recent
آخر المقالات

سورة الشعراء

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْهَا مَدَنِيٌّ، الْآيَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الشُّعَرَاءُ، وَقَوْلُهُ:«أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ قَوْلِهِ:«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» إِلَى آخِرِهَا. وَهِيَ مِائَتَانِ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: سِتٌّ وَعِشْرُونَ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ وَأُعْطِيتُ طه وطسم مِنْ أَلْوَاحِ مُوسَى وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً». وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ وَأَعْطَانِي الْمُبِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَأَعْطَانِي الطَّوَاسِينَ مَكَانَ الزَّبُورِ وَفَضَّلَنِي بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي».



[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (طسم) قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِإِمَالَةِ الطَّاءِ مُشْبَعًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي أُخْتَيْهَا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشْبَعًا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهِيَ كُلُّهَا لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ. وَقَدْ مَضَى فِي«طه» «١» قَوْلُ النَّحَّاسِ فِي هَذَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ:«طسم» بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْمِيمِ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ بِإِخْفَاءِ النُّونِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَحَمْزَةُ:«طسين ميم» بِإِظْهَارِ النُّونِ. قَالَ النَّحَّاسُ: النون السَّاكِنَةِ وَالتَّنْوِينِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: يُبَيَّنَانِ عِنْدَ حُرُوفِ الْحَلْقِ، وَيُدْغَمَانِ عِنْدَ الرَّاءِ وَاللَّامِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ، وَيُقْلَبَانِ مِيمًا عِنْدَ الْبَاءِ وَيَكُونَانِ مِنَ الْخَيَاشِيمِ، أَيْ لَا يُبَيَّنَانِ، فَعَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْسَامِ الَّتِي نَصَّهَا سِيبَوَيْهِ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ فَتُبَيَّنُ النُّونُ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ وُجَيْهٌ: وَهُوَ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ حُكْمُهَا أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا، فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهَا تَبَيَّنَتِ النُّونُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: الْإِدْغَامُ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ قِيَاسًا عَلَى كُلِّ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَهَا أُولَئِكَ لِلتَّبْيِينِ وَالتَّمْكِينِ، وَأَدْغَمَهَا هَؤُلَاءِ لِمُجَاوَرَتِهَا حُرُوفَ الْفَمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ«فِيمَا يُجْرَى وَفِيمَا لَا يُجْرَى» أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:«طسينَ ميمُ» بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْمِيمِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا مَعْدِي كَرِبُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَرَأَ خَالِدٌ:«طسينَ مِيمُ». ابْنُ عَبَّاسٍ:«طسم» قَسَمٌ وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً». وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. مُجَاهِدٌ: هُوَ اسْمُ السُّورَةِ، وَيُحَسِّنُ افْتِتَاحَ السُّورَةِ. الرَّبِيعُ: حِسَابُ مُدَّةِ قَوْمٍ. وَقِيلَ: قَارِعَةٌ تَحُلُّ بِقَوْمٍ.«طسم» وَ«طَس» وَاحِدٌ. قال «٢»:
وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْعِ أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ ... بِأَنْ تُسْعِدَا وَالدَّمْعُ أشفاه ساجمه


(١). راجع ج ١١ ص ١٦٨ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). هو المتنبي، والبيت مطلع قصيدة له مدح بها أبا الحسن علي بن عبد الله العدوي. وأشجاه: أحزنه. والطاسم: الدارس. والساجم: السائل. والمعنى: طلب وفاءهما بالاسعاد وهو الإعانة على البكاء والموافقة، ولذلك قال: (والدمع أشفاه ساجمه) والمعنى ابكيا معي بدمع في غاية السجوم فهو أشفى للوجد، فإن الربع في غاية الطسوم وهو أشجى للمحب. وأراد بالوفاء هنا البكاء لأنهما عاهداه على الإسعاد.«شرح التبيان ج ٢ للعكبري».

وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ: الطَّاءُ طُورُ سَيْنَاءَ وَالسِّينِ إِسْكَنْدَرِيَّةُ وَالْمِيمُ مَكَّةُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: الطَّاءُ شَجَرَةُ طُوبَى، وَالسِّينُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَالْمِيمُ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقِيلَ: الطَّاءُ مِنَ الطَّاهِرِ وَالسِّينُ مِنَ الْقُدُّوسِ- وَقِيلَ: مِنَ السَّمِيعِ وَقِيلَ: مِنَ السَّلَامِ- وَالْمِيمُ مِنَ الْمَجِيدِ. وَقِيلَ: مِنَ الرَّحِيمِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمَلِكِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ«الْبَقَرَةِ» «١». وَالطَّوَاسِيمُ وَالطَّوَاسِينُ سُوَرٌ فِي الْقُرْآنِ جُمِعَتْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
وَبِالطَّوَاسِيمِ الَّتِي قَدْ ثُلِّثَتْ ... وَبِالْحَوَامِيمِ الَّتِي قَدْ سُبِّعَتْ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: والصواب أن تجمع بذوات وَتُضَافَ إِلَى وَاحِدٍ، فَيُقَالُ: ذَوَاتُ طسم وَذَوَاتُ حم. قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) رفع على إضمار مبتدأ أي هذه«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» الَّتِي كُنْتُمْ وُعِدْتُمْ بِهَا، لِأَنَّهُمْ قَدْ وُعِدُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ:«تِلْكَ» بِمَعْنَى هَذِهِ. (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ وَمُهْلِكُهَا. وَقَدْ مَضَى فِي«الْكَهْفِ» «٢» بَيَانُهُ. (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أَيْ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ. قَالَ الْفَرَّاءُ:«أَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا جَزَاءٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَإِنَّمَا يُقَالُ: بِإِنْ مَكْسُورَةً لِأَنَّهَا جَزَاءٌ، كَذَا الْمُتَعَارَفُ. وَالْقَوْلُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ:«أَنَّ» فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى لَعَلَّكَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ. (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) أس مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً وَقُدْرَةً بَاهِرَةً فَتَصِيرُ مَعَارِفُهُمْ ضَرُورِيَّةً، وَلَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِأَنْ تَكُونَ الْمَعَارِفُ نَظَرِيَّةً وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: صوت يُسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، تَخْرُجُ بِهِ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ وَتَضِجُّ لَهُ الْأَرْضُ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ قريش لا غيرهم. (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) أَيْ فَتَظَلُّ أَعْنَاقُهُمْ (لَها خاضِعِينَ) قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْنَاقُهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، يُقَالُ: جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ أَيْ رُؤَسَاءُ منهم. أبو زيد والأخفش:«أَعْناقُهُمْ» جماعاتهم،


(١). راجع ج ١ ص ١٥٤.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٤٨.

يُقَالُ: جَاءَنِي عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ أَيْ جَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ أَصْحَابَ الْأَعْنَاقِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قَتَادَةُ: الْمَعْنَى لَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ آيَةً يَذِلُّونَ بِهَا فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عُنُقَهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ سَتَكُونُ لَنَا عَلَيْهِمُ الدَّوْلَةُ فَتَذِلُّ لَنَا أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ، ذكره الثعلبي والغزنوي. وَخَاضِعِينَ وَخَاضِعَةً هُنَا سَوَاءٌ، قَالَهُ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ إِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ ذَلُّوا، فَالْإِخْبَارُ عَنِ الرِّقَابِ إِخْبَارٌ عَنْ أَصْحَابِهَا. وَيَسُوغُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ تَتْرُكَ الْخَبَرَ عَنِ الْأَوَّلِ وَتُخْبِرَ عَنِ الثَّانِي، قَالَ الرَّاجِزُ:
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّيَالِي وَتَرَكَ الطُّولَ. وَقَالَ جَرِيرٌ «١»:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
وَإِنَّمَا جاز ذلك لأنه لو أسقط مر وطول مِنَ الْكَلَامِ لَمْ يَفْسَدْ مَعْنَاهُ، فَكَذَلِكَ رَدَّ الْفِعْلَ إِلَى، الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ:«فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ» لِأَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْأَعْنَاقَ لَمَا فَسَدَ الْكَلَامُ، وَلَأَدَّى مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهُ حَتَّى يَقُولَ: فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ. وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَالْكِسَائِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى خَاضِعِيهَا هُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْفَرَّاءِ. وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لَا يَقَعُ فِي شي مِنَ الْكَلَامِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) تَقَدَّمَ فِي«الْأَنْبِيَاءِ «٢»». (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي أعرضوا ومن أعرض عن شي ولم يقبله فهو تكذيب له. (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وَعِيدٌ لَهُمْ، أَيْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ عَاقِبَةُ مَا كَذَّبُوا وَالَّذِي اسْتَهْزَءُوا بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) نَبَّهَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا بِقُلُوبِهِمْ وَنَظَرُوا بِبَصَائِرِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، إِذْ هُوَ القادر على كل شي. والزوج هو اللون، قال الفراء. و "حسن شريف، واصل


(١). تقدم البيت في ج ٧ ص ٢٦٤.
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٦٨.

الْكَرَمِ فِي اللُّغَةِ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ، فَنَخْلَةٌ كَرِيمَةٌ أَيْ فَاضِلَةٌ كَثِيرَةُ الثَّمَرِ، «١» وَرَجُلٌ كَرِيمٌ شَرِيفٌ، فَاضِلٌ صَفُوحٌ. وَنَبَتَتِ الْأَرْضُ وَأَنْبَتَتْ بِمَعْنًى. وَقَدْ تقدم في سور» البقرة«والله سبحانه الْمُخْرِجُ وَالْمُنْبِتُ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ صَارَ إِلَى النَّارِ فَهُوَ لَئِيمٌ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْإِنْبَاتِ فِي الْأَرْضِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ، لَا يعجزه شي. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ مُصَدِّقِينَ لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِي فِيهِمْ. وَ» كانَ«هُنَا صِلَةٌ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يُرِيدُ المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٠ الى ١٥]
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى)» إِذْ«فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، الْمَعْنَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى «ويدل على هذا بَعْدَهُ.» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ«ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وقيل: المعنى، واذكر إذا نَادَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:» وَاذْكُرْ أَخا عادٍ«وَقَوْلِهِ:» وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ«وَقَوْلِهِ:» وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
«. وَقِيلَ: الْمَعْنَى،» وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى «كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَالنِّدَاءُ الدعاء بيا فُلَانُ، أَيْ قَالَ رَبُّكَ يَا مُوسَى: (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ثُمَّ أَخْبَرَ مَنْ هُمْ فقال: (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) فَ» قَوْمَ«بَدَلٌ، وَمَعْنَى» أَلا يَتَّقُونَ«أَلَا يَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ؟ وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الشَّيْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَدَلَّ قَوْلُهُ:» يَتَّقُونَ«عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَّقُونَ، وَعَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى، قُلْ لَهُمْ» أَلَا تَتَّقُونَ" وَجَاءَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُمْ غُيَّبٌ وَقْتَ الْخِطَابِ، ولو جاء بالتاء


(١). في نسخة: كثيرة التثمير.

لَجَازَ. وَمِثْلُهُ» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ«بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ. وَقَدْ قَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو حَازِمٍ» أَلَا تَتَّقُونَ«بِتَاءَيْنِ أَيْ قُلْ لَهُمْ» أَلَا تَتَّقُونَ«. (قالَ رَبِّ) أَيْ قَالَ مُوسَى (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أَيْ فِي الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. (وَيَضِيقُ صَدْرِي) لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ» وَيَضِيقُ«وَلا يَنْطَلِقُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حَيْوَةَ:«وَيَضِيقَ- وَلَا يَنْطَلِقَ» بِالنَّصْبِ فِيهِمَا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ:«أَنْ يُكَذِّبُونِ» قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ، يَعْنِي فِي«يَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» يعني نفسا عَلَى«إِنِّي أَخافُ». قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقْرَأُ بِالنَّصْبِ. حكي ذلك عن الأعرج وطلحة وعيسى ابن عُمَرَ وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْوَجْهُ لرفع، لِأَنَّ النَّصْبَ عَطْفٌ عَلَى«يُكَذِّبُونِ» وَهَذَا بَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجلوَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فَهَذَا يَدُلُّ على أن هذه كذا. ومعنى«وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» فِي الْمُحَاجَّةِ عَلَى مَا أُحِبُّ، وَكَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي«طه» «١». (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أَرْسِلْ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ، وَاجْعَلْهُ رَسُولًا مَعِي لِيُؤَازِرَنِي وَيُظَاهِرَنِي وَيُعَاوِنَنِي. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا لِيُعِينَنِي، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَانَ مَعْلُومًا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ«طه»:«وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا» وَفِي الْقَصَصِ:«فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي» وَكَأَنَّ مُوسَى أُذِنَ لَهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِعْفَاءً مِنَ الرِّسَالَةِ بَلْ طَلَبَ مَنْ يُعِينُهُ. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرٍ، وَيَخَافُ مِنْ نَفْسِهِ تَقْصِيرًا، أَنْ يَأْخُذَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ لَوْمٌ. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) الذَّنْبُ هُنَا قَتْلُ الْقِبْطِيِّ وَاسْمُهُ فَاثُورُ عَلَى مَا يَأْتِي فِي«الْقَصَصِ» بَيَانُهُ، وَقَدْ مَضَى فِي«طه» ذِكْرُهُ. وَخَافَ مُوسَى أَنْ يَقْتُلُوهُ بِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ قَدْ يَصْحَبُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْفُضَلَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ وَأَنْ لَا فَاعِلَ إِلَّا هُوَ، إِذْ قَدْ يُسَلِّطُ مَنْ شَاءَ عَلَى مَنْ شَاءَ. (قالَ كَلَّا) أَيْ كَلَّا لَنْ يَقْتُلُوكَ. فَهُوَ رَدْعٌ وَزَجْرٌ عَنْ هَذَا الظَّنِّ، وَأَمْرٌ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَيْ ثِقْ بِاللَّهِ وَانْزَجِرْ عَنْ خَوْفِكَ منهم، فإنهم لا يقدرون على قتلك،


(١). راجع ج ١١ ص ١٩٢ طبعه أولى أو ثانية.

وَلَا يَقْوَوْنَ عَلَيْهِ. (فَاذْهَبا) أَيْ أَنْتَ وَأَخُوكَ فَقَدْ جَعَلْتُهُ رَسُولًا مَعَكَ. (بِآياتِنا) أَيْ بِبَرَاهِينِنَا وبالمعجزات. وقيل آيَاتِنَا. (إِنَّا مَعَكُمْ) يُرِيدُ نَفْسَهُ سبحانه وتعالى. (مُسْتَمِعُونَ) أَيْ سَامِعُونَ مَا يَقُولُونَ وَمَا يُجَاوِبُونَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْوِيَةَ قَلْبَيْهِمَا وَأَنَّهُ يُعِينُهُمَا وَيَحْفَظُهُمَا. وَالِاسْتِمَاعُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِصْغَاءِ، وَلَا يُوصَفُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَقَالَ فِي» طه««١»:» أَسْمَعُ وَأَرى «وَقَالَ:» مَعَكُمْ«فَأَجْرَاهُمَا مَجْرَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وَلِمَنْ أُرْسِلَا إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ بَنِي إسرائيل.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٦ الى ٢٢]
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: َأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَسُولُ بِمَعْنَى رِسَالَةُ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا، إِنَّا ذَوُو رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الهذلي:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرِ
أَلِكْنِي إِلَيْهَا مَعْنَاهُ أَرْسِلْنِي. وَقَالَ آخَرُ «٢»:
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ ولا أرسلتهم برسول


(١). راجع ج ١١ ص ٢٠١ فما بعد. [.....]
(٢). هو كثير. ويروى أيضا في اللسان مادة» رسل":
بليلى ولا أرسلتهم برسيل

آخَرُ «١»:
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا ... بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
«٢» وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي خُفَافَا ... رَسُولًا بَيْتُ أَهْلِكَ مُنْتَهَاهَا

يَعْنِي رِسَالَةً فَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ فِي مَعْنَى الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَذَانِ رَسُولِي وَوَكِيلِي، وَهَؤُلَاءِ رَسُولِي وَوَكِيلِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي). وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أَيْ أَطْلِقْهُمْ وَخَلِّ سَبِيلَهُمْ حَتَّى يَسِيرُوا مَعَنَا إِلَى فِلَسْطِينَ وَلَا تَسْتَعْبِدْهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ اسْتَعْبَدَهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَانْطَلَقَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ الْبَوَّابُ على فرعون فقال: ها هنا إِنْسَانٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ فرعون: ائذن لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ وَأَدَّيَا الرِّسَالَةَ. وَرَوَى وَهْبٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُمَا لَمَّا دَخَلَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَجَدَاهُ وَقَدْ أَخْرَجَ سِبَاعًا مِنْ أُسْدٍ وَنُمُورٍ وَفُهُودٍ يَتَفَرَّجُ عَلَيْهَا، فَخَافَ سُوَّاسُهَا أن تبطش بموسى وهرون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهرون، فَأَقْبَلَتْ تَلْحَسُ أَقْدَامَهُمَا، وَتُبَصْبِصُ إِلَيْهِمَا بِأَذْنَابِهَا، وَتُلْصِقُ خُدُودَهَا بِفَخِذَيْهِمَا، فَعَجِبَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ما أنتما؟ قالا:»نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«فَعَرَفَ مُوسَى لِأَنَّهُ نَشَأَ في بيته، ف (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا) عَلَى جِهَةِ الْمَنِّ عَلَيْهِ وَالِاحْتِقَارِ. أَيْ رَبَّيْنَاكَ صَغِيرًا وَلَمْ نَقْتُلْكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلْنَا (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) فَمَتَى كَانَ هَذَا الَّذِي تدعيه. ثم قرره بقتل القبطي بقوله: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) وَالْفَعْلَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمَرَّةُ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ:» فِعْلَتَكَ" بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْفَتْحُ أَوْلَى، لِأَنَّهَا الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَالْكَسْرُ بِمَعْنَى الْهَيْئَةِ وَالْحَالِ، أَيْ فَعْلَتَكَ الَّتِي تَعْرِفُ فَكَيْفَ تَدَّعِي مَعَ عِلْمِنَا أَحْوَالَكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... مَرُّ السَّحَابَةِ لَا رَيْثٌ وَلَا عَجَلُ


(١). هو الاسعر الجعفي.
(٢). عن فتاحتكم: أي عن حكمكم.

وَيُقَالُ: كَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَالرَّدَّةِ. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) قَالَ الضَّحَّاكُ أَيْ فِي قَتْلِكَ الْقِبْطِيَّ إِذْ هُوَ نَفْسٌ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ. وَقِيلَ: أَيْ بِنِعْمَتِي الَّتِي كَانَتْ لَنَا عَلَيْكَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْحَسَنُ:«مِنَ الْكافِرِينَ» فِي أَنِّي إِلَهُكَ. السُّدِّيُّ:«مِنَ الْكافِرِينَ» بِاللَّهِ لِأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ. وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِ مُوسَى عليه السلام حِينَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ وَبَيْنَ رُجُوعِهِ نَبِيًّا أَحَدَ عَشَرَ عَامًا غَيْرَ أَشْهُرٍ. فَ (قالَ فَعَلْتُها إِذًا) أَيْ فَعَلْتَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ يُرِيدُ قَتْلَ الْقِبْطِيِّ (وَأَنَا) إِذْ ذَاكَ (مِنَ الضَّالِّينَ) أَيْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْكُفْرَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْجَهْلِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ،«مِنَ الضَّالِّينَ» مِنَ الْجَاهِلِينَ. ابْنُ زَيْدٍ: مِنَ الْجَاهِلِينَ بِأَنَّ الْوَكْزَةَ تَبْلُغُ الْقَتْلَ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ«مِنَ الْجَاهِلِينَ» وَيُقَالُ لِمَنْ جَهِلَ شَيْئًا ضَلَّ عَنْهُ. وَقِيلَ:«وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» مِنَ النَّاسِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ:«وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» عَنِ النبوة ولم يأتني عن الله فيه شي، فَلَيْسَ عَلَيَّ فِيمَا فَعَلْتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ تَوْبِيخٌ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّرْبِيَةَ فِيهِمْ لَا تُنَافِي النُّبُوَّةَ وَالْحِلْمَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنَّ الْقَتْلَ خَطَأٌ أَوْ فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْعٌ لَا يُنَافِي النُّبُوَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) أَيْ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَى مَدْيَنَ كَمَا فِي سُورَةِ«الْقَصَصِ»:«فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ» وَذَلِكَ حِينَ الْقَتْلِ. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) يَعْنِي النُّبُوَّةَ، عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ. الزَّجَّاجُ: تَعْلِيمُ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ. وَقِيلَ: عِلْمًا وَفَهْمًا. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْ مُوسَى عليه السلام عَلَى جِهَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: نَعَمْ! وَتَرْبِيَتُكَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنْ حَيْثُ عَبَّدْتَ غَيْرِي وَتَرَكْتَنِي، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ رِسَالَتِي. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ مُوسَى عليه السلام عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ أَتَمُنُّ عَلَيَّ بِأَنْ رَبَّيْتَنِي وَلِيدًا وَأَنْتَ قَدِ اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلْتَهُمْ؟! أَيْ لَيْسَتْ بِنِعْمَةٍ؟ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ أَلَّا تَقْتُلَهُمْ وَلَا تَسْتَعْبِدَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَوْمِي، فَكَيْفَ تَذْكُرُ إِحْسَانَكَ إِلَيَّ عَلَى

الْخُصُوصِ؟! قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: فِيهِ تقدير استفهام، أي أو تلك نِعْمَةٌ؟ قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ أَيْضًا وَأَنْكَرَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ تُحْدِثُ مَعْنًى، وَحَذْفُهَا مُحَالٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ أَمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرُ

وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ اخْتِلَافًا فِي هَذَا إِلَّا شَيْئًا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ: يَجُوزُ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ فِي أَفْعَالِ الشَّكِّ، وَحُكِيَ تَرَى زَيْدًا مُنْطَلِقًا؟ بِمَعْنَى أَتَرَى. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ يَقُولُ فِي هَذَا: إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا إنكار قال معناه أو تلك نِعْمَةٌ؟ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِهِ:» هَذَا رَبِّي«» فَهُمُ الْخالِدُونَ«. قال الشَّاعِرِ «١»:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ ... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
وَأَنْشَدَ الْغَزْنَوِيُّ شَاهِدًا عَلَى تَرْكِ الْأَلِفِ قَوْلَهُمْ:
لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتَهَا ... وَجَفْنُهَا مِنْ دُمُوعِهَا شَرِقُ

وَقَوْلَهَا وَالرِّكَابُ وَاقِفَةٌ ... تَرَكْتَنِي هَكَذَا وَتَنْطَلِقُ
قُلْتُ: فَفِي هَذَا حُذِفَ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ عَدَمِ أَمْ خِلَافَ قَوْلِ النَّحَّاسِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّبْكِيتِ وَالتَّبْكِيتُ يَكُونُ، بِاسْتِفْهَامٍ وَبِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ تَقْتُلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَرَبَّانِي أَبَوَايَ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ لَكَ عَلَيَّ! فَأَنْتَ تَمُنُّ عَلَيَّ بِمَا لَا يَجِبُ أَنْ تَمُنَّ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَيْفَ تَمُنُّ بِالتَّرْبِيَةِ وَقَدْ أَهَنْتَ قَوْمِي؟ وَمَنْ أُهِينَ قَوْمُهُ ذَلَّ. وَ» أَنْ عَبَّدْتَ«فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ» نِعْمَةٌ" وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى: لِأَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيِ اتخذتهم عبيدا. يقال: عبدته وأعبدته بمعنى، قال الفراء وأنشد:
علا م يُعْبِدُنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ ... فِيهِمْ أَبَاعِرُ مَا شاءوا وعبدان


(١). هو أبو خراش الهذلي، وقد تقدم شرح البيت في ج ١١ ص ٢٨٧ طبعه أولى أو ثانية.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢٣ الى ٥١]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي

عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) لَمَّا غَلَبَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَلَمْ يَجِدِ اللَّعِينُ مِنْ تَقْرِيرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُجَّةً رَجَعَ إِلَى مُعَارَضَةِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاسْتَفْهَمَهُ اسْتِفْهَامًا عَنْ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَنِ الْأَجْنَاسِ فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ بِ«مَا». قَالَ مَكِّيٌّ: وَقَدْ وَرَدَ لَهُ اسْتِفْهَامٌ بِ«مَنْ» فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيُشْبِهُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ، فَأَتَى مُوسَى بِالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مَخْلُوقٌ، وَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ عَنِ الْجِنْسِ وَلَا جِنْسَ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ مُحْدَثَةٌ، فَعَلِمَ مُوسَى جَهْلَهُ فَأَضْرَبَ عَنْ سُؤَالِهِ وَأَعْلَمَهُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ الَّتِي تُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لِفِرْعَوْنَ فِيهَا. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: (أَلا تَسْتَمِعُونَ) عَلَى مَعْنَى الْإِغْرَاءِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ سَفَهِ الْمَقَالَةِ إِذْ كَانَتْ عَقِيدَةُ الْقَوْمِ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ وَالْفَرَاعِنَةُ قَبْلَهُ كَذَلِكَ. فَزَادَ مُوسَى فِي الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فَجَاءَ بِدَلِيلٍ يَفْهَمُونَهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ آبَاءٌ وَأَنَّهُمْ قَدْ فَنُوا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا، وَأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُكَوِّنٍ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ حِينَئِذٍ عَلَى جِهَةِ الاستخفاف: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أَيْ لَيْسَ يُجِيبُنِي عَمَّا أَسْأَلُ، فَأَجَابَهُ مُوسَى عليه السلام عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أَيْ لَيْسَ مُلْكُهُ كَمُلْكِكَ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا تملك بلد وَاحِدًا لَا يَجُوزُ أَمْرُكَ فِي غَيْرِهِ، وَيَمُوتُ مَنْ لَا تُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ، وَالَّذِي أَرْسَلَنِي يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ (وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). وَقِيلَ: عَلِمَ مُوسَى عليه السلام أَنَّ قَصْدَهُ فِي السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ مَنْ سَأَلَ عَنْهُ، فَأَجَابَ بِمَا هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْيَوْمَ. ثُمَّ لَمَّا انْقَطَعَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّغَلُّبِ فَتَوَعَّدَ مُوسَى بِالسَّجْنِ، وَلَمْ يَقُلْ مَا دَلِيلُكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ أَرْسَلَكَ، لِأَنَّ فِيهِ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ ثَمَّ إِلَهًا غَيْرُهُ. وَفِي تَوَعُّدِهِ بِالسَّجْنِ ضَعْفٌ. وَكَانَ فِيمَا يُرْوَى

أَنَّهُ يَفْزَعُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَانَ اللَّعِينُ لَا يُمْسِكُ بَوْلَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سِجْنَهُ كَانَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ وَكَانَ إِذَا سَجَنَ أَحَدًا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ سَجْنِهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَكَانَ مَخُوفًا. ثُمَّ لَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى عليه السلام مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَرُعْهُ تَوَعَّدَ فِرْعَوْنَ (قالَ) لَهُ عَلَى جهة اللطف به والطمع في إيمانه: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) فَيَتَّضِحُ لَكَ بِهِ صِدْقِي، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ طَمِعَ فِي أَنْ يَجِدَ أَثْنَاءَهُ موضع معارضة (فقال) لَهُ (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وَلَمْ يَحْتَجِ الشَّرْطُ إِلَى جَوَابٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي مِنْهُ. (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) مِنْ يَدِهِ فَكَانَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ مِنْ قِصَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي«الْأَعْرَافِ» «١» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ السَّحَرَةُ لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل (لَا ضَيْرَ) أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقُنَا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، أَيْ إِنَّمَا عَذَابُكَ سَاعَةً فَنَصْبِرُ لَهَا وَقَدْ لَقِينَا اللَّهَ مُؤْمِنِينَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اسْتِبْصَارِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. قَالَ مَالِكٌ: دَعَا مُوسَى عليه السلام فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا بِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. يُقَالُ: لَا ضَيْرَ وَلَا ضَوْرَ وَلَا ضَرَّ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضارورة بمعنى واحد، قال الْهَرَوِيُّ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ «٢»:
فَإِنَّكَ لَا يَضُورُكَ بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ

وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ضَارَهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضَوْرًا أَيْ ضَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لَا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورُنِي. وَالتَّضَوُّرُ الصِّيَاحُ وَالتَّلَوِّي عِنْدَ الضَّرْبِ أَوِ الْجُوعِ. وَالضُّورَةُ بِالضَّمِّ الرَّجُلُ الْحَقِيرُ الصَّغِيرُ الشَّأْنِ. (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) يُرِيدُ نَنْقَلِبُ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ رَحِيمٍ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).«أَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ لِأَنْ كُنَّا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ كَسْرَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مُجَازَاةً. وَمَعْنَى«أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» أَيْ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ مِمَّنْ كَانَ فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ. الْفَرَّاءُ: أَوَّلُ مُؤْمِنِي زَمَانِنَا. وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُمُ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ فِرْعَوْنُ:«إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ.


(١). راجع ج ٧ ص ٢٥٦ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(٢). البيت لخداش بن زهير، واستشهد به سيبويه في كتابه على جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة ضرورة. والمعنى: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٥٢ الى ٦٨]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ إِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ مِنْ أوليائه، لمعترفين بِرِسَالَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَإِهْلَاكُ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا وَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى. وَمَعْنَى«إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» أَيْ يَتَّبِعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لِيَرُدُّوكُمْ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيفُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يُنْجِيهِمْ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ مُوسَى عليه السلام بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَحَرًا، فَتَرَكَ الطَّرِيقَ إِلَى الشَّامِ عَلَى يَسَارِهِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُ لَهُ فِي تَرْكِ الطَّرِيقِ فَيَقُولُ: هَكَذَا أُمِرْتُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَعَلِمَ بِسُرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، خَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى مَدَائِنِ مِصْرَ لِتَلْحَقَهُ الْعَسَاكِرُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَحِقَهُ وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ أَدْهَمَ مِنَ الْخَيْلِ سِوَى سَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَإِنَّمَا اللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام خَرَجَ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ تَبِعَهُ بِأَضْعَافِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ أَلْفُ جَبَّارٍ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ تَاجٌ وَكُلُّهُمْ أَمِيرُ خَيْلٍ. وَالشِّرْذِمَةُ الْجَمْعُ الْقَلِيلُ الْمُحْتَقَرُ وَالْجَمْعُ الشَّرَاذِمُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشِّرْذِمَةُ الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَثَوْبٌ شَرَاذِمُ أَيْ قِطَعٌ. وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيُّ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَثِيَابِي أَخْلَاقْ ... شَرَاذِمُ يَضْحَكُ مِنْهَا النَّوَّاقْ
النَّوَّاقُ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يُرَوِّضُ الْأُمُورَ وَيُصْلِحُهَا، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ «١». وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:«لَشِرْذِمَةٌ» لَامُ تَوْكِيدٍ وَكَثِيرًا مَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ، إِلَّا أَنَّ الْكُوفِيِّينَ لَا يُجِيزُونَ إِنَّ زَيْدًا لَسَوْفَ يَقُومُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» وَهَذِهِ لَامُ التَّوْكِيدِ بِعَيْنِهَا وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى سَوْفَ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أَيْ أَعْدَاءٌ لَنَا لِمُخَالَفَتِهِمْ دِينَنَا وَذَهَابِهِمْ بِأَمْوَالِنَا الَّتِي اسْتَعَارُوهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمَاتَتْ أَبْكَارُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي«الْأَعْرَافِ» وَ«طه» مُسْتَوْفًى. يُقَالُ: غَاظَنِي كَذَا وَأَغَاظَنِي. وَالْغَيْظُ الْغَضَبُ وَمِنْهُ التَّغَيُّظُ وَالِاغْتِيَاظُ. أَيْ غَاظُونَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أَيْ مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرى«حاذرون» ومعناه معنى«حاذِرُونَ» أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرى«وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» و «حاذِرُونَ» و «حاذرون» بِضَمِّ الذَّالِ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ، وَمَعْنَى«حاذِرُونَ» مُتَأَهِّبُونَ، ومعنى«حاذِرُونَ» خَائِفُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ:«حَذِرُونَ» قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّينَ وَأَبِي عَمْرٍو، وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ:«حَاذِرُونَ» وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَ«حَادِرُونَ» بِالدَّالِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ قِرَاءَةُ أَبِي عَبَّادٍ وَحَكَاهَا الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ عَنْ سُمَيْطِ بْنِ عَجْلَانَ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى«حَذِرُونَ» وَ«حَاذِرُونَ» وَاحِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَأَجَازَ: هُوَ حَذِرٌ زَيْدًا، كَمَا يُقَالُ: حَاذِرْ زَيْدًا، وَأَنْشَدَ:
حَذِرٌ أُمُورًا لَا تَضِيرُ وَآمِنٌ ... ما ليس منجيه من الاقدار


(١). ويقال هو اسم ابنه. ويروى (التواق) بالتاء.

وَزَعَمَ أَبُو عُمَرَ الْجِرْمِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ هُوَ حَذِرٌ زَيْدًا عَلَى حَذْفِ مِنْ. فَأَمَّا أَكْثَرُ النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر، مِنْهُمُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى حَذِرٌ فِي خِلْقَتِهِ الْحَذَرُ، أَيْ مُتَيَقِّظٌ مُتَنَبِّهٌ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَمَعْنَى حَاذِرٍ مُسْتَعِدٌّ وَبِهَذَا جَاءَ التَّفْسِيرُ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجلوَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» قَالَ: مُؤْدُونَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ مُقْوُونَ، فَهَذَا ذَاكَ بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ: مُؤْدُونَ مَعَهُمْ أَدَاةٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَعَنَا سِلَاحٌ وَلَيْسَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَمَّا«حَادِرُونَ» بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فَمُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ حَدْرَةٌ أَيْ مُمْتَلِئَةٌ، أَيْ نَحْنُ مُمْتَلِئُونَ غَيْظًا عَلَيْهِمْ، ومنه قول الشاعر «١»:
وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... شُقَّتْ مَآقِيهِمَا مِنْ أُخَرْ
وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ حَادِرٌ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئَ اللَّحْمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الِامْتِلَاءُ مِنَ السِّلَاحِ. الْمَهْدَوِيُّ: الْحَادِرُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يَعْنِي مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ الْجَنَّاتُ بِحَافَّتَيِ النِّيلِ فِي الشُّقَّتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ أُسْوَانَ إِلَى رَشِيدٍ، وَبَيْنَ الْجَنَّاتِ زُرُوعٌ. وَالنِّيلُ سَبْعَةُ خِلْجَانٍ: خَلِيجُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخَلِيجُ سَخَا، وَخَلِيجُ دِمْيَاطٍ، وَخَلِيجُ سَرْدُوسَ، وَخَلِيجُ مَنْفَ، وَخَلِيجُ الْفَيُّومِ، وَخَلِيجُ الْمَنْهَى «٢» متصلة لا ينقطع منها شي عن شي، وَالزُّرُوعُ مَا بَيْنَ الْخِلْجَانِ كُلِّهَا. وَكَانَتْ أَرْضُ مِصْرَ كُلُّهَا تُرْوَى مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِمَا دَبَّرُوا وَقَدَّرُوا مِنْ قَنَاطِرِهَا وَجُسُورِهَا وَخُلْجَانِهَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ النِّيلُ إِذَا غَلَّقَ سِتَّةَ عَشْرَ ذِرَاعًا نِيلَ السُّلْطَانِ، وَيُخْلَعُ عَلَى ابْنِ أَبِي الرَّدَّادِ «٣»، وَهَذِهِ الْحَالُ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى الْآنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ نِيلُ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى النَّاسِ. وَكَانَتْ أَرْضُ مِصْرَ جَمِيعُهَا تُرْوَى


(١). هو امرؤ القيس.
(٢). وهو بحر يوسف عليه السلام.
(٣). هو عبد الله بن السلام ابن عبد الله بن أبي الرداد المؤذن، قدم مصر من البصرة وحدث بها، وجعل على قياس النيل في ولاية يزيد بن عبد الله التركي- وكانت النصارى تتولى قياسه- وأجرى عليه سبعة دنانير في كل شهر، واستقر قياسه في بنيه زمانا طويلا. وتوفى أبو الرداد سنة ٢٦٦ هـ. عن خطط المقريزي ج ١ ص ٥٨

مِنْ إِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشْرَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ إِذَا غُلِقَ النِّيلُ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، ازْدَادَ فِي خَرَاجِهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ. فَإِذَا خَرَجَ. عَنْ ذَلِكَ وَنُودِيَ عَلَيْهِ إِصْبَعًا وَاحِدًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا نَقَصَ خَرَاجُهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَسَبَبُ هَذَا مَا كَانَ يَنْصَرِفُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْخِلْجَانِ وَالْجُسُورِ وَالِاهْتِمَامِ بِعِمَارَتِهَا. فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَا يُرْوَى حَتَّى يُنَادَى إِصْبَعٌ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِمِقْيَاسِ مِصْرَ. وَأَمَّا أَعْمَالُ الصَّعِيدِ الْأَعْلَى، فَإِنَّ بِهَا مَا لَا يَتَكَامَلُ رَيُّهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْمَاءِ فِي الذِّرَاعِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالصَّعِيدِ الْأَعْلَى. قُلْتُ: أَمَّا أَرْضُ مِصْرَ فَلَا تُرْوَى جَمِيعُهَا الْآنَ إِلَّا مِنْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَأَصَابِعَ، لِعُلُوِّ الْأَرْضِ وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِعِمَارَةِ جُسُورِهَا، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَزِيدُ إِذَا انْصَبَّتِ الْمِيَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ حَتَّى يَسِيحَ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَتَبْقَى الْبِلَادُ كَالْأَعْلَامِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَرَاكِبِ وَالْقِيَاسَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: نِيلُ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ، سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ نَهْرٍ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَذَلَّلَ اللَّهُ لَهُ الْأَنْهَارَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ نِيلَ مِصْرَ أَمَرَ كُلَّ نَهْرٍ أَنْ يَمُدَّهُ، فَأَمَدَّتْهُ الْأَنْهَارُ بِمَائِهَا، وَفَجَّرَ اللَّهُ لَهُ عُيُونًا، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل، أَوْحَى اللَّهُ تبارك وتعالى إِلَى كُلِّ مَاءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عُنْصُرِهِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ بَئُونَةُ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً تَخْلُو مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا، أَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. فَأَقَامُوا أَبِيبَ وَمِسْرَى لَا يَجْرِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَهَمُّوا بِالْجَلَاءِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، فَأَعْلَمَهُ بِالْقِصَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا. وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِبِطَاقَةٍ فِي دَاخِلِ كِتَابِهِ. وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النيل

إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخَذَ الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ- أَمَّا بَعْدُ- فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ قَبْلَ الصَّلِيبِ بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ أَهْلُ مِصْرَ لِلْجَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ فِيهَا إِلَّا بِالنِّيلِ. فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ، أَصْبَحُوا يَوْمَ الصَّلِيبِ وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السِّيرَةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا سَيْحَانَ وَجَيْحَانَ وَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ، فَسَيْحَانُ نَهْرُ الْمَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَيْحَانُ نَهَرُ اللَّبَنِ فِي الْجَنَّةِ، وَالنِّيلُ نَهْرُ الْعَسَلِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: الدِّجْلَةُ نَهْرُ اللَّبَنِ فِي الْجَنَّةِ. قُلْتُ: الَّذِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ هَذَا حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ:«وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ قَالَ أَمَّا النَّهَرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ» لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ«فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ «١» فَقَالَ مَا هَذَانَ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا ثُمَّ مَضَى فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا هُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكُ.» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُيُونِ عُيُونُ الْمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ عُيُونُ الذَّهَبِ. وَفِي الدُّخَانِ«كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ». قِيلَ
: إِنَّهُمْ كَانُوا يَزْرَعُونَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مِنْ أَوَّلِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا. وَلَيْسَ في الدخان«وكنوز» جمع كنز، وقد مضى هذا


(١). يطردان: أي يجريان، وهما يفتعلان من الطرد.

في سورة«براءة» «١». والمراد بها ها هنا الْخَزَائِنُ. وَقِيلَ: الدَّفَائِنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَنْهَارُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعُيُونَ تَشْمَلُهَا. (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) قَالَ ابن عمر ابن عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمَقَامُ الْكَرِيمُ الْمَنَابِرُ، وَكَانَتْ أَلْفَ مِنْبَرٍ لِأَلْفِ جَبَّارٍ يُعَظِّمُونَ عَلَيْهَا فِرْعَوْنَ وَمُلْكَهُ. وَقِيلَ: مَجَالِسُ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ. وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: سَمِعْتُ أَنَّ الْمَقَامَ الْكَرِيمَ الْفَيُّومُ. وَقِيلَ: كَانَ يُوسُفُ عليه السلام قَدْ كَتَبَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ) فَسَمَّاهَا اللَّهُ كَرِيمَةً بِهَذَا. وَقِيلَ: مَرَابِطُ الْخَيْلِ لِتَفَرُّدِ الزُّعَمَاءِ بِارْتِبَاطِهَا عُدَّةً وَزِينَةً، فَصَارَ مَقَامُهَا أَكْرَمَ مَنْزِلٍ بِهَذَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْمَسَاكِنُ الْحِسَانُ كَانَتْ تُكَرَّمُ عَلَيْهِمْ. وَالْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ الْمَوْضِعَ وَيَكُونُ مَصْدَرًا. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ، مِنْ قَوْلِكَ قَامَ يَقُومُ، وَكَذَا الْمَقَامَاتُ وَاحِدُهَا مَقَامَةٌ، كَمَا قال «٢»:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
وَالْمَقَامُ أَيْضًا الْمَصْدَرُ مِنْ قَامَ يَقُومُ. وَالْمُقَامُ (بِالضَّمِّ) الْمَوْضِعُ مِنْ أَقَامَ. وَالْمَصْدَرُ أَيْضًا مِنْ أَقَامَ يُقِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَالْكُنُوزِ وَالْمَقَامِ الْكَرِيمِ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: رَجَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْوِرَاثَةِ هُنَا مَا اسْتَعَارُوهُ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَصَلَ لَهُمْ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أَيْ فَتَبِعَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ السُّدِّيُّ: حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ بِالشُّعَاعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حِينَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِالضِّيَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأَخُّرِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَنْ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قولين: أحدهما-


(١). راجع ج ٨ ص ١٢٣ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). هو زهير بن أبى سلمى، وينتابها: أي يقال فيها الجميل ويفعل به.

لِاشْتِغَالِهِمْ بِدَفْنِ أَبْكَارِهِمْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّ الْوَبَاءَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَعَ فِيهِمْ، فَقَوْلُهُ:«مُشْرِقِينَ» حَالٌ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. الثَّانِي- إِنَّ سَحَابَةً أَظَلَّتْهُمْ وَظُلْمَةً فَقَالُوا: نَحْنُ بَعْدُ فِي اللَّيْلِ فَمَا تَقَشَّعَتْ عَنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» نَاحِيَةَ الْمَشْرِقِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ:«فَاتَّبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» بِالتَّشْدِيدِ وَأَلِفَ الْوَصْلِ، أَيْ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَرَّقَ وَغَرَّبَ إِذَا سَارَ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ قَدَّرْنَا أَنْ يَرِثَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُشْرِقِينَ فَهَلَكُوا، وَوَرِثَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِلَادَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أَيْ تَقَابَلَا «١» الْجَمْعَانِ بِحَيْثُ يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ صَاحِبَهُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ. (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أَيْ قَرُبَ مِنَّا الْعَدُوُّ وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ:«لَمُدْرَكُونَ» بِالتَّخْفِيفِ مِنْ أَدْرَكَ. وَمِنْهُ«حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ». وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالْأَعْرَجُ وَالزُّهْرِيُّ«لَمُدَّرَكُونَ» بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ «٢» مِنْ ادَّرَكَ. قَالَ الفراء: حفر واحتقر بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ«لَمُدْرَكُونَ» وَ«لَمُدَّرَكُونَ» بِمَعْنًى وَاحِدٍ. النَّحَّاسُ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاقُ، إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مُجْتَهَدٌ فِي لِحَاقِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: كَسَبْتُ بِمَعْنَى أَصَبْتُ وَظَفِرْتُ، وَاكْتَسَبْتُ بِمَعْنَى اجْتَهَدْتُ وَطَلَبْتُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) لَمَّا لَحِقَ فِرْعَوْنُ بِجَمْعِهِ جَمْعَ مُوسَى وَقَرُبَ مِنْهُمْ، وَرَأَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعَدُوَّ الْقَوِيَّ وَالْبَحْرَ أَمَامَهُمْ سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَقَالُوا لِمُوسَى عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالْجَفَاءِ:«إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَعْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالظَّفَرِ«كَلَّا» أَيْ لَمْ يُدْرِكُوكُمْ«إِنَّ مَعِي رَبِّي» أَيْ بِالنَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ.«سَيَهْدِينِ» أَيْ سَيَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، فَلَمَّا عَظُمَ الْبَلَاءُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَأَوْا مِنَ الْجُيُوشِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهَا، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ البحر بعصاه، وذلك أنه


(١). كذا في نسخ الأصل. [.....]
(٢). وكسر الراء- كما في البحر وروح المعاني والكشاف- على وزن، مفتعلون وهو لازم بمعنى الفناء والاضمحلال، من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى.

عز وجل أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمُوسَى وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ، وَإِلَّا فَضَرْبُ الْعَصَا لَيْسَ بِفَارِقٍ لِلْبَحْرِ، وَلَا مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ بِذَاتِهِ إِلَّا بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ. وَقَدْ مَضَى فِي«الْبَقَرَةِ» «١» قِصَّةُ هَذَا الْبَحْرِ. وَلَمَّا انْفَلَقَ صَارَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَقَفَ الْمَاءُ بَيْنَهَا كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَالطَّوْدُ الْجَبَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِي الْأَحْيَاءِ طَوْدٌ ... رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالَا

وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:
حَلُّوا بِأَنْقِرَةٍ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يجئ مِنْ أَطْوَادِ
جَمْعُ طَوْدٍ أَيْ جَبَلٍ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي«يُونُسَ» «٢» انْصَبَّ عَلَيْهِمْ وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى: مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ، فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ مَعَ مُوسَى عليه السلام رَجُلَانِ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى الْبَحْرِ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَيْهِ قَالَا لَهُ بِمَ أَمَرَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَنْفَلِقُ، فَقَالَا لَهُ: افْعَلْ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ فَلَنْ يُخْلِفَكَ، ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ«الْبَقَرَةِ». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أَيْ قَرَّبْنَاهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ ... فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ
أَبُو عُبَيْدَةَ:«أَزْلَفْنا» جَمَعْنَا وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةُ جَمْعٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَرِثِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:«وَأَزْلَفْنا» بِالْقَافِ عَلَى مَعْنَى أَهْلَكْنَاهُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: أَزَلَقَتِ النَّاقَةُ وَأَزْلَقَتِ الْفَرَسُ فَهِيَ مُزْلِقٌ إِذَا أَزَلَقَتْ وَلَدَهَا. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أَيْ عَلَامَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تعالى.


(١). راجع ج ١ ص ٣٨٩ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٧٨ طبعه أولى أو ثانية.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِلَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَاسْمُهُ حَزْقِيلُ وَابْنَتُهُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ ذَا مُوسَى الْعَجُوزُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ عليه السلام. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ أَظْلَمَ عَلَيْهِمُ الْقَمَرُ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ عليه السلام لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَلَّا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا. قَالَ مُوسَى: فَأَيُّكُمْ يَدْرِي قَبْرَهُ؟ قَالَ: مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَجُوزٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ، قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَالَ: وَمَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَثَقُلَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَدَلَّتْهُمْ عَلَيْهِ، فَاحْتَفَرُوهُ وَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَهُ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا، فَإِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ فِي رِوَايَةٍ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْطِهَا فَفَعَلَ، فَأَتَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ، فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ فَأَنْضَبُوهُ وَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ عليه السلام، فَتَبَيَّنَتْ لَهُمُ الطَّرِيقُ مِثْلَ ضَوْءِ النَّهَارِ. وَقَدْ مَضَى فِي«يُوسُفَ» «١». وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَزَلَ بِأَعْرَابِيٍّ فَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«حَاجَتَكَ» قَالَ: نَاقَةٌ أُرَحِّلُهَا وَأَعْنُزًا أحبلها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«فَلِمَ عَجَزْتَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَذَكَرَ لَهُمْ حَالَ هَذِهِ الْعَجُوزِ الَّتِي احْتَكَمَتْ عَلَى مُوسَى أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٦٩ الى ٧٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)


(١). راجع ج ٩ ص ٢٧٠ طبعه أو ثانية.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) نَبَّهَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى فَرْطِ جَهْلِهِمْ إِذْ رَغِبُوا عَنِ اعْتِقَادِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ وَهُوَ أَبُوهُمْ. وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ، أَيِ اقْصُصْ عَلَيْهِمْ يَا مُحَمَّدُ خَبَرَهُ وَحَدِيثَهُ وَعَيْبَهُ عَلَى قَوْمِهِ مَا يَعْبُدُونَ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُلْزِمًا لَهُمُ الْحُجَّةَ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْفِيفِ الثَّانِيَةِ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ نَحْوَ آدَمَ. وَإِنْ شِئْتَ حَقَّقْتَهُمَا فَقُلْتَ:«نَبَأَ إِبْراهِيمَ». وَإِنْ شِئْتَ خَفَّفْتَهُمَا فَقُلْتَ:«نَبَا ابْرَاهِيمَ». وَإِنْ شِئْتَ خَفَّفْتَ الْأُولَى. وَثَمَّ وَجْهٌ خَامِسٌ إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُدْغَمَ الْهَمْزَةُ فِي الْهَمْزَةِ كَمَا يقال رأاس للذي يبيع الرؤوس. وَإِنَّمَا بَعُدَ لِأَنَّكَ تَجْمَعُ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ كَأَنَّهُمَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَسُنَ فِي فَعَّالٍ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي إِلَّا مُدْغَمًا. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) «أي أي شي تعبدوا (قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا) وَكَانَتْ أَصْنَامُهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَخَشَبٍ. (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أَيْ فَنُقِيمُ عَلَى عِبَادَتِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَقْتًا مُعَيَّنًا بَلْ هُوَ إِخْبَارٌ عَمَّا هُمْ فِيهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَكَانُوا فِي اللَّيْلِ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ. فَيُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ نَهَارًا وَبَاتَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا. (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: هَلْ يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ؟ أو هل يسمعون دعاءكم، قال الشاعر «١»:
الْقَائِدُ الْخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُهَا ... قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتُ الْقِدِّ وَالْأَبَقَا
قَالَ: وَالْأَبَقُ الْكَتَّانُ فَحُذِفَ. وَالْمَعْنَى، وَأُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْأَبَقِ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْأَبَقُ بِالتَّحْرِيكِ الْقِنَّبُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَرَأَ:» هَلْ يسمعونكم" بضم الياء، أي أهل يُسْمِعُونَكُمْ أَصْوَاتَهُمْ (إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) أَيْ هَلْ تَنْفَعُكُمْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ وَتَرْزُقُكُمْ، أَوْ تَمْلِكُ لَكُمْ خَيْرًا أَوْ ضَرًّا إِنْ عَصَيْتُمْ؟! وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ لِتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَعُوكُمْ وَلَمْ يَضُرُّوا فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمْ لَهَا. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فَنَزَعُوا إلى التقليد


(١). هو زهير بن أبى سلمى. والبيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان. وأحكمت: جعلت لها حكمات من القد. والحكمات جمع حكمة وهي ما تكون على أنف الدابة. ودوابرها: مؤخر حوافرها. ومنكوب: أي أصابت الحجارة دوابرها وأدمتها.

مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ. (قالَ) إِبْرَاهِيمُ (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الْأَوَّلُونَ (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) وَاحِدٌ يُؤَدِّي عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوَّةُ اللَّهِ، حَكَاهُمَا الْفَرَّاءُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: مَنْ قَالَ عَدُوَّةُ اللَّهِ وَأَثْبَتَ الْهَاءَ قَالَ هِيَ بِمَعْنَى مُعَادِيَةٍ، وَمَنْ قَالَ عَدُوٌّ لِلْمُؤَنَّثِ وَالْجَمْعِ جَعَلَهُ بِمَعْنَى النَّسَبِ. وَوَصَفَ الْجَمَادَ بِالْعَدَاوَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِنْ عَبَدْتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ:» كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا«. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، مَجَازُهُ: فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ لِأَنَّ مَنْ عَادَيْتَهُ عَادَاكَ. ثُمَّ قَالَ: (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ إِلَّا مَنْ عَبْدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِلَّا عَابِدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: قَالَ النَّحْوِيُّونَ هُوَ استثناء لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَجَازَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عز وجل وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْأَصْنَامَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ. وَتَأَوَّلَهُ الْفَرَّاءُ عَلَى الْأَصْنَامِ وَحْدَهَا وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَإِنَّهُمْ لَوْ عَبَدْتُهُمْ عَدُوٌّ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: تَقْدِيرُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ إِلَّا رَبَّ العالمين فإنهم عدو لي. وإلا بِمَعْنَى دُونَ وَسِوَى، كَقَوْلِهِ:» لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «أَيْ دُونَ الْمَوْتَةِ الاولى.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٧٨ الى ٨٢]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أَيْ يُرْشِدُنِي إِلَى الدِّينِ. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أَيْ يَرْزُقُنِي. وَدُخُولُ» هُوَ«تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُطْعِمُ وَلَا يَسْقِي، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ هُوَ الَّذِي فَعَلَ كَذَا، أَيْ لَمْ يَفْعَلْهُ غَيْرُهُ. (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) قَالَ:» مَرِضْتُ" رِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَإِلَّا فَالْمَرَضُ وَالشِّفَاءُ مِنَ اللَّهِ عز وجل جَمِيعًا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ

فَتَى مُوسَى:» وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ«. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) يُرِيدُ الْبَعْثَ وَكَانُوا يَنْسُبُونَ الْمَوْتَ إِلَى الْأَسْبَابِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمِيتُ وَيُحْيِي. وَكُلُّهُ بِغَيْرِ يَاءٍ:» يَهْدِينِ«» يَشْفِينِ«لِأَنَّ الْحَذْفَ فِي رُءُوسِ الْآيِ حَسَنٌ لِتَتَّفِقَ كُلُّهَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى جلالته ومحله من العربية هذه كلها بِالْيَاءِ، لِأَنَّ الْيَاءَ اسْمٌ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ النُّونُ لعلة. فإن قيل: فهذه صفة تجميع الْخَلْقِ فَكَيْفَ جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ دَلِيلًا عَلَى هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهَا غَيْرُهُ؟ قِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهَا احْتِجَاجًا عَلَى وُجُوبِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَنْعَمَ وَجَبَ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى لِيَلْتَزِمَ غَيْرُهُ مِنَ الطَّاعَةِ مَا قَدِ الْتَزَمَهَا، وَهَذَا إِلْزَامٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَتَجَوَّزَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ فِي غَوَامِضِ الْمَعَانِي فَعَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ إِلَى مَا تَدْفَعُهُ بَدَائَةُ الْعُقُولِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ:» وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ«أَيْ يُطْعِمُنِي لَذَّةَ الْإِيمَانِ وَيَسْقِينِ حَلَاوَةَ الْقَبُولِ. وَلَهُمْ فِي قَوْلِهِ:» وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ«وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- إِذَا مَرِضْتُ بِمُخَالَفَتِهِ شَفَانِي بِرَحْمَتِهِ. الثَّانِي- إِذَا مَرِضْتُ بِمُقَاسَاةِ الْخَلْقِ، شَفَانِي بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِّ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: إِذَا مَرِضْتُ بِالذُّنُوبِ شَفَانِي بِالتَّوْبَةِ. وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ:» وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ«عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَالَّذِي يُمِيتُنِي بِالْمَعَاصِي يُحْيِينِي بِالطَّاعَاتِ. الثَّانِي: يميتني بالخوف يحييني بِالرَّجَاءِ. الثَّالِثُ: يُمِيتُنِي، بِالطَّمَعِ وَيُحْيِينِي بِالْقَنَاعَةِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: يُمِيتُنِي بِالْعَدْلِ وَيُحْيِينِي بِالْفَضْلِ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: يُمِيتُنِي بِالْفِرَاقِ وَيُحْيِينِي بِالتَّلَاقِ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: يُمِيتُنِي بِالْجَهْلِ وَيُحْيِينِي بِالْعَقْلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْغَامِضَةَ، وَالْأُمُورَ الْبَاطِنَةَ، إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ حَذَقَ وَعَرَفَ الْحَقَّ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي عَمًى عَنِ الْحَقِّ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ فَكَيْفَ تُرْمَزُ لَهُ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ، وَتُتْرَكُ الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ؟ هَذَا مُحَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)» أَطْمَعُ«أَيْ أَرْجُو. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ، وَبِمَعْنَى الرَّجَاءِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ سِوَاهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ:» خَطَايَايَ" وَقَالَ: لَيْسَتْ خَطِيئَةً وَاحِدَةً. قَالَ النَّحَّاسُ: خَطِيئَةٌ بمعنى

خَطَايَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّوْحِيدِ فِي قَوْلِهِ عز وجل» فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ«وَمَعْنَاهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَكَذَا» وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ«مَعْنَاهُ الصَّلَوَاتُ، وَكَذَا» خَطِيئَتِي«إِنْ كَانَتْ خَطَايَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي بِخَطِيئَتِهِ قَوْلَهُ:» بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا«وَقَوْلَهُ:» إِنِّي سَقِيمٌ«وَقَوْلَهُ: إِنَّ سَارَّةَ أُخْتُهُ. زَادَ الْحَسَنُ وَقَوْلُهُ لِلْكَوْكَبِ:» هَذَا رَبِّي«وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا مُسْتَوْفًى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَنْبِيَاءُ بَشَرٌ فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطِيئَةُ، نَعَمْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَبَائِرُ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْهَا. (يَوْمَ الدِّينِ) يَوْمَ الْجَزَاءِ حَيْثُ يُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِظْهَارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ:» لَا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يوما«مرب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٨٣ الى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) «حُكْمًا» مَعْرِفَةً بِكَ وَبِحُدُودِكَ وَأَحْكَامِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَهْمًا وَعِلْمًا وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ. وقال الكلبي: نبوة رسالة إِلَى الْخَلْقِ.«وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» أَيْ بِالنَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي فِي الدَّرَجَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ قَوْلِهِ:«هَبْ لِي حُكْمًا». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اجْتِمَاعُ الْأُمَمِ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَخُلْدُ الْمَكَانَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَلِكَ أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ، وَكُلَّ أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَهُوَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ سُؤَالُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ

مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ، فَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا بِتَحَكُّمٍ عَلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ الدُّعَاءَ الْحَسَنَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الثَّوَابِ مَطْلُوبَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ. قُلْتُ: وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ أَحَدٌ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَخَاصَّةً فِي الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى الْمَنَابِرِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْحَالَاتِ وَأَفْضَلُ الدَّرَجَاتِ. وَالصَّلَاةُ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ. والمراد باللسان الْقَوْلُ، وَأَصْلُهُ جَارِحَةُ الْكَلَامِ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: وَمَوْضِعُ اللِّسَانِ مَوْضِعُ الْقَوْلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، وَقَدْ تُكَنِّي الْعَرَبُ بِهَا عَنِ الْكَلِمَةِ. قَالَ الْأَعْشَى:
إِنِّي أَتَتْنِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ بِهَا ... مِنْ عَلْوُ لَا عَجَبٌ مِنْهَا وَلَا سَخَرُ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُرْوَى مِنْ عَلْوُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. أَيْ أَتَانِي خَبَرٌ مِنْ أَعْلَى، وَالتَّأْنِيثُ لِلْكَلِمَةِ. وَكَانَ قَدْ أَتَاهُ خَبَرُ مَقْتَلِ أَخِيهِ الْمُنْتَشِرِ. رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ قَالَ اللَّهُ عز وجلوَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ، إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» وَقَالَ:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَثَنَاءً حَسَنًا، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:«وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» عَلَى اسْتِحْبَابِ اكْتِسَابِ مَا يُورِثُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ. اللَّيْثُ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِذْ هِيَ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ. قِيلَ:
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُيُوخِ. الزُّهْدِ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» [الْحَدِيثَ] وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آخِرِ«آل عمران» «١» والحمد لله.


(١). راجع ج ٤ ص ٣٢٣ طبعه أولى أو ثانية.

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) دُعَاءٌ بِالْجَنَّةِ وَبِمَنْ يَرِثُهَا، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: لَا أَسْأَلُ جَنَّةً وَلَا نَارًا. قَوْلُهُ تعالى: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) كَانَ أَبُوهُ وَعَدَهُ فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ لِهَذَا، فَلَمَّا بَانَ أَنَّهُ لَا يَفِي بِمَا قَالَ تَبَرَّأَ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى.«إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» أَيِ الْمُشْرِكِينَ. وَ«كانَ» زَائِدَةٌ. (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أَيْ لَا تَفْضَحْنِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، أَوْ لَا تُعَذِّبْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَرَى أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ» وَالْغَبَرَةُ هِيَ الْقَتَرَةُ. وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:«يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يا رب إنك وعدتني إلا تخزيني يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ» انْفَرَدَ بِهِمَا الْبُخَارِيُّ رحمه الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) «يَوْمَ» بَدَلٌ مِنْ«يَوْمَ» الْأَوَّلِ. أَيْ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:«وَلا بَنُونَ» الْأَعْوَانُ، لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ فَغَيْرُهُ مَتَى يَنْفَعُ؟ وَقِيلَ: ذَكَرَ الْبَنِينَ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ لَمْ يَنْفَعْهُ إِبْرَاهِيمُ.«إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْكَافِرِينَ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُ مَالُهُ وَلَا بَنُوهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، أَيْ لَكِنْ«مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» يَنْفَعُهُ لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ. وَخَصَّ الْقَلْبَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ الَّذِي إِذَا سَلِمَ سَلِمَتِ الْجَوَارِحُ، وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَتْ سَائِرُ الْجَوَارِحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ«الْبَقَرَةِ» «١». وَاخْتُلِفَ فِي الْقَلْبِ السَّلِيمِ فَقِيلَ: مِنَ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ، فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ الصَّحِيحُ هُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، لِأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مَرِيضٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ السَّيَّارِيُّ: هُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي عَنِ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سَلِيمٌ مِنْ آفَةِ الْمَالِ وَالْبَنِينَ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: السَّلِيمُ فِي اللُّغَةِ اللَّدِيغُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَلْبٌ كَاللَّدِيغِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّلِيمُ الْخَالِصُ.


(١). راجع ج ١ ص ١٨٧ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.

قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَقْوَالِ بِعُمُومِهِ وَهُوَ حَسَنٌ، أَيِ الْخَالِصُ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمُتَّصِفُ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا بَنِيَّ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:«يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ» يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي أنها خالية من ذَنْبٍ، سَلِيمَةٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، لَا خِبْرَةَ لَهُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، كَمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. أَيِ الْبُلْهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَبْلَهُ هُنَا هُوَ الَّذِي طُبِعَ عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ غَافِلٌ عَنِ الشَّرِّ لَا يَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْبُلْهُ هُمُ الَّذِينَ غَلَبَتْ عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٩٠ الى ١٠٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أَيْ قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ لِيَدْخُلُوهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَرُبَ دُخُولُهُمْ إياها. (وَبُرِّزَتِ) أَيْ أُظْهِرَتِ (الْجَحِيمُ) يَعْنِي جَهَنَّمَ. (لِلْغاوِينَ)

أَيِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ضَلُّوا عَنِ الْهُدَى. أَيْ تَظْهَرُ جَهَنَّمُ لِأَهْلِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَسْتَشْعِرُوا الرَّوْعَ وَالْحُزْنَ، كَمَا يَسْتَشْعِرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْفَرَحَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ- دُونِ اللَّهِ) مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لِأَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا كُلُّهُ تَوْبِيخٌ. (فَكُبْكِبُوا فِيها) أي قلبوا على رؤوسهم. وَقِيلَ: دُهْوِرُوا وَأُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: جُمِعُوا. مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَبْكَبَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ كَوْكَبِ الشَّيْءِ أَيْ مُعْظَمِهِ. وَالْجَمَاعَةُ مِنَ الْخَيْلِ كَوْكَبٌ وَكَبْكَبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعُوا فَطُرِحُوا فِي النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دُهْوِرُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قُذِفُوا. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. تَقُولُ: دَهْوَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتَهُ ثُمَّ قَذَفْتَهُ فِي مَهْوَاةٍ. يُقَالُ: هُوَ يُدَهْوِرُ اللُّقَمَ إِذَا كَبَّرَهَا. وَيُقَالُ: فِي الدُّعَاءِ كَبَّ اللَّهُ عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقَالُ أَكَبَّهُ. وَكَبْكَبَهُ، أَيْ كَبَّهُ وَقَلَبَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَكُبْكِبُوا فِيها» وَالْأَصْلُ كُبِّبُوا فَأُبْدِلَ مِنَ الْبَاءِ الْوُسْطَى كَافٌ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ الْبَاءَاتِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ في«فَكُبْكِبُوا» لمشركي العرب (وَالْغاوُونَ) الآلهة. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) مَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ دَعَاهُ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَاتَّبَعَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ:«الْغاوُونَ» هُمُ الشَّيَاطِينُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تُلْقَى الْأَصْنَامُ فِي النَّارِ وَهِيَ حَدِيدٌ وَنُحَاسٌ لِيُعَذَّبَ بِهَا غَيْرُهُمْ. (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) يَعْنِي الْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْغَاوِينَ وَالْمَعْبُودِينَ اخْتَصَمُوا حِينَئِذٍ. (تَاللَّهِ) حَلَفُوا بِاللَّهِ (إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أَيْ فِي خَسَارٍ وَتَبَارٍ وَحَيْرَةٍ عَنِ الحق بينة إذا اتَّخَذْنَا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً فَعَبَدْنَاهَا كَمَا يُعْبَدُ، وهذا معنى قوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أَيْ فِي الْعِبَادَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْآنَ نَصْرَنَا وَلَا نَصْرَ أَنْفُسِكُمْ. (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) يَعْنِي الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ زَيَّنُوا لَنَا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. وَقِيلَ: أَسْلَافُنَا الَّذِينَ قَلَّدْنَاهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ:«الْمُجْرِمُونَ» إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ الْقَاتِلُ هُمَا أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ وَأَنْوَاعَ الْمَعَاصِي. (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) أَيْ شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَنَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أَيْ صَدِيقٍ مُشْفِقٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةُ الدُّنْيَا وَعُدَّةُ الآخرة،

أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ:«فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجُمِعَ الشَّافِعُ لِكَثْرَةِ الشَّافِعِينَ وَوُحِّدَ الصَّدِيقُ لِقِلَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا امْتُحِنَ بِإِرْهَاقِ ظَالِمٍ مَضَتْ جَمَاعَةٌ وَافِرَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِشَفَاعَتِهِ، رَحْمَةً لَهُ وَحِسْبَةً وَإِنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِأَكْثَرِهِمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَمَّا الصَّدِيقُ فَهُوَ الصَّادِقُ فِي وِدَادِكَ الَّذِي يُهِمُّهُ مَا يُهِمُّكَ فَأَعَزُّ مِنْ بِيضِ الْأُنُوقِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّدِيقِ فَقَالَ: اسْمٌ لَا مَعْنَى لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الْجَمْعَ. وَالْحَمِيمِ الْقَرِيبَ وَالْخَاصَّ، وَمِنْهُ حَامَّةُ الرَّجُلِ أَيْ أَقْرِبَاؤُهُ. وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ، وَمِنْهُ الْحَمَّامُ وَالْحُمَّى، فَحَامَّةُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يُحْرِقُهُمْ ما أحرقه، يقال: هم حُزَانَتُهُ أَيْ يُحْزِنُهُمْ مَا يُحْزِنُهُ. وَيُقَالُ: حُمَّ الشَّيْءُ وَأَحَمَّ إِذَا قَرُبَ، وَمِنْهُ الْحُمَّى، لِأَنَّهَا تُقَرِّبُ مِنَ الْأَجَلِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَرِيبُ حَمِيمًا، لِأَنَّهُ يُحْمَى لِغَضَبِ صَاحِبِهِ، فَجَعَلَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْحَمِيَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُذْهِبُ اللَّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوَدَّةَ الصَّدِيقِ وَرِقَّةَ الْحَمِيمِ. وَيَجُوزُ:«وَلَا صَدِيقٌ حَمِيمٌ» بِالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِعِ«مِنْ شافِعِينَ»، لِأَنَّ«مِنْ شافِعِينَ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَجَمْعُ صَدِيقٍ أَصْدِقَاءُ وَصُدَقَاءُ وَصِدَاقٌ. وَلَا يُقَالُ صُدُقٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ النَّعْتِ وَغَيْرِهِ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ: أَنَّهُ يُقَالُ فِي جَمْعِهِ صُدْقَانُ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا جَمْعُ مَا لَيْسَ بِنَعْتٍ نَحْوَ رَغِيفٍ وَرُغْفَانٍ. وحكموا أيضا صديق وأ صادق. وأفاعل إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ أَفْعَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَعْتًا نَحْوَ أَشْجَعَ وَأَشَاجِعَ. وَيُقَالُ: صَدِيقٌ لِلْوَاحِدِ والجماعة وللمرأة، قال الشاعر «١»:
نَصَبْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبُنَا ... بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ
وَيُقَالُ: فُلَانٌ صَدِيقِي أَيْ أَخَصُّ أَصْدِقَائِي، وَإِنَّمَا يُصَغَّرُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ، كَقَوْلِ حباب ابن الْمُنْذِرِ:
أَنَا جُذَيْلُهَا «٢» الْمُحَكَّكُ ... وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ
ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. النَّحَّاسُ: وَجَمْعُ حَمِيمٍ أَحِمَّاءٌ وَأَحِمَّةٌ وَكَرِهُوا أفعلاء للتضعيف. (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) «أَنَّ» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، الْمَعْنَى وَلَوْ وَقَعَ لَنَا رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا لَآمَنَّا حَتَّى يَكُونَ لَنَا شُفَعَاءُ. تَمَنَّوْا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنِّي.


(١). هو جرير.
(٢). عنى بجذيلها المحك الأصل من الشجرة- أو عود ينصب- تحتك به الإبل فتشتفي به، أي جربتني الأمور ولي علم وراي يشتفى بهما كما تشتفي هذه الإبل الجربي بهذا الجذيل. والترجيب هنا إرفاد النخلة من جانب ليمنعها من السقوط، أي إن لي عشيرة تعضدني وتمنعني. والعذيق تصغير عذق (بالفتح) وهي النخلة بحملها.

وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ حِينَ شَفَعَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:» إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَصَدِيقُهُ فِي الْجَحِيمِ فَلَا يَزَالُ يَشْفَعُ لَهُ حَتَّى يُشَفِّعَهُ اللَّهُ فِيهِ فَإِذَا نَجَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ:«فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ». وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا اجْتَمَعَ مَلَأٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فِيهِمْ عَبْدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا شَفَّعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَإِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَيَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ شَافِعُونَ مُشَفَّعُونَ. وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا صَدِيقَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَمُرُّ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ مَا بَقِيَ لِي إِلَّا حَسَنَةً وَاحِدَةً أَنْجُو بِهَا، خُذْهَا أَنْتَ يَا أَخِي فَتَنْجُو بِهَا مِمَّا أَرَى، وَأَبْقَى أَنَا وَإِيَّاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. قَالَ: فَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تَقَدَّمَ وَالْحَمْدُ لله.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) قَالَ«كَذَّبَتْ» وَالْقَوْمُ مُذَكَّرٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَذَّبَتْ جَمَاعَةُ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَالَ:«الْمُرْسَلِينَ» لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا فَقَدْ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَأْمُرُ بِتَصْدِيقِ جَمِيعِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: كَذَّبُوا نُوحًا فِي النُّبُوَّةِ وَفِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ مَجِيءِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْجِنْسَ وَالْمُرَادُ نُوحٌ عليه السلام. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي«الْفُرْقَانِ» «١». (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) أَيِ ابْنُ أَبِيهِمْ وَهِيَ أُخُوَّةُ نَسَبٍ لَا أُخُوَّةُ دِينٍ. وَقِيلَ: هِيَ أُخُوَّةُ الْمُجَانَسَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي«الْأَعْرَافِ» «٢». وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمِ. يُرِيدُونَ يَا وَاحِدًا مِنْهُمْ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانًا
(أَلا تَتَّقُونَ) أَيْ أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أَيْ صَادِقٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ:«أَمِينٌ» فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَفُوا أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ مِنْ قَبْلُ كَمُحَمَّدٍ ﷺ فِي قُرَيْشٍ. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ فَاسْتَتِرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِقَابِهِ. (وَأَطِيعُونِ) فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ من الايمان. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ لَا طَمَعَ لِي في مالكم. (إِنْ أَجْرِيَ) أَيْ مَا جَزَائِي (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) كُرِّرَ تَأْكِيدًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ» أَيْ نُصَدِّقُ قَوْلَكَ.«وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» الْوَاوُ لِلْحَالِ وَفِيهِ إِضْمَارُ قَدْ، أَيْ وَقَدِ اتَّبَعَكَ.«الْأَرْذَلُونَ» جَمْعُ الْأَرْذَلِ، الْمُكَسَّرُ الْأَرَاذِلُ وَالْأُنْثَى الرُّذْلَى وَالْجَمْعُ الرُّذْلُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ في شي مِنْ هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلِمْنَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكُ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيِّ وَغَيْرُهُمْ،


(١). راجع ص ١ ٣ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٣٥ طبعه أولى أو ثانية.

«وَأَتْبَاعُكَ الْأَرْذَلُونَ». النَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، وَهَذِهِ الواو أكثرها تتبعها الأسماء والافعال بقد. وَأَتْبَاعٌ جَمْعُ تَبَعٍ وَتَبِيعٍ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُ تَبَعٌ قَدْ يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ ... عَلَى مَنْ يُدَانِي صَيِّفٌ وَرَبِيعُ
ارْتِفَاعُ«أَتْبَاعُكَ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالِابْتِدَاءِ وَ«الْأَرْذَلُونَ» الْخَبَرُ، التَّقْدِيرُ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَإِنَّمَا أَتْبَاعُكُ الْأَرْذَلُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ:«أَنُؤْمِنُ لَكَ» وَالتَّقْدِيرُ: أَنُؤْمِنُ لَكَ نَحْنُ وَأَتْبَاعُكَ الْأَرْذَلُونَ فَنُعَدُّ مِنْهُمْ، وَحَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بِقَوْلِهِ:«لَكَ» وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْأَرَاذِلِ فِي سُورَةِ«هُودٍ» «١» مُسْتَوْفًى. وَنَزِيدُهُ هُنَا بَيَانًا وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ: الثَّانِيَةُ- فَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بَنُوهُ وَنِسَاؤُهُ وَكِنَّاتُهُ وَبَنُو بَنِيهِ. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ أَمْ لَا. وَعَلَى أَيِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَالْكُلُّ صَالِحُونَ، وَقَدْ قَالَ نُوحٌ:«وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْكَفَرَةِ شَيْنٌ وَلَا ذَمٌّ بَلِ الْأَرْذَلُونَ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ لَهُمْ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ أُغْرِيَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ بِمَقَالَةٍ رُوِيَتْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الْحَاكَةُ وَالْحَجَّامُونَ. وَلَوْ كَانُوا حَاكَةً كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِنَبِيِّ اللَّهِ وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ مُشَرِّفًا كَمَا تَشَرَّفَ بِلَالٌ وَسَلْمَانُ بِسَبْقِهِمَا لِلْإِسْلَامِ، فَهُمَا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَنْ أَكَابِرِهِمْ، فَلَا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ كَانُوا حَاكَةً وَلَا حَجَّامِينَ، وَلَا قَوْلَ الْكَفَرَةِ فِي الْحَاكَةِ وَالْحَجَّامِينَ إِنْ كَانُوا آمنوا بهم أَرْذَلُونَ مَا يُلْحِقُ الْيَوْمَ بِحَاكَتِنَا ذَمًّا وَلَا نَقْصًا، لِأَنَّ هَذِهِ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْكَفَرَةِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْكَفَرَةُ حُجَّةً وَمَقَالَتَهُمْ أَصْلًا، وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصِّنَاعَاتِ لَيْسَتْ بِضَائِرَةٍ فِي الدِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) «كَانَ» زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: وَمَا عِلْمِي بِمَا يَعْمَلُونَ، أَيْ لَمْ أُكَلَّفِ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمْ إِنَّمَا كُلِّفْتُ أَنْ أَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَالِاعْتِبَارِ بِالْإِيمَانِ لَا بِالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا اتَّبَعَكَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءُ طَمَعًا فِي الْعِزَّةِ وَالْمَالِ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا إِلَيَّ ظاهرهم. وقيل: المعنى إني


(١). راجع ج ٩ ص ٢٣ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.

لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ وَيُضِلُّكُمْ وَيُرْشِدُهُمْ وَيُغْوِيكُمْ وَيُوَفِّقُهُمْ وَيَخْذُلُكُمْ. (إِنْ حِسابُهُمْ) أَيْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ (إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) وَجَوَابُ«لَوْ» مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْ شَعَرْتُمْ أَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ لَمَا عِبْتُمُوهُمْ بِصَنَائِعِهِمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:«تَشْعُرُونَ» بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ السميقع:«لو يشعرون» بالياء كأنه خبر عَنِ الْكُفَّارِ وَتَرَكَ الْخِطَابَ لَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ:«حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ». وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سُفْيَانَ عَنِ امْرَأَةٍ زَنَتْ وَقَتَلَتْ وَلَدَهَا وَهِيَ مُسْلِمَةٌ هَلْ يُقْطَعُ لَهَا بِالنَّارِ؟ فَقَالَ:«إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ». (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ لِخَسَاسَةِ أَحْوَالِهِمْ وَأَشْغَالِهِمْ. وَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ طَرْدَ الضُّعَفَاءِ كَمَا طَلَبَتْهُ قُرَيْشٌ. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ مَا أَرْسَلَنِي أَخُصُّ ذَوِي الْغِنَى دُونَ الْفُقَرَاءِ، إِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، فَمَنْ أَطَاعَنِي فَذَلِكَ السَّعِيدُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ) أَيْ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَعَيْبِ دِينِنَا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أَيْ بِالْحِجَارَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: مِنَ الْمَقْتُولِينَ. قَالَ الثُّمَالِيُّ: كُلُّ مَرْجُومِينَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الْقَتْلُ إِلَّا فِي مَرْيَمَ:«لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ» أَيْ لَأَسُبَّنَّكَ. وَقِيلَ:«مِنَ الْمَرْجُومِينَ» مِنَ المشتومين، قاله السدى. ومنه قول، أبى دواد «١». (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ ذَلِكَ لَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَالْفَتْحُ الْحُكْمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يُرِيدُ السَّفِينَةَ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهَا. وَالْمَشْحُونُ الْمَمْلُوءُ، وَالشَّحْنُ مَلْءُ السَّفِينَةِ بِالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وغيرهم. ولم يؤنث الفلك ها هنا، لان الفلك ها هنا وَاحِدٌ لَا جَمْعٌ. (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أَيْ بَعْدَ إِنْجَائِنَا نُوحًا وَمَنْ آمَنَ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).


(١). كذا في جميع نسخ الأصل، وهنا سقط لعله بيت من الشعر أورده المؤلف شاهدا على أن الرجم معناه الشتم، كما أورد بيت الجعدي شاهدا على ذلك عند تفسير قوله تعالى:«وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ». راجع ج ٩ ص ٩١

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) التَّأْنِيثُ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتَكْذِيبُهُمُ الْمُرْسَلِينَ كَمَا تَقَدَّمَ. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) بَيِّنٌ الْمَعْنَى وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) الرِّيعُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، جَمْعُ رِيعَةٍ. وَكَمْ رِيعُ أَرْضِكَ أَيْ كَمِ ارْتِفَاعُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّيعُ الطَّرِيقُ. وهو قول الضحاك والكلبي ومقاتل والسدي. وقال ابن عباس أيضا. ومنه قول المسيب ابن عَلَسٍ:
فِي الْآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا ... رِيعٌ يَلُوحُ كأنه سحل

شَبَّهَ الطَّرِيقَ بِثَوْبٍ أَبْيَضَ. النَّحَّاسُ: وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ ريع وللطريق ريع. قال الشاعر «١»:
طِرَاقُ الْخَوَافِي مَشْرِقٌ فَوْقَ رِيعَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقَالَ عُمَارَةُ: الرِّيعُ الْجَبَلُ الْوَاحِدُ رِيعَةٌ وَالْجَمْعُ رِيَاعٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَعَنْهُ: الثَّنِيَّةُ الصَّغِيرَةُ. وَعَنْهُ: الْمَنْظَرَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: كَانُوا يَهْتَدُونَ بِالنُّجُومِ إِذَا سَافَرُوا، فَبَنَوْا عَلَى الطَّرِيقِ أَمْثَالًا طِوَالًا ليهتدوا بها: يدل عليه قوله«آيَةً» أَيْ عَلَامَةً. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّيعُ بُنْيَانُ الْحَمَامِ دَلِيلُهُ«تَعْبَثُونَ» أَيْ تَلْعَبُونَ، أَيْ تَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ آيَةً. عَلَمًا تَلْعَبُونَ بِهَا عَلَى مَعْنَى أَبْنِيَةِ الْحَمَامِ وَبُرُوجِهَا. وَقِيلَ: تَعْبَثُونَ بِمَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ. أَيْ تَبْنُونَ بِكُلِّ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ لِتُشْرِفُوا عَلَى السَّابِلَةِ فَتَسْخَرُوا مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَبَثُ الْعَشَّارِينَ بِأَمْوَالِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الربع الصَّوْمَعَةُ، وَالرِّيعُ الْبُرْجُ مِنَ الْحَمَامِ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ. وَالرِّيعُ التَّلُّ الْعَالِي. وَفِي الرِّيعِ لُغَتَانِ: كَسْرُ الرَّاءِ وَفَتْحُهَا وَجَمْعُهَا أَرْيَاعٌ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) أَيْ مَنَازِلَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: حُصُونًا مُشَيَّدَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَرَكْنَا دِيَارَهُمْ مِنْهُمْ قِفَارًا ... وَهَدَّمْنَا الْمَصَانِعَ وَالْبُرُوجَا
وَقِيلَ: قُصُورًا مُشَيَّدَةً، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. وَعَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الرِّيعِ أَنَّهُ بُنْيَانُ الْحَمَامِ فَيَكُونُ تَكْرَارًا فِي الْكَلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَآجِلُ لِلْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ. وَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا مَصَانِعُ الْمَاءِ، وَاحِدَتُهَا مُصْنَعَةٌ وَمَصْنَعٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
بَلِينَا وَمَا تَبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ ... وَتَبْقَى الجبال بعدنا والمصانع


(١). هو ذو الرمة يصف بازيا. وفي ديوانه- طبع أوربا-«واقع» بدل«مشرق». [.....]

الْجَوْهَرِيُّ: الْمُصْنَعَةُ كَالْحَوْضِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ الْمُصْنُعَةُ بِضَمِّ النُّونِ. وَالْمَصَانِعُ الْحُصُونُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِكُلِّ بِنَاءٍ مُصْنُعَةٌ. حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بِلُغَةِ الْيَمَنِ الْقُصُورُ الْعَادِيَّةُ. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أَيْ كَيْ تَخْلُدُوا. وَقِيلَ: لَعَلَّ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ أَيْ فَهَلْ«تَخْلُدُونَ» كَقَوْلِكَ: لَعَلَّكَ تَشْتُمُنِي أَيْ هَلْ تَشْتُمُنِي. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَيْمَا تَخْلُدُونَ لَا تَتَفَكَّرُونَ فِي الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ بَاقُونَ فِيهَا. وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ«كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ» «١» ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَحَكَى قَتَادَةُ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ«كَأَنَّكُمْ خَالِدُونَ». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الْبَطْشُ السَّطْوَةُ وَالْأَخْذُ بِالْعُنْفِ. وَقَدْ بَطَشَ بِهِ يَبْطُشُ وَيَبْطِشُ بَطْشًا. وَبَاطَشَهُ مُبَاطَشَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْبَطْشُ الْعَسْفُ قَتْلًا بِالسَّيْفِ وَضَرْبًا بِالسَّوْطِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ظُلْمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ ضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ، وَرَوَاهُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَتْلُ بِالسَّيْفِ فِي غَيْرِ حَقٍّ. حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْحَسَنُ: هُوَ القتل على الغصب مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ. وَكُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ وَلَا إِبْقَاءٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مُوسَى:«فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ» وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ، وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكَانَتْ مَنِيَّتُهُ فِي وَكْزَتِهِ. وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ وَأَقَلُّهُ الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ، وَيَلِيهُ السَّوْطُ وَالْعَصَا، وَيَلِيهُ الْحَدِيدُ، وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إِلَّا بِحَقٍّ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ خَبَرًا عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، وَوَعْظًا مِنَ اللَّهِ عز وجل لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الْمَذْمُومَةُ قَدْ صَارَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا سِيَّمَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُنْذُ وَلِيَتْهَا الْبَحْرِيَّةُ، فَيَبْطِشُونَ «٢» بِالنَّاسِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَقَدْ أخبر صلى


(١). مبنى للمفعول مخففا ومشددا.
(٢). البحرية: هم من المماليك الأتراك الذين استخدمهم الملك الصالح الايوبي، وأسكنهم جزيرة الروضة. وأول ملوكهم عز الدين أيبك. وكانت مدة حكمهم من سنة ٧٨٤ - ٦٤٨ هـ.

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وكذا». وخرج أبو داود مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:«إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ «١» وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ».«جَبَّارِينَ» قَتَّالِينَ. وَالْجَبَّارُ الْقَتَّالُ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:«إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ» قاله الهروي. وقيل: لجبار الْمُتَسَلِّطُ الْعَاتِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» أَيْ بِمُسَلَّطٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
سَلَبْنَا مِنَ الْجَبَّارِ بِالسَّيْفِ مُلْكَهُ ... عَشِيًّا وَأَطْرَافُ الرِّمَاحِ شَوَارِعُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تَقَدَّمَ. (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) أَيْ مِنَ الْخَيْرَاتِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ:«أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» أَيْ سَخَّرَ ذَلِكَ لَكُمْ وَتَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُشْكَرَ وَلَا يُكْفَرَ. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إِنْ كَفَرْتُمْ بِهِ وَأَصْرَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ. (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ لَا نَسْمَعُ مِنْكَ وَلَا نَلْوِي عَلَى مَا تَقُولُهُ. وَرَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَبِشْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ:«أَوَعَظْتَ» مُدْغَمَةٌ الظَّاءِ فِي التَّاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الظَّاءَ حَرْفُ إِطْبَاقٍ إِنَّمَا يُدْغَمُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ جِدًّا وَكَانَ مِثْلَهُ وَمَخْرَجَهُ. (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ دِينُهُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَادَةُ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ:«خَلْقُ الْأَوَّلِينَ». الْبَاقُونَ«خُلُقُ». قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَوْلُهُ عز وجلإِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأولين» أي اختلافهم وَكَذِبُهُمْ، وَمَنْ قَرَأَ:«خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» فَمَعْنَاهُ عَادَتُهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ بِأَحَادِيثِ الْخُلُقِ أَيْ بالخرافات والأحاديث المفتعلة. وقال ابن الاعرابي:


(١). العينة أن تبيع مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ معلوم ثم تشتريها منه بأقل من الثمن الذي بعتها به.

الْخُلُقُ الدِّينُ وَالْخُلُقُ الطَّبْعُ وَالْخُلُقُ الْمُرُوءَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ:» خُلُقُ الْأَوَّلِينَ«عِنْدَ الْفَرَّاءِ يَعْنِي عَادَةَ الْأَوَّلِينَ. وَحَكَى لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:» خُلُقُ الْأَوَّلِينَ«مَذْهَبُهُمْ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» أَيْ أَحْسَنُهُمْ مَذْهَبًا وَعَادَةً وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ فَاجِرًا فَاضِلًا، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ إِيمَانًا مِنَ السَّيِّئِ الْخُلُقِ الَّذِي لَيْسَ بِفَاجِرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حُكِيَ لَنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ مَعْنَى«خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» تَكْذِيبُهُمْ وَتَخَرُّصُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ فِيهَا مَدْحَ آبَائِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ الْقُرْآنُ فِي صِفَتِهِمْ مَدْحُهُمْ لِآبَائِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ:«إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ». وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّهُ قَرَأَ:«خُلْقُ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ تَخْفِيفُ«خُلُقُ». وَرَوَاهَا ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ عَنْ نَافِعٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى«خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» دِينُ الْأَوَّلِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» أَيْ دِينَ اللَّهِ. وَ«خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» عَادَةُ الْأَوَّلِينَ: حَيَاةٌ ثُمَّ مَوْتٌ وَلَا بَعْثَ. وَقِيلَ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْكَرْتَ عَلَيْنَا مِنَ الْبُنْيَانِ وَالْبَطْشِ إِلَّا عَادَةُ مَنْ قَبْلَنَا فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) عَلَى مَا نَفْعَلُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى خَلْقُ أَجْسَامِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ مَا خُلِقْنَا إِلَّا كَخَلْقِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ خُلِقُوا قبلنا وماتوا، ولم ينزل بهم شي مِمَّا تُحَذِّرُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أَيْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي«الْحَاقَّةِ». (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْلَمَ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَمِئُونَ وَهَلَكَ بَاقِيهِمْ. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ

طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) ذِكْرُ قِصَّةِ صَالِحٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ ثَمُودُ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي«الْحِجْرِ» «١» وَهِيَ ذَوَاتُ نَخْلٍ وَزُرُوعٍ وَمِيَاهٍ. (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهُنا آمِنِينَ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا آمِنِينَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا مُعَمِّرِينَ لَا يَبْقَى الْبُنْيَانُ مَعَ أَعْمَارِهِمْ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ:«وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» فَقَرَّعَهُمْ صَالِحٌ وَوَبَّخَهُمْ وَقَالَ: أَتَظُنُّونَ أَنَّكُمْ بَاقُونَ فِي الدُّنْيَا بِلَا مَوْتٍ (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ). الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قَالَ:«وَنَخْلٍ» بَعْدَ قَوْلِهِ: وَ«جَنَّاتٍ» وَالْجَنَّاتُ تَتَنَاوَلُ النَّخْلَ أَوَّلَ شي كَمَا يَتَنَاوَلُ النَّعَمُ الْإِبِلَ كَذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْأَزْوَاجِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَذْكُرُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَقْصِدُونَ إِلَّا النَّخْلَ، كَمَا يَذْكُرُونَ النَّعَمَ وَلَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْإِبِلَ قَالَ زُهَيْرٌ:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
يَعْنِي النَّخْلَ، وَالنَّخْلَةُ السَّحُوقُ الْبَعِيدَةُ الطُّولِ. قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا- أَنْ يُخَصَّ النَّخْلُ بِإِفْرَادِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ سَائِرِ الشَّجَرِ تَنْبِيهًا عَلَى انْفِرَادِهِ عَنْهَا بِفَضْلِهِ عَنْهَا. وَالثَّانِي- أَنْ يُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ غَيْرَهَا مِنَ الشَّجَرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ


(١). راجع ج ١٠ ص ٤٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.

يَصْلُحُ لِذَلِكَ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا النَّخْلُ. وَالطَّلْعَةُ هِيَ الَّتِي تَطْلُعُ مِنَ النَّخْلَةِ كَنَصْلِ السَّيْفِ، فِي جَوْفِهِ شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَالْقِنْوُ اسْمٌ لِلْخَارِجِ مِنَ الْجِذْعِ كَمَا هُوَ بِعُرْجُونِهِ وَشَمَارِيخِهِ. وَ«هَضِيمٌ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطِيفٌ مَا دَامَ فِي كُفُرَّاهُ. وَالْهَضِيمُ اللَّطِيفُ الدَّقِيقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امرئ القيس:
عَلَيَّ هَضِيمَ الْكَشْحِ رَيَّا الْمُخَلْخَلِ «١»

الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ لِلطَّلْعِ هَضِيمٌ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ كُفُرَّاهُ، لِدُخُولِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ. وَالْهَضِيمُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّطِيفَةُ الْكَشْحَيْنِ. وَنَحْوَهُ حَكَى الْهَرَوِيُّ، قَالَ: هُوَ الْمُنْضَمُّ فِي وِعَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ، وَمِنْهُ رَجُلٌ هَضِيمُ الْجَنْبَيْنِ أَيْ مُنْضَمُّهُمَا، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ اثْنَي عَشَرَ قَوْلًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الرَّطْبُ اللَّيِّنُ، قال عِكْرِمَةُ. الثَّانِي- هُوَ الْمُذَنَّبُ مِنَ الرَّطْبِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ- هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ كُوفِيٌّ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ شَامِيٌّ- وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ قَالَ: مِنْهُ مَا قَدْ أَرْطَبَ وَمِنْهُ مُذَنَّبٌ. الثَّالِثُ- أَنَّهُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَوًى، قَالَهُ الْحَسَنُ. الرَّابِعُ- أَنَّهُ الْمُتَهَشِّمُ الْمُتَفَتِّتُ إِذَا مُسَّ تَفَتَّتَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَتَهَشَّمُ فِي الْفَمِ. الْخَامِسُ- هُوَ الَّذِي قَدْ ضَمَرَ بِرُكُوبِ بَعْضِهِ بَعْضًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ. السَّادِسُ- أَنَّهُ الْمُتَلَاصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، قَالَهُ أَبُو صَخْرٍ. السَّابِعُ- أَنَّهُ الطَّلْعُ حِينَ يَتَفَرَّقُ وَيَخْضَرُّ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْضًا. الثَّامِنُ- أَنَّهُ الْيَانِعُ النَّضِيجُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. التَّاسِعُ- أَنَّهُ الْمُكْتَنِزُ قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنْهُ الْقِشْرُ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ، قَالَ:
كَأَنَّ حَمُولَةً تُجْلَى عَلَيْهِ ... هَضِيمٌ مَا يُحَسُّ لَهُ شُقُوقُ
الْعَاشِرُ- أَنَّهُ الرِّخْوُ، قال الْحَسَنُ. الْحَادِي عَشَرَ- أَنَّهُ الرَّخْصُ اللَّطِيفُ أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ وَهُوَ الطَّلْعُ النَّضِيدُ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. الثَّانِي عَشَرَ- أَنَّهُ الْبَرْنِيُّ «٢»، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، فعيل بمعنى فاعل أي هنئ مرئ مِنْ انْهِضَامِ الطَّعَامِ. وَالطَّلْعُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّلُوعِ وَهُوَ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ والنبات.


(١). صدر البيت.
هصرت بفودي رأسها فمايلت

(٢). البرني: ضرب من الثمر وهو أجوده، واحدته برنية.

قوله تعالى:«وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا فارِهِينَ» النَّحْتُ النَّجْرُ وَالْبَرْيُ، نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ (بِالْكَسْرِ) نَحْتًا إِذَا بَرَاهُ والنحاتة البراية. المنحت مَا يُنْحَتُ بِهِ. وَفِي«وَالصَّافَّاتِ» قَالَ:«أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ». وَكَانُوا يَنْحِتُونَهَا مِنَ الْجِبَالِ لَمَّا طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ وَتَهَدَّمَ بِنَاؤُهُمْ مِنَ الْمَدَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ:«فَرِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ. الْبَاقُونَ:«فارِهِينَ» بِأَلِفٍ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، مِثْلُ:«عِظامًا نَخِرَةً» وَ«نَاخِرَةً». وَحَكَاهُ قُطْرُبٌ. وَحَكَى فَرُهَ يَفْرُهُ فَهُوَ فَارِهٌ وَفَرِهَ يَفْرَهُ فَهُوَ فَرِهٌ وَفَارِهٌ إِذَا كَانَ نَشِيطًا. وَهُوَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَوْمٌ فَقَالُوا:«فارِهِينَ» حَاذِقِينَ بِنَحْتِهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ:«فارِهِينَ» مُتَجَبِّرِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى«فَرِهِينَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ أَشِرِينَ بَطِرِينَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ شَرِهِينَ. الضَّحَّاكُ: كَيِّسِينَ. قَتَادَةُ: مُعْجَبِينَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَعَنْهُ: نَاعِمِينَ. وَعَنْهُ أَيْضًا آمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: مُتَخَيِّرِينَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى فَرِهٍ يُمَاجِدُ كُلَّ أَمْرٍ ... قَصَدْتُ لَهُ لِأَخْتَبِرَ الطِّبَاعَا
وَقِيلَ: مُتَعَجِّبِينَ، قَالَهُ خُصَيْفٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوِيَاءُ. وَقِيلَ: فَرِهِينَ فَرِحِينَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْحَاءِ، تَقُولُ: مَدَهْتُهُ وَمَدَحْتُهُ، فَالْفَرِهُ الْأَشِرُ الْفَرِحُ ثُمَّ الْفَرِحُ بِمَعْنَى الْمَرِحِ مَذْمُومٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا» وَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ».«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» قِيلَ: الْمُرَادُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ. وَقِيلَ: التِّسْعَةُ الرَّهْطُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى صَالِحٍ: إِنَّ قَوْمَكَ سَيَعْقِرُونَ نَاقَتَكَ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لِنَفْعَلَ. فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: إِنَّهُ سَيُولَدُ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا غُلَامٌ يَعْقِرُهَا وَيَكُونُ هَلَاكُكُمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالُوا: لَا يُولَدُ فِي هَذَا الشَّهْرِ ذَكَرٌ إِلَّا قَتَلْنَاهُ. فَوُلِدَ لِتِسْعَةٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ فَذَبَحُوا أَبْنَاءَهُمْ، ثُمَّ وُلِدَ لِلْعَاشِرِ فَأَبَى أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ وَكَانَ لَمْ يُولَدْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ الْعَاشِرَ أَزْرَقَ أَحْمَرَ فَنَبَتَ نَبَاتًا سَرِيعًا، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بِالتِّسْعَةِ فَرَأَوْهُ قَالُوا: لَوْ كَانَ أَبْنَاؤُنَا أَحْيَاءً لَكَانُوا مِثْلَ هَذَا. وَغَضِبَ

التِّسْعَةُ عَلَى صَالِحٍ، لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ قَتْلِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ فَتَعَصَّبُوا وَتَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ. قَالُوا: نَخْرُجُ إِلَى سَفَرٍ فَتَرَى النَّاسُ سَفَرَنَا فَنَكُونُ فِي غَارٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَخَرَجَ صَالِحٌ إِلَى مَسْجِدِهِ أَتَيْنَاهُ فَقَتَلْنَاهُ، ثُمَّ قُلْنَا مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، فَيُصَدِّقُونَنَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّا قَدْ خَرَجْنَا إِلَى سَفَرٍ. وَكَانَ صَالِحٌ لَا يَنَامُ مَعَهُمْ فِي [الْقَرْيَةِ وَكَانَ «١» يَأْوِي إِلَى] مَسْجِدِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ أَتَاهُمْ فَوَعَظَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْغَارَ أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ الْغَارُ فَقَتَلَهُمْ، فَرَأَى ذَلِكَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، فَصَاحُوا فِي الْقَرْيَةِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ! أَمَا رَضِيَ صَالِحٌ أَنْ أَمَرَ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ حَتَّى قَتَلَهُمْ، فَأَجْمَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ عَلَى قَتْلِ النَّاقَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّمَا اجْتَمَعَ التِّسْعَةُ عَلَى سَبِّ صَالِحٍ بَعْدَ عَقْرِهِمُ النَّاقَةَ وَإِنْذَارِهِمْ بِالْعَذَابِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ«النَّمْلِ» «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.«قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» هُوَ مِنَ السِّحْرِ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ عَلَى مَا قَالَ الْمَهْدَوِيُّ. أَيْ أُصِبْتَ بِالسِّحْرِ فَبَطَلَ عَقْلُكَ، لِأَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَلِمَ تَدَّعِ الرِّسَالَةَ دُونَنَا. وَقِيلَ: مِنَ الْمُعَلَّلِينَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ. وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنَ السَّحْرِ وَهُوَ الرِّئَةُ أَيْ بَشَرٌ لَكَ سَحْرٌ أَيْ رِئَةٌ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ مِثْلَنَا كَمَا قَالَ [لَبِيَدٌ «٣»]:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
وَقَالَ [امْرُؤُ القيس:]
ونسحر بالطعام وبالشراب «٤»

(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فِي قَوْلِكَ. (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَادْعُ اللَّهَ يُخْرِجُ لَنَا مِنْ هَذَا الْجَبَلِ نَاقَةً حَمْرَاءَ عُشَرَاءَ «٥» فَتَضَعُ وَنَحْنُ نَنْظُرُ، وَتَرِدُ هَذَا الْمَاءَ فَتَشْرَبُ وَتَغْدُو علينا بمثله لبنا. فدعا الله


(١). الزيادة من«قصص الأنبياء» للثعلبي.
(٢). في تفسير قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ».
(٣). في نسخ الأصل: امرؤ القيس، والتصويب من ديوان لبيد.
(٤). صدر البيت:
أرانا موضعين لأمر غيب

موضعين: مسرعين. وأمر غيب يريد الموت وأنه قد غيب منا وقته ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب.
(٥). ناقة عشراء: مضى لحملها عشرة أشهر.

وَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فَ«قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» أَيْ حَظٌّ [مِنَ الْمَاءِ «١»]، أَيْ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ وَلَهَا شِرْبُ يَوْمٍ، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَرْضِهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ فِي يَوْمِ وُرُودِهَا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ شِرْبِهَا شَيْئًا، وَلَا لَهَا أَنْ تَشْرَبَ فِي يَوْمِهِمْ مِنْ مَائِهِمْ شَيْئًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: الشِّرْبُ الْحَظُّ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَيُقَالُ فِيهِ شَرِبَ شَرْبًا وَشُرْبًا وَشِرْبًا وَأَكْثَرُهَا الْمَضْمُومَةُ، لِأَنَّ الْمَكْسُورَةَ وَالْمَفْتُوحَةَ يَشْتَرِكَانِ مَعَ شي آخَرَ فَيَكُونُ الشِّرْبُ الْحَظَّ مِنَ الْمَاءِ، وَيَكُونُ الشرب جمع شارب كما قال «٢»:
فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا

إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيَّ يختاران الشرب بالفتح في الصدر، وَيَحْتَجَّانِ بِرِوَايَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:«إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشَرْبٍ». (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لَا يَجُوزُ إِظْهَارُ التضعيف ها هنا، لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ مُتَحَرِّكَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. (فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النهي، ويجوز حَذْفُ الْفَاءِ مِنْهُ، وَالْجَزْمُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَمْرِ إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ يُجِيزُهُ. (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) أَيْ عَلَى عَقْرِهَا لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْظَرَهُمْ ثَلَاثًا فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَلَامَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَنَدِمُوا وَلَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: لَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا، بَلْ طَلَبُوا صَالِحًا عليه السلام لِيَقْتُلُوهُ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ: كَانَتْ نَدَامَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَلَدِ إِذْ لَمْ يَقْتُلُوهُ مَعَهَا. وَهُوَ بَعِيدٌ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إِلَى آخِرِهِ تَقَدَّمَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَا آمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ إِلَّا أَلْفَانِ وَثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. وَقِيلَ: كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ قَوْمُ صَالِحٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَبِيلٍ كُلُّ قَبِيلٍ نَحْوَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِوَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَلَقَدْ كَانَ قَوْمُ عَادٍ مِثْلَهُمْ سِتَّ مَرَّاتٍ.


(١). زيادة يقتضيها المعنى.
(٢). هو الأعشى وتمامه:
شيموا فكيف يشيم الشارب الثمل

ودرنا (بضم الدال والفتح) موضع زعموا أنه بناحية اليمامة. اللسان.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) مَضَى مَعْنَاهُ وَقِصَّتُهُ فِي«الْأَعْرَافِ» «١» وَ«هُودٍ» «٢» مُسْتَوْفًى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) كَانُوا يَنْكِحُونَهُمْ فِي أَدْبَارِهِمْ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْغُرَبَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ«فِي الْأَعْرَافِ» «٣». (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) يَعْنِي فُرُوجَ النِّسَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا لِلنِّكَاحِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ: قَالَ لِي مُجَاهِدٌ كَيْفَ يَقْرَأُ عَبْدُ اللَّهِ«وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» قُلْتُ:«وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» قَالَ: الْفَرْجُ، كَمَا قَالَ:«فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» «٤». (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أَيْ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن قولك هذا.


(١). راجع ج ٧ ص ٢٤٣ وما بعدها [.....]
(٢). وج ٩ ص ٧٣ وما بعدها.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٤٣ وما بعدها
(٤). راجع ج ٣ ص ٨٠.

(لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أَيْ مِنْ بَلَدِنَا وَقَرْيَتِنَا. (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ) يَعْنِي اللِّوَاطَ (مِنَ الْقالِينَ) أَيِ الْمُبْغِضِينَ وَالْقَلْيُ الْبُغْضُ، قَلَيْتُهُ أَقْلِيهِ قِلًى وقلاء. قال «١»:
فَلَسْتُ بِمُقَلِّي الْخِلَالَ وَلَا قَالِيَ

وَقَالَ آخَرُ «٢»:
عَلَيْكِ السَّلَامُ لَا مُلِلْتِ قَرِيبَةً ... وَمَالَكِ عِنْدِي إِنْ نَأَيْتِ قَلَاءُ
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِنْ عَذَابِ عَمَلِهِمْ. دَعَا اللَّهُ لَمَّا أَيِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَلَّا يُصِيبَهُ مِنْ عذابهم. قال تعالى: (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا ابْنَتَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي«هُودٍ» «٣». (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغابِرِينَ) رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: غَبَرَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ عز وجل أَيْ بَقِيَتْ. وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى مِنَ الْبَاقِينَ فِي الْهَرَمِ أَيْ بَقِيَتْ حَتَّى هَرِمَتْ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ لِلذَّاهِبِ غَابِرٌ وَالْبَاقِي غابر كما قَالَ «٤»:
لَا تَكْسَعُ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا تَدْرِي من الناتج
وكما قال «٥»:
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ ... لَهُ الْإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَرَ
أَيْ مَا بَقِيَ. وَالْأَغْبَارُ بَقِيَّاتُ الْأَلْبَانِ. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْخَسْفِ وَالْحَصْبِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: خَسَفَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ وَأَرْسَلَ الْحِجَارَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْقَرْيَةِ. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) يَعْنِي الْحِجَارَةَ (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ). وَقِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ خَسَفَ بِقَرْيَتِهِمْ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، ثُمَّ أَتْبَعَهَا اللَّهُ بِالْحِجَارَةِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لَمْ يَكُنْ فِيهَا مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه.


(١). هو امرؤ القيس، وصدر البيت:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

(٢). هو الحرث بن حلزة،
(٣). راجع ج ٩ ص ٧٣ فما بعد.
(٤). هو الحرث بن حلزة، وكسع الناقة بغبرها وترك في ضرعها بقية من اللبن. وبعده:
واحلب لاضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
يقول: لا تغزر إبلك تطلب بذلك قوة نسلها، واحلبها لأضيافك، فلعل عدوا يغير عليها فيكون نتاجها له دونك.
(٥). هو العجاج.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الْأَيْكُ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ الْكَثِيرُ الْوَاحِدَةُ أَيْكَةٌ. وَمَنْ قَرَأَ:«أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» فَهِيَ الْغَيْضَةُ. وَمَنْ قَرَأَ:«لَيْكَةُ» فَهُوَ اسْمُ الْقَرْيَةِ. وَيُقَالُ: هُمَا مِثْلُ بَكَّةَ وَمَكَّةَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ«كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» وَكَذَا قَرَأَ: فِي«ص». وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى الْخَفْضِ فِي الَّتِي فِي سُورَةِ«الْحِجْرِ» وَالَّتِي فِي سُورَةِ«ق» فَيَجِبُ أَنْ يُرَدَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إِذْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَنَّ«لَيكَةَ» هِيَ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فيها وأن«الْأَيْكَةِ» اسم البلد فشى لَا يَثْبُتُ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ قَالَهُ فَيَثْبُتُ عِلْمُهُ، وَلَوْ عُرِفَ مَنْ قَالَهُ لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى خِلَافِهِ.

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ عليه السلام إِلَى أُمَّتَيْنِ: إِلَى قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، قَالَ: وَالْأَيْكَةُ غَيْضَةٌ مِنْ شَجَرٍ مُلْتَفٍّ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أَهْلَ غَيْضَةٍ وَشَجَرٍ وَكَانَتْ عَامَّةُ شَجَرِهِمُ الدَّوْمَ وَهُوَ شَجَرُ الْمُقْلِ. وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: خَرَجَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ- يَعْنِي حِينَ أَصَابَهُمُ الْحَرُّ- فَانْضَمُّوا إِلَى الْغَيْضَةِ وَالشَّجَرِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا، فَلَمَّا تَكَامَلُوا تَحْتَهَا أُحْرِقُوا. ولو لم يكن في هَذَا إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَ«الْأَيْكَةِ» الشَّجَرُ. وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ اخْتِلَافًا أَنَّ الْأَيْكَةَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، فَأَمَّا احْتِجَاجُ بَعْضِ مَنِ احْتَجَّ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فِي هَذَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْفَتْحِ أَنَّهُ فِي السَّوَادِ«لَيْكَةِ» فَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ: إِنَّ أَصْلَهُ الْأَيْكَةُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى اللَّامِ فَسَقَطَتْ وَاسْتَغْنَتْ عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ، لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ تَحَرَّكَتْ فَلَا يَجُوزُ عل هَذَا إِلَّا الْخَفْضُ، كَمَا تَقُولُ بِالْأَحْمَرِ تُحَقِّقُ الهمزة ثم تخفضها فنقول بِلَحْمَرِ، فَإِنْ شِئْتَ كَتَبْتَهُ فِي الْخَطِّ عَلَى مَا كَتَبْتَهُ أَوَّلًا، وَإِنْ شِئْتَ كَتَبْتَهُ بِالْحَذْفِ، وَلَمْ يَجُزْ إِلَّا الْخَفْضُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يَنْصَرِفُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ أُضِيفَ انْصَرَفَ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ سِيبَوَيْهِ فِي هَذَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ:«الْأَيْكَةِ» غَيْضَةٌ تُنْبِتُ السِّدْرَ وَالْأَرَاكَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ نَاعِمِ الشَّجَرِ. (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) وَلَمْ يقبل أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَخًا لِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فِي النَّسَبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قَالَ:«أَخاهُمْ شُعَيْبًا»، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ. وَقَدْ مَضَى فِي«الْأَعْرَافِ» «١» الْقَوْلُ فِي نَسَبِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ شُعَيْبًا رَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَإِلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. (أَلا تَتَّقُونَ) تَخَافُونَ اللَّهَ (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الآية. وَإِنَّمَا كَانَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَاحِدًا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَالطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الناقصين للكيل


(١). راجع ج ٧ ص ٢٤٧ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.

وَالْوَزْنِ. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أَيْ أَعْطُوا الْحَقَّ. وقد مضي في«سبحان» وغيرها. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) تَقَدَّمَ فِي«هود» وَغَيْرِهَا. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) قَالَ مُجَاهِدٌ: الْجِبِلَّةُ هِيَ الْخَلِيقَةُ. وَجُبِلَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا أَيْ خُلِقَ، فَالْخُلُقُ جِبِلَّةٌ وَجُبُلَّةٌ وَجِبْلَةٌ وَجُبْلَةٌ وَجَبْلَةٌ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ فِي«مَعَانِي الْقُرْآنِ».«وَالْجِبِلَّةَ» عُطِفَ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْجِبِلَّةُ وَالْجُبُلَّةُ وَالْجِبِلُّ وَالْجُبُلُّ وَالْجَبْلُ لُغَاتٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ ذُو الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:«جِبِلًّا كَثِيرًا». قَالَ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ«إِعْرَابِ الْقُرْآنِ» لَهُ: وَيُقَالُ جِبِلَّةٌ وَالْجَمْعُ فِيهِمَا جَبَّالٌ، وَتُحْذَفُ الضَّمَّةُ وَالْكَسْرَةُ مِنَ الْبَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّشْدِيدُ مِنَ اللَّامِ، فَيُقَالُ: جُبْلَةٌ وَجُبَلٌ، وَيُقَالُ: جِبلَةٌ وَجِبَالٌ، وَتُحْذَفُ الْهَاءُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ:«وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ شَيْبَةَ وَالْأَعْرَجِ. الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. قَالَ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ ... فِيمَا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهْ
(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أَيْ مَا نَظُنُّكَ إِلَّا مِنَ الْكَاذِبِينَ فِي أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَعَالَى. (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا «١» مِنَ السَّماءِ) أَيْ جَانِبًا مِنَ السَّمَاءِ وَقِطْعَةً مِنْهُ، فَنَنْظُرُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ:«وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّماءِ ساقِطًا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ». وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْعَذَابَ. وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّكْذِيبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْكِسْفُ جَمْعُ كِسْفَةٍ مِثْلَ سِدْرٍ وَسِدْرَةٍ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَحَفْصٌ«كِسَفًا» جَمْعُ كِسْفَةٍ أَيْضًا وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَالْجَانِبُ تَقْدِيرُهُ كِسْرَةٌ وَكِسْرٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسْفَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ وَالْجَمْعُ كِسَفٌ وَكِسْفٌ. وَيُقَالُ: الْكِسْفُ وَالْكِسْفَةُ وَاحِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ قَرَأَ:«كِسْفًا» جَعَلَهُ وَاحِدًا وَمَنْ قَرَأَ«كِسَفًا» جَعَلَهُ جَمْعًا. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ«سُبْحَانَ» «٢» وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ«كِسْفًا» عَلَى التَّوْحِيدِ فَجَمْعُهُ أَكْسَافٌ وَكُسُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ أو تسقطه علينا طبقا واحدا،


(١).«كسفا» بإسكان السين قراءة نافع.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٣٠ طبعه أولى أو ثانية.

وَهُوَ مِنْ كَسَفْتُ الشَّيْءَ كَسْفًا إِذَا غَطَّيْتُهُ. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) تهديد، أَيْ إِنَّمَا عَلَيَّ التَّبْلِيغُ وَلَيْسَ الْعَذَابُ الَّذِي سألتم وَهُوَ يُجَازِيكُمْ. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سحَابَةً فَهَرَبُوا إِلَيْهَا لِيَسْتَظِلُّوا بِهَا، فَلَمَّا صَارُوا تَحْتَهَا صِيحَ بِهِمْ فَهَلَكُوا. وَقِيلَ: أقامها الله فوق رؤوسهم، وَأَلْهَبَهَا حَرًّا حَتَّى مَاتُوا مِنَ الرَّمْدِ. وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ يَوْمٍ فِي الدُّنْيَا عَذَابًا. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَمُومًا فَخَرَجُوا إِلَى الْأَيْكَةِ يَسْتَظِلُّونَ بِهَا فَأَضْرَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاحْتَرَقُوا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ فَأَنْضَجَهُمُ الْحَرُّ، فَخَرَجُوا هَرَبًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عز وجل سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَرَوْحًا وَرِيحًا طَيِّبَةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فلما اجتمعوا تحت السحابة أهبها اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ نَارًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الْمَقْلَى، فَصَارُوا رَمَادًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:«فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» وَقَوْلُهُ:«فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ». وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ عَنْهُمُ الرِّيحَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ حَتَّى أَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ فَكَانُوا يَدْخُلُونَ الْأَسْرَابَ، لِيَتَبَرَّدُوا فِيهَا فَيَجِدُوهَا أَشَدَّ حَرًّا مِنَ الظَّاهِرِ، فَهَرَبُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ وَهِيَ الظُّلَّةُ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَنَسِيمًا، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نَارًا فَاحْتَرَقُوا. وَقَالَ يَزِيدُ الْجُرَيْرِيُّ: سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ ثُمَّ رُفِعَ لَهُمْ جَبَلٌ مِنْ بَعِيدٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَإِذَا تَحْتَهُ أَنْهَارٌ وَعُيُونٌ وَشَجَرٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ وَهُوَ الظُّلَّةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَ اللَّهُ شُعَيْبًا إِلَى أُمَّتَيْنِ: أَصْحَابِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ بِالظُّلَّةِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ مَدْيَنَ فَصَاحَ بِهِمْ جِبْرِيلُ صَيْحَةً فَهَلَكُوا أَجْمَعِينَ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) قِيلَ: آمن بشعيب من الفئتين تسعمائة نفر.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٩٢ الى ١٩٦]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) عَادَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْقُرْآنِ. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) «نَزَلَ» مُخَفَّفًا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو. الْبَاقُونَ:«نَزَّلَ» مُشَدَّدًا«بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» نَصْبًا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ:«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ» وَهُوَ مَصْدَرُ نَزَّلَ، وَالْحُجَّةُ لِمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ هَذَا بِمُقَدَّرٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَيْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:«قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ» أَيْ يَتْلُوهُ عَلَيْكَ فَيَعِيهُ قلبك. وقيل: ليثبت قَلْبِكَ. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أَيْ لِئَلَّا يَقُولُوا لَسْنَا نَفْهَمُ مَا تَقُولُ. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أَيْ وَإِنَّ ذِكْرَ نُزُولِهِ لَفِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ عليه السلام فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:«يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» والزبر الْكُتُبُ الْوَاحِدُ زَبُورٌ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ١٩٧ الى ٢٠٣]
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي عَبْدَ الله ابن سَلَامٍ وَسَلْمَانَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى الْيَهُودِ وَهُمْ بالمدينة

يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَزَمَانُهُ، وَإِنَّا لَنَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ. فَيَرْجِعُ لَفْظُ الْعُلَمَاءِ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِكُتُبِهِمْ أَسْلَمَ أَوْ لَمْ يسلم على هذ الْقَوْلِ. وَإِنَّمَا صَارَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ» أَوَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ«. الْبَاقُونَ» أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً«بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِ وَاسْمُ يَكُنْ» أَنْ يَعْلَمَهُ«والتقدير أو لم يَكُنْ لَهُمْ عِلْمُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا آيَةً وَاضِحَةً. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى اسْمُ كَانَ» آيَةً«وَالْخَبَرُ» أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ«. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ» أَنْ تَعْلَمُهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أَيْ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ لَمَا آمَنُوا وَلَقَالُوا لَا نَفْقَهُ. نَظِيرُهُ:«وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا» الْآيَةَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ لَمَا آمَنُوا بِهِ أَنَفَةً وَكِبْرًا. يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ وَأَعْجَمِيٌّ إِذَا كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ وَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا، وَرَجُلٌ عَجَمِيٌّ وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا يُنْسَبُ إِلَى أَصْلِهِ، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءُ أَجَازَ أَنْ يُقَالَ رَجُلٌ عَجَمِيٌّ بِمَعْنَى أَعْجَمِيٍّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ«عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِيِّينَ» مُشَدَّدَةً بِيَاءَيْنِ جَعَلَهُ نِسْبَةً. وَمَنْ قَرَأَ«الْأَعْجَمِينَ» فَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعُ أَعْجَمَ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّذِي مُؤَنَّثُهُ فَعْلَاءُ لَا يُجْمَعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَلَا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لَا يُقَالُ أَحْمَرُونَ وَلَا حَمْرَاوَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ الْأَعْجَمِينَ كَقِرَاءَةِ الْجَحْدَرِيِّ ثُمَّ حُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، وَجُعِلَ جَمْعُهُ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ دَلِيلًا عَلَيْهَا. قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ. وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ أَيِ الْكُفْرَ بِهِ (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ). وَقِيلَ: سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْقَسْوَةُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَقَدْ مَضَى فِي«الْحِجْرِ» «١» وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْجَزْمَ فِي«لَا يُؤْمِنُونَ»، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْمُجَازَاةِ. وَزَعَمَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا وَضَعَتْ لَا مَوْضِعَ كَيْ لَا فِي مِثْلِ هَذَا رُبَّمَا جَزَمَتْ مَا بَعْدَهَا وَرُبَّمَا رَفَعَتْ، فتقول: ربطت


(١). راجع ج ١٠ ص ٧ طبعه أولى أو ثانية.

الْفَرَسَ لَا يَنْفَلِتُ بِالرَّفْعِ وَالْجَزْمِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ أَرْبِطْهُ يَنْفَلِتُ، وَالرَّفْعُ بِمَعْنَى كَيْلَا يَنْفَلِتَ. وَأَنْشَدَ لِبَعْضِ بَنِي عُقَيْلٍ:
وَحَتَّى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مُسَاكَنَةً لَا يَقْرَفُ الشَّرُّ قَارِفُ
بِالرَّفْعِ لَمَّا حَذَفَ كَيْ. وَمِنَ الْجَزْمِ قَوْلُ الْآخَرِ:
لَطَالَمَا حَلَّأْتُمَاهَا لَا تَرِدْ ... فَخَلِّيَاهَا وَالسِّجَالَ تَبْتَرِدْ «١»
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي«يُؤْمِنُونَ» خَطَأٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بلا جازم، ولا يكون شي يَعْمَلُ عَمَلًا فَإِذَا حُذِفَ عَمِلَ عَمَلًا أَقْوَى، مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَهَذَا احْتِجَاجٌ بَيِّنٌ (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أَيِ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:«فَتَأْتِيَهُمْ» بِالتَّاءِ، وَالْمَعْنَى: فَتَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فَأُضْمِرَتْ لِدَلَالَةِ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ فِيهَا، وَلِكَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِهَا. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ وَقَدْ قَرَأَ:«فَتَأْتِيَهُمْ»: يَا أَبَا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة. فانتهزه وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ السَّاعَةُ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً. (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بِإِتْيَانِهَا. (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أَيْ مُؤَخَّرُونَ وَمُمْهَلُونَ. يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ هُنَالِكَ فَلَا يُجَابُونَ إِلَيْهَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ:«فَيَأْتِيَهُمْ» لَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ:«حَتَّى يَرَوُا» بَلْ هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ:«لَا يُؤْمِنُونَ» فَلَمَّا كَانَ جَوَابًا لِلنَّفْيِ انْتَصَبَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«فَيَقُولُوا».

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٩]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨)
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَتَى تَعِدُنَا بِالْعَذَابِ وَلَا تَأْتِي به! فنزلت«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ».


(١). حلاها: منعها من ورود الماء. والسجال:) جمع سجل) وهى الدلو الضخمة المملوءة ماء. وتبترد: تشرب الماء لتبرد به كبدها. والبيت قاله بعض النسوة لبعض لما زرن امرأة قد تزوجت من رجل كان عاشقا لها.

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ. (ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ) مِنَ الْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ (مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ).» مَا«الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ» أَغْنى «وَ» مَا«الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ نَفْيًا لَا مَوْضِعَ لَهَا. وَقِيلَ:» مَا«الْأُولَى حَرْفُ نَفْيٍ، وَ» مَا«الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِ» أَغْنى «وَالْهَاءُ الْعَائِدَةُ مَحْذُوفَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أَغْنَى عَنْهُمُ الزَّمَانُ الَّذِي كَانُوا يُمَتَّعُونَهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ أَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ ثُمَّ قَرَأَ» أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ مَا كانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يُمَتَّعُونَ«ثُمَّ يَبْكِي وَيَقُولُ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ

فَلَا أَنْتَ فِي الْأَيْقَاظِ يَقْظَانُ حَازِمُ ... وَلَا أَنْتَ فِي النُّوَّامِ نَاجٍ فَسَالِمُ

تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى ... كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ

وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
قوله تعالى: (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ)» مِنْ«صِلَةٌ، الْمَعْنَى: وَمَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً. (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) أَيْ رُسُلٌ. (ذِكْرى) قَالَ الْكِسَائِيُّ:» ذِكْرى «فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَحْصُلُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ يَذْكُرُونَ ذِكْرَى، وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَعْنَى» إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ«إِلَّا لَهَا مُذَكِّرُونَ. وَ» ذِكْرى «لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ الْإِعْرَابُ، لِأَنَّ فِيهَا أَلِفًا مَقْصُورَةً. وَيَجُوزُ» ذِكْرًى«بِالتَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ» ذِكْرى «فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَيْ إِنْذَارُنَا ذِكْرَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ ذَلِكَ ذِكْرَى، وَتِلْكَ ذِكْرَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي» الشُّعَرَاءِ«وَقْفٌ تَامٌّ إِلَّا قَوْلُهُ» إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ«وَهَذَا عِنْدَنَا وَقْفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ» ذِكْرَى«عَلَى مَعْنَى هِيَ ذِكْرَى أَيْ يُذَكِّرُهُمْ ذِكْرَى، وَالْوَقْفُ عَلَى» ذِكْرى " أَجْوَدُ. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فِي تَعْذِيبِهِمْ حَيْثُ قَدَّمْنَا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم:

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢١٠ الى ٢١٣]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ بَلْ يَنْزِلُ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أَيْ بِرَمْيِ الشُّهُبِ كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ«الْحِجْرِ» «١» بَيَانُهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ:«وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُخَالِفٌ لِلْخَطِّ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: هَذَا غَلَطٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِدُخُولِ شُبْهَةٍ، لَمَّا رَأَى الْحَسَنُ فِي آخِرِهِ يَاءً وَنُونًا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِالْجَمْعِ الْمُسَلَّمِ فَغَلَطَ، وَفِي الْحَدِيثِ:«احْذَرُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ» وَقَدْ قَرَأَ هُوَ مَعَ النَّاسِ«وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ» وَلَوْ كَانَ هَذَا بِالْوَاوِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَوَجَبَ حَذْفُ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ- يَعْنِي الْحَسَنَ- فَقِيلَ ذَلِكَ لِلنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فَقَالَ: إِنْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ وَالْعَجَّاجِ وَذَوِيهِمَا، جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَآ بِذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: إِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ كَانَ لِقِرَاءَتِهِمَا وَجْهٌ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ دَخَلْنَا بَسَاتِينَ مِنْ وَرَائِهَا بَسَاتُونَ، فَقُلْتُ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْحَسَنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) قيل: المعنى قل لمن كفرا هذا. وقيل: هو مخاطبة له عليه لسلام وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُ هَذَا، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُخْتَارٌ وَلَكِنَّهُ خُوطِبَ بِهَذَا وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» أَيْ لَا يَتَّكِلُونَ عَلَى نَسَبِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ فَيَدَعُونَ مَا يجب عليهم.


(١). راجع ج ١٠ ص ١٠ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. [.....]

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢١٤ الى ٢٢٠]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» خَصَّ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ بِالْإِنْذَارِ، لِتَنْحَسِمَ أَطْمَاعُ سَائِرِ عَشِيرَتِهِ وَأَطْمَاعُ الْأَجَانِبِ فِي مُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الشِّرْكِ. وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ قُرَيْشٌ. وَقِيلَ: بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا يُتْلَى وَأَنَّهُ نُسِخَ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا تَوَاتَرَ. وَيَلْزَمُ عَلَى ثُبُوتِهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَلَّا يُنْذِرَ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُوصَفُونَ بِالْإِخْلَاصِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَفِي حُبِّ النَّبِيِّ ﷺ لَا الْمُشْرِكُونَ، لأنهم ليسوا على شي مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ دَعَا عَشِيرَتَهُ كُلَّهُمْ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، وَأَنْذَرَ جَمِيعَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ ﷺ، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ نَقْلًا وَلَا مَعْنًى. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ:«يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لكم رحما سابلها ببلالها «١»».


(١).«سابلها ببلالها»: أي أصلكم في الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا.

الثَّانِيَةُ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ فِي الْأَنْسَابِ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْبُعْدِ فِي الْأَسْبَابِ، وَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صِلَةِ الْمُؤْمِنَ الْكَافِرَ وَإِرْشَادِهِ وَنَصِيحَتِهِ، لِقَوْلِهِ:«إِنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا» وَقَوْلُهُ عز وجللَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ» الْآيَةَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ«الْحِجْرِ» وَ«سُبْحَانَ» يُقَالُ: خَفَضَ جَنَاحَهُ إِذَا لَانَ. (فَإِنْ عَصَوْكَ) أي خالفوا أمرك. (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي برئ مِنْ مَعْصِيَتِكُمْ إِيَّايَ، لِأَنَّ عِصْيَانَهُمْ إِيَّاهُ عِصْيَانٌ لِلَّهِ عز وجل، لِأَنَّهُ عليه السلام لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَرْضَاهُ، وَمَنْ تَبَرَّأَ مِنْهُ فَقَدْ تَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أَيْ فَوِّضْ أَمْرَكَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الرَّحِيمُ الَّذِي لَا يَخْذُلُ أَوْلِيَاءَهُ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ«وَتَوَكَّلْ» بِالْوَاوِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ:«فَتَوَكَّلْ» بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ)
أَيْ حِينَ تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: ابْنِ عَبَّاسِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي حِينَ تَقُومُ حَيْثُمَا كُنْتَ. (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَاكَ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى، إِنَّكَ تَرَى بِقَلْبِكَ فِي صَلَاتِكَ مَنْ خَلْفَكَ كَمَا تَرَى بِعَيْنِكَ مَنْ قُدَّامَكَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَكَانَ عليه السلام يَرَى مَنْ خَلْفهُ كَمَا يَرَى مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ وَفِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ بَعِيدٌ. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تقدم.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢٢١ الى ٢٢٣]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) إِنَّمَا قَالَ:«تَنَزَّلُ» لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا تَكُونُ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنَّهَا تَمُرُّ فِي الرِّيحِ. (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) تَقَدَّمَ فِي«الْحِجْرِ». فَ«يُلْقُونَ السَّمْعَ» صفة الشياطين«وَأَكْثَرُهُمْ» يرجع إلى الكهنة. وقيل: إلى الشياطين.

[سورة الشعراء (٢٦): الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٧]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَالشُّعَراءُ» جَمْعُ شَاعِرٍ مِثْلُ جَاهِلٍ وَجُهَلَاءَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْكُفَّارُ«يَتَّبِعُهُمُ» ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ«الْغاوُونَ» الزَّائِلُونَ عن الحق، ودل بهذا الشُّعَرَاءَ أَيْضًا غَاوُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا غَاوِينَ مَا كَانَ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ«النُّورِ» «١» أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ مَا يَجُوزُ إِنْشَادُهُ، وَيُكْرَهُ، وَيَحْرُمُ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [يَوْمًا «٢»] فَقَالَ:«هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ«هِيهِ» فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ«هِيهِ» ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ«هِيهِ» حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. هَكَذَا صَوَابُ هَذَا السَّنَدِ وَصَحِيحُ رِوَايَتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنِ الشَّرِيدِ أَبِيهِ، وَهُوَ وَهْمٌ، لِأَنَّ الشَّرِيدَ هُوَ الَّذِي أَرْدَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَاسْمُ أَبِي الشَّرِيدِ سُوَيْدٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الْأَشْعَارِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا إِذَا تَضَمَّنَتِ الْحِكَمَ وَالْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ شَرْعًا وَطَبْعًا، وَإِنَّمَا اسْتَكْثَرَ النَّبِيُّ ﷺ من شعر أمية، لأنه


(١). راجع ج ١٢ ص ٢٧١ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). الزيادة من صحيح مسلم.

كَانَ حَكِيمًا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عليه السلاموَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ» فَأَمَّا مَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ اللَّهِ وَحَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْمَنَّانِ ... صَارَ الثَّرِيدُ فِي رُءُوسِ الْعِيدَانِ «١»
أَوْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ مَدْحِهُ كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ:
مِنْ قبلها طبت في الظلال وفى مستودع ... حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرَقُ

ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بشر أنت ... وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ

بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السفين وقد الجم ... نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ

تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ «٢»
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ:«لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ». أَوِ الذَّبِّ عَنْهُ كَقَوْلِ حَسَّانَ:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
وَهِيَ أَبْيَاتٌ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهِيَ فِي السِّيَرِ أَتَمُّ. أَوِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، خَرَجَ عُمَرُ لَيْلَةً يَحْرُسُ فَرَأَى مِصْبَاحًا فِي بَيْتٍ، وَإِذَا عَجُوزٌ تَنْفُشُ صُوفًا وَتَقُولُ:
عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْأَبْرَارْ ... صَلَّى عَلَيْهِ الطَّيِّبُونَ الْأَخْيَارْ

قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بُكًا بِالْأَسْحَارْ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمَنَايَا أَطْوَارْ

هَلْ يَجْمَعَنِّي وَحَبِيبِي الدَّارْ يَعْنِي النَّبِيَّ

ﷺ، فَجَلَسَ عُمَرُ يَبْكِي. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ أَصْحَابِهِ وَمَدَحُهُمْ رضي الله عنهم، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَيْثُ قَالَ:
إِنِّي رَضِيتُ عَلِيًّا لِلْهُدَى عَلَمًا ... كَمَا رَضِيْتُ عَتِيقًا صَاحِبَ الْغَارِ

وَقَدْ رَضِيْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشِيعَتَهُ ... وَمَا رَضِيْتُ بِقَتْلِ الشَّيْخِ فِي الدَّارِ

كُلُّ الصَّحَابَةِ عِنْدِي قُدْوَةٌ عَلَمٌ ... فَهَلْ عَلَيَّ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ عَارِ

إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُحِبُّهُمْ ... إِلَّا مِنْ أجلك فأعتقني من النار


(١). كذا في الأصول.
(٢). طبق: قرن. أراد إذا مضى قرن ظهر قرن آخر.

وَقَالَ آخَرُ فَأَحْسَنَ:
حُبُّ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ مُفْتَرَضٌ ... وَحُبُّ أَصْحَابِهِ نُورٌ بِبُرْهَانِ

مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ ... لَا يَرْمِيَنَّ أَبَا بَكْرٍ بِبُهْتَانِ

وَلَا أَبَا حَفْصٍ الْفَارُوقَ صَاحِبَهُ ... وَلَا الْخَلِيفَةَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانِ

أَمَّا عَلِيٌّ فَمَشْهُورٌ فَضَائِلُهُ ... وَالْبَيْتُ لَا يَسْتَوِي إِلَّا بِأَرْكَانِ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ فِي التَّشْبِيهَاتِ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْحَدَّ وَتَجَاوَزَتِ الْمُعْتَادَ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ، وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ ﷺ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ

وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا ... إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ

تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ فِي تَشْبِيهِهِ رِيقِهَا بِالرَّاحِ. وَأَنْشَدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه «١»:
فَقَدْنَا الْوَحَيَ إِذْ وَلَّيْتَ عَنَّا ... وَوَدَّعَنَا مِنَ اللَّهِ الْكَلَامَ

سِوَى مَا قَدْ تَرَكْتَ لَنَا رَهِينًا ... تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ

فَقَدْ أَوْرَثْتَنَا مِيرَاثَ صِدْقٍ ... عَلَيْكَ بِهِ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ
فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْمَعُهُ وَأَبُو بَكْرٍ يُنْشِدُهُ، فَهَلْ لِلتَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ مَوْضِعٌ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا يُنْكِرُ الْحَسَنَ مِنَ الشِّعْرِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا مِنْ أُولِي النُّهَى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ إِلَّا وَقَدْ قَالَ الشِّعْرَ، أَوْ تَمَثَّلَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ فَرَضِيَهُ مَا كَانَ حِكْمَةً أَوْ مُبَاحًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَلَا خَنَا وَلَا لِمُسْلِمٍ أَذًى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَالْمَنْثُورُ مِنَ الْقَوْلِ سَوَاءٌ لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا قَوْلُهُ، وَرَوَى أبو هريرة قال


(١). قال ذلك في رثاء النبي ﷺ.

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:» أَصْدَقُ كَلِمَةٍ- أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ- قَالَتْهَا الْعَرَبُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شي مَا خَلَا اللَّهُ بَاطِلُ

«أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ» وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ" وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ أَنْشَدَ شِعْرًا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: مِثْلُكَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا لُكَعٍ! وَهَلِ الشِّعْرُ إِلَّا كَلَامٌ لَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْكَلَامِ إِلَّا فِي الْقَوَافِي، فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ! قَالَ: وَقَدْ كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُنْشِدُ:
يُحِبُّ الْخَمْرَ مِنْ مَالِ النَّدَامَى ... وَيَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ الْغَلُوسُ
وَكَانَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ الْمَشْيَخَةِ السَّبْعَةِ شَاعِرًا مُجِيدًا مُقَدَّمًا فِيهِ. وَلِلزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْقَاضِي فِي أَشْعَارِهِ كِتَابٌ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ حَسَنَةٌ تُسَمَّى عَثْمَةُ فَعَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَطَلَّقَهَا، وَلَهُ فِيهَا أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ

تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ

أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قُلْتُ لَهُ تَقُولُ الشِّعْرَ فِي نُسُكِكَ وَفَضْلِكَ! فَقَالَ: إِنَّ الْمَصْدُورَ إِذَا نَفَثَ بَرَأَ. الثَّانِيَةُ- وَأَمَّا الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَصَاحِبُهُ مَلُومٌ، فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ حَتَّى يُفَضِّلُوا أَجْبَنَ النَّاسِ عَلَى عَنْتَرَةَ، وَأَشَحَّهُمْ عَلَى حَاتِمٍ، وإن يبهتوا البرئ وَيُفَسِّقُوا التَّقِيَّ، وَأَنْ يُفْرِطُوا فِي الْقَوْلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ، رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْفَرَزْدَقِ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعَ قَوْلَهُ:
فَبِتْنَ بجانبي مصرعات «١» ... وبت أفض أغلاق الختام


(١). مصرعات: سكارى.

فَقَالَ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ:«وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ». وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ:
مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ

إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو «١» عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ

فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ «٢» الْمُتَهَدِّمِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إِي وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إِلَّا عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْأَحْوَصُ فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ عُمَرَ وَالْأَحْوَصَ بِالشَّرِّ وَالْخُبْثِ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاشْدُدْ عَلَيْهِمَا وَاحْمِلْهُمَا إِلَيَّ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ حَمَلَهُمَا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: هِيهِ!
فَلَمْ أَرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كلئالي الْحَجِّ أَفْلَتْنَ ذَا هَوَى

وَكَمْ مَالِئٍ عَيْنَيْهِ من شي غَيْرِهِ ... إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبِيضِ كَالدُّمَى

أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اهْتَمَمْتَ بِحَجِّكَ لَمْ تَنْظُرْ إلى شي غَيْرِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفْلِتِ النَّاسُ مِنْكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمَتَى يُفْلِتُونَ! ثُمَّ أَمَرَ بِنَفْيِهِ. فقال: يا أمير المؤمنين! أو خير مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ أَنِّي لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الشِّعْرِ، وَلَا أَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شِعْرٍ أَبَدًا، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى تَوْبَتِهِ وَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَحْوَصِ، فَقَالَ هِيهِ!
اللَّهُ بَيْنِي وبين قيمها ... يفر منى بها وأتبع


(١). تجذو: تقوم على أطراف الأصابع.
(٢). الجوسق: القصر، فارسي معرب.

بَلِ اللَّهُ بَيْنَ قَيِّمِهَا وَبَيْنَكَ! ثُمَّ أَمَرَ بِنَفْيِهِ، فَكَلَّمَهُ فِيهِ رِجَالٌ مِنِ الْأَنْصَارِ فَأَبَى، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُ مَا كَانَ لِي سُلْطَانٌ، فَإِنَّهُ فَاسِقٌ مُجَاهِرٌ. فَهَذَا حُكْمُ الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ وَحُكْمُ صَاحِبِهِ، فَلَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا إنشاده في مسجد وفى غَيْرِهِ، كَمَنْثُورِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ وَنَحْوِهِ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«حَسَنُ الشَّعْرِ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيِّ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ صَحِيحٌ فِيمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ» الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«خُذُوا الشَّيْطَانَ- أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ- لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ هَذَا مَعَ هَذَا الشَّاعِرِ لَمَّا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ، فَلَعَلَّ هَذَا الشَّاعِرَ كَانَ مِمَّنْ قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدِ اتَّخَذَ الشِّعْرَ طَرِيقًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيُفْرِطُ فِي الْمَدْحِ إِذَا أُعْطِيَ، وَفِي الْهَجْوِ وَالذَّمِّ إِذَا مُنِعَ، فَيُؤْذِي النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَكُلُّ مَا يَكْتَسِبُهُ بِالشِّعْرِ حَرَامٌ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ، بَلْ يجب الإنكار عليه، فإن لم يكن ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مِنْ لِسَانِهِ قَطْعًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَيُدَافِعَهُ بِمَا أَمْكَنَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا أَعْطَاهُ بِنِيَّةِ وِقَايَةِ الْعِرْضِ، فَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كتب له به صدقة. قَوْلُهُ:«لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ» الْقَيْحُ الْمِدَّةُ يُخَالِطُهَا دَمٌ. يُقَالُ مِنْهُ: قَاحَ الْجُرْحُ يَقِيحُ وَتَقَيَّحَ وَقَيَّحَ. وَ«يَرِيهُ» قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْوَرْيِ عَلَى

مِثَالِ الرَّمْيِ وَهُوَ أَنْ يَدْوَى جَوْفُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ مَوْرِيٌّ مُشَدَّدٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفِي الصحاح: وروي الْقَيْحُ جَوْفَهُ يَرِيهِ وَرْيًا إِذَا أَكَلَهُ. وَأَنْشَدَ الْيَزِيدِيُّ:
قَالَتْ لَهُ وَرْيًا إِذَا تَنَحْنَحَا

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّهُ الَّذِي قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشِّعْرُ، وَامْتَلَأَ صَدْرُهُ منه دون علم سواه ولا شي مِنَ الذِّكْرِ مِمَّنْ يَخُوضُ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، وَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَ لَا تُحْمَدُ لَهُ، كَالْمُكْثِرِ مِنَ اللَّغَطِ وَالْهَذَرِ وَالْغِيبَةِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ. وَمَنْ كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه لأوصاف الْمَذْمُومَةُ الدَّنِيَّةُ، لِحُكْمِ الْعَادَةِ الْأَدَبِيَّةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَمَّا بَوَّبَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ«بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرَ». وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الشَّعْرُ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَوْ غَيْرُهُ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ هَجْوِ النَّبِيِّ ﷺ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ وَمَذْمُومٌ، وَكَذَلِكَ هَجْوُ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الذَّمِّ بِالْكَثِيرِ مَعْنًى. الرَّابِعَةُ- قَالَ الشَّافِعِيُّ: الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ حسنه كحسن الكلام وقبيح كَقَبِيحِ الْكَلَامِ، يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُضَمَّنَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمُ الْمَوْقِعِ. قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الشِّعْرِ الَّذِي يَرُدُّ بِهِ حَسَّانُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ:«إِنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ عُمَرُ: يا بن رَوَاحَةَ! فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهُوَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النبل».

الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» لَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ فِي رَفْعِ«وَالشُّعَراءُ» فِيمَا عَلِمْتُ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ«يَتَّبِعُهُمُ» وبه قرأ عيسى ابن عُمَرَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ حُبَّ النَّصْبِ، قَرَأَ«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ» وَ«حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» وَ«سُورَةٌ أَنْزَلْناها». وَقَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ:«يَتْبَعُهُمْ» مُخَفَّفًا. الْبَاقُونَ«يَتَّبِعُهُمُ». وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَهَاجَى رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْصَارِيٌّ وَالْآخَرُ مُهَاجِرِيٌّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ غُوَاةُ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ فَنَزَلَتْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ هُمُ الرُّوَاةُ لِلشِّعْرِ. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ يَتَّبِعُهُمْ ضُلَّالَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى غُضَيْفٌ «١» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:«مَنْ أَحْدَثَ هِجَاءً فِي الْإِسْلَامِ فَاقْطَعُوا لِسَانَهُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا افْتَتَحَ مَكَّةَ رَنَّ «٢» إِبْلِيسُ رَنَّةً وَجَمَعَ إِلَيْهِ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ ايئَسُوا أَنْ تُرِيدُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ أَفْشُوا فيهما- يعنى مكة والمدينة- الشعر. السادسة- قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) يَقُولُ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، وَلَا يَتَّبِعُونَ سُنَنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ تَثَبَّتَ، وَلَمْ يَكُنْ هَائِمًا يَذْهَبُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يُبَالِي مَا قَالَ. نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى وَمُسَافِعِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) يَقُولُ: أَكْثَرُهُمْ يَكْذِبُونَ، أَيْ يَدُلُّونَ بِكَلَامِهِمْ عَلَى الْكَرَمِ وَالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ حَيْثُ قَالَ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... بِأَنَّكَ حَقٌّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ

وَلَكِنْ إِذَا ذُكِّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ ... تَأَوَّهَ مِنِّي أَعْظُمٌ وَجُلُودُ
ثُمَّ اسْتَثْنَى شِعْرَ الْمُؤْمِنِينَ: حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنَ الْقَوْلِ الْحَقِّ، فَقَالَ: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) فِي كَلَامِهِمْ (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) وإنما يكون الانتصار بالحق،


(١). في نسخة: خصيف.
(٢). رن: صاح صيحة حزينة.

ومما حَدَّهُ اللَّهُ عز وجل، فَإِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَصَرَ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَرِّدُ: لَمَّا نَزَلَتْ:«وَالشُّعَراءُ» جَاءَ حَسَّانُ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَبْكُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّا شُعَرَاءُ؟ فَقَالَ:«اقْرَءُوا مَا بَعْدَهَا» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ«- الْآيَةَ- أَنْتُمْ» وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا«أَنْتُمْ» أَيْ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«انْتَصِرُوا وَلَا تَقُولُوا إِلَّا حَقًّا وَلَا تَذْكُرُوا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ» فَقَالَ حَسَّانُ لِأَبِي سُفْيَانَ:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ

وَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعَرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

أَتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ
وَقَالَ كَعْبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ». وَقَالَ كَعْبٌ:
جَاءَتْ سَخِينَةُ «١» كَي تُغَالِبَ رَبَّهَا ... وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:«لَقَدْ مَدَحَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ فِي قَوْلِكَ هَذَا». وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ:«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ». قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فِي هَذَا تهديد لمن انتصر بظلم [أي «٢»] سَيَعْلَمُ الظَّالِمُونَ كَيْفَ يُخَلَّصُونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ عز وجل، فَالظَّالِمُ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وَالْمَظْلُومُ يَنْتَظِرُ النُّصْرَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«أَيَّ مُنْفَلَتٍ ينفلتون» بالفاء والتاء ومعناهما واحد الثَّعْلَبِيُّ: وَمَعْنَى«أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» أَيَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ وَأَيَّ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى


(١). السخينة: طعام حار يتخذ من دقيق وسمن- وقيل من دقيق وتمر- أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها حتى سموا سخينة.
(٢). زيادة يقتضيها السياق.

النَّارِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَصِيرٍ، وَمَرْجِعُهُمْ إِلَى الْعِقَابِ وَهُوَ شَرُّ مَرْجِعٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنْقَلَبِ وَالْمَرْجِعِ أَنَّ الْمُنْقَلَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى ضِدِّ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمَرْجِعُ الْعَوْدُ مِنْ حَالٍ هُوَ فِيهَا إِلَى حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا فَصَارَ كُلُّ مَرْجِعٍ مُنْقَلَبًا، وَلَيْسَ كُلُّ مُنْقَلَبٍ مَرْجِعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَ«أَيَّ» مَنْصُوبٌ بِ«يَنْقَلِبُونَ» وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِ«سَيَعْلَمُ» لِأَنَّ أَيًّا وَسَائِرَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا فِيمَا ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَعْنًى وَمَا قَبْلَهُ مَعْنًى آخَرُ فَلَوْ عَمِلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ لَدَخَلَ بعض المعاني في بعض.

 


google-playkhamsatmostaqltradent