِيهِ، وَقِيلَ: أَنَا جَارُّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
أَجَلْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ ... فَوْقَ مَنْ أَحْكَأَ «٢» صُلْبًا بِإِزَارِ
وَأَصْلُهُ الْجَرُّ، وَمِنْهُ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يُجَرُّ إِلَيْهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ. وَمِنْهُ الْآجِلُ نَقِيضُ الْعَاجِلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى يُجَرُّ إِلَيْهِ أَمْرٌ مُتَقَدِّمٌ. وَمِنْهُ أَجَلْ بِمَعْنَى نَعَمْ. لِأَنَّهُ انْقِيَادٌ إِلَى مَا جُرَّ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ الْإِجْلُ «٣» لِلْقَطِيعِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ، لِأَنَّ بَعْضَهُ يَنْجَرُّ إِلَى بَعْضٍ، قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ. وَقَرَأَ يزيد بن


(١). قال في البحر: نسبه ابن عطية لخوات بن جبير وكذا في اللسان. والبيت في ديوان زهير. وفي ج، ز، ك، هـ،: ذات بينهم.
(٢). أحكأ العقدة: شدها وأحكمها. والمعنى: فضلكم الله على من ائتزر فشد صلبه بإزار، أي فوق الناس أجمعين.
(٣). في الأصول: الآجال وهو جمع.

الْقَعْقَاعِ أَبُو جَعْفَرٍ:«مِنِ أَجْلِ ذَلِكَ» بِكَسْرِ النُّونِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَالْأَصْلُ«مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» فَأُلْقِيَتْ كَسْرَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى النُّونِ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ. ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:«مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:«مِنَ النَّادِمِينَ»] المائدة: ٣١]، فَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:«مِنْ أَجْلِ ذلِكَ». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ«كَتَبْنا». فَ«مِنْ أَجْلِ» ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالتَّمَامُ«مِنَ النَّادِمِينَ»، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ، أَيْ مِنْ سَبَبِ هَذِهِ النَّازِلَةِ كَتَبْنَا. وَخَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ- وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُمْ أُمَمٌ قَبْلَهُمْ كَانَ قَتْلُ النَّفْسِ فِيهِمْ مَحْظُورًا- لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ فِي قَتْلِ الْأَنْفُسِ مَكْتُوبًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلًا مُطْلَقًا، فَغُلِّظَ الْأَمْرُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْكِتَابِ بِحَسَبِ طُغْيَانِهِمْ وَسَفْكِهِمُ الدِّمَاءَ. وَمَعْنَى«بِغَيْرِ نَفْسٍ» أَيْ بِغَيْرِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا فَيَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْقَتْلَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا.«أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ» أَيْ شِرْكٍ، وَقِيلَ: قَطْعُ طَرِيقٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ-«أَوْ فَسَادًا» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ، أَوْ أَحْدَثَ فَسَادًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:«مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ» لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ-«فَسادٍ» بِالْجَرِّ عَلَى مَعْنَى أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ. (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) اضْطَرَبَ لَفْظُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَرْتِيبِ هَذَا التَّشْبِيهِ لِأَجْلِ أَنَّ عِقَابَ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا أَكْثَرُ مِنْ عِقَابِ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهُ بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمَعْنَى مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً وَانْتَهَكَ حُرْمَتَهَا فَهُوَ مِثْلُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَصَانَ حُرْمَتَهَا وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. وَعَنْهُ أَيْضًا. الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَةٍ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ

جَهَنَّمَ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا، يَقُولُ: لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ «١»، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ مِنَ الْقَوَدِ وَالْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا، قَالَ: وَمَنْ أَحْيَاهَا أَيْ مَنْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْلُهُ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا، أَيْ هُوَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْمَقْدِرَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، أَيْ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ شُكْرُهُ. وَقِيلَ: جُعِلَ إِثْمُ قَاتِلِ الْوَاحِدِ إِثْمَ قَاتِلِ الْجَمِيعِ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُرِيدُ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالتَّشْبِيهُ عَلَى مَا قِيلَ وَاقِعٌ كُلُّهُ، وَالْمُنْتَهِكُ فِي وَاحِدٍ مَلْحُوظٌ بِعَيْنِ مُنْتَهِكِ الْجَمِيعِ، وَمِثَالُهُ رَجُلَانِ حَلَفَا عَلَى شَجَرَتَيْنِ أَلَا يَطْعَمَا مِنْ ثَمَرِهِمَا شَيْئًا، فَطَعِمَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً مِنْ ثَمَرِ شَجَرَتِهِ، وَطَعِمَ الْآخَرُ ثَمَرَ شَجَرَتِهِ كُلِّهَا، فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْحِنْثِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ وَاحِدًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْياها) تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ، وَإِلَّا فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً- الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاعُ- إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تعالى. وإنما هذا الأحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين:«أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» «٢»] البقرة: ٢٥٨] فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)


(١). أي لم يزد على ذلك من العذاب، كما في الطبري.
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٨٣.

فيه خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ] نُزُولِ [«١» هَذِهِ الْآيَةِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ، رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلَ «٢» - أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَةَ- قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاجْتَوَوْا «٣» الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ ﷺ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ خَبَرُهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَرْسَلَ فِي آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ «٤» أَعْيُنَهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ «٥» يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ «٦»، وَفِي رِوَايَةٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً «٧» فَأُتِيَ بِهِمْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي ذَلِكَ:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا» الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدِمُ «٨» الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي حديثه: فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا «٩» عَلَى بِلَادِهِمْ، فَجِئْنَا بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ جَرِيرٌ: فَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَاءَ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (النَّارُ). وَقَدْ حَكَى أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ: أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَيِ الرَّاعِيَ وَرِجْلَيْهِ، وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وَأُدْخِلَ الْمَدِينَةَ مَيِّتًا. وَكَانَ اسْمُهُ يَسَارَ وَكَانَ نُوبِيًّا. وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أحرقهم بالنار


(١). من ك.
(٢). عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.
(٣). أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. (النهاية) لابن الأثير.
(٤). سمر عين فلان: سملها (فقأها).
(٥). الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.
(٦). حسم العرق: قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه.
(٧). القافة (جمع (قائف) وهو الذي يتبع الأثر. [.....]
(٨). كدمه: عضه بأدنى فمه.
(٩). في وو ا: وقد أشرفنا.

بعد ما قَتَلَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهَاِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» إِلَى قَوْلِهِ:«غَفُورٌ رَحِيمٌ» نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ أُخِذَ «١» مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ» «٢»] الأنفال: ٣٨] وقوله عليه] الصلاة و[«٣» السلام: (الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ تُحَرَّمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْعُرَنِيِّينَ، فَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، يَعْنِي حَدِيثَ أَنَسٍ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِوَفْدِ عُرَيْنَةَ نُسِخَ، «٤» إِذْ لَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْمُرْتَدِّ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ رسول الله ﷺ لما قَطَعَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا» الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَلَمَّا وُعِظَ وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ لَمْ يَعُدْ. وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، لان ذلك وقع في مرتدين،


(١). في مصنف أبي داود: تاب، بدل: أخذ.
(٢). راجع ج ٧ ص ٤٠١.
(٣). من ج.
(٤). من ك وهو الصواب، وفي هـ وج وا وز ول: لم يجز.

لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكِتَابِ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ] النَّبِيُّ ﷺ [«١» أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، فَكَانَ هَذَا قِصَاصًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُحَارِبِ الْمُؤْمِنِ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَمَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ. وَالْمُرْتَدُّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ- دُونَ الْمُحَارَبَةِ- وَلَا يُنْفَى وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَلَا رِجْلُهُ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ بَلْ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا يُصْلَبُ أَيْضًا، فَدَلَّ أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَا عُنِيَ بِهِ الْمُرْتَدُّ. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» [الأنفال: ٣٨]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» الْآيَةَ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَا إِشْكَالَ وَلَا لَوْمَ وَلَا عِتَابَ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» «٢» [البقرة: ١٩٤] فَمَثَّلُوا فَمُثِّلَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعِتَابُ إِنْ صَحَّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقَتْلِ، وَذَلِكَ تَكْحِيلُهُمْ بِمَسَامِيرَ مُحْمَاةٍ وَتَرْكُهُمْ عَطَاشَى حَتَّى مَاتُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسْمُلْ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ نَاهِيَةً عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الثَّابِتَةَ وَرَدَتْ بِالسَّمْلِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْ الْيَهُودِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» اسْتِعَارَةٌ وَمَجَازٌ، إِذِ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلِمَا وَجَبَ لَهُ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَالْمَعْنَى: يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إِكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ فِي قَوْلِهِ:«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا»] البقرة: ٢٤٥] حَثًّا عَلَى الِاسْتِعْطَافِ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ (اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وقد تقدم في«البقرة» «٣».


(١). من ج وك وهـ.
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٥٤.
(٣). راجع ج ٣ ص ٢٤٠.

الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرَ أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ وَكَابَرَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ «١» وَلَا ذَحْلَ «٢» وَلَا عَدَاوَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَثْبَتَ الْمُحَارَبَةَ فِي الْمِصْرِ مَرَّةً وَنَفَى ذَلِكَ مَرَّةً، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي الْمَنَازِلِ وَالطُّرُقِ وَدِيَارِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَى سَوَاءٌ وَحُدُودُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَذَلِكَ هُوَ لِأَنَّ كُلًّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارَبَةِ، وَالْكِتَابُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَةِ قَوْمًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمِصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمِصْرِ، هَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالنُّعْمَانِ. وَالْمُغْتَالُ كَالْمُحَارِبِ وَهُوَ الَّذِي يَحْتَالُ فِي قَتْلِ إِنْسَانٍ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرِ السِّلَاحَ لَكِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ أَوْ صَحِبَهُ فِي سَفَرٍ فَأَطْعَمَهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَيُقْتَلُ حَدًّا لَا قَوَدًا. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَامُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ ثُمَّ صُلِبَ، فَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ عَلَى الْخَشَبَةِ، قَالَ اللَّيْثُ: بِالْحَرْبَةِ مَصْلُوبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ «٣»، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى كُلِّ شي. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ، ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ زَادَتْ عَلَى السَّرِقَةِ بِالْحِرَابَةِ، وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَإِنْ حَضَرَ وَكَثَّرَ وَهِيبَ وَكَانَ رِدْءًا لِلْعَدُوِّ


(١). نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة.
(٢). الذحل: الثأر.
(٣). في ك: لم يقطع وصلبه.

حُبِسَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ مَصْلُوبًا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالنَّخَعِيِّ كُلِّهِمْ قَالَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأَيِ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ النَّفْيِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ«أَوْ» فَصَاحِبْهُ بِالْخِيَارِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْعَرُ «١» بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ«أَوْ» لِلتَّرْتِيبِ- وَإِنِ اخْتَلَفُوا- فَإِنَّكَ تَجِدُ أَقْوَالَهُمْ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ حَدَّيْنِ فَيَقُولُونَ: يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: يُصْلَبُ وَيُقْتَلُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَيُنْفَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَةُ وَلَا مَعْنَى«أَوْ» فِي اللُّغَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِبْرِيلَ عليه السلام عَنِ الْحُكْمِ فِي الْمُحَارِبِ فَقَالَ:«مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ واخذ المال فأقطع به لِلْأَخْذِ وَرِجْلَهُ لِلْإِخَافَةِ وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ وَمَنْ جَمَعَ ذَلِكَ فَاصْلُبْهُ». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَقِيَ النَّفْيُ لِلْمُخِيفِ فَقَطْ وَالْمُخِيفُ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَالِكٌ يَرَى فِيهِ الْأَخْذَ بِأَيْسَرَ] العذاب و[«٢» وَالْعِقَابِ اسْتِحْسَانًا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ أَبَدًا بِالْخَيْلِ وَالرِّجْلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ هَرَبًا مِمَّنْ يَطْلُبُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيِّ. حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمُ الحدود، وقاله اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ كَالزَّانِي. وَقَالَ] مالك أيضا و[«٣» الكوفيون: نَفْيُهُمْ سَجْنُهُمْ فَيُنْفَى مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا إِلَى


(١). في ج وك: أسعد.
(٢). من ك. [.....]
(٣). من ك.

ضِيقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ إِذَا سُجِنَ فَقَدْ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ اسْتِقْرَارِهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السُّجُونِ فِي ذَلِكَ:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ أَهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأموات فيها ولا الأحياء
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
حَكَى مَكْحُولٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ وَقَالَ: أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ، وَلَا أَنْفِيَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَرْضُ النَّازِلَةِ وَقَدْ تَجَنَّبَ النَّاسُ قَدِيمًا الْأَرْضَ الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا الذُّنُوبَ، وَمِنْهُ الحديث «١» (الذي ناء بصدره ونحو الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ). وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَارِبُ مَخُوفَ الْجَانِبِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى حِرَابَةٍ أَوْ إِفْسَادٍ أَنْ يَسْجُنَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخُوفِ الْجَانِبِ] فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى جِنَايَةٍ [«٢» سرح، فال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُغَرَّبَ وَيُسْجَنَ حَيْثُ يُغَرَّبُ، وَهَذَا عَلَى الْأَغْلَبِ فِي أَنَّهُ مَخُوفٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الْوَاضِحُ «٣»، لِأَنَّ نَفْيَهُ مِنْ أَرْضِ النَّازِلَةِ هُوَ نَصُّ الْآيَةِ، وَسَجْنُهُ بَعْدُ بِحَسَبِ الْخَوْفِ مِنْهُ، فَإِنْ تَابَ وَفُهِمَتْ حَالُهُ سُرِّحَ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» النَّفْيُ أَصْلُهُ الْإِهْلَاكُ، وَمِنْهُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، فَالنَّفْيُ الْإِهْلَاكُ بِالْإِعْدَامِ، وَمِنْهُ النفاية لردئ الْمَتَاعِ، وَمِنْهُ النَّفِيُّ لِمَا تَطَايَرَ مِنَ الْمَاءِ عَنِ الدَّلْوِ. قَالَ الرَّاجِزُ «٤»:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ «٥» مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلَا يُرَاعَى الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ نِصَابًا كَمَا يُرَاعَى فِي السَّارِقِ. وَقَدْ قِيلَ: يُرَاعَى فِي ذَلِكَ النِّصَابُ رُبُعُ دينار، قال ابن العربي قال الشافعي


(١). هو حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا. وناء بمعنى نهض، ويحتمل أنه بمعنى بعد (النهاية لابن الأثير).
(٢). من ك.
(٣). من ك. وفي ج، هه، ز: الراجح.
(٤). هو الأخيل.
(٥). جاء في (اللسان) مادة نفى أن الصحيح (كأن متني) لان بعده (من طول إشرافي على الطوى). ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم. والصفي (بضم الصاد وكسرها) جمع صفا مقصور، وصفا جمع صفاة وهي الحجر؟ الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. وفسر بأنه شبه الماء وقد وقع على ظهر المستقى بذرق الطائر على الصفي.

وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُقْطَعُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَّا مَنْ أَخَذَ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَّتَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي الْحِرَابَةِ شَيْئًا، بَلْ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَالْأَدْنَى بِالْأَسْفَلِ وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُنْتُ فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ، فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ، وَارْتَفِعُوا إِلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ. قُلْتُ: الْيَفَعُ «١» أَعْلَى الْجَبَلِ وَمِنْهُ غُلَامٌ يَفَعَةٌ إِذَا ارْتَفَعَ إِلَى الْبُلُوغِ، وَالْحَضِيضُ الْحُفْرَةُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، كَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. السَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ لِأَنَّهُ قَتْلٌ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُنَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنَ التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا» فَأَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُحَارَبَةً وَسَعْيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وضيع، ولا رفيعا من دنئ. الثَّامِنَةُ- وَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ قُتِلَ الْجَمِيعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ قَتَلَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ


(١). اليفع بمعنى اليفاع.

الْوَقِيعَةَ شُرَكَاءٌ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ جَمِيعُهُمْ، وَقَدِ اتُّفِقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ الطَّلِيعَةُ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى. التَّاسِعَةُ- وَإِذَا أَخَافَ الْمُحَارِبُونَ السَّبِيلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّعَاوُنُ عَلَى قِتَالِهِمْ وَكَفِّهِمْ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لَمْ يَتْبَعْ مِنْهُمْ مُدْبِرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ أُتْبِعَ لِيُؤْخَذَ وَيُقَامَ عَلَيْهِ ما وجب لجنايته، ولا يدفف «١» مِنْهُمْ عَلَى جَرِيحٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنْ أَخَذُوا وَوُجِدَ فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ صَاحِبٌ جُعِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ لِأَحَدٍ غَرِمُوهُ، وَلَا دِيَةَ لِمَنْ قَتَلُوا إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابُوا وَجَاءُوا تَائِبِينَ وَهِيَ: الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ وَأُخِذُوا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَاقْتُصَّ مِنْهُمْ مِنَ النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ وَدَمٍ لِأَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ وَالْهِبَةُ كَسَائِرِ الْجُنَاةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا أُخِذَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَضَمِنُوا قِيَمَةَ مَا اسْتَهْلَكُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُ لَهُمْ، وَيُصْرَفُ إِلَى أَرْبَابِهِ أَوْ يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ حَتَّى يَعْلَمَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا بِمَا وُجِدَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ فلا يطلب بِهِ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ لَهُ بِسُقُوطِ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، هَلْ يُتْبَعُ دَيْنًا بِمَا أَخَذَ، أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ كَمَا يُسْقَطُ عَنِ السَّارِقِ؟ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سواء.


(١). دفف على الجريح أجهز عليه.

الحادية عشرة- وجمع أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ حَارَبَ، فَإِنْ قَتَلَ مُحَارِبٌ أَخَا امْرِئٍ أَوْ أَبَاهُ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، فَلَيْسَ إِلَى طَالِبِ الدم من أمر المحارب شي، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّ الدَّمِ، وَالْقَائِمُ بِذَلِكَ الْإِمَامُ، جَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ جَمَعْنَا غُرَرَهَا، وَاجْتَلَبْنَا دُرَرَهَا، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ: الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وتفسير مجاهد لها، قال مجاهد: الْمُرَادُ بِالْمُحَارَبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّ السَّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَأَنَّ الزَّانِيَ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا مُحْصَنًا. وَأَحْكَامُ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِخَافَةَ الطَّرِيقِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ قَصْدًا لِلْغَلَبَةِ عَلَى الْفُرُوجِ، فَهَذَا أَفْحَشُ الْمُحَارَبَةِ، وَأَقْبَحُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا». الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُنَاشَدُ اللِّصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَفَّ تُرِكَ وَإِنْ أَبَى قُوتِلَ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَهُ فَشَرُّ قَتِيلٍ وَدَمُهُ هَدَرٌ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي؟ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ. قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ: (فَقَاتِلْ فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ- وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَاشَدَةِ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (فَقَاتِلْهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ) قَالَ: فَإِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ رَأَوْا قِتَالَ اللُّصُوصِ وَدَفْعَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالنُّعْمَانِ، وَبِهَذَا يَقُولُ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ

لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا، لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَالًا دُونَ حَالٍ إِلَّا السُّلْطَانَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ أَنَّهُ لَا يُحَارِبُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ مَذْهَبُنَا إِذَا طَلَبَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ هَلْ يُعْطُونَهُ أَوْ يُقَاتِلُونَ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ هَلِ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ؟ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَتِهِمْ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا» لِشَنَاعَةِ الْمُحَارَبَةِ وَعِظَمِ ضَرَرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُحَارَبَةُ عَظِيمَةَ الضَّرَرِ، لِأَنَّ فِيهَا سَدَّ سَبِيلِ الْكَسْبِ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ وَأَعْظَمَهَا التِّجَارَاتُ، وَرُكْنَهَا وَعِمَادَهَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ عز وجلوَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» «١»] المزمل: ٢٠] فَإِذَا أُخِيفَ الطَّرِيقُ انْقَطَعَ النَّاسُ عَنِ السَّفَرِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى لُزُومِ الْبُيُوتِ، فَانْسَدَّ بَابُ التِّجَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَطَعَتْ أَكْسَابُهُمْ، فَشَرَعَ اللَّهُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْحُدُودَ الْمُغَلَّظَةَ، وَذَلِكَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا رَدْعًا لَهُمْ عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ، وَفَتْحًا لِبَابِ التِّجَارَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا لِعِبَادِهِ لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْهُمْ، وَوَعَدَ فِيهَا بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَعَاصِي، وَمُسْتَثْنَاةً مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ [لَهُ] «٢» (كَفَّارَةٌ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِزْيُ لِمَنْ عُوقِبَ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ لِمَنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا، وَيَجْرِي هَذَا الذَّنْبُ مَجْرَى غَيْرِهِ. وَلَا خُلُودَ لِمُؤْمِنٍ فِي النَّارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَعْظُمُ عِقَابُهُ لِعِظَمِ الذَّنْبِ، ثُمَّ يُخْرَجُ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ وَإِمَّا بِالْقَبْضَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مشروط الإنفاذ بالمشيئة


(١). راجع ج ١٩ ص ٥٠.
(٢). الزيادة عن ابن عطية.

كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «١»] النساء: ١١٦] أَمَّا إِنَّ الْخَوْفَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْوَعِيدِ وَكِبَرِ الْمَعْصِيَةِ «٢». الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثنى عز وجل التَّائِبِينَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:«فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». أَمَّا الْقِصَاصُ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ. وَمَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَسْقُطُ كُلُّ حَدٍّ بِالتَّوْبَةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ وَآمَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُقْتَلْ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا يُسْقَطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ فِي تَوْبَتِهِمْ وَالتَّصَنُّعِ فِيهَا إِذَا نَالَتْهُمْ يَدُ الْإِمَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِرَ عَلَيْهِمْ صَارُوا بِمَعْرِضٍ أَنْ يُنَكَّلَ بِهِمْ فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، كَالْمُتَلَبِّسِ بِالْعَذَابِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا، أَوْ مَنْ صَارَ إِلَى حَالِ الْغَرْغَرَةِ فَتَابَ، فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ تَوْبَتُهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُهْمَةَ وَهِيَ نَافِعَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ«يُونُسَ» «٣»، فَأَمَّا الشُّرَّابُ وَالزُّنَاةُ وَالسُّرَّاقُ إِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدَّهُمْ، وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا تُبْنَا لَمْ يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)


(١). راجع ج ٥ ص ٣٨٥.
(٢). كذا في الأصل وفي تفسير ابن عطية. والذي في البحر: (وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد) وهو أوضح.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٨٣.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ تَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْتُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ ... إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي
وَالْجَمْعُ الْوَسَائِلُ، قَالَ:
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا ... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ
وَيُقَالُ: مِنْهُ سَلْتُ أَسْأَلُ أَيْ طَلَبْتُ، وَهُمَا يَتَسَاوَلَانِ أَيْ يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، فَالْأَصْلُ الطَّلَبُ، وَالْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَبَ بِهَا، وَالْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: (فَمَنْ سَأَلَ لي الوسيلة حلت له الشفاعة).

[سورة المائدة (٥): آية ٣٧]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
قَالَ يَزِيدُ الْفَقِيرُ: قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّكُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ تَقُولُونَ إِنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:«وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها» فَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ الْعَامَّ خَاصًّا وَالْخَاصَّ عَامًّا، إِنَّمَا هَذَا فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً، فَقَرَأْتُ الْآيَةَ كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَإِذَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً. وَ«مُقِيمٌ» مَعْنَاهُ دَائِمٌ ثَابِتٌ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشَّعْبِ مني ... عذابا دائما لكم مقيما

[سورة المائدة (٥): آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
فِيهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ «١» مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) الْآيَةَ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَخْذَ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ ذَكَرَ حُكْمَ السَّارِقِ مِنْ غير حراب على ما يأتي


(١). كذا في كل الأصول، غير أنها ست وعشرون سقط المسألة الثالثة عشرة ما عدا: ل. سقط منها المسألة السادسة والعشرون. [.....]

بَيَانُهُ أَثْنَاءَ الْبَابِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالسَّارِقِ قَبْلَ السَّارِقَةِ عَكْسَ الزِّنَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ آخِرَ الْبَابِ. وَقَدْ قُطِعَ السَّارِقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حُكِمَ بِقَطْعِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَوَّلُ سَارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّجَالِ الْخِيَارَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَ الْيَمَنِيِّ «١» الَّذِي سَرَقَ الْعِقْدَ، وَقَطَعَ عُمَرُ يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن ابن سَمُرَةَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عليه السلام (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ:«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ» بَعْضَ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، أَوْ فِيمَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ سَرَقَ دِرْهَمَيْنِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ لِانْحِطَاطِ الصَّرْفِ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ فِيهِمَا. وَالْعُرُوضُ لَا تُقْطَعُ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَلَّ الصَّرْفُ أَوْ كَثُرَ، فَجَعَلَ مَالِكٌ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَجَعَلَ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ بِالدَّرَاهِمِ فِي الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنْ سَرَقَ ذَهَبًا فَرُبُعُ دِينَارٍ، وَإِنْ سَرَقَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَانَتْ قِيمَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ الْوَرِقِ. وَهَذَا نَحْوَ مَا صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْحُجَّةُ لِلْأَوَّلِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَرَقَ حَجَفَةً «٢»، فَأَتَى به النبي ﷺ فأمر بِهَا فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الرُّبُعِ دِينَارٍ أَصْلًا رَدَّ إِلَيْهِ تَقْوِيمَ الْعُرُوضِ لَا بِالثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ عَلَى غَلَاءِ الذَّهَبِ وَرُخْصِهِ، وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ لِمَا رَآهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي الْمِجَنِّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ رسول الله صلى الله عليه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَنَسٌ يَقُولُ: خمسة دراهم،


(١). هو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل سرق عقدا لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضى الله عنه فقطع يده اليسرى.
(٢). الحجفة بالتحريك: الترس، وقيل: هي من الجلود خاصة كالدرقة.

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الرُّبُعِ دِينَارٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَهُ، وَرَفَعَهُ «١» مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ لِحِفْظِهِ وَعَدَالَتِهِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا فَإِنْ بَلَغَ الْعَرَضُ الْمَسْرُوقُ رُبُعَ دِينَارٍ بِالتَّقْوِيمِ قُطِعَ سَارِقُهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، فَقِفْ عَلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فَهُمَا عُمْدَةُ الْبَابِ، وما أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَيْلًا، أَوْ دِينَارًا ذَهَبًا عَيْنًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ مِلْكِ الرَّجُلِ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قُوِّمَ الْمِجَنُّ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَرَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، أَخْرَجَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إِلَّا فِي خَمْسٍ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ- رحمه الله فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ فِي دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهُ، قَالَهُ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ. وَقَوْلٌ سَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ تُقْطَعُ في كل ماله قِيمَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، هَذَا قَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ عَنْهُ، وَالثَّانِيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةُ حَكَاهَا قَتَادَةُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا الْقَطْعَ فِي كَمْ يَكُونُ عَلَى عَهْدِ زِيَادٍ؟ فَاتَّفَقَ رَأْيُنَا عَلَى دِرْهَمَيْنِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَكَافِئَةٌ وَالصَّحِيحُ مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَكَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ «٢»، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ، كَمَا جَاءَ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ مَجْرَى الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: (مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ «٣» قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).


(١). حديث عائشة صحيح عند الإباضية مرفوع كما في مسند الربيع. وحديث المجن أيضا فيه عن أبي سعيد الخدري الآتي بأربعة دراهم إلا أن العمل بحديث عائشة.
(٢). من ع.
(٣). مفحص القطاة حيث تفرخ فيه من الأرض.

وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا ضَرِيَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ الْأَعْمَشُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ كَالتَّفْسِيرِ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ. قُلْتُ: كَحِبَالِ السَّفِينَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- اتَّفَقَ جُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَخْرَجَ مِنْ حِرْزٍ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: إِذَا جَمَعَ الثِّيَابَ في البيت قطع. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَيْضًا فِي قَوْلٍ آخَرَ مِثْلَ قَوْلِ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فصار اتفاقا صحيحا. والحمد لله. الثالثة- الحزر هُوَ مَا نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وهو يختلف في كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ ثَابِتٌ لَا مَقَالَ فِيهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْحِرْزَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ لِمَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ، أَنَّ رسول الله ﷺ قال: (لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ «١» وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ يَتَّصِلُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا ثِقَةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: (مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً «٢» فلا شي عَلَيْهِ وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ (وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ) بَدَلَ (وَالْعُقُوبَةُ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: ثُمَّ نُسِخَ الْجَلْدُ وَجُعِلَ مَكَانَهُ الْقَطْعُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُهُ (غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ) منسوخ لا أعلم أحد مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ إِلَّا مَا جَاءَ عن عمر في دقيق حاطب ابن أبي بلتعة، خرج مَالِكٌ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالَّذِي عليه الناس في الغرم بالمثل،


(١). الثمر المعلق: الثمر في الأشجار. وحريسة الجبل: ما يحرس بالجبل. والجرين: البيدر موضع يداس فيه البر وقد يكون للتمر والعنب.
(٢). الخبنة: الحجزة في السراويل، والوعاء يحمل فيه الشيء أيضا وما يحمل تحت الإبط.

لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» «١»] البقرة: ١٩٤]. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَيَّ خَمِيصَةٌ «٢» لِي ثَمَنُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي، فَأُخِذَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ، قَالَ: فأتيته فقلت أتقطع مِنْ أَجْلِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا؟ أَنَا أَبِيعُهُ وَأُنْسِئُهُ ثَمَنَهَا، قَالَ: (فَهَلَّا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ)؟. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ الْحِكْمَةُ الْأَوَّلِيَّةُ حَكَمَتْ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا، وَبَقِيَتِ الْأَطْمَاعُ مُتَعَلِّقَةً بِهَا، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا، فَتَكُفُّهَا الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، فَإِذَا أَحْرَزَهَا مَالِكُهَا فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتِ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتِ الْعُقُوبَةُ، وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ. الرَّابِعَةُ- فَإِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَاشْتَرَكُوا فِي إِخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بعضهم ممن يقدر على إخراجه، أولا إِلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُقْطَعُ فِيهِ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، قَالَا: لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إِلَّا بِشَرْطٍ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حِصَّتِهِ نِصَابٌ، لِقَوْلِهِ] ﷺ [«٣»: (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ. وَوَجْهُ الْقَطْعِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا فَإِنَّا إِنَّمَا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ذكره ابن العربي.


(١). راجع ج ٢ ص ٣٥٤.
(٢). الخميصة: ثوب خزا وصوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.
(٣). من ع وج.

الْخَامِسَةُ- فَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ بِأَنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ، فَإِنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا. وَإِنِ انْفَرَدَ كُلٌّ «١» مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ دُونَ اتفاق بينهما، بأن يجئ آخَرُ فَيُخْرِجُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ تَعَاوَنَا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِخْرَاجِ فَالْقَطْعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَطْعَ، لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ، وَالْآخَرُ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَارَكَ فِي النَّقْبِ وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاشْتِرَاكِ فِي النَّقْبِ التَّحَامُلُ عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ التَّعَاقُبُ فِي الضَّرْبِ تَحْصُلُ بِهِ الشَّرِكَةُ. السَّادِسَةُ- وَلَوْ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ إِلَى بَابِ الْحِرْزِ فَأَدْخَلَ الْآخَرُ يَدَهُ فَأَخَذَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَيُعَاقَبُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْطَعَانِ. وَإِنْ وَضَعَهُ خَارِجَ الْحِرْزِ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ لَا عَلَى الْآخِذِ، وَإِنْ وَضَعَهُ فِي وَسَطِ النَّقْبِ فَأَخَذَهُ الْآخَرُ وَالْتَقَتْ أَيْدِيهِمَا فِي النَّقْبِ قُطِعَا جَمِيعًا. السَّابِعَةُ- وَالْقَبْرُ وَالْمَسْجِدُ حِرْزٌ، فَيُقْطَعُ النَّبَّاشُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ لَهُ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُنُ، وَيُتَحَفَّظُ مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى نَفْيِ السَّرِقَةِ عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءِ النَّهَرِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ سَارِقٌ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَاتَّقَى الْأَعْيُنَ، وَقَصَدَ وَقْتًا لَا ناظر فيه ولا ماز عَلَيْهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ بُرُوزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ، وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ فباطل، لان حرز كل شي بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمْكِنَةِ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًا فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ. وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا أَحْياءً وَأَمْواتًا» «٢»] المرسلات: ٢٦ - ٢٥] لِيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا، وَيُدْفَنُ فِيهَا مَيِّتًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:] إِنَّهُ [«٣» عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ، فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنَ الثَّانِي، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يكون البيت «٤» فيه بالوصيف)، يعني


(١). في ج وهـ وز وك: كل واحد.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٥٨.
(٣). من ك وج وع.
(٤). البيت هنا القبر. والوصيف الخادم غلاما كان أو جارية. والمعنى، أن الموت يكثر حتى يشترى موضع قبر بعبد. [.....]

الْقَبْرَ، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ) قَالَ حَمَّادٌ: فَبِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَيِّتِ بَيْتَهُ. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ، فَمَنْ سَرَقَ حُصُرَهُ قُطِعَ، رَوَاهُ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ بَابٌ، وَرَآهَا مُحْرَزَةً. وَإِنْ سَرَقَ الْأَبْوَابَ قُطِعَ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا إِنْ كَانَتْ سَرِقَتُهُ لِلْحُصُرِ نَهَارًا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا لَيْلًا قُطِعَ، وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُونٍ إِنْ كَانَتْ حُصُرُهُ خِيطَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ قُطِعَ، وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ. قَالَ أَصْبَغُ: يُقْطَعُ سَارِقُ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ بَابَهُ مُسْتَسِرًّا أَوْ خَشَبَةً مِنْ سَقْفِهِ أَوْ مِنْ جَوَائِزِهِ «١». وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا قَطْعَ فِي شي مِنْ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ وَبَلَاطِهِ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكُونُ غُرْمٌ مَعَ الْقَطْعِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ:«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ قِيمَةَ السَّرِقَةِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً رَدَّهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا غَرِمَ، وَإِنْ كان معسرا لم يتبع به دينا ولم يكن عليه شي، وَرَوَى مَالِكٌ «٢» مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَعَ الْقَطْعِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ] مِنْ عُلَمَائِنَا [«٣» مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا أَقُولُ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لِلْمَشْهُورِ بِقَوْلِهِ ﷺ: (إِذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) وَأَسْنَدَهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ عُقُوبَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَغْرَمُ السَّارِقُ مَا سَرَقَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ إذا قطع الطريق، قال: ولا يسقط


(١). الجائز من البيت الخشبة التي تحمل خشب البيت، والجمع أجوزة وجوزان وجوائز.
(٢). سقط (مالك) من ج وهـ وك وع.
(٣). من ك.

الْحَدُّ لِلَّهِ مَا أَتْلَفَ لِلْعِبَادِ، وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ عُلَمَاؤُنَا مِنَ الْحَدِيثِ (إِذَا كَانَ معسرا) فيه احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْقِيَاسُ أَنَّ عَلَيْهِ غُرْمَ مَا اسْتَهْلَكَ. وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: تَرْكُ الْقِيَاسِ لِضَعِيفِ الْأَثَرِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا. التَّاسِعَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ يَدِ مَنْ سَرَقَ الْمَالَ مِنَ الذِي سَرَقَهُ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقْطَعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ وَمِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: حُرْمَةُ المالك عليه باقية لم تنقطع عنه، وئد السارق كلائد، كَالْغَاصِبِ لَوْ سُرِقُ مِنْهُ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ قُطِعَ، فَإِنْ قِيلَ: اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ، قُلْنَا: الْحِرْزُ قَائِمٌ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ وَلَمْ يَبْطُلِ الْمِلْكُ فِيهِ فَيَقُولُوا لَنَا أَبْطِلُوا الْحِرْزَ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَرَّرَ السَّرِقَةَ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُقْطَعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ. وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا فِي السَّارِقِ يَمْلِكُ الشَّيْءَ الْمَسْرُوقَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ قَبْلَ الْقَطْعِ: فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يسقطه شي. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ«وَالسَّارِقُ» بِالرَّفْعِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. وَقِيلَ: الرَّفْعُ فِيهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ«فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما». وَلَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى مُعَيَّنٍ إِذْ لَوْ قَصَدَ مُعَيَّنًا لَوَجَبَ النَّصْبُ، تَقُولُ: زَيْدًا اضْرِبْهُ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ: مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعْ يَدَهُ. قال الزجاج: وهذا القول هو المختار. وقرى«وَالسَّارِقُ» بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ اقْطَعُوا السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْأَمْرِ أَوْلَى، قَالَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْوَجْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّصْبُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا اضربه، ولكن

الْعَامَّةَ أَبَتِ إِلَّا الرَّفْعَ، يَعْنِي عَامَّةَ الْقُرَّاءِ وَجُلَّهُمْ، فَأَنْزَلَ سِيبَوَيْهِ النَّوْعَ السَّارِقَ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ«وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ» وَهُوَ يُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ. وَالسَّرِقُ وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا هُوَ اسْمُ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَالْمَصْدَرُ مِنْ سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا بِفَتْحِ الرَّاءِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَأَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ مِنَ الْأَعْيُنِ، وَمِنْهُ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، وَسَارَقَهُ النَّظَرُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ ظَاهِرٍ فَهُوَ مُخْتَلِسٌ وَمُسْتَلِبٌ وَمُنْتَهِبٌ وَمُحْتَرِسٌ «١»، فَإِنْ تَمَنَّعَ «٢» بِمَا فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ. قُلْتُ: وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ) قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَغَيْرُهُ، فَسَمَّاهُ سَارِقًا وَإِنْ كَانَ لَيْسَ سَارِقًا مِنْ حَيْثُ] هُوَ [«٣» مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّهُ ليس قيه مُسَارَقَةُ الْأَعْيُنِ غَالِبًا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَاقْطَعُوا» الْقَطْعُ مَعْنَاهُ الْإِبَانَةُ وَالْإِزَالَةُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِجَمْعِ أَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ وَفِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَفِي صِفَتِهِ. فَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي السَّارِقِ فَخَمْسَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَالِكٍ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، فَلَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ إِنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ إِنْ أَخَذَ مَالَ عَبْدِهِ لَا قَطْعَ بِحَالٍ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ. وَلَمْ يُقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ آخِذٌ لِمَالِهِ، وَسَقَطَ قَطْعُ الْعَبْدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ «٤»: غُلَامُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ قَطْعٌ وَلَا عَلَى الذِّمِّيِّ) قَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ فَهْدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالصَّوَابُ] أَنَّهُ [«٥» مَوْقُوفٌ. وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إذا سرق


(١). المحترس الذي يسرق حريسة الجبل.
(٢). من ع.
(٣). من ج.
(٤). الخليفة عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- والسارق كان غلاما لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهما.
(٥). من ك.

الْعَبْدُ فَبِيعُوهُ وَلَوْ بِنَشٍّ «١» (أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: وَحَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَقْطَعْهُ. وَقَالَ: (مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ مَتْرُوكٌ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ. وَلَا قَطْعَ عَلَى صَبِيٍّ ولا مجنون. وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ، وَالْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ. وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ فَأَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ النِّصَابُ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُتَمَوَّلُ وَيُتَمَلَّكُ وَيَحِلُّ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ وَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ حَاشَا الْحُرِّ الصَّغِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَالِ، وَلَمْ يُقْطَعِ السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ. وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِهِ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَلُحُومِ الضَّحَايَا، فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْكَلْبِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنِ اتِّخَاذِهِ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِي اتِّخَاذِهِ فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ. قَالَ: وَمَنْ سَرَقَ لَحْمَ أُضْحِيَّةٍ أَوْ جِلْدِهَا قُطِعَ إِذَا كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَصْبَغُ: إِنْ سَرَقَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ قُطِعَ، وَأَمَّا إِنْ سَرَقَهَا بَعْدَ الذَّبْحِ فَلَا يُقْطَعُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اتِّخَاذُ أَصْلِهِ وَبَيْعِهِ، فَصَنَعَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَالطُّنْبُورِ وَالْمَلَاهِي مِنَ الْمِزْمَارِ وَالْعُودِ وَشِبْهِهِ مِنَ آلَاتِ اللَّهْوِ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ يَبْقَى مِنْهَا بَعْدَ فَسَادِ صُوَرِهَا وَإِذْهَابِ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا رُبُعُ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا وَيُؤْمَرُ بِكَسْرِهَا فَإِنَّمَا يُقَوَّمُ مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ دُونَ صَنْعَةٍ. وَكَذَلِكَ الصَّلِيبُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَالزَّيْتُ النَّجِسُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ نِصَابًا قُطِعَ فِيهِ. الْوَصْفُ الثَّالِثُ، أَلَّا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ، كَمَنْ سَرَقَ مَا رَهَنَهُ


(١). النش: (بفتح النون وتشديد الشين) عشرون درهما ويطلق على النصف من كل شي فالمراد البيع ولو بنصف القيمة.

أَوْ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَا شُبْهَةُ مِلْكٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي مُرَاعَاةِ شُبْهَةِ مِلْكٍ كَالَّذِي يَسْرِقُ مِنَ الْمَغْنَمِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَرَقَ «١» مِغْفَرًا مِنَ الْخُمُسِ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَطْعًا وَقَالَ: لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ. وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاعَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ لَفْظِ آيَةِ «٢» السَّرِقَةِ. وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا تَصِحُّ سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْأَعْجَمِيِّ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ مَا لَا تَصِحُّ سَرِقَتُهُ كَالْعَبْدِ الْفَصِيحِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ. وَأَمَّا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوَصْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِرْزُ لِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ المسروق. وجملة القول فيه أن كل شي له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شي مَعَهُ حَافِظٌ فَحَافِظُهُ حِرْزُهُ، فَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْحَوَانِيتُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، غَابَ عَنْهَا أَهْلُهَا أَوْ حَضَرُوا، وَكَذَلِكَ بَيْتُ الْمَالِ حِرْزٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالسَّارِقُ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّرِقَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِمَامُ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّ كُلِّ مُسْلِمٍ بِالْعَطِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ الْمَالِ إِلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُفَرِّقُهُ فِي النَّاسِ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ آخَرَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، فَفِي التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا السَّارِقَ مِمَّنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْمَغَانِمُ لَا تَخْلُو: أَنْ تَتَعَيَّنَ بِالْقِسْمَةِ، فَهُوَ مَا ذكرناه في بيت المال، أو تتعين بنفس التناول لمن شهد الوقعة، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى قَدْرُ مَا سَرَقَ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ حَقِّهِ قُطِعَ وَإِلَّا لَمْ يُقْطَعْ «٣». الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَظُهُورُ الدَّوَابِّ حِرْزٌ لِمَا حَمَلَتْ، وَأَفْنِيَةُ الْحَوَانِيتِ حِرْزٌ لِمَا وُضِعَ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَانُوتٌ، كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ أَمْ لَا، سُرِقَتْ بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ الشَّاةِ فِي السُّوقِ مَرْبُوطَةً أَوْ غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ، وَالدَّوَابُّ عَلَى مَرَابِطِهَا مُحْرَزَةٌ، كَانَ مَعَهَا أَهْلُهَا أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي السُّوقِ لَمْ تَكُنْ مُحْرَزَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا حَافِظٌ، وَمَنْ رَبَطَهَا بِفِنَائِهِ أَوِ اتَّخَذَ مَوْضِعًا مَرْبِطًا لِدَوَابِّهِ فَإِنَّهُ حِرْزٌ لَهَا. وَالسَّفِينَةُ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا وَسَوَاءُ كَانَتْ سَائِبَةً أَوْ مَرْبُوطَةً، فَإِنْ سُرِقَتِ السَّفِينَةُ نَفْسُهَا فَهِيَ كَالدَّابَّةِ إِنْ كَانَتْ سَائِبَةً فَلَيْسَتْ بِمُحْرَزَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا رَبَطَهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَرْسَاهَا فِيهِ فَرَبْطُهَا حِرْزٌ،


(١). المغفر (بكسر الميم): زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
(٢). من ع.
(٣). كل الأصول لم تذكر الثالثة عشرة، إلا ك، ثم سقط منها التاسعة عشرة.

وَهَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَهَا أَحَدٌ حَيْثُمَا كَانَتْ فَهِيَ مُحْرَزَةٌ، كَالدَّابَّةِ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَعَهَا حَافِظٌ، إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا بِالسَّفِينَةِ فِي سَفَرِهِمْ مَنْزِلًا فَيَرْبِطُوهَا فَهُوَ حِرْزٌ لَهَا كَانَ صَاحِبُهَا مَعَهَا أَمْ لَا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا خِلَافَ أَنَّ السَّاكِنِينَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ كَالْفَنَادِقِ الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا كُلُّ رَجُلٍ بَيْتَهُ عَلَى حِدَةٍ، يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ بَيْتِ صَاحِبِهِ إِذَا أَخَذَ وَقَدْ خَرَجَ بِسَرِقَتِهِ إِلَى قَاعَةِ الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَيْتَهُ وَلَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الدَّارِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ مِنْ قَاعَةِ الدَّارِ شَيْئًا وَإِنْ أَدْخَلَهُ بَيْتَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ مِنَ الدَّارِ، لِأَنَّ قَاعَتَهَا مُبَاحَةٌ لِلْجَمِيعِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَابَّةً فِي مَرْبِطِهَا أَوْ مَا يُشْبِهُهَا مِنَ الْمَتَاعِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَلَا يُقْطَعُ الْأَبَوَانِ بِسَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِمَا، لِقَوْلِهِ عليه السلام: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ). وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ. وَقِيلَ: لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ، لِأَنَّ الِابْنَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ أَبِيهِ فِي الْعَادَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ فَلِأَنْ لَا يُقْطَعَ ابْنُهُ فِي مَالِهِ أَوْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ، فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقْطَعُ. وَقَالَ أشهب: يقطع. وقول مالك أصح لأنه أَبٌ، قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَلَّا يُقْطَعَ الْأَجْدَادُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ لَهُمْ نَفَقَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَيُقْطَعُ مَنْ سِوَاهُمَا مِنَ الْقَرَابَاتِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ جُوعٍ أَصَابَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِثْلُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَالْأُخْتِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ كُلُّ سَارِقٍ سَرَقَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، إِلَّا أَنْ يجمعوا على شي فَيُسَلَّمُ لِلْإِجْمَاعِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«١». السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي سَارِقِ الْمُصْحَفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ النُّعْمَانُ: لَا يُقْطَعُ مَنْ سَرَقَ مُصْحَفًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّرَّارِ «٢» يَطُرُّ النَّفَقَةَ مِنَ الْكُمِّ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْطَعُ مَنْ طَرَّ مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ أو من خارج، وهو قول مالك


(١). في ك.
(٢). الطرار: هو الذي يشق كم الرجل ويسل ما فيه، من الطر وهو القطع والشق. [.....]

وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَيَعْقُوبَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةً فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ فَطَرَّهَا فَسَرَقَهَا لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً إِلَى دَاخِلِ الْكُمِّ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَسَرَقَهَا قُطِعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُقْطَعُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُقْطَعُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ طَرَّ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْيَدِ فِي السَّفَرِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُقَامُ الْحُدُودُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقِيمُ مَنْ غَزَا عَلَى جَيْشٍ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ مِصْرَ مِنَ الْأَمْصَارِ- الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ غَيْرَ الْقَطْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا غَزَا الْجُنْدُ أَرْضَ الْحَرْبِ وَعَلَيْهِمْ أَمِيرٌ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامَ مِصْرَ أَوْ الشَّامَ أَوْ الْعِرَاقَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَيُقِيمُ الْحُدُودَ فِي عَسْكَرِهِ. اسْتَدَلَّ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِحَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ مِصْدَرٌ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً «١»، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي في الغزو) «٢» ولولا ذلك لقطعته. يسر هَذَا] يُقَالُ [«٣» وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَتْ لَهُ أَخْبَارُ سُوءٍ فِي جَانِبِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَ طِفْلَيْنِ «٤» لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَفَقَدَتْ أُمُّهُمَا عَقْلَهَا فَهَامَتْ عَلَى وَجْهِهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنْ يُطِيلَ اللَّهُ عُمُرَهُ ويذهب عقله، فكان كذلك. قال يحيى ابن مَعِينٍ: كَانَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ رَجُلَ سُوءٍ. اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْقَطْعِ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِمَنْ مَنَعَ الْقَطْعَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَالْحُدُودِ: مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالشِّرْكِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِذَا قُطِعَتِ الْيَدُ أَوِ الرِّجْلُ فَإِلَى أَيْنَ تُقْطَعُ؟ فَقَالَ الْكَافَّةُ: تُقْطَعُ مِنَ الرُّسْغِ وَالرِّجْلُ مِنَ الْمَفْصِلِ، وَيُحْسَمُ السَّاقُ إِذَا قُطِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْطَعُ إِلَى الْمِرْفَقِ. وَقِيلَ: إِلَى الْمَنْكِبِ، لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: تُقْطَعُ الرِّجْلُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ وَيُتْرَكُ لَهُ الْعَقِبُ «٥»، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. قَالَ ابن المنذر: وقد روينا


(١). البختية: الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق واللفظة معربة.
(٢). في التهذيب: وأسد الغابة (في السفر).
(٣). من ج وع.
(٤). كذا في الأصول. وفي التهذيب: وأسد الغابة: قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس.
(٥). العقب: مؤخر المقدم.

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ: (احْسِمُوهَا) وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبُرْءِ وَأَبْعَدُ مِنَ التَّلَفِ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- لَا خِلَافَ أَنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ أَوَّلًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ خَامِسَةً يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُقْتَلُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ أن رسول الله ﷺ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:] (اقْتُلُوهُ) «١»، قَالُوا: يَا رسول إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ [: (اقْطَعُوا يَدَهُ)، قَالَ: ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا، ثُمَّ سَرَقَ أَيْضًا] الْخَامِسَةَ [«٢» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَعْلَمَ بِهَذَا حِينَ قَالَ: (اقْتُلُوهُ) ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ يُحِبُّ الْإِمَارَةَ فَقَالَ: أَمِّرُونِي عَلَيْكُمْ فَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَبِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِسَارِقٍ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ). قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَرَمَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَحَدُ رُوَاتِهِ «٣» لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ] رضي الله عنهما ٤» أَنَّهُمَا قَطَعَا الْيَدَ بَعْدَ الْيَدِ وَالرِّجْلَ بَعْدَ الرِّجْلِ. وَقِيلَ: تُقْطَعُ فِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ثُمَّ لَا قَطْعَ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ إِذَا عَادَ عُزِّرَ وَحُبِسَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَبْلُغْنَا فِي السُّنَّةِ إِلَّا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى خَاصَّةً وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فإن الصحابة قالوا قبله خلافه.


(١). من ك، هـ، ز.
(٢). من ك، هـ، ز.
(٣). هو مصعب بن ثابت. (النسائي).
(٤). من ع.

الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاكِمِ يَأْمُرُ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ الْيُمْنَى فَتُقْطَعُ يَسَارُهُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا أَخْطَأَ الْقَاطِعُ فَقَطَعَ شِمَالَهُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: عَلَى الْحَزَّازِ «١» الدِّيَةُ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ بِإِجْمَاعٍ «٢». قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ يَخْلُو قَطْعُ يَسَارِ السَّارِقِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاطِعُ عَمَدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوْ يَكُونَ أَخْطَأَ فَدِيَّتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ، وَقَطْعُ يَمِينِ السَّارِقِ يَجِبُ، وَلَا يَجُوزُ إِزَالَةُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَعَدِّي مُعْتَدٍ أَوْ خَطَأِ مُخْطِئٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الَّذِي يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي يَمِينِهِ فَيُقَدِّمُ شِمَالَهُ فَتُقْطَعُ، قَالَ: تُقْطَعُ يَمِينُهُ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ أتلف يساره، ولا شي عَلَى الْقَاطِعِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَتُقْطَعُ يَمِينُهُ إِذَا بَرِئَتْ. وَقَالَ قتادة والشعبي: لا شي عَلَى الْقَاطِعِ وَحَسْبُهُ مَا قَطَعَ مِنْهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَتُعَلَّقُ يَدُ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ سَأَلْتُ فَضَالَةَ عَنْ تَعْلِيقِ يَدِ السَّارِقِ فِي عُنُقِهِ أَمِنَ السُّنَّةِ هو؟ فقال: جئ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ- وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ- وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ الْقَطْعُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ] وَيُقْتَلُ [«٣»، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«أَيْدِيَهُما» لَمَّا قَالَ«أَيْدِيَهُما» وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ اللِّسَانِ «٤» فِي ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَابَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ «٥» - فقال الخليل بن أحمد والفراء: كل شي يُوجَدُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اثْنَيْنِ جُمِعَ تَقُولُ: هُشِّمَتْ رُءُوسُهُمَا وَأُشْبِعَتْ بُطُونُهُمَا،
و


(١). في ك، ع: الجزار.
(٢). في ج، ز، ك، هـ: إلا أن يمنع منه إجماع.
(٣). من ع.
(٤). في ج، ع: البيان.
(٥). زاد ابن العربي (من غير تحقيق لكلامهم). [.....]

«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» «١»] التحريم: ٤]، ولهذا قال:«فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا. وَالْمُرَادُ فَاقْطَعُوا يَمِينًا مِنْ هَذَا وَيَمِينًا مِنْ هَذَا. وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ، فَاقْطَعُوا يَدَيْهِمَا وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ «٢» فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنِ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ
وَقِيلَ: فُعِلَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعُ إِذَا أَرَدْتَ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ، وَضَعَا رِحَالَهُمَا. وَيُرِيدُ] بِهِ [«٣» رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ«أَيْدِيَهُما» «٤» إِلَى أَرْبَعَةٍ وَهِيَ جَمْعٌ فِي الِاثْنَيْنِ، وَهُمَا تَثْنِيَةٌ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ، وَلَوْ قَالَ: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا، لِأَنَّ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَزاءً بِما كَسَبا) مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا وَكَذَا (نَكالًا مِنَ اللَّهِ) يُقَالُ: نَكَّلْتُ بِهِ إِذَا فَعَلْتُ بِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَنْكُلَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لَا يُغَالَبُ (حَكِيمٌ) فِيمَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ» شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ«فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ». وَمَعْنَى«مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ» مِنْ بَعْدِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ. وَالْقَطْعُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّارِقِ. وَقَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَعَزَاهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا. وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ دَلِيلُنَا، لِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ قَالَ:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ وَقَالَ فِيهِ:«فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» فَلَوْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيَا معشر


(١). راجع ج ١٨ ص ١٨٨.
(٢). راجع ج ٥ ص ٧٣.
(٣). من ج.
(٤). كذا في الأصول إلا ا، فيعود قول مالك إلى أربعة.

الشَّافِعِيَّةِ سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ «١»، وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ، الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ؟! أَلَمْ تروا إلى المحارب المستبد بنفسه، المعتدى بسلاحه، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إِلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ كَيْفَ أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا فَعَلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي وَهُمَا فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ حُكْمَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ؟! أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُقَاسُ عَلَى الْمُحَارِبِ وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحِكْمَةُ وَالْحَالَةُ! هَذَا مَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْقَطْعُ كَفَّارَةٌ لَهُ.«وَأَصْلَحَ» أَيْ كَمَا تَابَ عَنِ السَّرِقَةِ تَابَ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ. وَقِيلَ:«وَأَصْلَحَ» أَيْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ السَّرِقَةَ بِالزِّنَى أَوِ التَّهَوُّدَ بِالتَّنَصُّرِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَوْبَةٍ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُ التَّوْبَةُ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- يُقَالُ: بَدَأَ اللَّهُ بِالسَّارِقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ السَّارِقَةِ، وَفِي الزِّنَى بِالزَّانِيَةِ قَبْلَ الزَّانِي مَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ حُبُّ الْمَالِ عَلَى الرِّجَالِ أَغْلَبَ، وَشَهْوَةُ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَى النِّسَاءِ أَغْلَبَ بَدَأَ بِهِمَا في الموضعين، هَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي الْمَرْأَةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ«النُّورِ» «٢» مِنَ الْبِدَايَةِ بِهَا عَلَى الزَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ حَدَّ السَّرِقَةِ قَطْعَ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ الْمَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ حَدَّ الزِّنَى قَطْعَ الذَّكَرِ مَعَ مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ بِهِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُّهَا: أَنَّ لِلسَّارِقِ مِثْلَ يَدِهِ الَّتِي قُطِعَتْ فَإِنِ انْزَجَرَ بِهَا اعْتَاضَ بِالثَّانِيَةِ «٣»، وَلَيْسَ لِلزَّانِي مِثْلُ ذَكَرِهِ إِذَا قُطِعَ فَلَمْ يَعْتَضْ بِغَيْرِهِ لَوِ انْزَجَرَ بِقَطْعِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحَدَّ زَجْرٌ لِلْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ، وَقَطْعُ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ ظَاهِرٌ: وَقَطْعُ الذَّكَرِ فِي الزِّنَى بَاطِنٌ. الثَّالِثُ- أَنَّ قَطْعَ الذَّكَرِ فِيهِ إِبْطَالٌ لِلنَّسْلِ وَلَيْسَ فِي قَطْعِ اليد إبطاله. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)


(١). في ك: الفهمية.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٥٩.
(٣). في ك وج: الباقية.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الْآيَةُ. خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِ، أَيْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَحَدٍ تُوجِبُ الْمُحَابَاةَ حتى يقول قائل: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَالْحُدُودُ تُقَامُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُقَارِفُ مُوجِبَ الْحَدِّ. وَقِيلَ: أَيْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُرِيدُ، فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمُحَارِبِ وَبَيْنَ السَّارِقِ غَيْرِ الْمُحَارِبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِآيَةِ السَّرِقَةِ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامِ السَّرِقَةِ. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٤١]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ) الْآيَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضِيرِيًّا وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا قَتَلُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يُقِيدُوهُمْ، وَإِنَّمَا يُعْطُونَهُمُ الدِّيَةَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَحَكَمَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقُرَظِيِّ وَالنَّضِيرِيِّ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلُوا. وَقِيلَ، إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ إلى بني قريضة فَخَانَهُ حِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ «١». وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي زِنَى الْيَهُودِيَّيْنِ وَقِصَّةِ الرَّجْمِ، وهذا أصح الأقوال، رواه


(١). كان ذلك يوم حصارهم، فسألوه ما الامر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح

الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُمْ (ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ) فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ تَعَالَى (كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنَ فِي التَّوْرَاةِ)؟ قَالَا: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ: (فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا)، قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالشُّهُودِ «١»، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِرَجْمِهِمَا. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، فَكَتَبَ أَهْلُ فَدَكَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَأْخُذُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَدَعَا بِابْنِ صُورِيَّا وَكَانَ عَالِمَهُمْ وَكَانَ أَعْوَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَنْشُدُكَ اللَّهَ كَيْفَ تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ)، فَقَالَ ابْنُ صُورِيَّا: فَأَمَّا إِذْ نَاشَدْتَنِي اللَّهَ فَإِنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّظَرَ زَنْيَةٌ، وَالِاعْتِنَاقَ زَنْيَةٌ، وَالْقُبْلَةَ زَنْيَةٌ، فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ فَقَدْ وَجَبَ الرَّجْمُ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (هُوَ ذَاكَ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا «٢» مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ) قَالُوا: نَعَمْ. فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: (أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ) قَالَ: لَا- وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ- نَجِدُهُ الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا: تَعَالَوْا فلنجتمع على شي نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ) فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» إِلَى قَوْلِهِ:«إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ» يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أمركم بالتحميم


(١). في ج وع وك: باليهود.
(٢). حممه تحميما: طلى وجهه بالفحم.

وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجلوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»] المائدة ٤٤]،«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»] المائدة: ٤٥]،«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ»] المائدة: ٤٧] فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا. هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ فد زَنَيَا فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جاء يهود، قل: (مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى) الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْقُفِّ «١» فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ «٢» فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا. وَلَا تَعَارُضَ في شي مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَهِيَ كُلُّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وفد سَاقَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سِيَاقَةً حَسَنَةً فَقَالَ: زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفَاتِ، فَإِنْ أَفْتَى بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقُلْنَا فُتْيَا نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ، قَالَ: فَأَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمُ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى أَتَى بَيْتَ مِدْرَاسِهِمْ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: (أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ (، فَقَالُوا: يُحَمَّمُ وَجْهُهُ وَيُجَبَّهُ وَيُجْلَدُ، وَالتَّجْبِيَةُ أَنْ يُحْمَلَ الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَارٍ وَتُقَابَلَ أَقْفِيَتُهُمَا وَيُطَافَ بِهِمَا، قَالَ: وَسَكَتَ شَابٌّ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ سَكَتَ أَلَظَّ «٣» بِهِ النِّشْدَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّا نَجِدُّ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (فإني أحكم بما في التوراة) فأمر به فرجما.


(١). القف: علم لواد من أودية المدينة عليه مال لأهلها.
(٢). المدراس هو البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في المكان. (اللسان). ومدراس أيضا صاحب دراسة كتبهم.
(٣). ألظ به النشدة: ألح في سؤاله وألزمه إياها.

الثَّانِيَةُ- وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْيَهُودَ حَكَّمَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ ابْنَيْ صُورِيَّا، وَأَنَّهُ سَمِعَ شَهَادَةَ الْيَهُودِ وَعَمِلَ بِهَا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ. فَهَذِهِ مَسَائِلُ أَرْبَعٌ. فَإِذَا تَرَافَعَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ مَا رَفَعُوهُ ظُلْمًا كَالْقَتْلِ وَالْعُدْوَانِ وَالْغَصْبِ حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَتَرْكِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْإِعْرَاضَ [عَنْهُمْ] «١» أَوْلَى، فَإِنْ حَكَمَ حَكَمَ [بَيْنَهُمْ] «٢» بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» [المائدة: ٤٩] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ [بَعْدُ] «٣»، احْتَجَّ مَالِكٌ بقوله تعالى:«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» [المائدة: ٤٢] وَهِيَ نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ، لِأَنَّ إِنْفَاذَ الْحُكْمِ حَقٌّ لِلْأَسَاقِفَةِ. وَالْمُخَالِفُ يَقُولُ: لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْأَسَاقِفَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الأصح، لان مسلمين لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَنَفَذَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَا الْحَاكِمِ. فَالْكِتَابِيُّونَ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَقَالَ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إِنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ، وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَاسْمُ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ بُسْرَةُ، وَكَانُوا بَعَثُوا إِلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ لَهُمُ اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ] مِنْهُ [«٤» وَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِهِ فَاحْذَرُوهُ «٥»، الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا، وَإِنْ لَمْ يكن عهد وذمة ودار لكان لَهُ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:«سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ» وَلَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ ﷺ نَفَّذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ، فَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ. قال مالك: إذا حكم رَجُلًا فَحُكْمُهُ مَاضٍ وَإِنْ رُفِعَ إِلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا. وَقَالَ سحنون: يمضيه إن رآه] صوابا [«٦». قال


(١). من ج وهـ وع. [.....]
(٢). من ع وك.
(٣). من ك وع.
(٤). من ج وك وهـ وع.
(٥). من ك وع.
(٦). من ع وك.

ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يَحْكُمُ فِيهَا إِلَّا السُّلْطَانَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتُصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنُفِّذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ فِيهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّحْكِيمَ بَيْنَ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقَّ الْحَاكِمِ بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ، وَمُؤَدٍّ إِلَى تَهَارُجِ النَّاسِ كَتَهَارُجِ «١» الْحُمُرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَاصِلٍ، فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرْجِ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ وَتَحْصُلَ الْفَائِدَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: التَّحْكِيمُ جَائِزٌ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوًى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا كَانَ حَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْيَهُودِ بِالرَّجْمِ إِقَامَةً لِحُكْمِ كِتَابِهِمْ، لِمَا حَرَّفُوهُ وَأَخْفَوْهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ) وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْبَتَ ابْنَيْ صُورِيَّا عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَاسْتَحْلَفَهُمَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَقْوَالُ الْكُفَّارِ فِي الْحُدُودِ وَفِي شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ إِلْزَامِهِمْ مَا الْتَزَمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ بكون حُصُولُ طَرِيقِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْوَحْيَ، أَوْ مَا أَلْقَى اللَّهُ فِي رَوْعِهِ مِنْ تَصْدِيقِ ابْنَيْ صُورِيَّا فِيمَا قَالَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَا قَوْلُهُمَا مُجَرَّدًا، فَبَيَّنَ لَهُ [النَّبِيُّ] «٢» ﷺ، وَأَخْبَرَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْمِ، وَمَبْدَؤُهُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، فَيَكُونُ أَفَادَ بِمَا فَعَلَهُ إِقَامَةَ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ شَرِيعَتِهِ، وَأَنَّ التَّوْرَاةَ حُكْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» [المائدة: ٤٤] «٣» وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تُقْبَلُ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ، وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جماعة من التابعين وغيرهم إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ السُّورَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَرَجَمَ الزَّانِيَيْنِ «٤»: فَالْجَوَابُ، أَنَّهُ إِنَّمَا نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ وَأَلْزَمَهُمُ الْعَمَلَ بِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا عَمِلَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارًا لِتَحْرِيفِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، فَكَانَ مُنَفِّذًا لَا حَاكِمًا «٥». وَهَذَا عَلَى التَّأْوِيلِ الأول، وعلى


(١). من ع.
(٢). من ك، ع.
(٣). راجع ص ٨٨، ص ٣٤٩ من هذا الجزء،
(٤). في ع: في رجم.
(٥). في ك وع: منفذا لأحكامها.

مَا ذُكِرَ مِنِ الِاحْتِمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، إِذْ لَمْ يُسْمَعْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» لَا يَحْزُنْكَ«قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ. وَالْحُزْنُ وَالْحَزَنُ خِلَافُ السُّرُورِ، وَحَزِنَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ حَزِنٌ وَحَزِينٌ، وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَنَهُ أَيْضًا مِثْلُ أَسْلَكَهُ وَسَلَكَهُ، وَمَحْزُونٌ بُنِيَ عَلَيْهِ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: حَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَأَحْزَنَهُ لُغَةْ تَمِيمٍ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَاحْتَزَنَ وَتَحَزَّنَ بِمَعْنًى. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَيْ لَا يَحْزُنْكَ مُسَارَعَتُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أَيْ لَمْ يُضْمِرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يَعْنِي يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَيَكُونُ هَذَا تَمَامَ الْكَلَامِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ» سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ«أَيْ هم سماعون، ومثله» طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ««١»] النور: ٥٨]. وَقِيلَ الِابْتِدَاءُ مِنْ قَوْلِهِ:» وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا«أي وَمِنَ الذِينَ هَادُوا قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَيْ قَابِلُونَ لِكَذِبِ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: أَيْ يَسْمَعُونَ كَلَامَكَ يَا مُحَمَّدُ لِيَكْذِبُوا عَلَيْكَ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَحْضُرُ النَّبِيَّ ﷺ ثُمَّ يَكْذِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، وَيُقَبِّحُ صُورَتَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ سَمَّاعِينَ وَطَوَّافِينَ، كَمَا قَالَ:» مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا««٢» وَكَمَا قَالَ:» إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ««٣»] الطور: ١٧] ثُمَّ قَالَ:» فاكِهِينَ«» آخِذِينَ««٤». وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:» سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ«وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ ﷺ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتِ الْأَحْكَامُ وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ. وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْجَاسُوسِ فِي» الْمُمْتَحِنَةِ" «٥» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أَيْ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ بَعْدَ أَنْ فَهِمُوهُ عَنْكَ وَعَرَفُوا مَوَاضِعَهُ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ عز وجل، وَبَيَّنَ أَحْكَامَهُ، فَقَالُوا:


(١). راجع ج ١٢ ص ٣٠٦.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٤٥.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٦٤ وص ٧٥.
(٤). راجع ج ١٧ ص ٦٤ وص ٧٥. [.....]
(٥). راجع ج ١٨ ص ٥٣.

شَرْعُهُ تَرْكُ الرَّجْمِ، وَجَعْلُهُمْ بَدَلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِ جَلْدَ أَرْبَعِينَ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ اللَّهِ عز وجل. و «يُحَرِّفُونَ» فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ«سَمَّاعُونَ» وَلَيْسَ بِحَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي«يَأْتُوكَ» لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَأْتُوا لَمْ يَسْمَعُوا، وَالتَّحْرِيفُ إِنَّمَا هُوَ مِمَّنْ يَشْهَدُ وَيَسْمَعُ فَيُحَرِّفُ. وَالْمُحَرِّفُونَ مِنَ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لَا كُلُّهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ حَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى«مِنَ الَّذِينَ هادُوا» فَرِيقٌ سَمَّاعُونَ أَشْبَهَ. (يَقُولُونَ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي«يُحَرِّفُونَ». (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) أَيْ إِنْ أَتَاكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا وَإِلَّا فَلَا. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) أَيْ ضَلَالَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتَهُ فِي الْآخِرَةِ. (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أَيْ فَلَنْ تَنْفَعَهُ. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بَيَانٌ مِنْهُ عز وجل أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الضَّلَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ مِنَ الطَّبْعِ عَلَيْهَا وَالْخَتْمِ كَمَا طَهَّرَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابًا لَهُمْ. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قِيلَ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ حِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ، ثُمَّ أُحْضِرَتِ التَّوْرَاةُ فَوُجِدَ فِيهَا الرَّجْمُ. وَقِيلَ: خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخْذُ الْجِزْيَةِ والذل. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَتَفْخِيمًا، وَقَدْ تَقَدَّمُ «١». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) عَلَى التَّكْثِيرِ. وَالسُّحْتُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهُ الْهَلَاكُ وَالشِّدَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«فَيُسْحِتَكُمْ بعذاب» «٢». وقال الفرزدق:


(١). راجع ج ١١ ص ٢١١.
(٢). في ج وز: وقد تقدم في البقرة.

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المال إلا مسحتا «١» أو مجلف «٢»
كَذَا الرِّوَايَةُ. أَوْ مُجَلَّفٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى لَمْ يَدَعْ لَمْ يُبْقِ. وَيُقَالُ لِلْحَالِقِ: أَسْحَتَ أَيِ اسْتَأْصَلَ. وَسُمِّيَ الْمَالُ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ الطَّاعَاتِ أَيْ يُذْهِبُهَا وَيَسْتَأْصِلُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ كَلَبُ الْجُوعِ، يُقَالُ رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ أَيْ أَكُولٌ، فَكَأَنَّ بِالْمُسْتَرْشِي وَآكِلِ الْحَرَامِ مِنَ الشَّرَهِ إِلَى مَا يُعْطَى مِثْلَ الَّذِي بِالْمَسْحُوتِ الْمَعِدَةِ مِنَ النَّهَمِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْحَرَامُ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ مُرُوءَةَ الْإِنْسَانِ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ بِذَهَابِ الدِّينِ تَذْهَبُ الْمُرُوءَةُ، وَلَا مُرُوءَةَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: السُّحْتُ الرُّشَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنَ السُّحْتِ. وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السُّحْتُ؟ قَالَ: (الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: السُّحْتُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ حَاجَةً فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَيَقْبَلُهَا. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: مِنَ السُّحْتِ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِجَاهِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَيَسْأَلُهُ إِنْسَانٌ حَاجَةً فَلَا يَقْضِيهَا إِلَّا بِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ مَا لَا يَجُوزُ سُحْتٌ حَرَامٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَلَ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ، وَبَطَلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ أَخْذَ الرِّشْوَةِ مِنْهُ فِسْقٌ، وَالْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن اله الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ). وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ وَحُلْوَانُ «٣» الْكَاهِنِ وَالِاسْتِجْعَالُ فِي الْقَضِيَّةِ «٤». وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شي؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنَ الرِّشْوَةِ أَنْ تَرْشِيَ لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ، أَوْ تَدْفَعُ حقا فد لَزِمَكَ، فَأَمَّا أَنْ تَرْشِيَ لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ ودمك ومالك


(١). ويروى: (إلا مسحت) ومن رواه كذلك جعل (معنى لم يدع) لم يتقار. (اللسان) مادة سحت.
(٢). المجلف: الذي بقيت منه بقية.
(٣). هو ما يعطي على الكهانة.
(٤). في ج، ك، ع، ز: الاستعجال في المعصية.

فَلَيْسَ بِحَرَامٍ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْفَقِيهُ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا دِينَارَيْنِ وَقَالَ: إِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ كَسْبَ الْحَجَّامِ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ سُحْتًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَسْحَتُ مُرُوءَةَ آخِذِهِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ أَنَّهُ طَيِّبٌ، وَمَنْ أَخَذَ طَيِّبًا لَا تَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَا تَنْحَطُّ مَرْتَبَتُهُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أنه قال: احتج رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [«١» بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَسْبَ الْحَجَّامِ طَيِّبٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَا يَجْعَلُ ثَمَنًا وَلَا جُعْلًا [وَلَا] «٢» عِوَضًا لِشَيْءٍ مِنَ الْبَاطِلِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا حَرَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَنَاسِخٌ لِمَا كَرِهَهُ مِنْ إِجَارَةِ الْحَجَّامِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ سُحْتًا لَمْ يُعْطِهِ. وَالسُّحْتُ وَالسُّحُتُ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمَّتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّينِ وَحْدَهَا. وَرَوَى الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ نَافِعٍ«أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَهَذَا مَصْدَرٌ مِنْ سَحَتَهُ، يُقَالُ: أَسْحَتَ وَسَحَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَحَتَهُ ذَهَبَ بِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا. قَوْلُهُ تعالى: (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) هَذَا تَخْيِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مُوَادَعَةٍ لَا أَهْلَ ذِمَّةٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَادَعَ الْيَهُودَ. وَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ بَيْنَ الْكُفَّارِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ، بَلْ يَجُوزُ الْحُكْمُ إِنْ أَرَدْنَا. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنِ ارْتَبَطَتِ الْخُصُومَةُ بِمُسْلِمٍ يَجِبُ الْحُكْمُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الذِّمِّيِّينَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَأَنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وهو مذهب مالك


(١). من ج وك وهـ وع.
(٢). من ج وك وهـ وع.

وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، سِوَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّنَى، فَإِنَّهُ إِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ بِالْكِتَابِيَّةِ حُدَّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّانِيَانِ ذِمِّيَّيْنِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: يُجْلَدَانِ وَلَا يُرْجَمَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ: عَلَيْهِمَا الْحَدُّ إِنْ أَتَيَا رَاضِيَيْنِ بِحُكْمِنَا. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلَا يُرْسِلُ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ إِذَا اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُحْضِرُ الْخَصْمَ مَجْلِسَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَالِمِ الَّتِي يَنْتَشِرُ مِنْهَا الْفَسَادُ كَالْقَتْلِ وَنَهْبِ الْمَنَازِلِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا الدُّيُونُ وَالطَّلَاقُ وَسَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ فَلَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَّا بَعْدَ التَّرَاضِي، وَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَلَّا يَحْكُمَ وَيَرُدَّهُمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ. فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا إِجْبَارُهُمْ عَلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَنْتَشِرُ مِنْهُ الْفَسَادُ فَلَيْسَ عَلَى الْفَسَادِ عَاهَدْنَاهُمْ، وَوَاجِبُ قَطْعِ الْفَسَادِ عَنْهُمْ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظَ أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَلَعَلَّ فِي دِينِهِمِ اسْتِبَاحَةَ ذَلِكَ فَيَنْتَشِرُ مِنْهُ الْفَسَادُ بَيْنَنَا، وَلِذَلِكَ مَنَعْنَاهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْخَمْرَ جِهَارًا وَأَنْ يُظْهِرُوا الزِّنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقَاذُورَاتِ، لِئَلَّا يَفْسُدَ بِهِمْ سُفَهَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ دِينُهُمْ مِنَ الطَّلَاقِ وَالزِّنَى وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِدِينِنَا، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ] بِذَلِكَ [«١» إِضْرَارٌ بِحُكَّامِهِمْ وَتَغْيِيرُ مِلَّتِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدُّيُونُ وَالْمُعَامَلَاتُ، لِأَنَّ فِيهَا وَجْهًا مِنَ الْمَظَالِمِ وَقَطْعِ الْفَسَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَانٍ: وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيِّ أَيْضًا أَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» وَأَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عن عكرمة أنه قال:«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» نَسَخَتْهَا آيَةٌ أُخْرَى«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»] المائدة: ٤٩]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ«الْمَائِدَةِ» إِلَّا آيَتَانِ، قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نَسَخَتْهَا«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ»، وَقَوْلُهُ:«لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» «٢»] المائدة: ٢] نسختها«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» «٣»] التوبة: ٥]. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُرَدَّ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي حُقُوقِهِمْ وَمَوَارِيثِهِمْ إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَأْتُوا رَاغِبِينَ فِي حُكْمِ اللَّهِ فيحكم بينهم بكتاب الله. قال


(١). من ع.
(٢). راجع ص ٣٧ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٨ ص ٧٢.

السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ مَا لَمْ يَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي«النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» لَهُ قول تعالى:«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَكَانَ الْأَدْعَى لَهُمْ وَالْأَصْلَحُ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى أَحْكَامِهِمْ، فَلَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ». وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وعمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ: وَلَا خِيَارَ لَهُ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، لِقَوْلِهِ عز وجلحَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» «١»] التوبة: ٢٩]. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الِاحْتِجَاجَاتِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ:«وَهُمْ صاغِرُونَ» أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَلَّا يُرَدُّوا إِلَى أَحْكَامِهِمْ، فَإِذَا وَجَبَ هَذَا فَالْآيَةٌ مَنْسُوخَةٌ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ إِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَى الْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، وَإِنْ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ لَمْ يَحْكُمْ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: يَحْكُمُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ مَعَ مَا ثَبَتَ فِيهَا مِنْ تَوْقِيفِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَانَ النَّظَرُ يُوجِبُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بَيْنَهُمْ مُصِيبٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، وَأَلَّا يُعْرِضَ عَنْهُمْ فَيَكُونُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَارِكًا فَرْضًا، فَاعِلًا مَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَسَعُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلِمَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ قَوْلٌ آخَرُ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلَى الْإِمَامِ إِذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل أَنْ يُقِيمَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ وَيَحْتَجَّ بِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عز وجلوَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ» يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْكَ. وَالْآخَرُ- وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْكَ- إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ مِنْهُمْ- قَالُوا: فَوَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ مَا يُوجِبُ إِقَامَةَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، فَأَمَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فقوله تعالى:


(١). راجع ج ٨ ص ١٠٩.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» «١»] النساء: ١٣٥]. وَأَمَّا مَا فِي السُّنَّةِ فَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِيَهُودِيٍّ قَدْ جُلِدَ وَحُمِّمَ فَقَالَ: (أَهَكَذَا حَدُّ الزَّانِي عِنْدَكُمْ) فَقَالُوا: نَعَمْ. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (سألت بِاللَّهِ أَهَكَذَا حَدُّ الزَّانِي فِيكُمْ) فَقَالَ: لَا. الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّ اللَّذَيْنِ زَنَيَا رَضِيَا بِالْحُكْمِ وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ ﷺ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْ تَدَبَّرَ مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ لَمْ يَحْتَجَّ، لِأَنَّ فِي دَرْجِ الْحَدِيثِ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ عز وجلإِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا»] المائدة: ٤١] يَقُولُ: إِنْ أَفْتَاكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ حَكَّمُوهُ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ حَكَّمَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا رَضِيَا بِحُكْمِهِ. قِيلَ لَهُ: حَدُّ الزَّانِي حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَاكِمِ إِقَامَتُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَ لَهُمْ حَاكِمٌ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَيُقِيمُ حُدُودَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ النَّضِيرُ أَشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ وَدَى مِائَةَ وَسْقٍ «٢» مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَتْلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا لِنَقْتُلَهُ، فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ ﷺ فَنَزَلَتْ:«وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» النَّفْسُ بالنفس، ونزلت:«أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ»] المائدة: ٥٠].

[سورة المائدة (٥): آية ٤٣]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)


(١). راجع ج ٥ ص ٤١٠. [.....]
(٢). الوسق: ستون صاعا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ) قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّجْمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْقَوَدُ. وَيُقَالُ: هَلْ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فِيها حُكْمُ اللَّهِ» عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ؟ الْجَوَابُ- وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّسْخِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَحْلِيلُ الْخَمْرِ أَوْ تَحْرِيمُ السَّبْتِ وَقَوْلُهُ: (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أَيْ بِحُكْمِكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّ مَنْ طَلَبَ غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لم يرضى به فهو كافر، وهذه حالة اليهود.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
قوله تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ). أَيْ بَيَانٌ وَضِيَاءٌ وَتَعْرِيفٌ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ حَقٌّ.«هُدىً» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ«وَنُورٌ» عَطْفٌ عَلَيْهِ (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) قِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ بُعِثَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا يَهُودًا. وَقَالَتْ النَّصَارَى: كَانُوا نَصَارَى، فَبَيَّنَ اللَّهُ عز وجل كَذِبَهُمْ. وعمني (أَسْلَمُوا) صَدَّقُوا بِالتَّوْرَاةِ مِنْ لَدُنْ مُوسَى إِلَى] زَمَانِ [«١» عِيسَى عليهما السلام وَبَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ، وَيُقَالُ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَيُقَالُ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَانُوا يَحْكُمُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى«أَسْلَمُوا» خَضَعُوا وَانْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيمَا بُعِثُوا بِهِ. وَقِيلَ: أَيْ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَمَعْنَى«(لِلَّذِينَ هادُوا)» عَلَى الَّذِينَ هَادُوا فَاللَّامُ بِمَعْنَى (عَلَى). وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وعليهم، فحذف (عليهم). و «الَّذِينَ أَسْلَمُوا» هاهنا نعت فيه معنى المدح مثل


(١). من ع وك.

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».«هادُوا» أَيْ تَابُوا مِنَ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينَ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، أَيْ وَيَحْكُمُ بِهَا الرَّبَّانِيُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَسُوسُونَ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَيُرَبُّونَهُمْ بِصِغَارِهِ قَبْلَ كِبَارِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ «١». وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: الرَّبَّانِيُّونَ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ وَالْأَحْبَارُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ: وَالْحِبْرُ وَالْحَبْرُ الرجل العالم وهو مأخوذ من الحبير وَهُوَ التَّحْسِينُ، فَهُمْ يُحَبِّرُونَ الْعِلْمَ أَيْ يُبَيِّنُونَهُ وَيُزَيِّنُونَهُ، وَهُوَ مُحَبَّرٌ فِي صُدُورِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْمُبَالَغَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْحِبْرُ وَالْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَبِالْكَسْرِ أَفْصَحُ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ دُونَ «٢» الْفُعُولِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ حِبْرٌ بِالْكَسْرِ يُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَأَلْتُ الْفَرَّاءَ لِمَ سُمِّيَ الْحِبْرُ حِبْرًا؟ فَقَالَ: يُقَالُ لِلْعَالِمِ حِبْرٌ وَحَبْرٌ فَالْمَعْنَى مِدَادُ حِبْرٍ ثُمَّ حُذِفَ كَمَا قَالَ:«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» «٣» [يوسف: ٨٢] أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. قَالَ: فَسَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، إِنَّمَا سُمِّيَ حِبْرًا لِتَأْثِيرِهِ، يُقَالُ: عَلَى أَسْنَانِهِ حِبْرٌ «٤» أَيْ صُفْرَةٌ أَوْ سَوَادٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سُمِّيَ الْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ حِبْرًا لِأَنَّهُ يُحْبَرُ بِهِ أَيْ يُحَقَّقُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي وَاحِدِ الْأَحْبَارِ الْحَبْرُ بِالْفَتْحِ وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِتَحْبِيرِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَتَحْسِينِهِ. قَالَ: وَهَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ كُلُّهُمْ بِالْفَتْحِ، وَالْحِبْرُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ وَمَوْضِعُهُ الْمِحْبَرَةُ بِالْكَسْرِ. وَالْحِبْرُ أَيْضًا الْأَثَرُ وَالْجَمْعُ حُبُورٌ، عَنْ يَعْقُوبَ. (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أَيِ اسْتُوْدِعُوا مِنْ عِلْمِهِ. وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ ب«الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ» كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. أَوْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِ«- يَحْكُمُ» أَيْ يَحْكُمُونَ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أَيْ عَلَى الْكِتَابِ بأنه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: شُهَدَاءُ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) أَيْ فِي إِظْهَارِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِظْهَارِ الرَّجْمِ (وَاخْشَوْنِ) أَيْ فِي كِتْمَانِ ذَلِكَ، فَالْخِطَابُ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ. وَقَدْ يَدْخُلُ بِالْمَعْنَى كُلُّ مَنْ كَتَمَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى«وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا» مستوفى «٥».


(١). راجع ج ٤ ص ١٢٢.
(٢). في القاموس: ج أحبار وحبور.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٤٥.
(٤). في ج وع وك: حبرة. في المصباح: الحبر بفتحتين صفرة أخ.
(٥). راجع ج ١ ص ٣٣٤.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و(الظَّالِمُونَ) و(الْفاسِقُونَ) نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ رَدًّا لِلْقُرْآنِ، وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالْكُفَّارِ أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ، فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ رَاكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ذُكِرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ:«لِلَّذِينَ هادُوا»، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ«وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ» فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:«مَنْ» إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ على تخصيصها؟ قيل له:«فَمَنْ» هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا، وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ. وَقِيلَ:«الْكافِرُونَ» لِلْمُسْلِمِينَ، و «الظَّالِمُونَ» لليهود، و «الَفاسِقُونَ» لِلنَّصَارَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وابن شبرمة والشعب أَيْضًا. قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عن الملة، ولكنه كفر دون كفر، «١»


(١). قال في البحر: يعني أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر. قلت: هو كفر النعمة عند الإباضية.

وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى وَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعُزِيَ هَذَا إِلَى الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: أَخَذَ اللَّهُ عز وجل عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بآياته ثمنا قليلا.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّفْسِ وَالنَّفْسِ فِي التَّوْرَاةِ فَخَالَفُوا ذَلِكَ، فَضَلُّوا، فَكَانَتْ دِيَةُ النَّضِيرِيِّ أَكْثَرَ، وَكَانَ النَّضِيرِيُّ لَا يُقْتَلُ بِالْقُرَظِيِّ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْقُرَظِيُّ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَاجَعَ بَنُو قُرَيْظَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيهِ، فَحَكَمَ بِالِاسْتِوَاءِ، فَقَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: قَدْ حَطَطْتَ مِنَّا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. و «كَتَبْنا» بِمَعْنَى فَرَضْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَكَانَ شَرْعُهُمُ الْقِصَاصَ أَوِ الْعَفْوَ، وَمَا كَانَ فِيهِمُ الدِّيَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «١» بَيَانُهُ. وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢» بَيَانُ هَذَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ خَصَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا مَا فِي هَذَا، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ وَإِذَا فِيهِ (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ) وَأَيْضًا فَإِنَّ الآية إنما جاءت


(١). راجع ج ٢ ص ٢٤٤، ٢٤٦.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٤٤، ٢٤٦.

لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ، وَمِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ. وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: هَذَا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَقَدْ مَضَى فِي«الْبَقَرَةِ» «١» فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَا يَكْفِي فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:«وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» وَكَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ أهل ذمة، لان الجزية في وغنيم أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْفَيْءَ لِأَحَدٍ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ فِيمَا مَضَى مَبْعُوثًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ، فَأَوْجَبَتِ الْآيَةُ الْحُكْمَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَانَتْ دِمَاؤُهُمْ تَتَكَافَأُ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَّا فِي دِمَاءِ سِوَى الْمُسْلِمِينَ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، إِذْ يُشِيرُ إِلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ «٢» بِالنَّفْسِ، فَالَّذِي يَجِبُ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ-: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْأُذُنَ أَوِ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:«وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنْ قَصَدَ بِهِ الْمُثْلَةَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمُثْلَةِ يَجِبُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمَلَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ «٣». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِهَا عَلَى الْعَطْفِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ«أَنَّ» وَرَفْعُ الْكُلِّ بِالِابْتِدَاءِ وَالْعَطْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِنَصْبِ الْكُلِّ إلا الجروح. وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءان«وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ» بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا. قَالَ أَبُو عبيد: حدثنا حجاج عن هرون عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزهري عن


(١). راجع ج ٢ ص ٢٤٤.
(٢). في ع: أن النفس بالنفس بينهم.
(٣). راجع ص ١٤٨ من هذا الجزء.

أنس النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ«وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ «١» النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ». وَالرَّفْعُ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ، بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَعَلَى الْمَعْنَى عَلَى مَوْضِعِ«أَنَّ النَّفْسَ»، لِأَنَّ الْمَعْنَى قُلْنَا لَهُمْ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ- قَالَهُ الزَّجَّاجُ- يَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي النَّفْسِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي النَّفْسِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ مَأْخُوذَةٌ بِالنَّفْسِ، فَالْأَسْمَاءُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى هِيَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ جَعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، حُكْمٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، «٢» وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ«وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» وَكَذَا مَا بَعْدَهُ. وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِهَذَا. وَمَنْ خَصَّ الْجُرُوحَ بِالرَّفْعِ فَعَلَى الْقَطْعِ مِمَّا قَبْلَهَا وَالِاسْتِئْنَافِ بِهَا، كَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِهَذَا خَاصَّةً وَمَا قَبْلَهُ لَمْ يُوَاجَهُوا بِهِ. الرَّابِعَةُ-: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ تَعَلَّقَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ:«وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» عَلَى أَنَّ الْيُمْنَى تُفْقَأُ بِالْيُسْرَى وَكَذَلِكَ عَلَى الْعَكْسِ، وَأَجْرَى ذَلِكَ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَقَالَ: تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ بِالضِّرْسِ وَالضِّرْسِ بِالثَّنِيَّةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ». وَالَّذِينَ خَالَفُوهُ وَهُمْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ قَالُوا: الْعَيْنُ الْيُمْنَى هِيَ الْمَأْخُوذَةُ بِالْيُمْنَى عِنْدَ وُجُودِهَا، وَلَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى الْيُسْرَى «٣» مَعَ الرِّضَا، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:«وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» اسْتِيفَاءُ مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْجَانِي، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَتَعَدَّى مِنَ الرِّجْلِ إِلَى الْيَدِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ. الْخَامِسَةُ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ إِذَا أُصِيبَتَا خَطَأً فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ إِذَا فُقِئَتِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقِيلَ: نِصْفُ الدِّيَةِ، رُوِيَ] ذَلِكَ [«٤» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَمَسْرُوقٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قال الثوري


(١). في البحر: بتخفيف أن. إلخ، ثم قال: يحتمل أن وجهين أحدهما أن تكون مصدرية. إلخ. [.....]
(٢). أي وبيان حكم جديد في المسلمين. كما في (روح المعاني).
(٣). كذا في الأصول وصوابه: إلا مع الرضا. كما في البحر.
(٤). من ع وك.

وَالشَّافِعِيُّ وَالنُّعْمَانُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ (فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ) وَمَعْقُولٌ إِذْ كَانَ كَذَلِكَ أَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا: إِنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْوَرِ بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ دِيَتِهِ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ صَحِيحٍ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ فَتَرَكَهُ أَعْمَى، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ كَامِلَةً (دِيَةَ عَيْنِ «١» الْأَعْوَرِ). وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ مَعْقِلٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:«وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ» وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ، فَفِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصُ بَيْنَ صَحِيحِ الْعَيْنِ وَالْأَعْوَرِ كَهَيْئَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ. وَمُتَعَلَّقُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهُ أَخْذَ جَمِيعِ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، وَمُتَمَسَّكُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ. فال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الَّتِي لَا يُبْصِرُ بِهَا، فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ: فِيهَا حُكُومَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ مِمَّا قِيلَ. الثَّامِنَةُ- وَفِي إِبْطَالِ الْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَتَيْنِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَعْمَشُ «٢» وَالْأَخْفَشُ «٣». وَفِي إِبْطَالِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا مَعَ بَقَائِهَا النِّصْفُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وأحسن


(١). كذا في الأصول إلا ع: دية غير الأعور. وهو الوجه.
(٢). العمش (محركة) ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات.
(٣). الخفش (محركة): ضعف في البصر خلقة وضيق في العين أو فساد في الجفون بلا وجع، أو أن يبصر بالليل دون النهار وفي يوم غيم دون صحو.

مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ فَغُطِّيَتْ وَأُعْطِيَ رَجُلٌ بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ حَتَّى انْتَهَى نَظَرُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِخَطٍّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ الْأُخْرَى فَغُطِّيَتْ وَفُتِحَتِ الصَّحِيحَةُ، وَأُعْطِيَ رَجُلٌ بَيْضَةً فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ حَتَّى انْتَهَى نَظَرُهُ ثُمَّ خَطَّ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَحُوِّلَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَفُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَوَجَدَهُ سَوَاءً، فَأَعْطَى مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِهِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَهِيَ: التَّاسِعَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا قَوَدَ فِي بَعْضِ الْبَصَرِ، إِذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ الْوُصُولُ إِلَيْهِ. وَكَيْفِيَّةُ الْقَوَدِ فِي الْعَيْنِ أَنْ تُحْمَى مِرْآةٌ ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنَةٌ، ثُمَّ تُقَرَّبُ الْمِرْآةُ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى يَسِيلَ إِنْسَانُهَا، رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِي جَفْنِ الْعَيْنِ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِيهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ «١» وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْجَفْنِ الْأَعْلَى ثُلُثُ الدِّيَةِ وَفِي الْجَفْنِ الْأَسْفَلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ مالك. العشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) " جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: (وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ «٢» جَدْعًا الدِّيَةُ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَالْقِصَاصُ مِنَ الْأَنْفِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا كَالْقِصَاصِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي كَسْرِ الْأَنْفِ. فَكَانَ مَالِكُ يَرَى فِي الْعَمْدِ مِنْهُ الْقَوَدَ، وَفِي الْخَطَأِ الِاجْتِهَادَ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْأَنْفِ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهُ مِنْ أَصْلِهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونِسِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَعْرُوفِ فَفِي بَعْضِ الْمَارِنِ مِنَ الدية بحساب مِنَ الْمَارِنِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَا قُطِعَ مِنَ الْأَنْفِ فَبِحِسَابِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَارِنِ إِذَا قُطِعَ وَلَمْ يَسْتَأْصِلِ الْأَنْفَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الدية كاملة، ثم إن قطع منه شي بعد ذلك ففيه


(١). سقط أبو هاشم من ك وع، وهو الرماني من أقران الثوري. وفي ج: ابن هاشم.
(٢). أي استؤصل قطعه.

حُكُومَةٌ. قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الْأَنْفِ أَنْ يُقْطَعَ الْمَارِنُ، وَهُوَ دُونَ الْعَظْمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنَ الْعَظْمِ أَوِ اسْتُؤْصِلَ الْأَنْفُ مِنَ الْعَظْمِ مِنْ تَحْتِ الْعَيْنَيْنِ إِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ، كَالْحَشَفَةِ فِيهَا الدِّيَةُ: وَفِي اسْتِئْصَالِ الذَّكَرِ الدِّيَةُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا خُرِمَ الْأَنْفُ أَوْ كُسِرَ فَبَرِئَ عَلَى عَثْمٍ «١» فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَإِنْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ عثم فلا شي فِيهِ. قَالَ: وَلَيْسَ الْأَنْفُ إِذَا خُرِمَ فَبَرِئَ عَلَى غَيْرِ عَثْمٍ كَالْمُوضِحَةِ «٢» تَبْرَأُ عَلَى غَيْرِ عَثْمٍ فَيَكُونُ فِيهَا دِيَتُهَا، لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ، وَلَيْسَ فِي خَرْمِ الْأَنْفِ أَثَرٌ. قَالَ: وَالْأَنْفُ عَظْمٌ مُنْفَرِدٌ لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ. وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا عَلَى أَنْ لَا جَائِفَةَ فِيهِ، وَلَا جَائِفَةَ عِنْدَهُمْ إِلَّا فِيمَا كَانَ فِي الْجَوْفِ،. وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَظُنُّ رَوْثَتَهُ مَارِنَهُ، وَأَرْنَبَتَهُ طَرَفَهُ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَرْنَبَةُ وَالرَّوْثَةُ وَالْعَرْتَمَةُ طَرَفُ الْأَنْفِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فِي الشَّمِّ إِذَا نَقَصَ أَوْ فُقِدَ حُكُومَةٌ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ: عَلَيْهِ حُكُومَةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ، وَيُقَاسُ فِي نُقْصَانِهِ كَمَا يُقَاسُ فِي الْبَصَرِ. وَفِي إِبْطَالِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ إِلَّا بِهَا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ فِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ كَانَ السَّمْعُ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ قِيلَ إِنَّ أَحَدَ السَّمْعَيْنِ يَسْمَعُ مَا يَسْمَعُ السَّمْعَانِ فَهُوَ عِنْدِي كَالْبَصَرِ، وَإِذَا شُكَّ فِي السَّمْعِ جُرِّبَ بِأَنْ يُصَاحَ بِهِ مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ، يُقَاسُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَسَاوَتْ أَوْ تَقَارَبَتْ أُعْطِيَ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ سَمْعِهِ وَيُحَلَّفُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ أَشْهَبُ: وَيُحْسَبُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَمْعٍ وَسَطٍ من الرجل مِثْلَهُ، فَإِنِ اخْتُبِرَ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ له شي. وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: إِذَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ عقل له الأقل مع يمينه.


(١). العثم، الجبر على غير استواء.
(٢). الموضحة: هي التي بلغت العظم فأوضحت عنه. وقيل: هي التي تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم أو تشقها حتى تبدو وضح العظم.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ أَقَادَ مِنْ سِنٍّ وَقَالَ: (كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ). وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: (فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ نَقُولُ، لَا فَضْلَ لِلثَّنَايَا مِنْهَا عَلَى الْأَنْيَابِ وَالْأَضْرَاسِ وَالرَّبَاعِيَاتِ «١»، لِدُخُولِهَا كُلِّهَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَبِهِ يَقُولُ الْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ الحديث ولم يفضل شيئا منها على شي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالنُّعْمَانُ وَابْنُ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ- رُوِّينَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى فِيمَا أَقْبَلَ مِنَ الْفَمِ بِخَمْسِ فَرَائِضَ خَمْسِ فَرَائِضَ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَارًا، قِيمَةُ كُلِّ فَرِيضَةٍ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ. وَفِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ. وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: فِي السِّنِّ وَالرَّبَاعِيَتَيْنِ وَالنَّابَيْنِ خَمْسٌ خَمْسٌ، وَفِيمَا بَقِيَ بَعِيرَانِ بَعِيرَانِ، أَعْلَى الْفَمِ وَأَسْفَلُهُ سَوَاءٌ، وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَضْرَاسَ عِشْرُونَ ضِرْسًا، وَالْأَسْنَانَ اثْنَا عَشَرَ سِنًّا: أَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ، فَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ تَصِيرُ الدِّيَةُ ثَمَانِينَ بَعِيرًا، فِي الْأَسْنَانِ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ، وَفِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرٌ بَعِيرٌ. وَعَلَى قَوْلِ مُعَاوِيَةَ فِي الْأَضْرَاسِ وَالْأَسْنَانِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، تَصِيرُ الدِّيَةُ سِتِّينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ. وَعَلَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ فِي الْأَضْرَاسِ وَهِيَ عِشْرُونَ ضِرْسًا. يَجِبُ لَهَا أَرْبَعُونَ. وَفِي الأسنان خمسة أبعرة خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ فَذَلِكَ سِتُّونَ، وَهِيَ تَتِمَّةُ الْمِائَةِ بَعِيرٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ كَامِلَةً مِنَ الْإِبِلِ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَضْرَاسِ لَا فِي الْأَسْنَانِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي دِيَاتِ الْأَسْنَانِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَثِيرٌ جِدًّا، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، بِظَاهِرِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (وَفِي السن خمس من الإبل)


(١). الرباعية (كثمانية): والسن التي بين الثنية والناب.

وَالضِّرْسُ سِنٌّ مِنَ الْأَسْنَانِ. رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا نَصٌّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءً. قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذِهِ الْآثَارِ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْأَصَابِعَ فِي الدِّيَةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ الْأَسْنَانَ فِي الدِّيَةِ كُلُّهَا سَوَاءٌ، الثَّنَايَا وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ لَا يفضل شي منها على شي، عَلَى مَا فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ. ذَكَرَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إِلَى شُرَيْحٍ رَجُلَانِ ضَرَبَ أَحَدُهُمَا ثَنِيَّةَ الْآخَرِ وَأَصَابَ الْآخَرُ ضِرْسَهُ فَقَالَ شُرَيْحٌ: الثَّنِيَّةُ وَجَمَالُهَا وَالضِّرْسُ وَمَنْفَعَتُهُ سِنٌّ بِسِنٍّ قُوِّمَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ ضَرَبَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَشُرَيْحٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَتِهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: فِيهَا حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وهذا عندي خلاف يؤول إِلَى وِفَاقٍ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ مَنْفَعَتَهَا وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، ثُمَّ إن كان بقي من منفعتها شي أو جميعه لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنَ الْمَنْفَعَةِ حُكُومَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ] رضي الله عنه ١» فِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا لَمْ يَصِحْ عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّ الصَّبِيِّ يُقْلَعُ قَبْلَ أَنْ يُثْغِرَ «٢»، فَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: إِذَا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شي عَلَى الْقَالِعِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ قَالَا: إِذَا نَبَتَتْ نَاقِصَةَ الطُّولِ عَنِ التِي تُقَارِبُهَا أُخِذَ لَهُ مِنْ أَرْشِهَا بِقَدْرِ نَقْصِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهَا حُكُومَةٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وبه قال النعمان. قال ابن المنذر:


(١). من ع.
(٢). اثغر الغلام: سقطت أسنانه الرواضع.

يُسْتَأْنَى بِهَا إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَقُولُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إِنَّهَا لَا تَنْبُتُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا قَدْرُهَا تَامًّا، عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ نَبَتَتْ رُدَّ الْأَرْشُ. وَأَكْثَرُ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: يُسْتَأْنَى بِهَا سَنَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وأصحاب الرأي. ولم يجعل الشافع لِهَذَا «١» مُدَّةً مَعْلُومَةً. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِذَا قُلِعَ سِنُّ الْكَبِيرِ فَأَخَذَ دِيَتَهَا ثُمَّ نَبَتَتْ، فَقَالَ مَالِكٌ لَا يَرُدُّ مَا أَخَذَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَرُدُّ إِذَا نَبَتَتْ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: يَرُدُّ وَلَا يرد، لان هذا نبات لم تجربه عَادَةٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ، هَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا. تَمَسَّكَ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ عِوَضَهَا قَدْ نَبَتَ فَيُرَدُّ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا جَانٍ آخَرَ وَقَدْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً كَانَ فِيهَا أَرْشُهَا تَامًّا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالِعُ سِنٍّ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السِّنِّ «٢» خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فردها صاحبها فالتحمت فلا شي فِيهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ. وَلَوْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَرَدَّهَا بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَقَدْ جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا بِصُورَتِهَا لَا يُوجِبُ عَوْدَهَا بِحُكْمِهَا، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ، وَقَدْ عَادَتْ مُتَّصِلَةٌ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٌ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا. قُلْتُ: مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ عَطَاءٍ خِلَافَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي السِّنِّ تُقْلَعُ قَوَدًا ثُمَّ تُرَدُّ مَكَانَهَا فَتَنْبُتُ، فَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: تُقْلَعُ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلشِّيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَيُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى القلع.


(١). في ع وك: لها. [.....]
(٢). في ع: فيها.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- فَلَوْ كَانَتْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا حُكُومَةٌ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا يَصِحُّ مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: فِي السِّنِّ إِذَا كُسِرَ بَعْضُهَا أُعْطِيَ صَاحِبُهَا بِحِسَابِ مَا نَقَصَ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَهُنَا انْتَهَى مَا نَصَّ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّفَتَيْنِ وَاللِّسَانَ وَهِيَ: التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وفي كل واحدة منهما نص الدِّيَةِ لَا فَضْلَ لِلْعُلْيَا مِنْهُمَا عَلَى السُّفْلَى. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ: فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الشَّفَةِ السُّفْلَى ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: (وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ) وَلِأَنَّ فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ وَمَنَافِعَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ. وَمَا قُطِعَ مِنَ الشَّفَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. وَأَمَّا اللِّسَانُ فَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ). وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَجْنِي عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ فَيَقْطَعُ مِنَ اللِّسَانِ شَيْئًا، وَيَذْهَبُ مِنَ الْكَلَامِ بَعْضُهُ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُنْظَرُ إِلَى مِقْدَارِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنْ ذَهَبَ الْكَلَامُ كُلُّهُ فَفِيهِ الدِّيَةُ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي اللِّسَانِ قَوَدٌ لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ. فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ الْأَصْلُ. الحادية والعشرون- وَاخْتَلَفُوا فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ يُقْطَعُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَصَاحِبَاهُ: فِيهِ حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ شَاذَّانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُ النَّخَعِيِّ إِنَّ فِيهِ الدِّيَةَ. وَالْآخَرُ- قَوْلُ قَتَادَةَ أن فيه ثلث الدية. فال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ مِمَّا قِيلَ. قَالَ

ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ عَلَيْهَا، فَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إِذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ «١» مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أَيْ مُقَاصَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢». وَلَا قِصَاصَ فِي كُلِّ مَخُوفٍ وَلَا فِيمَا لَا يُوصَلُ إِلَى الْقِصَاصِ فِيهِ إِلَّا بِأَنْ يُخْطِئَ الضَّارِبُ أَوْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ. وَيُقَادُ مِنْ جِرَاحِ الْعَمْدِ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الْقَوَدُ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَمْدِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فَالدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَتِ الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ- أُمَّ حَارِثَةَ- جَرَحَتْ إِنْسَانًا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الْقِصَاصُ الْقِصَاصُ)، فَقَالَتْ أُمُّ الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الرُّبَيِّعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ) قَالَتْ:] لَا [«٣» وَاللَّهِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا،] قَالَ [«٤» فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ). قُلْتُ: الْمَجْرُوحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَارِيَةٌ، وَالْجُرْحُ كَسْرُ ثَنِيَّتُهَا، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ عَمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ فُلَانَةٍ؟ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. قَالَ: وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالْأَرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمُّ أَنَسٍ- وَهُوَ الشَّهِيدُ يَوْمَ أُحُدٍ- رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ من عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ). وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَقَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ يُقْتَصُّ من السن؟ قال: تبرد.


(١). في ع. ذهبت.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٤٤ فما بعدها.
(٣). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٤). من ج وع وك.

قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلَفَ فَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُمَا. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.] فَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّثَبُّتَ عَلَى الْإِيمَانِ بِكَرَامَاتِهِمْ وَأَنْ يَنْظِمَنَا فِي سِلْكِهِمْ مِنْ غَيْرِ مِحْنَةٍ وَلَا فِتْنَةٍ [«٢». الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:«وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» أَنَّهُ فِي الْعَمْدِ، فَمَنْ أَصَابَ سِنَّ أَحَدٍ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى حَدِيثِ أَنَسٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ عِظَامِ الْجَسَدِ إِذَا كُسِرَتْ عَمْدًا، فَقَالَ مَالِكٌ: عِظَامُ الْجَسَدِ كُلُّهَا فِيهَا الْقَوَدُ إِلَّا مَا كَانَ مَخُوفًا مِثْلَ الْفَخِذِ وَالصُّلْبِ وَالْمَأْمُومَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْهَاشِمَةِ، فَفِي ذَلِكَ الدِّيَةُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ يُكْسَرُ مَا خَلَا السِّنَّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ كَسْرٌ كَكَسْرٍ أَبَدًا، فَهُوَ مَمْنُوعٌ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمِ الرَّأْسِ، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعِظَامِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي السِّنِّ وَهِيَ عَظْمٌ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِظَامِ إِلَّا عَظْمًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، لِخَوْفِ ذَهَابِ النَّفْسِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَنْ قَالَ لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ للحديث، والخروج إلى النظر غَيْرُ جَائِزٍ مَعَ وُجُودِ الْخَبَرِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» «٣»] البقرة: ١٩٤]، وَقَوْلُهُ:«وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ» «٤»] النحل: ١٢٦] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي. [وَاللَّهُ «٥» أَعْلَمُ] وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمُوضِحَةِ، وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ فِي الشِّجَاجِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: دَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، أَوَّلُ الشِّجَاجِ- الْحَارِصَةُ وَهِيَ: الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ- يَعْنِي الَّتِي تَشُقُّهُ قَلِيلًا- وَمِنْهُ قِيلَ: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ، وَقَدْ يُقَالُ لَهَا: الْحَرْصَةُ أَيْضًا. ثُمَّ الْبَاضِعَةُ- وَهِيَ: الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ تَبْضَعُهُ بَعْدَ الْجِلْدِ. ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ- وَهِيَ: الَّتِي أَخَذَتْ فِي الجلد ولم تبلغ السمحاق.


(١). هي قصته المشهورة مع سيدنا موسى عليهما السلام وستأتي في سورة (الكهف) إن شاء الله. ج ١١ ص ١٦ فما بعد.
(٢). من ع.
(٣). راجع ج ٢ ص ٣٥٤.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٠٠
(٥). من ع.

وَالسِّمْحَاقُ: جِلْدَةٌ أَوْ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ عِنْدَنَا الْمِلْطَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الْمِلْطَاةُ، قَالَ: وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ (يُقْضَى فِي الْمِلْطَاةِ بِدَمِهَا). ثُمَّ الْمُوضِحَةُ- وَهِيَ: الَّتِي تَكْشِطُ عَنْهَا ذَلِكَ الْقِشْرَ أَوْ تَشُقُّ حَتَّى يَبْدُوَ وَضَحُ «١» الْعَظْمِ، فَتِلْكَ الموضحة. قال أبو عبيد: وليس في شي مِنَ الشِّجَاجِ قِصَاصٌ إِلَّا فِي الْمُوضِحَةِ خَاصَّةً، لأنه ليس منها شي لَهُ حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَيْهِ سِوَاهَا، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الشِّجَاجِ فَفِيهَا دِيَتُهَا. ثُمَّ الْهَاشِمَةُ- وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ. ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ- بِكَسْرِ الْقَافِ حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ- وَهِيَ الَّتِي تُنَقِّلُ الْعَظْمَ- أَيْ تَكْسِرُهُ- حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا فَرَاشُ الْعِظَامِ مَعَ الدَّوَاءِ. ثُمَّ الْآمَّةُ- وَيُقَالُ لَهَا الْمَأْمُومَةُ- وَهِيَ التي تبلغ أم الرأس، يعني الدماغ. فال أَبُو عُبَيْدٍ وَيُقَالُ فِي قَوْلِهِ: (وَيُقْضَى فِي الْمِلْطَاةِ بِدَمِهَا) أَنَّهُ إِذَا شَجَّ الشَّاجُّ حُكِمَ عَلَيْهِ لِلْمَشْجُوجِ بِمَبْلَغِ الشَّجَّةِ سَاعَةَ شُجَّ وَلَا يُسْتَأْنَى بِهَا. قَالَ: وَسَائِرُ الشِّجَاجِ] عِنْدَنَا [«٢» يُسْتَأْنَى بِهَا حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهَا ثُمَّ يُحْكَمُ فِيهَا حِينَئِذٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الشِّجَاجِ كُلِّهَا وَالْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا؟ أَنَّهُ؟ يُسْتَأْنَى بِهَا، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا صُلْحٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ الْمِلْطَى وَالدَّامِيَةُ وَالْبَاضِعَةُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزَادُوا السِّمْحَاقَ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الدَّامِيَةُ الَّتِي تَدْمَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ. وَالدَّامِعَةُ: أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ قِصَاصٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالدَّامِيَةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَدْمَى وَلَا تَسِيلُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الدَّامِيَةُ هِيَ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ. وَلَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ، مِنَ الْهَاشِمَةِ لِلْعَظْمِ، وَالْمُنَقِّلَةِ- عَلَى خِلَافٍ فِيهَا خَاصَّةً- وَالْآمَّةُ هِيَ الْبَالِغَةُ إِلَى أُمِّ الرَّأْسِ، وَالدَّامِغَةُ الْخَارِقَةُ لِخَرِيطَةِ الدِّمَاغِ. وَفِي هَاشِمَةِ الْجَسَدِ الْقِصَاصُ، إِلَّا مَا هُوَ مَخُوفٌ كَالْفَخِذِ وَشِبْهِهِ. وَأَمَّا هَاشِمَةُ الرَّأْسِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا قَوَدَ فِيهَا، لِأَنَّهَا لَا بُدَّ تَعُودُ مُنَقِّلَةً. وَقَالَ أَشْهَبُ: فِيهَا الْقِصَاصُ، إِلَّا أَنْ تُنَقِّلَ فَتَصِيرُ مُنَقِّلَةً لا قود فيها. وأما الاطراف فيجب


(١). وضح العظم بياضه.
(٢). من ع.

الْقِصَاصُ فِي جَمِيعِ الْمَفَاصِلِ إِلَّا الْمَخُوفِ مِنْهَا. وَفِي مَعْنَى الْمَفَاصِلِ أَبْعَاضُ الْمَارِنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالْأَجْفَانِ وَالشَّفَتَيْنِ، لِأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّقْدِيرَ. وَفِي اللِّسَانِ رِوَايَتَانِ. وَالْقِصَاصُ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا كَانَ مُتْلِفًا كَعِظَامِ الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالصُّلْبِ وَالْفَخِذِ وَشِبْهِهِ. وَفِي كَسْرِ عِظَامِ الْعَضُدِ الْقِصَاصُ. وَقَضَى أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي رَجُلٍ كَسَرَ فَخِذَ رَجُلٍ أَنْ يُكْسَرَ فَخِذَهُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدِ بِمَكَّةَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ: إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ «١»، وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي بِلَادِنَا فِي الرَّجُلِ يَضْرِبُ الرَّجُلَ فيتقيه بيده فكسرها يُقَادُ مِنْهُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: الشِّجَاجُ فِي الرَّأْسِ، وَالْجِرَاحُ فِي الْبَدَنِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ أَرْشٌ فيا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْأَرْشِ. وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ شِجَاجٌ خَمْسٌ: الدَّامِيَةُ وَالدَّامِعَةُ وَالْبَاضِعَةُ وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ] وَإِسْحَاقُ [«٢» وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي الدَّامِيَةِ حُكُومَةٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ حُكُومَةٌ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ حُكُومَةٌ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرٌ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَانِ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّمْحَاقُ أَرْبَعٌ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الرَّجُلِ يُضْرَبُ حَتَّى يَذْهَبَ عَقْلُهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، أَوْ يُضْرَبُ حَتَّى يُغَنَّ «٣» وَلَا يُفْهِمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، أَوْ حَتَّى يُبَحَّ وَلَا يُفْهِمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَفِي جَفْنِ الْعَيْنِ رُبُعُ «٤» الدِّيَةِ. وَفِي حَلَمَةِ الثَّدْيِ رُبُعُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي السِّمْحَاقِ مِثْلُ قَوْلِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: فِيهَا نِصْفُ الْمُوضِحَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيُّ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفِيهِ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ تَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا سواء. وقال بقولهما


(١). في ع: عندنا.
(٢). من ج وك وهـ وع، ز. [.....]
(٣). يغن أي يخرج صوته من خياشيمه. وفي ك، ع: يجن. وسقط من ج. أو يضرب إلخ.
(٤). في ع: الدية كاملة.

جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ تَضْعِيفُ مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مُوضِحَةُ الْوَجْهِ أَحْرَى أَنْ يُزَادَ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَأْمُومَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْمُوضِحَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَلَا تَكُونُ الْمَأْمُومَةُ إِلَّا فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً إِذَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغِ، قَالَ: وَالْمُوضِحَةُ مَا تَكُونُ فِي جُمْجُمَةِ الرَّأْسِ، وَمَا دُونَهَا فَهُوَ مِنَ الْعُنُقِ لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَنْفُ لَيْسَ مِنَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ، وَكَذَلِكَ اللَّحْيُ الْأَسْفَلُ لَيْسَ فِيهِ مُوضِحَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُوضِحَةِ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَيْسَ فِي مُوضِحَةِ الْجَسَدِ وَمُنَقِّلَتِهِ وَمَأْمُومَتِهِ إِلَّا الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مَعْلُومٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَبِهِ نَقُولُ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ الْمُوضِحَةَ إِذَا كَانَتْ فِي جَسَدِ الْإِنْسَانِ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ رَجُلًا مَأْمُومَتَيْنِ أَوْ مُوضِحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَأْمُومَاتٍ أَوْ مُوضِحَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ- وَإِنِ انْخَرَقَتْ فَصَارَتْ وَاحِدَةً- دِيَةً كَامِلَةً. وَأَمَّا الْهَاشِمَةُ فَلَا دِيَةَ فِيهَا عِنْدَنَا بَلْ حُكُومَةً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمْ أَجِدْ فِي كُتُبِ الْمَدَنِيِّينَ ذِكْرَ الْهَاشِمَةِ، بَلْ قَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ كَسَرَ أَنْفَ رَجُلٍ إِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يُوَقِّتُ فِي الْهَاشِمَةِ شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَفِيهَا حُكُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: النَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، إِذْ لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: فِيهَا مَا فِي الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً فَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ صَارَتْ مَأْمُومَةً فَثُلُثُ الدِّيَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَوَجَدْنَا أَكْثَرَ مَنْ لَقِينَاهُ وَبَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَجْعَلُونَ فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ. وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: فِيهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَمُرَادُهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الْمُنَقِّلَةُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ؟ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ) وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ الْمُنَقِّلَةَ هِيَ الَّتِي تُنْقَلُ

مِنْهَا الْعِظَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ- وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ- إِنَّ الْمُنَقِّلَةَ لَا قَوَدَ فِيهَا، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ- وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ- أَنَّهُ أَقَادَ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ). وَأَجْمَعَ] عَوَامُّ [«١» أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ إِلَّا مَكْحُولًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمَأْمُومَةُ عَمْدًا فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَإِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ؟؟ وَاخْتَلَفُوا؟؟ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا قَوَدَ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ؟؟ الزُّبَيْرِ؟؟ أَنَّهُ؟؟ أَقَصَّ؟؟ مِنَ الْمَأْمُومَةِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَقَادَ مِنَّا قَبْلَ؟؟ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا الْجَائِفَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. وَالْجَائِفَةُ كُلُّ مَا خَرَقَ إِلَى الْجَوْفِ وَلَوْ مَدْخَلَ إِبْرَةٍ، فَإِنْ نَفَذَتْ مِنْ جِهَتَيْنِ عِنْدَهُمْ جَائِفَتَانِ، وَفِيهَا مِنَ الدِّيَةِ الثُّلُثَانِ. قَالَ أَشْهَبُ: وَقَدْ قَضَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فِي جَائِفَةٍ نَافِذَةٍ مِنَ الْجَنْبِ الْآخَرِ. بِدِيَةِ جَائِفَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: لَا قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ نَقُولُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ مِنَ اللَّطْمَةِ وَشِبْهِهَا، فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ] رضي الله عنهم ٢» أَنَّهُمْ أَقَادُوا مِنَ اللَّطْمَةِ وَشِبْهِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنْ كَانَتِ اللَّطْمَةُ فِي الْعَيْنِ فَلَا قَوَدَ فِيهَا «٣»، لِلْخَوْفِ «٤» عَلَى الْعَيْنِ وَيُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ. وإن كانت على الخد ففيها القود.
وقالت طَائِفَةٌ: لَا قِصَاصَ فِي اللَّطْمَةِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لَطْمَةُ الْمَرِيضِ الضَّعِيفِ مِثْلَ لَطْمَةِ الْقَوِيِّ، وَلَيْسَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدِ يُلْطَمُ مِثْلَ الرَّجُلِ ذِي الْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الِاجْتِهَادُ لِجَهْلِنَا بمقدار اللطمة.


(١). من ع وك.
(٢). من ع.
(٣). في ج. ك. هـ: فلا قصاص.
(٤). في ك: للخوف فيها.

السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَوَدِ مِنْ ضَرْبِ السَّوْطِ، فَقَالَ اللَّيْثُ] وَالْحَسَنُ [«١»: يُقَادُ مِنْهُ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ لِلتَّعَدِّي «٢». وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقَادُ مِنْهُ. وَلَا يُقَادُ مِنْهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنْ يُجْرَحَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ جَرَحَ السَّوْطُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَمَا أُصِيبَ «٣» بِهِ مِنْ سَوْطٍ أَوْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ فَكَانَ دُونَ النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ، وَفِيهِ الْقَوَدُ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ «٤»، وَأَقَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ. وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَحَدِيثُ لُدِّ «٥» النَّبِيِّ ﷺ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حُجَّةٌ لِمَنْ جَعَلَ الْقَوَدَ فِي كُلِّ أَلَمٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُرْحٌ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْلِ جِرَاحَاتِ النِّسَاءِ، فَفِي«الْمُوَطَّأِ» عَنْ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ] الرَّجُلِ [«٦»، إِصْبَعُهَا كَإِصْبَعِهِ وَسِنُّهَا كَسِنِّهِ، وَمُوضِحَتُهَا كَمُوضِحَتِهِ، وَمُنَقِّلَتُهَا كَمُنَقِّلَتِهِ. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ مَالِكٌ: فَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ [وَالزُّهْرِيُّ] «٧» وَقَتَادَةُ وَابْنُ هُرْمُزٍ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وعبد الملك ابن الْمَاجِشُونِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وبه قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالنُّعْمَانُ وَصَاحِبَاهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى الْكَثِيرِ وَهُوَ الدِّيَةُ كَانَ الْقَلِيلُ مِثْلَهُ، وَبِهِ نَقُولُ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَكُلُّ مَا فِيهِ جَمَالٌ مُنْفَرِدٌ عَنْ مَنْفَعَةٍ أَصْلًا فَفِيهِ حُكُومَةٌ، كَالْحَاجِبَيْنِ وَذَهَابِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ؟؟ الرَّأْسِ وثديي؟؟ الرجل واليته «٨». وصفه


(١). من ع وك.
(٢). في ع: لأجل التعدي.
(٣). في ع: أصبت.
(٤). الدرة (بالكسر): التي يضرب بها.
(٥). اللد: أن يؤخد بلسان الصبي؟؟؟؟؟؟ إلى أحد شقيه ويؤجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق. وحديث اللد أنه لد- ﷺ في مرضه فلما أفاق قال:«لا يبقى في البيت أحد إلا لد» فعل ذلك عقوبة لهم لأنهم لدوه بغير إذنه.
(٦). من ك وع. يريد أن ما دون ثلث الدية عقلها فيه كعقل الرجل، حتى إذا بلغت في عقل ما جنى عليها ثلث الدية كان عقلها نصف عقل الرجل. وقوله: (إصبعها كإصبعه ... إلخ) يريد أن عقل هذه كلها دون الثلث فلذلك ساوت فيه الرجل (الموطأ).
(٧). من ج وك وهـ وع.
(٨). في ع وك: أليتيه. [.....]

الْحُكُومَةِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا سَلِيمًا، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْجِنَايَةِ فَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ جُعِلَ جُزْءًا مِنْ دِيَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ رَجُلَيْنِ ثِقَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ. وَقِيلَ: بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ جُمَلٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجِرَاحَاتِ وَالْأَعْضَاءِ تَضَمَّنَهَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فِيهَا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ] بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ [«١». الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، أَيْ تَصَدَّقَ بِالْقِصَاصِ فَعَفَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، أَيْ لِذَلِكَ الْمُتَصَدِّقِ. وَقِيلَ: هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِجِنَايَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَأَجْرُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَرُوِيَ الثَّانِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْعَائِدَ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ، وَهُوَ«مَنْ». وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي يَقُولُ إِنَّهُ إِذَا عَفَا عَنْهُ الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فلا معنى له.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أَيْ جَعَلْنَا عِيسَى يَقْفُو آثَارَهُمْ، أَيْ آثَارَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. (مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) يَعْنِي التَّوْرَاةَ، فَإِنَّهُ رَأَى التَّوْرَاةَ حَقًّا، وَرَأَى وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ نَاسِخٌ.«مُصَدِّقًا» نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عِيسَى. (فِيهِ هُدىً) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَنُورٌ عُطِفَ عَلَيْهِ.«وَمُصَدِّقًا» فِيهِ وَجْهَانِ، يَجُوزُ أَنْ يكون


(١). من ع وك.

لِعِيسَى وَتَعْطِفُهُ عَلَى مُصَدِّقًا الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ مُسْتَقِرًّا فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً)
عُطِفَ عَلَى«مُصَدِّقًا» أَيْ هَادِيًا وَوَاعِظًا.«لِلْمُتَّقِينَ» وَخَصَّهُمْ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِمَا. وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ:«فِيهِ هُدىً وَنُورٌ». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ كَيْ. وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ:«وَآتَيْناهُ» فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ لِيَحْكُمَ أَهْلُهُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ. وَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى الْأَمْرِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ»] المائدة: ٤٩] فَهُوَ إِلْزَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُبْتَدَأُ بِهِ، أَيْ لِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: هَذَا أَمْرٌ لِلنَّصَارَى الْآنَ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْفُرُوعِ لَا فِي الْأُصُولِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالِاخْتِيَارُ الْجَزْمُ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الإنجيل. فال النَّحَّاسُ: وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُنَزِّلْ كِتَابًا إِلَّا لِيُعْمَلَ بِمَا فِيهِ، وَأَمَرَ «١» بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، فصحتا جميعا.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ. وَ«الْكِتابَ» الْقُرْآنُ (بِالْحَقِّ) أَيْ] هُوَ [«٢» بِالْأَمْرِ الْحَقِّ (مُصَدِّقًا) حَالٌ (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) أي من


(١). من ع. وفي ك وج: أمر.
(٢). من ج.

جنس الكتب. (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أي عاليا عليها وَمُرْتَفِعًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّفْضِيلِ أَيْ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي«الْفَاتِحَةِ» «١» وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن الحصار في كتاب شرح السنة له. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِنَا فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ] الْحُسْنَى [«٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: المهيمن معناه المشاهد. وَقِيلَ: الْحَافِظُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُصَدِّقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» أَيْ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْقُرْآنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ أَيْضًا: الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ أُبْدِلَ مِنَ الْهَمْزَةِ هَاءٌ، كَمَا قِيلَ فِي أَرَقْتُ الْمَاءَ هَرَقْتُ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَأَبُو عَلِيٍّ. وَقَدْ صُرِفَ فقيل: هيمن يهين هَيْمَنَةً، وَهُوَ مُهَيْمِنٌ بِمَعْنَى كَانَ أَمِينًا. الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مَنْ آمَنَ غَيْرَهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَأَصْلُهُ أَأْمَنَ فَهُوَ مُؤَأْمَنٌ بِهَمْزَتَيْنِ، قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ يَاءً كَرَاهَةً لِاجْتِمَاعِهِمَا فَصَارَ مُؤَيْمَنٌ، ثُمَّ صُيِّرَتِ الْأُولَى هَاءً كَمَا قَالُوا: هَرَاقَ الْمَاءَ وَأَرَاقَهُ، يُقَالُ مِنْهُ: هَيْمَنَ عَلَى الشَّيْءِ يُهَيْمِنُ إِذَا كَانَ لَهُ حَافِظًا، فَهُوَ مُهَيْمِنٌ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:«وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» بِفَتْحِ الْمِيمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مُحَمَّدٌ ﷺ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) يُوجِبُ الْحُكْمَ، فَقِيلَ: هَذَا نَسْخٌ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْلِهِ:«فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا وُجُوبًا، وَالْمَعْنَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إِنْ شِئْتَ، إِذْ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَفِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرَدُّدٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ فَاحْكُمْ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَهَذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ «٣»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يَعْنِي لَا تَعْمَلْ بِأَهْوَائِهِمْ وَمُرَادِهِمْ عَلَى مَا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ، يَعْنِي لَا تَتْرُكِ الْحُكْمَ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ بيان الحق وبيان


(١). راجع ج ١ ص ١٠٩.
(٢). من ع.
(٣). كذا في الأصول ولم يذكر المصنف الثانية ولعلها قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا) الآية.

الْأَحْكَامِ. وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، وَلَا يُجْمَعُ أَهْوِيَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «١». فَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَتَّبِعَهُمْ فِيمَا يُرِيدُونَهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: تُقَوَّمُ الْخَمْرُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا لَهُمْ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى مُتْلِفِهَا، لِأَنَّ إِيجَابَ ضَمَانِهَا عَلَى مُتْلِفِهَا حُكْمٌ بِمُوجَبِ أَهْوَاءِ الْيَهُودِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَمَعْنَى (عَمَّا جاءَكَ) عَلَى مَا جَاءَكَ. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِشَرَائِعِ الْأَوَّلِينَ. وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى النَّجَاةِ. وَالشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إِلَى الْمَاءِ. وَالشَّرِيعَةُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ، وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَعُ شَرْعًا أَيْ سَنَّ. وَالشَّارِعُ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ. وَالشِّرْعَةُ أَيْضًا الوتر، والجمع شرع وشرع وَشِرَاعٌ جَمْعُ الْجَمْعِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ النَّهْجُ وَالْمَنْهَجُ، أَيِ الْبَيِّنُ، قَالَ الرَّاجِزُ:
مَنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ «٢» وَطَرِيقٌ نَهْجُ
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: الشَّرِيعَةُ ابتداء الطريق، والمنهاج الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا«شِرْعَةً وَمِنْهاجًا» سُنَّةً وَسَبِيلًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّوْرَاةَ لِأَهْلِهَا، وَالْإِنْجِيلَ لِأَهْلِهِ، وَالْقُرْآنَ لِأَهْلِهِ، وَهَذَا فِي الشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ، وَالْأَصْلُ التَّوْحِيدُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ دِينُ مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَقَدْ نُسِخَ بِهِ كُلُّ مَا سِوَاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أَيْ لَجَعَلَ شَرِيعَتَكُمْ وَاحِدَةً فَكُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاخْتِلَافِ إِيمَانَ قَوْمٍ وَكُفْرَ قَوْمٍ. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ لَامُ كَيْ، أَيْ وَلَكِنْ جَعَلَ شَرَائِعَكُمْ مُخْتَلِفَةً لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أَيْ سَارِعُوا إِلَى الطَّاعَاتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، وَذَلِكَ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا إِلَّا فِي الصلاة في أول


(١). راجع ج ٢ ص ٢٤.
(٢). (ما رواه) ممدود مفتوح الراء أي عذب؟؟؟؟

الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهَا، وَعُمُومُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ إِلْكِيَا «١». وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا فِي«الْبَقَرَةِ» «٢». (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ بِمَا اخْتَلَفْتُمْ فيه، وتزول الشكوك.

[سورة المائدة (٥): آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ، فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهَا مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ النَّحَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» إِنْ شِئْتَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ لَهُ، فَآخِرُ الْكَلَامِ حُذِفَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَحُكْمُ التَّخْيِيرِ كَحُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُمَا شَرِيكَانَ وَلَيْسَ الْآخَرُ بِمُنْقَطِعٍ مِمَّا قَبْلَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ:«وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» وَمِنْ قَوْلِهِ:«فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» فَمَعْنَى«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» أَيِ احْكُمْ بِذَلِكَ إِنْ حَكَمْتَ وَاخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَهُوَ كُلُّهُ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِالْمَنْسُوخِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، فَالتَّخْيِيرُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ مُحْكَمٌ غَيْرُ منسوخ، قاله مكي رحمه اله.«وَأَنِ احْكُمْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أنزله


(١). في ع: الطبري. وهو الكيا الطبري.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٨٠.

إليك في كتابه. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) «أَنِ» بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي«وَاحْذَرْهُمْ» وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. أَوْ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْتِنُوكَ. وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الْأَحْبَارِ مِنْهُمُ ابْنُ صُورِيَّا وكعب بن أسد وابن صلوبا وشأس ابن عَدِيٍّ وَقَالُوا: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَلَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّا أَحْبَارُ الْيَهُودِ، وَإِنِ اتَّبَعْنَاكَ لَمْ يُخَالِفْنَا أَحَدٌ مِنَ اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فتحاكمهم إِلَيْكَ، فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نُؤْمِنَ بِكَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا«يَفْتِنُوكَ» مَعْنَاهُ يَصُدُّوكَ وَيَرُدُّوكَ، وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ بِمَعْنَى الشِّرْكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:«وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «١»» وَقَوْلُهُ:«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «٢»». وَتَكُونُ والفتنة بِمَعْنَى الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ:«لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا «٣»». ولا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: ٨٥] «٤». وَتَكُونُ الْفِتْنَةُ الصَّدَّ عَنِ السَّبِيلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَكْرِيرُ«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ هِيَ أَحْوَالٌ وَأَحْكَامٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، لِأَنَّهُ قَالَ:«أَنْ يَفْتِنُوكَ» وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ نِسْيَانٍ لَا عَنْ تَعَمُّدٍ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي«الْأَنْعَامِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَعْنَى (عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. وَالْبَعْضُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ «٥»:
أَوْ يَعْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا

وَيُرْوَى«أَوْ يَرْتَبِطْ». أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:«وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «٦» [الزخرف: ٦٣]. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ«بَعْضِ» عَلَى حَالِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوِ الْحُكْمُ الَّذِي كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنِ الْكُلِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


(١). راجع ٣ ص ٤٠.
(٢). راجع ج ٧ ص ٤٠٤ وص ٣٥١ ج ٢.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٥٦.
(٤). راجع ج ٨ ص ٣٧٠. [.....]
(٥). هو لبيد، وصدره: (تراك أمكنة إذا لم أرضها). وفي اللسان: (أو يتعلق) ابن سيده: (وليس هذا عندي على ما ذهب إليه أهل اللغة من أن البعض في معنى الكل، هذا نقض، ولا دليل في هذا البيت لأنه إنما عنى ببعض النفوس نفسه.
(٦). راجع ج ١٦ ص ١٠٧.) (

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ فَإِنْ أَبَوْا حُكْمَكَ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أَيْ يُعَذِّبُهُمْ بِالْجَلَاءِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَإِنَّمَا قَالَ:«بِبَعْضِ» لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ بِالْبَعْضِ كَانَتْ كَافِيَةً فِي التَّدْمِيرِ عَلَيْهِمْ. (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) يَعْنِي اليهود.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) «أَفَحُكْمَ» نُصِبَ بِ«- يَبْغُونَ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَجْعَلُونَ حُكْمَ الشَّرِيفِ خِلَافَ حُكْمِ الْوَضِيعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَكَانَتْ الْيَهُودُ تُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُقِيمُونَهَا عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ، فَضَارَعُوا الْجَاهِلِيَّةَ فِي هَذَا الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُلِ يُفَضِّلُ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ«أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» فَكَانَ طَاوُسٌ يَقُولُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذْ وَفُسِخَ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِثْلُهُ، وَكَرِهَهُ، الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ نَفَذَ وَلَمْ يُرَدَّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيقِ فِي نَحْلِهِ عَائِشَةَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَبِقَوْلِهِ عليه السلام: (فَارْجِعْهُ) «١» وَقَوْلُهُ: (فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي). وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عليه السلام لِبَشِيرٍ: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا) قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: (أَكُلُّهُمْ وهبت له مثل هذا) فقال لا،


(١). ذكر النسائي من حديث النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد جاء بابنه النعمان فقال: يا رسول الله إنى نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أكل بنيك نحلت) قال: لا. قال:«فارجعه» قلت: هذا في جميع الأصول وهو كما يرى دليل للأولين كما سيأتي.

قَالَ: (فَلَا تُشْهِدُنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ) فِي رِوَايَةٍ (وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ). قَالُوا: وَمَا كَانَ جَوْرًا وغير حق فهو باطل لا يجوز. وقول: (أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي) لَيْسَ إِذْنًا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ عليه السلام قَدْ سَمَّاهُ جَوْرًا وَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ. وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ نَحَلَ أَوْلَادَهُ نُحْلًا يُعَادِلُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ الْكُلِّيُّ وَالْوَاقِعَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْمُخَالِفَةُ لِذَلِكَ الْأَصْلِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحِيحَ بِنَاءُ الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوقُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَرَّمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ). قَالَ النُّعْمَانُ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَالصَّدَقَةُ لَا يَعْتَصِرُهَا «١» الْأَبُ بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْلُهُ: (فَارْجِعْهُ) مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى فَارْدُدْهُ، وَالرَّدُّ ظَاهِرٌ فِي الْفَسْخِ، كَمَا قَالَ عليه السلام (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ مَرْدُودٌ مَفْسُوخٌ. وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَتَرْجِيحٌ جَلِيٌّ فِي الْمَنْعِ. الثَّالِثَةُ- قَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ«أَفَحُكْمُ» بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى يَبْغُونَهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ كَمَا حَذَفَهَا أَبُو النَّجْمِ فِي قَوْلِهِ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
فِيمَنْ رَوَى«كُلُّهُ» بِالرَّفْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ حُكْمٌ يَبْغُونَهُ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ وَالْأَعْمَشُ«أَفَحَكَمَ» بِنَصْبِ الْحَاءِ وَالْكَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ الْحَكَمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحُكْمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَحُكْمُ حَكَمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وَقَدْ يَكُونُ الْحَكَمُ وَالْحَاكِمُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدًا وَكَأَنَّهُمْ يريدون


(١). يعتصر: يرتجع.

الْكَاهِنَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الشُّيُوعُ وَالْجِنْسُ، إِذْ لَا يُرَادُ بِهِ حَاكِمٌ بِعَيْنِهِ، وَجَازَ وُقُوعُ الْمُضَافِ جِنْسًا كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِمْ: مَنَعَتْ مِصْرُ «١» إِرْدَبَّهَا، وَشِبْهِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ«تَبْغُونَ» بِالتَّاءِ، الْبَاقُونَ بالياء. وقوله تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى: لا أحد أحسن، فهذا ابتداء وخبر. و «حُكْمًا» نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ. [لِقَوْلِهِ] «٢» «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» أَيْ عند قوم يوقنون.

[سورة المائدة (٥): آية ٥١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-«الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» مَفْعُولَانِ لِ [تَتَّخِذُوا] «٣»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الْمُوَالَاةِ شَرْعًا، وَقَدْ مَضَى فِي«آلِ عِمْرَانَ» «٤» بَيَانُ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، الْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِظَاهِرِهِمْ، وَكَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ يَوْمِ أُحُدٍ حِينَ خَافَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى هَمَّ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنْ يُوَالُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فَتَبَرَّأَ عُبَادَةُ] رضي الله عنه ٥» مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ، وَتَمَسَّكَ بِهَا ابْنُ أُبَيٍّ وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ. (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الشَّرْعِ الْمُوَالَاةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.


(١). الإردب مكيال معروف لأهل مصر، وفي الحديث«؟؟؟؟ العراق درهمها وقفيزها ومنعت مصر إردبها وعدتم من حيث بدأتم». (اللسان).
(٢). من ك وع.
(٣). من ك وع.
(٤). راجع ج ٤ ص ١٨٨.
(٥). من ع.

الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أَيْ يَعْضُدْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حُكْمَهُ كَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ يَمْنَعُ إِثْبَاتَ الْمِيرَاثِ لِلْمُسْلِمِ مِنَ الْمُرْتَدِّ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّاهُمِ ابْنُ أُبَيٍّ ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَطْعِ الْمُوَالَاةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:«وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» «١»] هود: ١١٣] وَقَالَ تَعَالَى فِي«آلِ عِمْرَانَ»:«لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» «٢»] آل عمران: ٢٨] وَقَالَ تَعَالَى:«لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» «٣»] آل عمران: ١١٨] وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى«بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» أي في النصرة«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ كَمَا خَالَفُوا، وَوَجَبَتْ مُعَادَاتُهُ كَمَا وَجَبَتْ مُعَادَاتُهُمْ، وَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ كَمَا وَجَبَتْ لَهُمْ، فَصَارَ منهم أي من أصحابهم.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شَكٌّ وَنِفَاقٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «٤» وَالْمُرَادُ ابْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أَيْ فِي مُوَالَاتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ. (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أَيْ يَدُورُ الدَّهْرُ عَلَيْنَا إِمَّا بِقَحْطٍ فلا يميروننا وَلَا يُفْضِلُوا عَلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ يَظْفَرَ الْيَهُودُ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَا يَدُومُ الْأَمْرُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، كَأَنَّهُ مِنْ دَارَتْ تَدُورُ، أَيْ نَخْشَى أَنْ يَدُورَ الْأَمْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عز وجلفَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَرُدُّ عَنْكَ الْقَدَرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا


(١). راجع ج ٩ ص ١٠٧.
(٢). راجع ج ٤ ص ٥٧ و١٧٨.
(٣). راجع ج ٤ ص ٥٧ و١٧٨.
(٤). راجع ج ١ ص ١٩٧.

يَعْنِي دُوَلَ الدَّهْرِ الدَّائِرَةَ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ، فَقِيلَ: الْفَتْحُ الْفَصْلُ وَالْحُكْمُ، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَسُبِيَتْ ذَرَارِيُّهُمْ وَأُجْلِيَ بَنُو النَّضِيرِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِالْفَتْحِ فَتْحَ مَكَّةَ. (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْجِزْيَةُ. الْحَسَنُ: إِظْهَارُ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْإِخْبَارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَالْأَمْرِ بِقَتْلِهِمْ. وَقِيلَ: الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ (فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أَيْ فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى تَوَلِّيهِمِ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا عَايَنُوا عِنْدَ الْمَوْتِ فَبُشِّرُوا بِالْعَذَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا). وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ:«يَقُولُ» بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:«وَيَقُولَ» بِالْوَاوِ وَالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى«أَنْ يَأْتِيَ» عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، التَّقْدِيرُ: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَأَنْ يَقُولَ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ على المعنى، لان معنى«فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» وعسى ن يَأْتِيَ اللَّهُ بِالْفَتْحِ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَيَقُومَ عَمْرٌو، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى إِذَا قُلْتَ: وَعَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ عَمْرٌو، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتُ: عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ وَيَأْتِيَ عَمْرٌو كَانَ جَيِّدًا. فَإِذَا قَدَّرْتَ التَّقْدِيمَ فِي أَنْ يَأْتِيَ إِلَى جَنْبِ عَسَى حَسُنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَ وَعَسَى أَنْ يَقُومَ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا «١»
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ- وَهُوَ أَنْ تَعْطِفَهُ عَلَى الْفَتْحِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقر عيني «٢»

وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ«أَنْ يَأْتِيَ» بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا» بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْأَوَّلِ. (أَهؤُلاءِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ. (أَقْسَمُوا بِاللَّهِ) حَلَفُوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْأَيْمَانِ. (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)


(١). يروى هكذا في الأصول. وفي اللسان وشرح الشواهد لسيبويه: (يا ليت زوجك قد غدا). [.....]
(٢). تمام البيت: (أحب إلى من لبس الشفوف).

أَيْ قَالُوا إِنَّهُمْ، وَيَجُوزُ«أَنَّهُمْ»] نُصِبَ [«١» بِ«- أَقْسَمُوا» أَيْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لِلْيَهُودِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أَنَّهُمْ يُعِينُونَكُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ فَقَدْ هَتَكَ «٢» اللَّهُ الْيَوْمَ سِتْرَهُمْ. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بَطَلَتْ بِنِفَاقِهِمْ. (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أَيْ خَاسِرِينَ الثَّوَابَ. وَقِيلَ: خَسِرُوا فِي مُوَالَاةِ الْيَهُودِ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ بَعْدَ قتل اليهود وأجلائهم.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» شَرْطٌ وَجَوَابُهُ«فَسَوْفَ». وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ«مَنْ يَرْتَدِدْ» بِدَالَيْنِ. الْبَاقُونَ«مَنْ يَرْتَدَّ». وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ ﷺ: إِذْ أَخْبَرَ عَنِ ارْتِدَادِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ وَكَانَ ذَلِكَ غَيْبًا، فَكَانَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَأَهْلُ الرِّدَّةِ كَانُوا بَعْدَ مَوْتِهِ ﷺ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَمَسْجِدِ جُؤَاثَى «٣»، وَكَانُوا فِي رِدَّتِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ نَبَذَ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا وَخَرَجَ عَنْهَا، وَقِسْمٌ نَبَذَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَاعْتَرَفَ بِوُجُوبِ غَيْرِهَا، قَالُوا نَصُومُ وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، فَقَاتَلَ الصِّدِّيقُ جَمِيعَهُمْ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ بِالْجُيُوشِ فَقَاتَلَهُمْ «٤» وَسَبَاهُمْ، على ما هو مشهور من أخبارهم.


(١). من ع وك.
(٢). في ج وك وع: انهتك سترهم.
(٣). جؤاثا مهموز: اسم حصن بالبحرين. وفي الحديث" أول جمعة جمعت بعد المدينة بجواثا. (النهاية).
(٤). في ج وك وز وع: فقتلهم.

الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) «فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ. وَقِيلَ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ «١» الْوَقْتِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِقَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ، وَمِنْ أَشْجَعَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ، فَفِي الْخَبَرِ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ سَفَائِنُ الْأَشْعَرِيِّينَ، وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ، فَكَانَ لَهُمْ بَلَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَتْ عَامَّةُ فُتُوحِ الْعِرَاقِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى يَدَيْ قَبَائِلَ الْيَمَنِ، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي نُزُولِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي» الْمُسْتَدْرَكِ«بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ: (هُمْ قَوْمُ هَذَا) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَأَتْبَاعُ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أُضِيفَ فِيهِ قَوْمٌ إِلَى نَبِيٍّ أُرِيدَ بِهِ الْأَتْبَاعُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)» أَذِلَّةٍ«نَعْتٌ لِقَوْمٍ، وَكَذَلِكَ» (أَعِزَّةٍ) «أَيْ يَرْأَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَيَرْحَمُونَهُمْ وَيَلِينُونَ لَهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ أَيْ تنقاد سهلة، وليس من الذل في شي. وَيَغْلُظُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُعَادُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالسَّيِّدِ لِلْعَبْدِ، وَهُمْ فِي الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
««٢»] الفتح: ٢٩]. وَيَجُوزُ» أَذِلَّةً" بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فِي هَذَا الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ «٣». الرَّابِعَةُ- قوله تعالى: (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْضًا. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ يَخَافُونَ الدَّوَائِرَ، فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى تَثْبِيتِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم، لِأَنَّهُمْ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ عز وجل فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كانت فيه هذه الصفات فهو ولي


(١). في ك وع: وقت نزول الآية، وهم أحياء. إلخ.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٩٢.
(٣). راجع ج ٤ ص ٥٩ وما بعدها.

لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ابتداء وخبر. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أَيْ وَاسِعُ الْفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خلقه.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٥]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ عبد الله ابن سَلَامٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ قَوْمَنَا مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَلَّا يُجَالِسُونَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ مُجَالَسَةَ أَصْحَابِكَ لِبُعْدِ الْمَنَازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.«وَالَّذِينَ» عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ «١» بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم عَنْ مَعْنَى«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» هَلْ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّ«الَّذِينَ» لِجَمَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ- وَذَلِكَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فِي مَسْجِدِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ شَيْئًا، وَكَانَ عَلِيٌّ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي يَمِينِهِ خَاتَمٌ، فَأَشَارَ إِلَى السَّائِلِ] بِيَدِهِ [«٢» حَتَّى أَخَذَهُ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ التَّصَدُّقَ بِالْخَاتَمِ فِي الرُّكُوعِ عَمَلٌ جَاءَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ تَبْطُلْ بِهِ الصَّلَاةُ. وَقَوْلُهُ:«وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ تُسَمَّى زَكَاةً.، فَإِنَّ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ فِي الرُّكُوعِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» «٣»] الروم: ٣٩] وقد


(١). من ع. كذا في التهذيب.
(٢). من ز، وفي ج وا ول: به.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٣٦.

انْتَظَمَ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ، فَصَارَ اسْمُ الزَّكَاةِ شَامِلًا لِلْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، كَاسْمِ الصَّدَقَةِ وَكَاسْمِ الصَّلَاةِ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ. قُلْتُ: فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا بِالزَّكَاةِ التَّصَدُّقُ بِالْخَاتَمِ، وَحَمْلُ لَفْظِ الزَّكَاةِ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالْخَاتَمِ فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إِلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا وَهُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ«الْبَقَرَةِ» «١». وَأَيْضًا فَإِنَّ قَبْلَهُ«يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» وَمَعْنَى يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ يَأْتُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا، وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَرْضِ. ثُمَّ قَالَ:«وَهُمْ راكِعُونَ» أَيِ النَّفْلُ. وَقِيلَ: أَفْرَدَ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانُوا بَيْنَ مُتَمِّمٍ لِلصَّلَاةِ وَبَيْنَ رَاكِعٍ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» تَضَمَّنَتْ جَوَازَ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، وَأَقَلُّ مَا فِي بَابِ الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ [عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ] «٢» رضي الله عنه أَعْطَى السَّائِلَ شَيْئًا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي الْفَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْحُ مُتَوَجِّهًا عَلَى اجْتِمَاعِ حَالَتَيْنِ، كَأَنَّهُ وَصْفُ مَنْ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَعُبِّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ، وَعَنِ الِاعْتِقَادِ لِلْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ، كَمَا تَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ، وَلَا تُرِيدُ أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُصَلُّونَ وَلَا يُوَجَّهُ الْمَدْحُ حَالَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ مَنْ يفعل هذا الفعل ويعتقده.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٦]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَسُولِهِ، وَوَالَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ. وَقِيلَ: أي ومن يتولى الْقِيَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) قَالَ الْحَسَنُ: حِزْبُ اللَّهِ جُنْدُ اللَّهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنْصَارُ اللَّهِ قال الشاعر:
وكيف أضوى «٣» وبلال حزبي


(١). راجع ج ١ ص ١٧٩.
(٢). من ج وك وع.
(٣). أضوى: أي استضعف وأضام، من الشيء الضاوي. (الطبري). وفي ع: وكيف أخزى. [.....]

أَيْ نَاصِرِي. وَالْمُؤْمِنُونَ حِزْبُ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ غَلَبُوا الْيَهُودَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ. وَالْحِزْبُ الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُهُ مِنَ النَّائِبَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَزَبَهُ كَذَا أَيْ نَابَهُ، فَكَأَنَّ الْمُحْتَزِبِينَ مُجْتَمِعُونَ كَاجْتِمَاعِ أَهْلِ النَّائِبَةِ عَلَيْهَا. وَحِزْبُ الرَّجُلِ أَصْحَابُهُ. وَالْحِزْبُ الْوِرْدُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (فَمَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ). وَقَدْ حَزَّبْتُ الْقُرْآنَ. وَالْحِزْبُ الطَّائِفَةُ. وَتَحَزَّبُوا اجْتَمَعُوا. وَالْأَحْزَابُ: الطَّوَائِفُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى مُحَارَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ «١». وَحَزَبَهُ أَمْرٌ أَيْ أصابه.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ سُجُودِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُزُؤِ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢».«مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ» قَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ بِمَعْنَى وَمِنَ الْكُفَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ رحمه الله«وَمِنَ الْكُفَّارِ»، و «من» هَاهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّصْبُ أَوْضَحُ «٣» وَأَبْيَنُ. قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:«مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّخَذُوا دِينَ الْمُؤْمِنِينَ هُزُوًا وَلَعِبًا. وَمَنْ نَصَبَ عَطَفَ عَلَى«الَّذِينَ» الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ:«لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ» أَيْ لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ أولياء، فالموصوف بالهزو وَاللَّعِبِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْيَهُودُ لَا غَيْرَ. وَالْمَنْهِيُّ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكِلَاهُمَا في القراءة بالخفض موصوف بالهزو وَاللَّعِبِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَوْلَا اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ عَلَى النَّصْبِ لَاخْتَرْتُ الْخَفْضَ، لِقُوَّتِهِ فِي الْإِعْرَابِ وَفِي المعنى والتفسير والقرب من المعطوف


(١). في هـ ع: الاعداء.
(٢). راجع ج ١ ص ٤٤٦.
(٣). في ج: أفصح.

عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أولياء، بدليل قولهم:«إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» «١»] البقرة: ١٤] وَالْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، لَكِنْ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ لَفْظُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلِهَذَا فَصَلَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْكَافِرِينَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:«لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ»] المائدة: ٥١]، و «لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» «٢»] آل عمران: ١١٨] تَضَمَّنَتِ الْمَنْعَ مِنْ التَّأْيِيدِ وَالِانْتِصَارِ بِالْمُشْرِكِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَرَوَى جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: نَسِيرُ مَعَكَ، فَقَالَ] عليه الصلاة والسلام ٣»: (إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ عَلَى أَمْرِنَا بِالْمُشْرِكِينَ) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَأَبُو حَنِيفَةَ جَوَّزَ الِانْتِصَارَ بِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ مَعَ مَا جَاءَ من السنة ذلك. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٥٨]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)
فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَتِ الْيَهُودُ: قَدْ قَامُوا لَا قَامُوا، وَكَانُوا يَضْحَكُونَ إِذَا رَكَعَ الْمُسْلِمُونَ وَسَجَدُوا وَقَالُوا فِي حَقِّ الْأَذَانِ: لَقَدِ ابْتَدَعْتَ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ مِثْلُ صِيَاحِ الْعِيرِ؟ فَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ صَوْتٍ، وَمَا أَسْمَجَهُ مِنْ أَمْرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ تَضَاحَكُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَتَغَامَزُوا عَلَى طَرِيقِ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ، تَجْهِيلًا لِأَهْلِهَا، وَتَنْفِيرًا لِلنَّاسِ عَنْهَا وَعَنِ الدَّاعِي إِلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمُنَادِيَ إِلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ اللَّاعِبِ الْهَازِئِ بِفِعْلِهَا، جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَتِهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا» «٤»] فصلت: ٣٣] والنداء الدعاء برفع الصوت، وفد يُضَمُّ مِثْلَ الدُّعَاءِ وَالرُّغَاءِ. وَنَادَاهُ مُنَادَاةً وَنِدَاءً أي صاح به. وتنادوا أي نادى


(١). راجع ج ١ ص ٢٠٦.
(٢). راجع ج ٤ ص ١٧٨.
(٣). من ج وع.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٣٥٩.

بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَتَنَادَوْا أَيْ جَلَسُوا فِي النَّادِي، وَنَادَاهُ جَالَسَهُ فِي النَّادِي. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَذَانِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَا إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنِ الْأَذَانُ بمكة فبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون«الصلاة جامعة» فلم هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ أُمِرَ بِالْأَذَانِ، وَبَقِيَ «١» «الصَّلَاةَ جَامِعَةً» لِلْأَمْرِ يَعْرِضُ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَهَمَّهُ أَمْرُ الْأَذَانِ حَتَّى أُرِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ سَمِعَ الْأَذَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي السَّمَاءِ، وَأَمَّا رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيِّ الْأَنْصَارِيِّ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فَمَشْهُورَةٌ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ لَيْلًا طَرَقَهُ بِهِ، وَأَنَّ عُمَرَ] رضي الله عنه ٢» قَالَ: إِذَا أَصْبَحْتُ أَخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ أَذَانَ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَزَادَ بِلَالٌ فِي الصُّبْحِ«الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَيْسَتْ فِيمَا أُرِيَ الْأَنْصَارِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ رحمه الله أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه أُرِيَ الْأَذَانَ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بلالا بالأذان قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ الْأَنْصَارِيُّ، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ«المدبج» لَهُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَمَّا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّ الْأَذَانَ عندهم إنما بجب فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْمِصْرِ وَمَا جرى مجرى مصر مِنَ الْقُرَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِنْ تَرَكَ أَهْلُ مِصْرَ الْأَذَانَ عَامِدِينَ أَعَادُوا الصَّلَاةَ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي وُجُوبِ الْأَذَانِ جُمْلَةً عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ هُوَ الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ، وكان رسول الله صلى الله


(١). في ز: بقيت.
(٢). من ع.

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ لَهُمْ: (إذا سَمِعْتُمُ الْأَذَانَ فَأَمْسِكُوا وَكُفُّوا وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا الْأَذَانَ فَأَغِيرُوا- أَوْ قَالَ- فَشُنُّوا الْغَارَةَ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلَّا أَغَارَ الْحَدِيثَ وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ: الْأَذَانُ فَرْضٌ، ولم يقولوا على الكفاية. قال الطَّبَرِيُّ: الْأَذَانُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَذُكِرَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ مُسَافِرٌ عَمْدًا فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَكَرِهَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِرُ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، قَالُوا: وَأَمَّا] سَاكِنُ [«١» الْمِصْرِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، فَإِنِ اسْتَجْزَأَ «٢» بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تُجْزِئُهُ الْإِقَامَةُ عَنِ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ، وَإِنْ شِئْتَ أَذَّنْتَ وَأَقَمْتَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُؤَذِّنُ الْمُسَافِرُ عَلَى حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ. وَقَالَ دَاوُدُ: الْأَذَانُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسَافِرٍ فِي خَاصَّتِهِ وَالْإِقَامَةُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلِصَاحِبِهِ:» إِذَا كُنْتُمَا فِي سَفَرٍ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لِمَالِكٍ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلِابْنِ عَمٍّ لَهُ: (إِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِالْأَذَانِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ «٣». قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا تَرَكَ الْأَذَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِتَرْكِهِ «٤» الْإِقَامَةَ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْأَذَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ] وَلَيْسَ [«٥» فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ بِسُقُوطِ الْأَذَانِ لِلْوَاحِدِ عِنْدَ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ كَالشَّافِعِيِّ سَوَاءً. الرَّابِعَةُ- وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مَثْنَى وَالْإِقَامَةَ مَرَّةً مَرَّةً، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُرَبِّعُ التَّكْبِيرَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ مِنْ روايات الثقات في حديث أبي محذورة «٦»،


(١). من ع.
(٢). في ع: اجتزئ.
(٣). في ج، ك، ع، ز، على الفرض.
(٤). من ج، ع.
(٥). من ك. [.....]
(٦). هو: أبو محذورة سمرة بن معير: مؤذن النبي ﷺ، وكان أحسن الناس أذانا وأنداهم صوتا.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: وَهِيَ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَزَلْ فِي آلِ أَبِي مَحْذُورَةَ كَذَلِكَ إِلَى وَقْتِهِ وَعَصْرِهِ. قَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَذَلِكَ هُوَ الْآنَ عِنْدَهُمْ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مَوْجُودٌ أَيْضًا فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَفِي أَذَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْعَمَلُ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي آلِ سَعْدٍ الْقُرَظِيِّ إِلَى زَمَانِهِمْ. وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ، وَذَلِكَ رُجُوعُ الْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ:«أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ» رَجَّعَ فَمَدَّ مِنْ صَوْتِهِ جَهْدَهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْإِقَامَةِ إِلَّا قَوْلَهُ:«قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» فَإِنَّ مَالِكًا يَقُولُهَا مَرَّةً، وَالشَّافِعِيَّ مَرَّتَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ جَمِيعًا مَثْنَى مَثْنَى، وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ وَأَوَّلِ الْإِقَامَةِ«اللَّهُ أَكْبَرُ» أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَا تَرْجِيعَ عِنْدِهِمْ فِي الْأَذَانِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّ عَبْدَ الله ابن زَيْدٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَانَ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ عَلَى جِذْمِ «١» حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى وَأَقَامَ مَثْنَى وَقَعَدَ بَيْنَهُمَا قَعْدَةً، فَسَمِعَ بِلَالُ بِذَلِكَ فَقَامَ وَأَذَّنَ مَثْنَى وَقَعَدَ قَعْدَةً وَأَقَامَ مَثْنَى، رَوَاهُ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بِالْعِرَاقِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ يَشْفَعُونَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَهَذَا أَذَانُ الْكُوفِيِّينَ، مُتَوَارَثٌ عِنْدَهُمْ بِهِ الْعَمَلُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ أَيْضًا، كَمَا يَتَوَارَثُ الْحِجَازِيُّونَ، فَأَذَانُهُمْ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ مِثْلُ الْمَكِّيِّينَ. ثُمَّ الشَّهَادَةُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّةً، ثُمَّ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّةً، ثُمَّ يُرَجِّعُ الْمُؤَذِّنُ فَيَمُدُّ صَوْتَهُ وَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- الْأَذَانُ كُلُّهُ- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى آخِرِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى إِجَازَةِ الْقَوْلِ بِكُلِّ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَحَمَلُوهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ، قَالُوا: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رسول الله


(١). الجذم (بكسر الجيم وسكون الذال): الأصل، أراد بقية حائط أو قطعة من حائط. وفي ع: حرم.

ﷺ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَنْ شَاءَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَرَّتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ، وَمَنْ شَاءَ قَالَ ذَلِكَ أَرْبَعًا، وَمَنْ شَاءَ رَجَّعَ فِي أَذَانِهِ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُرَجِّعْ، وَمَنْ شَاءَ ثَنَّى الْإِقَامَةَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْرَدَهَا «١»، إِلَّا قَوْلَهُ:«قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» فَإِنَّ ذَلِكَ مَرَّتَانِ مَرَّتَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ!!. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي التَّثْوِيبِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ- وَهُوَ قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ- فَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ: يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ- بَعْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ- الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ، وَقَالَ بِمِصْرَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَقُولُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَذَانِ إِنْ شَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَذَانِ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ). وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَجْرِ«الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي«الْمُوَطَّأِ» أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَمَرَهُ] عُمَرُ [«٢» أَنْ يَجْعَلَهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ فَلَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ جِهَةٍ يُحْتَجُّ بِهَا وتعلم صحتها، وإنما فيه حديث هشام ابن عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ«إِسْمَاعِيلُ» فَاعْرِفْهُ، ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ«إِسْمَاعِيلُ» قَالَ: جَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذِنُ عُمَرَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ«الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» فَأُعْجِبَ بِهِ عُمَرُ وَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ:«أَقِرَّهَا فِي أَذَانِكَ». قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ لَهُ: نِدَاءُ الصُّبْحِ مَوْضِعُ الْقَوْلِ بِهَا لَا هَاهُنَا، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ نِدَاءٌ آخَرُ عِنْدَ بَابِ الْأَمِيرِ كَمَا أَحْدَثَهُ الْأُمَرَاءُ بَعْدُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَإِنَّمَا حَمَلَنِي عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنَ الْخَبَرِ خِلَافُهُ، لِأَنَّ التَّثْوِيبَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَشْهَرُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْعَامَّةِ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ جَهِلَ] شَيْئًا [«٣» سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ


(١). كذا في الأصول.
(٢). الزيادة عن موطأ مالك.
(٣). من ع.

وَأَمَرَ بِهِ مُؤَذِّنِيهِ، بِالْمَدِينَةِ بِلَالًا، وَبِمَكَّةَ أَبَا مَحْذُورَةَ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ فِي تَأْذِينِ بِلَالٍ، وَأَذَانُ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي صَلَاةِ «١» الصُّبْحِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. رَوَى وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مُؤَذِّنِهِ إِذَا بَلَغْتَ«حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ» فَقُلْ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِلَالًا لَمْ يُؤَذِّنْ قَطُّ لِعُمَرَ، وَلَا سَمِعَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا مَرَّةً بِالشَّامِ إِذْ دَخَلَهَا. السَّادِسَةُ- وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُؤَذَّنَ لِلصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الْفَجْرَ، فَإِنَّهُ يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرِ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ). وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يؤدن لِصَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُهَا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبِهِ: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ أَذَّنَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْآخَرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُؤَذِّنِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ غَيْرُهُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَهُ إِذْ رَأَى النِّدَاءَ فِي النوم أن يلقيه على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله ابن زَيْدٍ فَأَقَامَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ أذن فهو يقيم، لحديث عبد الرحمن ابن زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ عن] زياد [«٢» بن الحرث الصُّدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الصُّبْحِ أَمَرَنِي فَأَذَّنْتُ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَجَاءَ بِلَالٌ لِيُقِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فهو يقيم). قال أبو عمر:


(١). كذا في ك وز وج وع. وفي ا، ل: أذان.
(٢). بالأصل، (عبد الله بن الحرث الصدائي) وهو خطأ والتصويب عن كتب المصطلح والترمذي في سند هذا الحديث.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ هُوَ الْإِفْرِيقِيُّ، وَأَكْثَرُهُمْ يُضَعِّفُونَهُ، وَلَيْسَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ إِسْنَادًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ الْإِفْرِيقِيِّ فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يُوَثِّقُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عن قصة عبد الله ابن زَيْدٍ مَعَ بِلَالٍ، وَالْآخَرِ، فَالْآخَرُ مِنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنِّي أَسْتَحِبُّ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا رَاتِبًا أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ، فَإِنْ أَقَامَهَا غَيْرُهُ فَالصَّلَاةُ مَاضِيَةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّامِنَةُ- وَحُكْمُ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَرَسَّلَ فِي أَذَانِهِ، وَلَا يُطَرِّبَ «١» بِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ، بَلْ وَقَدْ أَخْرَجَهُ كَثِيرٌ مِنَ الطَّغَامِ وَالْعَوَامِّ عَنْ حَدِّ الْإِطْرَابِ، فَيُرَجِّعُونَ فِيهِ التَّرْجِيعَاتِ، وَيُكْثِرُونَ فِيهِ التَّقْطِيعَاتِ حَتَّى لَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ، وَلَا بِمَا بِهِ يَصُولُ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنُ). وَيَسْتَقْبِلُ فِي أذانه القبلة عند جماعة من «٢» الْعُلَمَاءِ، وَيَلْوِي رَأْسَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي«حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ» عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَدُورُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَنَارَةٍ يُرِيدُ أَنْ يُسْمِعَ النَّاسُ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا. التَّاسِعَةُ- وَيُسْتَحَبُّ لِسَامِعِ الْأَذَانِ أَنْ يَحْكِيَهُ إِلَى آخِرِ التَّشَهُّدَيْنِ وَإِنْ أَتَمَّهُ جَازَ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «٣»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ أَحَدُكُمُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ أَشْهَدُ أَنْ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ (. وَفِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وقاص عن


(١). التطريب مد الصوت وتحسينه.
(٢). في ع وهـ: جماعة العلماء.
(٣). الظاهر حديث ابن عمر لأنه صح عنه:) إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" الحديث في مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وأحمد.

رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:» مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (. الْعَاشِرَةُ- وَأَمَّا فَضْلُ الْأَذَانِ وَالْمُؤَذِّنِ فَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَيْضًا آثَارٌ صِحَاحٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ) الْحَدِيثَ. وَحَسْبُكَ أَنَّهُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَمٌ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بِطُولِ الْعُنُقِ عَنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَسَادَاتِهِمْ، كَمَا قال قائلهم «١»:
طِوَالُ «٢» أَنْضِيَةِ الْأَعْنَاقِ وَاللِّمَمِ

وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (لَا يَسْمَعُ مَدَى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شي إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (من أَذَّنَ مُحْتَسِبًا سَبْعَ سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ) وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: (مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً (. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا الْإِسْنَادُ مُنْكَرٌ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ: (أَلَّا أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا) حَدِيثٌ ثَابِتٌ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْقَاسِمُ «٣» بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ الأوزاعي: ذلك مكروه،


(١). قيل: هو لليلى الأخيلية: ويروى للشمردل بن شريك اليربوعي، وهو عجز بيت وصدره: (يشبهون ملوكا في تجلتهم،- ويروى- يشبهون سيوفا في صرائمهم). والنضي ما بين الرأس والكاهل من العنق. واللمة (بالكسر): الشعر المجاوز شحمه الاذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمة. قال في (اللسان): والصحيح (والأمم) جمع أمة وهي القامة لان الكهول لا تمدح بطول اللمم إنما تمدح به النساء والأحداث.
(٢). رواية اللسان: وطول أنضية.
(٣). في ع وك: القاسم بن محمد.

وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الرِّزْقِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُرْزَقُ الْمُؤَذِّنُ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ سَهْمُ النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا قَالَ: خَرَجْتُ فِي نَفَرٍ فَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ وَنَحْنُ عَنْهُ مُتَنَكِّبُونَ «١» فَصَرَخْنَا نَحْكِيهُ نَهْزَأُ بِهِ، فَسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا قَوْمًا فَأَقْعَدُونَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ) فَأَشَارَ إِلَيَّ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَصَدَقُوا فَأَرْسَلَ كُلُّهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ لِي: (قُمْ فأذن) فقمت ولا شي أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنْ] أَمَرَ [«٢» رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَا مِمَّا يَأْمُرُنِي بِهِ، فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَلْقَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: (قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (، ثُمَّ قَالَ لِي:) ارْفَعْ فَمُدَّ صَوْتَكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (، ثُمَّ دَعَانِي حِينَ قَضَيْتُ التَّأْذِينَ فأعطاني صرة فيها شي من فضة، ثم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَةِ أَبِي مَحْذُورَةَ ثُمَّ أَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ عَلَى «٣» ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ عَلَى كَبِدِهِ حَتَّى بَلَغَتْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُرَّةُ أَبِي مَحْذُورَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ، قَالَ: (قد أمرتك). فذهب كل شي كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ كَرَاهِيَةٍ، وَعَادَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ فَأَذَّنْتُ مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، لفظ ابن ماجة.


(١). متنكبون: اسم فاعل من تنكب عنه أي عدل عنه، أي معرضون متجنبون. وفي ج: متنكرون. [.....]
(٢). من ج وك وز وع.
(٣). في ج وك وع: بين.

الثانية عشرة- قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) أَيْ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقَبَائِحِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ النَّصَارَى وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ:«أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» قَالَ: حُرِقَ الْكَاذِبُ، فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ فَتَعَلَّقَتْ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ، فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ«وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ» وَقَدْ كَانُوا يُمْهَلُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا، فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ، ذكره ابن العربي.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ- فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ عليهم السلام، فَقَالَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ إِلَى قَوْلِهِ:«وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»)] البقرة: ١٣٣]، فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى عليه السلام. جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِّهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا سَبَقَهَا مِنْ إِنْكَارِهِمِ الْأَذَانَ، فَهُوَ جَامِعٌ لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَلِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ، وَالْمُتَنَاقِضُ دِينُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ لَا دِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْكُلِّ. وَيَجُوزُ إدغام اللام في التاء لقربها منها. و «تَنْقِمُونَ» مَعْنَاهُ تَسْخَطُونَ، وَقِيلَ: تَكْرَهُونَ

وَقِيلَ: تُنْكِرُونَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، يُقَالُ: نَقَمَ مِنْ كَذَا يَنْقِمُ وَنَقِمَ يَنْقَمُ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غضبوا
وفي التنزيل«وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ» «١»] البروج: ٨] وَيُقَالُ: نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ فَأَنَا نَاقِمٌ إِذَا عَتَبْتُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: مَا نَقِمْتُ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: نَقِمْتُ بِالْكَسْرِ لُغَةً، وَنَقَمْتُ الْأَمْرَ أَيْضًا وَنَقِمْتُهُ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ أَيْ عَاقَبَهُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ النَّقِمَةُ، وَالْجَمْعُ نَقِمَاتٌ وَنَقِمَ مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَكَلِمٍ، وَإِنْ شِئْتَ سَكَّنْتَ الْقَافَ وَنَقَلْتَ حَرَكَتَهَا إِلَى النُّونِ فَقُلْتَ: نِقْمَةٌ وَالْجَمْعُ نِقَمٌ، مِثْلُ نِعْمَةٍ وَنِعَمٍ، (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ«- تَنْقِمُونَ» وَ«تَنْقِمُونَ» بِمَعْنَى تَعِيبُونَ، أَيْ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا بِاللَّهِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أَيْ فِي تَرْكِكُمُ الْإِيمَانَ، وَخُرُوجِكُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَلْ تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي عَفِيفٌ وَأَنَّكَ فَاجِرٌ. وَقِيلَ: أَيْ لِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تَنْقِمُونَ مِنَّا ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أَيْ بِشَرٍّ مِنْ نَقْمِكُمْ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: بِشَرٍّ مَا تُرِيدُونَ لَنَا مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: مَا نَعْرِفُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ.«مَثُوبَةً» نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ وَأَصْلُهَا مَفْعُولَةٌ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الثَّاءِ فَسُكِّنَتِ الْوَاوُ وَبَعْدَهَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ مَقُولَةٌ وَمَجُوزَةٌ وَمَضُوفَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «٢»:
وَكُنْتُ إِذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفَةٍ ... أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي
وَقِيلَ: مَفْعُلَةٌ كَقَوْلِكَ مَكْرُمَةٌ وَمَعْقُلَةٌ. (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) «مِنْ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا قَالَ:«بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ» «٣»] الحج: ٧٢] وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ على


(١). راجع ج ١٩ ص ٢٩٢.
(٢). هو: أبو جندب الهزلي. والمضوفة: الامر يشق منه ويخاف.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٩٥.

الْبَدَلِ مِنْ شَرٍّ وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الطَّاغُوتِ «١»، أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَالْمَوْصُولُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ النَّخَعِيُّ«أنبئكم» بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ:«عَبُدَ الطَّاغُوتِ» بِضَمِ الْبَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ، جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعُلَ كَعَضُدٍ فَهُوَ بِنَاءٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ كَيَقُظٍ وَنَدُسٍّ «٢» وَحَذُرٍ، وَأَصْلُهُ الصِّفَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ «٣»:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُوشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرُدِ
بِضَمِّ الرَّاءِ. وَنَصْبِهِ بِ«- جَعَلَ»، أَيْ جعل منم عَبُدًا لِلطَّاغُوتِ، وَأَضَافَ عَبُدَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَخَفَضَهُ. وَجَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالتَّاءِ، وَجَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَعَطَفُوهُ عَلَى فعل ماضي وَهُوَ غَضِبَ وَلَعَنَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، أَوْ مَنْصُوبًا بِ«- جَعَلَ»، أي جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطَّاغُوتِ. وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي عَبَدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ«مِنْ» دُونَ مَعْنَاهَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ«وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ» عَلَى الْمَعْنَى. ابْنُ عَبَّاسٍ:«وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ»، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبْدٍ كَمَا يُقَالُ: رَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَسَقْفٌ وَسُقُفٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عِبَادٍ كَمَا يُقَالُ: مِثَالٌ وَمُثُلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَبِيدٍ كَرَغِيفٍ ورغف، ويجوز أن يكون جمع عابد كَبَازِلٍ وَبُزُلٍ، وَالْمَعْنَى: وَخَدَمَ الطَّاغُوتَ. وَعِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا«وَعُبَّدَ الطَّاغُوتِ» «٤» جَعَلَهُ جَمْعَ عَابِدٍ كما يقال: شاهد وشهد وغائب وغيب. وعن أبي واقد: وعباد الطاغوت


(١). راجع ج ٣ ص ٢٨١ وما بعدها.
(٢). الندس (بفتح فضم أو فتح فكسر): الفهم الكيس.
(٣). هو الذبياني، ووجرة: موضع بين مكة والبصرة، قال الأصمعي: هي أربعون ميلا ليس فيها منزل، فهي مرت للوحش. والوشي في ألوان البهائم بياض في سواد في بياض- طاوي: ضامر. المصير: المصران. والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. والفرد والفرد (بفتح الراء وضمها): أي هو منقطع القرين لا مثيل له في جودته.
(٤). قال ابن عطية: وهذه القراءة تتخرج على أنه أراد و(عبدا) منونا ثم حذف للالتقاء كما قال: (ولا ذاكر الله).

لِلْمُبَالَغَةِ، جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَعَامِلٍ وَعُمَّالٍ، وَضَارِبٍ وَضُرَّابٍ. وَذَكَرَ مَحْبُوبٌ أَنَّ الْبَصْرِيِّينَ قَرَءُوا: (وَعُبَّادُ الطَّاغُوتِ) جَمْعُ عَابِدٍ أَيْضًا، كَقَائِمٍ وَقُيَّامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ عَبْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ «١» (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ. وَقَرَأَ عَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ بُرَيْدَةَ: «٢» (وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ يُؤَدِّي عَنْ جَمَاعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا (وَعُبِدَ «٣» الطَّاغُوتُ) وَعَنْهُ أَيْضًا] وَأُبَيٍّ [«٤» (وَعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ) عَلَى تَأْنِيثِ الجماعة، كما قال تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ) «٥»] الحجرات: ١٤] وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: (وَأَعْبُدَ الطَّاغُوتَ) مِثْلَ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ. فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ وَجْهًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:«أُولئِكَ شَرٌّ مَكانًا» لِأَنَّ مَكَانَهُمُ النَّارَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا شَرَّ فِي مَكَانِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا عَلَى قَوْلِكُمْ. النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا لَحِقَكُمْ مِنَ الشَّرِّ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَقَمُوا عَلَيْكُمْ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لهم: يا إخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤوسهم افْتِضَاحًا، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليهود ... إن اليهود إخوة القرود

[سورة المائدة (٥): الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)


(١). راجع هامش ج ٤ ص ١ في ضبط (الرؤاسى).
(٢). في ابن عطية والشواذ قراءة ابن بريدة (بفتح الدال) و(ضم الدال) قراءة العقيلي ولعله يقرأ كالعقيلي في رواية أخرى عنه.
(٣). قال ابن عطية: (بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء) اسم مفرد يراد به الجمع كحطم ولبد.
(٤). من ج وك وع وز.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٣٤٨. [.....]

قوله تعالى: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) الآية. هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعُوهُ، بَلْ دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَافِرِينَ.» وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ
«أَيْ مِنْ نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَالُوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ إِذَا دَخَلْتُمْ الْمَدِينَةَ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى بُيُوتِكُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ وَمَا يَأْتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ) يَعْنِي مِنَ الْيَهُودِ.» يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ«أَيْ يُسَابِقُونَ فِي الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ» وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ«قَوْلُهُ تعالى: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (لَوْلا) بمعنى أفلا. (يَنْهاهُمُ) يَزْجُرُهُمْ. (الرَّبَّانِيُّونَ) عُلَمَاءُ النَّصَارَى. (وَالْأَحْبارُ) عُلَمَاءُ الْيَهُودِ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ الْكُلُّ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ. ثُمَّ وَبَّخَ عُلَمَاءَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ نَهْيَهُمْ فَقَالَ: (لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ) كَمَا وَبَّخَ مَنْ يُسَارِعُ فِي الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ:» لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ" وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ، فَالْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ في هذا المعنى في (البقرة) «١» و(وآل عمران) «٢». وروى سفيان ابن عُيَيْنَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ فِيهَا فُلَانٌ الْعَابِدُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: (أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ «٣» وَجْهُهُ فِي سَاعَةٍ قَطُّ). وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا على يديه أو شك أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ). وَسَيَأْتِي. وَالصُّنْعُ بِمَعْنَى الْعَمَلِ إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوْدَةَ، يقال: سيف صنيع إذا جود عمله.

[سورة المائدة (٥): آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)


(١). راجع ج ١ ص ٣٦٥ وما بعدها.
(٢). راجع ج ٤ ص ٤٧.
(٣). تمعر وجهه: تغير.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ). قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ] لَعَنَهُ اللَّهُ [«١»، وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ قل ما لهم، فقالوا: إن الله بخيل، وئد اللَّهِ مَقْبُوضَةٌ عَنَّا فِي الْعَطَاءِ، فَالْآيَةُ خَاصَّةً فِي بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ قَوْمٌ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى يَدُ اللَّهِ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِنَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ ﷺ فِي فَقْرٍ وَقِلَّةِ مَالٍ وَسَمِعُوا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) «٢» وَرَأَوُا النَّبِيَّ ﷺ قَدْ كَانَ يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي الدِّيَاتِ قَالُوا: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا: بَخِيلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) «٣»] الاسراء: ٢٩]. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ الْكَفِّ، وَكَزُّ الْأَصَابِعِ، وَمَغْلُولُ الْيَدِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا ... وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّمَا وَجْهَهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحٌ
وَالْيَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَكُونُ لِلْجَارِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا» «٤»] ص: ٤٤] هذا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَتَكُونُ لِلنِّعْمَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: كَمْ يَدٍ لِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِي قَدْ أَسْدَيْتُهَا لَهُ، وَتَكُونُ لِلْقُوَّةِ، قَالَ اللَّهُ عز وجلوَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ» «٥»] ص: ١٧]، أي ذا القوة وتكون يد الملك وَالْقُدْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» «٦»] آل عمران: ٧٣]. وَتَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا» «٧»] يس: ٧١] أي مما عملنا نحن. وقال:«أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» «٨»] الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] أَيِ الذِي لَهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّأْيِيدِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: (يَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِمِ حَتَّى يَقْسِمَ). وَتَكُونُ لاضافة الفعل إلى المخبر عند تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» «٩»] ص: ٧٥] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ الْبَارِيَ جَلَّ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التبعيض، ولا على القوة والملك


(١). من ع.
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٣٧، ٠٤ ٢.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٤٩.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢١٢، ١٥٨، ٥٥، ٢٢٨.
(٥). راجع ج ١٥ ص ٢١٢، ١٥٨، ٥٥، ٢٢٨.
(٦). راجع ج ٤ ص ١١ ٢.
(٧). راجع ج ١٥ ص ٢١٢، ١٥٨، ٥٥، ٢٢٨.
(٨). راجع ج ٣ ص ٢٣٧، ٠٤ ٢.
(٩). راجع ج ١٥ ص ٢١٢، ١٥٨، ٥٥، ٢٢٨.

وَالنِّعْمَةِ وَالصِّلَةِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَقَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ وَلِيِّهِ آدَمَ وَعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، وَيَبْطُلُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ «١» عَلَى صِفَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَمَ تَشْرِيفًا لَهُ دُونَ خَلْقِ إِبْلِيسَ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّةُ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أنه] عز اسمه وتعالى علاه وجد أَنَّهُ [«٢» كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ دَارَ الْكَرَامَةِ] بِيَدِهِ [«٣» لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِمُقْتَضَاهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا، أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ، وَكَذَا«وَلُعِنُوا بِما قالُوا» وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيمُنَا كَمَا قَالَ:«لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ» «٤»] الفتح: ٢٧]، عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى أَبِي لهب بقوله:«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» «٥»] المسد: ١] وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْقِ، فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْرَ لَئِيمٍ. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ الْوَاوِ، أَيْ قَالُوا: يَدُ اللَّهِ مغلولة وغلت أيديهم. واللعن بالابعاد، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ بَلْ نِعْمَتُهُ مَبْسُوطَةٌ، فَالْيَدُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا غَلَطٌ، لِقَوْلِهِ:«بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» فَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُونُ بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَثْنِيَةَ جِنْسٍ لَا تَثْنِيَةَ وَاحِدٍ مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ عليه السلام: (مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ «٦») ٦ (بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ). فَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي نِعْمَةُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاطِنَةُ، كَمَا قَالَ:«وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» «٧»] لقمان: ٢٠]. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقِكَ، وَالْبَاطِنَةُ مَا سُتِرَ عَلَيْكَ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِكَ). وَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ اللَّتَانِ النِّعْمَةُ بِهِمَا وَمِنْهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ النِّعْمَةَ «٨» لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) وَلَيْسَ يُرِيدُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: ما لي بهذا الامر يد أو قُوَّةٌ. قَالَ السُّدِّيُّ، مَعْنَى قَوْلِهِ (يَداهُ) قُوَّتَاهُ بالثواب


(١). كذا في الأصول إلا في ج، ز: تحملا. ولا وجه للتثنية هنا.
(٢). من ز. [.....]
(٣). من ع.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢٨٩.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ٢٣٤.
(٦). العائرة بين الغنمين: أي المترددة بين قطيعين، لا تدرى أيهما تتبع.
(٧). راجع ج ١٤ ص ٧٣.
(٨). تلك عبارة الأصول، أو صوابها ما في الجصاص: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك إلخ. راجع ج ٢ ص ٤٤٨.

وَالْعِقَابِ، بِخِلَافِ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ يَدَهُ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْكَ). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ «١» أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مذ خلق السموات وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ- قَالَ- وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ «٢» يرفع ويخفض (. السح الصب الكثير. وبغيض يَنْقُصُ، وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ:«وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» «٣»] البقرة: [. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ«بل يداه بسطان» «٤» [المائدة:] حَكَاهُ الْأَخْفَشُ، وَقَالَ يُقَالُ: يَدٌ بُسْطَةٌ، أَيْ مُنْطَلِقَةٌ مُنْبَسِطَةٌ.) يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أَيْ يَرْزُقُ كَمَا يُرِيدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، أَيْ قُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) لَامُ قَسَمٍ. (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أَيْ بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. (طُغْيانًا وَكُفْرًا) أي إذا نزل شي مِنَ الْقُرْآنِ فَكَفَرُوا ازْدَادَ كُفْرُهُمْ. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا«لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ»] المائدة: ٥١]. وَقِيلَ: أَيْ أَلْقَيْنَا بَيْنَ طَوَائِفِ الْيَهُودِ، كَمَا قال:«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» «٥»] الحشر: ١٤] فهم متباغضون مُتَّفِقِينَ، فَهُمْ أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ. (كُلَّما أَوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ) يريد اليهود. و «كُلَّما» ظَرْفٌ أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللَّهُ جَمْعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كتاب الله- التوراة- أرسل الله عليهم بخت نصر، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا كُلَّمَا اسْتَقَامَ أَمْرُهُمْ شَتَّتَهُمُ اللَّهُ فَكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ ﷺ«أَطْفَأَهَا اللَّهُ» وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرَهُمْ فَذِكْرُ النَّارِ مُسْتَعَارٌ. قَالَ قَتَادَةُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ عز وجل، فَلَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي


(١).«الليل والنهار» قال النووي: هو بنصب الليل والنهار ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على الفاعل. قال في هامش مسلم: لكن على تقدير النصب ماذا يكون الفاعل في (لا يغيضها) لم يذكره، ولو كانت الرواية (لا يغيضها سح الليل والنهار) بالإضافة لبان الفاعل كما في رواية زهير بن حرب«لا يغيضها شي».
(٢). الفيض: ضبطوه (بالفاء والياء) ومعناه الإحسان، و(بالقاف والباء) ومعناه الموت.
(٣). راجع ج ٣ ص ٢٣٧.
(٤). كذا في البحر وفي الشواذ لابن خالويه: بسطتان. بضم السين.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٣٥.

المجوس، ثم قال عز وجل: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا) أَيْ يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا نَارُ الْغَضَبِ، أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارَ الْغَضَبِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَارِ الْغَضَبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ حَتَّى يَضْعُفُوا وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ الرُّعْبِ نُصْرَةً بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ﷺ.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَكَذَا«وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ». (آمَنُوا) صَدَّقُوا. (وَاتَّقَوْا) أَيِ الشِّرْكَ والمعاصي. (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ) اللام جواب (لَوْ). وكفرنا غَطَّيْنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِقَامَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُمَا وَعَدَمُ تَحْرِيفِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْبَقَرَةِ) «١» مُسْتَوْفًى. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أَيِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: كُتُبُ أَنْبِيَائِهِمْ. (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي الْمَطَرَ وَالنَّبَاتَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَدْبٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ولأكلوا أَكْلًا مُتَوَاصِلًا، وَذِكْرُ فَوْقَ وَتَحْتَ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» «٢»] الطلاق: ٢] «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقًا» «٣»] الجن: ١٦] «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» «٤»] الأعراف: ٩٦] فَجَعَلَ تَعَالَى التُّقَى مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَوَعَدَ بِالْمَزِيدِ لِمَنْ شَكَرَ فقال:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» «٥»] إبراهيم: ٧] ثم أخبر تعالى أن منهم مقتصدا- وهم الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ كَالنَّجَاشِيِّ وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام اقتصدوا فلم


(١). راجع ج ١ ص ٤٣٧ وما بعدها.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٥٩.
(٣). راجع ج ١٩ ص ١٦. [.....]
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٥٣.
(٥). راجع ج ٩ ص ٣٤٢.

يَقُولُوا فِي عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «١» إلا ما يليق بهما. وقد: أَرَادَ بِالِاقْتِصَادِ قَوْمًا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْذِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالِاقْتِصَادُ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ مِنَ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِتْيَانُ الشَّيْءِ، تَقُولُ: قَصَدْتُهُ وَقَصَدْتُ لَهُ وَقَصَدْتُ إِلَيْهِ بِمَعْنًى. (ساءَ مَا يَعْمَلُونَ) أَيْ بِئْسَ شي عَمِلُوهُ، كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَحَرَّفُوا الْكُتُبَ وَأَكَلُوا السُّحْتَ.

[سورة المائدة (٥): آية ٦٧]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَظْهِرِ التَّبْلِيغَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُخْفِيهِ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أُمِرَ بِإِظْهَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَقَالَ: لَا نَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ:«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «٢» [الأنفال: ٦٤] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ تَقِيَّةً، وَعَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُمْ الرَّافِضَةُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ ﷺ لَمْ يُسِرْ إِلَى أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ظَاهِرًا، وَلَوْلَا هَذَا مَا كَانَ فِي قَوْلِهِ عز وجل: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فَائِدَةٌ. وَقِيلَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فِي أَمْرِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةِ] رضي الله عنها ٣». وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى بَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، فَإِنْ كَتَمْتَ شَيْئًا مِنْهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَهَذَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَتَأْدِيبٌ لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ مِنْ أُمَّتِهِ أَلَّا يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ شَرِيعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ نَبِيِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنْ وَحْيِهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قالت: من حدثك


(١). كذا في ج وك وع.
(٢). راجع ج ٨ ص ٤٢.
(٣). من ع.

أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:» يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ«وَقَبَّحَ اللَّهُ الرَّوَافِضَ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مما أوحى إِلَيْهِ كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَمَنْ ضَمِنَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْعِصْمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ نَازِلًا تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ «١» سَيْفَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ:» اللَّهُ«، فَذُعِرَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّ غورث ابن الْحَارِثِ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَفَا عَنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ:» إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ««٢» [المائدة: ١١] مُسْتَوْفًى، وَفِي» النِّسَاءِ«أَيْضًا فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال: غزونا مع وسول اللَّهِ ﷺ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ «٣» فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إن رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا والسيف مصلتا «٤» فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي- قَالَ- قُلْتُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي- قَالَ- قُلْتُ اللَّهُ قَالَ فَشَامَ «٥» السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَمَّا بَعَثَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ مِنَ الناس من يكذبني


(١). اخترط سيفه: استله.
(٢). راجع ص ١١١ من هذا الجزء. وج ٥ ص ٣٧٢.
(٣). العضاه: شجر عظيم له شوك، وقيل: أعظم الشجر.
(٤). صلتا: أي مجردا من غمده. وفي ك: صلت.
(٥). شام السيف. أي غمده ورده في غمده، يقال: شام السيف إذا سله وإذا أغمده، فهو من الأضداد. والمراد هنا أغمده.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ) وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُرْسِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ:«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«يَا عَمَّاهُ «١» إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْرُسُنِي». قُلْتُ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً فَقَالَ:«لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ «٢» سِلَاحٍ، فَقَالَ:«مَنْ هَذَا»؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«مَا جَاءَ بِكَ»؟ فَقَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ نَامَ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْتُ صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقَالَ:«مَنْ هَذَا»؟ فَقَالُوا: سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ جِئْنَا نَحْرُسُكَ، فَنَامَ ﷺ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ «٣» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةِ أَدَمٍ وَقَالَ:«انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ». وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:«رِسَالَاتِهُ» عَلَى الْجَمْعِ. وَأَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ:«رِسالَتَهُ» عَلَى التَّوْحِيدِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ وَالْجَمْعُ أَبْيَنُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كان يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ يُبَيِّنُهُ، وَالْإِفْرَادُ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، فَهِيَ كَالْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ لَا يُجْمَعُ وَلَا يُثَنَّى لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعِهِ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ:«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» «٤» [إبراهيم: ٣٤]. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أَيْ لَا يُرْشِدُهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: أَبْلِغْ أَنْتَ فَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَإِلَيْنَا. نَظِيرُهُ«مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» «٥»] المائدة: ٩٩] والله أعلم.


(١). من ك وع وج.
(٢). خشخشة سلاح: أي صوت سلاح صدم بعضه بعضا.
(٣). الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣٦٧. [.....]
(٥). راجع ص ٣٢٧ من هذا الجزء.

[سورة المائدة (٥): آية ٦٨]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ:] بَلَى [. فَقَالُوا: فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُؤْمِنُ بِمَا عَدَاهَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، أَيْ لستم على شي من الدين حتى تعملوا بِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عليه السلام، وَالْعَمَلُ بِمَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُمَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا) أَيْ يَكْفُرُونَ بِهِ فَيَزْدَادُونَ كُفْرًا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَالطُّغْيَانُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ صَغِيرَةٌ وَمِنْهُ كَبِيرَةٌ، فَمَنْ تَجَاوَزَ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرَةِ فَقَدْ طَغَى. وَمِنْهُ قوله تعالى:» كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى " «١»] العلق: ٦] أَيْ يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أَيْ لَا تَحْزَنُ عَلَيْهِمْ. أَسىَ يَأْسَى أَسًى إِذَا حَزِنَ. قَالَ:
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى

وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَلَيْسَ بِنَهْيٍ عَنِ الْحُزْنِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ تَسْلِيَةٌ وَنَهْيٌ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْحُزْنِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آخر (آل عمران) «٢» مستوفى.


(١). راجع ج ٢٠ ص ١٢٢.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٨٤ وما بعدها.

[سورة المائدة (٥): آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
تَقَدَّمَ الكلام فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.«وَالَّذِينَ هادُوا» مَعْطُوفٌ، وَكَذَا«وَالصَّابِئُونَ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي«هادُوا» فِي قَوْلِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ. قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ يَقْبُحُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّدَ. وَالْجِهَةُ الْأُخْرَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ فِي«وَالصَّابِئُونَ» لِأَنَّ«إِنَّ» ضَعِيفَةٌ فَلَا تُؤَثِّرُ إلا في الاسم دون الخبر، و «الَّذِينَ» هُنَا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَابُ فَجَرَى عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَمْرَانِ «١»، فَجَازَ رَفْعُ الصَّابِئِينَ رُجُوعًا إِلَى أَصْلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَبِيلُ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَمَا لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَاحِدٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ. وَأَنْشَدَ «٢» سِيبَوَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُهُ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وَقَالَ ضَابِئِ الْبُرْجُمِيِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ «٣» بِهَا لَغَرِيبُ
وَقِيلَ:«إِنَّ» بِمَعْنَى«نَعَمْ» فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَحُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، فَالْعَطْفُ يَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ وانقضاء الاسم والخبر. وقال قيس الرقيات:


(١). في ع: فجرى على جهة واحدة، ألا ترى أن جاز رفع الصابئين إلخ.
(٢). البيت لبشر بن أبي حازم. والبغاة: جمع باغ وهو الساعي بالفساد. والشقاق: الخلاف.
(٣). قيار: قيل اسم جمل ضابئ، وقيل: اسم فرسه. يقول: من كان بالمدينة بيته ومنزله، فلست منها ولا لي بها منزل.

بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا ... حَ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: (إِنَّهْ) بِمَعْنَى (نَعَمْ)، وهذه (الهاء) أدخلت للسكت.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٠]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا). قَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) «١» مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَهُوَ أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ] الْآيَةِ [«٢» لَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ، وَأَرْسَلْنَا الرُّسُلَ فَنَقَضُوا الْعُهُودَ. وَكُلُّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»] المائدة: ١]. (كُلَّما جاءَهُمْ) أَيْ الْيَهُودَ (رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) لَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) أَيْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا، فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمَنْ مِثْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَتَلُوا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِنَّمَا قَالَ:«يَقْتُلُونَ» لِمُرَاعَاةِ رَأْسِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا، وَفَرِيقًا قَتَلُوا، وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، فَهَذَا دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ فَاخْتَصَرَ. وَقِيلَ: فَرِيقًا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و «يَقْتُلُونَ» نعت لفريق. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الْمَعْنَى، ظَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنَ اللَّهِ عز وجل ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ بِالشَّدَائِدِ، اغْتِرَارًا بِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَإِنَّمَا اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ والكسائي«تكون» بالرفع، ونصب)


(١). راجع ج ١ ص ٢٤٦ وما بعدها.
(٢). من ج وع وك وهـ.

الْبَاقُونَ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ حَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَتَيَقَّنَ. وَ«أَنْ» مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَدُخُولُ«لَا» عِوَضٌ مِنَ التَّخْفِيفِ، وَحُذِفَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَلِيَهَا الْفِعْلُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ، فَفَصَلُوا بَيْنَهُمَا (بِلَا). وَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ«أَنَّ» نَاصِبَةً لِلْفِعْلِ، وَبَقِيَ حَسِبَ عَلَى بَابِهِ مِنَ الشَّكِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: حَسِبْتُ أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ، أَيْ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالرَّفْعُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ فِي حَسِبَ وَأَخَوَاتِهَا أَجْوَدُ كما قال «١»:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدُ اللَّهْوَ أَمْثَالِي
وَإِنَّمَا صَارَ الرَّفْعُ أَجْوَدَ، لان حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه «٢» شي ثَابِتٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعَمُوا) أَيْ عَنِ الْهُدَى. (وَصَمُّوا) أَيْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا رَأَوْهُ وَلَا سَمِعُوهُ. (ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ أُوقِعَتْ بِهِمُ الْفِتْنَةُ فَتَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَشْفِ الْقَحْطِ، أَوْ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا، فَهَذَا بَيَانُ«تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» أَيْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا لَا أَنَّهُمْ تَابُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ. (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أَيْ عَمِيَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَصَمَّ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فَارْتَفَعَ«كَثِيرٌ» عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: كَمَا تَقُولُ رَأَيْتَ قَوْمَكَ ثُلُثَيْهِمْ. وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيِ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَإِنْ شِئْتَ كَانَ التَّقْدِيرُ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ مِنْهُمْ كَثِيرٌ. وَجَوَابٌ رَابِعٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: (أَكَلُونِي البراغيث) وعليه قول الشاعر «٣»:
وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:«وَأَسَرُّوا النَّجْوَى «٤» الَّذِينَ ظَلَمُوا»] الأنبياء: ٣]. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ (كَثِيرًا) بِالنَّصْبِ يَكُونُ نعتا لمصدر محذوف.


(١). البيت لامرئ القيس ويروى في ديوانه (ألا يحسن اللهو). وبسباسة امرأة من بني أسد.
(٢). في ج وع: في أنه.
(٣). البيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف قرية بالشام، وقيل: بالجزيرة، وأهلها نبط الشام. والسليط: الزيت.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٦٨.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) هَذَا قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ فرد الله عليهم ذَلِكَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ مِمَّا يُقِرُّونَ بِهِ، فَقَالَ: (وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أَيْ إِذَا كَانَ الْمَسِيحُ يَقُولُ: يَا رَبِّ وَيَا اللَّهُ فَكَيْفَ يَدْعُو نَفْسَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْأَلُهَا؟ هَذَا مُحَالٌ. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) قيل: وهو مِنْ قَوْلِ عِيسَى. وَقِيلَ: ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يَعْتَقِدَ مَعَهُ مُوجِدًا. وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) «١» الْقَوْلُ فِي اشْتِقَاقِ الْمَسِيحِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

[سورة المائدة (٥): الآيات ٧٣ الى ٧٤]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). أَيْ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ. وَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّنْوِينُ، عَنِ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ لِلْعَرَبِ مَذْهَبٌ آخَرُ، يَقُولُونَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَةُ أَرْبَعَةً بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: ثَالِثُ اثْنَيْنِ، «٢» جَازَ التَّنْوِينُ. وَهَذَا قَوْلُ فِرَقِ النَّصَارَى مِنَ الْمَلِكِيَّةِ «٣» وَالنُّسُّطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَبٌ وَابْنٌ وَرُوحُ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَقُولُونَ ثَلَاثَةَ آلِهَةٍ وَهُوَ مَعْنَى مَذْهَبِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْعِبَارَةِ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُمْ. وَمَا كَانَ هكذا صح أن


(١). راجع ج ٤ ص ٨٨ وما بعدها.
(٢). في ع: ثالث اثنين بالتنوين. [.....]
(٣). كذا في الأصول وتقدم أنهم الملكائية.

يُحْكَى بِالْعِبَارَةِ اللَّازِمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الِابْنَ إِلَهٌ وَالْأَبَ إِلَهٌ وَرُوحَ الْقُدُسِ إِلَهٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي (النِّسَاءِ) «١» فَأَكْفَرَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا، [وَقَالَ «٢»]: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أَيْ أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَتَعَدَّدُ وَهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْقَوْلُ بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ لَفْظًا، وقد مضى في (البقرة) «٣» معنى الواحد. و(مِنْ) زَائِدَةٌ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ (إِلَهًا وَاحِدًا) عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ الْخَفْضَ عَلَى الْبَدَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ لَيَمَسَّنَّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (أَفَلا يَتُوبُونَ) تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، أَيْ فَلْيَتُوبُوا إِلَيْهِ وَلْيَسْأَلُوهُ سَتْرَ ذُنُوبِهِمْ، وَالْمُرَادُ الْكَفَرَةُ مِنْهُمْ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَفَرَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْقَائِلُونَ بذلك دون المؤمنين.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ مَا الْمَسِيحُ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْآيَاتُ عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ، فَإِنْ كَانَ إِلَهًا فَلْيَكُنْ كُلُّ رَسُولٍ إِلَهًا، فَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْحُجَّةِ فَقَالَ:«وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ«كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» أَيْ أَنَّهُ مَوْلُودٌ مَرْبُوبٌ، وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ وَكَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَمْ يَدْفَعْ هَذَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَمَتَى يَصْلُحُ الْمَرْبُوبُ لِأَنْ يَكُونُ رَبًّا؟! وَقَوْلُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ «٤» بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا مِنْهُمْ مَصِيرٌ إِلَى الِاخْتِلَاطِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ إِلَهٍ بِغَيْرِ إِلَهٍ، وَلَوْ جَازَ اخْتِلَاطُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: اللَّاهُوتُ مُخَالِطٌ لِكُلِّ مُحْدَثٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ:«كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وَفِي هذا دلالة


(١). راجع ص ٢٣ وما بعدها من هذا الجزء.
(٢). من ج، ك، ع، هـ.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٩٠.
(٤). في ع: يأكل الطعام. إلخ.

عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ عليها السلام لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ». قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً مَعَ كَوْنِهَا نَبِيَّةً كَإِدْرِيسَ عليه السلام، وَقَدْ مَضَى فِي«آلِ عِمْرَانَ» «١» مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَةٌ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهَا بِآيَاتِ رَبِّهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَدَهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أَيِ الدَّلَالَاتِ. (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى القدرية والمعتزلة.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٦]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا) زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ] عَلَيْهِمْ [«٢»، أَيْ أَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ عِيسَى كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، لَا يَمْلِكُ لِأَحَدٍ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَإِذْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّ عِيسَى كَانَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَكَيْفَ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا؟. (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا عَلِيمًا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَهُوَ الاله على الحقيقة. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٧]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)


(١). راجع ج ٤ ص ٨٢ وما بعدها
(٢). من ع وك.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) أَيْ لَا تُفَرِّطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى، غُلُوُّ الْيَهُودِ قَوْلُهُمْ فِي عِيسَى، لَيْسَ وَلَدَ رِشْدَةٍ «١»، وَغُلُوُّ النَّصَارَى قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ إِلَهٌ. وَالْغُلُوُّ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (النِّسَاءِ) «٢» بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ) الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) «٣»
. وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ.«قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ» قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ. (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) أَيْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أَيْ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَتَكْرِيرُ ضَلُّوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَضَلُّوا مِنْ بَعْدُ، وَالْمُرَادُ الْأَسْلَافُ الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَةَ وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ اليهود والنصارى.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٨]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: وَهِيَ جَوَازُ لَعْنِ الْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَنَّ شَرَفَ النَّسَبِ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اللَّعْنَةِ فِي حَقِّهِمْ. وَمَعْنَى«عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أَيْ لُعِنُوا فِي الزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّ الزَّبُورَ لِسَانُ دَاوُدَ، وَالْإِنْجِيلَ لِسَانُ عِيسَى أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الْكِتَابَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهُمَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. لَعَنَهُمْ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ أَبُو مَالِكٍ: الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ مُسِخُوا قِرَدَةً. وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى مُسِخُوا خَنَازِيرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ أَصْحَابُ السَّبْتِ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا. وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَقِيلَ: لُعِنَ الْأَسْلَافُ وَالْأَخْلَافُ مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى، لِأَنَّهُمَا أَعْلَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ فَلَعَنَا مَنْ يَكْفُرُ بِهِ.


(١). ولد رشدة (بكسر الراء وقد تفتح): أي ولد نكاح.
(٢). راجع ص ٢١ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٤ وما بعدها.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا). ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ ذَلِكَ اللَّعْنُ بِمَا عَصَوْا، أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بهم لعصيانهم واعتدائهم.

[سورة المائدة (٥): آية ٧٩]
كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ). فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ» أَيْ لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا:«لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ» ذَمٌّ لِتَرْكِهِمُ النَّهْيَ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُمْ يُذَمُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ. خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ:«لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» إِلَى قَوْلِهِ:«فاسِقُونَ» ثُمَّ قَالَ:] كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ [وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا. وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ. الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيَهْجُرُ ذَا الْمُنْكَرِ وَلَا يُخَالِطُهُ. وَقَالَ حُذَّاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّاهِي أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ مَعْصِيَةٍ بَلْ يَنْهَى الْعُصَاةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: فُرِضَ عَلَى الذين يتعاطون الكئوس أَنْ يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا

وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ:«كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْفِعْلِ وَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّنَاهِي. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُجْرِمِينَ وَأَمْرٍ بِتَرْكِهِمْ وَهِجْرَانِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْيَهُودِ:«تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» وَ«مَا» مِنْ قَوْلِهِ:«مَا كانُوا» يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمَا بَعْدَهَا نَعْتٌ لَهَا، التَّقْدِيرُ لَبِئْسَ شَيْئًا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. أَوْ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وهي بمعنى الذي.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٠]
تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ الْيَهُودِ، قِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسُوا عَلَى دِينِهِمْ. (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أَيْ سَوَّلَتْ وَزَيَّنَتْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَبِئْسَ مَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) «أَنْ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ كقولك: بئس رجلا زَيْدٌ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ«مَا» فِي] قَوْلِهِ [«١» «لَبِئْسَ» عَلَى أَنْ تَكُونَ«مَا» نَكِرَةٌ فَتَكُونُ رَفْعًا أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى لان سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ:«وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» ابتداء وخبر.

[سورة المائدة (٥): آية ٨١]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) يَدُلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ كَافِرًا وَلِيًّا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ إِذَا اعْتَقَدَ اعْتِقَادَهُ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُ. (وَلكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أَيْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِمْ لِتَحْرِيفِهِمْ، أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ لنفاقهم.


(١). من ع.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى» لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ«اللام لام قسم وَدَخَلَتِ النُّونُ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فَرْقًا بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.» عَداوَةً«نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ وَكَذَا» وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى «وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى- حَسَبَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ- خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتِهِمْ، وَكَانُوا ذَوِي عَدَدٍ. ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْحَرْبُ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقَتَلَ اللَّهُ فِيهَا صَنَادِيدَ الْكُفَّارِ، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْدَهُ فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ، فَبَعَثَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِهَدَايَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرهبان والقسيسين فجمعهم. ثم أمر جعفر أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ سُورَةَ (مَرْيَمَ) فَقَامُوا تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ» وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى «وَقَرَأَ إِلَى» الشَّاهِدِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحرث بْنِ هِشَامٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْهِجْرَةَ الْأُولَى هِجْرَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ

ﷺ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ «١» فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَظْهَرْ «٢» مُجَالَسَتُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ- أَوْ كَمَا قَالَ لَهُمْ- فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، لَا نَأْلُوا أَنْفُسَنَا خَيْرًا. فَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ» الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ««٣»] القصص: ٥٢] إلى قوله:» لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ«] القصص: ٥٥] وَقِيلَ: إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فِيهِمُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الحبشة وثمانية من أهل الشام] وهم [«٤» بحيراء «٥» الرَّاهِبُ وَإِدْرِيسُ وَأَشْرَفُ وَأَبْرَهَةُ وَثُمَامَةُ وَقُثَمٌ وَدُرَيْدٌ وَأَيْمَنُ «٦»، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ» يس«إِلَى آخِرِهَا، فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَآمَنُوا، وَقَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ» لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى «يَعْنِي وَفْدَ النجاشي وكانوا أصحاب الصوامع. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَيْضًا» الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ«] القصص: ٥٢] إلى قوله» أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ"] القصص: ٥٤] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ بَنِي الحرث بْنِ كَعْبٍ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ وستون من


(١). في ج، ك، هـ، ع: في المجلس.
(٢). في ع. تطل.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٩٦. [.....]
(٤). عن (البحر) (وروح المعاني).
(٥). بحيراء الراهب: كأمير ممدودا وفي رواية بالألف المقصورة.
(٦). الأصول محرفة في ذكر الأسماء وصوبت عن (البحر) و(روح المعاني). في ج، ك، ع: تمام: نشيم بدل أبرهة وقثم.

أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا) وَاحِدُ«الْقِسِّيسِينَ» قَسٌّ وَقِسِّيسٌ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْءَ فَطَلَبَهُ، قَالَ «١» الرَّاجِزُ:
يُصْبِحْنَ عَنْ قَسِّ الْأَذَى غَوَافِلَا

وَتَقَسَّسَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتُهَا. وَالْقَسُّ النَّمِيمَةُ. وَالْقَسُّ أَيْضًا رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ، وَكَذَلِكَ الْقِسِّيسُ مِثْلُ الشَّرِّ وَالشِّرِّيرِ فَالْقِسِّيسُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ. وَيُقَالُ فِي جَمْعِ قِسِّيسٍ مُكَسَّرًا: قَسَاوِسَةٌ «٢» أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة. وَالْأَصْلُ قَسَاسِسَةٌ فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَاتِ وَاوًا لِكَثْرَتِهَا. وَلَفْظُ الْقِسِّيسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلُغَةِ الرُّومِ وَلَكِنْ خَلَطَتْهُ الْعَرَبُ بِكَلَامِهِمْ فَصَارَ مِنْ لُغَتِهِمْ إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ عَنْ نُصَيْرٍ الطَّائِيِّ عَنِ الصَّلْتِ عَنْ حَامِيَةَ بْنِ رَبَابٍ «٣» قَالَ: قُلْتُ لِسَلْمَانَ«بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا» فَقَالَ: دَعِ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِعِ وَالْمِحْرَابِ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ«بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا». وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: ضَيَّعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ الَّذِينَ غَيَّرُوهُ، لُوقَاسُ وَمَرْقُوسُ وَيحْنَسُ وَمَقْبُوسُ «٤»، وَبَقِيَ قِسِّيسٌ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَهَدْيِهِ فَهُوَ قِسِّيسٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرُهْبانًا) الرُّهْبَانُ جمع راهب كركبان وراكب. قال النابغة:


(١). الرجز لرؤية بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتبعن النمائم.
(٢). كذا في الأصول وهو موافق لما في (القاموس) وبها يظهر قوله بعد: (أبدل من إحدى السينين واو)، وفي (اللسان): قساقسة على مثال مهالبة. ويؤخذ من شرح (القاموس) أن فيه الجمعين.
(٣). كذا في الأصول، وفي ابن كثير: جاثمة بن رئاب.
(٤). كذا في كل الأصول: ولعل الصواب: متيوس. وهو متى. لان أنا جيلهم المعتمدة أربعة لكل من لوقا ومرقص ويوحنا ومتى إنجيل.

لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطِ رَاهِبٍ ... عَبَدَ الْإِلَهَ صَرُورَةٍ «١» مُتَعَبِّدِ
لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا ... وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَهِبَ اللَّهَ يَرْهَبُهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَةً. وَالرَّهْبَانِيَّةُ وَالتَّرَهُّبُ التَّعَبُّدُ فِي صَوْمَعَةٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ (رُهْبَانٌ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُجْمَعُ (رُهْبَانٌ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَةً وَرَهَابِينَ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، قَالَ جَرِيرٌ فِي الْجَمْعِ:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ... وَالْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعُقُولِ الْفَادِرُ
الْفَادِرُ الْمُسِنُّ مِنَ الْوُعُولِ. وَيُقَالُ: الْعَظِيمُ، وَكَذَلِكَ الْفَدُورُ وَالْجَمْعُ فُدْرٌ وَفُدُورٌ وموضعها المفدرة، قال الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ آخَرُ فِي التَّوْحِيدِ:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلِ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيُصَلْ
مِنَ الصَّلَاةِ. وَالرَّهَابَةُ عَلَى وَزْنِ السَّحَابَةِ عَظْمٌ فِي الصَّدْرِ مُشْرِفٌ عَلَى الْبَطْنِ مِثْلُ اللِّسَانِ. وَهَذَا الْمَدْحُ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ دُونَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ: (وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن الانقياد إلى الحق.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٣]
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أَيْ بِالدَّمْعِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَذَا«يَقُولُونَ». وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي «٢»
وَخَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ إِذَا كَثُرَ وَانْتَشَرَ كَفَيْضِ الْمَاءِ عَنِ الْكَثْرَةِ. وَهَذِهِ أَحْوَالُ الْعُلَمَاءِ يَبْكُونَ وَلَا يُصْعَقُونَ، وَيَسْأَلُونَ وَلَا يَصِيحُونَ، وَيَتَحَازَنُونَ وَلَا يَتَمَوَّتُونَ، كما قال تعالى:


(١). الصرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصر على تركهن وفي الحديث«لا صرورة في الإسلام» وهو التبتل.
(٢). المحمل (كمرجل) علاقة السيف.

«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «١»»] الزمر: ٢٣] وَقَالَ:«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» وَفِي (الْأَنْفَالِ) «٢» يَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ أَشَدَّ الْكُفَّارِ تَمَرُّدًا وَعُتُوًّا وَعَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ الْيَهُودُ، وَيُضَاهِيهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً النَّصَارَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أَيْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قَوْلُهُ عز وجلوَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» «٣»] البقرة: ١٤٣] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِ نَبِيِّكَ وَكِتَابِكَ. وَمَعْنَى«فَاكْتُبْنا» اجْعَلْنَا، فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٤]
وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) بَيَّنَ اسْتِبْصَارَهُمْ فِي الدِّينِ، أَيْ يَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ، أَيْ وَمَا لَنَا تَارِكِينَ الْإِيمَانَ. فَ«- نُؤْمِنُ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) أَيْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:«أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «٤»] الأنبياء: ١٠٥] يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ أَيْ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا ربنا الجنة. وقيل:«نَطْمَعُ» بِمَعْنَى (فِي) كَمَا تُذْكَرُ (فِي) بِمَعْنَى (مَعَ) تَقُولُ: كُنْتُ فِيمَنْ لَقِيَ الْأَمِيرُ، أَيْ مَعَ مَنْ لَقِيَ الْأَمِيرُ. وَالطَّمَعُ يَكُونُ مُخَفَّفًا وَغَيْرَ مُخَفَّفٍ، يُقَالُ: طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعَةً وَطَمَاعِيَةً مخفف فهو طمع.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٨٥ الى ٨٦]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)


(١). راجع ج ١٥ ص ٢٤٨.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٦٥.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٥٣.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٤٩.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِ مَقَالِهِمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُؤَالَهُمْ وَحَقَّقَ طَمَعَهُمْ- وَهَكَذَا مَنْ خَلَصَ إِيمَانُهُ وَصَدَقَ يَقِينُهُ يَكُونُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وَالْجَحِيمُ النَّارُ الشَّدِيدَةُ الِاتِّقَادُ. يُقَالُ: جَحَمَ فُلَانٌ النَّارَ إِذَا شَدَّدَ إِيقَادَهَا. وَيُقَالُ أَيْضًا لِعَيْنِ الْأَسَدِ: جَحْمَةٌ، لِشِدَّةِ اتِّقَادِهَا. وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْحَرْبِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا ... حِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالْمِرَاحُ «١»
إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّارُ فِي ... النَّجَدَاتِ وَالْفَرَسُ الوقاح «٢»

[سورة المائدة (٥): آية ٨٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا). فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ مِنَ اللَّحْمِ انْتَشَرْتُ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي فَحَرَّمْتُ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ رضي الله عنهم، اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَلَا الْوَدَكَ «٣» وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، وَيَتَرَهَّبُوا وَيَجُبُّوا الْمَذَاكِيرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذكر النزول وهي:


(١). في ع: لا تبقى. المزاح. [.....]
(٢). وقح الحافر صلب.
(٣). الودك: الدسم.

الثَّانِيَةُ- خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ:«وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا- فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: [أَمَّا] «١» أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ «٢» الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ:«أَنْتُمُ الَّذِينَ «٣» قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَخَرَّجَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّلَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لَاخْتَصَيْنَا. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه فِي مُسْنَدِهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ قَالَ: فمر رجل بغار فيه شي مِنَ الْمَاءِ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ، وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْبَقْلِ، وَيَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْتُ وَإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي مِنَ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ، فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ«إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ ولا النصرانية وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ «٤» أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً»،.


(١). من ك وهـ وع.
(٢). من ك وهـ وع.
(٣). في ج وع وك: أنتم القائلون.
(٤). الغدوة المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح.

الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا شَابَهَهَا وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي مَعْنَاهَا رَدٌّ عَلَى غُلَاةِ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَطَالَةِ مِنَ الْمُتَصَوِّفِينَ، إِذْ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَدْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ، وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقِهِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تحريم شي مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ بِهَا بَعْضَ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ النَّبِيُّ ﷺ التَّبَتُّلَ عَلَى ابْنِ مَظْعُونٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لا فضل في ترك شي مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ وَالْبِرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ مَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَسَنَّهُ لِأُمَّتِهِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ، إِذْ كَانَ خَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ آثَرَ لِبَاسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاسِ ذَلِكَ مِنْ حِلِّهِ، وَآثَرَ أَكْلَ الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ وَتَرْكَ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَذَرًا مِنْ عَارِضِ الْحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخَيْرَ «١» فِي غَيْرِ الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَصَرْفِ مَا فَضُلَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِنْسَانِ صَلَاحُ نَفْسِهِ وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، ولا شي أَضَرَّ لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيئَةِ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لِأَدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ. وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: يَقُولُ لَا يُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَفَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إِنَّ جَارَكَ جَاهِلٌ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَجِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا إِذَا كَانَ الدِّينُ قَوَامًا، وَلَمْ يَكُنِ الْمَالُ حَرَامًا، فَأَمَّا إِذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ أَفْضَلُ، وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ ﷺ أَفْضَلُ وَأَعْلَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا نَهَى ﷺ عَنِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُكَاثِرٌ بِأُمَّتِهِ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُقَاتِلٌ بِهِمْ طَوَائِفَ الْكُفَّارِ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ يُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يكثر النسل.


(١). في ج وك: الفضل.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَلا تَعْتَدُوا» قِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَعْتَدُوا فَتُحِلُّوا «١» مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَالنَّهْيَانِ عَلَى هَذَا تَضَمَّنَا الطَّرَفَيْنِ، أَيْ لَا تُشَدِّدُوا فَتُحَرِّمُوا حَلَالًا، وَلَا تَتَرَخَّصُوا فَتُحِلُّوا حَرَامًا، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ لِقَوْلِهِ:«تُحَرِّمُوا»، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، أَيْ لَا تُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَشَرَعَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ أَمَةً لَهُ، أَوْ شَيْئًا مما أحل الله فلا شي عليه، ولا كفارة في شي مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِتَحْرِيمِ الْأَمَةِ عِتْقَهَا صَارَتْ حُرَّةً وَحَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ] بَعْدَ عِتْقِهَا [«٢». وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فإنه تُطَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ بالطلاق صريحا وكناية، وحرام مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي سُورَةِ (التَّحْرِيمِ) «٣» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا صَارَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. لَغْوُ الْيَمِينِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ. وَهُوَ معنى قول الشافعي على ما يأتي.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٨]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: الْأَكْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخُصَّ الْأَكْلُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَأَخَصُّ الِانْتِفَاعَاتِ بِالْإِنْسَانِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فِي«الْأَعْرَافِ» «٤»] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [«٥». وَأَمَّا شَهْوَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُلِذَّةِ، وَمُنَازَعَةُ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْأَنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ، فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا وَقَهْرَهَا عَنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أحرى ليذل له قيادها، ويهون عليه


(١). في ل: وتقتحموا.
(٢). من ج وك وع.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٧٧.
(٤). راجع ج ٧ ص ١٨٩.
(٥). من ج وك وع.

عِنَادُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ يَصِيرُ أَسِيرَ شَهَوَاتِهَا، وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا. حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ كَانَ يَمُرُّ عَلَى الْفَاكِهَةِ فَيَشْتَهِيهَا فَيَقُولُ: مَوْعِدُكِ الْجَنَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنِ ارْتِيَاحِهَا وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى، لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنْعِهَا أُخْرَى جَمْعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ النَّصَفُ مِنْ غَيْرِ شَيْنٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ وَالرِّزْقِ فِي«البقرة» «١» والحمد لله.

[سورة المائدة (٥): آية ٨٩]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
فِيهِ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ مَسَأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) تَقَدَّمَ مَعْنَى اللَّغْوِ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢» وَمَعْنَى«فِي أَيْمانِكُمْ» أَيْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ. وَقِيلَ: وَيَمِينٌ فَعِيلٌ مِنَ الْيُمْنِ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَحْفَظُ الْحُقُوقَ. وَيَمِينٌ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُجْمَعُ أَيْمَانٌ وَأَيْمُنٌ. قَالَ زُهَيْرٌ:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ «٣»

الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ حَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَتْ«لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» قَالُوا: كَيْفَ نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية.


(١). راجع ج ١ ص ١٧٧ في (الرزق) وص ٤٣٢ (في الاعتداء) من الجزء نفسه.
(٢). راجع ج ٣ ص ٩٩ وما بعدها. [.....]
(٣). عجز البيت:
بمقسمة تمور بها الدماء
.

وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، إِذَا أَتَيْتُمْ؟؟ بِالْيَمِينِ ثُمَّ أَلْغَيْتُمُوهَا- أَيْ أَسْقَطْتُمْ حُكْمَهَا بِالتَّكْفِيرِ وَكَفَّرْتُمْ- فَلَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ تُلْغُوهُ، أَيْ فَلَمْ تُكَفِّرُوا، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْحَلِفَ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا. وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الْحَلَالِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوٌ، كَمَا أَنَّ تَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَغْوٌ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: اسْتَحْلَلْتُ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَتَقْتَضِي الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَغْوًا فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، فَقَالَ:«لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» أَيْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ لَهُ أَيْتَامٌ وَضَيْفٌ، فَانْقَلَبَ مِنْ شُغْلِهِ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. فَقَالَ: أَعَشَّيْتُمْ ضَيْفِي؟ فَقَالُوا: انْتَظَرْنَاكَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا آكُلُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ ضَيْفُهُ: وَمَا أَنَا بِالَّذِي يَأْكُلُ، وَقَالَ أَيْتَامُهُ: وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَكَلَ وَأَكَلُوا. ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ:«أَطَعْتَ الرَّحْمَنَ وَعَصَيْتَ الشَّيْطَانَ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّالِثَةُ- الْأَيْمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا. خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا عَبْثَرُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ، فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا فَلَا يَفْعَلُ، وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ فَالرَّجُلُ يَحْلِفُ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي (جَامِعِهِ) وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ سُفْيَانُ: الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَيَفْعَلُ، أَوْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ثُمَّ لَا يَفْعَلُ، وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ وَقَدْ فَعَلَ، أَوْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ وَمَا فَعَلَ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يَرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ

فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ. قَالَ: وَإِنْ كان الحالف على أنه لم يفعل هذا وَكَذَا وَقَدْ فَعَلَ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد ابن حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ يُكَفِّرُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ] قَوْلِ [«١» الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: أَمِيلُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. قَالَ: فَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ الَّذِي اتَّفَقَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَغْوٌ فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدُهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ عِنْدَ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) مُخَفَّفُ الْقَافِ مِنَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كعقد البيع، قال الشاعر «٢»:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
فَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ مُنْفَعِلَةٌ مِنَ الْعَقْدِ، وَهِيَ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَلَّا يَفْعَلَ فَفَعَلَ، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فَلَا يَفْعَلُ كَمَا تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الَّتِي يَحُلُّهَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى ما يأتي. وقرى«عَاقَدْتُمْ» بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ فِي الْأَكْثَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مَنْ حُلِفَ لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى بِمَا عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، لِأَنَّ عَاقَدَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى عَاهَدَ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الْجَرِّ، لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى عَاهَدَ، وَعَاهَدَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ جَرٍّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» «٣»] الفتح: ١٠] وَهَذَا كَمَا عَدَّيْتَ«نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» بِإِلَى، وَبَابُهَا أَنْ تَقُولَ نَادَيْتُ زَيْدًا«وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ» «٤»] مريم: ٥٢] لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى دَعَوْتُ عُدِّيَ بِإِلَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ» «٥»] فصلت: ٣٣] ثُمَّ اتَّسَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«عَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ الْأَيْمَانَ» «٦». فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَوَصَلَ الْفِعْلُ إِلَى المفعول فصار عاقدتموه،


(١). في ج، ك، ع.
(٢). البيت للحطيئة يمدح قوما عقدوا لجارهم عهدا فوفوا به ولم يخفروه. وقد تقدم شرحه بهامش ص ٣٢ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٧٧.
(٤). راجع ج ١١ ص ١١٣.
(٥). راجع ج ١٥ ص ٣٥٩.
(٦). كذا في الأصول إلا ز، ففيه: في قوله عاقدتم ... إلخ.

ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ تعالى:» فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «١» «] الحجر: ٩٤]. أَوْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَمَا قَالَ تعالى:» قاتَلَهُمُ اللَّهُ««٢»] التوبة: ٣٠] أَيْ قَتَلَهُمْ. وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ وَاحِدٍ بِغَيْرِ مَعْنَى (فَاعَلْتُ) كَقَوْلِهِمْ: سافرت وظاهرت. وقرى عَقَّدْتُمْ» بِتَشْدِيدِ الْقَافِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ تَعَمَّدْتُمْ أَيْ قَصَدْتُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ التَّشْدِيدَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِلَّا إِذَا كُرِّرَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال:] إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي [فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي التَّكْرِيرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَسْتُ آمَنَ أَنْ يَلْزَمَ مَنْ قَرَأَ بِتِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَلَّا تُوجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فِي الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُرَدِّدَهَا مِرَارًا. وهذا قول خلاف الإجماع. روى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا حَنِثَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَ الْيَمِينَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، فَإِذَا وَكَّدَ الْيَمِينَ أَعْتَقَ رَقَبَةً. قِيلَ: لِنَافِعٍ مَا مَعْنَى وَكَّدَ الْيَمِينَ؟ قَالَ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا. الْخَامِسَةُ- اخْتُلِفَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هَلْ هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا يَمِينُ مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ وَكَذِبٍ فَلَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، لِأَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَلْبِ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُ النبي ﷺ:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَقَوْلُهُ:«فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِمَّا يُسْتَقْبَلُ فَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ أَلَّا يَفْعَلَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَيَفْعَلُهُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُكَفِّرَ وَإِنْ أَثِمَ وَعَمَدَ الْحَلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ،


(١). راجع ج ١٠ ص ٦١.
(٢). راجع ج ٨ ص ١١٦.

وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دَالَّانِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ»»
] البقرة: ٢٢٤] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ أَلَّا يَصِلَ قَرَابَتَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا فِي التَّكْفِيرِ، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَعْتَلَّ بِاللَّهِ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ. وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا حَرَامًا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْآيَةُ وَرَدَتْ بِقَسَمَيْنِ: لَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، وَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ النَّاسِ فَدَعْ مَا بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قَسَمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. قُلْتُ: خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ:«الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:«عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:] الْيَمِينُ الْغَمُوسُ [قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ:] الَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ [. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:] مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:] وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ [وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ «٢» يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ [فَنَزَلَتْ«إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا» «٣»] آل عمران: ٧٧] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ كَفَّارَةً لَسَقَطَ جُرْمُهُ، وَلَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَعِيدَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَالِفُ الْكَذِبَ، وَاسْتِحْلَالَ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِخْفَافَ بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّهَاوُنَ بِهَا وَتَعْظِيمَ الدُّنْيَا؟ فَأَهَانَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَعَظَّمَ مَا حَقَّرَهُ اللَّهُ وَحَسْبُكَ. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ. السَّادِسَةُ- الْحَالِفُ بِأَلَّا يَفْعَلَ عَلَى بِرٍّ مَا لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلَ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ إِنْ فَعَلْتُ. وَإِذَا حَلَفَ بِأَنْ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ عَلَى حِنْثٍ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ فَعَلَ بَرَّ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ.


(١). راجع ج ٣ ص ٩٦.
(٢). اليمين الصبر التي ألزم بها وأكره عليها. والصبر الإكراه، يقال: صبر الحاكم فلانا على يمين صبرا أي أكرهه.
(٣). راجع ج ٤ ص ١١٩.

السَّابِعَةُ- قَوْلُ الْحَالِفِ: لَأَفْعَلَنَّ، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَقَوْلِهِ: لَا أَفْعَلُ، وَإِنْ فَعَلْتُ، بِمَنْزِلَةِ النَّهْيِ. فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَفْعَلَ جَمِيعَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: مِثَالُهُ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَأْكُلَ جَمِيعَهُ: لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَآكُلَنَّ- مُطْلَقًا- فَإِنَّهُ يَبَرُّ بِأَقَلِّ جُزْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، لِإِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا فِي النَّهْيِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَلَّا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ دَارًا فَأَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا الشَّارِعَ غَلَّظَ جِهَةَ التَّحْرِيمِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ» «١»] النساء: ٢٢]، فَمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَرُمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي جِهَةِ التَّحْلِيلِ بِأَوَّلِ الِاسْمِ فَقَالَ:] لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ [. الثَّامِنَةُ- الْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى، كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَلِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، كَعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِ ذَاتِهِ، لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِقَدِيمٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، فَكَانَ الْحَالِفُ بِهَا كَالْحَالِفِ بِالذَّاتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْجَنَّةِ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النَّارِ: وعزتك لا يسمع بها أحدا فَيَدْخُلَهَا. وَخَرَّجَا أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ ﷺ] لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ [وَفَى رِوَايَةٍ] لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ [وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: وَاللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَحَنِثَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ نَقُولُ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. قُلْتُ: قَدْ نُقِلَ (فِي بَابِ ذِكْرِ الْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ)، وَقَالَ يَعْقُوبُ: مَنْ حَلَفَ بِالرَّحْمَنِ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَالرَّحْمَنُ مِنْ أَسْمَائِهِ سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه.


(١). راجع ج ٥ ص ١٠٣.

التَّاسِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي وَحَقِّ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِ اللَّهِ وَلَعَمْرِ اللَّهِ وَايْمِ اللَّهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّهَا أَيْمَانٌ تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي وَحَقِّ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ، يَمِينٌ إِنْ نَوَى بِهَا الْيَمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَحَقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ وَقُدْرَتُهُ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَلَعَمْرِ اللَّهِ وَايْمِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِذَا قَالَ: وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَأَمَانَةِ اللَّهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي وَحَقِّ اللَّهِ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهُ عَنْهُ الرَّازِيُّ. وَكَذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَأَمَانَتُهُ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: هِيَ يَمِينٌ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: وَعِلْمُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ وَهُوَ الْمُحْدَثُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. وَذَهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَقْدُورِ، فَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي الْمَعْلُومِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:] وَايْمِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ [فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَايْمِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا أَرَادَ بِايْمِ اللَّهِ يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا نَكْرَهُ ذَلِكَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ ﷺ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاللَّهِ. وَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ [وَهَذَا حَصْرٌ فِي عَدَمِ الْحَلِفِ بكل شي سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ وَلَا تحلفوا إلا بالله وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ [ثُمَّ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِمَنْ قَالَ: وَآدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ [. وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ الْأَمْرِ وَأَنَا حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَحَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: بِئْسَ مَا قُلْتَ: وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتُ هُجْرًا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:] قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شي قَدِيرٍ وَانْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَا تَعُدْ [. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ نَطَقَ بِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَكْفِيرًا لِتِلْكَ اللَّفْظَةِ، وَتَذْكِيرًا مِنَ الْغَفْلَةِ، وَإِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ. وَخَصَّ اللَّاتَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ حُكْمُهَا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا، وَكَذَا مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي اللَّاتِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا اعْتَادُوا الْمُقَامَرَةَ وَهِيَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نصراني أو برئ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ أُشْرِكُ بِاللَّهِ أَوْ أَكْفُرُ بِاللَّهِ: إِنَّهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ، وَلَا تَلْزَمُ فِيمَا إِذَا قَالَ: وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِيغَةِ الْأَيْمَانِ. وَمُتَمَسَّكُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ مَوْلَاتَهُ أَرَادَتْ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ، وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا

فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأُمَّ سَلَمَةَ فَكُلُّهُمْ قَالَ لَهَا: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَكُونِي مِثْلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ؟ وَأَمَرُوهَا أَنْ تُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهَا وَتُخَلِّيَ بَيْنَهُمَا. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ مَوْلَاتِي لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ إِنْ لَمْ أُفَرِّقْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَتِكَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: إِنَّ مَوْلَاتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي، فَقَالَتِ انْطَلِقْ إِلَى مَوْلَاتِكَ فَقُلْ لَهَا: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكِ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَجَاءَ حَتَّى انْتَهَى إلى الباب فقال: ها هنا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، فَقَالَتْ: إِنِّي جَعَلْتُ كُلَّ مَالٍ لِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَمِمَّ تَأْكُلِينَ؟ قَالَتْ: وَقُلْتُ أَنَا يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَيَوْمًا مَجُوسِيَّةٌ، فَقَالَ: إِنْ تَهَوَّدْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَنَصَّرْتِ قُتِلْتِ وَإِنْ تَمَجَّسْتِ قُتِلْتِ، قَالَتْ: فَمَا تأمرني؟ قال: تكفري عَنْ يَمِينِكِ، وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ فَتَاكِ وَفَتَاتِكِ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَنَّهَا يَمِينٌ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ أُقْسِمُ أو أشهد ليكون كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ بِاللَّهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَيْمَانًا عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا أَرَادَ بِاللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِاللَّهِ لَمْ تَكُنْ أَيْمَانًا تُكَفَّرُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هِيَ أَيْمَانٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ أَيْمَانًا حَتَّى يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ. وَرَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- إِذَا قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، فَإِنْ أَرَادَ سُؤَالَهُ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْيَمِينَ كَانَ ما ذكرناه آنفا. الخامشة عَشْرَةَ- مَنْ حَلَفَ بِمَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَيْسَ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ: وَخَلْقِ اللَّهِ ورزقه وبيته لا شي عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَحَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِذَا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوِ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: الِاسْتِثْنَاءُ بَدَلٌ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَتْ حَلًّا لِلْيَمِينِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ حَلٌّ لِلْيَمِينِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا مَنْطُوقًا

بِهِ لَفْظًا، لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:] مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى فَإِنْ شَاءَ مَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ غَيْرِ حِنْثٍ [فَإِنْ نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ أَوْ قَطَعَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا وَلَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ، قَالَ: فَإِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فَرَغَتْ عَارِيَةً مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَوُرُودُهَا بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ كَالتَّرَاخِي، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ] مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى [وَالْفَاءُ، لِلتَّعْقِيبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا تَنْحَلَّ يَمِينٌ ابْتُدِئَ عَقْدُهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى اسْتَثْنَى فِي نَفْسِهِ تَخْصِيصَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُسْمِعَ الْمَحْلُوفَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ إِذَا حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمَحْلُوفُ لَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُعْتَبَرُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى يُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْكَلَامِ يَقَعُ بِالْكَلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى حَسَبٍ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ بَلْ كَانَتْ مُسْتَوْفَاةً مِنْهُ، وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهَا حُكْمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُدْرِكُ الِاسْتِثْنَاءُ الْيَمِينَ بَعْدَ سَنَةٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ» «١»] الفرقان: ٦٨] الْآيَةَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
عَامٍ نَزَلَ«إِلَّا مَنْ تابَ»] مريم: ٦٠]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ قَالَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنِ اسْتَثْنَى قَبْلَ أَنْ يَقُومَ أَوْ يَتَكَلَّمَ فَلَهُ ثُنْيَاهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ: يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ قَدْرَ حَلْبِ النَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْآيَةِ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُ فِيهَا، لِأَنَّ الآيتين كانتا متصلتين في علم الله تعالى وَفِي لَوْحِهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةٍ عَلِمَ الله


(١). راجع ج ١٣ ص ٧٥. [.....]

ذَلِكَ فِيهَا، أَمَا إِنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا فَرْعٌ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ الْأَوَّلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَاسْتَثْنَى فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَشِيئَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ إِرْهَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ] لَهُ [«١»، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ «٢»، فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا. قُلْتُ: وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْآيَةَ الْأُولَى وَأَخْفَى الثَّانِيَةَ، فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ إِذَا حَلَفَ إِرْهَابًا وَأَخْفَى الِاسْتِثْنَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ «٣» يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ «٤»، وَكَانَتِ الْكُتُبُ تَأْتِي إِلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ، فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ وَيُقْطَعُ بِهِ عَنْ طَلَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَضَى غَرَضًا مِنَ الطَّلَبِ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ، شَدَّ رَحْلَهُ وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلَ، فَقَرَأَ فِيهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا يَقْرَؤُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهُ مِنْ تَحْصِيلِ حَرْفٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّةِ قُمَاشَهُ «٥» وَخَرَجَ إِلَى بَابِ الْحَلَبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ، وَتَقَدَّمَهُ الْكَرِيُّ «٦» بِالدَّابَّةِ وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ «٧» يَبْتَاعُ مِنْهُ سُفْرَتَهُ «٨»، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إِذْ سَمِعَهُ يَقُولُ لِفَامِيٍّ آخَرَ: أَمَا سَمِعْتَ الْعَالِمَ يَقُولُ- يَعْنِي الْوَاعِظَ- إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، لَقَدِ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَالِي مُنْذُ سَمِعْتُهُ فَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ:«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» «٩»] ص: ٤٤] وَمَا الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ! فَلَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ: بَلَدٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَامِيُّونَ بِهَذَا الْحَظِّ مِنَ الْعِلْمِ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الْمَرَاغَةِ؟ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا، وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ وَحَلَّلَهُ مِنَ الْكِرَاءِ وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ.


(١). الزيادة عن ابن العربي.
(٢). في ع: النية فإن حضرته نية. إلخ.
(٣). نسبة إلى المراغة، وهي بلدة مشهورة من بلاد أذربيجان.
(٤). مدينة السلام بغداد وقيل: سميت بذلك لان دجلة يقال لها وادي السلام وقيل: سماها المنصور بذلك تفاؤلا بالسلامة. وتسمى أيضا بدار السلام على التشبيه بالجنة. (معجم البلدان).
(٥). القماش: متاع البيت.
(٦). الكرى: المستأجر.
(٧). الفامي هاهنا الخباز.
(٨). السفرة: طعام يتخذه المسافر.
(٩). راجع ج ١٥ ص ٢١٢.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَقَعُ فِي كُلِّ يَمِينٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى- قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ عز وجل لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكَفَّارَتُهُ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ هَلْ تُجْزِئُ أَمْ لَا؟ - بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ مُبَاحٌ حَسَنٌ وَهُوَ عِنْدُهُمْ أَوْلَى- عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: يُجْزِئُ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُجْزِئُ بِوَجْهٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ، وَجْهُ الْجَوَازِ مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ» فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْيَمِينِ وَالْمَعَانِي تُضَافُ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ بَدَلٌ عَنِ الْبِرِّ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) زَادَ النَّسَائِيُّ (وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ [وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الْإِثْمِ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُرْفَعُ فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا، وَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:«إِذا حَلَفْتُمْ» أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ فُعِلَتْ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَمْ تَصِحَّ اعْتِبَارًا بِالصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ بِالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا تُجْزِئُ بِالصَّوْمِ، لِأَنَّ عَمَلَ الْبَدَنِ لَا يَقُومُ قَبْلَ وَقْتِهِ. وَيُجْزِئُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْكَفَّارَةِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ فَخَيَّرَ فِيهَا، وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ، وَبَدَأَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَفْضَلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ شبعهم،

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى التَّخْيِيرِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ، فَإِنْ عَلِمْتَ مُحْتَاجًا فَالطَّعَامُ أَفْضَلُ، لِأَنَّكَ إِذَا أَعْتَقْتَ لَمْ تَدْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْتَ مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إِلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ تَلِيهِ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ الْحَاجَةَ بَدَأَ بِالْمُقَدَّمِ الْمُهِمِّ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لَا بُدَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يُخْرَجُ لَهُمْ، وَدَفْعِهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ» «١»] الانعام: ١٤] وَفِي الْحَدِيثِ (أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْجَدَّ السُّدُسَ)، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيكُ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الطَّعَامِ إِطْعَامٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا» «٢»] الإنسان: ٨] فَبِأَيِ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) «٣» أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ، وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ منزلتين ونصفا بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ] خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا [. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حدثنا عبد الرحمن ابن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ شِدَّةٌ، فَنَزَلَتْ:«مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ». وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- الْإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ مُدٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ الْعَشَرَةِ، إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَاخْتُلِفَ


(١). راجع ص ٣٩٦ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٥.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٥٣ وما بعدها.

إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُجْزِئُهُ الْمُدُّ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: أَفْتَى ابْنُ وَهْبٍ بِمِصْرَ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ. وَأَشْهَبُ بِمُدٍّ وَثُلُثٍ، قَالَ: وَإِنَّ مُدًّا وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْشِ الْأَمْصَارِ فِي الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ مِنَ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا، عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ،] رضي الله عنهم [«١» وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ] مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ «٢» أَهْلِيكُمْ [، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِمٍ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطْعِمَهُ، وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ، فَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي (الْمُدَوَّنَةِ) وَغَيْرِ كِتَابٍ لَا يُجْزِئُ، وَفِي (الْأَسَدِيَّةِ) أَنَّهُ يُجْزِئُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَيُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْمُكَفِّرَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّعِيرَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ ﷺ:] صَاعًا مِنْ طَعَامٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ [فَفَصَّلَ ذِكْرُهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ فِيهِ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ مَالِكٌ: إِنْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَكْلِ، وَلَكِنْ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: لَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ الْعَشَرَةِ وَجْبَةً وَاحِدَةً، يَعْنِي غَدَاءً دُونَ عَشَاءٍ، أَوْ عَشَاءً دُونَ غَدَاءٍ، حَتَّى يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، قَالَ أَبُو عمر: وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار.


(١). من ع.
(٢). هذه الزيادة غير موجودة في ابن ماجة في هذا الحديث. [.....]

السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يُجْزِئُ الْخُبْزُ قَفَارًا «١» بَلْ يُعْطِي مَعَهُ إِدَامَهُ زَيْتًا أَوْ كَشْكًا أَوْ كَامَخًا «٢» أَوْ مَا تَيَسَّرَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا وَاجِبَةً أَمَّا إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ السُّكَّرَ- نَعَمْ- وَاللَّحْمَ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَضَمَّنُهُ. قُلْتُ: نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْوَسَطِ يَقْتَضِي الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ أَوِ الْخَلَّ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَشْكِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ] وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ حَتَّى يَشْبَعُوا أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ انس ابن مَالِكٍ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْنَعُونَ صَرْفَ الْجَمِيعِ إِلَى وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا صَرَفَ الْجَمِيعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْفِعْلُ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي لَا يُمْنَعُ مِنَ الذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنَّ اسْمَ الْمِسْكِينِ يَتَنَاوَلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامٍ، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الْأَيَّامِ يَقُومُ مَقَامَ أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّعْرِيفُ بِقَدْرِ مَا يُطْعِمُ «٣»، فَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ. لِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ. وَدَلِيلُنَا نَصُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكِفَايَتَهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا، فَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تبارك وتعالى وَلِدُعَائِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُكَفِّرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكَفَّارَتُهُ) الضَّمِيرُ عَلَى الصناعة النحوية عائد على (بِما) وَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. أَوْ يَعُودُ عَلَى إِثْمِ الْحِنْثِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه.


(١). خبز قفار: غير مأدوم مأخوذ من البلد الذي لا شي فيه.
(٢). الكامخ: نوع من الأدم، معرب.
(٣). في ع وك: يطعمهم.

الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«أَهْلِيكُمْ» هُوَ جَمْعُ أهل على السلامة. وقرا جعفر ابن مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: (أَهَالِيكُمْ) وَهَذَا جَمْعٌ مُكَسَّرٌ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: أَهَالٍ بِمَنْزِلَةِ لَيَالٍ وَاحِدُهَا أَهْلَاتٍ وَلَيْلَاتٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَهْلٌ وَأَهْلَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
وَأَهْلَةِ وُدٍّ قَدْ تَبَرَّيْتُ وُدَّهُمْ ... وَأَبْلَيْتُهُمْ فِي الْجَهْدِ حَمْدِي وَنَائِلِي
يَقُولُ: تَعَرَّضْتُ لِوُدِّهِمْ، قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ. الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قُرِئَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَضَمِّهَا هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ إِسْوَةٍ وَأُسْوَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ الْيَمَانِيُّ: (أَوْ كَإِسْوَتِهِمْ) يَعْنِي كَإِسْوَةِ أَهْلِكَ. وَالْكِسْوَةُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْخِمَارُ، وَهَكَذَا حُكْمُ الصِّغَارِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي (الْعُتْبِيَّةِ): تُكْسَى الصَّغِيرَةُ كِسْوَةَ كَبِيرَةٍ، وَالصَّغِيرُ كِسْوَةَ كَبِيرٍ، قِيَاسًا عَلَى الطَّعَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَذَلِكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُغِيرَةُ: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الثَّوْبُ التُّبَّانَ «٢»، أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ تُجْزِئُ عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا كَانَ أَحْرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا أَنَّ عليه طعاما يشبعه من الجوع فَأَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيهِ، وَاللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِعَوْنِهِ. قُلْتُ: قَدْ رَاعَى قَوْمٌ مَعْهُودَ الزِّيِّ وَالْكِسْوَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا مِمَّا قَدْ يُتَزَيَّا «٣» بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَإِزَارٌ، أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قباء أو كساء.


(١). هو أبو الطمحان القيني: يقول: رب من هو أهل للود قد تعرضت له، وبذلت له في ذلك طاقتي من نائل. في التاج: بذلي ونائلي. وفي اللسان: في الحمد جهدي ونائلي.
(٢). التبان (بالضم والتشديد): سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة.
(٣). في ج: يتردى به، وفي ع: يؤتزر به.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْسِيَ عَنْهُ ثَوْبَينِ ثَوْبَيْنِ «١»، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ، وَهُوَ يَقُولُ: تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ! قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ. قُلْنَا: إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَى سَدِّ الْخَلَّةِ فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ؟] وَأَيْنَ [«٢» نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ، وَالِانْتِقَالِ بالبيان من نوع إلى نوع؟! الثالثة والعشرون- إِذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إِلَى ذِمِّيٍّ أَوْ إِلَى عَبْدٍ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ. قُلْنَا: هَذَا يَخُصُّهُ بِأَنْ يَقُولَ جُزْءٌ مِنَ الْمَالِ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ لِلْكَافِرِ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ لِلْمُرْتَدِّ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خُصَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِاسْتِغْنَائِهِ بِنَفَقَةِ سَيِّدِهِ فَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ كَالْغَنِيِّ. الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) التَّحْرِيرُ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَسْرِ وَالْمَشَقَّاتِ وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ مَرْيَمَ:» إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا «٣» "] آل عمران: ٣٥] أَيْ مِنْ شُغُوبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ:
أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ
أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ. وَخَصَّ الرَّقَبَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْغُلُّ وَالتَّوَثُّقُ غَالِبًا مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْمِلْكِ فَأُضِيفَ التَّحْرِيرُ إِلَيْهَا. الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إِلَّا إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَامِلَةٍ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ لِغَيْرِهِ، وَلَا عَتَاقَةُ بَعْضِهَا، وَلَا عِتْقٌ إِلَى أَجَلٍ، وَلَا كِتَابَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ، وَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ، وَلَا يَكُونُ بِهَا مِنَ الْهَرَمِ وَالزَّمَانَةِ مَا يَضُرُّ بِهَا فِي الِاكْتِسَابِ، سَلِيمَةً غير معيبة،


(١). أي ثوبان لكل مسكين.
(٢). الزيادة عن ابن العربي.
(٣). راجع ج ٤ ص ٦٥

خِلَافًا لِدَاوُدَ فِي تَجْوِيزِهِ إِعْتَاقَ الْمَعِيبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحَلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ، وَأَيْضًا فَكُلُّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُقَيَّدِ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ فِيهَا شِرْكٌ، لقوله تعالى:«فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ»] النساء: ٩٢] وَبَعْضُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَكُونُ فِيهَا عَقْدُ عِتْقٍ، لِأَنَّ التَّحْرِيرَ يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ عِتْقٍ دُونَ تَنْجِيزِ عِتْقٍ مُقَدَّمٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: سَلِيمَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَالْعَمْيَاءُ نَاقِصَةٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ] مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ [وَهَذَا نَصٌّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَعْوَرِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ، كذلك في الأصم والخصي. السادسة والثلاثون- من أخرج مَالًا لِيُعْتِقَ رَقَبَةً فِي كَفَّارَةٍ فَتَلِفَ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مُخْرِجِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَةً فَتَلِفَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ. السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ- اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا مَاتَ الْحَالِفُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ تُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ فِي الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ إِنْ أَوْصَى بِهَا. الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ- مَنْ حَلَفَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَعْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عُتِقَ، فَالْمُرَاعَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِوَقْتِ التَّكْفِيرِ لَا وَقْتِ الْحِنْثِ. التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ «١» آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ) اللِّجَاجُ فِي الْيَمِينِ هُوَ الْمُضِيُّ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ ومشقة، وترك ما فيه منفعة عاجلة


(١). (في أهله) أي في قطيعتهم كالحلف على ألا يكلمهم وذكر الأهل في هذا المقام للمبالغة. راجع شرح الحديث في هامش ص مسلم ط الآستانة ج ٥ ص ٨٨.

أو آجلة، فإن كان شي مِنْ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى بِهِ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ وَفِعْلُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَعْتَلُّ بِالْيَمِينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ» «١»] البقرة: ٢٢٤] وَقَالَ عليه السلام:] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ [أَيِ الذِي هُوَ أَكْثَرُ خَيْرًا. الْمُوَفِّيَةُ أَرْبَعِينَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ:] الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ [قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ وَهُوَ يَنْوِي غَيْرَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا عَنْ إِثْمِ تِلْكَ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:] يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ [. وَرُوِيَ] يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ [خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ لِطَالِبِهِ فِي حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ، أَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ أَوْ شَفَتَيْهِ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، لَمْ يَنْفَعْهُ اسْتِثْنَاؤُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النِّيَّةَ نِيَّةُ الْمَحْلُوفِ لَهُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ لَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ مِنْهُ. هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ. الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) مَعْنَاهُ لَمْ يَجِدْ فِي مِلْكِهِ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوْ عِتْقِ الرَّقَبَةِ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا عَدِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَشْيَاءَ صَامَ. وَالْعَدَمُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِمَغِيبِ الْمَالِ] عَنْهُ [«٢» أَوْ عَدَمِهِ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَنْتَظِرُ إِلَى بَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ] وَالشَّرْطِ مِنَ [«٣» الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ، فَلْيُكَفِّرْ مَكَانَهُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ». وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَضْلٌ يُطْعِمُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ تَفْضُلُ عَنْهُ نَفَقَةُ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصُومُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْحَانِثِ


(١). راجع ج ٣ ص ٩٦.
(٢). من ج وهـ وع وك.
(٣). الزيادة عن ابن العربي.

فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ أَطْعَمَ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْجُوعَ، أَوْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَطْعَمَ مَا فَضَلَ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَعِيَالِهِ وَكِسْوَةٌ تَكُونُ لِكِفَايَتِهِمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا لِقَدْرِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِدٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ حسن. الثانية والأربعون- قوله تعالى: قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ (مُتَتَابِعَاتٍ) فَيُقَيَّدُ بِهَا الْمُطْلَقُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: يُجْزِئُهُ التَّفْرِيقُ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ وَقَدْ عُدِمَا. الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- مَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ نَاسِيًا فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الصِّيَامِ فِي (الْبَقَرَةِ)»
. الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِاتِّفَاقٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْهَا عَلَى الْعَبْدِ إِذَا حَنِثَ، فَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ، فَحَكَى عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُكَفِّرُ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَلَكِنْ يُكَفِّرُ بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَأَصْوَبُ ذَلِكَ أَنْ يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أن قَالَ: إِنْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فما هو بالبين، وفي قلبي منه شي. الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) أَيْ تَغْطِيَةُ أَيْمَانِكُمْ، وَكَفَّرْتُ الشَّيْءَ غَطَّيْتُهُ وَسَتَرْتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِعْلُ الْخَيْرِ الذي حلف في تركه.


(١). راجع ج ٢ ص ٣٢٢، وما بعدها. [.....]

وَتَرْجَمَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ (مَنْ قَالَ كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] مَنْ حَلَفَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فِيمَا لا يصلح فَبِرُّهُ أَلَّا يُتِمَّ عَلَى ذَلِكَ [«١» وَأَسْنَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا [. قُلْتُ: وَيَعْتَضِدُ هَذَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه حِينَ حَلَفَ أَلَّا يَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَحَلَفَتِ امْرَأَتُهُ أَلَّا تَطْعَمَهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، وَحَلَفَ الضَّيْفُ- أَوِ الْأَضْيَافُ- أَلَّا يَطْعَمَهُ أَوْ لَا يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَرُّوا وَحَنِثْتُ، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ، قَالَ:] بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ [قَالَ: وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ. السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَةِ غَيْرِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عز وجل، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ أَخْرَجَ ثُلُثَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما. وقال الشعبي وعطاء وطاوس: لا شي عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بن محمد: لا شي عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا يُوجِبُونَ فِي الْيَمِينِ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ كَفَّارَةً مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ عز وجل، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ عَبْدَ الصَّمَدِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عِنْدَهُ فِي الْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا بِالْمَشْيِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْحَالِفُ بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ فِي قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي


(١). ظاهره أنه البر شرعا فلا حاجة معه إلى كفارة أخرى لكن الأحاديث المشهورة تدل على وجوب الكفارة، فالحديث إن صح يحمل على إنه بمنزلة البر في كونه مطلوبا شرعا. (هامش ابن ماجة).

عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ- وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ. السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أَيْ بِالْبِدَارِ إِلَى مَا لَزِمَكُمْ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا حَنِثْتُمْ. وَقِيلَ: أَيْ بِتَرْكِ الْحَلِفِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَحْلِفُوا لَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تَقَدَّمُ مَعْنَى (الشُّكْرِ) وَ(لَعَلَّ) فِي (البقرة) «١» والحمد لله.

[سورة المائدة (٥): الآيات ٩٠ الى ٩٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، إِذَا كَانَتْ شَهَوَاتٍ وَعَادَاتٍ تَلَبَّسُوا بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَغَلَبَتْ عَلَى النُّفُوسِ، فَكَانَ نَفْيٌ «٢» مِنْهَا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ هَوَى الزَّجْرِ بِالطَّيْرِ، وَأَخْذُ الْفَأْلِ فِي الْكُتُبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَصْنَعُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ. وَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهجرة.


(١). راجع ج ١ ص ٢٢٦ وما بعدها في (لعل) وص ٣٩٧ وما بعدها في (الشكر).
(٢). نفى: بقية.

وَتَقَدَّمَ اشْتِقَاقُهَا «١». وَأَمَّا» الْمَيْسِرُ«فَقَدْ مَضَى فِي» الْبَقَرَةِ««٢» الْقَوْلُ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقِيلَ: هِيَ الْأَصْنَامُ. وَقِيلَ: هِيَ النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ، وَيَأْتِي بَيَانُهُمَا في سورة» يونس«عند قوله تعالى:»فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ«[يونس: ٣٢] «٣». وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ الْقِدَاحُ، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِيهَا. وَيُقَالُ كَانَتْ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ سَدَنَةِ الْبَيْتِ وَخُدَّامِ الْأَصْنَامِ، يَأْتِي الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَيَقْبِضُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمَرَنِي رَبِّي خَرَجَ إِلَى حَاجَتِهِ عَلَى مَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ. الثَّانِيَةُ- تَحْرِيمُ الْخَمْرِ كَانَ بِتَدْرِيجٍ وَنَوَازِلَ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُولَعِينَ بِشُرْبِهَا، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي شأنها» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ««٤»] البقرة: ٢١٩] أَيْ فِي تِجَارَتِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا فِيهِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يَتْرُكْهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: نَأْخُذُ مَنْفَعَتَهَا وَنَتْرُكُ إِثْمَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ» لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «[النساء: ٤٣] «٥» فَتَرَكَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبَهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ«الْآيَةَ- فَصَارَتْ حَرَامًا عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْخَمْرِ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ عُيُوبَ الْخَمْرِ، وَمَا يَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا، وَدَعَا اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهَا وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَقَدْ مَضَى فِي» الْبَقَرَةِ««٦» وَ» النِّسَاءِ««٧». وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «] النساء: ٤٣]، و»يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ«] البقرة: ٢١٩] نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ» إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمُكَ وَنَسْقِيكَ خَمْرًا،


(١). راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.
(٢). راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٣٥.
(٤). راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.
(٥). راجع ج ٥ ص ١٩١.
(٦). راجع ج ٣ ص ٥٢ - ٥١.
(٧). راجع ج ٥ ص ١٩١.

وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حُشٍّ- وَالْحُشُّ الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٍّ [عِنْدَهُمْ] «١» وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ أَنْفِي- وَفَى رِوَايَةٍ فَفَزَرَهُ «٢» وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا- فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ- يَعْنِي نَفْسَهُ شَأْنَ الْخَمْرِ-» إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ«. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مُبَاحًا مَعْمُولًا بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ النساء» لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «] النساء: ٤٣] عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَهَلْ كَانَ يُبَاحُ لَهُمْ شُرْبُ الْقَدْرِ الَّذِي يُسْكِرُ؟ حَدِيثُ حَمْزَةَ ظَاهِرٌ فِيهِ حِينَ بَقَرَ خَوَاصِرَ نَاقَتَيْ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وَجَبَّ أَسْنِمَتَهَمَا، فَأَخْبَرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَاءَ إِلَى حَمْزَةَ فَصَدَرَ عَنْ حَمْزَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْقَوْلِ الْجَافِي الْمُخَالِفِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنِ احْتِرَامِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَوْقِيرِهِ وَتَعْزِيرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِمَا يُسْكِرُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي: فَعَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ ثَمِلٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى حَمْزَةَ وَلَا عَنَّفَهُ، لَا فِي حَالِ سُكْرِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ رَجَعَ لَمَّا قَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى وَخَرَجَ عَنْهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَوْهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ لَا مَفَاسِدُهُمْ، وَأَصْلُ الْمَصَالِحِ الْعَقْلُ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَفَاسِدِ ذَهَابُهُ، فَيَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ كُلِّ مَا يُذْهِبُهُ أَوْ يُشَوِّشُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ حَدِيثُ حَمْزَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِشُرْبِهِ السُّكْرَ لَكِنَّهُ أَسْرَعَ فِيهِ فَغَلَبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» رِجْسٌ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (رِجْسٌ) سُخْطٌ وَقَدْ يُقَالُ لِلنَّتْنِ وَالْعَذِرَةِ وَالْأَقْذَارِ رِجْسٌ. وَالرِّجْزُ بالزاي العذاب لا غير، والركس العذرة


(١). الزيادة عن (صحيح مسلم).
(٢). فزره: شقه.

لَا غَيْرَ. وَالرِّجْسُ يُقَالُ لِلْأَمْرَيْنِ. وَمَعْنَى«مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» أَيْ بِحَمْلِهِ عَلَيْهِ وَتَزْيِينِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ مَبَادِئَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتُدِيَ بِهِ فِيهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَاجْتَنِبُوهُ» يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَاقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ نُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَحَصَلَ الِاجْتِنَابُ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ، فَبِهَذَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ» نَزَلَتْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَوَرَدَ التَّحْرِيمُ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«قُلْ لَا أَجِدُ» «١» وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيِ خَبَرًا، وَفِي الْخَمْرِ نَهْيًا وَزَجْرًا، وَهُوَ أَقْوَى التَّحْرِيمِ وَأَوْكَدُهُ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، مَشَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَجُعِلَتْ عِدْلًا «٢» لِلشِّرْكِ، يَعْنِي أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالذَّبْحِ لِلْأَنْصَابِ وَذَلِكَ شِرْكٌ. ثُمَّ عَلَّقَ«لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» فَعَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالْأَمْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- فَهِمَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاسْتِخْبَاثِ الشَّرْعِ لَهَا، وَإِطْلَاقِ الرِّجْسِ عَلَيْهَا، وَالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهَا، الْحُكْمَ بِنَجَاسَتِهَا. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ فَرَأَوْا أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَأَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ شُرْبُهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَتِهَا بِسَفْكِهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ. وَالْجَوَابُ، أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُرُوبٌ «٣» وَلَا آبَارٌ يُرِيقُونَهَا فِيهَا، إِذِ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُنُفٌ فِي بُيُوتِهِمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَذَّرُونَ مِنِ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ، وَنَقْلُهَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ مَا وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا، فَإِنَّ طُرُقَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاسِعَةً، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ مِنَ الْكَثْرَةِ بحيث تصير نهرا


(١). راجع ج ٧ ص ١١٥.
(٢). عدل: مثل ونظير. [.....]
(٣). السرب: حفيرة تحت الأرض.

يَعُمُّ الطَّرِيقَ كُلَّهَا، بَلْ إِنَّمَا جَرَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا- هَذَا- مَعَ مَا يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةِ شُهْرَةِ إِرَاقَتِهَا فِي طُرُقِ «١» الْمَدِينَةِ، لِيَشِيعَ الْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى تَحْرِيمِهَا مِنْ إِتْلَافِهَا، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَتَوَافَقُوا عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: التَّنْجِيسُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، فَكَمْ مِنْ مُحَرَّمٍ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:«رِجْسٌ» يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، فَإِنَّ الرِّجْسَ فِي اللِّسَانِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ لَوِ الْتَزَمْنَا أَلَّا نَحْكُمَ بِحُكْمٍ إِلَّا حَتَّى نَجِدَ فِيهِ نَصًّا لَتَعَطَّلَتِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا قَلِيلَةٌ، فَأَيُّ نَصٍّ يُوجَدُ عَلَى تَنْجِيسِ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ الظَّوَاهِرُ وَالْعُمُومَاتُ وَالْأَقْيِسَةُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ«الْحَجِّ» «٢» مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ:«فَاجْتَنِبُوهُ» يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا بِشُرْبٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا تَخْلِيلٍ وَلَا مُدَاوَاةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ «٣» رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا [قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ رَجُلًا «٤» فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] بِمَ سَارَرْتَهُ [قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ:] إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا [، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا، فَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْجَائِزَةِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، كَمَا قَالَ فِي الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ.] هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ [الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعَذِرَاتِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلِذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَرِهَ مَالِكٌ بَيْعَ زِبْلِ الدَّوَابِّ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْقَاسِمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.


(١). في ج وع وك. وفي ا: طريق.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٥٣.
(٣). الرواية: القربة التي فيها الخمر سماها مرة برواية ومرة بمزادة وهما بمعنى. وربما قالوا مزاد بغير (هاء) كما وقع في بعض النسخ.
(٤). في ج وع وك: إنسانا.

التَّاسِعَةُ- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ تَخْلِيلُهَا لِأَحَدٍ، وَلَوْ جَازَ تَخْلِيلُهَا مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِيَدَعَ الرَّجُلَ أَنْ يَفْتَحَ الْمَزَادَةَ «١» حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِيهَا، لِأَنَّ الْخَلَّ مَالٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ فِيمَنْ أَرَاقَ خَمْرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ لَهُ مَالًا. وَقَدْ أَرَاقَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ خَمْرًا لِيَتِيمٍ، وَاسْتُؤْذِنَ ﷺ فِي تَخْلِيلِهَا فَقَالَ:] لَا [وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، وَإِلَيْهِ مَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ بِتَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا تَخَلَّلَ مِنْهَا بِمُعَالَجَةِ آدَمِيٍّ «٢» أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَرَحَ فِيهَا الْمِسْكَ وَالْمِلْحَ فَصَارَتْ مُرَبًّى وَتَحَوَّلَتْ عَنْ حَالِ الْخَمْرِ جَازَ. وَخَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْمُرَبَّى وَقَالَ: لَا تُعَالَجُ الْخَمْرُ بِغَيْرِ تَحْوِيلِهَا إِلَى الْخَلِّ وَحْدَهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: احْتَجَّ الْعِرَاقِيُّونَ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ بِأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْمُرَبَّى مِنْهُ، وَيَقُولُ: دَبَغَتْهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ. وَخَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فِي تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ فِي رَأْيِ أَحَدٍ حُجَّةً مَعَ السُّنَّةِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مِنْ تَخْلِيلِهَا كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا، لِئَلَّا يُسْتَدَامَ حَبْسُهَا لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِشُرْبِهَا، إِرَادَةً لِقَطْعِ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِهَا حِينَئِذٍ، وَالْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهَا مَا يَمْنَعُ مِنْ أَكْلِهَا إِذَا خُلِّلَتْ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِذَا خَلَّلَ النَّصْرَانِيُّ خَمْرًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَلَّلَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي كِتَابِهِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَالِجَ الْخَمْرَ حَتَّى يَجْعَلَهَا خَلًّا وَلَا يَبِيعَهَا، وَلَكِنْ لِيُهْرِيقَهَا. الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِذَاتِهَا أَنَّ أَكْلَ ذَلِكَ الْخَلِّ حَلَالٌ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَبِيصَةَ وَابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مذهبه عند أكثر أصحابه.


(١). في ب: المزادتين، ما فيهما.
(٢). أي بممارسة آدمي وعمله.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- ذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّهَا تُمْلَكُ، وَنَزَعَ إِلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ بِهَا الْغَصَصُ، وَيُطْفَأَ بِهَا حَرِيقٌ، وَهَذَا نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ لِمَالِكٍ، بَلْ يُخَرَّجُ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ. وَلَوْ جَازَ مِلْكُهَا لَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِإِرَاقَتِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِلْكَ نَوْعُ نَفْعٍ وَقَدْ بَطَلَ بِإِرَاقَتِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ أَخْبَرَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِيهَا فَقَالَ:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ» الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ:«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ» الْآيَةَ. فَكُلُّ لَهْوٍ دَعَا قَلِيلُهُ إِلَى كَثِيرٍ، وَأَوْقَعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الْعَاكِفِينَ عَلَيْهِ، وَصَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا مِثْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ يُورِثُ السُّكْرَ فَلَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَيْسَ فِي اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ هَذَا الْمَعْنَى، قِيلَ لَهُ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي التَّحْرِيمِ، وَوَصَفَهُمَا جَمِيعًا بِأَنَّهُمَا يُوقِعَانِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ. وَيَصُدَّانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ إِنْ أَسْكَرَتْ فَالْمَيْسِرُ لَا يُسْكِرُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ افْتِرَاقُهُمَا فِي ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ لَا يُسْكِرُ كَمَا أَنَّ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لَا يُسْكِرُ ثُمَّ كَانَ حَرَامًا مِثْلَ الْكَثِيرِ، فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ حَرَامًا مِثْلَ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْتِدَاءَ اللَّعِبِ يُورِثُ الْغَفْلَةَ، فَتَقُومُ تِلْكَ الْغَفْلَةُ الْمُسْتَوْلِيَةُ عَلَى الْقَلْبِ مَكَانَ السُّكْرِ «١»، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا تُسْكِرُ فَتَصُدُّ بِالْإِسْكَارِ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلْيُحَرَّمِ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ لِأَنَّهُ يُغْفِلُ وَيُلْهِي فَيَصُدُّ بِذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- مُهْدِي الرَّاوِيَةِ «٢» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، وَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ- كما يقوله بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ- بَلْ بِبُلُوغِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يوبخه،


(١). في ج وع وك: مقام.
(٢). كذا في ج وع وى وا وهـ وفي ك: هذه الرواية تدل. إلخ. ولعل أصل العبارة: حديث مهدي الراوية ... إلخ.

بَلْ بَيَّنَ لَهُ الْحُكْمَ، وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَصَى بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ، وَذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ قُبَاءَ «١»، إِذْ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ أَتَاهُمُ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ، فَمَالُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) «٢» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ الْخَمْرِ وَاشْتِقَاقُهَا وَالْمَيْسِرُ «٣». وَقَدْ مَضَى فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَوْلُ فِي الْأَنْصَابِ «٤» وَالْأَزْلَامِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). الْآيَةَ. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ «٥» بَيْنَنَا بِسَبَبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ، فَحَذَّرَنَا مِنْهَا، وَنَهَانَا عَنْهَا. رُوِيَ أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا رَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ «٦» يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ بِي هَذَا، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:«إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ» الْآيَةَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) يَقُولُ: إِذَا سَكِرْتُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اللَّهَ وَلَمْ تُصَلُّوا، وَإِنْ صَلَّيْتُمْ خُلِطَ عَلَيْكُمْ كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي«النِّسَاءِ» «٧». وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الشِّطْرَنْجِ أَهِيَ مَيْسِرٌ؟ وَعَنِ النَّرْدِ أَهُوَ مَيْسِرٌ؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا صَدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:«وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ». السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) لَمَّا عَلِمَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى انْتَهُوا قَالَ: انْتَهَيْنَا. وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَكُسِرَتِ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتِ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ في سكك المدينة.


(١). قباء قرية على بعد ميلين من المدينة.
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤٨ وما بعدها.
(٣). راجع ج ص ٥١ وما بعدها.
(٤). راجع ص ٥٧ وما بعدها من هذا الجزء.
(٥). في ج وك: بيننا. [.....]
(٦). في ج وع: الرجل.
(٧). راجع ج ٥ ص ٢٠٠.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ، وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ، وَكَفٌّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحُسْنُ عَطْفٍ«وَأَطِيعُوا اللَّهَ» لَمَّا كَانَ فِي الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مَعْنَى انْتَهُوا. وَكَرَّرَ«وَأَطِيعُوا» فِي ذِكْرِ الرسول تأكيدا. ثُمَّ حَذَّرَ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ تَوَلَّى بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ:«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أَيْ خالفتم (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فِي تَحْرِيمِ مَا أَمَرَ بِتَحْرِيمِهِ وَعَلَى الْمُرْسِلِ أَنْ يُعَاقِبَ أَوْ يُثِيبَ بِحَسَبِ مَا يُعْصَى أو يطاع.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا وَيَأْكُلُ الْمَيْسِرَ؟ وَنَحْوَ هَذَا- فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ «١» مُنَادِيًا يُنَادِي، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ! قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا- وَكَانَ الْخَمْرُ مِنَ الْفَضِيخِ»
- قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجللَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» الْآيَةَ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَظِيرُ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَنَزَلَتْ«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» «٣»] البقرة: ١٤٣]. وَمَنْ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ


(١). أي النبي ﷺ.
(٢). الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار، والمفضوخ هو المشدوخ.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٥٧.

شي، لَا إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا أَجْرٌ وَلَا مَدْحٌ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَخَوَّفَ وَلَا يُسْأَلَ عَنْ حَالِ مَنْ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي بَطْنِهِ وَقْتَ إِبَاحَتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ غَفَلَ عَنْ دَلِيلِ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ، أَوْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَفَقَتِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَهَّمَ مُؤَاخَذَةً وَمُعَاقَبَةً لِأَجْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ:«لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» الْآيَةَ. الثَّالِثَةُ- هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ إِذَا أَسْكَرَ خَمْرٌ، وَهُوَ نَصٌّ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ] رَحِمَهُمُ «١» اللَّهُ [هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَدْ عَقَلُوا أَنَّ شَرَابَهُمْ ذَلِكَ خَمْرٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ الْحَكَمِيُّ:
لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارَهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عن جابر عن النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هُوَ الْخَمْرُ]. وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَحَسْبُكُ بِهِ عَالِمًا بِاللِّسَانِ وَالشَّرْعِ- خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَهَذَا أَبْيَنُ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ، يَخْطُبُ بِهِ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى نَبِيذًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ ... وَصِرْتُ حَلِيفًا لِمَنْ عَابَهُ
شَرَابٌ يُدَنِّسُ عِرْضَ الْفَتَى ... وَيَفْتَحُ للشر أبوابه


(١). من ب وج وك.

الرَّابِعَةُ- قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ حَرُمَ شُرْبُهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نِيئًا، كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حُدَّ، فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ الني فَهُوَ الَّذِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ نُقْطَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْإِسْكَارَ، وَفِي الْمَطْبُوخِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ الني، فأما المطبوخ منهما، والني وَالْمَطْبُوخُ مِمَّا سِوَاهُمَا فَحَلَالٌ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمُعْتَصَرِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عَلَى تَفْصِيلٍ، فَيَرَى أَنَّ سُلَافَةَ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا أَنْ تُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثَاهَا، وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ فَيَحِلُّ مَطْبُوخُهُمَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ مَسًّا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بحد، وأما الني مِنْهُ فَحَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِسْكَارُ اسْتَوَى الْجَمِيعُ. قَالَ شَيْخُنَا الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ] أَحْمَدُ [«١» رضي الله عنه: الْعَجَبُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ حَرَامٌ كَكَثِيرِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَلِمَ حُرِّمَ الْقَلِيلُ مِنَ الْخَمْرِ وَلَيْسَ مُذْهِبًا لِلْعَقْلِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكَثِيرِ، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُمْ: كُلُّ مَا قَدَّرْتُمُوهُ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ فَيَحْرُمُ أَيْضًا، إِذْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ إِذَا سُلِّمَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ أَرْفَعُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ فِيهِ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيعِ أوصافه، وهذا كما يقوله فِي قِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله! فَإِنَّهُمْ يَتَوَغَّلُونَ فِي الْقِيَاسِ وَيُرَجِّحُونَهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ الْمَعْضُودَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ صدور الامة، لأحاديث لا يصح شي مِنْهَا عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَ عِلَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ في كتبهم، وليس في الصحيح شي مِنْهَا. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ«النَّحْلِ» «٢» تَمَامُ هَذِهِ المسألة إن شاء الله تعالى.


(١). من ك.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٢٧.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«طَعِمُوا» أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْأَكْلِ، يُقَالُ: طَعِمَ الطَّعَامَ وَشَرِبَ الشَّرَابَ، لَكِنْ قَدْ تُجُوِّزَ فِي ذَلِكَ فَيُقَالُ: لَمْ أَطْعَمَ خُبْزًا وَلَا مَاءً وَلَا نَوْمًا، قَالَ الشاعر:
نعاما بوجرة «١» صفر الْخُدُو ... دِ لَا تَطْعَمُ النَّوْمَ إِلَّا صِيَامَا
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢» فِي قَوْلِهِ تعالى:«وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ»] البقرة: ٢٤٩] بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنَاوُلَ الْمُبَاحِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالِانْتِفَاعَ بِكُلِّ لَذِيذٍ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَنْكَحٍ وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ وَتُنُوهِيَ فِي ثَمَنِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:«لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ»] المائدة: ٨٧] وَنَظِيرُ قَوْلِهِ:«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» «٣»] الأعراف: ٣٢]. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ التَّقْوَى تَكْرَارٌ، وَالْمَعْنَى اتَّقَوْا شُرْبَهَا، وَآمَنُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي دَامَ اتِّقَاؤُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، وَالثَّالِثُ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ إِلَى الِاتِّقَاءِ. وَالثَّانِي: اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا، ثُمَّ اتَّقَوْا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ «٤»، وَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ. الثَّالِثُ- اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي ثُمَّ اتَّقَوُا الْكَبَائِرَ، وَازْدَادُوا إيمانا، ومعنى الثَّالِثُ ثُمَّ اتَّقَوُا الصَّغَائِرَ وَأَحْسَنُوا أَيْ تَنَفَّلُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الِاتِّقَاءُ «٥» الْأَوَّلُ هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ، وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي، الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل.


(١). وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله:
فأما بنو عامر بالنار ... غداة لقونا فكانوا نعاما

(٢). راجع ج ٣ ص ٢٥٢.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٩٥.
(٤). في ع: أعمارهم.
(٥). لعل قول ابن جرير هو الرابع.

الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِيَ الْمُحْسِنَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَّقِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَضَّلَهُ بِأَجْرِ الْإِحْسَانِ. التَّاسِعَةُ- قَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ أَخَوَيْهِ عُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَعُمِّرَ «١». وَكَانَ خَتْنُ «٢» عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، خَالُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَفْصَةُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِشَهَادَةِ الْجَارُودِ- سَيِّدِ عَبْدِ الْقَيْسِ- عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ فُلَيْحٍ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ كَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ حَتَّى أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شرب فأمر به أن يجلد، فقال لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: وَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:«لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» الْآيَةَ. فَأَنَا مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ] كُلَّهَا [«٣»، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الآيات أنزلن عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ» الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وإذا


(١). عمر: عاش زمانا طويلا. [.....]
(٢). الختن (بالتحريك): الصهر، أو كل ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
(٣). من ع.

هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبُرْقَانِيِّ «١» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْجَارُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا، وَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ حَقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ حِينَ شَرِبَ، وَرَأَيْتُهُ سَكْرَانَ يقي، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ تَنَطَّعْتَ «٢» فِي الشَّهَادَةِ، ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ، فَقَالَ: أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ: أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ؟ فَقَالَ الْجَارُودُ: أَنَا شَهِيدٌ، قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَدَّيْتُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: إِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ! فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ لِسَانَكَ أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ، فَقَالَ الْجَارُودُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ، أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّكَ وَتَسُوءَنِي! فَأَوْعَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى هِنْدٍ يَنْشُدُهَا بِاللَّهِ، فَأَقَامَتْ هِنْدٌ عَلَى زَوْجِهَا الشَّهَادَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا قُدَامَةُ إِنِّي جَالِدُكَ، فَقَالَ قُدَامَةُ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتَ- كَمَا يَقُولُونَ- مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ. قَالَ: وَلِمَ يَا قُدَامَةُ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:«لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» الْآيَةَ إِلَى«الْمُحْسِنِينَ». فَقَالَ عُمَرُ: أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا «٣»، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَحْتَ السَّوْطِ، أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ فِي عُنُقِي! وَاللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ، فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ: أَخَذَتْكَ دِقْرَارَةُ «٤» أَهْلِكَ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ،


(١). البرقاني (بفتح الموحدة وسكون الراء): هذه النسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم وخربت، وصارت مزرعة. (الأنساب) للسمعاني.
(٢). تنطع في الكلام: تعمق وغالى.
(٣). وجع: مريض.
(٤). الدقرارة (واحدة الدقارير): وهي الأباطيل وعادات السوء، أراد أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعميل بالباطل (؟؟؟؟) وعرضت لك فعملت بها، وكان أسلم عبدا بجاويا.

فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ، فَحَجَّا وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ حَتَّى قَفَلُوا عَنْ حَجِّهِمْ وَنَزَلَ عُمَرُ بِالسُّقْيَا «١» وَنَامَ بِهَا فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ: عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ، فَوَاللَّهِ لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ: سَالِمْ قُدَامَةَ فَإِنَّهُ أَخُوكَ، فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إِلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ وَاسْتَغْفَرَ له، فكان أول صلحهما. قال أيوب ابن أَبِي تَمِيمَةَ: لَمْ يُحَدَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِي الْخَمْرِ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبُرْقَانِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ مَا حُدَّ عَلَى الْخَمْرِ أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ، وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ «٢» إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى عُمَرَ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ] رَضِيَ اللَّهُ «٣» عَنْهُ [أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوا بِالشَّامِ وَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَجْمَعَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، ذَكَرَهُ إِلْكِيَا الطبري.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:«لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ» أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. وَكَانَ الصَّيْدُ أَحَدَ مَعَايِشِ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ، وَشَائِعًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْهُمْ، مُسْتَعْمَلًا جِدًّا، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، كَمَا ابْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَلَّا يَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض


(١). السقيا (بالضم): موضع بين المدينة ووادي الصفراء.
(٢). الشجو: الهم والحزن.
(٣). من ع.

صَيْدٌ اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«لَيَبْلُوَنَّكُمُ» فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحَلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ» أَيْ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ. الثالثة- قوله تعالى:«بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ» يُرِيدُ بِبَعْضِ الصَّيْدِ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَعُمَّ الصَّيْدَ كله لان للبحر صيدا، قال الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدَ، لِقَوْلِهِ:«تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ». الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ:«يَنَالُهُ» بِالْيَاءِ مَنْقُوطَةٌ مِنْ تَحْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدِي تَنَالُ الْفِرَاخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ، وَالرِّمَاحُ تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْدِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» وكل شي يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ صَيْدٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ «١» التَّصَرُّفِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَفِيهَا تَدْخُلُ الْجَوَارِحُ وَالْحِبَالَاتُ، وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخٍ وَشِبَاكٍ، وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ، وَفِيهَا يَدْخُلُ السَّهْمُ وَنَحْوُهُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالسِّهَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ «٢» بِمَا فيه الكفاية والحمد لله.


(١). أي معظمه.
(٢). راجع ص ٦٥ فما بعد من هذا الجزء.

السَّادِسَةُ- مَا وَقَعَ فِي الْفَخِّ وَالْحِبَالَةِ فَلِرَبِّهَا، فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْدَ إِلَيْهَا أَحَدٌ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَخْذُهُ فَرَبُّهَا فِيهِ شَرِيكُهُ. وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْحِ «١» الْمَنْصُوبِ فِي الْجَبَلِ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخِّ، وَحَمَامُ الْأَبْرِجَةِ تُرَدُّ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنِ اسْتُطِيعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَحْلُ الْجِبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَامُ أَوِ النَّحْلُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ أَلْجَأَتِ الْكِلَابُ صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْتِ أَحَدٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِلُ الْكِلَابِ دُونَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارِ الْكِلَابِ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْتِ. السَّابِعَةُ- احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّامِنَةُ- كَرِهَ مَالِكٌ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أهل العلم، لقوله تَعَالَى:«وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ»] المائدة: ٩٤] وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الْإِلْزَامُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَيَلْزَمُنَا أَكْلُهُ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. والله أعلم.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)


(١). الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح).

فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَهَذَا النَّهْيُ هُوَ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ» الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الْيَسَرِ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ «١» - كَانَ مُحْرِمًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِعُمْرَةٍ فَقَتَلَ حِمَارَ وَحْشٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ«لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) الْقَتْلُ هُوَ كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا النَّحْرُ وَالذَّبْحُ وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا لِلرُّوحِ. الثَّالِثَةُ- مَنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ ذَبَحَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ دُونَ أَكْلِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ، يَعْنِي قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شي عَلَيْهِ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَمَا لَوْ تَنَاوَلَ مَيْتَةً أُخْرَى، وَلِهَذَا لَوْ أَكَلَهَا مُحْرِمٌ آخَرُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَتْلِ هُوَ التَّنَاوُلُ، فَإِذَا كَانَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ- مَحْظُورٌ إِحْرَامُهُ- مُوجِبًا عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَانَ أَوْلَى. الرَّابِعَةُ- لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ، لِنَهْيِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ذَكَاةٌ، وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ، مُضَافٌ إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ، فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ، أَصْلُهُ ذَبْحُ الْحَلَالِ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فَالْمُحْرِمُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ، إذ الأهلية لا تستفاد


(١). كذا بالأصل، واسمه في (التهذيب) وغيره: كعب بن عمرو ... إلخ.

عَقْلًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي الذَّبْحِ، أَوْ بِنَفْيِهَا وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنِ الذَّبْحِ، وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ:«لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ» فَقَدِ انْتَفَتِ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ. وَقَوْلُكُمْ أَفَادَ مَقْصُودَهُ فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَكُمْ، فَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَهُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«الصَّيْدَ» مَصْدَرٌ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ، فَأُوقِعَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ، وَلَفْظُ الصَّيْدِ هُنَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ حَتَّى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا»] المائدة: ٩٦] فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إِبَاحَةً مُطْلَقَةً، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَتَخْصِيصِهَا مِنْهُ، فقال مالك: كل شي لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ مِثْلُ الْهِرِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبْعِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ. قَالَ: وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ كُلِّ مَا عَدَا عَلَى النَّاسِ فِي الْأَغْلَبِ، مِثْلِ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام:] خَمْسُ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ [الْحَدِيثَ، فَسَمَّاهُنَّ فُسَّاقًا، وَوَصَفَهُنَّ بِأَفْعَالِهِنَّ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ فَاعِلٌ [لِلْفِسْقِ] «١»، وَالصِّغَارُ لَا فِعْلَ لَهُنَّ، وَوَصَفَ الْكَلْبَ بِالْعَقُورِ وَأَوْلَادُهُ لَا تَعْقِرُ، فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا النَّعْتِ. قَالَ [الْقَاضِي] «٢» إِسْمَاعِيلُ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ مِمَّا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ، لِأَنَّهُمَا يَخْطَفَانِ اللَّحْمَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: إِنَّمَا أُذِنَ فِي قَتْلِ الْعَقْرَبِ لِأَنَّهَا ذَاتُ حُمَةٍ «٣»، وَفِي الْفَأْرَةِ لِقَرْضِهَا السِّقَاءَ «٤» وَالْحِذَاءَ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ الْمُسَافِرِ. وفي الغراب


(١). من ك. [.....]
(٢). من ك.
(٣). الحمة: السم أو الإبرة تضرب بها العقرب والزنبور ونحو ذلك.
(٤). السقاء: القربة.

لِوُقُوعِهِ عَلَى الظَّهْرِ «١» وَنَقْبِهِ عَنْ لُحُومِهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا. قال] القاضي [«٢» إسماعيل: واختلف في الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي. قال: فإذا عرض الزنبور لاحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شي في قتله، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور. وقال مالك: يُطْعِمُ قَاتِلُهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ قَتَلَ الْبُرْغُوثَ وَالذُّبَابَ وَالنَّمْلَ وَنَحْوَهُ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرأي: لا شي عَلَى قَاتِلِ هَذِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالذِّئْبَ خَاصَّةً، سَوَاءٌ ابْتَدَآهُ أَوِ ابْتَدَأَهُمَا، وَإِنْ قَتَلَ غَيْرَهُ مِنَ السِّبَاعِ فَدَاهُ. قَالَ: فَإِنِ ابْتَدَأَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ السِّبَاعِ فَقَتَلَهُ فَلَا شي عليه، قال: ولا شي عَلَيْهِ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، هَذِهِ جُمْلَةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إِلَّا زُفَرَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَصَّ دواب بِأَعْيَانِهَا وَأَرْخَصَ لِلْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهَا مِنْ أَجْلِ ضَرَرِهَا، فَلَا وَجْهَ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا إِلَّا أن يجمعوا على شي فَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا. قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ والشافعي رحمهما الله! وقال زفر ابن الْهُذَيْلِ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الذِّئْبُ وَحْدَهُ، وَمَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ أَوْ لَمْ يَبْتَدِئْهُ، لِأَنَّهُ عَجْمَاءُ فَكَانَ فِعْلُهُ هَدَرًا، وَهَذَا رَدٌّ لِلْحَدِيثِ وَمُخَالَفَةٌ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَصِغَارُ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ، إِلَّا السِّمْعَ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبْعِ، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالْقِرْدَانِ وَالْحَلَمِ «٣» وما لا يؤكل لحمه شي، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا»] المائدة: ٩٦] فدل أن الصيد


(١). الظهر: الإبل الذاتي يحمل عليها ويركب.
(٢). من ك.
(٣). الحلم- بالتحريك- يجمع (الحلمة) وهي الصغيرة من القردان. وقيل: الضخم منها.

الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَلَالًا، حَكَى عَنْهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ تُفْدَى الْقَمْلَةُ وَهِيَ تُؤْذِي وَلَا تُؤْكَلُ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ تُفْدَى إِلَّا عَلَى مَا يُفْدَى بِهِ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ وَلُبْسُ مَا لَيْسَ لَهُ لُبْسُهُ، لِأَنَّ فِي طَرْحِ الْقَمْلَةِ إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَتْ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَكَأَنَّهُ أَمَاطَ بَعْضَ شَعْرِهِ، فَأَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ فَقُتِلَتْ فَإِنَّهَا لَا تُؤْذِي. وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي هَذَا الْبَابِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. السَّابِعَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ). اللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:] خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا [. وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْغِرْبَانِ إِلَّا الْأَبْقَعُ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:] وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ [. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: وَالسَّبُعُ الْعَادِي، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ، كَقَوْلِهِمْ: قَذَالٌ وَقُذُلٌ. وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْهَلَ دَخَلَ فِي السَّهْلِ. وَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا بِالْعُمُومِ. يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ إِذَا دَخَلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ تَلَبَّسَ بِالْإِحْرَامِ، إِلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. التَّاسِعَةُ- حَرَمُ الْمَكَانِ حَرَمَانِ، حَرَمُ الْمَدِينَةِ وَحَرَمُ مَكَّةَ- وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفَ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ قَطْعُ شَجَرِهِ، وَلَا صَيْدُ صَيْدِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَرَمُ

الْمَدِينَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِاصْطِيَادُ لِأَحَدٍ وَلَا قَطْعُ الشَّجَرِ كَحَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَيْدُ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ شَجَرِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:] مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِي حُدُودِ الْمَدِينَةِ أَوْ يَقْطَعُ شَجَرَهَا فَخُذُوا سَلَبَهُ [. وَأَخَذَ سَعْدٌ سَلَبَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ سَلَبُ مَنْ صَادَ فِي الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَاحْتَجَّ لَهُمِ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ- ما فعل النفير، فَلَمْ يُنْكِرْ صَيْدَهُ وَإِمْسَاكَهُ- وَهَذَا كُلُّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السَّلَبِ مَا يُسْقِطُ مَا صَحَّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، فَكَمْ مِنْ مُحْرِمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَيْدٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحْشٌ فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَبَضَ، فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ «١» كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا «٢» حَرَامٌ [فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا ذَعَرْتُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ نَزْعُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ النُّهَسَ- وَهُوَ طَائِرٌ- مِنْ يَدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ كَانَ صَادَهُ بِالْمَدِينَةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا الِاصْطِيَادَ وَلَا تَمَلُّكَ مَا يُصْطَادُ. وَمُتَعَلَّقُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَوْلُهُ ﷺ فِي الصَّحِيحِ:] اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُخْتَلَى «٣» خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا [وَلِأَنَّهُ
حَرَّمَ مَنْعَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ فَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِهِ كَحَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وهذا قول أقيس عندي


(١). أي سكن ولم يتحرك.
(٢). لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها.
(٣). الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.

عَلَى أُصُولِنَا، لَا سِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمِنْ حُجَّةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَلَّا يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِجَزَاءٍ وَلَا أَخْذِ سَلَبٍ- فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ فِي الصَّحِيحِ:] الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ «١» فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا [«٢» فَأَرْسَلَ ﷺ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ سَعْدٍ فَذَلِكَ مَذْهَبٌ لَهُ مَخْصُوصٌ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا- أَوْ يَخْبِطُهُ- فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَوْلُهُ: (نَفَّلَنِيهِ) ظَاهِرُهُ الْخُصُوصُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ، وَالْمُتَعَمِّدُ هُنَا هُوَ الْقَاصِدُ لِلشَّيْءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ. وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا، وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا يَذْكُرُ إِحْرَامَهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- مَا أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا التَّكْفِيرُ فِي الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا غَلَّظُوا فِي الْخَطَأِ لِئَلَّا يَعُودُوا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:«مُتَعَمِّدًا» خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ كأصول الشريعة. الثالث- أنه لا شي عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ. وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ بِأَنْ قَالَ: لَمَّا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ. وَزَادَ بِأَنْ قَالَ: الْأَصْلُ براءة الذمة فمن


(١). عير جبل بناحية المدينة، أما ثور فيرى بعض أهل الحديث أن ذكره هنا وهم من الراوي، وإنما هو جبل بمكة، والصحيح (من عير إلى أحد) وهي رواية قليلة. وقدر بعض: حرم المدينة مقدار ما بين عير وثور. وفي (النووي) قال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ.
(٢). لا يقبل منه صرف ولا عدل: الصرف التوبة والعدل الفدية. وقيل: الصرف النافلة والعدل الفريضة. وقيل: غير ذلك.

ادَّعَى شَغْلَهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. الرَّابِعُ- أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً. الْخَامِسُ- أَنْ يَقْتُلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ- وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ:«وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ». قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، قَالَ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ، فَبَطَلَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا، قَالَ: وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِئُهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَى مُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَادَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلْإِحْرَامِ أَوْ نَاسِيًا لَهُ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَحَجُّهُ تَامٌّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَى دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الضَّبْعِ فَقَالَ:] هِيَ صَيْدٌ [وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأَ. وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:«مُتَعَمِّدًا» لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ«مُتَعَمِّدًا» لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ فِي قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا كَفَّارَةً، وَأَنَّ الصَّيْدَ فِيهِ كَفَّارَةٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِسْقَاطَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ قَتَلَهُ فِي إِحْرَامِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حُكِمَ عَلَيْهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» فَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا فَمَتَى قَتَلَهُ فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ». وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وإبراهيم ومجاهد

وَشُرَيْحٌ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَادِي التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دين الإسلام. الثانية عشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ،«فَجَزاءٌ مِثْلُ» بِرَفْعِ جَزَاءٌ وَتَنْوِينِهِ، وَ«مِثْلُ» عَلَى الصِّفَةِ، وَالْخَبَرِ مُضْمَرٌ، التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ وَاجِبٌ أَوْ لَازِمٌ مِنَ النَّعَمِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ. وَ«جَزَاءُ» بِالرَّفْعِ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَ«مِثْلُ» بِالْإِضَافَةِ أَيْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَ«مِثْلُ» مُقْحَمَةٌ كَقَوْلِكَ أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَكَ، وَأَنْتَ تَقْصِدُ أَنَا أُكْرِمُكَ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:«أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» «١»] الانعام: ١٢٢] التَّقْدِيرُ كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ، وَقَوْلُهُ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» «٢»] الشورى: ١١] أي ليس كهو شي «٣». وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إِلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ، لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَوْلُهُ:«مِنَ النَّعَمِ» صِفَةٌ لِجَزَاءٍ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ«مِنَ النَّعْمِ» بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ«فَجَزاءٌ» بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ«مِثْلَ» بِالنَّصْبِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:«مِثْلَ» مَنْصُوبَةٌ بِنَفْسِ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُجْزَى مِثْلَ مَا قَتَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ«فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ» بِإِظْهَارِ (هَاءٍ)، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الصَّيْدِ أَوْ عَلَى الصَّائِدِ الْقَاتِلِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- الْجَزَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ لَا بِنَفْسِ أَخْذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَفِي (الْمُدَوَّنَةِ): مَنْ اصْطَادَ طَائِرًا فَنَتَفَ رِيشَهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى نَسَلَ رِيشَهُ فَطَارَ، قَالَ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.] قَالَ [«٤» وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ صَيْدٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهِ وَسَلِمَتْ نَفْسُهُ وَصَحَّ وَلَحِقَ بِالصَّيْدِ فلا شي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَهُ. وَلَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَدْرِ مَا فَعَلَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. وَلَوْ زَمِنَ الصَّيْدُ وَلَمْ يَلْحَقِ الصيد، أو تركه محوفا «٥» عليه
فعليه جزاؤه كاملا.


(١). راجع ج ٧ ص ٧٨.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧.
(٣). من ب، ى وسقطت الجملة مع الآية من ج، ك، هـ، ع، ز، وفي أ، و، ل: ليس هو كشيء. [.....]
(٤). من ك.
(٥). من ع، ك. في ج، أ: مخوفا.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- مَا يُجْزَى مِنَ الصَّيْدِ شَيْئَانِ: دَوَابٌّ وَطَيْرٌ، فَيُجْزَى مَا كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ بِنَظِيرِهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ، فَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَقَلُّ مَا يَجْزِي عِنْدَ مَالِكٍ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ أُضْحِيَّةً، وَذَلِكَ كَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِمَّا سِوَاهُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ جَزَاؤُهُ ذَلِكَ فَفِيهِ إِطْعَامٌ أَوْ صِيَامٌ. وَفِي الْحَمَامِ كُلِّهُ قِيمَتُهُ إِلَّا حَمَامَ مَكَّةَ، فَإِنَّ فِي الْحَمَامَةِ مِنْهُ شَاةً اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَالدُّبْسِيُّ «١» وَالْفَوَاخِتُ وَالْقُمْرِيُّ وَذَوَاتُ الْأَطْوَاقِ كُلُّهُ حَمَامٌ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَفِرَاخِهَا شَاةً، قَالَ: وَكَذَلِكَ حَمَامُ الْحَرَمِ، قَالَ: وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ، فَيُقَوَّمُ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَرَى الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ كَمَا فِي الْمُتْلَفَاتِ يُقَوَّمُ الْمِثْلُ، وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْمِثْلِ كَقِيمَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الْمِثْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَعَلَيْهِ تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ الْإِضَافَةِ (فَجَزَاءٌ مِثْلُ). احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعُدُولِ وَالنَّظَرِ مَا تُشْكِلُ الْحَالُ فِيهِ، وَيَضْطَرِبُ وَجْهَ النَّظَرِ عَلَيْهِ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:«فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» الْآيَةَ. فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرَةِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ:«مِنَ النَّعَمِ» فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ، ثُمَّ قَالَ:«يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى مِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ» وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ، فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عليه نص بما وقع عليه النص.


(١). الدبسي: نوع من الفواخت.

الْخَّامِسَةَ عَشْرَةَ- مَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ فَأَغْلَقَ بَابَ بَيْتِهِ عَلَى فِرَاخِ حَمَامٍ فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ فَرْخٍ شَاةٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ، وَهُوَ قول عطاء. ولا يفدى عند مالك شي بِعَنَاقٍ «١» وَلَا جَفْرَةٍ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ مِثْلُ الدِّيَةِ، الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهَا سَوَاءٌ. وَفِي الضَّبِّ عِنْدَهُ وَالْيَرْبُوعِ «٢» قِيمَتُهُمَا طَعَامًا. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي صِغَارِ الصَّيْدِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَذَعِ وَالثَّنِيِّ، وَيَقُولُ بِقَوْلِ عُمَرَ: فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:] فِي الضَّبْعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ [قَالَ: وَالْجَفْرَةُ الَّتِي قَدِ ارْتَعَتْ. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ قُلْتُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ: وَمَا الْجَفْرَةُ؟ قَالَ: الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي فَرْخِهَا فَصِيلٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي سَخْلِهِ «٣» عِجْلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَالصِّغَرُ وَالْكِبَرُ مُتَفَاوِتَانِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ أعور أو أعرج أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَتَحَقَّقِ الْمِثْلِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. وَقَوْلُهُ:«هَدْيًا» يَقْتَضِي مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْهَدْيِ لِحَقِّ الْإِطْلَاقِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْهَدْيَ التَّامَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عِنْدَهُ عُشْرُ ثَمَنِ الشَّاةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ الْقِيمَةَ. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «٤» قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] فِي كُلِّ بَيْضَةِ نعام صيام يوم أو إطعام مسكين [.


(١). العناق: الأنثى من أولاد المعز.
(٢). اليربوع: دويبة فوق الفأر.
(٣). في كل الأصول: سخلة. والسخل ولد الضأن والمعز. أما ولد حمار الوحش فهو الجحش والهنبر والدوبل والقلو واللكع.
(٤). كذا في ب، ج، ع.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَصَافِيرِ وَالْفِيَلَةِ فَقِيمَةُ لَحْمِهِ أَوْ عَدْلِهِ مِنَ الطَّعَامِ، دُونَ مَا يُرَادُ لَهُ مِنَ الْأَغْرَاضِ «١»، لِأَنَّ الْمُرَاعَى فِيمَا لَهُ مِثْلُ وُجُوبٍ مِثْلُهُ، فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ قَائِلَانِ- أَيْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ- مُعْتَبِرٌ لِلْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، وَمُقْتَصِرٌ بِهَا عَلَى مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ. وَأَمَّا الْفِيلُ فَقِيلَ: فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ، وَهِيَ بِيضٌ خُرَاسَانِيَّةٌ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شي مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ، وَيُنْظَرُ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُخْرَجُ الْفِيلُ وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبِ طَعَامٌ حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ وَالْفِيلُ فِيهِ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَأَمَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) روى مالك عن عبد الملك ابن قُرَيْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثَغْرَةِ ثَنِيَّةٍ «٢»، فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا يَحْكُمُ مَعَهُ، فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ»؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ» لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:«يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ» وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- إِذَا اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ لَزِمَ الْحُكْمُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ. وَإِنِ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: لَا يَأْخُذُ بِأَرْفَعِ مِنْ قَوْلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ. وَكَذَلِكَ


(١). في ى: الأغراض. بمعجمة. وباقي الأصول بمهملة.
(٢). الثنية: كل عقبة مسلوكة في الجبل.

لَا يَنْتَقِلُ عَنِ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ إِذَا حَكَمَا بِهِ إِلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ، قال ابْنُ شَعْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنَ الْمِثْلِ فَفَعَلَا، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الطَّعَامِ جَازَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ رحمه الله فِي (الْعُتْبِيَّةِ): مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُخَيِّرَ الْحَكَمَانِ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ، كَمَا خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي أَنْ يُخْرِجَ«هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا» فَإِنِ اخْتَارَ الْهَدْيَ حَكَمَا عَلَيْهِ بِمَا يَرَيَانِهِ نَظِيرًا لِمَا أَصَابَ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَدْلُ ذَلِكَ شَاةً لِأَنَّهَا أَدْنَى الْهَدْيِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ شَاةً حَكَمَا فِيهِ بِالطَّعَامِ ثُمَّ خُيِّرَ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ، أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي (الْمُدَوَّنَةِ). الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَيُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا مَضَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ أَوْ لَمْ تَمْضِ، وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكُومَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيمَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ كَانَ حَسَنًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ وَحِمَارَ الْوَحْشِ وَالظَّبْيِ وَالنَّعَامَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُكُومَةِ، وَيُجْتَزَأُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ بِحُكُومَةِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ رضي الله عنهم. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَكُونُ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ فَحَذْفُ بَعْضِ الْعَدَدِ إِسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَزِيَادَةُ ثَانٍ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ بِرَجُلَيْنِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- إِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمْ كُلُّهُمْ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا إِذْ مَرَّتْ بِهِمْ ضَبْعٌ فَحَذَفُوهَا «١» بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا، فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَتَوْا ابْنَ عُمَرَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ، قَالُوا: أَوْ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ «٢»، عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ. قال اللغويون: لمعزز بكم أي لمشدد


(١). الحذف: الرمي.
(٢). كان الموالي قد سألوا قبل ابن عمر- رضى الله عنه- صحابها فأمر لكل واحد منهم بكفارة، ثم سألوا ابن عمر، وأخبروه بفتيا الذي أفناهم، فقال: إنكم لمعزز بكم ... إلخ.

عَلَيْكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبْعًا قَالَ: عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَهُ «١» بَيْنَهُمْ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:«وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَكُلُّهُمْ «٢» مُحِلُّونَ، عَلَيْهِمْ جَزَاءُ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا نهي، فهو هاتك لها في الحالتين. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ قَالَ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ. وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ] صَيْدًا [«٣» فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحَرَّمَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلُ دَابَّةٍ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ) الْمَعْنَى أَنَّهُمَا إِذَا حَكَمَا بِالْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْهَدْيِ مِنَ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَيُرْسَلُ مِنَ الْحِلِّ إِلَى مَكَّةَ، وَيُنْحَرُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ:«هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ» وَلَمْ يُرِدِ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا، إِذْ هِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْتَاجُ الْهَدْيُ إِلَى الْحِلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ مِنَ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنَ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ يُبْتَاعُ فِي الحرم ويهدى فيه.


(١). يتخارج بمعنى يخرج كل واحد منهم نصيبه من ثمنه.
(٢). من ع.
(٣). الزيادة عن ابن العربي. [.....]

الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) «الْكَفَّارَةُ إِنَّمَا هِيَ عَنِ الصَّيْدِ لَا عَنِ الْهَدْيِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ، قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ» أَوْ«لِلتَّخْيِيرِ. قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شي فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبْهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ، أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ قَتَلَ إِيَّلًا «١» أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ «٢»، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالطَّعَامُ مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى» أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ" إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ بِجَزَائِهِ، فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاؤُهُ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ تَبْيِينُ أَمْرِ الصِّيَامِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ طَعَامًا، فَإِنَّهُ يَجِدُ جَزَاءَهُ. وَأَسْنَدَهُ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ. وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يُنَافِرُهُ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُتْلَفُ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَوْمَ الْإِتْلَافِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَوْمَ الْقَضَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ، مِنْ يَوْمِ الْإِتْلَافِ إِلَى يَوْمِ الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُودَ كَانَ حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ إِيجَادُهُ بمثله، وذلك في وقت العدم.


(١). الإبل قيل: هو (مثلث الهمزة) والوجه الكسر، وهو الذكر من الأوعال.
(٢). في ع وك وى: فعليه بدله من الطعام ثلاثين مسكينا.

السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- أَمَّا الْهَدْيُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ». وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ، وَإِلَى كَوْنِهِ بِمَكَّةَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ وَيَصُومُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الصَّوْمِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شي مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ الْحَرَمِ إِلَّا الصِّيَامَ. وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُكَفِّرُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ مُطْلَقًا، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ، وَلَا أَثَرَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ، فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ فَتَكُونُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ بِمَكَّةَ، فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ، وَالْهَدْيُ حَقٌّ لِمَسَاكِينَ مَكَّةَ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلُهُ أَوْ نَظِيرُهُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ، فَاعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا) الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ وَهُمَا الْمِثْلُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، تَقُولُ: عِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدِي عَدْلُ دَرَاهِمِكَ مِنَ الثِّيَابِ، وَالصَّحِيحُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الصِّيَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنَ الْعَدَدِ. قَالَ مَالِكٌ: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِنْ زَادَ عَلَى شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يُقَالُ كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيد فيعرف الْعَدَدُ، ثُمَّ يُقَالُ: كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِعُ هَذَا الْعَدَدَ، فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الإطعام. ومن أهله الْعِلْمِ مَنْ لَا يَرَى أَنْ يَتَجَاوَزَ فِي صِيَامِ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ، قَالُوا: لِأَنَّهَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ. واختاره ابن العربي. وقال أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى.

التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذَّوْقُ هُنَا مُسْتَعَارٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» «١»] الدخان: ٤٩]. وقال:«فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» «٢»] النحل: ١١٢]. وَحَقِيقَةُ الذَّوْقِ إِنَّمَا هِيَ فِي حَاسَّةِ اللِّسَانِ، وَهِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ مُسْتَعَارَةٌ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا). الْحَدِيثَ وَالْوَبَالُ سُوءُ الْعَاقِبَةِ. وَالْمَرْعَى الْوَبِيلُ هُوَ الَّذِي يُتَأَذَّى بِهِ بَعْدَ أَكْلِهِ. وَطَعَامٌ وَبِيلٌ إذا كان ثقيلا، ومنه قوله «٣»:
عَقِيلَةُ شَيْخٍ كَالْوَبِيلِ يَلَنْدَدِ «٤»

وَعَبَّرَ بِأَمْرِهِ عَنْ جَمِيعِ حَالِهِ. الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) يَعْنِي فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مِنْ قَتْلِكُمُ الصَّيْدَ، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ. وَقِيلَ: قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ. (وَمَنْ عادَ) يَعْنِي لِلْمَنْهِيِّ «٥» (فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ بِالْكَفَّارَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى«فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا، وَيَكْفُرُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا عَادَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: اذْهَبْ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، أَيْ ذَنْبُكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ لَا كَفَّارَةَ لها عند أكثر أهله الْعِلْمِ لِعِظَمِ إِثْمِهَا. وَالْمُتَوَرِّعُونَ يَتَّقُونَ النِّقْمَةَ بِالتَّكْفِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُمْلَأُ ظَهْرُهُ سوطا حتى يموت. وروي عن زيد ابن أَبِي الْمُعَلَّى: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتُجُوِّزَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ، وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) «عَزِيزٌ» أَيْ مَنِيعٌ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ.«ذُو انْتِقامٍ» مِمَّنْ عَصَاهُ إِنْ شَاءَ.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
فِيهِ ثلاث عشرة مسألة:


(١). راجع ج ١٦ ص ١٥١.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٩٣.
(٣). الشعر لطرفة، وصدر البيت:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة

(٤). اليلندد: الشديد الخصومة.
(٥). كذا في هـ، ع: وفي ج، ى: للنهي.

الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) هَذَا حُكْمٌ بِتَحْلِيلِ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا صِيدَ مِنْ حِيتَانِهِ وَالصَّيْدُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمَصِيدُ، وَأُضِيفَ إِلَى الْبَحْرِ لَمَّا كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْبَحْرِ فِي«الْبَقَرَةِ» «١» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ«مَتاعًا» نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ مُتِّعْتُمْ بِهِ مَتَاعًا. الثَّانِيَةُ- قوله تعالى: (وَطَعامُهُ) الطَّعَامُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَطْعُومٍ خَاصٍّ كَالْمَاءِ وَحْدَهُ، وَالْبُرِّ وَحْدَهُ، وَالتَّمْرِ وَحْدَهُ، وَاللَّبَنِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَمَّا قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ وَطَفَا عَلَيْهِ، أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجلأُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ»- الْآيَةَ- صَيْدُهُ مَا صِيدَ وَطَعَامُهُ مَا لَفَظَ] الْبَحْرُ [«٢». وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طعامه مَيْتَتُهُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: طَعَامُهُ مَا مُلِّحَ مِنْهُ وَبَقِيَ، وَقَالَهُ مَعَهُ جَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: طَعَامُهُ مِلْحُهُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْكَلُ السَّمَكُ الطَّافِي وَيُؤْكَلُ مَا سِوَاهُ من السمك، ولا يؤكل شي مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا السَّمَكَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ عَنْهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ أَكْلَ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ] رضي الله عنه [«٣» أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الْجِرِّيِّ «٤»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْلُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ ذَكِيٌّ، فَعَلِيٌّ مُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي أَكْلِ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ جَابِرٍ «٥» أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَاحْتَجُّوا بعموم قوله تعالى:«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ»] المائدة: ٣]. وبما رواه


(١). راجع ج ١ ص ٣٨٨.
(٢). الزيادة عن (الدارقطني) في رواية ابن عباس.
(٣). من ع.
(٤). الجري: ضرب من السمك في ظهره طول وفي فمه سعة وليس له عظم إلا عظم اللحيين والسلسلة.
(٥). في ج: ابن زيد.

أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:] كُلُوا مَا حَسَرَ «١» عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَاهُ وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا أَوْ طَافِيًا فَوْقَ الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ [. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ غَيْرُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ وَخَالَفَهُ وَكِيعٌ وَالْعَدَنِيَّانِ «٢» وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُؤَمَّلٌ وَأَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُهُمْ، رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّوَابُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزُهَيْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، رَفَعَهُ يحيى بن سليم عن إسماعيل ابن أُمَيَّةَ وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي رِوَايَةِ الْأَشْجَعِيِّ: يُؤْكَلُ كُلُّ مَا فِي الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَالدَّوَابِّ، وَسَائِرُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَسَوَاءٌ اصْطِيدَ أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْبَحْرِ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [. وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْحُوتِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:] الْعَنْبَرُ [وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ الْأَحَادِيثِ خَرَّجَهُ الصَّحِيحَانِ. وَفِيهِ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:] هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ معكم من لحمه شي فَتُطْعِمُونَا [فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْهُ فَأَكَلَهُ، لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَأَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا. وَأَسْنَدَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِيَ عَلَى الْمَاءِ. وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَجَدُوا سَمَكَةً طَافِيَةً عَلَى الْمَاءِ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَقَالَ: أَطَيِّبَةٌ هِيَ لَمْ تَتَغَيَّرْ؟


(١). حسر ونضب وجزر بمعنى.
(٢). كذا في الأصول عدا: ل. فقد سقط منها. [.....]

قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَكُلُوهَا وَارْفَعُوا نَصِيبِي مِنْهَا، وَكَانَ صَائِمًا. وَأَسْنَدَ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي طَلْحَةَ أَصَابُوا سَمَكَةً طَافِيَةً فَسَأَلُوا عَنْهَا أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: أَهْدُوهَا إِلَيَّ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْحُوتُ ذَكِيٌّ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ، رَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَرُدُّ قَوْلَ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَتُخَصِّصُ عُمُومَ الْآيَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُ خِنْزِيرَ الْمَاءِ مِنْ جِهَةِ اسْمِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا! وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الْمَاءِ وَقَالَ اللَّيْثُ: لَيْسَ بِمَيْتَةِ الْبَحْرِ بَأْسٌ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلْبُ الْمَاءِ وَفَرَسُ الْمَاءِ. قَالَ: وَلَا يُؤْكَلُ إِنْسَانُ الْمَاءِ وَلَا خِنْزِيرُ الْمَاءِ. الرَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمْ: كُلُّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَلَهُ فِيهِ حَيَاةٌ فَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ، إِنْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَدَاهُ، وَزَادَ أَبُو مِجْلَزٍ فِي ذَلِكَ الضَّفَادِعَ وَالسَّلَاحِفَ وَالسَّرَطَانَ. الضَّفَادِعُ وَأَجْنَاسُهَا حَرَامٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ الضِّفْدَعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ شَبَهٌ فِي الْبَرِّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَكْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْخِنْزِيرِ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ، وَهُوَ لَهُ شَبَهٌ فِي الْبَرِّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ. وَلَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْقِرْشُ «١» وَالدُّلْفِينُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَابٌ لِنَهْيِهِ عليه السلام عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ هَذِهِ أَنْوَاعٌ لَا زَوَالَ لَهَا مِنَ الْمَاءِ فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ جَوَابُ مَالِكٍ فِي الضَّفَادِعِ فِي«الْمُدَوَّنَةِ» فَإِنَّهُ قَالَ: الضَّفَادِعُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ خِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُرَاعَى أَكْثَرُ عَيْشِ الْحَيَوَانِ، سُئِلَ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ أَصَيْدُ بَرٍّ هُوَ أَمْ صَيْدُ بَحْرٍ؟ فَقَالَ: حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنْهُ، وَحَيْثُ يُفَرِّخُ فَهُوَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّوَابُ فِي ابْنِ الْمَاءِ أَنَّهُ صَيْدُ بَرٍّ يَرْعَى وَيَأْكُلُ الْحَبَّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ، دليله تَحْلِيلٍ وَدَلِيلُ تَحْرِيمٍ، فَيُغَلَّبُ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا. والله أعلم.


(١). القرش: دابة مفترسة من دواب البحر الملح. والدلفين بالضم دابة بحرية تنجي الغريق، والعامة تقول: الدرفيل.

الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلسَّيَّارَةِ) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ وَأَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَلَالٌ لِمَنْ أَقَامَ، كَمَا أَحَلَّهُ لِمَنْ سَافَرَ. الثَّانِي- أَنَّ السَّيَّارَةَ هُمُ الذِينَ يَرْكَبُونَهُ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ وَالنَّسَائِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا: فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ] نَعَمْ [لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ، فَكَانَ يَكُونُ مُحَالًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ابْتَدَأَ تَأْسِيسَ الْقَاعِدَةِ، وَبَيَانَ الشَّرْعِ فَقَالَ:] هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ [. قُلْتُ: وَكَانَ يَكُونُ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِمْ، لَوْلَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، إِلَّا مَا نُصَّ بِالتَّخْصِيصِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي الْعَنَاقِ:] ضَحِّ بِهَا وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِكَ [. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا) التَّحْرِيمُ لَيْسَ صِفَةً لِلْأَعْيَانِ، إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ» أَيْ فِعْلُ الصَّيْدِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنِ الِاصْطِيَادِ، أَوْ يَكُونُ الصَّيْدُ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ، عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَبُولُ صَيْدٍ وُهِبَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ شِرَاؤُهُ وَلَا اصْطِيَادُهُ وَلَا اسْتِحْدَاثُ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا» وَلِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ عَلَى مَا يَأْتِي. السَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَحْمَدُ وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ إِذَا لَمْ يُصَدْ لَهُ، وَلَا مِنْ أَجْلِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي والدارقطني

عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:] صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ [قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ. فَإِنْ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ فَدَاهُ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا صِيدَ لِمُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ عُثْمَانَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ: كُلُوا فَلَسْتُمْ مِثْلِي لِأَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِي وَبِهِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَكْلُ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا اصْطَادَهُ الْحَلَالُ، سَوَاءٌ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَدْ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:«لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» فَحُرِّمَ صَيْدُهُ وَقَتْلُهُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ، دُونَ مَا صَادَهُ غَيْرُهُمْ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْبَهْزِيِّ- وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنِ كَعْبٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ الْعَقِيرِ أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ فِي الرِّفَاقِ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَفِيهِ] إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ [. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، سَوَاءٌ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لَمْ يُصَدْ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مُبْهَمَةٌ وَبِهِ قال طاوس وجابر ابن زَيْدٍ أَبُو الشَّعْثَاءِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وبه قال إسحاق. واحتجوا بحديث الصعب ابن جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا فِي وَجْهِي قَالَ:] إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ [خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمَالِكٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمِقْسَمٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْهُ، أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ

فِي حَدِيثِهِ: عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشٍ فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ مِقْسَمٌ فِي حَدِيثِهِ رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِي حَدِيثِهِ: أَهْدَى لَهُ عَضُدَ صَيْدٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ: [إِنَّا حُرُمٌ]. وَقَالَ طَاوُسٌ فِي حَدِيثِهِ: عَضُدًا مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ، حَدَّثَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ «١»، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ يَتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ أَكْلُهُ جَائِزًا، قَالَ سُلَيْمَانُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا كَأَنَّهُ صِيدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ: إِنَّمَا تَأَوَّلَ سُلَيْمَانُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، فَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ صَيْدًا حَيًّا وَلَا يُذَكِّيَهُ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: وَعَلَى تَأْوِيلِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ تَكُونُ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ كُلُّهَا غَيْرَ مُخْتَلَفَةٍ [فِيهَا] «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّامِنَةُ- إِذَا أَحْرَمَ وَبِيَدِهِ صَيْدٌ أَوْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِرْسَالُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، [وروي «٣»] عن مجاهد وعبد الله بن الحرث مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ ضَمِنَ. وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِرْسَالِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا» وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ كُلِّهِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِإِمْسَاكِهِ: أَنَّهُ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ، أَصْلُهُ النِّكَاحُ. التَّاسِعَةُ- فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَبْحِهِ، وَأَكْلِ لَحْمِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْنًى يُفْعَلُ فِي الصَّيْدِ فَجَازَ فِي الْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاءِ وَلَا خلاف فيها.


(١). هذه النسبة إلى مدينة الرسول ﷺ كان أصله منها ونزل على البصرة. (الأنساب).
(٢). من ى.
(٣). من ع.

الْعَاشِرَةُ- إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حِلًّا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وأبو ثور: لا شي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ الْتَزَمَ بِإِحْرَامِهِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ، فَيَضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ كَالْمُودَعِ إِذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةٍ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ مُحْرِمًا آخَرَ، فَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءً. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا» فَعَلَّقَ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِالْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ دَالٌّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِدَلَالَتِهِ غُرْمٌ كَمَا لَوْ دَلَّ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ. وَتَعَلَّقَ الْكُوفِيُّونَ وَأَشْهَبُ بِقَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: [هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ]؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- إِذَا كَانَتْ شَجَرَةٌ نَابِتَةً فِي الْحِلِّ وَفَرْعُهَا فِي الْحَرَمِ فَأُصِيبَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّيْدِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّهُ أُخِذَ فِي الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَفَرْعُهَا فِي الْحِلِّ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَزَاءُ نَظَرًا إِلَى الْأَصْلِ، وَنَفْيُهُ نَظَرًا إِلَى الْفَرْعِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تَشْدِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَقِبَ هَذَا التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، ثُمَّ ذَكَّرَ بِأَمْرِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ) جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ وَأَكْثَرُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مُدَوَّرَةٌ وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ كَعْبَةٌ لِنُتُوئِهَا

وَبُرُوزِهَا، فَكُلُّ نَاتِئٍ بَارِزٍ كَعْبٌ، مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ. وَمِنْهُ كَعْبُ الْقَدَمِ وَكُعُوبُ الْقَنَاةِ. وَكَعَبَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَهَرَ فِي صَدْرِهَا. وَالْبَيْتُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَقْفٍ وَجِدَارٍ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِنٌ. وَسَمَّاهُ سُبْحَانَهُ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:] إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ [وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قِيامًا لِلنَّاسِ) أَيْ صَلَاحًا وَمَعَاشًا، لِأَمْنِ النَّاسِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ«قِيامًا» بِمَعْنَى يَقُومُونَ بِهَا. وَقِيلَ:«قِيامًا» أَيْ يَقُومُونَ بِشَرَائِعِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ«قِيَمًا» وَهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ قِيلَ:«قِوَامٌ». قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قِيَامًا لِلنَّاسِ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى سَلِيقَةِ الْآدَمِيَّةِ مِنَ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالسَّلْبِ وَالْغَارَةِ وَالْقَتْلِ وَالثَّأْرِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَشِيئَةِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ كَافٍّ يَدُومُ مَعَهُ «١» الْحَالُ وَوَازِعٌ يُحْمَدُ مَعَهُ الْمَآلُ. قَالَ اللَّهِ تَعَالَى:«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «٢»] البقرة: ٣٠] فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَجَعَلَ أُمُورَهُمْ إِلَى وَاحِدٍ يَزَعُهُمْ «٣» عَنِ التَّنَازُعِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّآلُفِ مِنَ التَّقَاطُعِ، وَيَرُدُّ الظَّالِمَ عَنِ الْمَظْلُومِ، وَيُقَرِّرُ كُلَّ يَدٍ عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ. رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: مَا يَزَعُ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ رحمه الله. وَجَوْرُ السُّلْطَانِ عاما واحدا أقل أذائه مِنْ كَوْنِ النَّاسِ فَوْضَى لَحْظَةً وَاحِدَةً، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْخَلِيفَةَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ، لِتَجْرِيَ عَلَى رَأْيِهِ الْأُمُورُ، وَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ عَادِيَةَ الْجُمْهُورِ «٤»، فَعَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ، فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ، وَكَانَ مَنِ اضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» «٥»] العنكبوت: ٦٧]. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَلَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ مَظْلُومٍ، وَلَا يَنَالُهُ كُلُّ خَائِفٍ جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر وهي:


(١). في ج، ك، ب وع: مع.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٧١.
(٣). في ك: يزجرهم.
(٤). في الأصول: الأمور. والتصويب من ابن العربي.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٣٦٣.

الثَّالِثَةُ- وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ «١» بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَرَّرَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ حُرْمَتَهَا، فَكَانُوا لَا يُرَوِّعُونَ فِيهَا سِرْبًا- أَيْ نَفْسًا- وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيهِ. وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ. وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً، فُسْحَةً وَرَاحَةً وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْنِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُنْفَرِدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ، وَهُوَ شَهْرُ رَجَبٍ الْأَصَمِّ وَيُسَمَّى مُضَرَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ:] رَجَبُ [«٢» الْأَصَمُّ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُسْمَعُ فِيهِ صَوْتُ الْحَدِيدِ، وَيُسَمَّى مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ فِيهِ الْأَسِنَّةَ مِنَ الرِّمَاحِ، وَهُوَ شَهْرُ قُرَيْشٍ، وَلَهُ يَقُولُ عَوْفُ ابن الْأَحْوَصِ:
وَشَهْرُ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْهَدَايَا ... إِذَا سِيقَتْ مُضَرِّجَهَا الدِّمَاءُ
وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ شَهْرَ اللَّهِ، أَيْ شَهْرَ آلِ اللَّهِ، وكان يقال لأهله الْحَرَمِ: آلُ اللَّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ شَهْرَ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ مَتَّنَهُ «٣» وَشَدَّدَهُ إِذْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَرَاهُ. وَسَيَأْتِي فِي«بَرَاءَةٌ» «٤» أَسْمَاءُ الشُّهُورِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمُ الْإِلْهَامَ، وَشَرَعَ «٥» عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ، وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- فَكَانُوا إِذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا، أَوْ عَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ مِنَ التَّقْلِيدِ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَوَّلَ السُّورَةِ- لَمْ يُرَوِّعْهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَقِيَهُ، وَكَانَ الْفَيْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ ظَلَمَهُ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَبَيَّنَ الْحَقَّ بِمُحَمَّدٍ عليه السلام، فَانْتَظَمَ الدِّينُ فِي سِلْكِهِ، وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، فَأُسْنِدَتِ الْإِمَامَةُ إِلَيْهِ، وَانْبَنَى وُجُوبُهَا عَلَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» «٦»] النور: ٥٥] الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي«الْبَقَرَةِ» «٧» أَحْكَامُ الْإِمَامَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) «ذلِكَ» إِشَارَةً إِلَى جَعْلِ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمُورَ قِيَامًا، وَالْمَعْنَى فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ مَصَالِحَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم.


(١). كذا في الأصول وصوابه: الاربعة.
(٢). من ب وج وك وهـ وع.
(٣). في ب وج وك وهـ وز: سنه.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٣٢ فما بعدها.
(٥). في ب وج وك وهـ وز: أو شرعا. أي يسر إلهاما أو شرعا. إلخ. [.....]
(٦). راجع ج ١٢ ص ٢٩٧.
(٧). راجع ج ١ ص ٢٦٣ فما بعدها.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٨]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تَخْوِيفٌ (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تَرْجِيَةٌ. وَقَدْ تقدم هذا المعنى.

[سورة المائدة (٥): آية ٩٩]
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أَيْ لَيْسَ لَهُ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ وَلَا الثَّوَابُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْبَلَاغُ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وأصله الْبَلَاغِ الْبُلُوغُ، وَهُوَ الْوُصُولُ. بَلَغَ يَبْلُغُ بُلُوغًا، وَأَبْلَغَهُ إِبْلَاغًا، وَتَبَلَّغَ تَبَلُّغًا، وَبَالَغَهُ مُبَالَغَةً، وَبَلَّغَهُ تَبْلِيغًا، وَمِنْهُ الْبَلَاغَةُ، لِأَنَّهَا إِيصَالُ الْمَعْنَى إِلَى النَّفْسِ فِي حُسْنِ صُورَةٍ مِنَ اللَّفْظِ. وَتَبَالَغَ الرَّجُلُ إِذَا تَعَاطَى الْبَلَاغَةَ وَلَيْسَ بِبَلِيغٍ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ أَيْ كِفَايَةٌ، لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) أَيْ تُظْهِرُونَهُ، يُقَالُ: بَدَا السِّرُّ وَأَبْدَاهُ صَاحِبُهُ يُبْدِيهِ. (وَما تَكْتُمُونَ) أَيْ مَا تُسِرُّونَهُ وَتُخْفُونَهُ فِي قُلُوبِكُمْ من الكفر والنفاق.

[سورة المائدة (٥): آية ١٠٠]
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَالَ الْحَسَنُ:» الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ«الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَقِيلَ: الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ، وَهَذَا عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، يُتَصَوَّرُ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالنَّاسِ، وَالْمَعَارِفِ مِنَ الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا، فَالْخَبِيثُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يُنْجِبُ، وَلَا تَحْسُنُ لَهُ عَاقِبَةٌ وَإِنْ كَثُرَ، وَالطَّيِّبُ وَإِنْ قَلَّ نَافِعٌ «١» جَمِيلُ الْعَاقِبَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:» وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ


(١). في ج: نافع حميد جميل. إلخ.

وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا««١»] الأعراف: ٥٨]. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:» أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ««٢»] ص: ٢٨] وَقَوْلُهُ» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
" «٣»] الجاثية: ٢١]، فَالْخَبِيثُ لَا يُسَاوِي الطَّيِّبَ مِقْدَارًا وَلَا إِنْفَاقًا، وَلَا مَكَانًا وَلَا ذَهَابًا، فَالطَّيِّبُ يَأْخُذُ جِهَةَ الْيَمِينِ، وَالْخَبِيثُ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ، وَالطَّيِّبُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْخَبِيثُ فِي النَّارِ وَهَذَا بَيِّنٌ. وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ «٤» وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ وَضِدُّهَا الِاعْوِجَاجُ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ، فَيَسْتَوِي فِي إِمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا، وَيُرَدُّ الثَّمَنُ عَلَى الْمُبْتَاعِ إِنْ كَانَ قَبَضَهُ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ عَلَى الْأَمَانَةِ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ. وَقِيلَ: لَا يُفْسَخُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ إِذَا فُسِخَ وَرُدَّ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ وَغَبْنٌ عَلَى الْبَائِعِ، فَتَكُونُ السِّلْعَةُ تُسَاوِي مِائَةً وَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ تُسَاوِي عِشْرِينَ، وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام:] مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ [. قُلْتُ: وَإِذَا تُتُبِّعَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فِي مَسَائِلَ الْفِقْهِ تَعَدَّدَتْ وَكَثُرَتْ، فَمِنْ ذَلِكَ الْغَاصِبِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- إِذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ المغصوبة أو غرس إنه يَلْزَمُهُ قَلْعُ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، لِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَرَدُّهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُقْلَعُ وَيَأْخُذُ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ. وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ عليه السلام:] لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ «٥» حَقٌّ [. قَالَ هِشَامٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَغْرِسَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِيَسْتَحِقَّهَا بِذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ كُلُّ مَا أُخِذَ وَاحْتُفِرَ وَغُرِسَ فِي غَيْرِ حَقٍّ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فزرعها، أو إكراها، أو دارا فسكنها


(١). راجع ج ٧ ص ٢٣١.
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٩١.
(٣). راجع ج ١٦ ص ١٦٥.
(٤). في ب وج وك وهـ وع: حرمة.
(٥). الرواية (لعرق) بالتنوين، وهو على حذف مضاف أي لذي عرق ظالم، فجعل العرق نفسه ظالما والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق. وإن روى (عرق) بالإضافة فيكون الظالم صاحب العرق والحق للعرق وهو أحد عروق الشجرة. (غاية النهاية).

أَوْ أَكْرَاهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَبُّهَا أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ كِرَاءَ مَا سَكَنَ وَرَدَّ مَا أَخَذَ فِي الْكِرَاءِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يَسْكُنْهَا أَوْ لَمْ يَزْرَعِ الْأَرْضَ وَعَطَّلَهَا، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مذهبه أنه ليس عليه فيه شي، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ كِرَاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَاخْتَارَهُ الْوَقَّارُ «١»، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ عليه السلام:] لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ [وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: غَرَسَ أَحَدُهُمَا نَخْلًا فِي أَرْضِ الْآخَرِ، فَقَضَى لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأَرْضِهِ، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حَتَّى أُخْرِجَتْ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَنَخْلٌ عُمٌّ «٢». وَهَذَا نَصٌّ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُخَيَّرًا عَلَى الظَّالِمِ، إِنْ شَاءَ حَبَسَ ذَلِكَ فِي أَرْضِهِ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ نَزَعَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَجْرُ النَّزْعِ عَلَى الْغَاصِبِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] مَنْ بَنَى فِي رِبَاعِ «٣» قَوْمٍ بِإِذْنِهِمْ فَلَهُ الْقِيمَةُ وَمَنْ بَنَى بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَهُ النَّقْضُ [قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا تَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مَوْضِعٍ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ. وَذَلِكَ كَمَنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ بِشُبْهَةٍ فَلَهُ حَقٌّ، إِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا، وَإِنْ أَبَى قِيلَ لِلَّذِي بَنَى أَوْ غَرَسَ: ادْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَةَ أَرْضِهِ بَرَاحًا «٤»، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَتَفْسِيرُ اشْتِرَاكِهِمَا أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ بَرَاحًا، ثُمَّ تُقَوَّمُ بِعِمَارَتِهَا فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا بِالْعِمَارَةِ عَلَى قِيمَتِهَا بَرَاحًا كَانَ الْعَامِلُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ فِيهَا، إِنْ أَحَبَّا قَسَمَا أَوْ حَبَسَا. قَالَ ابْنُ الْجَهْمِ «٥»: فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْعِمَارَةِ وَأَخَذَ أَرْضَهُ كَانَ لَهُ كِرَاؤُهَا فِيمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِذَا بَنَى رَجُلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ ثُمَّ وَجَبَ لَهُ إِخْرَاجُهُ، فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ مَقْلُوعًا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ عليه السلام: (فَلَهُ الْقِيمَةُ) وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يُعْجِبُهُ الْخَبِيثُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النبي


(١). هو زكريا بن يحيى المصري.
(٢). عم: أي تامة. في طولها والتفافها، واحدتها عميمة واصلها عمم فسكن وأدغم.
(٣). رباع (جمع ربع): وهو المنزل.
(٤). البراح: (بالفتح): المتسع من الأرض لا زرع فيه ولا شجر.
(٥). في ك: أبو الجهم.

ﷺ نَفْسُهُ، وَإِعْجَابُهُ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَالِ الْحَلَالِ. (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تقدم معناه.

[سورة المائدة (٥): الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا- وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ:«أَبُوكَ فُلَانٌ»] قَالَ [«١» فَنَزَلَتْ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» «٢» الْآيَةَ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَفِيهِ:] فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عن شي إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا [فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:] النَّارُ [. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:] أَبُوكَ حُذَافَةُ [وَذَكَرَ الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ «٣»، وَكَانَ رَسُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَرْسِلْهُ إِلَى كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وَلَمَّا قَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:] أَبُوكَ حُذَافَةُ [قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ أَعَقَّ مِنْكَ آمَنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكُ قَارَفَتْ مَا يُقَارِفُ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحُهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «٤»] آل عمران: ٩٧]. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ:] لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ [، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:


(١). من ج وب وهـ وع. [.....]
(٢). من ب وج وهـ وع.
(٣). الدعابة: المزاح.
(٤). راجع ج ٤ ص ١٣٧.

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ سُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا، وَاسْمُهُ سَعِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ [فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ «١» فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (وَمَنِ الْقَائِلُ)؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ:] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ [فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، وَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ:«مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ»] المائدة: ١٠٣]. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحِ وَالْمُسْنَدِ كِفَايَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْجَمِيعِ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ«أَشْياءَ» وَزْنُهُ أَفْعَالٌ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِحَمْرَاءَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقِيلَ: وَزْنُهُ أَفْعِلَاءُ، كَقَوْلِكَ: هَيْنٌ وَأَهْوِنَاءٌ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ وَيُصَغَّرُ فَيُقَالُ: أُشَيَّاءُ، قَالَ الْمَازِنِيُّ: يَجِبُ أَنْ يُصَغَّرَ شُيَيْآتٍ كَمَا يُصَغَّرُ أَصْدِقَاءُ، فِي الْمُؤَنَّثِ صُدَيْقَاتٍ وَفِي الْمُذَكَّرِ صُدَيْقُونَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: سَأَلْتُ نافعا عن قوله تعالى«لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» فَقَالَ: لَمْ تَزَلِ الْمَسَائِلُ مُنْذُ قَطُّ تُكْرَهُ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:] إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ [. قَالَ كَثِيرٌ «٢» مِنَ العلماء: المراد


(١). بحذف همزة الاستفهام في هذه الرواية كما في الدارقطني.
(٢). في ك: جماعة.

بِقَوْلِهِ] وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ [التَّكْثِيرُ مِنَ السُّؤَالِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ تَنَطُّعًا، وَتَكَلُّفًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ، وَالْأُغْلُوطَاتُ وَتَشْقِيقُ الْمُوَلَّدَاتِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ «١»، وَيَقُولُونَ: إِذَا نَزَلَتِ النَّازِلَةُ وُفِّقَ الْمَسْئُولُ لَهَا. قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ هَذَا الْبَلَدِ وَمَا عِنْدَهُمْ عِلْمٌ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ جَمَعَ الْأَمِيرُ لَهَا مَنْ حَضَرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنْفَذَهُ، وَأَنْتُمْ تُكْثِرُونَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ كَرِهَهَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ كَثْرَةُ سُؤَالِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ وَالْحَوَائِجَ إِلْحَاحًا وَاسْتِكْثَارًا، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسَاوِئِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» «٢»] الحجرات: ١٢]. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلِذَلِكَ قَالَ] بَعْضُ [«٣» أَصْحَابِنَا مَتَى قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ شي يَشْتَرِيهِ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَحَمَلَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ. قُلْتُ: وَالْوَجْهُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «٤». الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ فَافْتَرَقَا. قُلْتُ قَوْلُهُ: اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الْغَافِلِينَ فِيهِ قُبْحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَقُولَ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ، لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا كَانَ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ يَكْرَهُهَا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَذُكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ كَانَ حَدَّثَ فِيهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ قَالَ فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ. وَأَسْنَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مسألة فقال:


(١). أي لا يجب إلا ببيان، قال ابن العربي قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يشهد لكونها من باب التكليف الذي لا يبينه إلا نزول القرآن وجعل نزول القرآن سببا لوجوب الجواب.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٣٠.
(٣). من ع.
(٤). وجد في ى سند عن الشيخة شهده بنت أبي نصر الدينوري لحادثة تركناه لوروده في ج ١٠ ص ٥.

هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كلهن في القرآن، منهن«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ» «١»] البقرة: ٢١٧]،«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ»] البقرة: ٢٢٢]] وَشِبْهُهُ [«٢» مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: السُّؤَالُ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ «٣» السُّؤَالُ، وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ هُوَ بَسْطُ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحُ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ، فَإِذَا عَرَضَتْ نَازِلَةٌ أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاللَّهُ يَفْتَحُ فِي صوابها. الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فِيهِ غُمُوضٌ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ النَّهْيَ عن السؤال ثم قال:«وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» فَأَبَاحَهُ لَهُمْ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا فِيمَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْحَذْفِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْكِنَايَةُ فِي«عَنْها» تَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ»] المؤمنون: ١٢] يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ قَالَ:«ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً» «٤»] المؤمنون: ١٣] أَيِ ابْنَ آدَمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُجْعَلْ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، لَكِنْ لَمَّا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ آدَمُ دَلَّ عَلَى إِنْسَانٍ مِثْلِهِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ، فَالْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ حُكْمٍ، أَوْ مَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَإِذَا سَأَلْتُمْ فَحِينَئِذٍ تُبْدَ لَكُمْ، فَقَدْ أَبَاحَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ: وَمِثَالُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا والحامل،


(١). راجع ج ٣ ص ٤٠ وص ٨٠.
(٢). من ك.
(٣). العي: الجهل.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٠٨.

وَلَمْ يَجْرِ ذِكْرُ عِدَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرْءٍ وَلَا حَامِلٍ، فَسَأَلُوا عَنْهَا فَنَزَلَ«وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ» «١»] الطلاق: ٤]. فالنهي إذا في شي لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى السُّؤَالِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَلَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَنْها) أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا. وَقِيلَ: الْعَفْوُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ تَرَكَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْ بِهَا فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهُ فَلَعَلَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَكُمْ حُكْمُهُ سَاءَكُمْ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا [وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أَيْ أَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِهَا فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا حُكْمًا. وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، بَلِ الْمَعْنَى قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْ مَسْأَلَتِكُمُ الَّتِي سَلَفَتْ وَإِنْ كَرِهَهَا النَّبِيُّ ﷺ، فَلَا تَعُودُوا لِأَمْثَالِهَا. فَقَوْلُهُ:«عَنْها» أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ عَنِ السُّؤَالَاتِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمًا مِنْ قَبْلِنَا قَدْ سَأَلُوا آيَاتٍ مِثْلَهَا، فَلَمَّا أُعْطُوهَا وَفُرِضَتْ «٢» عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِهَا، وَقَالُوا: لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ، وَأَصْحَابِ عِيسَى الْمَائِدَةَ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ السُّؤَالِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تعالى:«فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» «٣»] النحل: ٤٣] فَالْجَوَابُ، أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عباده


(١). راجع ج ١٨ ص ١٦٢. [.....]
(٢). في ك: وقد فرضا.
(٣). راجع ج ١٠.

هُوَ مَا تَقَرَّرَ وَثَبَتَ وُجُوبُهُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالَّذِي جَاءَ فِيهِ النَّهْيُ هُوَ مَا لَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهَ عِبَادُهُ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جرما من سأل عن شي لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ [. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَلَوْ لَمْ يَسْأَلِ الْعَجْلَانِيُّ عَنِ الزِّنَى لَمَا ثَبَتَ اللِّعَانُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَأَلَ عَنِ الشَّيْءِ عَنَتًا وَعَبَثًا فَعُوقِبَ بِسُوءِ قَصْدِهِ بِتَحْرِيمِ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ يَعُمُّ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تَعَلُّقَ لِلْقَدَرِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يفعل شيئا من أجل شي وَبِسَبَبِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ على كله شي قدير، وهو بكل شي عَلِيمٌ، بَلِ السَّبَبُ وَالدَّاعِي فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، لَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَنْ يُحَرَّمَ الشَّيْءُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ إِذَا وَقَعَ السُّؤَالُ فِيهِ، لَا أَنَّ السُّؤَالَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَعِلَّةٌ لَهُ، وَمِثْلُهُ كثير» لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ«[الأنبياء: ٢٣] «١»

[سورة المائدة (٥): آية ١٠٣]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ). جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى سَمَّى، كَمَا قال تعالى:» إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا««٢»] الزخرف: ٣] أَيْ سَمَّيْنَاهُ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا سَمَّى اللَّهُ، وَلَا سَنَّ ذَلِكَ حُكْمًا، وَلَا تَعَبَّدَ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا، فَإِنَّ اللَّهَ خالق كل شي مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ«» مِنْ" زَائِدَةٌ. وَالْبَحِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَهِيَ عَلَى وَزْنِ النَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: الْبَحِيرَةُ هِيَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَا يَحْتَلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وأما السائبة فهي التي كانوا


(١). راجع ج ١١ ص ٢٧٨.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٦١.

يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: الْبَحِيرَةُ لُغَةً هِيَ النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، يُقَالُ بَحَرْتُ أُذُنَ النَّاقَةِ أَيْ شَقَقْتُهَا شَقًّا وَاسِعًا، وَالنَّاقَةُ بَحِيرَةٌ وَمَبْحُورَةٌ، وَكَانَ الْبَحْرُ عَلَامَةَ التَّخْلِيَةِ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: يُقَالُ البجيرة هِيَ الَّتِي خُلِّيَتْ بِلَا رَاعٍ، وَيُقَالُ لِلنَّاقَةِ الْغَزِيرَةِ «١» بَحِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْبَحِيرَةُ هِيَ ابْنَةُ السَّائِبَةِ، وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إِذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إِنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، لَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نُتِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ ابْنَةُ السَّائِبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا نَتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ إِنَاثًا بُحِرَتْ أُذُنُهَا فَحُرِّمَتْ، قَالَ:
مُحَرَّمَةٌ لَا يَطْعَمُ النَّاسُ لَحْمَهَا ... وَلَا نَحْنُ فِي شَيْءٍ كَذَاكَ الْبَحَائِرُ
وَقَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ «٢»: الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ فَإِذَا كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا نَحَرُوهُ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا- أَيْ شَقُّوهُ «٣» - وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا- وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ- فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلنِّسَاءِ. وَالسَّائِبَةُ الْبَعِيرُ يُسَيَّبُ بِنَذْرٍ يَكُونُ عَلَى الرَّجُلِ إِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ بَلَّغَهُ مَنْزِلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، فَلَا تجس عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ، وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ، وَقَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَسَائِبَةٌ لله تنمي «٤» تَشَكُّرًا ... إِنِ اللَّهُ عَافَى عَامِرًا أَوْ مُجَاشِعَا
وَقَدْ يُسَيِّبُونَ غَيْرَ النَّاقَةِ، وَكَانُوا إِذَا سَيَّبُوا الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ. وَقِيلَ: السَّائِبَةُ هِيَ الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا، وَلَا رَاعِيَ لَهَا، فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، نَحْوَ«عِيشَةٍ راضِيَةٍ» أَيْ مَرْضِيَّةٍ. مِنْ سَابَتِ الْحَيَّةُ وَانْسَابَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقَرْتُمْ نَاقَةً كَانَتْ لِرَبِّي ... وَسَائِبَةً فَقُومُوا لِلْعِقَابِ
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا، فَأَمَّا الْحَامُ فَمِنَ الْإِبِلِ، كَانَ الْفَحْلُ إِذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ ريش الطواويس


(١). قال ابن عطية: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر.
(٢). كذا في ج وا وك. ولعله أبو بكر محمد بن عزيز- كزبير- السجستاني صاحب غريب القرآن وصحح بأنه عزير بزاء وراء مهملة، كما في ى وب وز، والتاج مادة عزز وفية عزا هذا التعريف لابن عرفة عن الأزهري.
(٣). كذا في الأصول. والاذن مؤنثة.
(٤). نمت الناقة سمنت.

وَسَيَّبُوهُ، وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنَ الْغَنَمِ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا. وَقَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ: الْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ، قَالَ: كَانُوا إِذَا وَلَدَتِ الشَّاةُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ نَظَرُوا، فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذُبِحَ وَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى تُرِكَتْ فِي الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ تُذْبَحْ لِمَكَانِهَا، وَكَانَ لَحْمُهَا حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلَبَنُ الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ منهما شي فَيَأْكُلُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَالْحَامِي الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. قَالَ:
حَمَاهَا أَبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ الْفَحْلُ
وَيُقَالُ: إِذَا نُتِجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشَرَةُ أبطن قالوا: قد حمى ظهر فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَاءٍ وَلَا مَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ الشَّاةُ إِذَا أَتْأَمَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، قَالُوا: وَصَلَتْ فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ، إلا أن يموت شي مِنْهَا فَيَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ «١» فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ [وَفِي رِوَايَةٍ] عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَخَا بَنِي كَعْبٍ هَؤُلَاءِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ [. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ:] رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بن قمعة بن خندق يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلَا بِهِ مِنْكَ [فَقَالَ أَكْثَمُ: أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:] لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِيَ [وَفِي رِوَايَةٍ:] رَأَيْتُهُ رَجُلًا قَصِيرًا أَشْعَرَ لَهُ وَفْرَةً «٢» يجر قضبه فِي النَّارِ [. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:] إنه يؤذي أهله النَّارِ بِرِيحِهِ [. مُرْسَلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ ذَلِكَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الصَّحِيحِ كِفَايَةٌ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ «٣»، وَتَغْيِيرِ دين إبراهيم عليه السلام


(١). القصب: المعى.
(٢). الوفرة- شعر الرأس إذا وصل شحمة الاذن.
(٣). في ك: الأصنام.

عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَآبَ «١» مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ- وَيُقَالُ عِمْلَاقُ- بْنُ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُ بِهَا فَنُمْطَرُ، وَنَسْتَنْصِرُ بِهَا فَنُنْصَرُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُونَهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: (هُبَلُ) فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ«مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ».«وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» يَعْنِي مِنْ قُرَيْشٍ وَخُزَاعَةَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ«يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِتَحْرِيمِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ. وَقَالُوا:«مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا»] الانعام: ١٣٩] يَعْنِي مِنَ الْوَلَدِ وَالْأَلْبَانِ«وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً»] الانعام: ١٣٩] يَعْنِي إِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجلفَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ»] الانعام: ١٣٩] أَيْ بِكَذِبِهِمِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ«إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» «٢»] الانعام: ١٣٩] أَيْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:«قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «٣»] يونس: ٥٩] وأنزل عليه:«ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» «٤»] الانعام: ١٤٣] وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ:«وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ» «٥»] الانعام: ١٣٨] الْآيَةَ. الرَّابِعَةُ- تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِي مَنْعِهِ الْأَحْبَاسَ وَرَدِّهِ الْأَوْقَافَ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفَاسِهَا عَنْهَا، وَقَاسَ عَلَى الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْفَرْقِ بَيِّنٌ. وَلَوْ عَمَدَ رَجُلٌ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَقَالَ: هَذِهِ تَكُونُ حَبْسًا، لَا يُجْتَنَى ثَمَرُهَا، وَلَا تُزْرَعُ أَرْضُهَا، وَلَا يُنْتَفَعُ مِنْهَا بِنَفْعٍ، لَجَازَ أَنْ يُشَبَّهَ هَذَا بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَقَدْ قَالَ عَلْقَمَةُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: مَا تريد إلى شي كان من عمل أهله الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْأَحْبَاسِ وَالْأَوْقَافِ ما عدا أبا حنيفة


(١). مآب (بهمزة مفتوحة بعدها ألف): مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. (معجم ياقوت).
(٢). راجع ج ٧ ص ٩٥.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٥٤. [.....]
(٤). راجع ج ٧ ص ٩٥.
(٥). راجع ج ٧ ص ٩٥.

وَأَبَا يُوسُفَ وَزُفَرَ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ لَمَّا حَدَّثَهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِسَهْمِهِ بِخَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] احْبِسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ [«١». وَبِهِ يَحْتَجُّ كُلُّ مَنْ أَجَازَ الْأَحْبَاسَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَجَابِرًا كُلَّهُمْ وَقَفُوا الْأَوْقَافَ، وَأَوْقَافُهُمْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ لِمَالِكٍ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ: إِنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: هَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ، وَإِذْهَابِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِزَالَةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لِلْعِبَادِ فِي تِلْكَ الْإِبِلِ. وَبِهَذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَحْبَاسَ وَالْأَوْقَافَ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَأَلْتُ شُرَيْحًا عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ دَارَهُ حَبْسًا عَلَى الْآخِرِ «٢» مِنْ وَلَدِهِ فَقَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، قَالُوا: فَهَذَا شُرَيْحٌ قَاضِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَكَمَ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يقول بعد ما أُنْزِلَتْ سُورَةُ«النِّسَاءِ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا الْفَرَائِضَ: يَنْهَى عَنِ الْحَبْسِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّدَقَةُ الَّتِي يُمْضِيهَا الْمُتَصَدِّقُ فِي حَيَاتِهِ عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَعَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم لَيْسَ مِنَ الْحَبْسِ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ شُرَيْحٍ وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَعَمَلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ اخْتَلَطَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَخُوهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُخْرَجَ الْأَرْضُ بِالْوَقْفِ عَنْ مِلْكِ أَرْبَابِهَا لَا إِلَى مِلْكِ مَالِكٍ؟ قَالَ الطَّحَاوِيُّ يُقَالُ لَهُمْ: وَمَا يُنْكَرُ مِنْ هَذَا وَقَدِ اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها


(١). أي اجعلها وقفا: وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه.
(٢). في ك: الآخرين.

صَاحِبُهَا مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، وَقَدْ خَرَجَتْ بِذَلِكَ مِنْ مِلْكٍ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَلَكِنْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ السِّقَايَاتُ وَالْجُسُورُ وَالْقَنَاطِرُ، فَمَا أَلْزَمْتَ مُخَالِفَكَ فِي حُجَّتِكَ عَلَيْهِ يَلْزَمُكَ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- اخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ لِلْحَبْسِ فِيمَا لِلْمُحَبِّسِ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُوقِفِ مِلْكَهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، إِلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى صَدَقَتَهُ، وَتَكُونُ بِيَدِهِ ليفرقها ويسلبها فِيمَا أَخْرَجَهَا فِيهِ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه لَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَتَهُ- فِيمَا بَلَغَنَا- حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عز وجل قَالَ: وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ رضي الله عنهما كَانَا يَلِيَانِ صَدَقَاتِهِمَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَبَسَ أَرْضًا أَوْ نَخْلًا أَوْ دَارًا عَلَى الْمَسَاكِينِ وَكَانَتْ بِيَدِهِ يَقُومُ بِهَا وَيُكْرِيهَا وَيُقَسِّمُهَا فِي الْمَسَاكِينِ حَتَّى مَاتَ وَالْحَبْسُ فِي يَدَيْهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَبْسٍ مَا لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مِيرَاثٌ، وَالرَّبْعُ «١» عِنْدَهُ وَالْحَوَائِطُ وَالْأَرْضُ لَا يَنْفُذُ حَبْسُهَا، وَلَا يَتِمُّ حَوْزُهَا، حَتَّى يَتَوَلَّاهُ غَيْرُ مَنْ حَبَّسَهُ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ، هَذَا مُحَصَّلُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابِهِ «٢»، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. السَّادِسَةُ- لَا يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ وَقَطَعَهُ عَنْ مِلْكِهِ، فَانْتِفَاعُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ رُجُوعٌ فِي صَدَقَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ، أَوْ أَنْ يَفْتَقِرَ الْمُحَبِّسُ «٣»، أَوْ وَرَثَتُهُ فَيَجُوزُ لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْهُ. ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ حَبَّسَ أَصْلًا تَجْرِي غَلَّتُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ وَلَدَهُ يُعْطَوْنَ مِنْهُ إِذَا افْتَقَرُوا- كَانُوا يَوْمَ حَبَّسَ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ- غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ جَمِيعَ الْغَلَّةِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْدَرِسَ الْحَبْسُ وَلَكِنْ يَبْقَى مِنْهُ سَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ اسْمُ الْحَبْسِ، وَيُكْتَبُ عَلَى الْوَلَدِ كِتَابٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ مَا أُعْطُوا عَلَى سَبِيلِ الْمَسْكَنَةِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقٍّ لَهُمْ دُونَ الْمَسَاكِينِ. السَّابِعَةُ- عِتْقُ السَّائِبَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَيَنْوِي الْعِتْقَ، أَوْ يَقُولُ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَاءَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعِتْقَهُ نَافِذٌ، هَكَذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمْ، وبه


(١). الربع: محلة القوم ومنزلهم.
(٢). في ك: عند جماعة من .. إلخ.
(٣). في ج: للحبس.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا يُعْتِقُ أَحَدٌ سَائِبَةً، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا عِنْدَ كُلِّ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ، إِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ عِتْقِ السَّائِبَةِ لَا غَيْرَ، فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ وَأَنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ وَقَعَ نَفَذَ وَكَانَ مِيرَاثًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَصْبَغُ: لَا بَأْسَ بِعِتْقِ السَّائِبَةِ ابْتِدَاءً، ذَهَبَ إِلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ احْتَجَّ إِسْمَاعِيلُ] الْقَاضِي [«١» ابْنُ إِسْحَاقَ وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ. وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِتْقَ السَّائِبَةَ مُسْتَفِيضٌ بِالْمَدِينَةِ لَا يُنْكِرُهُ عَالِمٌ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ السَّلَفِ أعتقوا سائبة. وروي ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ الْبَصْرِيُّ التَّمِيمِيُّ «٢» رضي الله عنه مِمَّنْ أُعْتِقَ سَائِبَةً، أَعْتَقَتْهُ مَوْلَاةٌ لَهُ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ سَائِبَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَافَتْ بِهِ عَلَى حِلَقِ الْمَسْجِدِ، وَاسْمُهُ رُفَيْعُ بْنُ مِهْرَانَ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: لَا سَائِبَةَ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ:] مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً فَوَلَاؤُهُ لَهُ [وَبِقَوْلِهِ:] إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ [. فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرٍ مُعْتِقٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:» مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ
" وَبِالْحَدِيثِ] لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ [وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلَامًا لِي سَائِبَةً فَمَاذَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ، إِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ الْجَاهِلِيَّةُ، أَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نعمته.

[سورة المائدة (٥): آية ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)


(١). من ك.
(٢). في الأصول: التيمي. والصواب ما أثبت.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي«الْبَقَرَةِ» «١» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا.

[سورة المائدة (٥): آية ١٠٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ، وَهُوَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهُ مِمَّنْ رَكَنَ فِي دِينِهِ إِلَى تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَيْسَ الْقِيَامُ بِهِ بِوَاجِبٍ إِذَا اسْتَقَامَ الْإِنْسَانُ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، لَوْلَا مَا ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» مَعْنَاهُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، تَقُولُ عَلَيْكَ زَيْدًا بِمَعْنَى الْزَمْ زَيْدًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ زَيْدًا، بَلْ إِنَّمَا يَجْرِي هَذَا فِي الْمُخَاطَبَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ عَلَيْكَ زَيْدًا أَيْ خُذْ زَيْدًا، وَعِنْدَكَ عَمْرًا «٢» أَيْ حَضَرَكَ، وَدُونَكَ «٣» زَيْدًا أَيْ قَرِّبْ مِنْكَ، وَأَنْشَدَ:
يَا أَيُّهَا الْمَائِحُ «٤» دَلْوِي دونكا

وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ رَجُلًا لَيْسَنِي، فَشَاذٌّ. الثَّالِثَةُ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ قَيْسٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول:


(١). راجع ج ٢ ص ٢١٠ وما بعدها.
(٢). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(٣). كذا في الأصول. والمتبادر أن هذا إغراء، أي خذه.
(٤). المانح: هو الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو. وتمامه:
إني رأيت الناس يحمدونكا

] إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ [. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ «١» سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، قُلْتُ: وَلَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ رَوَى عَنْ قَيْسٍ مَوْقُوفًا. قَالَ النَّقَّاشُ: وَهَذَا إِفْرَاطٌ مِنْ وَكِيعٍ، رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ مَرْفُوعًا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: [بَلِ] «٢» ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ [. وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ:] بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ [. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُهُ:] بَلْ مِنْكُمْ [هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَدْ سَكَتَ عَنْهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:] إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا [قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِ هَذِهِ الْآيَةِ، قُولُوا الْحَقَّ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الْفِتَنِ: لَوْ تَرَكْتَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ؟ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لَنَا:] لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ [وَنَحْنُ شَهِدْنَا فَيَلْزَمُنَا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ، وَسَيَأْتِي زَمَانٌ إِذَا قِيلَ فِيهِ الْحَقُّ لَمْ يُقْبَلْ. فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَعْدَ قَوْلِهِ:] لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ [فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودُ وَأَنْتُمُ الْغُيَّبُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ


(١). في ك: ابن راهويه. وهو ابن إبراهيم. [.....]
(٢). الزيادة عن الترمذي.

لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَوْلُهُ تَعَالَى:» عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ«خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَلَيْكُمْ أهله دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:» وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ«فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلْيَنْهَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَجْرِي مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ اشْتِغَالَ الْإِنْسَانِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وتركه التعرض لمعايب النَّاسِ، وَالْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:» كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ««١»] المدثر: ٣٨]،» وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " «٢»] الانعام: ٤٦١]. وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ:] كُنْ جَلِيسَ «٣» بَيْتِكَ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ [. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ، وَيَشْتَغِلُ بِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ: قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ الْجُذَامِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] إِذَا كَانَ رَأْسُ مِائَتَيْنِ فَلَا تَأْمُرْ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ [. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا قَالَ عليه السلام ذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَفَسَادِ الْأَحْوَالِ، وَقِلَّةِ الْمُعِينِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَبْنَاءِ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبُوا السَّوَائِبَ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الدِّينِ، لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ الْأَسْلَافِ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ الْكُفَّارُ سَفَّهْتَ آبَاءَكَ وَضَلَّلْتَهُمْ وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْوَعْظُ، فَإِذَا عَلِمْتَ مِنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ، بَلْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَظْهَرُونَ فَاسْكُتْ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْأُسَارَى الَّذِينَ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ، فَقِيلَ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمُ ارْتِدَادُ أَصْحَابِكُمْ. وَقَالَ: سعيد بن جبير: هي


(١). راجع ج ١٩ ص ٨٥.
(٢). راجع ج ٧ ص ١٥٧.
(٣). في ب، ع، هـ: حلس بالمهملة: وهو بساط في البيت، وحلس بيته إذا لم يبرح مكانه.

فِي أَهْلِ الْكِتَابِ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ، يَذْهَبَانِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّكُمْ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يُعْلَمُ قَائِلُهُ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى آيَةٌ جَمَعَتِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ غَيْرُهُ: النَّاسِخُ مِنْهَا قَوْلُهُ:«إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» وَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ مُتَعَيَّنٌ مَتَى رُجِيَ الْقَبُولُ، أَوْ رُجِيَ رَدُّ الظَّالِمِ وَلَوْ بِعُنْفٍ، مَا لَمْ يَخَفِ الْآمِرُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ فِي خَاصَّتِهِ، أَوْ فِتْنَةً يُدْخِلُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، إِمَّا بِشَقِّ عَصًا، وَإِمَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا خِيفَ هَذَا فَ«عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» مُحْكَمٌ «١» وَاجِبٌ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي النَّاهِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هذا جماعة أهل «٢» العلم فاعلمه.

[سورة المائدة (٥): الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)


(١). في ج، ك: حكم.
(٢). في ك: من أهل العلم.

فِيهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ مَكِّيٌّ- رحمه الله: هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الثَّلَجُ «١» فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ رحمه الله. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ- رحمه الله ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَبْلَهُ أَيْضًا، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ تَمِيمُ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ] بْنُ بَدَّاءَ [«٢» يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا فَتًى مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا «٣» مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ،؟؟ فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (مَا كَتَمْتُمَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا) ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيٍّ وَتَمِيمٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَةِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا أَنَّ هَذَا الْجَامَ لِلسَّهْمِيِّ، وَلَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا، قَالَ: فَأَخَذُوا الْجَامَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ- وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ بِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ له: بديل ابن أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الجام فبعناه بألف درهم ثم


(١). ثلجت النفس بالشيء ثلجا اشتقت به واطمأنت إليه، وقيل: عرفته وسرت به.
(٢). من ع.
(٣). الجام إناء من فضة، وجام مخوص أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل.

اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ «١» بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجليَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» إِلَى قَوْلِهِ«بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ يَدَيْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمَا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِرًا، فَخَرَجَ مَعَ تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ السَّهْمِيِّ، كَانَ خَرَجَ مُسَافِرًا فِي الْبَحْرِ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى تَمِيمًا وَكَانَ مِنْ لَخْمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَمَاتَ بُدَيْلٌ وَهُمْ فِي السَّفِينَةِ فَرُمِيَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْمَتَاعِ فَقَالَ: أَبْلِغَا هَذَا الْمَتَاعَ أَهْلِيَ، فَلَمَّا مَاتَ بُدَيْلٌ قَبَضَا الْمَالَ، فَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَعْجَبَهُمَا فَكَانَ فِيمَا أَخَذَا إِنَاءً مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ مِثْقَالٍ، مَنْقُوشًا «٢» مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَهُ سُنَيْدٌ وَقَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بُدَيْلٌ وَكَانَ مُسْلِمًا، الْحَدِيثَ. الثَّانِيَةُ- وَقَوْلُهُ تَعَالَى:«شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» وَرَدَ«شَهِدَ» فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ «٣» مُخْتَلِفَةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تعالى:«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ»] البقرة: ٢٨٢] قِيلَ: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا. وَمِنْهَا«شَهِدَ» بِمَعْنَى قَضَى أَيْ أَعْلَمَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ» «٤»] آل عمران: ١٨]. وَمِنْهَا«شَهِدَ» بِمَعْنَى أَقَرَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» «٥»] النساء: ١٦٦]. وَمِنْهَا«شَهِدَ» بِمَعْنَى حَكَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» «٦»] يوسف: ٢٦]. وَمِنْهَا«شَهِدَ» بِمَعْنَى حَلَفَ، كَمَا فِي اللِّعَانِ.«وشهد»


(١). يقطع: يعظم.
(٢). في ع: موشا بالذهب.
(٣). أراد بمعان.
(٤). راجع ج ٤ ص ٤٠.
(٥). راجع ج ٦ ص ١٩. [.....]
(٦). راجع ج ٩ ص ١٧٢.

بِمَعْنَى وَصَّى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ«. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا هُنَا الْحُضُورُ لِلْوَصِيَّةِ، يُقَالُ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْتُهَا. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَمِينُ مَا بَيْنَكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَفَّالُ. وَسُمِّيَتِ الْيَمِينُ شَهَادَةً، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُحْفَظُ فَتُؤَدَّى، وَضَعَّفَ كَوْنَهَا بِمَعْنَى الحضور واليمين. الثالثة- قوله تَعَالَى:» بَيْنِكُمْ«قِيلَ: مَعْنَاهُ مَا بَيْنَكُمْ فَحُذِفَتْ» مَا«وَأُضِيفَتِ الشَّهَادَةُ إِلَى الظَّرْفِ، وَاسْتُعْمِلَ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِالْمَفْعُولِ على السعة، كما قال:
يوما شهدناه سليما وعامرا «١»

أَرَادَ شَهِدْنَا فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى:» بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ««٢»] سبأ: ٣٣] أَيْ مَكْرُكُمْ فِيهِمَا. وَأَنْشَدَ:
تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي بَيْنَ عَيْنَيْكَ مُنْزَوِي
أَرَادَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْكَ فَحَذَفَ، وَمِنْهُ قوله تعالى:» هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ««٣»] الكهف: ٧٨] أَيْ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:» (إِذا حَضَرَ) «مَعْنَاهُ إِذَا قَارَبَ الْحُضُورَ، وَإِلَّا فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ لَمْ يُشْهِدْ مَيِّتٌ «٤». وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:» فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ««٥»] النحل: ٩٨]. وكقوله:» إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ««٦»] الطلاق: ١] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَالْعَامِلُ فِي» إِذا«الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ» شَهادَةُ«. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ)» حِينَ«ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ» حَضَرَ«وَقَوْلُهُ:» اثْنانِ«يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ شَخْصَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ رَجُلَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:» ذَوا عَدْلٍ«بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْمُذَكَّرِ، كَمَا أَنَّ» ذَوَاتَا««٧»] الرحمن: ٤٨] لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْمُؤَنَّثِ. وَارْتَفَعَ» اثْنانِ«عَلَى أنه خبر المبتدأ الذي هو» شَهادَةُ"


(١). هذا صدر بيت لرجل من بني عامر، وتمامه:
قليل سواي الطعن النهال نوافله

وسلم عامر قبيلتان من قيس عيلان.
(٢). راجع ج ١٤ ص ٣٠٢.
(٣). راجع ج ١١ ص ٤٢.
(٤). في ك: لميت.
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٧٤.
(٦). راجع ج ١٨ ص ١٤٨.
(٧). راجع ج ١٧ ص ١٧٨.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ«شَهادَةُ» رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ:«اثْنانِ» التَّقْدِيرُ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ فِي وَصَايَاكُمْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ «١» إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:«وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» «٢»] الأحزاب: ٦] أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ«اثْنانِ» بِ«- شَهادَةُ»، التَّقْدِيرُ وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَوْ لِيَكُنْ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، أَوْ لِيُقِمِ الشَّهَادَةُ اثْنَانِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) «ذَوا عَدْلٍ» صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:«اثْنانِ» وَ«مِنْكُمْ» صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ. وَقَوْلُهُ:«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أَيْ أَوْ شَهَادَةُ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِكُمْ، فَمِنْ غَيْرِكُمْ صِفَةٌ لِآخَرَيْنِ. وَهَذَا الْفَصْلُ هُوَ الْمُشْكِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّ الْكَافَ وَالْمِيمَ فِي قَوْلِهِ:«مِنْكُمْ» ضَمِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ«أَوْ- آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» لِلْكَافِرِينَ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةً فِي السَّفَرِ إِذَا كَانَتْ وَصِيَّةً، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ، مَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَهُوَ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ «٣»، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُوصِي إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ «٤» أَنَّهُمَا مَا كَذَبَا وَمَا بَدَّلَا، وَأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، مَا كَتَمَا فِيهِ شَهَادَةً وَحُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ خَانَا، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا هُوَ إِثْمٌ حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي فِي السَّفَرِ، وَغَرِمَ الشَّاهِدَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا. هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلَّامٍ لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِ. وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ: شَهَادَةُ أَهْلِ الذمة جائزة على المسلمين في السفر


(١). ينبغي بناء الفعل للمجهول.
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٢١.
(٣). كذا في الأصول. وابن قيس هو أبو موسى. ولعل الصواب عبد الله بن مسعود كما يستفاد من أحكام الجصاص.
(٤). كذا في ب، ج، ع، ك، هـ، ز وفي ا: الشهادة.

عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ«مِنْكُمْ» مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى«مِنْ غَيْرِكُمْ» يَعْنِي الْكُفَّارَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ «١» وَلَا مُؤْمِنَ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ بِالتِّجَارَةِ صُحْبَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ. وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي مُوسَى وَشُرَيْحٍ وَغَيْرِهِمَا. الْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» مَنْسُوخٌ، هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فَقَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:«مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» «٢»] البقرة: ٢٨٢] وقوله:«وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» «٣»] الطلاق: ٢]، فَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَأَنَّ فِيهَا«مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» فَهُوَ نَاسِخٌ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهله الْكِتَابِ، وَهُوَ الْيَوْمُ طَبَّقَ الْأَرْضَ فَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفُسَّاقِ لَا تَجُوزُ، وَالْكُفَّارُ فُسَّاقٌ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. قُلْتُ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً لِلضَّرُورَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ فَلَا، وَلَمْ يَأْتِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنَ النَّسْخِ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ شَهِدَ التَّنْزِيلَ، وَقَدْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَمُخَالَفَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ يَنْفِرُ عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ. وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ سُورَةَ«الْمَائِدَةِ» مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُ لَا مَنْسُوخَ فِيهَا. وَمَا ادَّعَوْهُ مِنَ النَّسْخِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ النَّاسِخِ عَلَى وَجْهٍ يَتَنَافَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَعَ تَرَاخِي النَّاسِخِ، فَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، فَإِنَّهُ فِي قِصَّةٍ غَيْرُ قِصَّةِ الْوَصِيَّةِ لِمَكَانَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، وَلِأَنَّهُ ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَلَيْسَ فِيمَا قَالُوهُ نَاسِخٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ- أَنَّ الْآيَةَ لَا نَسْخَ فِيهَا، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:«مِنْكُمْ» أَيْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ، لِأَنَّهُمْ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ وأبعد عن النسيان «٤».


(١). المتبادر أن العبارة: إن الآية نزلت في حادثة ولا مؤمن إلخ.
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٩٥، وص ١٥٧ ج ١٨. [.....]
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٩٥، وص ١٥٧ ج ١٨.
(٤). في ك: عن الشنآن.

ومعنى قوله: (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ وَالْعَشِيرَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنًى«آخَرَ» فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ، فَقَوْلُهُ«آخَرُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ، فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ:«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أَيْ عَدْلَانِ، وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ«مِنْ غَيْرِكُمْ» مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ«مِنْ غَيْرِكُمْ» مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فخوطب الجماعة من المؤمنين. السابعة- استدل أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ: وَمَعْنَى«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ لَا تَقُولُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَا فَلَا يَصِحُّ احْتِجَاجُكَ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ طَرِيقِ النُّطْقِ، وَدَلَّتْ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنْ تُقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبَقِيَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرْعٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ الْأَصْلُ فَلِأَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهِيَ فَرْعُهَا أَحْرَى وَأَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَافَرْتُمْ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ«فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» فَأَوْصَيْتُمْ إِلَى اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي ظَنِّكُمْ، وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَا مَعَكُمْ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ مُتُّمْ وَذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِالتَّرِكَةِ فَارْتَابُوا فِي أمرهما،

وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً، فَالْحُكْمُ أَنْ تَحْبِسُوهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ، أَيْ تَسْتَوْثِقُوا مِنْهُمَا، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَوْتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُصِيبَةً، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْمَوْتُ وَإِنْ كَانَ مُصِيبَةً عُظْمَى، وَرَزِيَّةً كُبْرَى، فَأَعْظَمُ مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَرْكُ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لَهُ، وَإِنَّ فِيهِ وَحْدَهُ لَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ، وَفِكْرَةً لِمَنْ تَفَكَّرَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ [أَنَّهُ قَالَ:] «١» (لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا). وَيُرْوَى أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَخَرَّ الْجَمَلُ مَيِّتًا فَنَزَلَ الْأَعْرَابِيُّ عَنْهُ، وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهِ وَيَتَفَكَّرُ فِيهِ وَيَقُولُ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ؟! مَا لَكَ لَا تَنْبَعِثُ؟! هَذِهِ أَعْضَاؤُكَ كَامِلَةٌ، وَجَوَارِحُكَ سَالِمَةٌ، مَا شَأْنُكَ؟! مَا الَّذِي كَانَ يَحْمِلُكَ؟! مَا الَّذِي كَانَ يَبْعَثُكَ؟! مَا الَّذِي صَرَعَكَ؟! مَا الَّذِي عَنِ الْحَرَكَةِ مَنَعَكَ؟! ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُتَفَكِّرًا فِي شَأْنِهِ، مُتَعَجِّبًا مِنْ أَمْرِهِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَحْبِسُونَهُما) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:«تَحْبِسُونَهُما» صِفَةٌ لِ«آخَرانِ» وَاعْتُرِضَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ:«إِنْ أَنْتُمْ». وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَالْحُقُوقُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلَّا مُؤَجَّلًا، فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ [الْحَقُّ] «٢» غَابَ وَاخْتَفَى وَبَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ «٣» فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّوَثُّقِ مِنْهُ «٤» فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمُسَمَّى رَهْنًا، وَإِمَّا بِشَخْصٍ يَنُوبُ مَنَابَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالذِّمَّةِ وَهُوَ الْحَمِيلُ «٥»، وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ كَمَغِيبِهِ وَيَتَعَذَّرَ وُجُودُهُ كَتَعَذُّرِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِهِ حَتَّى تَقَعَ مِنْهُ التَّوْفِيَةُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ، أَوْ تَبِينَ عُسْرَتُهُ. الْعَاشِرَةُ- فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بَدَنِيًّا لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّفِقِ «٦» اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا التَّوَثُّقُ بِسَجْنِهِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ شُرِعَ السِّجْنُ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ


(١). من ع.
(٢). من ع.
(٣). توى المال: ذهب فلم يرج.
(٤). في ع وك: به.
(٥). الحميل: الكفيل.
(٦). في ك: لم يمكن.

قَالَ:] لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ [. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يُحِلُّ عِرْضَهُ يُغَلِّظُ لَهُ، وَعُقُوبَتُهُ يُحْبَسُ لَهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحَبْسُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، حَبْسُ عُقُوبَةٍ، وَحَبْسُ اسْتِظْهَارٍ، فَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وَاجِبٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي تُهْمَةٍ فَإِنَّمَا يُسْتَظْهَرُ بِذَلِكَ لِيُسْتَكْشَفَ بِهِ مَا وَرَاءَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى أَنْ يَقُومَ فَإِنْ أَعْطَاهُ حَقَّهُ وَإِلَّا أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يُرِيدُ صَلَاةَ الْعَصْرِ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَيَتَجَنَّبُونَ فِيهِ الْكَذِبَ وَالْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ. وَقِيلَ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ. وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ «١»، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ فَائِدَةَ اشْتِرَاطِهِ بَعْدَ الصلاة تعظيما للوقت، وإرهابا بِهِ، لِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَفِي الصَّحِيحِ] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ [. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي التَّغْلِيظِ فِي الْأَيْمَانِ، وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا- الزَّمَانُ كَمَا ذَكَرْنَا. الثَّانِي- الْمَكَانُ كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ يَقُولُونَ: لَا يَجِبُ اسْتِحْلَافُ أَحَدٍ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ لَا فِي قَلِيلِ الْأَشْيَاءِ وَلَا فِي «٢» كَثِيرِهَا، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ- رحمه الله حَيْثُ تَرْجَمَ (بَابُ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ). وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: وَيُجْلَبُ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ إِلَى مَكَّةَ مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهَا، فَيَحْلِفُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُجْلَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِهَا فَيَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. الثَّالِثُ- الْحَالُ رَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَحْلِفُ جَالِسًا، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا إِنْ كَانَ «٣» قَائِمًا فَقَائِمًا وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ اعتبار ذلك من قيام أو جلوس.


(١). في ع: كانا كافرين.
(٢). من ى.
(٣). من ى.

قُلْتُ: قَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ: [فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ] الْقِيَامَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. الرَّابِعُ- التَّغْلِيظُ بِاللَّفْظِ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:«فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ» وقوله:«قُلْ إِي وَرَبِّي» «١»] يونس: ٥٣] وقال:«وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» «٢»] الأنبياء: ٥٧] وَقَوْلُهُ عليه السلام: [مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ]. وَقَوْلُ الرَّجُلِ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عِنْدِي حَقٌّ، وَمَا ادَّعَاهُ عَلَيَّ بَاطِلٌ، وَالْحُجَّةُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال- يَعْنِي لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ [احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إله إلا هو ما له عندك شي] يَعْنِي لِلْمُدَّعِي، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَبُو يَحْيَى اسْمُهُ زِيَادٌ «٣» كُوفِيٌّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا غَيْرَ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ الْقَاضِي غَلَّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. وَزَادَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ التَّغْلِيظَ بِالْمُصْحَفِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِيَ صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ] وَيَرْوِيهِ [«٤» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَصِحَّ. قُلْتُ: وَفِي كِتَابِ (الْمُهَذَّبِ) وَإِنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُحَلِّفُ عَلَى الْمُصْحَفِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ مُطَرِّفًا بِصَنْعَاءَ يُحَلِّفُ «٥» عَلَى الْمُصْحَفِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمُصْحَفِ «٦». قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَيْمَانِ: وَكَانَ قتادة يحلف بالمصحف. وقال أحمد وإسحاق: لا يكره ذلك، حكاه عنهما ابن المنذر.


(١). راجع ج ٨ ص ٣٥١.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٩٦.
(٣). هو أبو يحيى زياد الأعرج مولى الأنصار. [.....]
(٤). من الأصول. وفي ابن العربي: ويأثر أصحابه ذلك عن ابن عباس.
(٥). وفي ب وج وع وى وهـ: يستحلف.
(٦). في ب وع وهـ وى: أو المصحف.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يُحَلَّفُ بِهِ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْيَمِينُ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى الْقَطْعِ، وَكُلُّ مَالٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ وَتَسْقُطُ بِهِ حُرْمَةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَظِيمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ الْيَمِينُ فِي ذَلِكَ فِي أَقَلِّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مِنْبَرِ كُلِّ مَسْجِدٍ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ) الْفَاءُ فِي«فَيُقْسِمانِ» عَاطِفَةُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، أو جواب جزاء، لان«تَحْبِسُونَهُما» مَعْنَاهُ احْبِسُوهُمَا، أَيْ لِلْيَمِينِ، فَهُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَبَسْتُمُوهُمَا أَقْسَمَا، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءَ مَرَّةً ... فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ «١» فَيَغْرَقُ
تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ: إِذَا حَسَرَ بَدَا. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتُلِفَ مَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ:«فَيُقْسِمانِ»؟ فَقِيلَ: الْوَصِيَّانِ إِذَا ارْتِيبَ فِي قَوْلِهِمَا وَقِيلَ: الشَّاهِدَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُبْطِلًا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَالَّذِي سَمِعْتُ- وَهُوَ بِدْعَةٌ- عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ يُحَلَّفُ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُ بِالْحَقِّ، وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إِذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ فَيُحَلِّفُ إِنَّهُ لَبَاقٍ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يُحَلَّفُ؟! هَذَا مَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا اسْتُحْلِفَ الشَّاهِدَانِ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُدَّعًى عَلَيْهِمَا، حَيْثُ ادَّعَى الْوَرَثَةُ أَنَّهُمَا خَانَا فِي الْمَالِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شَرْطٌ لَا يَتَوَجَّهُ تَحْلِيفُ الشَّاهِدَيْنِ إِلَّا بِهِ، وَمَتَى لَمْ يَقَعْ رَيْبٌ وَلَا اخْتِلَافٌ فَلَا يَمِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمَّا إِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ حُكْمِ أبي موسى


(١). يجم: يكثر فيه الماء.

فِي تَحْلِيفِ الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ تَكْمُلُ شَهَادَتُهُمَا وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِهَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَاءَ «١» هَذِهِ «٢»، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [حَضَرَهُ] «٣» يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ فَأَخْبَرَاهُ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ:] بِاللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ [فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الرِّيبَةُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْآيَةَ مَنْسُوخَةً تَتَرَتَّبُ فِي الْخِيَانَةِ، وَفِي الِاتِّهَامِ بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَتَقَعُ مَعَ ذَلِكَ الْيَمِينُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْآيَةَ مَنْسُوخَةً فَلَا يَقَعُ تَحْلِيفٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الِارْتِيَابُ فِي خِيَانَةٍ أَوْ تَعَدٍّ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّعَدِّي، فَيَكُونُ التَّحْلِيفُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ الدَّعْوَى عَلَى مُنْكَرٍ لَا عَلَى أَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِلشَّهَادَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَمِينُ الرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا- مَا تَقَعُ الرِّيبَةُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَتَوَجُّهِ الدَّعْوَى فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ. الثَّانِي- التُّهْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، وَلَهُ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِي كتب الفروع، وقد تحققت ها هنا الدَّعْوَى وَقَوِيَتْ حَسْبَمَا ذُكِرَ فِي الرِّوَايَاتِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ:«إِنِ ارْتَبْتُمْ» يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ:«تَحْبِسُونَهُما» لَا بِقَوْلِهِ«فَيُقْسِمانِ» لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ سَبَبُ الْقَسَمِ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى) أَيْ يَقُولَانِ فِي يَمِينِهِمَا لَا نَشْتَرِي بِقَسَمِنَا عِوَضًا نَأْخُذُهُ بَدَلًا مِمَّا أَوْصَى بِهِ وَلَا نَدْفَعُهُ إِلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَقْسِمُ لَهُ ذَا قُرْبَى مِنَّا. وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ:«وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» «٤»] الرعد: ٢٤ - ٢٣] أي يقولون سلام عليكم. والاشتراء ها هنا ليس بمعنى البيع، بل هو التحصيل.


(١). دقوقاء (بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة وتقصر): مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الاخبار والفتوح، كما بها وقعة للخوارج. (معجم البلدان).
(٢). كذا في الأصول. ويبدو أن فيه سقطا فليتأمل.
(٣). في ب وج وك وى وع وهـ.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣١٠

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- اللَّامُ فِي قَوْلِهِ:«لَا نَشْتَرِي» جَوَابٌ لِقَوْلِهِ:«فَيُقْسِمانِ» لِأَنَّ أَقْسَمَ يَلْتَقِي بِمَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ، وَهُوَ«لَا» وَ«مَا» فِي النَّفْيِ،«وَإِنَّ» وَاللَّامُ فِي الْإِيجَابِ. وَالْهَاءُ فِي«بِهِ» عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، الْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرَضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَذُكِرَتْ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ ﷺ: [وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] فَأَعَادَ [الضَّمِيرَ] «١» عَلَى مَعْنَى الدَّعْوَةِ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ«النِّسَاءِ» «٢». الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«ثَمَنًا» قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى ذَا ثَمَنٍ أَيْ سِلْعَةً ذَا ثَمَنٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ هُوَ وَيَكُونُ السِّلْعَةَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ عِنْدَنَا مُشْتَرًى كَمَا أَنَّ الْمَثْمُونَ مُشْتَرًى، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا وَمَثْمُونًا كَانَ الْبَيْعُ دَائِرًا عَلَى عَرَضٍ وَنَقْدٍ، أَوْ عَلَى عَرَضَيْنِ، أَوْ عَلَى نَقْدَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ: إِذَا أَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ وَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ هَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَكُونُ أَوْلَى بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَقَالَ: يَكُونُ صَاحِبُهَا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَاحِبُهَا أَحَقُّ بِهَا فِي الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ. تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَالْمَيِّتِ، وَمَا بِأَيْدِيهِمَا مَحَلٌّ لِلْوَفَاءِ، فَيَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ بِقَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَعْيَانُ السِّلَعِ مَوْجُودَةً أَوْ لَا، إِذْ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهَا وَوَجَبَتْ أَثْمَانُهَا لَهُمْ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمُ إِلَا أَثْمَانُهَا أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهَا. وَخَصَّصَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ فِي هَذَا الْبَابِ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ) أَيْ مَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ مِنَ الشَّهَادَةِ. وَفِيهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ من أرادها وجدها في (التحصيل) «٣» وغيره.


(١). من ك.
(٢). راجع ج ٥ ص ٥٠ ففيها: (فإنه ليس بينه) وهو الشاهد. والأصول جميعا: (بينها) فلا شاهد.
(٣). وهو تحصيل المنافع على كتاب الدرر اللوامع. في قراءة نافع.

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) قَالَ عُمَرُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْعَبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْرَابِ قَوْلُهُ:«مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ». عَثَرَ عَلَى كَذَا أَيِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، يُقَالُ: عَثَرْتُ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ أَيِ اطَّلَعْتُ، وَأَعْثَرْتُ غَيْرِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» «١»] الكهف: ٢١]. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُمْ، وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثِرُ عُثُورًا إِذَا وَقَعَتْ إِصْبَعُهُ بِشَيْءٍ صَدَمَتْهُ، وَعَثَرَتْ إِصْبَعُ فُلَانٍ بِكَذَا إِذَا صَدَمَتْهُ فَأَصَابَتْهُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ. وَعَثَرَ الْفَرَسُ عِثَارًا قَالَ الْأَعْشَى:
بِذَاتِ «٢» لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذَا عَثَرَتْ ... فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا
وَالْعَثْيَرُ الْغُبَارُ السَّاطِعُ، لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْعَثْيَرُ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ لِأَنَّهُ يُوقَعُ عَلَيْهِ مِنْ خَفَاءٍ. وَالضَّمِيرُ فِي«أَنَّهُمَا» يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي قَوْلِهِ عز وجلاثْنانِ» عن سعيد ابن جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَ«اسْتَحَقَّا» أَيِ اسْتَوْجَبَا«إِثْمًا» يَعْنِي بِالْخِيَانَةِ، وَأَخْذِهِمَا مَا لَيْسَ لَهُمَا، أَوْ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْإِثْمُ هُنَا اسْمُ الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ آخِذَهُ بِأَخْذِهِ آثِمٌ، فَسُمِّيَ إِثْمًا كَمَا سُمِّيَ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَظْلِمَةٌ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَظْلِمَةُ اسْمُ مَا أُخِذَ مِنْكَ، فَكَذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْجَامُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يَعْنِي فِي الْأَيْمَانِ أَوْ فِي الشَّهَادَةِ، وَقَالَ«آخَرانِ» بِحَسَبِ أَنَّ الْوَرَثَةَ كَانَا اثْنَيْنِ. وَارْتَفَعَ«آخَرانِ» بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ.«يَقُومانِ» فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ.«مَقامَهُما» مَصْدَرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: مَقَامًا مِثْلَ مَقَامِهِمَا، ثُمَّ أُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَ المنعوت، المضاف مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ «٣» الْأَوْلَيانِ) قَالَ ابْنُ السَّرِيِّ: الْمَعْنَى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِيصَاءُ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لا يجعل


(١). راجع ج ١٠ ص ٣٧٨.
(٢). ناقة ذات لوث أي قوة، وكذا عفرناة، والمعنى أنها لا تعثر لقوتها، فلو عثرت لقلت تعست. وقوله: (بذات لوث) متعلق ب (- كلفت) في بيت قبله وهو:
كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... همى عليها إذا ما آلها لمعا
(اللسان)
(٣). قراءة نافع بالبناء للمفعول، وهي قراءة الجمهور. [.....]

حَرْفٌ بَدَلًا مِنْ حَرْفٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّفْسِيرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مِنَ الذِينَ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةُ. وَ«الْأَوْلَيانِ» بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَآخَرانِ قَالَهُ ابْنُ السَّرِيِّ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَهُوَ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ وَإِبْدَالُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ جَائِزٌ. وَقِيلَ: النَّكِرَةُ إِذَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُهَا صَارَتْ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:«كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ» «١»] النور: ٣٥] ثم قال:«الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ»] النور: ٣٥] ثم قال:«الزُّجاجَةُ»] النور: ٣٥]. وَقِيلَ: وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي«يَقُومانِ» كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَقُومُ الْأَوْلَيَانِ أَوْ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا هُمَا الْأَوْلَيَانِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى:«الْأَوْلَيانِ» مَفْعُولُ«اسْتَحَقَّ» عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيِ اسْتُحِقَّ فِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ إِثْمُ الْأَوْلَيَيْنِ فَعَلَيْهِمْ بِمَعْنَى فِيهِمْ مِثْلُ«عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ» «٢»] البقرة: ١٠٢] أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى مَا تُنْكِرُوهَا تَعْرِفُوهَا ... عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ «٣»
أَيْ فِي أَقْطَارِهَا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ«الْأَوَّلِينَ» جَمْعُ أَوَّلٍ عَلَى أَنَّهُ بدل مِنَ«الَّذِينَ» أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي«عَلَيْهِمُ» وَقَرَأَ حَفْصٌ:«اسْتَحَقَّ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفَاعِلُهُ«الْأَوْلَيانِ» وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ وَصِيَّتَهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا. وَقِيلَ: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ رَدَّ الْأَيْمَانِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ:«الْأَوَّلَانِ» وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ:«الْأَوَّلَيْنِ» «٤» قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقِرَاءَتَانِ لَحْنٌ، لَا يُقَالُ فِي مُثَنَّى، مُثَنَّانِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ«الْأَوَّلَانِ». الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ) " أَيْ يَحْلِفَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ (أَنَّ الَّذِي قَالَ صَاحِبُنَا فِي وَصِيَّتِهِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمَالَ الَّذِي وَصَّى بِهِ إِلَيْكُمَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَتَيْتُمَانَا بِهِ وَأَنَّ هَذَا الْإِنَاءَ لَمِنْ مَتَاعِ صَاحِبِنَا الَّذِي خَرَجَ بِهِ مَعَهُ وَكَتَبَهُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَأَنَّكُمَا خُنْتُمَا) فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أَيْ يَمِينُنَا أَحَقُّ مِنْ يَمِينِهِمَا،


(١). راجع ج ١٢ ص ٢٥٥.
(٢). راجع ج ٢ ص ٤١.
(٣). نفث الجرح الدم إذا أظهره، والبيت لصخر الغى. (اللسان).
(٤). قال ابن عطية: على تثنية أول، والنصب على تقدير الأولين فالاولين في الرتبة.

فَصَحَّ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ» «١»] النور: ٦]. وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ فَحَلَفَا.«لَشَهادَتُنا أَحَقُّ» ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَقَوْلُهُ: (وَمَا اعْتَدَيْنا) أَيْ تَجَاوَزْنَا الْحَقَّ فِي قَسَمِنَا. (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِلٍ، وَأَخَذْنَا مَا لَيْسَ لنا. السادسة والعشرون- قوله تعالى:«ذلِكَ أَدْنى» ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.«أَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.«يَأْتُوا» نُصِبَ بِ«- أَنْ».«أَوْ يَخافُوا» عَطْفٌ عَلَيْهِ.«أَنْ تُرَدَّ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ«- يَخافُوا».«أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» قِيلَ: الضَّمِيرُ في«يَأْتُوا» و «يَخافُوا» رَاجِعٌ إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النَّاسُ، أَيْ أَحْرَى أَنْ يَحْذَرَ النَّاسُ الْخِيَانَةَ فَيَشْهَدُوا بِالْحَقِّ خَوْفَ الْفَضِيحَةِ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) أَمْرٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، أَيِ اسْمَعُوا مَا يُقَالُ لَكُمْ، قَابِلِينَ لَهُ، مُتَّبِعِينَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فَسَقَ يَفْسِقُ وَيَفْسُقُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة المائدة (٥): آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) يُقَالُ: مَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ فَالْجَوَابُ- أَنَّهُ اتِّصَالُ الزَّجْرِ عَنِ الْإِظْهَارِ خِلَافَ الْإِبْطَانِ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا ينبئ أن المجازي عليه عالم به. و «يَوْمَ» ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ«وَاسْمَعُوا» أَيْ وَاسْمَعُوا خَبَرَ يَوْمٍ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَاتَّقُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اذْكُرُوا أَوِ احْذَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. (فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) أَيْ مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمُكُمْ؟ وَمَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكُمْ قَوْمُكُمْ حِينَ دعوتموهم إلى


(١). راجع ج ١٢ ص ١٨٢.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٤٥

تَوْحِيدِي؟ «قالُوا» أَيْ فَيَقُولُونَ:«لَا عِلْمَ لَنا» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِمْ:«لَا عِلْمَ لَنا» فَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِبَاطِنِ مَا أَجَابَ بِهِ أُمَمُنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، فَحُذِفَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ بِخِلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لنا إلا علم أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَذْهَلُونَ «١» مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ وَيَفْزَعُونَ مِنَ «٢» الْجَوَابِ، ثُمَّ يجيبون بعد ما تَثُوبُ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ فَيَقُولُونَ:«لَا عِلْمَ لَنا» قاله الحسن وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. قُلْتُ: هَذَا فِي أَكْثَرِ مَوَاطِنَ الْقِيَامَةِ، فَفِي الْخَبَرِ] إِنَّ جَهَنَّمَ إذا جئ بِهَا زَفَرَتْ زَفْرَةً فَلَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا صِدِّيقٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] خَوَّفَنِي جِبْرِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَبْكَانِي فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ أَلَمْ يُغْفَرْ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ لَتَشْهَدَنَّ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَا يُنْسِيكَ الْمَغْفِرَةَ [. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ- كَمَا قاله بَعْضُهُمْ- فَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا أُجِبْتُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِيَكُونَ هَذَا تَوْبِيخًا لِلْكُفَّارِ، فَيَقُولُونَ: لَا عِلْمَ لَنَا، فَيَكُونُ هَذَا تَكْذِيبًا لِمَنِ اتَّخَذَ الْمَسِيحَ إِلَهًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ:«مَاذَا أُجِبْتُمْ» مَاذَا عَمِلُوا بَعْدَكُمْ؟ قَالُوا:«لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ». قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَيُشْبِهُ هَذَا حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:] يَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ الْحَوْضَ فَيَخْتَلِجُونَ «٣» فَأَقُولُ أُمَّتِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ [. وَكَسَرَ الْغَيْنَ [مِنَ الْغُيُوبِ] «٤» حَمْزَةُ [وَالْكِسَائِيُّ] «٥» وَأَبُو بَكْرٍ، وَضَمَّ الْبَاقُونَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ سَأَلَهُمْ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ سَأَلَهُمْ لِيُعْلِمَهُمْ مَا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ كُفْرِ أُمَمِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ. الثَّانِي- أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَفْضَحَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم.


(١). في ك: يرهبون.
(٢). في ب وج وهـ وع وى: عن.
(٣). أي يجتذبون ويقتطعون.
(٤). من ك.
(٥). من ك وع. والذي في السمين وروح المعاني: أبو بكر وحمزة.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) هَذَا مِنْ صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وَإِذْ يَقُولُ اللَّهُ لِعِيسَى كَذَا، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَ«عِيسَى» يَجُوزُ أن يكون في موضع رفع على أن يَكُونَ«ابْنَ مَرْيَمَ» نِدَاءً ثَانِيًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ مَنْصُوبٌ كَمَا قَالَ «١»:
يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ

وَلَا يَجُوزُ الرَّفْعُ فِي الثَّانِي إِذَا كان مضافا إلا عند الطوال «٢». وقوله تَعَالَى:«اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ» إِنَّمَا ذَكَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُمَا ذَاكِرًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتْلُوَ عَلَى الْأُمَمِ مَا خَصَّهُمَا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. الثَّانِي- لِيُؤَكِّدَ بِهِ حُجَّتَهُ، وَيَرُدَّ بِهِ جَاحِدَهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْدِيدِ «٣» نِعَمِهِ فَقَالَ:«إِذْ أَيَّدْتُكَ» يَعْنِي قَوَّيْتُكَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤». وفي«بِرُوحِ الْقُدُسِ»


(١). الرجز لرجل من بني الحرماز، يمدح به أحد بني المنذر بن الجارود العبدي و(حكم) هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمي جده الجارود لأنه أغار على قوم فاكتسح أموالهم فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به. وتمامه: سرادق المجد عليك ممدود. (شواهد سيبويه).
(٢). الطوال: هو محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي من أهل الكوفة أحد أصحاب الكسائي قال ثعلب: وكان حاذقا بإلقاء العربية. توفى سنة ٢٤٣. (بغية الوعاة).
(٣). في ك: أخذ بعدد. [.....]
(٤). راجع ج ٢ ص ٢٤.

وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ«وَرُوحٌ مِنْهُ» «١»] النساء: ١٧١] الثَّانِي: أَنَّهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ الْأَصَحُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي«الْبَقَرَةِ» «٢». (تُكَلِّمُ النَّاسَ) يَعْنِي وَتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَفِي الْكُهُولَةِ نَبِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا فِي] آلِ عِمْرَانَ [«٣» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.«كَفَفْتُ» مَعْنَاهُ دَفَعَتُ وَصَرَّفَتُ«بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ» حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ.«إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» أَيِ الدَّلَالَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ. (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَكَ. (إِنْ هَذَا) أَيِ الْمُعْجِزَاتِ. (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقرا حمزة والكسائي«لَساحِرٌ» أَيْ إِنْ هَذَا الرَّجُلُ إِلَّا سَاحِرٌ قَوِيٌّ على السحر.

[سورة المائدة (٥): آية ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ «٤». وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ عَلَى أَقْسَامٍ: وَحْيٌ بِمَعْنَى إِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَى الرُّسُلِ عليهم السلام. وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ أَلْهَمْتُهُمْ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» «٥»] النحل: ٦٨] «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» «٦»] القصص: ٧] وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. قَالَ أبو عبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، و «إِلَى» صِلَةٌ يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى، قَالَ اللَّهُ تعالى:«بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» «٧»] الزلزلة: ٥] وقال العجاج:
وحى لها القرار فاستقرت «٨»

أَيْ أَمَرَهَا بِالْقَرَارِ فَاسْتَقَرَّتْ. وَقِيلَ:«أَوْحَيْتُ» هُنَا بِمَعْنَى أَمَرْتُهُمْ. وَقِيلَ: بَيَّنْتُ لَهُمْ. (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ إِحْدَى النُّونَيْنِ، أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبِّ. وَقِيلَ: يا عيسى بأننا مسلمون لله.


(١). راجع ص ٢٢ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ٢ ص ٤٤.
(٣). راجع ج ٤ ص ٩٠ وص ٩٧. وما بعدها.
(٤). راجع ج ٤ ص ٩٠ وص ٩٧. وما بعدها.
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٣٣.
(٦). راجع ج ١١ ص ٢٥٠.
(٧). راجع ج ٢٠ ص ١٤٩.
(٨). أي الأرض، وصدر البيت:
بإذنه الأرض وما تعتت

[سورة المائدة (٥): آية ١١٢]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِعْرَابِ.«هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ». قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ«هَلْ تَسْتَطِيعُ» بِالتَّاءِ«رَبَّكَ» بِالنَّصْبِ. وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ اللَّامَ مِنْ«هَلْ» فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ،«رَبُّكَ» بِالرَّفْعِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَشْكَلُ مِنَ الْأُولَى، فَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ«أَنْ يُنَزِّلَ» فَيَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، كَمَا قَالُوا: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَكَذَلِكَ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أَطَاعَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ وَكَانَ هَذَا السُّؤَالَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِمْ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ عز وجل، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عِنْدَ غَلَطِهِمْ وَتَجْوِيزِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ:«اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ وَدُخَلَاؤُهُمْ وَأَنْصَارُهُمْ كَمَا قَالَ:«مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» [الصف: ١٤] «١». وَقَالَ عليه السلام: [لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ أُمَمَهُمْ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاطَنَهُمْ وَاخْتُصَّ بِهِمْ حَتَّى يَجْهَلُوا قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى؟ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدْرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ «٢»، وَكَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى:«اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» [الأعراف: ١٣٨] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي«الْأَعْرَافِ» «٣» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ عَالِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: هل يستطيع فلان أن يأتي


(١). راجع ج ١٨ ص ٨٩.
(٢). ذات أنواط: شجرة بعينها كانت تعبد في الجاهلية قال ابن الأثير: كان المشركون ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٧٣.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُجِيبُنِي إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِاسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ عِلْمَ دَلَالَةٍ وَخَبَرٍ وَنَظَرٍ فَأَرَادُوا عِلْمَ مُعَايَنَةٍ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ:» رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «] البقرة: ٢٦٠] عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلِمَ لِذَلِكَ عِلْمَ خَبَرٍ وَنَظَرٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْمُعَايَنَةَ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا رَيْبٌ وَلَا شُبْهَةٌ، لِأَنَّ عِلْمَ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ، وعلم المعاينة لا يدخله شي مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ:» وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا«كما قال إبراهيم:» وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي««١»] البقرة: ٢٦٠] قُلْتُ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْلِ مَنْ كَانَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَقَدْ أَدْخَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمُسْتَطِيعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ اسْمًا وَقَدْ وَرَدَ فِعْلًا، وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَوَارِيِّينَ:» هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ«. وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِ شَرْحِ السُّنَّةِ لَهُ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُخْبِرًا عَنْ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى:» هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ«لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلَطُّفٌ فِي السُّؤَالِ، وَأَدَبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ وَلَا «٢» لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ «٣» كَانُوا خِيرَةَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْجَهْلُ بِاقْتِدَارِ اللَّهِ تَعَالَى على كله شي مُمْكِنٍ؟! وَأَمَّا قِرَاءَةُ» التَّاءِ«فَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ- رضي الله عنهما، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ عز وجل مِنْ أَنْ يَقُولُوا» هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ«] قَالَتْ: «٤»] وَلَكِنْ» هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ«. وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ وَلَكِنْ قَالُوا:» هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ«وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَقْرَأَنَا النَّبِيُّ ﷺ» هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ«قَالَ مُعَاذٌ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ مِرَارًا يَقْرَأُ بِالتَّاءِ» هَلْ تَسْطِيعُ رَبَّكَ«وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ. وَقِيلَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ أَوْ تَسْأَلَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ كَمَا قال


(١). راجع ج ٣ ص ٢٩٧.
(٢). في ع: وقوعه لكل. إلخ. [.....]
(٣). في هـ: هم هم كانوا.
(٤). من ب وج وك وع.

وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» «١»] يوسف: ٨٢] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ. (قالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أَيِ اتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ عِنْدَ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ عز وجل إِنَّمَا يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فيه غنى.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٣]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:«قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» نُصِبَ بِأَنْ«وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ» عَطْفٌ كُلُّهُ، بَيَّنُوا بِهِ سَبَبَ سُؤَالِهِمْ حِينَ نُهُوا عَنْهُ. وَفِي قَوْلِهِمْ:«نَأْكُلَ مِنْها» وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَكْلَ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام كَانَ إِذَا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ، بَعْضُهُمْ كَانُوا أَصْحَابَهُ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِمْ أَوْ عِلَّةٍ، إِذْ كَانُوا زَمْنَى أَوْ عُمْيَانًا، وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ فَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَوْضِعٍ فَوَقَعُوا فِي مَفَازَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نَفَقَةٌ فَجَاعُوا وَقَالُوا لِلْحَوَارِيِّينَ: قُولُوا لِعِيسَى حَتَّى يَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَهُ شَمْعُونُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ بِأَنْ تَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ عِيسَى لِشَمْعُونَ: قُلْ لَهُمُ«اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ شَمْعُونُ الْقَوْمَ فَقَالُوا لَهُ: قُلْ لَهُ:«نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها» الْآيَةَ. الثَّانِي-«نَأْكُلَ مِنْها» لِنَنَالَ «٢» بَرَكَتَهَا لَا لِحَاجَةٍ دَعَتْهُمُ إِلَيْهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّهُمْ لَوِ احْتَاجُوا لَمْ يُنْهَوْا عَنِ السُّؤَالِ] وَقَوْلُهُمْ: [«٣» «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا» يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُّهَا: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَكَ إِلَيْنَا نَبِيًّا. الثَّانِي: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَنَا لِدَعْوَتِنَا «٤». الثَّالِثُ: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَا، ذَكَرَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَيْ تَطْمَئِنُّ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ صَوْمَنَا وَعَمَلَنَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: نَسْتَيْقِنُ قُدْرَتَهُ فَتَسْكُنُ قُلُوبُنَا.«وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا»


(١). راجع ج ٩ ص ٢٤٦.
(٢). في ع: فننال.
(٣). من ك.
(٤). كذا في ك وفي البحر: أعوانا لك وفي ب وج وى: لدعوانا. وفي ع: لندعو. وفي هـ: لدعائنا.

بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ» وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ«لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلَكَ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ:» وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ«لَكَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يرها إذا رجعنا إليهم.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا) الْأَصْلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ يَا اللَّهُ، وَالْمِيمَانِ بَدَلٌ مِنْ» يَا«» رَبَّنا«نِدَاءٌ ثَانٍ، لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ غَيْرَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِأَنَّهُ قَدْ أَشْبَهَ الْأَصْوَاتَ مِنْ أَجْلِ مَا لَحِقَهُ. (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) الْمَائِدَةُ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ قَالَ قُطْرُبٌ: لَا تَكُونُ الْمَائِدَةُ مَائِدَةً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا طَعَامٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيلَ: خِوَانٌ وَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ مَادَ عَبْدُهُ إِذَا أَطْعَمَهُ وَأَعْطَاهُ، فَالْمَائِدَةُ تَمِيدُ مَا عَلَيْهَا أَيْ تُعْطِي وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ أَنْشَدَهُ الْأَخْفَشُ:
تُهْدِي رُءُوسَ الْمُتْرَفِينَ الْأَنْدَادَ ... إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُمْتَادِ
أَيِ الْمُسْتَعْطَى الْمَسْئُولِ فَالْمَائِدَةُ هِيَ الْمُطْعِمَةُ وَالْمُعْطِيَةُ الْآكِلِينَ الطَّعَامَ وَيُسَمَّى الطَّعَامُ أَيْضًا مَائِدَةً تَجَوُّزًا لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى الْمَائِدَةِ، كَقَوْلِهِمْ لِلْمَطَرِ سَمَاءٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: سُمِّيَتْ مَائِدَةٌ لِحَرَكَتِهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَادَ الشَّيْءُ إِذَا مَالَ وَتَحَرَّكَ «١» قَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَلَّكَ بَاكٍ إِنْ تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ ... يَمِيدُ بِهَا غُصْنٌ مِنَ الْأَيْكِ مَائِلٌ
وَقَالَ آخَرُ:
وَأَقْلَقَنِي قَتْلُ الْكِنَانِيِّ بَعْدَهُ ... فَكَادَتْ بِيَ الْأَرْضُ الْفَضَاءُ تَمِيدُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:» وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ««٢»] النحل: ١٥]. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَائِدَةٌ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مثل» عِيشَةٍ راضِيَةٍ««٣» [الحاقة: ٢١] بِمَعْنَى مَرْضِيَّةٍ وَ» ماءٍ دافِقٍ««٤»] الطَّارِقُ: ٦] أَيْ مَدْفُوقٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَكُونُ لَنا عِيدًا)» تَكُونُ" نعت لمائدة وليس بجواب.


(١). في ى: تحرف.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٩٠.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٧٠.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ٤.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ«تَكُنْ» عَلَى الْجَوَابِ، وَالْمَعْنَى: يَكُونُ يَوْمَ نُزُولِهَا«عِيدًا لِأَوَّلِنا» أَيْ لِأَوَّلِ أُمَّتِنَا وَآخِرِهَا فَقِيلَ: إِنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْأَحَدِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْأَحَدَ عِيدًا. وَالْعِيدُ وَاحِدُ الْأَعْيَادِ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْيَاءِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِدِ وَيُقَالُ: لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْوَادِ الْخَشَبِ وَقَدْ عَيَّدُوا أَيْ شَهِدُوا الْعِيدَ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ أَيْ رَجَعَ فَهُوَ عِوْدٌ بِالْوَاوِ، فَقُلِبَتْ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا مِثْلَ الْمِيزَانِ وَالْمِيقَاتِ وَالْمِيعَادِ فَقِيلَ لِيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: عِيدًا لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ كُلَّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعِيدُ كُلُّ يَوْمٍ يُجْمَعُ «١» كَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَ عِيدًا لِلْعَوْدِ فِي الْمَرَحِ وَالْفَرَحِ فَهُوَ يَوْمُ سُرُورِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يُطَالَبُونَ وَلَا يُعَاقَبُونَ وَلَا يُصَادُ الْوَحْشُ وَلَا الطُّيُورُ ولا ننفذ الصِّبْيَانُ إِلَى الْمَكَاتِبِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعُودُ إِلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ أَلَا تَرَى إِلَى اخْتِلَافِ مَلَابِسِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُضَافُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْحَمُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ: وَهُوَ فَحْلٌ كَرِيمٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: إبل عيدية قال:
عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ

وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ«لِأُولَانَا وَأُخْرَانَا» عَلَى الْجَمْعِ «٣» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا يَأْكُلُ [مِنْهَا] «٤» أَوَّلُهُمْ (وَآيَةً مِنْكَ) يَعْنِي دَلَالَةً وَحُجَّةً. (وَارْزُقْنا) أَيْ أَعْطِنَا. (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أَيْ خَيْرُ مَنْ أَعْطَى وَرَزَقَ، لِأَنَّكَ الغني الحميد.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)


(١). في البحر: يجمع الناس لأنهم. إلخ. وفي ب وع وه وى: مجمع.
(٢). هو رذاذ الكلبي- كما في اللسان- وصدر البيت:
ظلت تجوب بها البلدان ناجية

(٣). صوبت هذه القراءة عن البحر وغيره من كتب التفسير قال صاحب البحر: وقرا زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري (لأولانا وأخرانا) أنثوا على معنى الامة والجماعة. والذي بالأصول: ج وك وب وى وز وهـ: (لاولينا وآخرينا).
(٤). من ك وع. [.....]

قَوْلُهُ تَعَالَى«قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَجَابَ بِهِ سُؤَالَ عِيسَى كَمَا كَانَ سُؤَالُ عِيسَى إِجَابَةً لِلْحَوَارِيِّينَ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَهَا وَوَعْدُهُ الْحَقُّ، فَجَحَدَ الْقَوْمُ وَكَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِهَا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلُ فِرْعَوْنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ- وَهُوَ الْحَقُّ- نُزُولُهَا لِقَوْلُهُ تَعَالَى:«إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ». وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فَنَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْآيَاتِ لِأَنْبِيَائِهِ. وَقِيلَ: وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ:«فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ» الْآيَةَ اسْتَعْفَوْا مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ هَذَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. وهذا القول الذي قَبْلَهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا نَزَلَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ:] صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ مَا شِئْتُمْ يُعْطِكُمْ [فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَالُوا: يَا عِيسَى لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلَنَا [لَأَطْعَمَنَا] «١»، وَإِنَّا صُمْنَا وَجُعْنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمَائِدَةٍ يَحْمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ «٢» فَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ [الْحَكِيمُ] «٣» فِي«نَوَادِرِ الْأُصُولِ» لَهُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا عمار بن هرون الثَّقَفِيُّ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ حَكِيمٍ الْحَنْظَلِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: لَمَّا سألت الحواريون عيسى بن مَرْيَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- الْمَائِدَةَ قَامَ فَوَضَعَ ثِيَابَ الصُّوفِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْمُسُوحِ- وَهُوَ سِرْبَالٌ مِنْ مُسُوحٍ أَسْوَدَ وَلِحَافٍ أَسْوَدَ- فَقَامَ فَأَلْزَقَ الْقَدَمَ بِالْقَدَمِ وَأَلْصَقَ الْعَقِبَ بِالْعَقِبِ وَالْإِبْهَامَ بِالْإِبْهَامِ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ خَاشِعًا لِلَّهِ ثُمَّ أَرْسَلَ عينيه يبكى حتى جرى الدمع


(١). الزيادة عن (روح المعاني) وغيره من كتب التفسير.
(٢). أحوات (جمع حوت): وهو نوع من السمك المعروف.
(٣). من ع.

عَلَى لِحْيَتِهِ وَجَعَلَ يَقْطُرُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» الْآيَةَ فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ مُدَوَّرَةٌ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ تَحْتِهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ عِيسَى: [اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا فِتْنَةً إِلَهِي أَسْأَلُكَ مِنَ الْعَجَائِبِ فَتُعْطِي] فَهَبَطَتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عليه السلام وَعَلَيْهَا مِنْدِيلٌ مُغَطًّى فَخَرَّ عِيسَى سَاجِدًا وَالْحَوَارِيُّونَ مَعَهُ وَهُمْ يَجِدُونَ لَهَا رائحة طيبة ولم يَكُونُوا يَجِدُونَ [مِثْلَهَا] «١» قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ عِيسَى: [أَيُّكُمْ أَعْبَدُ لِلَّهِ وَأَجْرَأُ عَلَى اللَّهِ وَأَوْثَقُ بِاللَّهِ فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْهَا وَنَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَنَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا] فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّهِ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَقَامَ عِيسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا وَصَلَّى صَلَاةً جَدِيدَةً وَدَعَا دُعَاءً كَثِيرًا ثُمَّ جَلَسَ إِلَى السُّفْرَةِ فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا عَلَيْهَا سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا شَوْكٌ تَسِيلُ سَيَلَانَ الدَّسَمِ وَقَدْ نُضِّدَ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ الْبُقُولِ مَا عَدَا الْكُرَّاثَ وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَخَلٌّ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ على واحد منها خمس رُمَّانَاتٍ وَعَلَى الْآخَرِ تَمَرَاتٌ وَعَلَى الْآخَرِ زَيْتُونٌ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ وَعَلَى الثَّالِثِ بَيْضٌ وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَجَاءُوا غَمًّا وَكَمَدًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَجَبًا فَقَالَ شَمْعُونُ وَهُوَ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ- يَا رُوحَ اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: [أَمَا افْتَرَقْتُمْ «٢» بَعْدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا]. فَقَالَ شَمْعُونُ: وَإِلَهِ بَنِي «٣» إِسْرَائِيلَ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ سُوءًا. فَقَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةٌ أُخْرَى قَالَ عِيسَى عليه السلام:] يَا سَمَكَةُ احْيَيْ بِإِذْنِ اللَّهِ [فَاضْطَرَبَتِ السَّمَكَةُ طَرِيَّةً تَبِصُّ «٤» عَيْنَاهَا، فَفَزِعَ الْحَوَارِيُّونَ فَقَالَ عِيسَى:] مَا لِي أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ فَإِذَا أُعْطِيتُمُوهُ كَرِهْتُمُوهُ مَا أَخْوَفَنِي أَنْ تُعَذَّبُوا [وَقَالَ:] لَقَدْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا عَلَيْهَا طَعَامٌ مِنَ الدُّنْيَا


(١). الزيادة عن الدر المنثور.
(٢). في الدر المنثور في رواية: (أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون وتنتهوا عن تنقير المسائل) ... إلخ. وفي تفسير ابن عطية (ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات).
(٣). في ع وهـ وب: إلاه إسرائيل.
(٤). تبص: تلمع. وفي ب، ج، ك، ى: تبصبص.

ولا من طعام الجنة ولكنه شي ابْتَدَعَهُ اللَّهُ بِالْقُدْرَةِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ [فَقَالَ عِيسَى:] يَا سَمَكَةُ عُودِي كَمَا كُنْتِ [فَعَادَتْ مَشْوِيَّةً كَمَا كَانَتْ فَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا رُوحَ اللَّهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ عِيسَى:] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّمَا يَأْكُلُ منها من طلبها وسألها [فأبت الْحَوَارِيُّونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ مُثْلَةً «١» وَفِتْنَةً فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهَا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْمُجَذَّمِينَ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَانَ وَأَهْلَ الْمَاءِ الْأَصْفَرِ، وَقَالَ:] كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةِ نَبِيِّكُمْ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [وَقَالَ:] يَكُونُ الْمَهْنَأُ لَكُمْ وَالْعَذَابُ عَلَى غَيْرِكُمْ [فأكلوا حتى صدروا عن سبعة آلاف وثلاثمائة يَتَجَشَّئُونَ «٢» فَبَرِئَ كُلُّ سَقِيمٍ أَكَلَ مِنْهُ، وَاسْتَغْنَى كله فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهُ حَتَّى الْمَمَاتِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فَمَا بَقِيَ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا شَيْخٌ وَلَا شَابٌّ وَلَا غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا جَاءُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ فَضَغَطَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عِيسَى جَعَلَهَا نُوَبًا بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ تَرْعَى يَوْمًا وَتَشْرَبُ يوما فنزلت أربعين يوما تنزل ضحا فلا تزال حتى يفئ الْفَيْءُ مَوْضِعَهُ وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طَارَتْ صُعُدًا فَيَأْكُلُ مِنْهَا النَّاسُ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا حَتَّى تَتَوَارَى عَنْهُمْ فَلَمَّا تَمَّ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عليه السلام] يَا عِيسَى اجْعَلْ مَائِدَتِي هَذِهِ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ [فَتَمَارَى «٣» الْأَغْنِيَاءُ فِي ذَلِكَ وَعَادَوُا الْفُقَرَاءَ] وَشَكُّوا [«٤» وَشَكَّكُوا النَّاسَ فَقَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى:] إِنِّي آخِذٌ بِشَرْطِي [فَأَصْبَحَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ خِنْزِيرًا يَأْكُلُونَ الْعَذِرَةَ يَطْلُبُونَهَا بِالْأَكْبَاءِ وَالْأَكْبَاءُ هِيَ الْكُنَاسَةُ وَاحِدُهَا كبا «٥» بعد ما كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَيَنَامُونَ عَلَى الْفُرُشِ اللَّيِّنَةِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عَلَى عِيسَى يَبْكُونَ، وَجَاءَتِ الْخَنَازِيرُ فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ قُدَّامَ عِيسَى فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَتَقْطُرُ دُمُوعُهُمْ فَعَرَفَهُمْ عِيسَى فَجَعَلَ يَقُولُ:] أَلَسْتَ بِفُلَانٍ [؟ فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْكَلَامَ فَلَبِثُوا كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ومنهم من يقول: أربعة أيام،


(١). مثلة: عقوبة.
(٢). جشأ وتجشأ: أخرج صوتا من فمه عند الشبع.
(٣). تمارى: شك.
(٤). من ك، ى، ج، ب.
(٥). كبا (بالكسر والقصر) كالى.

ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عِيسَى أَنْ يَقْبِضَ أَرْوَاحَهُمْ فَأَصْبَحُوا لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبُوا؟ الْأَرْضُ ابْتَلَعَتْهُمْ أَوْ مَا صَنَعُوا؟!. قُلْتُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ كَانَ طَعَامُ الْمَائِدَةِ خُبْزًا وَسَمَكًا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانوا يجدون في السمك طيب كله طَعَامٍ، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَتْ مَائِدَةً تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ثِمَارٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقْرِصَةً مِنْ شَعِيرٍ وَحِيتَانًا. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأُمِرُوا أَلَّا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ [قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ قَزَعَةَ وَلَا نَعْلَمُ لِلْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَصْلًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُنْزِلَ على المائدة كل شي إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَ عَلَيْهَا كل شي إِلَّا السَّمَكَ وَاللَّحْمَ. وَقَالَ كَعْبٌ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مَنْكُوسَةً «١» مِنَ السَّمَاءِ تَطِيرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَيْهَا كُلُّ طَعَامٍ إِلَّا اللَّحْمَ. قُلْتُ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ أَوْلَى مِنْهَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا فَصَحَّ مَوْقُوفًا عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا طَعَامٌ يُؤْكَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِهِ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ ثَانِيَةً لِبَعْضِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ كَعْبٌ: اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاجْتَمَعُوا فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ لَنَا عَيْنًا سَاحَّةً بِهَذَا الْمَكَانِ، وَرِيَاضًا خُضْرًا وَعَبْقَرِيًّا قَالَ: فدعا الله فإذا


(١). نكسه: قلبه وجعل أسفله أعلاه.

عَيْنٌ سَاحَّةٌ وَرِيَاضٌ خُضْرٌ وَعَبْقَرِيٌّ. ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُطْعِمَنَا شَيْئًا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَدَعَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ بُسْرَةٌ فَأَكَلُوا مِنْهَا لَا تُقَلَّبُ إِلَّا أَكَلُوا مِنْهَا لَوْنًا ثُمَّ رُفِعَتْ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: سَلُونِي فَأَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ بِمَا شِئْتُمْ، فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا الْمَائِدَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى عِيسَى قَالَ: فَدَعَا فَنَزَلَتْ فَقَضَوْا مِنْهَا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ رُفِعَتْ وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. مَسْأَلَةٌ: جَاءَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَائِدَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ سُفْرَةً لَا مَائِدَةً ذَاتَ قَوَائِمَ وَالسُّفْرَةُ مَائِدَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَمَوَائِدُ الْعَرَبِ خَرَّجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ] الْحَكِيمُ [«١»: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن] بسار [«٢»، قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذَ بْنَ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: يُونُسُ هَذَا هُوَ أَبُو الْفُرَاتِ الْإِسْكَافُ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ اتَّفَقَ عَلَى رِجَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ فَذَكَرَهُ وَقَالَ فِيهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الخوان هو شي مُحْدَثٌ فَعَلَتْهُ الْأَعَاجِمُ وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ لِتَمْتَهِنَهَا «٣» وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى السُّفَرِ وَاحِدُهَا سُفْرَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنَ الْجُلُودِ وَلَهَا مَعَالِيقٌ تَنْضَمُّ وَتَنْفَرِجُ فَبِالِانْفِرَاجِ سُمِّيَتْ سُفْرَةٌ لِأَنَّهَا إِذَا حُلَّتْ مَعَالِيقُهَا انْفَرَجَتْ فَأَسْفَرَتْ عَمَّا فِيهَا فَقِيلَ لَهَا السُّفْرَةُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لِإِسْفَارِ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عَنِ الْبُيُوتِ وَقَوْلُهُ: وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ لِأَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْأَصْبَاغِ «٤»، وَإِنَّمَا الْأَصْبَاغُ لِلْأَلْوَانِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ سِمَاتِهِمِ الْأَلْوَانُ وَإِنَّمَا كَانَ طَعَامُهُمُ الثَّرِيدَ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتُ اللَّحْمِ. وَكَانَ «٥» يَقُولُ:«انْهَسُوا «٦» اللَّحْمَ نَهْسًا فَإِنَّهُ أَشْهَى وَأَمْرَأَ» فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْمَائِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ كَانَ الضب حراما


(١). من ع. [.....]
(٢). الذي في الأصل: (محمد بن المثنى أبو موسى الزمن) وهو (محمد بن بشار) كما في الترمذي وكما سيأتي.
(٣). امتهن الشيء: استعمله للمهنة.
(٤). الأصباغ (جمع صبغ) وهو ما يؤتدم به من كل مائع كالخل وفي التنزيل: (وصبغ للآكلين).
(٥). أي النبي عليه الصلاة والسلام. رواه أحمد والترمذي والحاكم.
(٦). النهس أخذ اللحم بأطراف الأسنان ونتفه وفي ى وج وز: انهشوا (نهشا) بالمعجمة وهي الرواية معناها أخذ اللحم بجميع الأسنان.

مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ ﷺ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:] تُصَلِّي الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرَّجُلِ مَا دَامَتْ مَائِدَتُهُ مَوْضُوعَةً [خَرَّجَهُ الثِّقَاتُ وقيل: إن المائدة كل شي يُمَدُّ وَيُبْسَطُ مِثْلَ الْمِنْدِيلِ وَالثَّوْبِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَكُونَ مَادَّةُ الدَّالِّ مُضَعَّفَةٌ فَجَعَلُوا إِحْدَى الدَّالَيْنِ يَاءً فَقِيلَ: مَائِدَةٌ، وَالْفِعْلُ وَاقِعٌ بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَمْدُودَةً وَلَكِنْ خُرِّجَتْ فِي اللُّغَةِ مَخْرَجَ فَاعِلٍ كَمَا قَالُوا: سِرٌّ كَاتِمٌ وَهُوَ مَكْتُومٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ وَهِيَ مَرْضِيَّةٌ وَكَذَلِكَ خُرِّجَ فِي اللُّغَةِ مَا هُوَ فَاعِلٌ عَلَى مَخْرَجِ مَفْعُولٍ فَقَالُوا: رَجُلٌ مَشْئُومٌ وَإِنَّمَا هُوَ شَائِمٌ وَحِجَابٌ مَسْتُورٌ وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِرٌ قَالَ فَالْخِوَانُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ بِقَوَائِمِهِ وَالْمَائِدَةُ مَا مُدَّ وَبُسِطَ «١» وَالسُّفْرَةُ مَا أَسْفَرَ عَمَّا فِي جَوْفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُومَةٌ بِمَعَالِيقِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ فِعْلُ الْمُلُوكِ وَعَلَى الْمِنْدِيلِ فِعْلُ الْعَجَمِ وَعَلَى السُّفْرَةِ فِعْلُ الْعَرَبِ وَهُوَ السُّنَّةُ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ [«٢».

[سورة المائدة (٥): آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ قَتَادَةُ وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقال لَهُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقُطْرُبُ. قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ»] المائدة: ١١٨] فَإِنَّ«إِذْ» فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا مَضَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قوله:«يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ»] المائدة: ١٠٩] الآية


(١). في حاشية الجمل عن القرطبي: والمائدة ما مد وبسط من الثياب والمناديل. إلخ.
(٢). عن ك.

وَمَا بَعْدَهُ«هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ»] المائدة: ١١٩]. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ«إِذْ» بِمَعْنَى«إِذَا» كَقَوْلِهِ تعالى:«وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا» «١»] سبأ: ٥١] أَيْ إِذَا فَزِعُوا. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في السموات الْعُلَا
يَعْنِي إِذَا جَزَى. وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَزْدِيُّ:
فَالْآنَ إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا
يَعْنِي إِذَا هَازَلْتُهُنَّ فَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ أَمْرِهِ وَظُهُورِ بُرْهَانِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَفِي التَّنْزِيلِ«وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ» «٢»] الأعراف: ٥٠] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِنْكَارُهُ بَعْدَ السُّؤَالِ أَبْلَغَ فِي التَّكْذِيبِ وَأَشَدَّ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. الثَّانِي- قَصَدَ بِهَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفَهُ أَنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ، وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّصَارَى لَمْ يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إِلَهًا فَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ؟ فَقِيلَ: لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّةِ بِمَثَابَةِ مَنْ وَلَدَتْهُ، فَصَارُوا حِينَ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْقَائِلِينَ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ وَلَقَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ:«وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:] فَلَقَّاهُ اللَّهُ [«سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» الْآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَبَدَأَ بِالتَّسْبِيحِ قَبْلَ الْجَوَابِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا- تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ. الثَّانِي- خُضُوعًا لِعِزَّتِهِ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى:«أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى سَمِعَ صَوْتَ عِظَامِهِ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ:«سُبْحانَكَ» ثُمَّ قَالَ:«مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أَيْ أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا يَعْنِي أَنَّنِي


(١). راجع ج ١٤ ص ٣١٤.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠٩.

مَرْبُوبٌ وَلَسْتُ بِرَبٍّ وَعَابِدٌ وَلَسْتُ بِمَعْبُودٍ. ثُمَّ قَالَ:«إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهُ تَقْرِيعًا لِمَنِ اتَّخَذَ عِيسَى إِلَهًا. ثُمَّ قَالَ: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) أَيْ تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ مَا تَعْلَمُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ لِأَنَّ السِّرَّ مَوْضِعُهُ النَّفْسُ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكَ فِي دَارِ الْآخِرَةِ قُلْتُ: وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبٌ أَيْ تَعْلَمُ سِرِّي وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ ضَمِيرِي الَّذِي خَلَقْتَهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ غَيْبِكَ وَعِلْمِكَ. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ وما هو كائن.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٧]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْحِيدِ. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) «أَنِ» لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ مِثْلُ«وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا» «١»] ص: ٦]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مَا ذَكَرْتُ لَهُمْ إِلَا عِبَادَةَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ أَيْ بِأَنِ اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلون كَسْرَةً بَعْدَهَا ضَمَّةٌ وَالْكَسْرُ جَائِزٌ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أَيْ حَفِيظًا بِمَا أَمَرْتَهُمْ. (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) «مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وَقْتَ دَوَامِي فِيهِمْ. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل توفاه أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تَظَاهَرَتْ بِرَفْعِهِ وَأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَإِنَّمَا المعنى


(١). راجع ج ١٥ ص ١٥١.

فَلَمَّا رَفَعْتَنِي إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْوَفَاةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَفَاةُ الْمَوْتِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «١»] الزمر: ٤٢] يَعْنِي وَقْتَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا. وَوَفَاةَ النَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» «٢»] الانعام: ٦٠] يَعْنِي الَّذِي يُنِيمُكُمْ. وَوَفَاةَ الرَّفْعِ قَالَ اللَّهُ تعالى:«يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» «٣»] آل عمران: ٥٥].] وَقَوْلُهُ [«٤» «كُنْتَ أَنْتَ»] «أَنْتَ هُنَا» [«٥» تَوْكِيدُ«الرَّقِيبَ» خَبَرُ«كُنْتُ» وَمَعْنَاهُ الْحَافِظُ عَلَيْهِمْ وَالْعَالِمُ بِهِمْ وَالشَّاهِدُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَصْلُهُ الْمُرَاقَبَةُ أَيْ الْمُرَاعَاةُ وَمِنْهُ الْمَرْقَبَةُ «٦» لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الرَّقِيبِ مِنْ علو المكان. (وأنت على كل شي شَهِيدٌ) أَيْ مِنْ مَقَالَتِي وَمَقَالَتِهِمْ وَقِيلَ: عَلَى مَنْ عَصَى وَأَطَاعَ، خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ [حُفَاةً] «٧» عُرَاةً غُرْلًا «٨» «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ»] الأنبياء: ١٠٤] أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ:«وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» قَالَ: فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا] مدبرين [«٩» مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم).

[سورة المائدة (٥): آية ١١٨]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» شَرْطٌ وَجَوَابُهُ«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» مِثْلُهُ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ بِآيَةٍ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ «١٠»، وَالْآيَةُ:«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».


(١). راجع ج ١٥ ص ٢٦٠.
(٢). راجع ج ٧ ص ٥.
(٣). راجع ج ٤ ص ٩٩.
(٤). من ك. [.....]
(٥). من ك.
(٦). في الأصول: الرقبة. والمثبت هو اللغة.
(٧). الزيادة عن صحيح مسلم.
(٨). غرل (جمع أغرل) أي غير مختونين والمراد- والله أعلم- إنهم يحشرون كما خلقوا لا شي معهم ولا ينقص منهم شي بل يتم لهم كل ما نقص منهم. (هامش مسلم).
(٩). من ك وهـ وب وع.
(١٠). أي يقرأ بآية يرددها في صلاته حتى أصبح.

وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ فَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: فَإِنَّهُمْ عَصَوْكَ. وَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالِاسْتِجَارَةِ مِنْ عَذَابِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لِكَافِرٍ. وَقِيلَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ». لِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي«إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهَذَا حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَغْفِرُ لَهُ فَقَوْلٌ مُجْتَرِئٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مِنَ اللَّهِ عز وجل لَا تُنْسَخُ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَ عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا مَعَاصِيَ وَعَمِلُوا بَعْدَهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُودِ دِينِهِ فَقَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَ:«فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْقِصَّةُ مِنَ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ وَالتَّفْوِيضِ لِحُكْمِهِ. وَلَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأَوْهَمَ الدُّعَاءَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فَالتَّقْدِيرُ إِنْ تُبْقِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَتُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَهْدِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِكَ وَطَاعَتِكَ فَتَغْفِرُ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ مَا تُرِيدُهُ، الْحَكِيمُ فِيمَا تَفْعَلُهُ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. وَقَدْ قَرَأَ جَمَاعَةٌ:«فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» وَلَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ«الشِّفَا» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ مَنْ قال إن قوله:«فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» لَيْسَ بِمُشَاكِلٍ لِقَوْلِهِ:«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ» لِأَنَّ الَّذِي يُشَاكِلُ الْمَغْفِرَةَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ- وَالْجَوَابُ- أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَمَتَى نُقِلَ إِلَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ ضَعُفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ تَعَلُّقٌ وَهُوَ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عز وجل وَاجْتَمَعَ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْمُسْلِمُونَ مَقْرُونٌ بِالشَّرْطَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوَّلِهِمَا وَآخِرِهِمَا إِذْ تَلْخِيصُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنَ التَّعْذِيبِ وَالْغُفْرَانِ فَكَانَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْيَقَ بِهَذَا الْمَكَانِ لِعُمُومِهِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يَصْلُحِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إِذْ لَمْ يَحْتَمِلْ مِنَ الْعُمُومِ مَا احْتَمَلَهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَا شَهِدَ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ

كُلِّهَا وَالشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى وَأَثْبَتُ مَعْنًى فِي الْآيَةِ مِمَّا يَصْلُحُ لِبَعْضِ الْكَلَامِ دُونَ بَعْضٍ. خَرَّجَ مُسْلِمٌ] مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ [«١» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَوْلَهُ عز وجل فِي إِبْرَاهِيمَ» رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ««٢»] إبراهيم: ٣٦] وَقَالَ عِيسَى عليه السلامإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ«فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أُمَّتِي) وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: (يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ- وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ» فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ- وَهُوَ أَعْلَمُ- فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ] لَهُ [«٣» إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَمَعْنَاهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَوَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى نَسَقِهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّاهُ. وبالله التوفيق.

[سورة المائدة (٥): آية ١١٩]
قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أَيْ صِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهَا الصِّدْقُ وَصِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِدْقَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكَهُمُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ وَفِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَكُونُ وَجْهُ النَّفْعِ فِيهِ أَنْ يُكْفَوُا الْمُؤَاخَذَةَ بِتَرْكِهِمْ كَتْمَ الشَّهَادَةِ فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ«يَوْمَ» بِالنَّصْبِ. وَرَفَعَ الْبَاقُونَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ


(١). من: ك.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٦٨.
(٣). من ع.

ف يَوْمُ يَنْفَعُ خَبَرٌ لِ«- هَذَا» وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْقَوْلِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ فَحَكَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ نَصْبُ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: هِيَ جَائِزَةٌ بِمَعْنَى قال الله هذا لعيسى بن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم فيوم ظرف للقول و «هذا» مَفْعُولُ الْقَوْلِ وَالتَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ فِي يَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَنْفَعُ يَوْمَ القيامة. وقال الكسائي والفراء: بني يوم ها هنا عَلَى النَّصْبِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ اسْمٍ، كَمَا تَقُولُ: مَضَى يَوْمَئِذٍ وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ «١»:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
الزَّجَّاجُ: وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ مَا قَالَاهُ إِذَا أَضَفْتَ الظَّرْفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَاضٍ كَانَ جَيِّدًا كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْتِ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُضَافَ الْفِعْلُ إِلَى ظُرُوفِ الزَّمَانِ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا ظَرْفًا وَيَكُونَ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ«هَذَا» لِأَنَّهُ مُشَارٌ بِهِ إِلَى حَدَثٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ تَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْأَحْدَاثِ تَقُولُ: الْقِتَالُ الْيَوْمَ وَالْخُرُوجُ السَّاعَةَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْقَوْلِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ«هَذَا» فِي مَوْضِعِ رفع بالابتداء و «يَوْمُ» خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ يَقَعُ يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَفِيهِ قِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ«يَوْمٌ يَنْفَعُ» بِالتَّنْوِينِ«الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ«فِيهِ» مِثْلَ قَوْلِهِ:«وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا» «٢»] البقرة: ٤٨] وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:«لَهُمْ جَنَّاتٌ» ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.«تَجْرِي» فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ.«مِنْ تَحْتِهَا» أَيْ مِنْ تَحْتِ غُرَفِهَا وَأَشْجَارِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ثَوَابَهُمْ وَأَنَّهُ رَاضٍ عنهم رضا لا يغضب


(١). البيت للنابغة والشاهد في إضافة (حين) إلى الفعل وبنائها معه على الفتح.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٧٦.

بَعْدَهُ أَبَدًا«وَرَضُوا عَنْهُ» أَيْ عَنِ الْجَزَاءِ الَّذِي أَثَابَهُمْ بِهِ. (ذلِكَ الْفَوْزُ) «أَيِ الظَّفَرُ» (الْعَظِيمُ) «أَيِ الذِي عَظُمَ خَيْرُهُ وَكَثُرَ، وَارْتَفَعَتْ منزلة صاحبه وشرف.

[سورة المائدة (٥): آية ١٢٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)] الْآيَةَ [«١» جَاءَ هَذَا عَقِبَ مَا جَرَى مِنْ دَعْوَى النَّصَارَى فِي عِيسَى أنه إله فأخبر تعالى أن ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ دُونَ عِيسَى وَدُونَ سَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي لَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ يُعْطِي الْجَنَّاتِ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لِلْمُطِيعِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. تَمَّتْ سورة» المائدة" بحمد الله تعالى.


(١). من ب وج وك.

 


google-playkhamsatmostaqltradent