بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إسْحَاقَ الْمُطَّلِبِيِّ، قَالَ: فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك
وتعالى فِي يَوْمِ أُحُدٍ مِنْ الْقُرْآنِ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ،
فِيهَا صِفَةُ مَا كَانَ فِي يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، وَمُعَاتَبَةُ مَنْ عَاتَبَ
مِنْهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
٣: ١٢١.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ: تَتَّخِذُ لَهُمْ مَقَاعِدَ وَمَنَازِلَ. قَالَ الْكُمَيْتُ ابْن
زَيْدٍ:
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَهُ ... قَدْ
تَبَوَّأْتُ مَضْجَعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ
لَهُ.
أَيْ سَمِيعٌ بِمَا تَقُولُونَ،
عَلِيمٌ بِمَا تُخْفُونَ.
«إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ
أَنْ تَفْشَلا ٣: ١٢٢»: أَنْ تَتَخَاذَلَا، وَالطَّائِفَتَانِ:
بَنُو سَلَمَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ
الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ بْنِ النَّبِيتُ مِنْ الْأَوْسِ، وَهُمَا
الْجَنَاحَانِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَالله وَلِيُّهُما ٣: ١٢٢»: أَيْ
الْمُدَافِعُ عَنْهُمَا مَا هَمَّتَا بِهِ مِنْ فَشَلِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا عَنْ ضَعْفٍ وَوَهَنٍ أَصَابَهُمَا غَيْرَ شَكٍّ فِي
دِينِهِمَا، فَتَوَلَّى دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِرَحْمَتِهِ وَعَائِدَتِهِ،
حَتَّى سَلِمَتَا مِنْ وُهُونِهِمَا وَضَعْفِهِمَا، وَلَحِقَتَا بِنَبِيِّهِمَا ﷺ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي
رَجُلٌ مِنْ الْأَسْدِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: قَالَتْ الطَّائِفَتَانِ:
مَا نُحِبُّ أَنَّا لَمْ نَهُمَّ
بِمَا هَمَمْنَا بِهِ، لَتَوَلَّى اللَّهُ إيَّانَا فِي ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ٣: ١٢٢»:
أَيْ مَنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَيَّ، وَلْيَسْتَعِنْ بِي، أُعِنْهُ عَلَى
أَمْرِهِ، وَأُدَافِعْ عَنْهُ، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ، وَأَدْفَعَ عَنْهُ،
وَأُقَوِّيَهُ عَلَى نِيَّتِهِ. «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ٣: ١٢٣:
أَيْ فَاتَّقُونِي، فَإِنَّهُ شُكْرُ
نِعْمَتِي. «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ» ٣: ١٢٣ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ
عَدَدًا وَأَضْعَفُ قُوَّةً «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ.
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» ٣:
١٢٤- ١٢٥: أَيْ إنْ تَصْبِرُوا لِعَدُوِّي، وَتُطِيعُوا أَمْرِي، وَيَأْتُوكُمْ
مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا، أُمِدُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مُسَوِّمِينَ:
مُعْلَمِينَ. بَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: أَعْلَمُوا عَلَى أَذْنَابِ خَيْلِهِمْ وَنَوَاصِيهَا بِصُوفِ أَبْيَضَ.
فَأَمَّا ابْنُ إسْحَاقَ فَقَالَ: كَانَتْ سِيمَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ
بِيضًا. وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بَدْرٍ.
وَالسِّيمَا: الْعَلَامَةُ. وَفِي
كِتَابِ اللَّهِ عز وجل: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ» ٤٨: ٢٩: أَيْ عَلَامَتُهُمْ. وَ«حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ.
مُسَوَّمَةً» ١١: ٨٢- ٨٣ يَقُولُ: مُعْلَمَةً. بَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ
أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهَا عَلَامَةٌ، أَنَّهَا
لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا مِنْ حِجَارَةِ الْعَذَابِ. قَالَ
رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
فَالْآنَ تُبْلَى بِي الْجِيَادُ
السَّهَمُ ... وَلَا تُجَارِينِي إذَا مَا سَوَّمُوا [١]
وَشَخَصَتْ أَبْصَارُهُمْ
وَأَجْذَمُوا
(أَجْذَمُوا «بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَةِ»: أَيْ أَسْرَعُوا، وَأَجْدَمُوا «بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ»:
أَقْطَعُوا) [٢] .
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي
أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَالْمُسَوَّمَةُ (أَيْضًا): الْمَرْعِيَّةُ. وَفِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى: «وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ» ٣: ١٤ و«شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ»
١٦: ١٠. تَقُولُ الْعَرَبُ:
سَوَّمَ خَيْلَهُ وَإِبِلَهُ،
وَأَسَامَهَا: إذَا رَعَاهَا. قَالَ الْكُمَيْت من زَيْدٍ:
رَاعِيًا كَانَ مُسْجِحًا
فَفَقَدْنَاهُ ... وَفَقْدُ الْمُسِيمِ هُلْكُ السَّوَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مُسْجِحًا:
سَلِسُ السِّيَاسَةِ مُحْسِنٌ (إلَى الْغَنَمِ) [٢] . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ.
[١] الْجِيَاد: الْخَيل الْعتاق. والسهم:
العابسة المتغيرة من شدَّة الْحَرْب.
[٢]
زِيَادَة عَن أ.
«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى
لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ٣: ١٢٦: أَيْ مَا سَمَّيْتُ لَكُمْ مَنْ سَمَّيْتُ
مِنْ جُنُودِ مَلَائِكَتِي إلَّا بُشْرَى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ، لِمَا أَعْرِفُ مِنْ ضَعْفِكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِي،
لِسُلْطَانِي وَقُدْرَتِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِزَّ وَالْحُكْمَ إلَيَّ، لَا إلَى
أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي. ثُمَّ قَالَ: «لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» ٣: ١٢٧: أَيْ لِيَقْطَعَ طَرَفًا
مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلٍ يَنْتَقِمُ بِهِ مِنْهُمْ، أَوْ يَرُدَّهُمْ
خَائِبِينَ: أَيْ وَيَرْجِعُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَلًّا خَائِبِينَ، لَمْ
يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَأْمُلُونَ.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَكْبِتُهُمْ:
يَغُمُّهُمْ أَشَدَّ الْغَمِّ، وَيَمْنَعُهُمْ مَا أَرَادُوا. قَالَ ذُو
الرُّمَّةِ:
مَا أَنْسَ مِنْ شَجَنٍ لَا أَنْسَ
مَوْقِفَنَا ... فِي حَيْرَةٍ بَيْنَ مَسْرُورٍ وَمَكْبُوتِ [١]
وَيَكْبِتُهُمْ (أَيْضًا):
يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ
لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ٣: ١٢٨»:
أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْحُكْمِ
شَيْءٌ فِي عِبَادِي، إلَّا مَا أَمَرْتُكَ بِهِ فِيهِمْ، أَوْ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
بِرَحْمَتِي، فَإِنْ شِئْتُ فَعَلْتُ، أَوْ أُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ
فَبِحَقِّي «فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» ٣: ١٢٨:
أَيْ قَدْ اسْتَوْجَبُوا ذَلِكَ
بِمَعْصِيَتِهِمْ إيَّايَ «وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ» ٣: ١٢٩: أَيْ يَغْفِرُ
الذَّنْبَ وَيَرْحَمُ الْعِبَادَ، عَلَى مَا فِيهِمْ [٢] .
[١] الشجن: الْحزن.
[٢]
قَالَ السهيليّ، عِنْد ذكر قَوْله تَعَالَى «لَيْسَ لَكَ من الْأَمْرِ شَيْءٌ» ٣:
١٢٨: «وَفِي تَفْسِير التِّرْمِذِيّ حَدِيث مَرْفُوع:
أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ يَدْعُو على
أَبى سُفْيَان والْحَارث بن هِشَام وَعَمْرو بن الْعَاصِ حَتَّى أنزل الله
تَعَالَى «لَيْسَ لَكَ من الْأَمْرِ شَيْءٌ» ٣: ١٢٨ قَالَ فتابوا وَأَسْلمُوا
وَحسن إسْلَامهمْ، وَهَذَا حَدِيث ثَابت فِي حسن إِسْلَام أَبى سُفْيَان، خلافًا
لمن زعم غير ذَلِك، وَأما الْحَارِث بن هِشَام فَلَا خلاف فِي حسن إِسْلَامه وَفِي
مَوته شَهِيدا بِالشَّام، وَأما عَمْرو بن الْعَاصِ فقد قَالَ فِيهِ النَّبِي ﷺ:
أسلم النَّاس وآمن عَمْرو» .
(النَّهْيُ عَنْ الرِّبَا):
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً» ٣: ١٣٠، أَيْ
لَا تَأْكُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، إذْ هَدَاكُمْ اللَّهُ بِهِ مَا كُنْتُمْ
تَأْكُلُونَ إذْ أَنْتُمْ عَلَى غَيْرِهِ، مِمَّا لَا يَحِلُّ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ
«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ٣: ١٣٠: أَيْ فَأَطِيعُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَنْجُونَ مِمَّا حَذَّرَكُمْ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ، وتدركون مَا
رَغَّبَكُمْ اللَّهُ فِيهِ مِنْ ثَوَابِهِ، «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ٣: ١٣١: أَيْ الَّتِي جُعِلَتْ دَارًا لِمِنْ كَفَرَ بِي.
(الْحَضُّ
عَلَى الطَّاعَةِ):
ثُمَّ قَالَ: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ٣: ١٣٢ مُعَاتَبَةً لِلَّذِينَ عَصَوْا
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَفِي غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ٣: ١٣٣:
أَيْ دَارًا لِمَنْ أَطَاعَنِي وَأَطَاعَ رَسُولِي. «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ، وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ٣: ١٣٤: أَيْ وَذَلِكَ هُوَ
الْإِحْسَانُ، وَأَنَا أُحِبُّ مَنْ عَمِلَ بِهِ، «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ، وَمن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى
مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ٣: ١٣٥: أَيْ إنْ أَتَوْا فَاحِشَةً، أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ ذَكَرُوا نَهْيَ اللَّهِ عَنْهَا، وَمَا
حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ لَهَا، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إلَّا هُوَ. «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
٣: ١٣٥: أَيْ لَمْ يُقِيمُوا عَلَى مَعْصِيَتِي كَفِعْلِ مَنْ أَشْرَكَ بِي فِيمَا
غَلَوْا بِهِ فِي كُفْرِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ
عِبَادَةِ غَيْرِي. «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ» ٣: ١٣٦: أَيْ ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ.
(ذِكْرُ
مَا أَصَابَهُمْ وَتَعْزِيَتُهُمْ عَنْهُ):
ثُمَّ اسْتَقْبَلَ ذِكْرَ
الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمْ، وَالْبَلَاءَ الَّذِي أَصَابَهُمْ،
وَالتَّمْحِيصَ لِمَا كَانَ فِيهِمْ، وَاِتِّخَاذَهُ الشُّهَدَاءَ مِنْهُمْ،
فَقَالَ: تَعْزِيَةً لَهُمْ، وَتَعْرِيفًا لَهُمْ فِيمَا صَنَعُوا، وَفِيمَا هُوَ
صَانِعٌ بِهِمْ. «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٣: ١٣٧: أَيْ قَدْ مَضَتْ مِنِّي وَقَائِعُ
نِقْمَةٍ فِي أَهْلِ التَّكْذِيبِ لِرُسُلِي وَالشِّرْكِ بِي: عَادٍ وَثَمُودَ
وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ، فَرَأَوْا مَثُلَاتٍ قَدْ مَضَتْ مِنِّي
فِيهِمْ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مِنِّي،
فَإِنِّي أَمْلَيْتُ لَهُمْ: أَيْ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ نِقْمَتِي انْقَطَعَتْ
عَنْ عَدُوِّكُمْ وَعَدُوِّي، لِلدَّوْلَةِ الَّتِي أَدْلَتْهُمْ بِهَا
عَلَيْكُمْ، لِيَبْتَلِيَكُمْ بِذَلِكَ، لِيُعَلِّمَكُمْ مَا عِنْدَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: «هَذَا بَيانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ٣: ١٣٨: أَيْ هَذَا تَفْسِيرٌ
لِلنَّاسِ إنْ قَبِلُوا الْهُدَى «وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ» ٣: ١٣٨: أَيْ نُورٌ
وَأَدَبٌ «لِلْمُتَّقِينَ» ٣: ١٣٨ أَيْ لِمَنْ أَطَاعَنِي وَعَرَفَ أَمْرِي. «وَلا
تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا» ٣: ١٣٩: أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَلَا تَبْتَئِسُوا عَلَى
مَا أَصَابَكُمْ، «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» ٣: ١٣٩: أَيْ لَكُمْ تَكُونُ
الْعَاقِبَةُ وَالظُّهُورُ «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ٣: ١٣٩: أَيْ إنْ كُنْتُم
صدّقتم نَبِي بِمَا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنِّي. «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» ٣: ١٤٠: أَيْ جِرَاحُ [١] مِثْلُهَا،
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» ٣: ١٤٠: أَيْ نُصَرِّفُهَا
بَيْنَ النَّاسِ لِلْبَلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، وَالله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ٣:
١٤٠: أَيْ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَلِيُكْرِمَ
مَنْ أَكْرَمَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالشَّهَادَةِ «وَالله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»
٣: ١٤٠: أَيْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ الطَّاعَةَ
وَقُلُوبُهُمْ مُصِرَّةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا» ٣: ١٤١: أَيْ يَخْتَبِرَ الَّذِينَ آمَنُوا حَتَّى يُخَلِّصَهُمْ
بِالْبَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، وَكَيْفَ صَبْرُهُمْ وَيَقِينُهُمْ
«وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ٣: ١٤١: أَيْ يُبْطِلَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُمْ
بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُمْ
كُفْرُهُمْ الَّذِي يَسْتَتِرُونَ بِهِ.
(دَعْوَةُ
الْجَنَّةِ لِلْمُجَاهِدِينَ):
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: «أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ٣: ١٤٢: أَيْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَتُصِيبُوا مِنْ ثَوَابِي الْكَرَامَةَ، وَلَمْ أَخْتَبِرْكُمْ
بِالشِّدَّةِ، وَأَبْتَلِيَكُمْ بِالْمَكَارِهِ، حَتَّى أَعْلَمَ صِدْقَ
[١] قَالَ أَبُو ذَر: «قَالَ للفراء: الْقرح
(بِفَتْح الْقَاف): الْجراح. والقرح (بِضَم الْقَاف) ألم الْجراح. وَغَيره لَا
يفرق بَينهمَا.
ذَلِكَ مِنْكُمْ بِالْإِيمَانِ بِي،
وَالصَّبْرَ عَلَى مَا أَصَابَكُمْ فِيَّ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الشَّهَادَةَ عَلَى الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ
تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، يَعْنِي الَّذِينَ اسْتَنْهَضُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلَى
خُرُوجِهِ بِهِمْ إلَى عَدُوِّهِمْ، لِمَا فاتهم من حضورا الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ
قَبْلَهُ بِبَدْرٍ، وَرَغْبَةً فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي فَاتَتْهُمْ بِهَا،
فَقَالَ: «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ»
٣: ١٤٣ يَقُولُ: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ٣: ١٤٣: أَيْ
الْمَوْتُ بِالسُّيُوفِ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ قَدْ خُلِّيَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ، ثُمَّ صَدَّهُمْ عَنْكُمْ. «وَما
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ٣: ١٤٤: أَيْ
لِقَوْلِ النَّاسِ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَانْهِزَامُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَانْصِرَافُهُمْ
عَنْ عَدُوِّهِمْ «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ» ٣: ١٤٤ رَجَعْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ
كُفَّارًا كَمَا كُنْتُمْ، وَتَرَكْتُمْ جِهَادَ عَدُوِّكُمْ، وَكِتَابَ اللَّهِ.
وَمَا خَلَّفَ نَبِيُّهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ مَعَكُمْ وَعِنْدَكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ
لَكُمْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنِّي أَنَّهُ مَيِّتٌ وَمُفَارِقُكُمْ، «وَمن
يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ» ٣: ١٤٤: أَيْ يَرْجِعُ عَنْ دِينِهِ «فَلَنْ يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئًا» ٣: ١٤٤: أَيْ لَيْسَ يُنْقِصُ ذَلِكَ عِزَّ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَا مُلْكَهُ وَلَا سُلْطَانَهُ وَلَا قُدْرَتَهُ، «وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ» ٣: ١٤٤:
أَيْ مَنْ أَطَاعَهُ وَعَمِلَ
بِأَمْرِهِ [١] .
(ذِكْرُهُ
أَنَّ الْمَوْتَ بِإِذْنِ اللَّهِ):
ثُمَّ قَالَ: «وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتابًا مُؤَجَّلًا» ٣: ١٤٥:
أَيْ أَنَّ لِمُحَمَّدِ ﷺ أَجَلًا
هُوَ بَالِغُهُ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ عز وجل فِي ذَلِكَ كَانَ. «وَمن يُرِدْ
ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمن يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها،
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» ٣: ١٤٥: أَيْ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الدُّنْيَا،
لَيْسَتْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، نُؤْتِهِ مِنْهَا مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ
رِزْقٍ، وَلَا يَعْدُوهُ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ
[١] قَالَ السهيليّ: «تَأْوِيل هَذِه الْآيَة
حِين انْقَلب أهل الرِّدَّة على أَعْقَابهم فَلم يضر ذَلِك دين الله وَلَا أمة
نبيه. وَكَانَ أَبُو بكر يُسمى أَمِير الشَّاكِرِينَ لذَلِك. وَفِي هَذِه الْآيَة
دَلِيل على صِحَة خِلَافَته، لِأَنَّهُ الّذي قَاتل المنقلبين على أَعْقَابهم من
ردهم إِلَى الدَّين الّذي خَرجُوا مِنْهُ» .
فِي الْآخِرَةِ مِنْ حَظٍّ «وَمن
يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» ٣: ١٤٥ مَا وُعِدَ بِهِ، مَعَ مَا
يُجْزَى عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ فِي دُنْيَاهُ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الشَّاكِرِينَ،
أَيْ الْمُتَّقِينَ.
(ذِكْرُ
شَجَاعَةِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ قَبْلُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ):
ثُمَّ قَالَ: «وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ»
٣: ١٤٦:
أَيْ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ
أَصَابَهُ الْقَتْلُ، وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ: أَيْ جَمَاعَةٌ، فَمَا
وَهَنُوا لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ، وَمَا ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَمَا
اسْتَكَانُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ
دِينِهِمْ، وَذَلِكَ الصَّبْرُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ «وَما كانَ
قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ٣:
١٤٧.
(تَفْسِيرُ
ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدُ
الرِّبِّيِّينَ: رِبِّيٌّ، وَقَوْلُهُمْ: الرِّبَابُ، لِوَلَدِ عَبْدِ مَنَاةَ
بْنِ أدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ، وَلِضَبَّةَ، لِأَنَّهُمْ تَجَمَّعُوا
وَتَحَالَفُوا، مِنْ هَذَا، يُرِيدُونَ الْجَمَاعَاتِ. وَوَاحِدَةُ الرِّبَابِ: رِبَّةٌ
(وَرِبَابَةٌ) [١] وَهِيَ جَمَاعَاتُ قِدَاحٍ أَوْ عِصِيٍّ وَنَحْوِهَا،
فَشَبَّهُوهَا بِهَا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ [٢]:
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ
وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يَفِيصُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ
لَهُ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
حَوْلَ شياطينهم أبابيل ربّ ... يون
شَدُّوا سَنَوَّرًا مَدْسُورَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالرِّبَابَةُ
(أَيْضًا): الْخِرْقَةُ الَّتِي تُلَفُّ فِيهَا الْقِدَاحُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: والسَّنَوَّرُ:
الدُّرُوعُ. وَالدُّسُرُ، هِيَ الْمَسَامِيرُ الَّتِي فِي الْحِلَقِ، يَقُولُ
اللَّهُ عز وجل «وَحَمَلْناهُ
عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ» ٥٤: ١٣.
قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ أَبُو
الْأَخْزَرِ الْحِمَّانِيُّ، مِنْ تَمِيمٍ:
[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢]
هَذِه الْعبارَة من قَوْله «قَالَ أَبُو ذُؤَيْب» إِلَى أول قَوْله «وَقَالَ
أُميَّة» سَاقِطَة فِي أ.
دَسْرًا بِأَطْرَافِ الْقَنَا
الْمُقَوَّمِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ
فَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا ذَلِكَ بِذُنُوبِ مِنْكُمْ،
وَاسْتَغْفِرُوهُ كَمَا اسْتَغْفَرُوهُ، وَامْضُوا عَلَى دِينِكُمْ كَمَا مَضَوْا
عَلَى دِينِهِمْ، وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ رَاجِعِينَ، وَاسْأَلُوهُ
كَمَا سَأَلُوهُ أَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَكُمْ، وَاسْتَنْصِرُوهُ كَمَا
اسْتَنْصَرُوهُ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَكُلُّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ
قَدْ كَانَ، وَقَدْ قُتِلَ نَبِيُّهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا كَمَا فَعَلْتُمْ،
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَحُسْنَ
ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ فِيهَا، وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ.
(تَحْذِيرُهُ
إيَّاهُمْ مِنْ إطَاعَةِ الْكُفَّارِ):
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ» ٣: ١٤٩: أَيْ عَنْ عَدُوِّكُمْ، فَتَذْهَبُ دُنْيَاكُمْ وآخِرَتُكُمْ
«بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» ٣: ١٥٠، فَإِنْ كَانَ مَا
تَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ صِدْقًا فِي قُلُوبِكُمْ فَاعْتَصِمُوا بِهِ، وَلَا
تَسْتَنْصِرُوا بِغَيْرِهِ، وَلَا تَرْجِعُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ مُرْتَدِّينَ
عَنْ دِينِهِ.
«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ» ٣: ١٥١: أَيْ الَّذِي بِهِ كُنْتُ أَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ
بِمَا أَشْرَكُوا بِي مَا لَمْ أَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ حُجَّةٍ، أَيْ فَلَا
تَظُنُّوا أَنَّ لَهُمْ عَاقِبَةَ نَصْرٍ وَلَا ظُهُورٍ عَلَيْكُمْ مَا اعْتَصَمْتُمْ
بِي، وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرِي، لِلْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْكُمْ مِنْهُمْ
بِذُنُوبٍ قَدَّمْتُمُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ، خَالَفْتُمْ بِهَا أَمْرِي
لِلْمَعْصِيَةِ، وَعَصَيْتُمْ بِهَا النَّبِيَّ ﷺ. «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ
وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ
مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [١]، ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَالله ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٣: ١٥٢» أَيْ وَقَدْ وَفَّيْتُ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ
مِنْ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، إذْ تُحِسُّونَهُمْ بِالسُّيُوفِ، أَيْ
الْقَتْلِ، بِإِذْنِي وَتَسْلِيطِي أَيْدِيكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَفَّى أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ.
[١] قَالَ السهيليّ: «قَالَ ابْن عَبَّاس:
هُوَ عبد الله بن جُبَير الّذي كَانَ أَمِيرا على الرُّمَاة، وَكَانَ أَمرهم أَن
يلزموا مكانهم، وَلَا يخالفوا أَمر نَبِيّهم، فثبتت مَعَه طَائِفَة، فاستشهد
واستشهدوا، وهم الَّذين أَرَادوا الْآخِرَة، وَأَقْبَلت طَائِفَة على الْمغنم
وَأخذ السَّلب، فكر عَلَيْهِم الْعَدو وَكَانَت الْمُصِيبَة» .
٨-
سيرة ابْن هِشَام- ٢
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْحَسُّ:
الِاسْتِئْصَالُ: يُقَالُ: حَسَسْتُ الشَّيْءَ: أَيْ اسْتَأْصَلْتُهُ بِالسَّيْفِ
وَغَيْرِهِ. قَالَ جَرِيرٌ:
تَحُسُّهُمْ السُّيُوفُ كَمَا
تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ [١]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسا ...
تَأْكُلُ بَعْدَ الْأَخْضَرِ الْيَبِيسَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي
أُرْجُوزَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ ٣: ١٥٢»: أَيْ تَخَاذَلْتُمْ «وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ٣: ١٥٢»
أَيْ اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِي، أَيْ تَرَكْتُمْ أَمْرَ نَبِيِّكُمْ وَمَا عَهِدَ
إلَيْكُمْ، يَعْنِي الرُّمَاةَ «وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا
تُحِبُّونَ ٣: ١٥٢»: أَيْ الْفَتْحُ، لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَزِيمَةُ الْقَوْمِ عَنْ
نِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ٣: ١٥٢»: أَيْ
الَّذِينَ أَرَادُوا النَّهْبَ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ
الطَّاعَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ ٣: ١٥٢»: أَيْ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ، وَلَمْ يُخَالِفُوا
إلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، لِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا، رَغْبَةً فِيهَا، رَجَاءَ مَا
عِنْدِ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ الَّذِينَ جَاهَدُوا
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخَالِفُوا إلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، لِعَرَضِ مِنْ
الدُّنْيَا، لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَذَلِكَ بِبَعْضِ ذُنُوبِكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا
اللَّهُ عَنْ عَظِيمِ ذَلِكَ، أَنْ لَا يُهْلِكَكُمْ بِمَا أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ
نَبِيِّكُمْ، وَلَكِنِّي عُدْتُ بِفَضْلِي عَلَيْكُمْ، وَكَذَلِكَ «مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٣: ١٦٤» أَنْ عَاقَبَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ فِي عَاجِلِ
الدُّنْيَا أَدَبًا وَمَوْعِظَةً، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْصِلٍ لِكُلِّ مَا
فِيهِمْ مِنْ الْحَقِّ لَهُ عَلَيْهِمْ، بِمَا أَصَابُوا مِنْ مَعْصِيَتِهِ،
رَحْمَةً لَهُمْ، وَعَائِدَةً عَلَيْهِمْ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ.
(تَأْنِيبُهُ
إيَّاهُمْ لِفِرَارِهِمْ عَنْ نَبِيّهم):
ثمَّ أنبّههم بِالْفِرَارِ عَنْ
نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَهُمْ يُدْعَوْنَ لَا يَعْطِفُونَ عَلَيْهِ لِدُعَائِهِ
إيَّاهُمْ، فَقَالَ: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ ٣: ١٥٣»: أَيْ كَرْبًا بَعْدَ كَرْبٍ،
بِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْ إخْوَانِكُمْ، وَعُلُوِّ
[١] تسامى: ارْتَفع. والأجم: جمع أجمة،
وَهُوَ الشّجر الملتف والحصيد: المحصود الْمَقْطُوع.
عَدُوِّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَبِمَا
وَقَعَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: قُتِلَ نَبِيُّكُمْ، فَكَانَ
ذَلِكَ مِمَّا تَتَابَعَ عَلَيْكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى
مَا فَاتَكُمْ، مِنْ ظُهُورِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُمُوهُ
بِأَعْيُنِكُمْ، وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ قَتْلِ إخْوَانِكُمْ، حَتَّى
فَرَّجْتُ ذَلِكَ الْكَرْبَ عَنْكُمْ «وَالله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ٣: ١٥٣.
وَكَانَ الَّذِي فَرَّجَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْكَرْبِ
وَالْغَمِّ الَّذِي أَصَابَهُمْ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل رَدَّ عَنْهُمْ كِذْبَةَ
الشَّيْطَانِ بِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَيًّا
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، هَانَ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْقَوْمِ بَعْدَ
الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُصِيبَةُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ فِي إخْوَانِهِمْ،
حِينَ صَرَفَ اللَّهُ الْقَتْلَ عَنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ. «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاسًا يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ،
يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ، وَالله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٣: ١٥٤»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ عَلَى أَهْلِ الْيَقِينِ بِهِ، فَهُمْ نِيَامٌ لَا يَخَافُونَ،
وَأَهْلُ النِّفَاقِ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ باللَّه غَيْرَ
[١] الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [٢]، تَخَوُّفَ الْقَتْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
لَا يَرْجُونَ عَاقِبَةً، فَذَكَرَ اللَّهُ عز وجل تَلَاوُمَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ
عَلَى مَا أَصَابَهُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ:
«قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ»
٣: ١٥٤ لَمْ تَحْضُرُوا هَذَا الْمَوْطِنَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ
مِنْكُمْ مَا أَظْهَرَ مِنْ سَرَائِرِكُمْ «لَبَرَزَ ٣: ١٥٤» لَأَخْرَجَ
«الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ٣: ١٥٤» إلَى مَوْطِنٍ
غَيْرِهِ يُصْرَعُونَ فِيهِ، حَتَّى يُبْتَلَى بِهِ مَا فِي صُدُورِهِمْ
«وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، وَالله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٣: ١٥٤»:
أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِمَّا اسْتَخْفَوْا بِهِ مِنْكُمْ.
[١] أَي يظنون أَن الله خاذل دينه وَنبيه.
[٢]
أَي أهل الْجَاهِلِيَّة كأبى سُفْيَان وَأَصْحَابه.
(تَحْذِيرُهُمْ أَنْ يَكُونُوا
مِمَّنْ يَخْشَوْنَ الْمَوْتَ فِي اللَّهِ):
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى، لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا
وَما قُتِلُوا، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، وَالله
يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ٣: ١٥٦: أَيْ لَا تَكُونُوا
كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ إخْوَانَهُمْ عَنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل، وَطَاعَةِ
رَسُولِهِ ﷺ، وَيَقُولُونَ إذَا مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا: لَوْ أَطَاعُونَا مَا
مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ٣:
١٥٦» لِقِلَّةِ الْيَقِينِ بِرَبِّهِمْ، «وَالله يُحْيِي وَيُمِيتُ ٣: ١٥٦»: أَيْ
يُعَجِّلُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ آجَالِهِمْ
بِقُدْرَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: «وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ٣: ١٥٧: أَيْ إنَّ الْمَوْتَ لَكَائِنٌ لَا
بُدَّ مِنْهُ، فَمَوْتٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَتْلٌ، خَيْرٌ لَوْ عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا
مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنْ الدُّنْيَا الَّتِي لَهَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْ
الْجِهَادِ، تَخَوُّفَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ لِمَا جَمَعُوا مِنْ زَهْرَةِ
الدُّنْيَا زَهَادَةً فِي الْآخِرَةِ «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ٣: ١٥٨»
أَيُّ ذَلِكَ كَانَ «لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ٣: ١٥٨»: أَيْ أَنَّ إلَى
اللَّهِ الْمَرْجِعَ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الدُّنْيَا، وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا،
وَلْيَكُنْ الْجِهَادُ وَمَا رَغَّبَكُمْ اللَّهُ فِيهِ مِنْ ثَوَابِهِ آثَرَ
عِنْدَكُمْ مِنْهَا.
(ذِكْرُهُ
رَحْمَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ):
ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى:
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» ٣:
١٥٩: أَيْ لَتَرَكُوكَ «فَاعْفُ عَنْهُمْ» ٣: ١٥٩:
أَيْ فَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ
«وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ٣: ١٥٩ فَذَكَرَ
لِنَبِيِّهِ ﷺ لِينَهُ لَهُمْ، وَصَبْرَهُ عَلَيْهِمْ، لِضَعْفِهِمْ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِمْ
عَلَى الْغِلْظَةِ لَوْ كَانَتْ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا خَالَفُوا عَنْهُ
مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى:
«فَاعْفُ عَنْهُمْ ٣: ١٥٩»: أَيْ
تَجَاوَزْ عَنْهُمْ، «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ٣: ١٥٩» ذُنُوبَهُمْ، مَنْ قَارَفَ [١]
مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ٣: ١٥٩: أَيْ
[١] يُقَال: قارف الرجل الذَّنب: إِذا دخل
فِيهِ ولابسه.
لِتُرِيهِمْ أَنَّكَ تَسْمَعُ
مِنْهُمْ، وَتَسْتَعِينُ بِهِمْ، وَإِنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْهُمْ، تَأَلُّفًا
لَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى دِينِهِمْ فَإِذا عَزَمْتَ ٣: ١٥٩: أَيْ عَلَى أَمْرٍ
جَاءَكَ مِنِّي وَأَمْرٍ مِنْ دِينِكَ فِي جِهَادِ عَدُوِّكَ لَا يُصْلِحُكَ وَلَا
يُصْلِحُهُمْ إلَّا ذَلِكَ، فَامْضِ عَلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ، عَلَى خِلَافِ مَنْ
خَالَفَكَ، وَمُوَافَقَةِ من وَافَقَك، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ٣: ١٥٩، أَيْ
ارْضَ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ٣: ١٥٩- ١٦٠: أَيْ لِئَلَّا تَتْرُكَ أَمْرِي
لِلنَّاسِ، وَارْفُضْ أَمْرَ النَّاسِ إلَى أَمْرِي، وَعَلَى اللَّهِ لَا عَلَى
النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
(مَا
نَزَلَ فِي الْغُلُولِ):
ثُمَّ قَالَ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ، وَمن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ٣: ١٦١: أَيْ مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ النَّاسَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ إلَيْهِمْ،
عَنْ رَهْبَةٍ مِنْ النَّاسِ وَلَا رَغْبَةٍ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَأْتِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ، ثُمَّ يُجْزَى بِكَسْبِهِ، غَيْرَ مَظْلُومٍ وَلَا
مُعْتَدًى عَلَيْهِ «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ٣: ١٦٢» عَلَى مَا
أَحَبَّ النَّاسُ أَوْ سَخِطُوا «كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ ٣: ١٦٢»
لِرِضَا النَّاسِ أَوْ لِسَخَطِهِمْ. يَقُولُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى طَاعَتِي،
فَثَوَابُهُ الْجَنَّةُ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ
اللَّهِ وَاسْتَوْجَبَ سَخَطَهُ، فَكَانَ «مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
٣: ١٦٢» أَسَوَاءٌ الْمِثْلَانِ! فَاعْرِفُوا. «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ،
وَالله بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ٣: ١٦٣» لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فِي
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: أَيْ إنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَهْلُ طَاعَتِهِ
مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ.
(فَضْلُ
اللَّهِ عَلَى النَّاسِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ):
ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا من أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ،
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٣: ١٦٤: أَيْ لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، إذْ بَعَثَ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِهِ فِيمَا أَحْدَثْتُمْ، وَفِيمَا
عَمِلْتُمْ، فَيُعَلِّمَكُمْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لِتَعْرِفُوا الْخَيْرَ
فَتَعْمَلُوا بِهِ، وَالشَّرَّ فَتَتَّقُوهُ، وَيُخْبِرَكُمْ بِرِضَاهُ عَنْكُمْ
إذَا أَطَعْتُمُوهُ فَتَسْتَكْثِرُوا مِنْ طَاعَتِهِ وَتَجْتَنِبُوا مَا سَخِطَ
مِنْكُمْ مِنْ مَعْصِيَتِهِ،
لِتَتَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِنْ
نِقْمَتِهِ، وَتُدْرِكُوا بِذَلِكَ ثَوَابَهُ مِنْ جَنَّتِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مَبِينٍ: أَيْ لَفِي عَمْيَاءَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ
لَا تَعْرِفُونَ حَسَنَةً ولَا تَسْتَغْفِرُونَ مِنْ سَيِّئَةٍ، صُمٌّ عَنْ
الْخَيْرِ، بُكْمٌ عَنْ الْحَقِّ، عُمْيٌ عَنْ الْهُدَى.
(ذِكْرُهُ
الْمُصِيبَةَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ):
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصِيبَةَ الَّتِي
أَصَابَتْهُمْ، فَقَالَ: «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْها قُلْتُمْ: أَنَّى هَذَا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، إِنَّ
اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣: ١٦٥»: أَيْ إنْ تَكُ قَدْ أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ فِي إخْوَانِكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فَقَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قَبْلُ
مِنْ عَدُوِّكُمْ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ بِبَدْرِ، قَتْلًا
وَأَسْرًا وَنَسِيتُمْ مَعْصِيَتَكُمْ وَخِلَافَكُمْ عَمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ
نَبِيُّكُمْ ﷺ، أَنْتُمْ أَحْلَلْتُمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣: ١٦٥: أَيْ إنَّ اللَّهَ عَلَى مَا أَرَادَ بِعِبَادِهِ
مِنْ نِقْمَةٍ أَوْ عَفْوٍ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ٣: ١٦٦: أَيْ مَا أَصَابَكُمْ
حِينَ الْتَقَيْتُمْ أَنْتُمْ وَعَدُوُّكُمْ فَبِإِذْنِي، كَانَ ذَلِكَ حِينَ
فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بَعْدَ أَنْ جَاءَكُمْ نَصْرِي، وَصَدَقَتْكُمْ
وَعْدِي، لِيُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نافَقُوا ٣: ١٦٧» مِنْكُمْ: أَيْ لِيُظْهِرَ مَا فِيهِمْ. «وَقِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ٣: ١٦٧»: يَعْنِي عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ رَجَعُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
حِينَ سَارَ إلَى عَدُوِّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدِ، وَقَوْلَهُمْ: لَوْ
نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَسِرْنَا مَعَكُمْ، وَلَدَفَعْنَا عَنْكُمْ،
وَلَكِنَّا لَا نَظُنُّ أَنَّهُ يَكُونُ قِتَالٌ. فَأَظْهَرَ مِنْهُمْ مَا كَانُوا
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ٣:
١٦٧ أَيْ يُظْهِرُونَ لَكَ الْإِيمَانَ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ
بِما يَكْتُمُونَ ٣: ١٦٧: أَيْ مَا يُخْفُونَ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ٣:
١٦٨ الَّذِينَ أُصِيبُوا مَعَكُمْ مِنْ عَشَائِرِهِمْ وَقَوْمِهِمْ: لَوْ
أَطاعُونا مَا قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ ٣: ١٦٨: أَيْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَوْتِ، فَإِنْ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِكُمْ فَافْعَلُوا، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ إنَّمَا نَافَقُوا وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حِرْصًا
عَلَى الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَفِرَارًا مِنْ الْمَوْتِ.
(التَّرْغِيبُ فِي الْجِهَادِ):
ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ،
يُرَغِّبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِهَادِ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ الْقَتْلَ: وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ،
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٣: ١٦٩- ١٧٠: أَيْ لَا تَظُنَّنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا: أَيْ قَدْ أَحْيَيْتهمْ،
فَهُمْ عِنْدِي يُرْزَقُونَ فِي رَوْحِ الْجَنَّةِ وَفَضْلِهَا، مَسْرُورِينَ
بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى جِهَادِهِمْ عَنْهُ،
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: أَيْ
وَيُسَرُّونَ بِلُحُوقِ مَنْ لَحِقَهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمْ عَلَى مَا مَضَوْا
عَلَيْهِ مِنْ جِهَادِهِمْ، لِيَشْرَكُوهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِ
اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْخَوْفَ
وَالْحَزَنَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ٣: ١٧١ لِمَا
عَايَنُوا مِنْ وَفَاءِ الْمَوْعُودِ، وَعَظِيمِ الثَّوَابِ.
(مَصِيرُ
قَتْلَى أُحُدٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ
أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرِ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ،
وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ، فِي ظِلِّ
الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ
مَقِيلِهِمْ، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ
بِنَا، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا [١] عَنْ [٢]
الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: وَلا تَحْسَبَنَّ ٣: ١٦٩
...» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ بْنُ الْفَضِيلِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الشُّهَدَاءُ عَلَى
بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ
رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا
[١] لَا ينكلُوا: أَي لَا يرجِعوا هائبين
لعدوهم، خَائِفين مِنْهُ.
[٢]
فِي م، ر: «عِنْد» .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ٣: ١٦٩ فَقَالَ: أَمَا
إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْهَا فَقِيلَ لَنَا: إنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ
بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ
أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ
مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَيَطَّلِعُ اللَّهُ عز وجل عَلَيْهِمْ
اطِّلَاعَةً فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ فَأَزِيدَكُمْ؟ قَالَ:
فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتنَا، الْجَنَّةُ [١] نَأْكُلُ
مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا! قَالَ: ثُمَّ يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اطِّلَاعَةً،
فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ، فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا
لَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتنَا، الْجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا! قَالَ:
ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ اطِّلَاعَةً، فَيَقُولُ:
يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ
فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا فَوْقَ مَا أَعْطَيْتنَا، الْجَنَّةُ
نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا. إلَّا أَنَّا نُحِبُّ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا
فِي أَجْسَادِنَا، ثُمَّ نُرَدُّ إلَى الدُّنْيَا، فَنُقَاتِلُ فِيكَ، حَتَّى
نُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ:
إنَّ أَبَاكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ أَحْيَاهُ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ قَالَ
لَهُ: مَا تُحِبُّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ قَالَ:
أَيْ رَبِّ، أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي
إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ فِيكَ، فَأُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُفَارِقُ
الدُّنْيَا يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَأَنَّ لَهُ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُرَدَّ إلَى
الدُّنْيَا، فَيُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى.
[١] قَالَ أَبُو ذَر فِي التَّعْلِيق على
هَذِه الْعبارَة «يرْوى هُنَا بالخفض وَالرَّفْع، وبخفض الْجنَّة على الْبَدَل من
(مَا) فِي قَوْله (مَا أَعطيتنَا) ورفعها على خبر مبتدإ مُضْمر، تَقْدِيره:
الْجنَّة، أَو هِيَ الْجنَّة» .
(ذِكْرُ من خَرجُوا على الرَّسُولِ
إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ
الْقَرْحُ ٣: ١٧٢: أَيْ الْجِرَاحُ، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ سَارُوا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ [١] عَلَى
مَا بِهِمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيمانًا، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ٣: ١٧٢- ١٧٣، وَالنَّاسُ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ مَا
قَالُوا، النَّفَرُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو
سُفْيَانَ مَا قَالَ؟ قَالُوا إنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ رَاجِعُونَ
إلَيْكُمْ. يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَالله ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ ٣: ١٧٤ لِمَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، إِنَّمَا
ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ، أَيْ لِأُولَئِكَ الرَّهْطِ وَمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ
عَلَى أَفْوَاهِهِمْ «يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ»: أَيْ يُرْهِبُكُمْ
بِأَوْلِيَائِهِ، فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ٣: ١٧٥- ١٧٦: أَيْ
الْمُنَافِقُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، يُرِيدُ اللَّهُ
أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا
وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ٣: ١٧٦- ١٧٩:
أَيْ الْمُنَافِقِينَ وَما كانَ
اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ٣: ١٧٩: أَيْ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ
يَبْتَلِيَكُمْ بِهِ، لِتَحْذَرُوا مَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلكِنَّ
اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ٣: ١٧٩ أَيْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ٣: ١٧٩: أَيْ تَرْجِعُوا
وَتَتُوبُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ٣: ١٧٩.
[١] حَمْرَاء الْأسد: مَوضِع على ثَمَانِيَة
أَمْيَال من الْمَدِينَة، عَن يسَار الطَّرِيق إِذا أردْت ذَا الحليفة.
(انْظُر مُعْجم مَا استعجم للبكرى،
فِي رسم حَمْرَاء الْأسد، ورسم النقيع) .
.jpeg)