بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - المص
- ٢ - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
- ٣ - اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دونه أوليآء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرُوفِ وَبَسْطُهُ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، قال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿المص﴾: أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ، ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ هَذَا كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ أَيْ مِنْ رَبِّكَ، ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ شَكٌّ مِنْهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَحَرَّجْ بِهِ فِي إبلاغه والإنذار به، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، وَلِهَذَا قال: ﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾ أي أنزلناه إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْعَالَمِ: ﴿اتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أَيِ اقْتَفُوا آثَارَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ بِكِتَابٍ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أَيْ لَا تَخْرُجُوا عَمَّا جَاءَكُمْ بِهِ الرَّسُولُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَكُونُوا قَدْ عَدَلْتُمْ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
- ٤ - وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ
- ٥ - فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
- ٦ - فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
- ٧ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
يَقُولُ الله تَعَالَى: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أَيْ بِمُخَالَفَةِ رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي الدينا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ به يستهزئون﴾، وكقوله: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾، وقال تعالى:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ أَيْ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُ أَمْرُ اللَّهِ وبأسُه ونقمتُه ﴿بَيَاتًا﴾ أَيْ لَيْلًا ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ وَسَطَ النَّهَارِ، وَكِلَا الْوَقْتَيْنِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَلَهْوٍ، كَمَا قَالَ: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾،
وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أَيْ فَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الْعَذَابِ إِلَّا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا، كقوله تَعَالَى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً - إلى قوله - خَامِدِينَ﴾، قال ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: «مَا هَلَكَ قَوْمٌ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ الْآيَةَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ؟ قَالُواْ: لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ فيسأل الله الأمم يوم القيامة عَمَّا أَجَابُوا رُسُلَهُ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضًا عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إليهم ولنسئلن المرسلين﴾ قال: عما بلغوا.
وعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته وَالرَّجُلُ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ وَالْمَرْأَةُ تُسْأَلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْعَبْدُ يُسْأَلُ عَنْ مَالِ سَيِّدِهِ»، ثم قرأ: ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين﴾ (رواه ابن مردويه، وهو مخرج في الصحيحين بدون زيادة قوله ثم قرأ الآية)، وقال ابن عباس في قوله: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا وَبِمَا عَمِلُوا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى الشهيد عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين﴾.
- ٨ - وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- ٩ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ
يَقُولُ تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ﴾ أَيْ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الْحَقُّ﴾ أَيْ لا يظلم تعالى أحدًا، كقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أجرًا عظيمًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضية﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾.
(فَصْلٌ) وَالَّذِي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِيلَ: الْأَعْمَالُ وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا، إِلَّا أَنَّ الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجسامًا، يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا جَاءَ في الصحيح من أن البقرة وآل عِمْرَانَ يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فرقان من طير صواف، وَقِيلَ: يُوزَنُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ، فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ وَيُوضَعُ لَهُ فِي كِفَّةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِتِلْكَ البطاقة فيها: لا إله إلا الله، الحديث (الحديث في سنن الترمذي وَصَحَّحَهُ)، وَقِيلَ: يُوزَنُ صَاحِبُ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ السَّمِينِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزنًا﴾، وَفِي مَنَاقِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ دقة ساقية والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ»، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحًا، فَتَارَةً تُوزَنُ الْأَعْمَالُ، وَتَارَةً تُوزَنُ مَحَالُّهَا، وَتَارَةً يُوزَنُ فَاعِلُهَا، والله أعلم.
- ١٠ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مكَّن لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الأرض قَرَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وأباح لهم مَنَافِعَهَا وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لإِخراج أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وجعل لهم فيها ﴿مَعَايِشَ﴾ ْ أي مكاسب وأسبابًا يكسبون بها ويتجرون فِيهَا وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قليل الشكر على ذلك، كقوله: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
- ١١ - وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
يُنَبِّهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ عَدُوِّهِمْ إِبْلِيسَ وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الْحَسَدِ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ آدَمَ لِيَحْذَرُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوا طَرَائِقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدم فسجدوا﴾،
هذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عليه السلام بِيَدِهِ مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ وَصَوَّرَهُ بَشَرًا سويًا وَنَفَخَ فِيهِ مِن روحه، أمر الملائكة بالسجود له تعظيمًا لشأن الله تَعَالَى وَجَلَالِهِ، فَسَمِعُوا كُلُّهُمْ وَأَطَاعُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين، والمراد بِذَلِكَ كُلِّهِ آدَمُ عليه السلام، وَقَالَ سُفْيَانُ الثوري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ قَالَ: خُلِقُوا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَصُوِّرُوا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شرطهما ولم يخرجاه)، ونقل ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا أَنَّ المراد ﴿بخلقناكم﴾ ثم ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ الذرية، وقال أَيْ خَلَقْنَا آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَا الذُّرِّيَّةَ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ آدَمُ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ بِالْجَمْعِ لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ، كَمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إسرائيل الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾، المراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّةً عَلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَصْلٌ، صَارَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى الأبناء، وهذا بخلاف قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾
الآية، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ الْمَخْلُوقُ مِنَ السُّلَالَةِ وَذُرِّيَّتُهُ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ،
وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ الْجِنْسُ لَا مُعَيَّنًا، والله أعلم.
- ١٢ - قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طين
قال بعض النحاة (لا) هنا زائدة، زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ)، فَأَدْخَلَ (إِنْ) وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى (مَا) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وكذا هنا ﴿ما منعك أن لا تَسْجُدَ﴾ مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ الساجدين﴾، واختار ابن جرير أن ﴿مَنَعَكَ﴾ مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما ألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ (وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ)؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ فشذ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس مِنَ الرحمة أي أويس مِنَ الرَّحْمَةِ،
فَأَخْطَأَ قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ، وَلِهَذَا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَلَقَ اللَّهُ الملائكةُ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (رواه ابن مردويه)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: «وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ». وَقَالَ الحسن: قاس إبليس وهو أول من قاس، وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. إِسْنَادٌ صحيح أيضًا.
- ١٣ - قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
- ١٤ - قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- ١٥ - قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِإِبْلِيسَ بأمرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي الْمَلَكُوتِ الأعلى ﴿فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ أي الذليلن الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده ⦗٩⦘ ومكافأة لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ وَسَأَلَ النَّظْرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: ﴿أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب.
- ١٦ - قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
- ١٧ - ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أُنْظِرَ إِبْلِيسُ ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ وَاسْتَوْثَقَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي الْمُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ، فَقَالَ: ﴿فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ كَمَا أَغْوَيْتَنِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَا أَضْلَلْتَنِي، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَمَا أَهْلَكْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لِعِبَادِكَ الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَذَا الَّذِي أَبْعَدْتَنِي بِسَبَبِهِ عَلَى ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أَيْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَسَبِيلَ النَّجَاةِ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْهَا لِئَلَّا يَعْبُدُوكَ وَلَا يُوَحِّدُوكَ بِسَبَبِ إِضْلَالِكَ إِيَّايَ، وقال بعض النحاة: الباء هنا قَسَمِيَّةٌ، كَأَنَّهُ يَقُولُ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يَعْنِي الحق، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، روى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ قَالَ فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ» قَالَ: «وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطَّوَلِ، فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فتنكح المرأة ويقسم المال، قال فعصاه وجاهد»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَمَاتَ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّةٌ كَانَ حَقًّا على الله أن يدخله الجنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند).
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ أشككهم في آخرتهم ﴿وَمِنْ خلفهم﴾ أرعبهم في ديناهم ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ أُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ ﴿وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ أشهي لهم المعاصي، وعنه: أَمَّا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ قِبَلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهِمْ فَأَمْرُ آخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ أَيْمَانِهِمْ فَمِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَمَّا عَنْ شَمَائِلِهِمْ فمن قبل سيئاتهم. وقال قَتَادَةَ: أَتَاهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمِنْ خلفهم من أمر الدينا فزينها لهم ودعاهم إليها، وعن أَيْمَانِهِمْ مِنْ قِبَلِ حَسَنَاتِهِمْ بَطَّأَهُمُ عَنْهَا، وَعَنْ شمائلهم زين لهم السئيات وَالْمَعَاصِيَ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهَا وَأَمَرَهُمْ بِهَا، أَتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِكَ مِنْ فَوْقِكَ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ (وَكَذَا رُوِيَ عن إبراهيم النخعي والسدي وابن جريج).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من حَيْثُ يُبْصِرُونَ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ حَيْثُ لَا يُبْصِرُونَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ طُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْخَيْرُ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، والشر يحسنه لهم، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ قَالَ: مُوَحِّدِينَ، وَقَوْلُ إِبْلِيسَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ مِنْهُ وَتَوَهُّمٌ، وَقَدْ وَافَقَ
فِي هَذَا الْوَاقِعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المؤمنين﴾، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الشيطان على الإنسان كما قال الحافظ البزار. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يدعو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وديناي وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَرَاتِي، وَآمِنْ رَوَعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدِي وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شَمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أن أغتال من تحتي» (أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس مرفوعًا).
وعن عبد الله بن عمر قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللهم إني أسألك العافية في الدينا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَرَاتِي وَآمِنْ رَوَعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وعن شمالي ومن فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ والحاكم، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ).
- ١٨ - قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ
أَكَّدَ تَعَالَى على الشيطان اللَّعْنَةَ وَالطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ وَالنَّفْيَ عَنْ مَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا﴾، قَالَ ابن جرير: أما المذؤوم فهو المعيب، والذأم: العيب، يقال ذأمه ذأمًا فهو مذؤوم، وَالذَّامُّ وَالذَّيْمُ أَبْلَغُ فِي الْعَيْبِ مِنَ الذَّمِّ، قَالَ: وَالْمَدْحُورُ الْمُقْصَى وَهُوَ الْمُبْعَدُ الْمَطْرُودُ، وَقَالَ: ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحدًا،
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: صَغِيرًا مَقِيتًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَقِيتًا مَطْرُودًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِينًا مَقِيتًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: منفيًا مطرودًا، وقال الربيع بن أنس: مذؤومًا مَنْفِيًّا وَالْمَدْحُورُ الْمُصَغَّرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا﴾.
- ١٩ - وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
- ٢٠ - فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
- ٢١ - وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَبَاحَ لِآدَمَ عليه السلام وَلِزَوْجَتِهِ حَوَّاءَ الجنة أن يأكلا مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا إِلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَسَدَهُمَا الشَّيْطَانُ، وَسَعَى فِي الْمَكْرِ والوسوسة والخديعة ليسلبهما مَا هُمَا فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ (وَقَالَ) كَذِبًا وَافْتِرَاءً: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ خَالِدَيْنِ ها هنا، وَلَوْ أَنَّكُمَا أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَحَصَلَ لَكُمَا ذَلِكُمَا، كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لا يبلى﴾ أَيْ لِئَلَّا تَكُونَا مَلَكَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾، أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أي لئلا تميد بكم، ﴿وَقَاسَمَهُمَآ﴾ أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾، أَيْ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله، وقال قتادة في
الآية: حلف بالله إِنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْكُمَا فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدُكُمَا، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: مَنْ خدعنا بالله انخدعنا له.
- ٢٢ - فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ
- ٢٣ - قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ السُّنْبُلَةَ، فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا أَظْفَارَهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَرَقِ التِّينِ، يَلْزَقَانِ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ آدَمُ عليه السلام مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّةِ، فَعَلِقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَةٌ مِنَ الجنة، فناداه الله: يَا آدَمُ أَمِنِّي تَفِرُّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أستحييك يَا رَبِّ، قَالَ: أَمَا كَانَ لَكَ فِيمَا مَنَحْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَبَحْتُكَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِكَ مَا حَسِبْتُ أَنَّ أَحَدًا يَحْلِفُ بِكَ كاذبًا، قال: وهو قول الله عز وجل ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ قَالَ: فَبِعِزَّتِي لَأُهْبِطَنَّكَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا تَنَالُ الْعَيْشَ إِلَّا كَدًّا قَالَ: فَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَا يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا فَأُهْبِطَ إِلَى غَيْرِ رَغَدٍ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَعُلِّمَ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ، فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى، حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ، ثُمَّ دَاسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ، فَلَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ ما شاء الله أن يبلغ، وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ قال: ورق التين وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة قال كهيئة الثوب، وقال وهب ابن مُنَبِّهٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ وَحَوَّاءَ نُورًا عَلَى فُرُوجِهِمَا، لَا يَرَى هَذَا عَوْرَةَ هَذِهِ، وَلَا هَذِهِ عَوْرَةَ هَذَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ بَدَتْ لهما سوآتهما (رواه ابن جرير بسند صحيح). وقال قتادة: قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَاسْتَغْفَرْتُ،
قَالَ: إِذًا أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ التَّوْبَةَ وَسَأَلَهُ النَّظْرَةَ، فَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي سَأَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ قِيلَ لَهُ: لِمَ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيْتُكَ عَنْهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ أَمَرَتْنِي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَعْقَبْتُهَا أَنْ لَا تَحْمِلَ إِلَّا كُرهًا، وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ كُرهًا، قَالَ: فَرَنَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ حَوَّاءُ، فَقِيلَ لَهَا: الرَّنَّةُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هِيَ الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
- ٢٤ - قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
- ٢٥ - قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
قِيلَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ فِي ﴿اهْبِطُوا﴾ آدَمُ وَحَوَّاءُ وإبليس، وَالْعُمْدَةُ فِي الْعَدَاوَةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه قَالَ: ﴿اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ الآية، وحواء تبع لآدم، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي هَبَطَ فِيهَا كُلٌّ مِنْهُمْ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ إِلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْبِقَاعِ فَائِدَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ في أمر دينهم أو ديناهم لَذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَوْ رَسُولُهُ ﷺ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أَيْ قَرَارٌ وَأَعْمَارٌ مَضْرُوبَةٌ إِلَى آجَالٍ مَعْلُومَةٍ، قَدْ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ وَأَحْصَاهَا الْقَدَرُ، وَسُطِّرَتْ فِي الْكِتَابِ الأول، قال ابن عباس: ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ القبور، وعنه قال ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ فوق الْأَرْضِ وَتَحْتَهَا رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾، يخبر تعالى أنه جعل الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدينا، فِيهَا مَحْيَاهُمْ وَفِيهَا مَمَاتُهُمْ وَقُبُورُهُمْ، وَمِنْهَا نُشُورُهُمْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ.
- ٢٦ - يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
يَمْتَنُّ تعالى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ والريش، فاللباس ستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ ظَاهِرًا، فَالْأَوَّلُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالرِّيشُ مِنَ التَّكَمُّلَاتِ وَالزِّيَادَاتِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ من الثياب، وقال ابن عباس: الريش: اللباس، والعيش والنعيم، وقال ابن أسلم: الرياش الجمال؛ ولبس أَبُو أُمَامَةَ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَلَمَّا بَلَغَ تَرْقُوَتَهُ قال الحمد للَّهِ الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «من اسْتَجَدَّ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتَهُ: الحمد لله الذي كساني ما أوراي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ عمد إلى الثوب الخلق فَتَصَدَّقَ بِهِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ وَفِي جِوَارِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). وقوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ﴾، اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُقَالُ هُوَ ما يلبسه المتقون يوم القيامة، وقال قتادة وابن جريج: ﴿وَلِبَاسُ التقوى﴾ الإيمان، وقال ابن عباس: العمل الصالح، وعنه: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ فِي الْوَجْهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ﴿لِبَاسُ التَّقْوَى﴾ خَشْيَةُ اللَّهِ، وَقَالَ ابن أسلم: ولباس التَّقْوَى يَتَّقِي اللَّهَ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ، فَذَاكَ لِبَاسُ التقوى، وكلها مُتَقَارِبَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جرير عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عليه قميص فوهي مَحْلُولُ الزِّرِّ، وَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، وَيَنْهَى عَنِ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ السَّرَائِرِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسُهُ اللَّهُ رداءها عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ»، ثُمَّ قرأ هذه الآية: ﴿وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله﴾ قال: السمت الحسن (رواه ابن جرير، قال ابن كثير: فيه ضَعْفٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ عَنِ الحسن البصري بعضه).
- ٢٧ - يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ للذين لا يؤمنون
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبينًا لَهُمْ عَدَاوَتَهُ الْقَدِيمَةَ لِأَبِي الْبَشَرِ آدَمَ عليه السلام في سعيه وإخراجه مِنَ الْجَنَّةِ، الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَالتَّسَبُّبِ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا هَذَا إِلَّا عَنْ عَدَاوَةٍ أَكِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
- ٢٨ - وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
- ٢٩ - قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ
- ٣٠ - فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ
كَانَتِ الْعَرَبُ مَا عَدَا قُرَيْشًا لَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابِهِمُ الَّتِي لَبِسُوهَا، يَتَأَوَّلُونَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابٍ عَصَوُا الله فيها، وكانت قريش - وهم الحمس - يسرفون في ثيابهم، ومن أعراه أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ فِيهِ، وَمِنْ مَعَهُ ثَوْبٌ جَدِيدٌ طَافٍ فِيهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ فَلَا يَتَمَلَّكُهُ أحدن ومن لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا جَدِيدًا وَلَا أَعَارَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا طَافَ عُرْيَانًا، وَرُبَّمَا كَانَتِ امْرَأَةً فَتَطُوفُ عريانة فتجعل على فرجها شيئًا ليستره بعض الستر فتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَطُفْنَ عُرَاةً بِاللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا شَيْئًا قَدِ ابْتَدَعُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتَّبَعُوا فِيهِ آبَاءَهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ آبَائِهِمْ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَمْرٍ مِنَ اللَّهِ وَشَرْعٍ، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾، فَقَالَ تَعَالَى ردًا عليهم: ﴿قُلْ﴾ أي يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُونَهُ فَاحِشَةٌ مُنْكَرَةٌ وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾؟ أَيْ أَتُسْنِدُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ صحته، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أَيْ أَمَرَكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي عِبَادَتِهِ في محالها، وهي متابعة المرسيلن الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وما جاءوا به مِنَ الشَّرَائِعِ وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ حَتَّى يَجْمَعَ هَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يكون خالصًا من الشرك.
واختلف في معنى قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، فقال مجاهد: يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمَا بدأكم في الدينا كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَأَ فَخَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا ثُمَّ ذَهَبُوا ثم يعيدهم، وقال ابن أَسْلَمَ: كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلًا كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ آخِرًا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وأيده
بما رواه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين» (الحديث من رواية الصحيحين، ومعنى قوله ﴿غرلا﴾ أي غير مختونين). وعن مجاهد قَالَ: يُبْعَثُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا وَالْكَافِرُ كَافِرًا، وَقَالَ محمد بن كعب القرظي: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى الشَّقَاوَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خَلْقُهُ عَلَى السَّعَادَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهَّلِ الشَّقَاءِ كَمَا أن السحرة عملوا بِأَعْمَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى مَا ابتدأوا عليه، وقال السدي: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ فَرِيقٌ مُهْتَدُونَ وَفَرِيقٌ ضُلَّالٌ كَذَلِكَ تَعُودُونَ وَتُخْرَجُونَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ؛ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ مؤمنًا وكافرًا، كما قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، قُلْتُ: وَيَتَأَيَّدُ هَذَا الْقَوْلُ بِحَدِيثِ ابن مسعود في صحيح البخاري: «فو الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا بَاعٌ أَوْ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الجنة».
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لِيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم» (هذا جزء من حديث رواه البخاري) وفي الحديث: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم وابن ماجه). قُلْتُ: وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا القول وإن كَانَ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾، وَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه»، وَوَجْهُ الْجَمْعِ عَلَى هَذَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَطَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وَجَعَلَهُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَدَّرَ أَنَّ مِنْهُمْ شَقِيًّا وَمِنْهُمْ سَعِيدًا، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُؤْمِنٌ﴾، وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَقَدَرُ اللَّهِ نَافِذٌ فِي بريته، فإنه هو ﴿الذي قدر فهدى﴾ وَ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله﴾ الآية.
- ٣١ - يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عراة، كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، الرجال بالنهارن وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ * وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ)، وقال العوفي عن ابن عباس: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، والزينةُ اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيِّدِ الْبَزِّ وَالْمَتَاعِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (وروي عن مجاهد وعطاء والنخعي وقتادة والسدي والضحّاك وغيرهم). وَلِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أفضل اللباس البياض، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعًا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشعر»، وللإمام أحمد أيضًا وأهل السنن، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عليكم بثياب الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا موتاكم». ويروى أن تميمًا الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه.
وقوله تعالى: ﴿وكلوا واشربوا﴾ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا﴾، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خصلتان: سرف ومخيلة. وقال ابن عباس: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرفًا أو مخيلة، وفي الحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا من غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يرى نعمته على عبده» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه)، وقال الإمام أحمد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما ملأ ابن آدم وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» (ورواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح)، وفي الحديث: «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشتهيت» (رواه الحافظ الموصلي والدارقطني وقال فيه: هذا حديث غريب). وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً يحرمون عليهم الودك (الدسم) ما أقاموا في المواسم، فقال الله تعالى لهم: ﴿كلوا واشربوا﴾ الآية، يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ﴿وَلاَ تسرفوا﴾ ولا تأكلوا حرامًا ذلك الإسراف، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾، يقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يحب المعتدين﴾ حَدَّهُ فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ به.
- ٣٢ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ⦗١٦⦘ خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أو المشارب أو الملابس مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ الْآيَةَ، أَيْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وعبده في الحياة الدينا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدينا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ على الكافرين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ فأمروا بالثياب (رواه الطبراني عن ابن عباس).
- ٣٣ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله ﷺ: «لا أَحَدَ أغيرَ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أحب إليه المدح من الله» (رواه أحمد والشيخان)، وقد تقدم الكلام عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بطن في سورة الأنعام. وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْإِثْمُ فَالْمَعْصِيَةُ، وَالْبَغْيُ أَنْ تَبْغِيَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِثْمُ الْمَعَاصِي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه عَلَى نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِثْمُ: أن الْخَطَايَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفَاعِلِ نَفْسِهِ، وَالْبَغْيُ هُوَ التَّعَدِّي إِلَى النَّاسِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذَا وَهَذَا. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ أي تجعلوا له شركاء في عبادته، ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ عن الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ، كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ الآية.
- ٣٤ - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
- ٣٥ - يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
- ٣٦ - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ أَيْ قَرْنٍ وَجِيلٍ ﴿أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ أَيْ مِيقَاتُهُمُ الْمُقَدَّرُ لَهُمْ ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾، ثُمَّ أَنْذَرَ تَعَالَى بَنِي آدَمَ أنه سيبعث إليهم رسلًا يقصون عليهم آيايته وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ فَقَالَ: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ﴾ أَيْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ الطَّاعَاتِ ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ⦗١٧⦘ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ﴾ أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيْ مَاكِثُونَ فِيهَا مُكْثًا مُخَلَّدًا.
- ٣٧ - فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن أفترى على الله الكذب أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾، اخْتَلَفَ المفسرون في معناه، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ، وَكُتِبَ لمن كذب على الله أن وجهه مسود، وعنه قال: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ، مَنْ عَمِلَ خَيْرًا جُزِيَ بِهِ، وَمِنْ عَمِلَ شَرًّا جُزِيَ بِهِ. وَقَالَ مجاهد: ما وعدوا به من خير وشر، واختاره ابن جرير،
وقال محمد الْقُرَظِيُّ ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾، قَالَ: عمله ورزقه وعمره، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ فِي الْمَعْنَى، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ ونظير المعنى في هذه الآية، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ الآية، وقوله: ﴿حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ الآية. يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفيت الْمُشْرِكِينَ تُفْزِعُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى النَّارِ، يَقُولُونَ لَهُمْ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَدْعُونَهُمْ وَتَعْبُدُونَهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ ادْعُوهُمْ يُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، قَالُواْ: ﴿ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أَيْ ذَهَبُوا عَنَّا فَلَا نَرْجُو نَفْعَهُمْ وَلَا خَيْرَهُمْ ﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أَيْ أَقَرُّوا وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ﴿أَنَّهُمْ كَانُوا كافرين﴾.
- ٣٨ - قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ
- ٣٩ - وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقُولُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ أَيْ من أمثالكم وَعَلَى صِفَاتِكُمْ، ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْكَافِرَةِ، ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النار﴾ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ﴿فِي أُمَمٍ﴾ أَيْ مَعَ أُمَمٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام، ﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الأسباب﴾، وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ أَيِ اجْتَمَعُوا فِيهَا كُلُّهُمْ ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ﴾ أَيْ أُخْرَاهُمْ دُخُولًا وَهُمُ (الْأَتْبَاعُ) لِأُولَاهُمْ وَهُمُ (الْمَتْبُوعُونَ) لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَدَخَلُوا قَبْلَهُمْ فَيَشْكُوهُمُ الْأَتْبَاعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيِلِ، فَيَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ﴾ أي أضعف عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ من العذاب﴾ الآية. وقوله: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ أَيْ قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَازَيْنَا كُلًّا بِحَسْبِهِ، كقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا﴾ الآية،
وقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أثقالهم﴾، وقوله: ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم﴾ الآية، ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ﴾ أَيْ قَالَ الْمَتْبُوعُونَ لِلْأَتْبَاعِ: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، قَالَ السدي: لقد ضَلَلْتُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾، وهذه الْحَالُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي حَالِ مَحْشَرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ الآيات.
- ٤٠ - إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ
- ٤١ - لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين
وقوله تعالى: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ لَا يُرْفَعُ لَهُمْ مِنْهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَا دُعَاءٌ (قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَاهُ العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ (رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عباس وبه قال السدي)، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلَحَّدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن اللَّهِ وَرِضْوَانٍ - قَالَ: فتخرج تسيل كما يسيل القطر فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا
كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجَهُمْ تَارَةً أُخرى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِي الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فيقولان له: وما عملك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ،
فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وطيبها، ويفسح له قبره مد البصر - قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ من الدنيا وإقبال على الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بن فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فَلَا يُفْتَحُ لَهُ - ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ فَيَقُولَ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحَ رُوحُهُ طَرْحًا - ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق﴾، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ، فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عبدي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسُمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لا تقم الساعة.
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عز وجل، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فَلَانٌ، فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي كَانَتْ
فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَمْ يفتح لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فتصير إلى القبر» (رواه أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ له).
وقد قال ابن جريج: لَا تُفَتَّحُ لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِأَرْوَاحِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ جمع بين القولين، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ هَكَذَا قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ البعير، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَتَّى يُدْخَلَ الْبَعِيرُ فِي خُرْقِ الإبرة (هذا قول جمهور السلف منهم أبو العالية والضحّاك وابن مسعود ورواه العوفي عن ابن عباس). وقرأ ابن عباس: بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ: يَعْنِي الْحَبْلُ الْغَلِيظُ في خرق الْإِبْرَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ: حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ، يَعْنِي قُلُوسَ السُّفُنِ وَهِيَ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ. وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ المراد: الفرش، ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ اللُّحُفُ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَالسُّدِّيُّ ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾.
- ٤٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ
- ٤٣ - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ ضِدُّ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ واستكبروا عنها﴾ نبه تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِهِ سَهْلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أَيْ من حسد وبغض، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَاقْتَصَّ لَهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدُلُّ مِنْهُ بِمَسْكَنِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا». وقال السدي في الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً، فِي أَصْلِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَيُنْزَعُ مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ فَهُوَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ، وَاغْتَسَلُوا مِنَ الأُخرى فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، فَلَمْ يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا. وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ (رواه ابن جرير عن قتادة عن علي كرم الله وجهه). وروى النسائي وابن مردويه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ شُكْرًا، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أن الله هداني فيكون له حسرة» (أخرجه ابن مردويه والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا)، وَلِهَذَا لَمَا أُورِثُوا مَقَاعِدَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الجنة نودوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ نَالَتْكُمُ الرَّحْمَةُ
فَدَخَلْتُمُ الْجَنَّةَ وَتَبَوَّأْتُمْ مَنَازِلَكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا لِمَا يثبت في الصحيحين عنه ﷺ:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يُدْخِلَهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ منه وفضل» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا).
- ٤٤ - وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
- ٤٥ - الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى بِمَا يُخَاطِبُ به أهل النار على التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا﴾ «أن» ههنا مُفَسِّرَةٌ لِلْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، وَ«قَدْ» لِلتَّحْقِيقِ، أَيْ قَالُوا لَهُمْ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وعدكم رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالُواْ: نَعَمْ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ عَنِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْكُفَّارِ، ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين﴾ أَيْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ الَّتِي يَقُولُهَا فِي الدُّنْيَا وَيُقَرِّعُهُ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ والنكال، وكذلك تُقَرِّعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَهُمْ: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾، وَكَذَلِكَ قَرَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَتْلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَادَى: "يَا أبا جهل ابن هِشَامٍ، وَيَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بن ربيعة - وسمى رؤوسهم - هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يجيبوا» (الحديث مروي في الصحيحين)، وقوله تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ أَعْلَمَ مُعْلِمٌ وَنَادَى مُنَادٍ ﴿أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ مستقرة عليهمن ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أَيْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَيَبْغُونَ أَنْ تَكُونَ السَّبِيلُ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لَا يَتَّبِعَهَا أَحَدٌ، ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ أَيْ وَهُمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ مُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ لَا يُصَدِّقُونَهُ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَلِهَذَا لَا يُبَالُونَ بِمَا يَأْتُونَ مِنْ مُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ حِسَابًا عَلَيْهِ وَلَا عِقَابًا، فهم شر الناس أقوالًا وأعمالًا.
- ٤٦ - وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًاّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
- ٤٧ - وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُخَاطَبَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ، نَبَّهَ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حِجَابًا، وَهُوَ الْحَاجِزُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ السُّورُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى فيه: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ باب﴾ وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ هو السُّورُ وَهُوَ الْأَعْرَافُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْرَافُ حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سُورٌ لَهُ بَابٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ، وَكُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى عُرْفًا، وَإِنَّمَا قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه. وعن ابن عباس: هو سور بين الجنة والنار، وَقَالَ السُّدِّيُّ إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَعْرَافُ أَعْرَافًا لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَعْرِفُونَ النَّاسَ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ مَنْ هُمْ؟ وَكُلُّهَا قَرِيبَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حسناتهم وسيئاتهم (قال بذلك حُذَيْفَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ من السلف). وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابن مردويه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمَّنِ استوت حسناته وسيئاته، قال: «أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ». وقال ابن جرير عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، قَالَ فَقَالَ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَقَعَدَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، وَخَلَّفَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ. قَالَ: فَوَقَفُوا هُنَاكَ عَلَى السور حتى يقضي الله فيهم.
وعن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُحَاسَبُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِوَاحِدَةٍ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ الله: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ الآيتين، ثم قال: الْمِيزَانَ يَخِفُّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ، وَيَرْجَحُ، قَالَ: وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فَوَقَفُوا عَلَى الصِّرَاطِ ثُمَّ عَرَفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ نَادَوْا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا صَرَفُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى يسارهم ونظروا إلى أهل النَّارِ ﴿قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظالمين﴾ تعوذوا بِاللَّهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَسَنَاتِ فإنهم يعطون نورًا يمشون بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم، وَيُعْطَى كُلُّ عَبْدٍ يَوْمَئِذٍ نُورًا، وَكُلُّ أُمَّةٍ نُورًا فَإِذَا أَتَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الْجَنَّةِ مَا لَقِيَ المنافقون قالوا: ﴿رَبَّنَآ أَتْمِمْ لنا نورنا﴾، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فَلَمْ يُنْزَعْ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ فَكَانَ الطَّمَعُ دُخُولًا، قَالَ: فقال ابن مسعود أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ بِهَا عَشْرٌ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحاده عشراته (رواه ابن جرير عن ابن مسعود موقوفًا)، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ؟ قَالَ: «هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعِبَادِ، فَإِذَا فَرَغَ رَبُّ العالمين من الفصل بَيْنَ الْعِبَادِ، قَالَ: أَنْتُمْ قَوْمٌ أَخْرَجَتْكُمْ حَسَنَاتُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَأَنْتُمْ عُتَقَائِي، فارعوا مِنَ الجنة حَيْثُ شئتم» (قال ابن كثير: هذا مرسل حسن).
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِمُ اثْنَيْ عَشْرَ قولًا، وقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ كُلًاّ بِسِيمَاهُمْ﴾، قال ابن عباس: يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَأَهْلَ النَّارِ بسواد الوجوه، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لِيَعْرِفُوا مَن فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلِيَعْرِفُوا أَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ، وَيَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يُحَيُّونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالسَّلَامِ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَهُمْ دَاخِلُوهَا إِنْ شاء الله، وقال الْحَسَنِ إِنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَ ذَلِكَ الطَّمَعَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا لِكَرَامَةٍ يُرِيدُهَا
بهم، وقال قتادة: قد أنبأكم بِمَكَانِهِمْ مِنَ الطَّمَعِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ وَعَرَفُوهُمْ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يعني أصحاب الْأَعْرَافِ بِزُمْرَةٍ يُذْهَبُ بِهَا إِلَى النَّارِ قَالُوا: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ عكرمة: تحدد وجوههم للنار، فَإِذَا رَأَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وقال ابن أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ فَرَأَوْا وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةً وَأَعْيُنَهُمْ مُزْرَقَّةً ﴿قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
- ٤٨ - وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
- ٤٩ - أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
يقول الله تعالى إخبارًا عَنْ تَقْرِيعِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ لِرِجَالٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتِهِمْ يَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِسِيمَاهُمْ ﴿مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ أَيْ كَثْرَتُكُمْ، ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أَيْ لَا يَنْفَعُكُمْ كَثْرَتُكُمْ وَلَا جُمُوعُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بَلْ صِرْتُمْ إِلَى مَا أنتم فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾، وَقَالَ ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿قَالُوا مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا لَهُمُ الَّذِي قَضَى اللَّهُ أَنْ يَقُولُوا يَعْنِي أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ لِأَهْلِ الجنة وأهل النار، قال الله لِأَهْلِ التَّكَبُّرِ وَالْأَمْوَالِ: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
- ٥٠ - وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ
- ٥١ - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ، قال السدي: ﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رزقكم الله﴾ يعني الطعام، وقال ابن أسلم: يستطعمونهم ويستسقونهم، وقال سعيد بن جبير: ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له: قد احترقت، فأفض عليَّ مِنَ الْمَاءِ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَجِيبُوهُمْ، فَيَقُولُونَ: ﴿إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾، قال ابن أَسْلَمَ ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: يَعْنِي طعام الجنة وشرابها، وسئل ابن عباس أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى أَهْلِ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالُوا: أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله» (رواه ابن أبي حاتم)؟ ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِمَا كَانُوا
يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدِّينَ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا عما أمروا به من العمل للآخرة، وقوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ أي يعاملهم مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشِذُّ عن علمهم شيء ولا ينساه كما قال تعالى: ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي ولا ينسى﴾، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كقوله: ﴿نَسُواْ الله فنسيهم﴾، وَقَالَ: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾، وقال ابن عباس: نَسِيَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يَنْسَهُمْ مِنَ الشر، وعنه: نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَتْرُكُهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ كَمَا تَرَكُوا أَنْ يَعْمَلُوا لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُزَوِّجْكَ؟ أَلَمْ أُكْرِمْكَ؟ أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَظَنَنْتَ أَنَّكَ ملاقيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فاليوم أنساك كما نسيتي.
- ٥٢ - وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- ٥٣ - هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِعْذَارِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِإِرْسَالِ الرسل إِلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ كتاب مفصل مبين كقوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلت﴾ الآية، وقوله: ﴿فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ﴾ للعالمين، أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَا فَصَّلْنَاهُ بِهِ كقوله: ﴿أَنزَلَهُ بعلمه﴾، ولما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أَيْ ما وعدوا به مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: ثَوَابَهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: لا يزال يجيء من تَأْوِيلُهُ أَمْرٌ حَتَّى يَتِمَّ يَوْمَ الْحِسَابِ، حَتَّى يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، فيتم تأويله يومئذ، قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ أي يوم القيامة، ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَتَنَاسَوْهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، ﴿قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ أَيْ فِي خَلَاصِنَا مِمَّا صرنا إليه مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ إِلَى الدَّارِ الدنيا ﴿فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنهم لكاذبون﴾ كما قال ههنا: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أَيْ ذَهَبَ عنهم مَّا كانوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصروهم وَلَا يُنْقِذُونَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
- ٥٤ - إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
يخبر تعالى أنه خالق الْعَالَمَ؛ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ ما آية من القرآن، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ هَلْ كَلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَهَذِهِ الْأَيَّامِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْأَذْهَانِ؟ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبل؟ فَأَمَّا يَوْمُ السَّبْتَ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ خَلْقٌ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّبْتُ، وَهُوَ القطع. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَقَالَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ليس هذا موضع بسطها،
وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح وَهُوَ إِمْرَارُهَا، كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير﴾، بل الأمر كما قال (نعيم بن حماد الخزاعي) شيخ البخاري قال: من شبَّه الله بخلقه كَفَرَ، وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولَهُ تَشْبِيهٌ فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ الله، وَنَفَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى النَّقَائِصَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ أَيْ يَذْهَبُ ظَلَامُ هَذَا بِضِيَاءِ هَذَا، وَضِيَاءُ هَذَا بِظَلَامِ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حثيثاُ أَيْ سَرِيعًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ،
بَلْ إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هذا وعكسه، كقوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، فَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أَيْ لَا يَفُوتُهُ بِوَقْتٍ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَلْ هُوَ فِي أثره بلا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ أَيِ الْجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُنَبِّهًا: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ أَيْ لَهُ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، كقوله: ﴿تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا﴾ الآية، وفي الحديث: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعِبَادِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ»، لِقَوْلِهِ: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالمين﴾ (رواه ابن جرير)، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوِيَ مَرْفُوعًا: «اللَّهُمَّ لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ».
- ٥٥ - ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخفية إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
- ٥٦ - وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين
أرشدك تبارك وتعالى عِبَادَهُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاحُهُمْ في دنياهم وأخراهم، فقال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، قِيلَ مَعْنَاهُ: تَذَلُّلًا واستكانة وخفية، كقوله: ﴿واذكر رَّبَّكَ في نفسك﴾ الآية، وفي الصحيحن عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
فإنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا، إن الذي تدعون سميع قريب» الحديث، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قَالَ: السِّرُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ﴿تَضَرُّعًا﴾ تَذَلُّلًا وَاسْتِكَانَةً لِطَاعَتِهِ ﴿وَخُفْيَةً﴾ يَقُولُ: بِخُشُوعِ قُلُوبِكُمْ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، لَا جِهَارًا مراءاة. وقال الحسن البصري: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقُهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزُّوَّرُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَّا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ، فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّا﴾، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ والصياح في الدعاء، ويأمر بالتضرع والاستكانة، ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ فِي الدُّعَاءِ وَلَا في غيره.
وقال الإمام أحمد أَنَّ سَعْدًا سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا، وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كثيرًا، وتعوذت به مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ الآية - وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل» (رواه أحمد وأبو داود)، وسمع عبد الله بن مغفل ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدعاء والطهور» (رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود قال ابن كثير: وإسناده حسن)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ يَنْهَى تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ! فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مَاشِيَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّذَلُّلِ لَدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أَيْ خَوْفًا مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ وَطَمَعًا فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الآية، وَقَالَ: ﴿قَرِيبٌ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: (قَرِيبَةٌ) لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّحْمَةَ مَعْنَى الثَّوَابِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، فَلِهَذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ. وَقَالَ مطر الوراق: استنجزوا مَوْعُودَ اللَّهِ بِطَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ قَضَى أَنَّ رَحْمَتَهُ قريب من المحسنين.
- ٥٧ - وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- ٥٨ - وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
لما ذكر تعالى أنه خالق السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ وَأَرْشَدَ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ الرَّزَّاقُ وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًا﴾ أي مبشرة بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ بُشْرًا، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أَيْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد﴾، وقال: ﴿فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ في ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا﴾ أَيْ حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا أَيْ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ تَكُونُ ثَقِيلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْأَرْضِ مُدْلَهِمَّةً، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رحمه الله:
وَأَسْلَمْتُ وجْهِي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذابًا زلالا
وقوله تعالى: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أَيْ إِلَى أَرْضٍ مَيِّتَةٍ مجدبة لا نبات فيها، كقوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها﴾ الآية، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ نُحْيِي الْأَجْسَادَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا رَمِيمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُنَزِّلُ اللَّهُ سبحانه وتعالى مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَتُمْطِرُ الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَتَنْبُتُ مِنْهُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا كَمَا يَنْبُتُ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ في القرآن، يضرب الله مثلًا ليوم القيامة بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾،
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أَيْ وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا سَرِيعًا حسنًا كقوله: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾، قَالَ مجاهد وغير: كالسباخ ونحوها، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للمؤمن والكافرن وقال البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَثَلُ مَا بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منه نقية قبلت الماء فأنبت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أرسلت به».
- ٥٩ - لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- ٦٠ - قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
- ٦١ - قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٦٢ - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَفَرَغَ مِنْهُ، شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام: الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلِ، فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ نُوحٍ عليه السلام، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عليه السلام. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَلْقَ نَبِيٌّ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَذَى مِثْلَ نُوحٍ إِلَّا نَبِيٌّ قُتِلَ، وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِكَثْرَةِ مَا نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ آدَمَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ عليهما السلام عشرة قرون كلهم
على الإسلام. قال ابن عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: وَكَانَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ أَنَّ قَوْمًا صَالِحِينَ مَاتُوا فَبَنَى قَوْمُهُمْ عَلَيْهِمْ مَسَاجِدَ، وَصَوَّرُوا صُوَرَ أُولَئِكَ فِيهَا، لِيَتَذَكَّرُوا حَالَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، فَيَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، فلما طال الزمان جعلوا أَجْسَادًا عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ، فَلَمَّا تَمَادَى الزَّمَانُ عَبَدُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ، وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَاءِ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ (وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَا)، فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَعَثَ اللَّهُ سبحانه وتعالى وَلَهُ الْحَمْدُ والمنة - رسوله نوحًا، فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَقَالَ: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أَيْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ القيامة إذا لَقِيتُمُ اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ، ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ﴾ أَيِ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ وَالْقَادَةُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أَيْ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وَهَكَذَا حَالُ الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾، ﴿وإذا لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ مَا أَنَا ضَالٌّ وَلَكِنْ أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ،
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾،
وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أن يكون مبلغًا فصيحًا ناصحًا عالمًا بِاللَّهِ لَا يُدْرِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال لأصحابه يوم عرفة: «أيها الناس إنكم مسؤولون عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُواْ: نَشْهَدُ إِنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ إلى السماء وينكسها عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ».
- ٦٣ - أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
- ٦٤ - فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ﴾ الآية، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا ليس بعجب أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ رَحْمَةً بكم ولطفًا وإحسانًا إليكم لينذركم،
وَلِتَتَّقُوا نِقْمَةَ اللَّهِ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، قال الله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي تمادوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخر، ﴿فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك﴾ أي السفينة، كما قال: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة﴾، ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ من دون الله أنصارًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِين﴾ أَيْ عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ انْتَقَمَ لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَنْجَى رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَهْلَكَ أَعْدَاءَهُمْ من الكافرين، كقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ الآية، وَهَذِهِ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة، أن العاقبة فيها لِلْمُتَّقِينَ وَالظَّفَرَ وَالْغَلَبَ لَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نوح بالغرق ونجى نوحًا وأصحابه المؤمنين، وكان قَوْمُ نُوحٍ قَدْ ضَاقَ بِهِمُ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ، وقال ابن أسلم: ما عذب الله قوم نوح إِلَّا وَالْأَرْضُ مَلْأَى بِهِمْ، وَلَيْسَ بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. وَقَالَ ابْنُ وهب: بلغني عن ابن عباس أنه نجي مع نوح فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَحَدُهُمْ جُرْهُمُ، وَكَانَ لسانه عربيًا (رواه ابن أبي حاتم).
- ٦٥ - وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
- ٦٦ - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- ٦٧ - قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٦٨ - أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ
- ٦٩ - أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ نُوحٍ نُوحًا كَذَلِكَ أرسلنا إلى عَادٍ أخاهم هودًا، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ، وهم أولاد عاد بن غرم الَّذِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى الْعُمُدِ فِي الْبَرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟ وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، فإن هُودًا عليه السلام دُفِنَ هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ من أشرف قومه نسبًا، لأن الرسل إِنَّمَا يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْقَبَائِلِ وَأَشْرَفِهِمْ، وَلَكِنْ كَانَ قَوْمُهُ كَمَا شُدِّدَ خَلْقُهُمْ شُدِّدَ على قلوبهم، وكانو مِنْ أَشَدِّ الْأُمَمِ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا دَعَاهُمْ هُودٌ عليه السلام إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَتَقْوَاهُ، ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ - وَالْمَلَأُ هُمَ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ وَالْقَادَةُ مِنْهُمْ - ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لنظك مِنَ الكاذبين﴾ أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده،
كَمَا تَعَجَّبَ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحدا﴾؟ الآية،
﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ، بَلْ جِئْتُكُمْ بِالْحَقِّ مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الرُّسُلُ البلاغ والنصح والأمانة، ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ أَيْ لَا تَعْجَبُوا أَنْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ أَيَّامَ اللَّهِ وَلِقَاءَهُ، بَلِ احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى ذَاكُمْ، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾، أي واذكروا نِعْمَةَ الله عليكم في جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ الَّذِي أَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ أَيْ زَادَ طُولَكُمْ عَلَى النَّاسِ بَسْطَةً أَيْ جَعَلَكُمْ أَطْوَلَ مِنْ أَبْنَاءِ جنسكم، كقوله فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والجسم﴾ ﴿واذكروا آلآءَ اللَّهِ﴾ أَيْ نِعَمَهُ وَمِنَنَهُ عَلَيْكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
- ٧٠ - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- ٧١ - قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
- ٧٢ - فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين
كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وما كانوا مؤمنين
يخبر تعالى عَنْ تَمَرُّدِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى هُودٍ عليه السلام، ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ الآية، كقول الكفار من قُرَيْشٌ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُمْ كانوا يعبدون أصنامًا، فصنم يقال له: صمد، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: صَمُودٌ، وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ: الْهَبَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ هُودٌ عليه السلام: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ أَيْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ مِنْ رَبِّكُمْ رجس، معناه سخط وَغَضَبٌ ﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ أَيْ أَتُحَاجُّونِي فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم آلِهَةً وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا حُجَّةً وَلَا دَلِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ * فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ مِنَ الرَّسُولِ لقومه، ولهذا عقّبه بُقُولِهِ: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكم فِي أَمَاكِنَ أُخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ فَكَانَتْ تَحْمِلُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَتَثْلَغُ رَأْسَهُ حَتَّى تُبِينَهُ مِنْ جُثَّتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كانوا يسكنون باليمن بين عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا فِي الْأَرْضِ وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا عليه السلام، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُواْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قوة؟ واتبعه منهم ناس - وهم يسير - يكتمون إيمانهم، فَلَمَّا عَتَتْ عَادٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ وَتَجَبَّرُوا، وَبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ كَلَّمَهُمْ هُودٌ فَقَالَ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ الآيات.
فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ أَمْسَكَ اللَّهُ عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك، وَكَانَ النَّاسُ إِذَا جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ الزمان، وطلبوا من الله الفرج فيه إنما يطلبونه بحرمته ومكان بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، فبعث عَادٌ وَفْدًا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى الحرم، ليستقوا لهم عند الحرم فَنَهَضُوا إِلَى الْحَرَمِ، وَدَعَوْا لِقَوْمِهِمْ، فَدَعَا دَاعِيهِمْ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَاتٍ ثَلَاثًا بَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَحَمْرَاءَ، ثم ناده مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَوْ لِقَوْمِكَ مِنْ هَذَا السَّحَابِ فَقَالَ: اخْتَرْتُ هَذِهِ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ، فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: «اخترت رمادًا رمددًا، لا تبقي من عادًا أحدًا، لا والدًا ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا». وساق الله السحابة السوداء بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ حَتَّى تخرج عليهم من واد، يقال لها الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، يَقُولُ: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي تهلك كل شيء مرت به، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، كما قال الله تعالى،
والحسوم الدَّائِمَةُ، فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادَ أَحَدًا إِلَّا هلك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾،
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَرِيبٌ مِمَّا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بن إسحاق عن الحارث البكري قال: إِنْ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْلُ، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ مَهْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لم أجىء إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيهِ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيهِ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَّابَاتٌ سُودُ، فَنُودِيَ: مِنْهَا اخْتَرْ، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ، فَنُودِيَ: مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، قال: فما بلغني أنه بعث الله عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرُ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ وَصَدَقَ قَالَ: وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وابن ماجه وأخرجه ابن جرير).
- ٧٣ - وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- ٧٤ - وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- ٧٥ - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
- ٧٦ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- ٧٧ - فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
- ٧٨ - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالنَّسَبِ: ثَمُودُ بْنُ عَاثِرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، أحياء من العرب العارية قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام، وَكَانَتْ ثَمُودُ بعد عاد، ومساكنهم مشهورة بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَا حَوْلَهُ، وَقَدْ مرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع، قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ، نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ فاستقى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا لها الْقُدُورَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فأهراقوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ،
ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا، وَقَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ». وقال أحمد أيضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو بِالْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أصابهم» (أصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين). قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ﴾ أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى قَبِيلَةِ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾، فجميع الرُّسُلِ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدون﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾، أَيْ قَدْ جَاءَتْكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا صَالِحًا أَنْ يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تَخْرُجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ عَيَّنُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهِيَ صَخْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فِي نَاحِيَةِ الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا الْكَاتِبَةُ، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْهَا نَاقَةً عُشَرَاءَ تَمْخَضُ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ صَالِحٌ العهود والمواثيق، لئن أجابهم الله إِلَى طُلْبَتِهِمْ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَتْبَعُنَّهُ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ، قَامَ صَالِحٌ عليه السلام إِلَى صِلَاتِهِ وَدَعَا اللَّهَ عز وجل، فَتَحَرَّكَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ، ثُمَّ انْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ جَوْفَاءَ وَبْرَاءَ، يَتَحَرَّكُ جَنِينُهَا بَيْنَ جَنْبَيْهَا، كَمَا سألوا، فعند ذلك آمن رئيسهم (جُنْدَعُ بْنُ عَمْرٍو) وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى أمره، وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بِئْرِهَا يَوْمًا، وَتَدَعُهُ لَهُمْ يَوْمًا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ لبنها يوم شربها، يحتلبونها، فيملأون مَا شَاءُوا مِنْ أَوْعِيَتِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معلوم﴾، وَكَانَتْ تَسْرَحُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ تَرِدُ مِنْ فَجٍّ وَتَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ لِيَسَعَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَضَلَّعُ مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَتْ عَلَى مَا ذُكِرَ خَلْقًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا رَائِعًا، إِذَا مَرَّتْ بِأَنْعَامِهِمْ نَفَرَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ وَاشْتَدَّ تَكْذِيبُهُمْ لِصَالِحٍ النَّبِيِّ عليه السلام عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهَا لِيَسْتَأْثِرُوا بِالْمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمُ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى قَتْلِهَا، قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي أن الذي قتلها طَافَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِقَتْلِهَا، حَتَّى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان، قلت: وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾، وَقَالَ: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾، وَقَالَ: ﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ﴾، فَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِ القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك، والله أعلم.
وذكر ابن جرير وغيره من علماء التفسير: أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها (عنيزة) وتكنى أم عثمان، كَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِصَالِحٍ عليه السلام، وَكَانَتْ لَهَا بَنَاتٌ حِسَانٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا (ذُؤَابُ بْنُ عَمْرٍو) أَحَدَ رُؤَسَاءِ ثَمُودَ، وَامْرَأَةً أُخْرَى يُقَالُ لها (صدقة) ذَاتِ حَسَبٍ وَمَالٍ وَجِمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مسلم من ثمود ففارقته، فكانتا تجعلان جعلًا لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلًا يقال له: الحباب، فعرضت عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ: (مصدع بْنِ الْمُحَيَّا) فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، وَدَعَتْ عُنَيْزَةُ بنت غنم (قدار بن سالف) وَكَانَ رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كان ولد زانية، وَقَالَتْ لَهُ: أُعْطِيكَ أَيَّ بَنَاتِي شِئْتَ عَلَى أَنْ تَعْقِرَ النَّاقَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْطَلَقَ (قِدَارُ بن سالف) و(مصدع بن المحيا) فاستغويا غُوَاةً مِنْ ثَمُودَ، فَاتَّبَعَهُمَا سَبْعَةُ نَفَرٍ، فَصَارُوا تسعة رهط، وهم الذين قال فيهم اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض ولا يصلحون﴾ وَكَانُوا رُؤَسَاءَ فِي قَوْمِهِمْ، فَاسْتَمَالُوا الْقَبِيلَةَ الْكَافِرَةَ بِكَمَالِهَا، فَطَاوَعَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَانْطَلَقُوا فَرَصَدُوا النَّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الْمَاءِ وَقَدْ كَمَنَ لَهَا (قدار بن سالف) فِي أَصْلِ صَخْرَةٍ عَلَى طَرِيقِهَا، وَكَمِنَ لَهَا مِصْدَعٌ فِي أَصْلِ أُخْرَى، فَمَرَّتْ عَلَى مِصْدَعٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةُ سَاقِهَا، وَخَرَجَتْ بنت غَنْمٍ عُنَيْزَةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَتَهَا - وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الناس وجهًا - فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته، وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عُرْقُوبَهَا، فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً تُحَذِّرُ سَقْبَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا وَهُوَ فَصِيلُهَا حَتَّى أَتَى جَبَلًا مَنِيعًا، فَصَعَدَ أَعْلَى صَخْرَةٍ فِيهِ وَرَغَا.
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ وَفَرَغُوا مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ وبلغ الخبر صالحًا عليه السلام جاءهم وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاقَةَ بَكَى وَقَالَ: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثلاثة أيام﴾ الآية، وَكَانَ قَتْلُهُمُ النَّاقَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا أَمْسَى أُولَئِكَ التِّسْعَةُ الرَّهْطُ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ ﴿قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾، فلما عزموا على ذلك وتواطأوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله، فأرسل اللَّهُ سبحانه وتعالى وَلَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ - عَلَيْهِمْ حِجَارَةً فَرَضَخَتْهُمْ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّظِرَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، كَمَا وَعَدَهُمْ صَالِحٌ عليه السلام، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُحَمَّرَةٌ، وَأَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْمَتَاعِ - وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - وَوُجُوهُهُمْ مُسَوَّدَةٌ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَقَدْ تَحَنَّطُوا وَقَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ - عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، وَلَا كَيْفَ يأتيهم العذاب، وأشرقت الشَّمْسُ، جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أَيْ صَرْعَى لَا أَرْوَاحَ فِيهِمْ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، لَا ذكر ولا أنثى، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ثَمُودَ أَحَدٌ سِوَى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم، إِلَّا أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ (أَبُو رِغَالٍ) كَانَ لَمَّا وَقَعَتِ النِّقْمَةُ بِقَوْمِهِ مُقِيمًا إِذْ ذَاكَ فِي الْحَرَمِ فَلَمْ يَصِبْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِلَى الْحِلِّ جَاءَهُ حَجَرٌ مِنَ السَّمَاءِ فَقَتَلَهُ.
- ٧٩ - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
هَذَا تَقْرِيعٌ مِنْ صَالِحٍ عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفته إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى، قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقف علىالقليب - قَلِيبِ بَدْرٍ - فَجَعَلَ يَقُولُ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شبية بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جُيِّفُوا! فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يجيبون» (وفي السيرة أنه ﷺ قال لهم: «بئس عشيرة القوم كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة القوم كنتم لنبيكم»). وهكذا قال صالح عليه السلام لِقَوْمِهِ: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ أَيْ فَلَمْ تَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ لِأَنَّكُمْ لَا تُحِبُّونَ الْحَقَّ وَلَا تَتَّبِعُونَ نَاصِحًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ هَلَكَتْ أُمَّتُهُ كَانَ يَذْهَبُ فيقيم في الحرم - حرم مكة - والله أعلم. وقد قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَادِي عُسْفَانَ حِينَ حَجَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: «لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالِحٌ عليهما السلام على بكرات خطمهن اللِّيفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ، يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ البيت العتيق» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه).
- ٨٠ - وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ
- ٨١ - إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مسرفون
يقول تعالى (وَ) لقد أَرْسَلْنَا ﴿لُوطًا﴾ أَوْ تَقْدِيرُهُ (وَ) اذْكُرْ ﴿لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ولوط هو ابن هاران ابن آزَرَ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليهما السلام وَكَانَ قَدْ آمَنَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَبَعَثَهُ الله إِلَى أَهْلِ سَدُومَ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي اخْتَرَعُوهَا لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِتْيَانُ الذكور دون الإناث، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ بَنُو آدَمَ تَعْهَدُهُ وَلَا تَأْلَفُهُ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، حَتَّى صَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ سَدُومَ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. قَالَ عمرو بن دينار في قَوْلُهُ ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ: مَا نَزَا ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ حتى كان يوم لوط؛ وقال الوليد بن عبد الملك: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَصَّ عَلَيْنَا خبر قوم لُوطٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذَكَرًا يَعْلُو ذَكَرًا، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ لُوطٌ عليه السلام: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ﴾ أَيْ عَدَلْتُمْ عَنِ النِّسَاءِ وَمَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْهُنَّ إِلَى الرِّجَالِ، وَهَذَا إِسْرَافٌ مِنْكُمْ وَجَهْلٌ، لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فاعلين﴾ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى نِسَائِهِمْ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَهُونَهُنَّ، ﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي النِّسَاءِ وَلَا إِرَادَةَ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مُرَادَنَا مِنْ أَضْيَافِكَ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا قد استغنى بعضهم ببعضن وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بَعْضُهُنَّ بِبَعْضٍ أَيْضًا.
- ٨٢ - وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
أَيْ مَا أَجَابُوا لُوطًا إِلَّا أَنْ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ ونفيه ومن معه مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَالِمًا وَأَهْلَكَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ صَاغِرِينَ مُهَانِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: عَابُوهُمْ بِغَيْرِ عَيْبٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَأَدْبَارِ النِّسَاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
- ٨٣ - فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
- ٨٤ - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَا لُوطًا وَأَهْلَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَطْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهِ، بَلْ كَانَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا تُمَالِئُهُمْ عَلَيْهِ، وَتُعْلِمُهُمْ بِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ ضِيفَانِهِ بِإِشَارَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا أُمِرَ لُوطٌ عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها وَلَا يُخْرِجَهَا مِنَ الْبَلَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلِ اتَّبَعَتْهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْعَذَابُ الْتَفَتَتْ هِيَ، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ وَلَا أَعْلَمَهَا لُوطٌ بَلْ بَقِيَتْ معهم، ولهذا قال ههنا: ﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ
مِنَ الغابرين﴾ أي الباقين، وقيل مَنَ الْهَالِكِينَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا﴾ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ من يجترئ على معاصي الله عز وجل ويكذب رُسُلَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُرْجَمُ سَوَاءً كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَالْحُجَّةُ مَا رَوَاهُ الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عمل لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه). وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَالزَّانِي فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ مِائَةَ جِلْدَةٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ فَهُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَهُوَ حرام بإجماع العلماء إلا قولًا شاذًا لبعض السلف.
- ٨٥ - وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كنتم مؤمنين
مدين تطلق عَلَى الْقَبِيلَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الَّتِي بِقُرْبِ (معان) من طرق الحجاز (معان هي الآن بلدة شهيرة في شرق الأردن)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناس يسقون﴾ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، أَيْ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمُ النَّاسَ بِأَنْ يُوفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَلَا يَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ، أَيْ لَا يَخُونُوا النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَيَأْخُذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْبَخْسِ، وَهُوَ نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ خُفْيَةً وَتَدْلِيسًا، كَمَا قال تعالى: ﴿وَيْلٌ للمطففين - إلى قوله - لِرَبِّ العالمين﴾ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ) لِفَصَاحَةِ عِبَارَتِهِ وَجَزَالَةِ مَوْعِظَتِهِ.
- ٨٦ - وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
- ٨٧ - وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
يَنْهَاهُمْ شُعَيْبٌ عليه السلام عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ أي
تتوعدون النَّاسَ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يُعْطُوكُمْ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ السدي: كانوا عشارين، وعن ابن عباس ومجاهد ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾: أَيْ تَتَوَعَّدُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْآتِينَ إِلَى شُعَيْبٍ لِيَتَّبِعُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لأنه قال: ﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ وهو الطريق، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أَيْ وَتَوَدُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللَّهِ عِوَجًا مَائِلَةً، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ أَيْ كُنْتُمْ مُسْتَضْعَفِينَ لِقِلَّتِكُمْ فَصِرْتُمْ أَعِزَّةً لِكَثْرَةِ عَدَدِكُمْ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، ﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ والقرون الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِاجْتِرَائِهِمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ﴾ أَيْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ عَلَيَّ ﴿فَاصْبِرُوا﴾ أي انتظروا ﴿حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا﴾ وبينكم أَيْ يَفْصِلُ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، فَإِنَّهُ سَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالدَّمَارَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
- ٨٨ - قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
- ٨٩ - قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
هَذَا خبر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا وَاجَهَتْ بِهِ الْكُفَّارُ نبيه شعيبًا ومن معه من المؤمنينن وتوعدهم إياه ومن معه بالنفي عن الْقَرْيَةِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرُّجُوعِ فِي مِلَّتِهِمْ وَالدُّخُولِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ؛ وَالْمُرَادُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمِلَّةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾؟ يَقُولُ: أَوَ أَنْتُمْ فَاعِلُونَ ذَلِكَ وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ رَجَعْنَا إِلَى مِلَّتِكُمْ وَدَخَلْنَا مَعَكُمْ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَقَدْ أَعْظَمْنَا الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ معه اندادًا، وهذا تنفير منه على اتباعهم ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾، وَهَذَا رَدٌّ إِلَى الله مستقيم فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ أَيْ فِي أُمُورِنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ، ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾، أي احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ أَيْ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، فَإِنَّكَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ أَبَدًا.
- ٩٠ - وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ
- ٩١ - فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
- ٩٢ - الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شِدَّةِ كفرهم وَتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَقِّ، وَلِهَذَا أَقْسَمُوا وَقَالُوا: ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾، فلهذا عقبه بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، وذلك كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدهم بالجلاء
كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَقَالَ: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في ديارهم جَاثِمِينَ﴾، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم ﴿أصلاتك تأمرك﴾؟ الآية، فَجَاءَتِ الصَّيْحَةُ فَأَسْكَتَتْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ﴾ الآية، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شر مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وخمدت الأجسام ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا﴾ أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَتْهُمُ النِّقْمَةُ لَمْ يُقِيمُوا بِدِيَارِهِمُ الَّتِي أَرَادُوا إجلاء الرسول وصحبه منها. ثم قال تعالى مُقَابِلًا لِقِيلِهِمْ: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾.
- ٩٣ - فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ
أَيْ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شُعَيْبٌ عليه السلام بعدما أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ وَالنَّكَالِ، وَقَالَ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبِّخًا: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ أَيْ قَدْ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ ما أرسلت بهن فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به، فلهذا قَالَ: ﴿فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾؟ ..
- ٩٤ - وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
- ٩٥ - ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا اخْتَبَرَ بِهِ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ الَّذِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. يَعْنِي ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾ مَا يُصِيبُهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَسْقَامٍ، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ أَيْ يَدْعُونَ وَيَخْشَعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَتَضَرَّعُوا فَمَا فَعَلُوا شيئًا من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيهن وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ أَيْ حَوَّلْنَا الْحَالَ مِنْ شِدَّةٍ إِلَى رَخَاءٍ، وَمِنْ مَرَضٍ وَسَقَمٍ إِلَى صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَمِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنًى، لِيَشْكُرُوا عَلَى ذَلِكَ فَمَا فَعَلُوا، وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى عَفَوْاْ﴾ أَيْ كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، يُقَالُ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ. ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾. يقول تعالى: ابتليناهم بِهَذَا وَهَذَا لِيَتَضَرَّعُوا وَيُنِيبُوا إِلَى اللَّهِ فَمَا نَجَعَ فِيهِمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَلَا انتهوا بهذا ولا بهذا، وقالوا: قَدْ مَسَّنَا مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ثُمَّ بَعْدَهُ مِنَ الرَّخَاءِ مِثْلُ مَا أَصَابَ آبَاءَنَا فِي قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يَتَفَطَّنُوا لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَا اسْتَشْعَرُوا ابْتِلَاءَ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الضَّرَّاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا ابتلاه الله به من الضراء والسراء،
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بالمؤمن حتى يخرج نقيًا من ذنوبه (وفي رواية الترمذي: «حتى يلقى الله تعالى وَمَا عليه خطيئة)، والمنافق كَمَثَلِ الْحِمَارِ لَا يَدْرِي فِيمَ رَبَطَهُ أَهْلُهُ ولا فيما أرسوله»، أَوْ كَمَا قَالَ، وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الصِّفَةَ بِقَوْلِهِ ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي على بغتة وَعَدَمِ شُعُورٍ مِنْهُمْ، أَيْ أَخَذْنَاهُمْ فَجْأَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَوْتُ الْفَجْأَةِ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أسف للكافر».
- ٩٦ - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
- ٩٧ - أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ
- ٩٨ - أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
- ٩٩ - أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون
يخبر تعالى عَنْ قِلَّةِ إِيمَانِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ أَرْسَلَ فِيهِمُ الرُّسُلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾ أَيْ مَا آمَنَتْ قَرْيَةٌ بِتَمَامِهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ فإنهم آمنوا، وذلك بعدما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نذير﴾ الآية، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ واتقوا﴾ أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل، وصدقت به واتبعوه، وَاتَّقَوْا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، أَيْ قَطْرَ السَّمَاءِ ونبات الأرض، وقال تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ وَلَكِنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ عَلَى مَا كَسَبُوا مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَوِّفًا وَمُحَذِّرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَالتَّجَرُّؤِ عَلَى زَوَاجِرِهِ ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ أَيِ الْكَافِرَةِ ﴿أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ أَيْ عَذَابُنَا وَنَكَالُنَا، ﴿بَيَاتًا﴾ أي ليلًا ﴿وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أَيْ فِي حَالِ شُغْلِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ﴾ أَيْ بَأْسَهُ وَنِقْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَخْذَهُ إِيَّاهُمْ فِي حَالِ سَهْوِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ، ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَهُوَ مُشْفِقٌ وَجِلٌ خَائِفٌ، وَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ آمِنٌ.
- ١٠٠ - أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
قَالَ ابْنُ عباس المعنى: أولم يتبين لَهُمْ أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَالَ ابن جرير في تفسيرها: أولم يتبين لِلَّذِينِ يُسْتَخْلَفُونَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ إِهْلَاكِ آخَرِينَ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَهْلَهَا فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ، وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ ﴿أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ يَقُولُ: أَنْ لَوْ نَشَاءُ فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلِهِمْ، ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يَقُولُ: وَنَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ موعظة ولا تذكيرًا. وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾؛ وَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ أَيْ هَلْ تَرَى لَهُمْ شَخْصًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ صوتًا؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكير﴾؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُلُولِ نِقَمِهِ بِأَعْدَائِهِ، وَحُصُولِ نِعَمِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَلِهَذَا عقب ذلك بقوله وهو أصدق القائلين.
- ١٠١ - تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ
- ١٠٢ - وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
لَمَّا قَصَّ تَعَالَى عَلَى نبيَّه ﷺ خَبَرَ قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وَمَا كَانَ مِنْ إِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا، ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَيْ الحجج عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قائم وحصيد﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بالحق أول ما ورد عليهم، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم﴾ أَيْ لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ﴿مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ أَيْ وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ، خَارِجِينَ عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،
وَأَخَذَ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، فَخَالَفُوهُ وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، لَا مِنْ عقل ولا شرع.
قال تعالى: ﴿واسأل من أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾؟ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بما كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾، عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ، أَيْ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ لِعِلْمِ الله منهم ذلك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾، هَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ﴾ الآية.
- ١٠٣ - ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم﴾ أَيِ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ كَنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ ⦗٤٠⦘ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، ﴿مُوسَى بِآيَاتِنَآ﴾ أي بحجتنا وَدَلَائِلِنَا الْبَيِّنَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ - وَهُوَ مَلِكُ مِصْرَ فِي زَمَنِ مُوسَى - ﴿وَمَلَئِهِ﴾ أَيْ قَوْمِهِ، ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أَيْ جَحَدُوا وَكَفَرُوا بِهَا ظُلْمًا مِنْهُمْ وَعِنَادًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ أَيِ الَّذِينَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ،
أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ بِمَرْأًى مِنْ مُوسَى وَقَوْمِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّكَالِ بِفِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، وَأَشْفَى لِقُلُوبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ المؤمنين به.
- ١٠٤ - وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٠٥ - حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
- ١٠٦ - قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُنَاظَرَةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَإِلْجَامِهِ إِيَّاهُ بِالْحُجَّةِ، وَإِظْهَارِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ بِحَضْرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ أَرْسَلَنِي الَّذِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحق﴾، قال بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى الله إلا الحق، أي جدير بذك وحري به، قالوا: والباء وعلى يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس، وقال بعض المفسرين: معناه حريص عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَقَرَأَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: حَقِيقٌ عليَّ، بمعنى واجب وحق عليَّ ذلك، إن لا أُخْبِرَ عَنْهُ إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه، ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أَيْ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ مِنَ اللَّهِ أَعْطَانِيهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ أَسْرِكَ وَقَهْرِكَ وَدَعْهُمْ وَعِبَادَةَ ربهم، فَإِنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نَبِيٍّ كَرِيمٍ (إِسْرَائِيلَ) وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ أَيْ قَالَ فِرْعَوْنُ: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمعطيك فِيمَا طَلَبْتَ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَكَ حُجَّةٌ فَأَظْهِرْهَا لِنَرَاهَا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَيْتَ.
- ١٠٧ - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
- ١٠٨ - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
قال ابن عباس: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ﴾ فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ أَنَّهَا قَاصِدَةٌ إِلَيْهِ اقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ فَفَعَلَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَحَوَّلَتْ حية عظيمة مثل المدينة،
قال السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾: الثعبان الذكر من الحيات، فاتحة فاها، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذعر منها ووثب وأحدث، وصاح: يا موسى خذها وأنا أؤمن بِكَ، وَأُرْسِلْ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَأَخَذَهَا مُوسَى عليه السلام فعادت عصا، وَقَوْلُهُ ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾: أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه، فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ تلألأ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا مَرَضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَدْخِلْ ⦗٤١⦘ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غير سوء﴾ الآية. وقال ابن عباس ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى كُمِّهِ، فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الأول.
- ١٠٩ - قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
- ١١٠ - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
أَيْ قَالَ الْمَلَأُ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَالسَّادَةُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُوَافِقِينَ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ فيه بعدما رَجَعَ إِلَيْهِ رَوْعُهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ فَوَافَقُوهُ، وَقَالُوا كَمَقَالَتِهِ، وَتَشَاوَرُوا فِي أمره كيف يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهِ، وَكَيْفَ تَكُونُ حِيلَتُهُمْ فِي إطفاء نوره، وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه، وتخوفوا أَنْ يَسْتَمِيلَ النَّاسَ بِسِحْرِهِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَالَّذِي خَافُوا مِنْهُ وَقَعُوا فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ﴾ فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فِيهِ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
- ١١١ - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- ١١٢ - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٌ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿أَرْجِهْ﴾ أَخِّرْهُ: وَقَالَ قَتَادَةُ: احْبِسْهُ ﴿وَأَرْسِلْ﴾ أَيِ ابعث، ﴿فِي المدآئن﴾ أي في الأقاليم ومدائن مُلْكِكَ ﴿حَاشِرِينَ﴾ أَيْ مَنْ يَحْشُرُ لَكَ السَّحَرَةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ وَيَجْمَعُهُمْ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِي زَمَانِهِمْ غَالِبًا كَثِيرًا ظَاهِرًا، وَاعْتَقَدَ مَنِ اعتقد منهم، وأوهم منهم أن ما جاء موسى به عليه السلام مِنْ قَبِيلِ مَا تُشَعْبِذُهُ سَحَرَتُهُمْ، فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوا بِنَظِيرِ مَا أَرَاهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ تعالى عن فرعون حيث قَالَ: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا موسى، فلنأتينك بسحر مثلهن فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مكانا سوى﴾.
- ١١٣ - وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
- ١١٤ - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَشَارَطَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَالسَّحَرَةُ الَّذِينَ اسْتَدْعَاهُمْ لِمُعَارَضَةِ مُوسَى عليه السلام، إِنْ غَلَبُوا مُوسَى لَيُثِيبَنَّهُمْ وَلَيُعْطِينَّهُمْ عَطَاءً جَزِيلًا، فَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا أَرَادُوا ويجعلهم مِنْ جُلَسَائِهِ وَالْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا تَوَثَّقُوا مِنْ فرعون لعنه الله.
- ١١٥ - قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
- ١١٦ - قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
هَذِهِ مُبَارَزَةٌ مِنَ السَّحَرَةِ لِمُوسَى عليه السلام فِي قَوْلِهِمْ: ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ أَيْ قَبْلَكَ، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وإما نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى عليه السلام: أَلْقُواْ أَيْ أنتم أولًا، قيل: الحكمة فِي هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِيَرَى النَّاسُ صَنِيعَهُمْ ويتأملوه، فإذا فرغوا من بهرجهم، جاءهم الحق الواضح
الجلي بعد التطلّب لَهُ وَالِانْتِظَارِ مِنْهُمْ لِمَجِيئِهِ، فَيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَكَذَا كَانَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أَيْ خَيَّلُوا إِلَى الْأَبْصَارِ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مُجَرَّدَ صَنْعَةٍ وَخَيَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخُشُبًا طِوَالًا قَالَ: فَأَقْبَلَتْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى، وقال محمد بن إسحاق: أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ: فَإِذَا حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، لَيْسَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَمَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا، ﴿فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ يَقُولُ: فَرَّقُوهُمْ أي من الفرق، حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى، ولهذا قال تعالى: ﴿وجاؤوا بسحر عظيم﴾.
- ١١٧ - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
- ١١٨ - فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- ١١٩ - فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ
- ٢٠ - وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - ١٢١ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٢٢ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى عليه السلام فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَمِينِهِ وَهِيَ عَصَاهُ ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾ أَيْ تَأْكُلُ ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ أَيْ مَا يُلْقُونَهُ وَيُوهِمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ بَاطِلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَعَلَتْ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ حِبَالِهِمْ وَلَا مِنْ خُشُبِهِمْ إِلَّا الْتَقَمَتْهُ، فَعَرَفَتِ السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر، فخروا سجدًا (قيل: كان رؤساؤهم أربعة، وهم أئمة السحرة، كما ذكره الطبري، والدارقطني، وكان السحرة: سبعين ألفًا، وقيل دون ذلك، ومهما يكن من أمر فقد كان عددهم كبيرًا)، وَقَالُوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ قال محمد بن إسحاق: جعلت تتبع تلك الجبال وَالْعِصِيَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْا، ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ عَصًا فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ، وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، قَالُوا: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ لَوْ كَانَ هَذَا سَاحِرًا مَا غُلِبْنَا. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي برة: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَى عصاه فإذا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ فَاغِرٌ فَاهُ، يَبْتَلِعُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةَ عند ذلك سجدًا فما رفعوا رؤوسهم حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ أَهْلِهِمَا.
- ١٢٣ - قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
- ١٢٤ - لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
- ١٢٥ - قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
- ١٢٦ - وَمَا تَنْقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَوَعَّدَ بِهِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ السَّحَرَةَ لَمَّا آمَنُوا بِمُوسَى عليه السلام، وَمَآ أَظْهَرُهُ لِلنَّاسِ مِنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ منها أهلها﴾ أي إن غلبته لَكُمْ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّمَا كَانَ عَنْ تَشَاوُرٍ مِنْكُمْ وَرِضَا مِنْكُمْ لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾، وَهُوَ يَعْلَمُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ لُبٌّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ مِنْ مَدْيَنَ دَعَا فِرْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةَ وَالْحُجَجَ الْقَاطِعَةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي مَدَائِنِ ملكه وسلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ممن اختار وأحضرهم عنده، ووعدهم بالعطاء الجزيل، ولهذا قد كانوا من أَحْرَصَ الناس على التقدم عِنْدَ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عليه السلام لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا رَآهُ وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَفِرْعَوْنُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا تَسَتُّرًا وَتَدْلِيسًا عَلَى رَعَاعِ دَوْلَتِهِ وَجَهَلَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ فَإِنَّ قَوْمًا صَدَّقُوهُ فِي قَوْلِهِ ﴿إِنَّا رَبُّكُمُ الأعلى﴾ من أجهل خلق الله وأضلهم. وَقَوْلُهُ: ﴿لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا﴾ أَيْ تَجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَهُوَ وَتَكُونَ لَكُمْ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ وَتُخْرِجُوا مِنْهَا الْأَكَابِرَ وَالرُّؤَسَاءَ، وَتَكُونَ الدَّوْلَةُ وَالتَّصَرُّفُ لَكُمْ ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ مَا أَصْنَعُ بِكُمْ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خلاف﴾ يعني بقطع يده اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس ﴿ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ﴾، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿فِي جُذُوعِ النخل﴾ أَيْ عَلَى الْجُذُوعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَبَ وَأَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ فِرْعَوْنُ، وَقَوْلُ السَّحَرَةِ: ﴿إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ أَيْ قَدْ تَحَقَّقْنَا أَنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَعَذَابَهُ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِكَ، وَنَكَالُهُ على ما تدعونا إليه اليوم، وَمَا أَكْرَهَتْنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَعْظَمُ مِنْ نَكَالِكَ، فَلَنَصْبِرَنَّ الْيَوْمَ عَلَى عَذَابِكَ لِنَخْلُصَ مِنْ عذاب الله، ولهذا قَالُواْ: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أَيْ عُمَّنَا بِالصَّبْرِ عَلَى دِينِكَ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أَيْ مُتَابِعِينَ لِنَبِيِّكَ مُوسَى عليه السلام، وَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: ﴿فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحياة الدنيا﴾، فَكَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، فَصَارُوا فِي آخره شهداء بررة، قال ابن عباس: كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً وَفِي آخِرِهِ شهداء.
- ١٢٧ - وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ
- ١٢٨ - قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
- ١٢٩ - قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا تَمَالَأَ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ أَيْ لِفِرْعَوْنَ ﴿أتذر موسى وقومه﴾ أي تدعهم ﴿لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ يُفْسِدُوا أَهْلَ رَعَيَّتِكَ ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، ﴿ويذرك وآلهتك﴾ الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ أَيْ أَتَذِرُهُ وَقَوْمَهُ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وقد ترك عبادتك؟ وقيل: هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون مِنَ الْفَسَادِ مَا قَدْ أَقْرَرْتَهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى ترك آلهتك؟ وقرأ
بعضهم: إلاهتك أي عبادتك (روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما). قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ إِلَهٌ يَعْبُدُهُ في السر، فَأَجَابَهُمْ فِرْعَوْنُ فِيمَا سَأَلُوهُ بِقَوْلِهِ: «سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ» وَهَذَا أَمْرٌ ثَانٍ بِهَذَا الصَّنِيعِ، وقد كان نكّل بهم قَبْلَ وِلَادَةِ مُوسَى عليه السلام حَذَرًا مِنْ وُجُودِهِ، فَكَانَ خِلَافَ مَا رَامَهُ وَضِدَّ مَا قصده فرعون، وهكذا عومل في صنيعه أيضًا لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم، فجاء الأمر على خلاف ما أراد، أعزهم الله وَأَذَلَّهُ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ وَأَغْرَقَهُ وَجُنُودَهُ، وَلَمَّا صَمَّمَ فِرْعَوْنُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْمُسَاءَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾،
وَوَعْدَهُمْ بِالْعَاقِبَةِ وَأَنَّ الدَّارَ سَتَصِيرُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِن قبلأن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ ما جئتنا﴾ أي فعلوا بنا مِثْلُ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْهَوَانِ وَالْإِذْلَالِ مِّن قَبْلُ مَا جِئْتَ يَا مُوسَى وَمِنْ بَعْدِ ذلك، فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يهلك عدوكم﴾ الآية. وَهَذَا تَحْضِيضٌ لَهُمْ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى الشُّكْرِ عِنْدَ حُلُولِ النِّعَمِ وَزَوَالِ النِّقَمِ.
- ١٣٠ - وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
- ١٣١ - فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ وَامْتَحَنَّاهُمْ وَابْتَلَيْنَاهُمْ ﴿بالسنين﴾ وهي سنين الْجُوعِ بِسَبَبِ قِلَّةِ الزُّرُوعِ، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾، وقال رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ: كَانَتِ النَّخْلَةُ لَا تَحْمِلُ إِلَّا ثَمَرَةً وَاحِدَةً، ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ أَيْ مِنَ الْخِصْبِ وَالرِّزْقِ ﴿قَالُواْ لَنَا هَذِهِ﴾ أَيْ هَذَا لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّهُ ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أَيْ جَدْبٌ وَقَحْطٌ ﴿يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن معه﴾ أي هذا بسببهم وما جاؤوا بِهِ ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾، قَالَ ابن عباس: مصائبهم عند الله، ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وعنه ﴿ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله﴾ أي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.
- ١٣٢ - وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
- ١٣٣ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ والقُمّل وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
- ١٣٤ - وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ
- ١٣٥ - فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل عَنْ تَمَرُّدِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهِمْ، وَعِنَادِهِمْ لِلْحَقِّ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِمْ:
﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، يَقُولُونَ: أَيَّ آيَةٍ جِئْتِنَا بِهَا وَدَلَالَةً وَحَجَّةً أَقَمْتَهَا، رَدَدْنَاهَا فَلَا نَقْبَلُهَا مِنْكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَثْرَةُ الْأَمْطَارِ الْمُغْرِقَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ (وَبِهِ قال الضحاك بن مزاحم وهو الأظهر)، وعنه: هو كثرة الموت، وقال مجاهد: ﴿الطوفان﴾ الماء والطاعون، وأما الجراد فمعروف ومشهور،
وَهُوَ مَأْكُولٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي أوفى: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وأحمد وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الحوت والجراد والكبد والطحال». وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ﴾ قَالَ: كَانَتْ تَأْكُلُ مَسَامِيرَ أَبْوَابِهِمْ وَتَدَعُ الخشب. وروى الحافظ أبو الفرج الحريري قَالَ: سُئِلَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي عَنِ الْجَرَادِ؟ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ الْجَرَادَةَ فِيهَا خِلْقَةُ سَبْعَةِ جَبَابِرَةٍ رَأَسُهَا رَأْسُ فَرَسٍ، وَعُنُقُهَا عُنُقُ ثَوْرٍ، وَصَدْرُهَا صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجل جَمَلٍ، وَذَنَبُهَا ذَنَبُ حَيَّةٍ، وَبَطْنُهَا بَطْنُ عَقْرَبٍ.
وروى ابن ماجه عن أنس وجابر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ، وَاقْتُلْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزقنا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ نَثْرَةُ حوت في البحر» (أخرجه ابن ماجة في سننه). قال هشام: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ يَنْثُرُهُ الْحُوتُ. قَالَ مَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ: إِنَّ السَّمَكَ إِذَا بَاضَ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ وَبَدَا لِلشَّمْسِ أَنَّهُ يَفْقِسُ كُلُّهُ جَرَادًا طيارًا. وَأَمَّا الْقُمَّلَ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الذي يخرج من الحنطة، وعن الحسن: القمل دواب سود صغار، وقال ابن أَسْلَمَ: الْقُمَّلَ الْبَرَاغِيثُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: القُمَّل جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا قُمَّلَةٌ وَهِيَ دَابَّةٌ تُشْبِهُ الْقَمْلَ تأكل الإبل فيما بلغني.
وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مُوسَى عليه السلام فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ: أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَطَرُ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ مِنْهُ شَيْئًا خَافُوا أَنْ يَكُونَ عَذَابًا، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْمَطَرَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ،
فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْبَتَ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ شَيْئًا لَمْ يُنْبِتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ من الزروع والثمار وَالْكَلَأِ، فَقَالُوا: هَذَا مَا كُنَّا نَتَمَنَّى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَلَأِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَثَرَهُ فِي الْكَلَأِ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُبْقِي الزَّرْعَ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ فيكشف عَنَّا الْجَرَادَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْجَرَادَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَاسُوا وَأَحْرَزُوا فِي الْبُيُوتِ فَقَالُوا قَدْ أَحْرَزْنَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ وَهُوَ (السُّوسُ) الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَخْرِجُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ إِلَى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة، فقالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا الْقُمَّلَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَمِعَ نَقِيقَ ضِفْدَعٍ، فَقَالَ لِفِرْعَوْنَ: مَا تَلْقَى أَنْتَ وقومك من هذا؟ فقال: وَمَا عَسَى أَن يَكُونَ كَيْدُ هَذَا؟ فَمَا أَمْسَوْا حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ إِلَى ذَقْنِهِ في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضِّفْدَعُ فِي فِيهِ، فَقَالُوا لِمُوسَى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عَنَّا هَذِهِ الضَّفَادِعَ فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا،
وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَكَانُوا مَا اسْتَقَوْا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَمَا كَانَ فِي أَوْعِيَتِهِمْ وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا، فَشَكَوَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا بِالدَّمِ وَلَيْسَ لَنَا شَرَابٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَحَرَكُمْ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ سَحَرَنَا وَنَحْنُ لَا نُجِدُ فِي أَوْعِيَتِنَا شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا وَجَدْنَاهُ دَمًا عَبِيطًا؟ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِفْ عنا هذا الدم فَنُؤْمِنَ لَكَ وَنُرْسِلَ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَلَمْ يُرْسِلُوا معه بني إسرائيل (روي مثل هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رحمه الله: فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مَغْلُولًا، ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِي في الشر، فتابع الله عليه الآيات، فأخذه بالسنين وأرسل عَلَيْهِ الطُّوفَانَ، ثُمَّ الْجَرَادَ ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ وَهُوَ الْمَاءُ فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ ركد لا يقدرون أن يحرثوا ولا أن يَعْمَلُوا شَيْئًا حَتَّى جَهِدُوا جُوعًا، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ ﴿قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمن لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مما قالوا، فأرسل عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ فَأَكَلَ الشَّجَرَ فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُوْرُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلُ، فَذُكِرَ لِي أَنَّ مُوسَى عليه السلام أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ، فَمَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ فَضَرَبَهُ بِهَا فَانْثَالَ عَلَيْهِمْ قُمَّلًا،
حَتَّى غَلَبَ عَلَى البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ فَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآنِيَةَ، فلا يكشف أحدًا ثوبًا إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فلما جهدهم ذلك قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالُوا فَسَأَلَ رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بِئْرٍ وَلَا نَهْرٍ، وَلَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ إِلَّا عَادَ دَمًا عبيطًا.
- ١٣٦ - فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
- ١٣٧ - وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَتَوَا وَتَمَرَّدُوا مَعَ ابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِإِغْرَاقِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي فَرَقَهُ لِمُوسَى فَجَاوَزَهُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، ثُمَّ وَرَدَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا فِيهِ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ فَغَرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْرَثَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ - وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ - مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
﴿مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ يَعْنِي الشَّامَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ﴾ قال مجاهد وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض﴾ (وروي أيضًا عن ابن جرير وغيره وهو ظاهر) الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعون من العمارات والمزارع ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ يبنون (قاله ابن عباس ومجاهد).
- ١٣٨ - وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
- ١٣٩ - إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ جَهَلَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عليه السلام حِينَ جَاوَزُوا الْبَحْرَ وَقَدْ رَأَوْا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ مَا رَأَوْا ﴿فَأَتَوْاْ﴾ أَيْ فَمَرُّوا ﴿عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانُوا مِنَ الكنعانين، قال ابن جرير: وَكَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَلِهَذَا أَثَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: ﴿يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أَيْ تَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَالْمَثِيلِ ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أَيْ هالك ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قبل حُنَيْنٍ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكَفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. إنكم تركبون سننن من قبلكم» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وأورده ابن جرير).
- ١٤٠ - قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ١٤١ - وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
يُذَكِّرُهُمْ موسى عليه السلام نعم الله عليهم، من أسر فرعون وقهره، وما فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْعِزَّةِ وَالِاشْتِفَاءِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي حَالِ هَوَانِهِ وَهَلَاكِهِ وَغَرَقِهِ وَدَمَارِهِ، وَقَدْ تقدم تفسيرها في البقرة.
- ١٤٢ - وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
⦗٤٨⦘
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى بَنِي إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكلميه مُوسَى عليه السلام وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ وَفِيهَا أَحْكَامُهُمْ وَتَفَاصِيلُ شَرْعِهِمْ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاعَدَ مُوسَى ثلاثين ليلة، فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم المقيات اسْتَاكَ بِلِحَاءِ شَجَرَةٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكْمِلَ بِعَشْرٍ أَرْبَعِينَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثلاثين هي (ذو القعدة) وعشر من ذي الحجة، روي عن ابن عباس وغيره، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمَّلَ الْمِيقَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَصَلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عليه السلام، وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا﴾، فلما تم المقيات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور استخلف على بني إسائيل أخاه (هارون) ووصاه بِالْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ وَإِلَّا فَهَارُونُ عليه السلام نَبِيٌّ شَرِيفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَلَالَةٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
- ١٤٣ - وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه السلام أَنَّهُ لَمَّا جاء لمقيات اللَّهِ تَعَالَى وَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ اللَّهِ، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾ وقد أشكل حرف ﴿لن﴾ ههنا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ في الدينا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَمَا سَنُورِدُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْكُفَّارِ ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾، وَقِيلَ: إِنَّهَا لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ هذا الكلام في الْمَقَامِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾، وفي الكتب المتقدمة إن الله تعالى قال لِمُوسَى عليه السلام: «يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ تَدَهْدَهَ» وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾، قَالَ ابن جرير الطبري: «لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ فَجَعَلَهُ دكًا وأرانًا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة»، وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ قَالَ: هَكَذَا بِإِصْبَعِهِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ إِصْبَعَهُ الْإِبْهَامَ عَلَى المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل (أخرجه ابن جرير وروى الترمذي وأحمد والحاكم قريبًا منه). قال ابن عباس: مَا تَجَلَّى مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ قَالَ: تُرَابًا ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ قَالَ: مغشيًا عليه (أخرجه ابن جرير والطبري وهي رواية السدي عن ابن عباس). وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ قَالَ: مَيِّتًا، وقال الثَّوْرِيُّ: سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى
وقع في البحر فهو يذهب معه. وعن عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: كَانَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء، فَلَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَى الطُّورِ دُكَّ وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف (رواه ابن أبي حاتم).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ﴾ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ، وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ قَالَ: نَظَرَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَصَارَ صَحْرَاءَ ترابًا، والمعروف أن الصعق هو الغشي ها هنا كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، لَا كَمَا فَسَّرَهُ قَتَادَةُ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ فَإِنَّ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ، كَمَا أَنَّ هُنَا قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى الْغَشْيِ، وَهِيَ قوله: ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾ والإفاقة لا تكون إلاّ عن غَشْيٍّ، ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا أَنْ يراه أحد في الدُّنْيَا إِلَّا مَاتَ، وَقَوْلُهُ: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ أَسْأَلَكَ الرُّؤْيَةَ ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عنه ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، قال أبو العالية: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهذا قول حسن له اتجاه، وقوله: ﴿وَخَرَّ موسى صَعِقًا﴾ روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، وقال يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَطَمَ وَجْهِي قَالَ: «ادْعُوهُ»، فَدَعَوْهُ، قَالَ: «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِيِّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى موسى على البشر، قال: وعلى محمد؟ قال: فقلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته فقال: «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بصعقة الطور» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، فقال الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْيَهُودِيِّ فَلَطَمَهُ، فَأَتَى الْيَهُودِيُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يفيق فإذا بموسى ممسك بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل» (رواه الشيخان وأحمد). وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قِيلَ: مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: نَهَى أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالتَّعَصُّبِ، وَقِيلَ: عَلَى وَجْهِ الْقَوْلِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّشَهِّي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ يَكُونُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ أَمْرٌ يُصْعَقُونَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ الرَّبُّ تبارك وتعالى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَجَلَّى لِلْخَلَائِقِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ كَمَا صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى، وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام: «فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قبل أم جوزي بصعقة الطور».
- ١٤٤ - قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ
- ١٤٥ - وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأتباعه أكثر من أتباع سائر المرسلين كُلِّهِمْ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ (إِبْرَاهِيمُ) الْخَلِيلُ عليه السلام، ثُمَّ (مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ) كَلِيمُ الرحمن عليه السلام، ولهذا قال تَعَالَى لَهُ ﴿فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ﴾ أَيْ مِنَ الكلام وَالْمُنَاجَاةِ ﴿وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَطْلُبْ مَا لَا طَاقَةَ لَكَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شيء، كَتَبَ لَهُ فِيهَا مَوَاعِظَ وَأَحْكَامًا مُفَصَّلَةً، مُبَيِّنَةً لِلْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ مُشْتَمِلَةً عَلَى التوراة، وَقِيلَ: الْأَلْوَاحُ أُعْطِيَهَا مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ أَيْ بِعَزْمٍ عَلَى الطاعة ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾، قال ابن عباس: أُمِرَ مُوسَى عليه السلام أَنْ يَأْخُذَ بِأَشَدِّ مَا أَمَرَ قَوْمَهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ أَيْ سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي كَيْفَ يَصِيرُ إِلَى الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَالتَّبَابِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ: سأريك غدًا إلى ما يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ مَنْ خَالَفَ أَمْرِي عَلَى (وجه التهديد) والوعيد لمن عصاه وخلف أمره (نَقَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ)، وقيل: منازل قوم فرعون، والأول أولى لِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ انْفِصَالِ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَهُوَ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ التِّيهَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- ١٤٦ - سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
- ١٤٧ - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أَيْ سَأَمْنَعُ فَهْمَ الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي، قُلُوبَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ طَاعَتِي، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ كَمَا اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ أذلهم بِالْجَهْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَنَالُ الْعِلْمَ حَيِيٌّ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ، وَقَالَ آخَرُ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الجهل أبدًا، وقال سفيان بن عيينه: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي، ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ أَيْ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ سَبِيلُ الرُّشْدِ أَيْ طَرِيقُ النَّجَاةِ لَا يَسْلُكُوهَا،
وَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ طَرِيقُ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ثُمَّ عَلَّلَ مَصِيرَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أَيْ كَذَّبَتْ بِهَا قُلُوبُهُمْ ﴿وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي لا يعملون بما فِيهَا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أَيْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَقَوْلُهُ: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾؟ أَيْ إِنَّمَا نُجَازِيهِمْ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَسْلَفُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، وَكَمَا تَدِينُ تُدان.
- ١٤٨ - وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ
- ١٤٩ - وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذَهُ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ، فَشَكَّلَ لَهُمْ مِنْهُ عِجْلًا ثُمَّ أَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عليه السلام فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا له خوار، والخوار صَوْتُ الْبَقَرِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ موسى لميقات ربه تعالى، فأعلمه اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الطُّورِ حَيْثُ يقول إِخْبَارًا عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري﴾. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْعِجْلِ هَلْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا لَهُ خُوَارٌ، أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ ذَهَبٍ إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيُصَوِّتُ كَالْبَقَرِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا صَوَّتَ لَهُمُ الْعِجْلُ رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا: ﴿هذا إلهكم وإله موسى فنسي﴾، قال تَعَالَى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعا﴾؟ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾؟ يُنْكِرُ تعالى عليهم ضلالهم بالعجل، وذهولهم عن خالق السموات وَالْأَرْضِ، وَرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ، أَنْ عَبَدُوا مَعَهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى خَيْرٍ، وَلَكِنْ غَطَّى عَلَى أَعْيُنِ بَصَائِرِهِمْ عَمَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويصم» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود). وَقَوْلُهُ ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا ﴿وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
- ١٥٠ - وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قال بئس ما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ
وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- ١٥١ - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عليه السلام لما رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ تَعَالَى وهو غضبان أسفًا،
والأسف أشد الغضب ﴿قَالَ بئس ما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي﴾ يَقُولُ: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ فِي عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ يَقُولُ: اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ قِيلَ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَقِيلَ: مِنْ ياقوت، وظاهر السياق أنه لما ألقى الأواح غَضَبًا عَلَى قَوْمِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سلفًا وخلفًا، ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ قَدْ قصَّر فِي نَهْيِهِمْ كَمَا قَالَ في الآية الأخرى: ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرئيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾، وقال ها هنا: ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ لَا تَسُقْنِي مَسَاقَهُمْ وَلَا تخلطني معهم وإنما قال: ﴿ابن أُمَّ﴾ ليكون أرق وَأَنْجَعَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ شَقِيقُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى عليه السلام بَرَاءَةَ سَاحَةِ هارون عليه السلام، عند ذَلِكَ ﴿قَالَ﴾ مُوسَى ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عز وجل أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعًا).
- ١٥٢ - إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
- ١٥٣ - وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
أَمَّا (الْغَضَبُ) الَّذِي نَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ لَهُمْ تَوْبَةً حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بعضًا وَأَمَّا (الذِّلَّةُ) فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلًّا وَصَغَارًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ نَائِلَةٌ لكل من افترى بدعة، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَغْلَاتُ وَطَقْطَقَتْ بهم البراذين، وعن أبي قلابة أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ فقال: هِيَ وَاللَّهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عِبَادَهُ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاقٍ وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ﴾ أَيْ يا محمد يا نبيّ الرحمة ﴿مِن بَعْدِهَا﴾ أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِعْلَةِ ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك يعني الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فَتَلَاهَا عَبْدُ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يأمرهم بها ولم ينههم عنها (رواه ابن أبي حاتم أيضًا).
- ١٥٤ - وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ﴾ أَيْ سَكَنَ ﴿عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ أَيْ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمِهِ،
﴿أَخَذَ الْأَلْوَاحَ﴾ أَيْ الَّتِي كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ غَيْرَةً لِلَّهِ وغضبًا له ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يرهبون﴾ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا لَمَّا أَلْقَاهَا تَكَسَّرَتْ، ثُمَّ جَمَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ بعض السلف: فوجد فيها هدى ورحمة، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَخَذَ الْأَلْوَاحَ﴾ قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي! قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أمة هم الآخرون السابقون، أي آخرون في الخلق سابقون فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ، قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي! قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجعلني من أمة أحمد (ذكر هذا الأثر مطولًا عن قتادة ولم يرمز إليه ابن كثير بضعف).
- ١٥٥ - وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
- ١٥٦ - وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ
قال السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ في سبعين من بين إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَوَعْدَهُمْ موعدًا، ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ على عينيه ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُواْ: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ يَا مُوسَى ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ، ويقول: يا رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أتيتُهم وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ؟
﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ (روي مثل هذا عن عباس وبعض السلف). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا: الخِّير فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إلى (طور سيناء) لمقيات وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بإذن منه وعلم،
فقال له السيعون - فِيمَا ذُكِرَ لِي حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ به وخرجوا معه للقاء ربه - لِمُوسَى، اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامُ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضُرِبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ، وَقَعُوا سُجُودًا فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ مِنْ أمره وانكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا يَا مُوسَى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ فالتقت أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ قد سفهوا، أفتهلك من ورائي بني إسرائيل؟
وقال ابن عباس وقتادة: أنهم أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُزَايِلُوا قَوْمَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَلَا نَهْوَهُمْ، وَيَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ لقول مُوسَى: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّآ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ أَيِ ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وامتحانك، يَقُولُ: إِنِ الْأَمْرُ إِلَّا أَمْرُكَ، وَإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لَكَ فَمَا شِئْتَ كَانَ، تَضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لمن مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ لَكَ وَالْحُكْمُ كُلُّهُ لَكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ الْغَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ إِذَا قُرِنَتْ مَعَ الْغَفْرِ يُرَادُ بها أن لا يُوقِعَهُ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ: ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ أي لا يغفر الذنب إِلَّا أَنْتَ، ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة﴾ الفصل الأول من الدعاء لدفع الْمَحْذُورِ، وَهَذَا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ﴾ أَيْ أَوْجِبْ لَنَا وَأَثْبِتْ لَنَا فِيهِمَا حَسَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ تفسير الحسنة في سورة البقرة ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا إِلَيْكَ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي وقتادة وغيرهم). عن علي قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿إِنَّا هدنا إليك﴾ (أخرجه ابن جرير قال ابن كثير: وفيه جابر الجعفي ضعيف).
(تتمة الآية ١٥٦) قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
يقول تَعَالَى مُجِيبًا لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ الآية، ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيء﴾ أَيْ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ وَأَحْكُمُ مَا أُرِيدُ، وَلِيَ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ آيَةٌ عَظِيمَةُ الشُّمُولِ وَالْعُمُومِ، كقوله تعالى إِخْبَارًا عَنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنَا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾. عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتَى رَاحِلَتَهُ، فَأَطْلَقَ عِقَالَهَا، ثُمَّ رَكِبَهَا، ثُمَّ نَادَى: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَقُولُونَ هَذَا أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «لَقَدْ حَظَرْتَ رَحْمَةً وَاسِعَةً، إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقْ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فأنزل رحمة يَتَعَاطَفُ بِهَا الْخَلْقُ جِنُّهَا وَإِنْسُهَا وَبَهَائِمُهَا، وَأَخَّرَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أم بعيره»؟ رواه أحمد وأبو داود، وقال الإمام أحمد أيضًا عن سلمان عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنْ لِلَّهِ عز وجل مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الْخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ على أولادها، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة». عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِلَّهِ مِائَةُ رَحْمَةٍ فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، به يتراحم الناس والوحش والطير» (رواه ابن ماجة والإمام أحمد). وقوله:
﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الْآيَةَ، يَعْنِي فَسَأُوجِبُ حُصُولَ رَحْمَتِي مِنَّةً مِنِّي وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ سَأَجْعَلُهَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أَيْ الشِّرْكَ وَالْعَظَائِمَ مِنَ الذنوب، قوله: ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ قيل: زكاة النفوس، وقيل: الْأَمْوَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لَهُمَا، فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ﴿وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ يصدقون.
- ١٥٧ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ وَهَذِهِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، بَشَّرُوا أُمَمَهُمْ بِبَعْثِهِ وَأَمَرُوهُمْ بِمُتَابَعَتِهِ، وَلَمْ تَزَلْ صِفَاتُهُ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ يَعْرِفُهَا علماؤهم وأحبارهم، كما روى الإمام أحمد عن رجل مِنَ الأعراب، قال: جلبت حلوبة إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا فرغت من بيعي قُلْتُ: لَأَلْقِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، فَلْأَسْمَعَنَّ مِنْهُ قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ حتى أتوا على رجل من اليهود، ناشر التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَنِ ابْنٍ له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ هَذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي» فَقَالَ: بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا، فَقَالَ ابْنُهُ: إِي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لِنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أنك رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا الْيَهُودِيَّ عَنْ أَخِيكُمْ»، ثم تولى كفنه والصلاة عليه (أخرجه أحمد عن الجريري عن أبي صخر العقيلي قال ابن كثير: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصحيح). وروى ابن جرير عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ كَصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي ورسولي، اسمك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولن يقبضه الله حتى يتم بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَيَفْتَحَ بِهِ قُلُوبًا غُلْفًا، وَآذَانًا صمًا، وأعينًا عميًا. وقد رواه البخاري في صحيحه وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ» وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو ويصفح.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ هَذِهِ صِفَةُ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وهكذا كانت حَالُهُ عليه الصلاة والسلام لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا﴾ فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه، ومن أهم ذله وأعظمه ما بعثه الله بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، والنهي عن عبادة من سواه. عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «إذا سمعتم الحديث عني ممّا تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أنه
مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفُرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ منه» (قال ابن كثير: رواه أحمد بإسناد جيد وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ). وعن علي رضي الله عنه قال: «إذا سمعتم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى، وَالَّذِي هو أهنى، والذي هو أتقى» (رواه الإمام أحمد). وفي رواية قَالَ: إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَاهُ وَأَهْنَاهُ وَأَتْقَاهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث﴾ أي يحل لكم ما كانوا حرموه عن أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ وَالِحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ويحرم عليهم الخبائث، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالرِّبَا وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا الله تعالى، قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ والدين، وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ إِنَّهُ جَاءَ بِالتَّيْسِيرِ وَالسَّمَاحَةِ، كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السمحة» وقال ﷺ لأميريه (معاذ) و(أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) لَمَّا بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تختلفا»، وقد كانت الأمم الذين من قَبْلَنَا فِي شَرَائِعِهِمْ ضِيقٌ عَلَيْهِمْ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمُورَهَا وَسَهَّلَهَا لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ» وَقَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، ولهذا أَرْشَدَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَن يَقُولُواْ: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾ أَيْ عَظَّمُوهُ وَوَقَّرُوهُ، ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ أَيِ الْقُرْآنَ وَالْوَحْيَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُبَلِّغًا إِلَى النَّاسِ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ فِي الدنيا والآخرة.
- ١٥٨ - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ أَيْ جَمِيعُكُمْ، وَهَذَا مِنْ شَرَفِهِ وعظمته ﷺ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى النَّاسِ كافة كما قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾، وقال تعالى: ﴿فإن أسلموا واهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، كَمَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً أَنَّهُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ. قَالَ البخاري في تفسير هذه الآية، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عنه عمر مُغْضَبًا فَأَتْبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدَ غَامَرَ» أَيْ غَاضَبَ وَحَاقَدَ، قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صاحبي؟ إني قلت يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ». وقال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي وَلَا أَقُولُهُ فَخْرًا: بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا». وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النار» (رواه أحمد في المسند ومسلم في صحيحه واللفظ لأحمد). وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبل: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وبعثت إلى الناس عامة» (رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله مرفوعًا). وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ صِفَةُ اللَّهِ تعالى في قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمَلِكُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَلَهُ الْحُكْمُ،
وَقَوْلُهُ: ﴿فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ﴾ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ ﴿النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ﴾ أَيْ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ وَبُشِّرْتُمْ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ مَنْعُوتٌ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ النبي الأمي، وقوله: ﴿الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ﴾ أي يصدق وله عَمَلُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ أَيْ اسْلُكُوا طَرِيقَهُ وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
- ١٥٩ - وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَعْدِلُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِن مِّن أهل الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم به يؤمنون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ به﴾ الآية.
- ١٦٠ - وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ ⦗٥٨⦘ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- ١٦١ - وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
- ١٦٢ - فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا كُلِّهِ في سورة البقرة وهي مدينة وَهَذَا السِّيَاقُ مَكِّيٌّ، وَنَبَّهْنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هذا والسياق وذاك بما أغنى عن إعادته هنا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
- ١٦٣ - وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
هَذَا السِّيَاقُ هُوَ بَسْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السبت﴾ الآية، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، ﴿وَاسْأَلْهُمْ﴾ أَيْ وَاسْأَلْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِكَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَفَاجَأَتْهُمْ نِقْمَتُهُ عَلَى صَنِيعِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ وَاحْتِيَالِهِمْ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَحَذِّرْ هَؤُلَاءِ مِنْ كِتْمَانِ صِفَتِكَ الَّتِي يَجِدُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِإِخْوَانِهِمْ وَسَلَفِهِمْ، وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ (أَيْلَةُ) وهي على شاطىء بحر القلزم، وقال ابن عباس: هِيَ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ بَيْنَ مَدْيَنَ والطور (وهو قول عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي)، وَقِيلَ: هِيَ مَدْيَنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عباس، وَقَوْلُهُ: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ أَيْ يَعْتَدُونَ فِيهِ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ لَهُمْ بِالْوَصَاةِ بِهِ إِذْ ذَاكَ ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء، ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم﴾ أَيْ نَخْتَبِرُهُمْ بِإِظْهَارِ السَّمَكِ لَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لَهُمْ صَيْدُهُ، ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُم﴾ نَخْتَبِرُهُمْ ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ يَقُولُ: بِفِسْقِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَخُرُوجِهِمْ عَنْهَا، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ احْتَالُوا عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِ الله بما تعاطعوا مِنَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا فِي الْبَاطِنِ تعاطي الحرام، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: «لا تركبوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الحيل» (قال ابن كثير: إسناده جيد ورجاله مشهورون ثقات).
- ١٦٤ - وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
- ١٦٥ - فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
- ١٦٦ - فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ ارْتَكَبَتِ الْمَحْذُورَ واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك وَاعْتَزَلَتْهُمْ، وَفِرْقَةٌ سَكَتَتْ فَلَمْ تَفْعَلْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَكِنَّهَا قَالَتْ لِلْمُنْكِرَةِ ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ أَيْ لِمَ تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هَلَكُوا، وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِكُمْ إِيَّاهُمْ، قَالَتْ لَهُمُ الْمُنْكِرَةُ ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أَيْ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي لعلهم بهذا الانكار يقون مَا هُمْ فِيهِ وَيَتْرُكُونَهُ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ تَائِبِينَ، فَإِذَا تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي فلما أبى الفاعلون قَبُولَ النَّصِيحَةِ ﴿أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾، أَيْ ارْتَكَبُوا الْمَعْصِيَةَ ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾، فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمينن وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَدْحًا فَيُمْدَحُوا وَلَا ارْتَكَبُوا عَظِيمًا فَيُذَمُّوا، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيهِمْ: هَلْ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ أَوْ من الناجين؟ على قولين، وقال ابن عباس في الآية: هي قرية على شاطىء الْبَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا أَيْلَةُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، وَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنْ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ، وَقَالُوا تَأْخُذُونَهَا وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ سَبْتِكُمْ؟ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا وَعُتُوًّا، وَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى تَنْهَاهُمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ العذاب ﴿لم تعظون قوما الله مُهْلِكُهُمْ﴾؟ وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا لِلَّهِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَقَالُوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قومًا مهلكهم الله وَالَّذِينَ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً.
عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: ﴿لم تعظون قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمْ أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلة. وقال عبد الرزاق عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمًا وَهُوَ يَبْكِي، وَإِذَا الْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ، فَأَعْظَمْتُ أن أدنو منه، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَقَدَّمْتُ فجلست، فقلت ما يبكيك يا ابن عَبَّاسٍ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْوَرَقَاتِ قَالَ: وَإِذَا هُوَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، قَالَ: تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ كان بها حي من اليهود سِيقَتِ الْحِيتَانُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ ثُمَّ غَاصَتْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَغُوصُوا بَعْدَ كَدٍّ ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعًا بيضاء سمانًا، فَكَانُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ إِنِ الشَّيْطَانَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَخُذُوهَا فِيهِ وَكُلُوهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَالَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وقالت طائفة: بل نهيتهم عَنْ أَكْلِهَا وَأَخْذِهَا وَصَيْدِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَتِ الْجُمُعَةُ الْمُقْبِلَةُ فَغَدَتْ طَائِفَةٌ بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمينن وَتَنَحَّتْ، وَاعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ ذَاتَ الْيَسَارِ وَسَكَتَتْ، وَقَالَ الأيمنون: ويلكم، نَنْهَاكُمْ أَنْ تَتَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَقَالَ الْأَيْسَرُونَ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾؟ قَالَ الْأَيْمَنُونَ: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي ينتهون، أن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يُصَابُوا وَلَا يَهْلِكُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا فَمَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، فَمَضَوْا عَلَى الْخَطِيئَةِ، وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ فقد فعلتم يا أعداء الله، والله لنأتينكم الأيلة فِي مَدِينَتِكُمْ، وَاللَّهِ مَا نَرَاكُمْ تُصْبِحُونَ حَتَّى يصبحكم الله
بِخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعَذَابِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ونادوا فلم يجيبوا، فَوَضَعُوا سُلَّمًا وَأَعْلَوْا سُورَ الْمَدِينَةِ رَجُلًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ قِرَدَةٌ وَاللَّهِ تعاوى تُعَاوِي، لَهَا أَذْنَابٌ، قَالَ: فَفَتَحُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقُرُودُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا تَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْقِرَدَةِ فَجَعَلَتِ الْقُرُودُ يَأْتِيهَا نسبيها من الإنس، فتشم ثيابه، وتبكي، فيقول: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ كَذَا؟ فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا: أَيْ نَعَمْ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ قَالَ: فَأَرَى الَّذِينَ نَهَوْا قَدْ نَجَوْا، وَلَا أَرَى الْآخَرِينَ ذُكِرُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا، قَالَ: قُلْتُ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَرِهُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟﴾ قَالَ: فَأَمَرَ لِي فَكُسِيتُ ثَوْبَيْنِ غَلِيظَيْنِ (أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس).
(الْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ السَّاكِتِينَ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ، قال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ابْتَدَعُوا السَّبْتَ، فَابْتُلُوا فِيهِ، فَحَرُمَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْحِيتَانُ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ شَرَعَتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا انْقَضَى السَّبْتُ ذَهَبَتْ فَلَمْ تُرَ حَتَّى السَّبْتِ الْمُقْبِلِ، فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ جَاءَتْ شُرَّعًا فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا منهم أخذ حوتًا فحزم أَنْفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ وَتَدًا فِي السَّاحِلِ وَرَبَطَهُ وَتَرَكَهُ فِي الْمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهو يَنْظُرُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ وَلَا يَنْهَاهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا عُصْبَةٌ مِنْهُمْ نَهَوْهُ، حَتَّى ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ فَفُعِلَ عَلَانِيَةً، قَالَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لِلَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ فقالوا: نسخط أَعْمَالَهُمْ ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ - إِلَى قَوْلِهِ - قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَثْلَاثًا، ثُلْثٌ نَهَوْا، وَثُلْثٌ قَالُوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾، وَثُلْثٌ أَصْحَابُ الْخَطِيئَةِ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سائرهم (قال ابن كثير: هذا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنْ رُجُوعَهُ إِلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فِي نَجَاةِ السَّاكِتِينَ أَوْلَى القول بهذا)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ فِيهِ دَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ بَقُوا نجوا، و﴿بَئِيسٍ﴾ معناه فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ الشَّدِيدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَلِيمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُوجِعٌ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وقوله: ﴿خَاسِئِينَ﴾ أي ذليلن حقيرين مهانين.
- ١٦٧ - وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
﴿تَأَذَّنَ﴾ تفعَّل من الأذام أي أعلم، قاله مجاهد، وَفِي قُوَّةِ الْكَلَامِ مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْقَسَمِ من هذه اللفظة، ولهذا أتبعت بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ عَلَى الْيَهُودِ، ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَاحْتِيَالِهِمْ عَلَى الْمَحَارِمِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُوسَى عليه السلام ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ سَبْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الْخَرَاجَ، ثُمَّ كَانُوا فِي قَهْرِ الْمُلُوكِ من اليونانيين والكشدانيين
والكلدانيين،
ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمُحَمَّدٌ ﷺ، فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم، وعنه: هي الجزية، والذي يسومهم سوء العذاب محمد ﷺ وَأُمَّتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ جريج والسدي وقتادة). ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارًا للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن
مَرْيَمَ عليه السلام، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ. وَقَوْلُهُ ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ أَيْ لِمَنْ عَصَاهُ وخالف شَرْعَهُ، ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَرْنِ الرَّحْمَةِ مع العقوبة لئلا يحصل اليأس، فيقرن تعالى بين الترعيب وَالتَّرْهِيبِ كَثِيرًا لِتُبْقَى النُّفُوسُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ.
- ١٦٨ - وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- ١٦٩ - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
- ١٧٠ - وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ أممًا أي طوائف وفرقًا، ﴿مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾ أَيْ فِيهِمُ الصالح وغير ذلك، كقول الْجِنُّ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾، ﴿بَلَوْنَاهُمْ﴾ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ ﴿بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ أَيْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى﴾ الآية، يَقُولُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ الْجِيلِ الَّذِينَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ خَلْفٌ آخَرُ لَا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة الْكِتَابِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ أَيْ يَعْتَاضُونَ عَنْ بَذْلِ الْحَقِّ وَنَشْرِهِ بِعَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيُسَوِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَعِدُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَكُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقَعُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾. قال مجاهد: لَا يُشْرُفُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ، ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾. وقال السدي: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ خِيَارَهُمُ اجْتَمَعُوا فَأَخَذَ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا اسْتَقْضَى ارْتَشَى فَيُقَالُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تَرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؟ فَيَقُولُ: سَيَغْفِرُ لِي، فَتَطْعَنُ عَلَيْهِ الْبَقِيَّةُ الْآخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا صَنَعَ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ نَزَعَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ فَيَرْتَشِي، يَقُولُ: وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضُ الدُّنْيَا يَأْخُذُوهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إلا الحق﴾ الآية،
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا مَعَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَيُبَيِّنُنَّ الحق للناس ولا يكتمونه، كقوله: ﴿وإذا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تكتمونه﴾ الآية،
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ على الله إلا الحق﴾ قال: فيما يتمنون عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ فِيهَا وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تعقلون﴾ يرعبهم فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِهِ، أَيْ وَثَوَابِي وَمَا عِنْدِي خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى الْمَحَارِمَ، وَتَرَكَ هَوَى نَفْسِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾؟ يَقُولُ أَفَلَيِسَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَاضُوا بِعَرَضِ الدُّنْيَا عَمَّا عِنْدِي عَقْلٌ يَرْدَعُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، ثُمَّ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِكِتَابِهِ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ أَيْ اعْتَصَمُوا بِهِ وَاقْتَدَوْا بِأَوَامِرِهِ، وَتَرَكُوا زَوَاجِرَهُ ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾.
- ١٧١ - وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال ابن عباس ﴿نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ يَقُولُ: رَفَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور﴾ بميثاقهم، رفعته الملائكة فوق رؤوسهم، ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، وأمرهم بالذي أمر الله أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أن يقروا بها حتى نتق الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ قَالَ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فوق رؤوسهم (رواه النسائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ). وقال أبو بكر بن عبد الله قيل: هَذَا كِتَابٌ أَتَقْبَلُونَهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قَالُوا: انْشُرْ عَلَيْنَا مَا فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فرائضها وحدودها يسيرة قَبِلْنَاهَا، قَالَ: اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا، قَالُوا: لَا، حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا كَيْفَ حُدُودُهَا وَفَرَائِضُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَانْقَلَعَ فَارْتَفَعَ فِي السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وَبَيْنَ السَّمَاءِ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلَا تَرَوْنَ مَا يَقُولُ رَبِّي عز وجل؟ لَئِنْ لَمْ تَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ بِمَا فِيهَا لَأَرْمِيَنَّكُمْ بِهَذَا الْجَبَلِ، قَالَ فَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: لَمَّا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ سَاجِدًا عَلَى جاجبه الْأَيْسَرِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْجَبَلِ فَرقًا مِنْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ الْيَوْمَ في الأرض يهودي يسجد إلا على جاجبه الْأَيْسَرِ، يَقُولُونَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ بِهَا الْعُقُوبَةُ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمَّا نَشَرَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ كَتَبَهُ بِيَدِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ الْيَوْمَ يَهُودِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تُقْرَأُ عَلَيْهِ التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه: أي حوّل، كما قال تعالى: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ﴾ (أخرجه سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله) والله أعلم.
- ١٧٢ - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ
أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ
- ١٧٣ - أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
- ١٧٤ - وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يُرْجَعُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ، مِنْ أَصْلَابِهِمْ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى فَطَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وجبلهم عليه، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لخلق الله﴾،
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ». وقال ابن جرير عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذرية بعدما قَتَلُوا الْمُقَاتَلَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ما بال أقوام يتناولون الذرية»؟ فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، أَلَا إِنَّهَا ليست نسمة ولد تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وينصرانها»، قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (رواه ابن جرير وأخرجه أحمد والنسائي) الآية. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عليه السلام وَتَمْيِيزِهِمْ إِلَى أَصْحَابِ اليمين وأصحاب الشِّمَالِ، وَفِي بَعْضِهَا الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ ربهم، قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عليك في ظهر آدم أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَن تُشْرِكَ بِي» (رواه أحمد والشيخان).
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ: بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا - إلى قوله - المبطلون﴾ (رواه أحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك).
عن أبي مسعود عن جرير قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم ابْنُ سِتَّةِ أَيَّامٍ، قَالَ فَقَالَ: يَا جَابِرُ إِذَا أَنْتَ وَضَعْتَ ابْنِي فِي لَحْدِهِ فَأَبْرِزْ وَجْهَهُ وَحُلَّ عَنْهُ عُقَدَهُ، فَإِنَّ ابْنِي مُجْلَسٌ وَمَسْئُولٌ، فَفَعَلْتُ بِهِ الَّذِي أَمَرَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قلت: يرحمك الله عم يسأل ... مَنْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: يُسْأَلُ عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ، قُلْتُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: وَمَا هَذَا الْمِيثَاقُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي صُلْبِ آدَمَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي ابن عباس: أَنَّ اللَّهَ مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَلَقَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالْأَرْزَاقِ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ، فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ من أعطى الميثاق يؤمئذ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الْمِيثَاقَ الْآخِرَ فلم يقرَّ بِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخَرَ مَاتَ على الميثاق الأول على الفطرة.
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بين آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ الْآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ:»إِنِ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعمال أهل النار فيدخله به النار» (رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن).
(حَدِيثٌ آخَرُ): قَالَ التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بين عينيه، قال: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ: ستين سنة، قال: أي رب قد وهبت له مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ: أَوْ لَمْ يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ قال: فحجد آدَمُ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وخطئ آدم فخطئت ذريته» (رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح). (حديث آخر): عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ فقال: يا رسول الله أتبدأ بالأعمال أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ أَشْهَدُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونُ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ» (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عن هشام بن حكيم).
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَمَا هُوَ إِلَّا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ، وقد فسر الحسن الْآيَةَ بِذَلِكَ، قَالُوا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ﴾ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ، ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ وَلَمْ يُقَلْ مِنْ ظَهْرِهِ، ﴿ذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أَيْ جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وقرنًا بعد قرن، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض﴾، وقال: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض﴾، وقال: ﴿كم أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قوم آخرين﴾،
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾، أَيْ أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حَالًا وَقَالَا، وَالشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْقَوْلِ، كقوله: ﴿قَالُواْ شَهِدْنَا
على أنفسنا﴾ الآية، وتارة تكون حالًا، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكفر﴾، أَيْ حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لشهيد﴾، كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَالِ وَتَارَةً يكون بالحال، كقوله: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾. قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هذا أن جعل الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قد وقع هذا كما قال مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ لِيُكُونَ حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسول ﷺ بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ، وَهَذَا جَعَلَ حُجَّةً مستقلة عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ أي لئلا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا﴾ أي التَّوْحِيدِ ﴿غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا﴾ الآية.
- ١٧٥ - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
- ١٧٦ - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
- ١٧٧ - سَآءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ بلعم بن باعوراء (ذكره عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ وقال قتادة عن ابن عباس: هو (صيفي بن الراهب)، وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَلْقَاءِ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَكْبَرَ، وَكَانَ مُقِيمًا بِبَيْتِ المقدس مع الجبارين، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، يُقَالُ لَهُ (بَلْعَمُ) آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ، بَعَثَهُ نبي الله موسى عليه السلام إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فَأَقْطَعُهُ وَأَعْطَاهُ، فَتَبِعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى عليه السلام. وقال سفيان بن عيينه عن ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، وقال ثقيف: هو أمية بن الصلت، وقال عبد الله بن عمرو فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آياتنا﴾ الآية، قَالَ: هُوَ صَاحِبُكُمْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ؛ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ يُشْبِهُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ إِلَيْهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ. فَإِنَّهُ أَدْرَكَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَلَغَتْهُ أَعْلَامُهُ وَآيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ وَظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ، وَمَعَ هَذَا اجْتَمَعَ بِهِ وَلَمْ يَتْبَعْهُ، وَصَارَ إِلَى مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاصَرَتِهِمْ وَامْتِدَاحِهِمْ، وَرَثَى أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَرْثَاةٍ بَلِيغَةٍ قبحه الله. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مِمَّنْ آمَنَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ، فَإِنَّ لَهُ أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً وَحِكَمًا وَفَصَاحَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَحِ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ.
والمشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إنما هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ ابْنُ
مسعود وغيره من السلف، وكان يعلم اسم الله الأكبر، وكان مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أعطاه إياه، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: لما نزل موسى بهم يعني الجبارين ومن معه أتاه - يعني بلعم - بَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ فَقَالُوا: إِنَّ مُوسَى رَجُلٌ حَدِيدٌ وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا يُهْلِكْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يردَّ عَنَّا موسى ومن معه، قال: إني دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ذَهَبَتْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ فَسَلَخَهُ اللَّهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ الآية. وقال السدي: لَمَّا انْقَضَّتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً الَّتِي قَالَ اللَّهُ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أربعين سنة﴾، بعث (يوشع ابن نُونٍ) نَبِيًّا فَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ نبي، وأن الله أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ الْجَبَّارِينَ، فَبَايَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ، وَانْطَلَقَ إلى رجل من بني إسرائيل يقال له: (بلعام) فكان عَالَمًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الْمَكْتُومَ، فَكَفَرَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَأَتَى الْجَبَّارِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَرْهَبُوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، وقوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشيطان﴾ أي استحوذ عليه وعلى أَمْرِهِ فَمَهْمَا أَمَرَهُ امْتَثَلَ وَأَطَاعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ الْحَائِرَيْنِ الْبَائِرَيْنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ حديث (حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الْإِسْلَامِ، اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ» قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله أيها أَوْلَى بِالشِّرْكِ الْمَرْمِيُّ أَوِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرامي» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي قال ابن كثير: إسناده جيد).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾، يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ أَيْ لَرَفَعْنَاهُ مِنَ التَّدَنُّسِ عَنْ قَاذُورَاتِ الدُّنْيَا بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ إِيَّاهَا، ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ أَيْ مَالَ إلى زينة الحياة الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَغَرَّتْهُ كَمَا غَرَّتْ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْبَصَائِرِ والنهى.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَالِمٍ عن أَبِي النَّضْرِ: أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا نَزَلَ فِي أَرْضِ بَنِي كَنْعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَتَى قَوْمُ بَلْعَامَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ هَذَا (مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ) فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَدْ جَاءَ يُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا وَيَقْتُلُنَا وَيُحِلُّهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّا قَوْمُكَ، وَلَيْسَ لَنَا مَنْزِلٌ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ، فَاخْرُجْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ: وَيَلْكُمُ نَبِيُّ اللَّهِ معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليه وَأَنَا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ؟ قَالُوا لَهُ: مَا لَنَا مِن مَنْزِلٍ، فَلَمْ يَزَالُوا به يرفقونه وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى فَتَنُوهُ، فَافْتُتِنَ؛ فَرَكِبَ حَمَارَةً لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى عَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وَهُوَ جَبَلُ حُسْبَانَ - فَلَمَّا سَارَ عَلَيْهَا غَيْرَ كَثِيرٍ رَبَضَتْ بِهِ فَنَزَلَ عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قَامَتْ فَرَكِبَهَا، فَلَمْ تَسْرِ بِهِ كَثِيرًا حَتَّى ربضت به فضربها، حتى إذا أزلقها أذن لَهَا فَكَلَّمَتْهُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِتَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ ينزع عنها، فضربها، فَخَلَّى اللَّهُ سَبِيلَهَا، حِينَ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ بِهِ عَلَى رَأْسِ حُسْبَانَ عَلَى عَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ جَعَلَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلَا يَدْعُو عَلَيْهِمْ بَشَرٍّ إِلَّا صَرَفَ اللَّهُ لِسَانَهُ إِلَى قَوْمِهِ، وَلَا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: أَتَدْرِي يَا بَلْعَمُ مَا تَصْنَعُ؟ إِنَّمَا تَدْعُو لَهُمْ وَتَدْعُو عَلَيْنَا، قَالَ: فَهَذَا مَا لَا أَمْلِكُ. هَذَا شَيْءٌ قَدْ غَلَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ فَوَقَعَ عَلَى
صَدْرِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ، فَسَأَمْكُرُ لَكُمْ وَأَحْتَالُ، جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَأَعْطُوهُنَّ السِّلَعَ، ثم أرسولهن إِلَى الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا فِيهِ، وَمُرُوهُنَّ فَلَا تَمْنَعُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَرَادَهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ زنى رجل واحد منهم كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا دَخَلَ النِّسَاءُ الْعَسْكَرَ مَرَّتِ امرأة من الكنعانيين بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ (زَمْرَى بن شلوم) رأس سبط شمعون بن يعقوب، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال: إني سأظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها، قال: أجل هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بِهَا قُبَّتَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عز وجل الطَّاعُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ (فِنْحَاصُ) صاحب أمر موسى غَائِبًا حِينَ صَنَعَ زَمْرَى بْنُ شَلُومَ مَا صنع، فجاء الطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته ثُمَّ دَخَلَ الْقُبَّةَ وَهُمَا مُتَضَاجِعَانِ فَانْتَظَمَهُمَا بِحَرْبَتِهِ ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ، وَرُفِعَ الطَّاعُونُ، فَحُسِبَ مَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إسرائيل في الطاعون فيما بين أَصَابَ زَمْرَى الْمَرْأَةَ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ فِنْحَاصُ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ لَهُمْ يَقُولُ عِشْرُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةً مِّنَ النهار، فَفِي بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا - إلى قوله - لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. (رواه محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر وأخرجه ابن جرير بمثله وفيه أن الزنى وقع من عدد من الجند الذين كانوا مع موسى عليه السلام فسلط اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا﴾. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم أبي النضر أن بلعامًا انْدَلَعَ لِسَانُهُ عَلَى صَدْرِهِ فَتَشْبِيهُهُ بِالْكَلْبِ فِي لَهْثِهِ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهِ إِنْ زُجِرَ وَإِنْ ترك ظاهر، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَصَارَ مِثْلَهُ فِي ضَلَالِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ فِيهِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الدعاء،
كالكلب في لهيثه فِي حَالَتَيْهِ إِنْ حَمَلْتَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ تَرِكْتَهُ هُوَ يَلْهَثُ فِي الْحَالَيْنِ، فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَا عَدَمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يؤمنون﴾، ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ وَالضَّالِّ ضَعِيفٌ فَارِغٌ مِنَ الْهُدَى فَهُوَ كَثِيرُ الْوَجِيبِ فعبر عن هذا بهذا (نقل نحو هذا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ﴾ أَيْ لَعَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَالِمِينَ بِحَالِ بَلْعَامَ، وَمَا جَرَى لَهُ فِي إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، فِي غَيْرِ طَاعَةِ رَبِّهِ، بَلْ دَعَا بِهِ عَلَى حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وَشِعْبِ الْإِيمَانِ، أَتْبَاعِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ فَيَحْذَرُوا أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاهُمْ عِلْمًا وَمَيَّزَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَعَلَ بِأَيْدِيهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ يَعْرِفُونَهَا كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، فَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ومناصرته وموازرته كَمَا أَخْبَرَتْهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَتْهُمْ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ مَا فِي كِتَابِهِ وَكَتَمَهُ فَلَمْ يُعْلِمْ بِهِ الْعِبَادَ، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: ﴿ساء مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ يقول تعالى: ساء مثلًا الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أَيْ سَاءَ مَثَلُهُمْ أن شبهوا
بِالْكِلَابِ الَّتِي لَا هِمَّةَ لَهَا إِلَّا فِي تَحْصِيلِ أَكْلَةٍ أَوْ شَهْوَةٍ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَأَقْبَلَ عَلَى شَهْوَةِ نَفْسِهِ، وَاتَّبِعْ هَوَاهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْكَلْبِ وَبِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُهُ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ منا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ في قيئه» (هو في الصحيحين من حديث ابن عباس).
قوله: ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ أَيْ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى وَطَاعَةِ الْمَوْلَى، إِلَى الرُّكُونِ إِلَى دَارِ الْبِلَى، وَالْإِقْبَالِ عَلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ وَمُوَافَقَةِ الْهَوَى.
- ١٧٨ - مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: مَّنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَضَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ تعالى ما شاء وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهْدِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» (الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ رَوَاهُ الإمام أحمد وأهل السنن).
- ١٧٩ - وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافلون
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ﴾ أَيْ خَلَقْنَا وَجَعَلْنَا لِجَهَنَّمَ ﴿كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ أَيْ هَيَّأْنَاهُمْ لَهَا وَبِعَمَلِ أَهْلِهَا يَعْمَلُونَ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق عَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ كَوْنِهِمْ، فَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء»، وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: دُعِيَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أهلها وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ». وَفِي الصحيحين من حديث ابن مسعود: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ»، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الله لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَجَعْلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ قَالَ: «هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي»، والأحاديث في هذا كثيرة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ﴾ يَعْنِي لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله﴾ الآية، وقال تعالى:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ هذا في حق المنافقينن وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ ولم يكونوا صمًا ولا بكمًا ولا عُمْيًا إِلَّا عَنِ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصدور﴾، وَقَالَ: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ﴾ أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَ الْهُدَى، كَالْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ الَّتِي لَا تَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الحواس منها إلا في الذي يقيتها في ظاهر الحياة الدنيا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً﴾ أَيْ وَمَثَلُهُمْ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَثَلِ الْأَنْعَامِ إِذَا دَعَاهَا رَاعِيهَا لَا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَهُ، وَلَا تَفْقَهُ مَا يَقُولُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ أَيْ من الدواب، لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أنس بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلَامَهُ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ؛ ولأنها لم تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ إِمَّا بِطَبْعِهَا وَإِمَّا بِتَسْخِيرِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيُوَحِّدَهُ فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ، وَلِهَذَا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ كَانَ أَشْرَفَ مَنْ مِثْلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَعَادِهِ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَانَتِ الدَّوَابُّ أَتَمَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
- ١٨٠ - وَللَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وِتْرٌ يحب الوتر» (أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه وزاد الترمذي (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن ..) وذكر أسماء الله الحسنى). ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين،
بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَصَابَ أحداُ قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وابن أَمَتِكِ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أن تجعل القرآن العظيم رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ همي،
إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مَكَانَهُ فَرَحًا». فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: «بَلَى يَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْ سَمِعَهَا أن يتعلمها». وذكر ابن الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ (الْأَحْوَذِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ) أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، فالله أعلم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾، قَالَ: إِلْحَادُ الْمُلْحِدِينَ أَنْ دعوا اللات في أسماء الله، وقال مجاهد: اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، وقال قتادة: يلحدون: يشركون في أسمائه. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ، وَأَصِلُ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ العرب العدول عَنِ الْقَصْدِ، وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِانْحِرَافِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَنْ سمت الحفر.
- ١٨١ - وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
⦗٧٠⦘
يقول تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ﴾ أي بعض الْأُمَمِ ﴿أُمَّةٌ﴾ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ قَوْلًا وَعَمَلًا ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ يَقُولُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ، ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ يَعْمَلُونَ وَيَقْضُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُرَادَ في الآية هذه الأمة المحمدية، قال قتادة: بلغني أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "هَذِهِ لَكُمْ، وَقَدْ أُعْطِي الْقَوْمُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا، ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى ينزل عيسى بن مَرْيَمَ مَتَّى مَا نَزَلَ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الّه ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ».
- ١٨٢ - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
- ١٨٣ - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لا يعلمون﴾ ومعناه أن يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مبلسون﴾، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أَيْ وَسَأُمْلِي لهم أي أُطَوِّلُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي قوي سديد.
- ١٨٤ - أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا ﷺ ﴿مِّن جِنَّةٍ﴾ أَيْ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ بَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا، دَعَا إِلَى حَقٍّ ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ ظَاهِرٌ لِمَن كَانَ لَهُ لب وقلب يَعْقِلُ بِهِ وَيَعِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديد﴾، يقول ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ﴾ فِي هَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِالرِّسَالَةِ من الله أبه حنون أم لا، فإنكم إن فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بَانَ لَكُمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ رَسُولُ الله حقًا وصدقًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا، فَجَعَلَ يُفَخِّذُهُمْ فَخِذًا فَخِذًا، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٍ، بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ أَوْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
- ١٨٥ - أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى: أَوَلَمْ ينظر هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ في السموات والأرض، وفيما خلق مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، فيؤمنوا بالله وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَبِأَيِّ ⦗٧١⦘ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ يَقُولُ: فَبِأَيِّ تخويفٍ وتحذيرٍ وَتَرْهِيبٍ بَعْدَ تَحْذِيرِ محمد ﷺ وَتَرْهِيبِهِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُصَدِّقُونَ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عز وجل؟
- ١٨٦ - مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِيمَا نَظَرَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزَى عَنْهُ شَيْئًا ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شيئا﴾، وكما قال تعالى: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾.
- ١٨٧ - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَقِيلَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾، وقوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾. قال ابن عباس: منهاها أَيْ مَتَى مَحَّطُهَا، وَأَيَّانَ آخَرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ﴾، أمر تعالى رسول ﷺ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تعالى، فإنه هو الذي يظهر أمرها، ومتى يكون على التحديد، لا يعلم ذلك إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض﴾. قال قتادة: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا جَاءَتْ ثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ، يَقُولُ كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثَقُلَتْ فِي السموات وَالْأَرْضِ﴾ قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَقَالَ ابْنُ جريج: إذا جاء انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الجبال، وكان ما قال اللَّهُ عز وجل، فَذَلِكَ ثِقْلُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ الْمُرَادَ: ثَقُلَ عِلْمُ وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾، وَلَا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض والله أعلم، وقال السدي: خفيت في السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا حِينَ تَقُومُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ، وَالرَّجُلُ يَصْلِحُ حَوْضَهُ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ، ويخفض ميزانه ويرفعه». وقال الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طلعت ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطونانه، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ اخْتَلَفَ المفسرون في معناه، فقيل: معناه كَأَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ، قال ابن عباس: لما سأل الناس النبي ﷺ عَنِ السَّاعَةِ سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يُرُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ استأثر به فَلَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا رَسُولًا، وَقَالَ قَتَادَةُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً فأسرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾، والصحيح عن مجاهد قَالَ: اسْتَحْفَيْتَ عَنْهَا السُّؤَالَ حَتَّى عَلِمْتَ وَقْتَهَا، وكذا قال الضحّاك عن ابن عباس: كأنك عالم بها لست تعلمها، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾: كأنك بها عالم وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَلِمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَقَرَأَ: ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ الآية؛ وهذا القول أرجح في المقام مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، ولهذا جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ ليعلم النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَجَلَسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَجْلِسَ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ، وسأله ﷺ عن الإسلام، ثم عن الأديان، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» أَيْ لَسْتُ أَعْلَمَ بِهَا مِنْكَ وَلَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِهَا مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلَهُ عَنْ أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة، ثم قال: «في حمس لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ»، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينِكُمْ» (قال ابن كثير: قد ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ مِنَ الصِّحَاحِ والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري)، وَلَمَّا سَأَلَهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَنَادَاهُ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هاؤم» عَلَى نحوٍ مِنْ صَوْتِهِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَيْحَكَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا»؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ ولاصيام، وَلَكِنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وقال الإمام أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: «عِلْمُهَا عند ربي عز وجل لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ، وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ بمشارطها وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا: إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجًا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفِتْنَةُ قد عرفناها، فما الهرج، قَالَ: «بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ»، قَالَ: «وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا». وقال وكيع عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ مِنْ شَأْنِ السَّاعَةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ الآية، وهذا إسناد قَوِيٌّ، فَهَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ، الَّذِي تُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما:
«بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين إصبيعيه السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ أمره أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ وَقْتِ السَّاعَةِ إِلَيْهِ إِذَا سئل عنها، فقال: ﴿قُلْ إِن عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يعلمون﴾.
- ١٨٨ - قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الغيب المستقبل وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير﴾، قال مجاهد: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَعَمِلْتُ عَمَلًا صالحًا. وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابن عباس ﴿لو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ أَيْ مِنَ الْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ، فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إلا ربحت فيه، وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الْغَلَاءَ مِنَ الرُّخْصِ، فَاسْتَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الرُّخْصِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ من الشر أن يكون واتقيته، ثم أخبر أنه هُوَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، أَيْ نَذِيرٌ مِنَ الْعَذَابِ وَبَشِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لدا﴾.
- ١٨٩ - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
- ١٩٠ - فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حَوَّاءَ، ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زوجها﴾ الآية، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ ليألفها ويسكن بها، كقوله تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فلا ألفة أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ السَّاحِرَ رُبَّمَا تَوَصَّلَ بِكَيْدِهِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ أَيْ وَطِئَهَا ﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾ وذلك أول الحمل فلا تَجِدُ الْمَرْأَةُ لَهُ أَلَمًا إِنَّمَا هِيَ النُّطْفَةُ ثُمَّ الْعَلَقَةُ ثُمَّ الْمُضْغَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾، قال مجاهد: استمرت بحمله، وَقَالَ أَيُّوبُ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ قَالَ: لَوْ كُنْتَ رَجُلًا عَرَبِيًّا لَعَرَفْتَ مَا هِيَ، إِنَّمَا هِيَ: فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ، وَقَالَ قتادة ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾: استبان حملها، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَمَرَّتْ بِهِ فَشَكَّتْ أَحَمَلَتْ أَمْ لَا، ﴿فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ﴾ أَيْ صَارَتْ ذَاتَ ثِقَلٍ بِحَمْلِهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَبِرَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، ﴿دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ أَيْ بَشَرًا سَوِيًّا،
كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشْفَقَا أن يكون بهيمة. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَئِنْ آتَيْتِنَا غُلَامًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. ذكر المفسرون ههنا آثارًا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها.
قال الإمام أحمد في مسنده عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لما وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ (عَبْدَ الْحَارِثِ) فَإِنَّهُ يَعِيشُ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذلك من وحي الشيطان وأمره» (رواه أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: وهذا الحديث معلول وقد رجّح رحمه الله كونه موقوفًا على الصحابي وبيّن أنه غير مرفوع وضعّف ما ورد من آثار). قال ابن جرير عَنِ الْحَسَنِ ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا﴾ قَالَ: كَانَ هَذَا فِي بَعْضِ أَهْلِ الْمِلَلِ ولم يكن بآدم، وعن قَتَادَةَ قَالَ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَزَقَهُمُ اللَّهُ أَوْلَادًا فَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا، وَهَذِهِ أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ، وَأَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمَا عَدَلَ عنه هو ولا غيره، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابين وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لِآدَمَ عليه السلام أولادًا فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إنكما لو سميتماه بِغَيْرِ الَّذِي تُسَمِّيَانِهِ بِهِ لَعَاشَ، قَالَ فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلًا فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَفِيهِ أَنْزَلَ الله يقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ - إِلَى قَوْلِهِ - جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا﴾ إِلَى آخر الآية، وعنه قال: أتاهما الشَّيْطَانُ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا يُولَدُ لَكُمَا! أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَمَاتَا، فَقَالَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ: إِنَّكُمَا إِنْ لَمْ تُسَمِّيَاهُ بِي لَمْ يَخْرُجْ سَوِيًّا وَمَاتَ، كَمَا مَاتَ الأول، فَسَمَّيَا وَلَدَهُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا﴾ الآية. وروى ابن أبي حاتم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا: أَتُطِيعِينِي وَيَسْلَمُ لَكِ وَلَدُكِ؟ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَلَدَتْ فَمَاتَ، ثُمَّ حَمَلَتْ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذلك فلم تفعل، ثم حملت الثالثة فَجَاءَهَا فَقَالَ: إِنْ تُطِيعِينِي يَسْلَمْ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يكون بهيمة فهيبها فَأَطَاعَا، وَهَذِهِ الْآثَارُ يَظْهَرُ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أنها من آثار أهل الكتاب، وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله في هذا، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ (آدَمُ وَحَوَّاءُ) وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذريته، ولهذا قال الله: ﴿فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فذكر آدم وحواء أولًا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس كقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ﴾ الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم.
- ١٩١ - أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
- ١٩٢ - وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
- ١٩٣ - وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
- ١٩٤ - إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- ١٩٥ - أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ
- ١٩٦ - إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
- ١٩٧ - وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
- ١٩٨ - وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ، لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تبصر وَلَا تَنْتَصِرُ لِعَابِدِيهَا، بَلْ هِيَ جَمَادٌ لَا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر عابدوها أَكَمُلُ مِنْهَا بِسَمْعِهِمْ وَبَصَرِهِمْ وَبَطْشِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أَيْ أَتُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مَا لَا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يستنفذوه مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو سلبتهم الذُّبَابَةُ شَيْئًا مِنْ حَقِيرِ الْمَطَاعِمِ وَطَارَتْ لَمَا استطاعوا إنقاذه مِنْهَا، فَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَحَالُهُ كَيْفَ يُعْبَدُ لِيَرْزُقَ وَيُسْتَنْصَرُ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يخلقون﴾ أي بل هم مخلقون مصنوعون كما قال الخليل: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ الآية، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾ أَيْ لِعَابِدِيهِمْ ﴿وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ يَعْنِي وَلَا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما قال الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام يَكْسِرُ أَصْنَامَ قَوْمِهِ وَيُهِينُهَا غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ في قوله: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا باليمين﴾، وقال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جذادا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾، وَكَمَا كَانَ (مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ) و(معاذ بْنُ جَبَلٍ) رضي الله عنهما، وَكَانَا شَابَّيْنِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَكَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيُتْلِفَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حطبًا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ليرتأوا لأنفسهمن فَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قومه، صَنَمٌ يَعْبُدُهُ وَيُطَيِّبُهُ، فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعَذِرَةِ، فَيَجِيءُ (عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ) فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ، فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصَرَ، ثُمَّ يَعُودَانِ لِمِثْلِ ذَلِكَ وَيَعُودُ إِلَى صَنِيعِهِ أيضًا، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ فِي حَبْلٍ فِي بِئْرٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا جَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَرَأَى ذَلِكَ نَظَرَ، فَعَلِمَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ بَاطِلٌ وَقَالَ:
تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ * لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ
ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ الآية، يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهَا، وَسَوَاءٌ لَدَيْهَا مَنْ دَعَاهَا وَمَنْ دَحَاهَا كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عنك شيئًا﴾، ثم ذكر
تَعَالَى أَنَّهَا عَبِيدٌ مِثْلَ عَابِدِيهَا أَيْ مَخْلُوقَاتٌ مثلهم، بل الأناس أَكْمَلُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَبْطِشُ، وَتِلْكَ لا تفعل شيئًا من ذلك.
وقوله تعالى: ﴿قل ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾ الآية، أَيِ اسْتَنْصِرُوا بِهَا عليَّ فَلَا تُؤَخِّرُونِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَاجْهَدُوا جُهْدَكُمْ، ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ أَيِ اللَّهُ حسبي وكافيني وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ، وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي، وَهَذَا كَمَا قَالَ هُودٌ عليه السلام: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صراط مستقيم﴾، وكقول الخليل: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين﴾ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ﴿إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الخطاب وذاك بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دعاءكم﴾ الآية، وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾، إِنَّمَا قَالَ: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ وَهِيَ جَمَادٌ، وَلِهَذَا عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كالإنسان وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يعقل، وقال السدي: المراد بهذا المشركون، والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.
- ١٩٩ - خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
- ٢٠٠ - وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قال ابن عباس ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ يَعْنِي خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا وَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الصَّدَقَاتُ، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنفق الفضل، وقال عبد الرحمن بن أسلم: أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا القول ابن جرير، وقال غير واحد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ قَالَ: مِنْ أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا أَنَزَلَ ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ مِنْ أخلاق الناس. وفي رواية عن أبي الزُّبَيْرِ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَاللَّهِ لَآخُذَنَّهُ مِنْهُمْ مَا صَحِبْتُهُمْ، وَهَذَا أَشْهَرُ الأقوال، ويشهد له ما روي عن أبيّ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نبيه محمد ﷺ ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قطعك (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عمن ظلمك».
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَوْلُهُ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ العرف: المعروف (قول البخاري العرف: المعروف نص عليه عروة السدي وقتادة وابن جرير). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ (عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ) فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ (الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ) وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أصحاب مجالس عمر ومشاوراته كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أَخِي لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عمر، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِي يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى همَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ المؤمنين إن الله تعالى قال لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل (أخرجه البخاري في صحيحه).
وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ: أَنَّ (سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) مَرَّ عَلَى عِيرٍ لِأَهْلِ الشَّامِ وَفِيهَا جَرَسٌ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَنْهِيُّ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْكَ، إِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلْجُلُ الْكَبِيرُ، فَأَمَّا مِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَسَكَتَ سَالِمٌ وَقَالَ: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾، وقال ابن جرير: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لِنَبِيِّهِ ﷺ فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ لِخُلُقِهِ بِاحْتِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَا بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ جَهِلَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مَنْ حَقَّ اللَّهِ وَلَا بِالصَّفْحِ عَمَّنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَجَهِلَ وَحْدَانِيَّتَهُ، وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبٌ. وَقَالَ قتادة في الآية: هذه أخلاق أمر الله بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ وَدَلَّهُ عَلَيْهَا. وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى؛ فسكبه فِي بَيْتَيْنِ فِيهِمَا جِنَاسٌ فَقَالَ:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِعُرْفٍ كَمَا * أُمِرْتَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينْ
ولنْ فِي الْكَلَامِ لِكُلِّ الْأَنَامِ * فَمُسْتَحْسَنٌ مِنْ ذَوِي الْجَاهِ لِينْ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّاسُ رَجُلَانِ: فَرَجُلٌ مُحْسِنٌ فَخُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِهِ، وَلَا تُكَلِّفْهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا مَا يُحْرِجُهُ، وَإِمَّا مُسِيءٌ فَمُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ تَمَادَى عَلَى ضَلَالِهِ وَاسْتَعْصَى عَلَيْكَ وَاسْتَمَرَّ فِي جَهْلِهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يصفون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، فَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي الْأَعْرَافِ والمؤمنون وحم السَّجْدَةِ لَا رَابِعَ لَهُنَّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُرْشِدُ فِيهِنَّ إِلَى مُعَامَلَةِ الْعَاصِي مِنَ الْإِنْسِ بِالْمَعْرُوفِ بالتي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُفُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، ثُمَّ يُرْشِدُ تَعَالَى إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجَانِّ، فَإِنَّهُ لَا يَكُفُّهُ عَنْكَ الْإِحْسَانُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَلَاكَكَ وَدَمَارَكَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّهُ عدو مبين لك ولأبيك مِن قَبْلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ وَإِمَّا يُغْضِبَنَّكَ مِنَ الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ يَقُولُ: فَاسْتَجِرْ بِاللَّهِ مِنْ نَزْغِهِ، ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سَمِيعٌ لِجَهْلِ الْجَاهِلِ عَلَيْكَ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ نَزْغِهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ خَلْقِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، عَلِيمٌ بِمَا يُذْهِبُ عَنْكَ نَزْغَ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ خلقه. وقد تقدم
فِي أَوَّلِ الِاسْتِعَاذَةِ حَدِيثُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَسَابَّا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» الحديث. وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْفَسَادُ إِمَّا بِالْغَضَبِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان ينزغ بينهم﴾، والعياذ: الِالْتِجَاءُ وَالِاسْتِنَادُ وَالِاسْتِجَارَةُ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمَّا الْمَلَاذُ ففي طلب الخير، كما قال الحسن بن هانئ:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ * وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ * وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جابره
وقد قدمنا أحاديث في الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ها هنا.
- ٢٠١ - إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ
- ٢٠٢ - وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَرَكُوا مَا عَنْهُ زَجَرَ، أَنَّهُمْ ﴿إِذَا مَسَّهُمْ﴾ أي أصابهم ﴿طَائِفٌ﴾، منهم من فسره بِالْغَضَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ بِالصَّرَعِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْهَمِّ بِالذَّنْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِإِصَابَةِ الذَّنْبِ، وَقَوْلُهُ: ﴿تَذَكَّرُواْ﴾ أَيْ عِقَابَ اللَّهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا وَاسْتَعَاذُوا بِاللَّهِ وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ، ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ أَيْ قَدِ اسْتَقَامُوا وَصَحَوْا مما كانوا فيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَبِهَا طَيْفٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُصْرَعُ، وَأَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فقال: «إن شئت دعوت لك أَنْ يَشْفِيَكَ، وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ»،
فَقَالَتْ: بَلْ أَصْبِرُ وَلِيَ الْجَنَّةُ، وَلَكِنِ ادْعُ الله لي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا فَكَانَتْ لَا تتكشف (رواه ابن مردويه وغير واحد من أهل السنن وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم).
وروي أَنَّ شَابًّا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي الْمَسْجِدِ فَهَوِيَتْهُ امرأة فدعته إلى نفسها، فما زَالَتْ بِهِ حَتَّى كَادَ يَدْخُلُ مَعَهَا الْمَنْزِلَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَعَادَهَا، فَمَاتَ، فَجَاءَ عُمَرُ فَعَزَّى فِيهِ أَبَاهُ، وَكَانَ قَدْ دُفِنَ لَيْلًا فَذَهَبَ فَصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَادَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا فتى ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾، فأجابه الْفَتَى مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ: يَا عُمَرُ قَدْ أعطانيهما (أخرجه الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَمْرِو بْنِ جامع من تاريخه) رَبِّي عز وجل فِي الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يمدونهم﴾ أَيْ وَإِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْإِنْسِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ وَهُمْ أَتْبَاعُهُمْ وَالْمُسْتَمِعُونَ لَهُمُ، الْقَابِلُونَ لِأَوَامِرِهِمْ ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾ أي تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم، الْمَدُّ: الزِّيَادَةُ، يَعْنِي يَزِيدُونَهُمْ فِي الْغَيِّ يَعْنِي الْجَهْلَ وَالسَّفَهَ، ﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ قِيلَ مَعْنَاهُ إن الشياطين تمد الإنس لَا تُقْصِرُ فِي أَعْمَالِهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون ولا الشياطين تمسك عنهم، وقيل: معناه كما رواه العرفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾،
قَالَ: هُمُ الْجِنُّ يُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، يَقُولُ لَا يَسْأَمُونَ، وكذا قال السدي وغيرهن يَعْنِي إِنَّ الشَّيَاطِينَ يَمُدُّونَ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا تَسْأَمُ مِنْ إِمْدَادِهِمْ فِي الشَّرِّ، لِأَنَّ ذلك طبيعة وسجية، ﴿لاَ يُقْصِرُونَ﴾ لَا تَفْتُرُ فِيهِ وَلَا تَبْطُلُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إزعاجًا.
- ٢٠٣ - وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يؤمنون
قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا﴾ يَقُولُ: لَوْلَا تَلَقَّيْتَهَا وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى لولا أحدثتها فأنشأتها، وقال: لولا اقتضيتَّها، قالوا: تخرجها عن نفسك (وهو قول قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عباس ﴿لَوْلاَ اجتبيتها﴾ يقول: تلقيتها من الله تعالى: وَقَالَ الضَّحَّاكُ ﴿لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا﴾ يَقُولُ: لَوْلَا أَخَذْتَهَا أَنْتَ فَجِئْتَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ أَيْ مُعْجِزَةٍ وخارق، كقوله تَعَالَى: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خاضعين﴾، يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ أَلَا تُجْهِدُ نَفْسَكَ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى نَرَاهَا وَنُؤْمِنَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾ أَيْ أَنَا لَا أَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا أَمَرَنِي به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعثت آية قلتها، وَإِنَّ مَنَعَهَا لَمْ أَسْأَلْهُ ابْتِدَاءَ إِيَّاهَا، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ وَأَبْيَنُ الدَّلَالَاتِ وَأَصْدَقُ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَقَالَ: ﴿هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
- ٢٠٤ - وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْصَاتِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ إِعْظَامًا لَهُ وَاحْتِرَامًا، لَا كَمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ﴾ الآية، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا جهر الإمام بالقراءة، كما روي عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قرأ فأنصتوا» (أخرجه مسلم في صحيحه ورواه أهل السنن). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فاستمعوا لَهُ﴾ والآية الأخرى أمروا بالإنصات. قال ابن جرير وقال ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وقال أيضًا عَنْ بَشِيرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى ابْنُ مسعود فسمع ناسًا يقرأون مَعَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَعْقِلُوا: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ كما أمركم الله. وقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ
قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا؟» قَالَ رَجُلٌ: نعم يا رسول الله، قال: «إني ما أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فيما جهر بالقراءة من الصلاة حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (رواه أحمد وأهل السنن). وقال عبد الله بن المبارك: لَا يَقْرَأُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ، تَكْفِيهِمْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يسمعهم صوته، ولكنهم يقرأون فِيمَا لَا يُجْهَرُ بِهِ سِرًّا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ خَلْفَهُ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وهذا مذهب طائفة من العلماء وهو أحد قولي الشافعية، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة، وقال الشافعي فِي الْجَدِيدِ: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ قِرَاءَةٌ أَصْلًا في السرية ولا الجهرية بما وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فقراءته قراءة له» (هذا الحديث رواه أحمد عن جابر مرفوعًا وهو في الموطأ عن جابر موقوفًا قال ابن كثير: وهذا أصح) وهذا أصح، وقد أفرد لها الإمام الْبُخَارِيُّ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَاخْتَارَ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السَّرِيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس في الآية، يعني في الصلاة المفروضة، وعن مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ في غير الصلاة أن يتكلم. وقال ابن المبارك عن ثابت بن عجلان قال: سمعت ابن جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ قَالَ: الْإِنْصَاتُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَفِيمَا يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ: أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة، كما جاء في الأحاديث بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة، وقال الْحَسَنِ: إِذَا جَلَسْتَ إِلَى الْقُرْآنِ فَأَنْصِتْ لَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلَاهَا كَانَتْ لَهُ نورًا يوم القيامة» (رواه الإمام أحمد في المسند).
- ٢٠٥ - وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ
- ٢٠٦ - إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
يَأْمُرُ تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيرًا كَمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾، وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ ههنا بالغدو وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل،
وأما قوله: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ أي اذكر بك في نفسك رغبة ورهبة وَبِالْقَوْلِ لَا جَهْرًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ خفيًا لا يكون نداء وجهرًا بَلِيغًا، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أم بعيد فنناديه؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعان﴾،
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى
أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمًا وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا﴾، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَبُّوهُ وسبوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يَجْهَرَ بِهِ لِئَلَّا يَنَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، ليتخذ بين الجهر والإسرار، والمراد الْحَضُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ مِنَ الْعِبَادِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، لِئَلَّا يَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ،
وَلِهَذَا مَدَحَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بِهِمْ فِي كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا شُرِعَ لنا السجود ههما لَمَّا ذُكِرَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ عز وجل كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الملائكة عند ربها يتمون الصفوف، الأول فالأول، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»: وَهَذِهِ أَوَّلُ سَجْدَةٍ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُشْرَعُ لِتَالِيهَا وَمُسْتَمِعِهَا السُّجُودُ بِالْإِجْمَاعِ.