وهي مدنيّة بإجماعهم (١٤٥١) وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبي ونظرائه. وكان السبب أنّ عبد الله خرج مع النبيّ ﷺ في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر كان قريبا. فلمّا قضى رسول الله ﷺ غزاته، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطّاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاريّ يده فلطم الجهنيّ، فأدماه، فنادى الجهنيّ: يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاريّ: يا آل قريش، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ، فقال وعنده جماعة من المنافقين: والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرّهط من قريش إلّا مثل ما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم. وايم الله: لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه، ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد الله: أنت والله الذّليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله ﷺ، فقال عمر: دعني أضرب عنقه. فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمّد بن مسلمة، أو عبّاد بن بشر فيقتله، فقال:
إذن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عبد الله بن أبيّ، فأتاه، فقال:
أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإنّ زيدا لكذّاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى الله أن يكون قد وهم، فعذره رسول الله ﷺ، وفشت الملامة في الأنصار لزيد، وكذّبوه، وقال له عمّه: ما أردت إلّا أن كذّبك رسول الله ﷺ والمسلمون، ومقتوك!
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر ٨٢١ نقلا عن أهل التفسير، وأصحاب السير. وأخرجه الطبري ٣٤١٧٨ من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر، وعن محمد بن يحيى بن حيان قال: كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله ﷺ أن بني المصطلق يجمعون له ... فذكره مع اختلاف يسير. وأصل الخبر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم. أخرجه البخاري ٤٩٠٠ و٤٩٤ ومسلم ٢٧٧٢ والترمذي ٢٣١٢ و٢٣١٣ والنسائي في «التفسير» ٦١٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٢١ و«الوسيط» ٤/ ٣٠٣- ٣٠٤. أما عجزه فقد أخرجه الطبري ٣٤١٥٩ عن بشير بن مسلم ... فذكره بأحضر منه.
الخلاصة: عامة هذا السياق محفوظ بطرقه وشواهده.
فاستحيا زيد، وجلس في بيته. فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله ﷺ فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول الله ﷺ: «بل تحسن صحبته ما بقي معنا»، وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد، وتكذيب عبد الله، فأرسل رسول الله ﷺ إلى زيد فقرأها عليه، وقال: إنّ الله قد صدّقك. ولمّا أراد عبد الله بن أبيّ أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: ما لك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدا إلّا بإذن رسول الله ﷺ لتعلم اليوم من الأعزّ، ومن الأذلّ. فشكا عبد الله إلى رسول الله ﷺ ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله ﷺ أن خلّ عنه حتى يدخل، فلمّا نزلت السّورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب:
إنه قد نزلت فيك آيات شداد، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فلذلك قوله عز وجل: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقيل: إنّ الذي قال له هذا عبادة بن الصّامت.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المنافقون (٦٣): الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)
قوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ يعني: عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وهاهنا تم الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال عز وجل: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا «١» . قال الفراء: إنما كذب ضميرهم.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد ذكرناه في المجادلة «٢» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: «أشهد» يمين. لأنهم قالوا: «نشهد» فجعله يمينا بقوله عز وجل: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أَشْهَدُ، وأُقْسِمُ، وأَعْزِمُ، وأَحْلِفُ، كُلُّها أَيْمان. وقال الشافعي: «أُقسم» ليس بيمين. وإنما قوله: «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين.
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ٢٥٦: الشهادة تكون بالقلب، وتكون باللسان، وتكون بالجوارح، فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم، والعلم على رأي آخرين، والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم. وأما شهادة اللسان فبالكلام، وهو الركن الظاهر من أركانها، وعليه تنبني الأحكام، وتترتب الأعذار والاعتصام. قال النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه.
وقال ابن العربي في «الأحكام» ٤/ ٢٥٧: قال بعض الشافعية: إن قول الشافعي: إن الرجل إذا قال في يمينه- أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين، ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها. وقد قال مالك، إذا قال الرجل: أشهد: إنه يمين إذا أراد بالله.
(٢) المجادلة: ١٦.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك الكذب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا باللسان ثُمَّ كَفَرُوا في السِّرِّ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ الإِيمان والقرآن وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني: أن لهم أجسامًا ومناظر.
(١٤٥٢) قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبَيّ جسيمًا فصيحًا، ذَلْقَ «١» اللسان، فإذا قال، سمع النبيّ ﷺ قوله. وقال غيره: المعنى: يصغي إلى قولهم، فيحسب أنه حق كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: وحمزة: «خُشُبٌ» بضم الخاء، والشين جميعًا، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة، وثمر. وقرأ الكسائيّ: خشب بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بَدَنَةٍ، وبُدْنٍ، وأَكَمَةٍ، وأُكْمِ. وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله. وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين:
«خَشَبٌ» بفتح الخاء، والشين جميعًا. وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكّل، وأبو عمران خشب بفتح الخاء، وإسكان الشين، فوصفهم الله بحسن الصّور، وإبانة النّطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب. والمُسَنَّدة: الممالة إلى الجدار. والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل هي خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال عز وجل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي: لا يسمعون صوتًا إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في وصفهم بالجبن. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَلَوْ أَنَّها عُصْفُورَةٌ لحَسِبْتَها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبيْدًا وَأَزْنَما «٢»
أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلًا تدعو هاتين القبيلتين.
قوله عز وجل: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم: ولا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مفسر في براءة «٣» .
[سورة المنافقون (٦٣): الآيات ٥ الى ٨]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)
قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ قد بيَّنَّا سببه في نزول السورة «٤» لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: «لَوَوْا» بالتخفيف. واختار أبو عبيد التشديد.
هو بعض حديث، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٦/ ٣٣٦ عن ابن عباس بنحوه. ولم أقف على إسناده، لكن لا ريب أن ابن سلول هو أحد المرادين بهذه الآية.
_________
(١) ذلق اللسان: طلق اللسان.
(٢) البيت للعوام بن شوذب الشيباني وهو في «معجم الشعراء» ٣٠٠ و«اللسان» - زنم- وأزنم: بطن من بني يربوع.
(٣) التوبة: ٣٠.
(٤) انظر الحديث المتقدم ١٤٥١.
وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرَّة بعد مرَّة. قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أُبَيٍّ: تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، وقال: ماذا قلتَ؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفراء:
حَرَّكوها استهزاءً بالنبي وبدعائه.
قوله عز وجل: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي: يعرضون عن الاستغفار. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي:
متكبِّرون عن ذلك. ثم ذكر أنّ استغفاره لهم لا ينفعهم، ب قوله عز وجل: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وقرأ أبو جعفر: «آستغفرت» بالمدّ.
قوله عز وجل: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قد بيَّنَّا أنه قول ابن أُبَيٍّ.
ويَنْفَضُّوا بمعنى: يتفرَّقوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات. والمعنى: أنه هو الرَّزَّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا أي من هذه الغزوة. وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبَيّ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعني: نفسه، وعنى ب الْأَذَلَّ رسول الله ﷺ. وقرأ الحسن: «لنُخرِجنَّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزَّ» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناءً على جواز تعريف الحال. أو زيادة «أل» فيه أو بتقدير «مثل» المعنى: لنخرجنَّه ذليلًا على أيِّ حال ذلّ. والكل نصبوا «الأذلّ» فردّ الله عز وجل عليه فقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وهي:
المَنَعة والقوّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بإعزاز الله ونصره إياهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك.
[سورة المنافقون (٦٣): الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
قوله عز وجل: لا تُلْهِكُمْ أي: لا تشغلكم.
في المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال: أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك. والرابع: أنه على إطلاقه. قال الزجاج: حضَّهم بهذا على إدامة الذكر.
قوله عز وجل: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ في هذه النفقة ثلاثة أقوال «١»: أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحجّ، ونحو ذلك، وهذا
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٥٩: أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل. وهو الصحيح. لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل. وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما، وأما القول في الحج على الفور ففيه إشكال، لأنا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء، لا تخرّج الآية عليه.
- وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح، لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.
المعنى مروي عن الضحاك. والثالث: أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي. فعلى هذا يكون الأمر ندبًا، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب.
قوله عز وجل: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميّت.
قوله عز وجل: لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي: هلاَّ أخرتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدَّق ويزكّي، وهو قوله عز وجل: فَأَصَّدَّقَ قال أبو عبيدة: «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول: مَنْ عندك فآتيَك. هلاَّ فعلت كذا فأفعَل كذا، ثم تبعتْها وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بغير واو. وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط. كما يكتب أبو جاد، أبجد، هجاءً، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكونَ» بالواو، ونصب النون. والباقون يقرءون «وأكن» بغير واو. قال الزجاج: من قرأ «وأكونَ» فهو على لفظ فأصَّدَّقَ. ومن جزم «أكنْ» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصَّدَّق» أي: أُزكي مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: أَحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله عز وجل: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ والمعنى: بما تعملون، وقرأ أبو بكر عن عاصم يعملون بالياء والباقون بالتاء، من التكذيب بالصدقة.
قال مقاتل: يعني: المنافقين. وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، قد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية.
.jpg)