بسم الله الرحمن الرحيم
*
١
- بَابُ
مَا جَاءَ فِي حَقرِ زَمزَم وَقَدْ دَخَلَ فِي الْحَجِّ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ من
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
° [١٠٥٥٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا ذُكِرَ
مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسَولِ اللهِ ﷺ، أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجَتْ مِنَ
الْحَرَمِ فَارَّةً مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَهُوَ غلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَخرُجُ مِن حَرَمِ اللَّهِ أَبْتَغِي الْعِزَّ (١) فِي غَيْرِهِ،
فَجَلَسَ عِنْدَ البَيْتِ، وَأَجْلَتْ عَنْهُ قُرَيْشٌ، فَقَالَ:
لَاهُمَّ إِنَّ المَرْءَ يَمْـ …
ـنَعُ رَحْلَهُ فَامنَعْ رِحَالَك
لَا يَغلِبَنَّ صَلِيبُهُم …
وَمِحَالُهُم غَدْوَا (٢) مِحَالَك
فَلَمْ يَزَلْ ثَابِتًا حَتَّى
أَهْلَكَ اللَّهُ تبارك وتعالى الْفِيلَ وَأَصْحَابَهُ، فَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ
وَقَدْ عَظُمَ فِيهِمْ بِصَبْرِهِ، وَتَعْظِيمِهِ مَحَارِمَ اللَّهِ، فَبَيْنَا
هُمْ عَلَى ذَلِكَ وُلِدَ لَهُ أَكبَرُ بَنِيهِ، فَأَدْرَكَ، وهُوَ الْحَارِثُ بْن
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأُتِيَ عَبْدُ المُطَّلِبِ فِي الْمَنَامِ، فَقِيلَ (٣)
لَهُ: احْفُرْ زَمْزَمَ، خَبِيثَةَ الشَّيْخِ الأَعْظَمِ، قَالَ: فَاسْتَيقَظَ،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لِي، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ مَرَّةً أُخْرَى:
احْفُرْ زَمْزَمَ (٤) بَيْنَ الفَرْثِ (٥) وَالدَّمِ فِي مَبْحَثِ الْغُرَابِ فِي قَرْيَةِ
النَّمْلِ (٦)
* [٣/ ٦٥ أ].
(١)
تصحف في الأصل إلى: «العير»، والتصويب من «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» (٧/
٢٧٣) معزوا للمصنف، «أخبار مكة» للأزرقي (٢/ ٤٢).
(٢)
الغدو: الذهاب غدوة (أول النهار) ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت
كان.
(انظر: التاج، مادة: غدو).
(٣)
تصحف في الأصل إلى: «فقال»، والتصويب من المصدرين السابقين.
(٤)
بعده في الأصل: «تكتم» وهو مزيد خطأ، والتصويب من المصدرين السابقين.
(٥)
الفرث: بقايا الطعام في الكرش. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: فرث).
(٦)
تصحف في الأصل إلى: «الدم»، والتصويب من المصدرين السابقين.
مُسْتَقبِلَةَ الْأَنْصَابِ
الْحُمْرِ، قَالَ: فَقَامَ عَندُ المُطَّلِبِ، فَمَشَى حَتَّى جَلَسَ فِي
الْمَسْجِدِ الحَرَامِ يَنْظُرُ مَا خُبِّئَ لَهُ مِنَ الآيَاتِ (١)، فَنُحِرَتْ
بَقَرَةٌ بِالحَزوَرَةِ، فَانْفَلَتت مِنْ جَازِرِهَا بِحُشَاشَةِ نَفْسِهَا، حَتَّى
غَلَبَهَا المَوتُ فِي المَسْجِدِ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَجُزِرَتْ تِلْكَ
البَقَرَةُ فِي مَكَانِهَا، حَتَّى احْتمِلَ لَحْمُهَا، فَأَقبَلَ غُرَابٌ يَهْوِي
حَتَّى وَقَعَ فِي الفَرْثِ، فَبَحَثَ فِي قَرْيَةِ النَّمْلِ (٢)، فَقَامَ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ يَحفِر هُنَالِكَ، فَجَاءَتْهُ قرَيْشٌ فَقَالُوا لِعَبْدِ
المُطَّلِبِ: مَا هَذَا الصنِيعُ؟ لَم نَكُنْ نَزُنُّك بِالْجَهْلِ، لِمَ تَحفِرُ
فِي مَسْجِدِنَا؟ فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: إِني لَحَافِر هَذِهِ الْبِئْرَ،
وَمُجَاهِدٌ مَنْ صدَّنِي عَنْهَا (٣)، فَطَفِقَ يَحْفِرُ هُوَ وَابنهُ الْحَارِث
وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَيَسْعَى عَلَيهِمَا نَاسٌ مِن
قُرَيشٍ، فَيُنَازِعُونَهُمَا، وَيُقَاتِلُونَهُمَا، وَيَنْهَى عَنْهَ النَّاسُ
مِنْ قُرَيْشٍ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ عِتْقِ نَسَبِهِ، وَصدْقِهِ، وَاجْتِهَادِهِ
فِي دِينِهِ يَومَئِذٍ، حَتَّى إِذَا أَمْكَنَ الْحَفْرُ، وَاشْتَدَّ عَلَيهِ
الأَذَى، نَذَرَ إِنْ وفَيَ لَهُ بِعَشَرة مِنَ الْوَلَدِ أَنْ يَنحَرَ أَحَدَهُم،
ثمَ حَفَرَ حَتَّى أَدْرَكَ سُيُوفًا دُفِنَت فِي زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَأَتْ
قرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ السُّيُوفَ، فَقَالُوا لِعَبْدِ الْمُطلِبِ:
أَحْذِنَا مِمَّا وَجَدْتَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: بَلْ هَذِهِ السُّيُوفُ
لَبَيْتِ اللَّهِ، ثُمَّ حَفَرَ حَتَّى أَنْبَطَ الْمَاءَ، فَحَفَرَهَا فِي
الْقَرَارِ، ثُمَّ بَحَرَهَا حَتَّى لَا تَنْزِفَ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهَا حَوْضًا،
وَطَفِقَ هُوَ وَابْنُهُ يَنْزِعَانِ فَيَمْلَآنِ ذَلِكَ الْحَوْضَ، فَيَشْرَبُ
مِنْهُ الْحَاجُّ، فَيَكْسِرُهُ نَاسٌ مِنْ حَسَدَةِ قُرَيْشٍ بِاللَّيْلِ،
وَيُصْلِحُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ يُصْبحُ، فَلَمَّا أَكثَرُوا فَسَادَهُ، دَعَا
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَبَّهُ، فَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلِ:
اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، وَلَكِنْ هِيَ لِشَارِبٍ حِلُّ
وَبَلٌّ، ثُمَّ كُفِيتَهُمْ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ اخْتَلَفَت (٤)
قُرَيْشٌ بِالْمَسْجِدِ، فَنَادَى بِالَّذِي أُرِيَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ
يَكُنْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ حَوْضَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا رُمِيَ بِدَاءٍ
فِي جَسَدِهِ، حَتَّى
(١) الآيات: جمع آية، وهي المعجرة والكرامة،
وسميت آية لأنها علامة النبوة. (انظر: المرقاة) (١٠/ ٢٤٤).
(٢)
تصحف في الأصل إلى: «الدم»، والتصويب من المصدرين السابقين.
(٣)
غير واضح في الأصل، وأثبتناه من المصدرين السابقين.
(٤)
في الأصل: «أجفرت»، والتصويب من المصدرين السابقين.
تَرَكُوا لَهُ حَوْضهُ ذَلِكَ،
وَسِقَايَتَهُ، ثمَّ تَزَوَّجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النِّسَاءَ فَوُلِدَ لَه
عَشَرَةُ رَهطٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِني كُنْتُ نَذَرْتُ لَكَ نَحْرَ أَحَدِهِم،
وَإِنِّي أُقرعُ بَيْنَهُمْ، فَأَصِبْ بِذَلِكَ مَنْ شِئتَ، فَأَقرَعَ بَيْنَهُمْ،
فَصَارَتِ الْقُرْعَة عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ
أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هُوَ * أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ
مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ؟ قَالَ: ثُمَّ أَقرَعَ بَينَهُ وَبَينَ مِائَةٍ مِنَ
الْإِبِلِ، فَصَارَتِ القرْعَةُ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ مَكَانَ عَبدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَحْسَنَ رَجُلٍ
رُئِيَ فِي قُرَيشٍ قَطُّ، فَخَرَجَ يَوْمًا عَلَى نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ
مَجْتَمِعَاتٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنهُنَّ: يَا نِسَاءَ قرَيشٍ، أَيَّتُكنَّ
يَتَزَوَّجُهَا هَذَا الفَتَى فَنَصَطَتِ النُّورَ الَّذِي بَيْنَ عَينَيْهِ،
قَالَ: وَكَانَ (١) بَينَ عَينَيْهِ نُورٌ فَتَزَوَّجَتْهُ آمِنَةُ ابنَةُ وَهبِ
بنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَجَمَعَهَا، فَالْتَقَت (٢) فَحَمَلَت بِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ بَعَثَ عَبْد الْمُطَّلِبِ عَبْدَ اللِّهِ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ يَمتَارُ لَهُ تَمْرًا مِن يَثرِبَ، فَتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ
بِهَا، وَوَلَدَتْ آمِنَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ فِي حَجْرِ (٣) عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، فَاسْتَرْضَعَهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ،
فَنَزَلَتْ بِهِ الَتِي تُرْضعُهُ سُوقَ عُكَاظٍ، فَرَآهُ كَاهِنٌ مِنَ
الْكُهَّانِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ عُكَاظٍ، اقْتُلُوا هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ
لَهُ مُلْكًا، فَرَاعَتْ بِهِ أمُّهُ الَتِي تُرْضعُهُ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ
شَبَّ عِنْدَهَا، حَتَّى إِذَا سَعَى وَأُخْتُهُ مِنَ الرَّضاعَةِ تَحْضنُهُ،
فَجَائتْهُ أُخْتُهُ مِنْ أُمِّهِ الَّتِي تُرْضعُهُ، فَقَالَتْ: أَيْ أُمَّتَاهْ،
إِني رَأَيْتُ رَهْطًا أَخَذُوا أَخِي آنِفًا، فَشَقُّوا بَطْنَهُ، فَقَامَتْ
أُمَّهُ الَّتِي تُرْضِعُهُ فَزِعَةً، حَتَّى أَتَتهُ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ
مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، لَا تَرَى عِنْدَهُ أَحَدًا، فَارْتَحَلَتْ بِهِ، حَتَّى
أَقْدَمَتهُ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ لَهَا: اقْبِضِي عَنِّي ابنَكِ، فَإِنِّي
قَدْ خَشِيتُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: لَا وَاللَّهِ، مَا بِابْنِي مَا (١)
تَخَافِينَ، لَقَدْ رَأَيْتُ وَهُوَ فِي بَطْنِي أَنَّهُ خَرَجَ نُورٌ مِنِّي
أَضاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَلَقَدْ وَلَدَتْهُ حِينَ وَلَدَتْهُ، فَخَرَّ
مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَافْتَصلَتْهُ
أُمُّهُ وَجَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ
* [٣/ ٦٥ ب].
(١)
سقط من الأصل، والسياق يقتضيه.
(٢)
كذا في الأصل، ولم نتبينه.
(٣)
الحجر: الحضانة والتربية. (انظر: المشارق) (١/ ١٨١).
توُفيَت أُمُّهُ، فَهَمَّ (١) فِي
حَجْرِ جَدِّهِ، فَكَانَ وَهُوَ غُلامٌ يَأتي وِسَادَةَ جَدِّهِ، فيَجْلِسُ
عَلَيْهَا، فَيَخْرُجُ جَدُّهُ وَقَدْ كَبُرَ، فَتَقُولُ الْجَارِيَةُ الَّتِي
تَقُودُهُ: انْزِلْ عَنْ وِسَادَةِ جَدِّكَ، فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: دَعِي
ابنِي، فَإِنَّهُ مُحسِنٌ بِخَيْرٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ جَدُّهُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ
غُلَامٌ، فَكَفَلَهُ أَبو طَالِبٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِيهِ
وَأُمِّهِ، فَلَمَّا نَاهَزَ الْحُلُمَ، ارْتَحَلَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ تَاجِرًا
قِبَلَ الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَا تَيْمَاءَ رَآهُ حَبْرٌ مِنْ يَهُودِ تَمِيمٍ،
فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: هُوَ ابْنُ أَخِي،
قَالَ لَهُ: أَشَفِيقٌ أَنْتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَئِنْ
قَدِمْتَ بِهِ إِلَى الشَامِ لَا تَصِلُ بِهِ إِلَى أَهْلِكَ أَبَدًا،
لَيَقتُلُنَّهُ، إِنَّ هَذَا عَدُوُّهُمْ، فَرَجَعَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ تَيْمَاءَ
(٢) إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحُلُمَ، أَجمَرَتِ
امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِن مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الكَعْبَةِ
فَأَحْرَقَتهَا، وَوَهَتْ، فَتَشَاوَرَتْ قُرَيْش فِي هَدْمِهَا، وَهَابُوا
هَدْمَهَا، فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: مَا تُرِيدُونَ
بِهَدمِهَا؟ الْإِصْلَاحَ تُرِيدُونَ أَمِ الْإِسَاءَةَ؟ فَقَالُوا: بَلِ
الْإِصلَاحَ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ لَا يُهلِكُ المُصْلِحَ، قَالُوا: فَمَنِ
الَّذِي يَعْلُوهَا فَيَهدِمُهَا؟ قَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أَعْلُوهَا،
فَأَهْدِمُهَا، فَارْتَقَى الْوَلِيدُ بْنُ المُغِيرةِ عَلَى ظَهْرِ الْبَيتِ،
وَمَعَهُ الْفَأْسُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْإِصلَاحَ،
ثُمَّ هَدَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْش قَد هَدَمَ مِنْهَا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ
مَا خَافُوا مِنَ العَذَابِ، هَدَمُوا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا
مَوْضعَ الرُّكنِ، اجتَمَعَت قُرَيْش فِي الرُّكْنِ، أَيُّ الْقَبَائِلِ
تَرْفَعُهُ؟ حَتَّى كَادَ يَشْجُرُ بَينَهُمْ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ
أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَاصطَلَحُوا عَلَى
ذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهوَ غُلَامٌ عَلَيهِ وِشَاحُ (٣)
نَمِرةٍ، فَحَكَّمُوهُ، فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ، فَوُضِعَ في ثَوْبٍ، ثُمَّ أَمَرَ *
بِسَيِّدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ، أَعْطَاهُ بِنَاحِيَةِ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى
وَرَفَعوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ، ثُمَّ طَفِقَ لَا يَزْدَادُ
(١) كذا في الأصل، ولم نتبينه.
(٢)
تصحف في الأصل إلى: «تميم»، وصوبناه من الموضع السابق في الحديث.
(٣)
الوشاح: نسيج من أديم عريض يرصع بالجوهر، وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها
(خصريها). (انظر: معجم الملابس) (ص ٥٢٧).
* [٣/
٦٦ أ].
فيهِمْ بِمَرِّ (١) السِّنِينَ
إِلَّا رِضًا، حَتَّى سَمَّوه الْأَمِينَ قَبْلَ أَنْ يُنَزلَ عَلَيْهِ الْوَحي،
ثُمَّ طَفِقُوا لَا يَنْحَرُونَ جَزُورًا (٢) لِبَيْعٍ إِلَّا دَرُوهُ فَيَدْعُو
لَهُمْ فِيهَا، فَلَمَّا اسْتَوَى وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَلَيْسَ لَهُ كَثِيرُ
مَالٍ اسْتَأْجَرَتْهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ إِلَى سُوقِ حُبَاشَةَ وَهُوَ
سُوقٌ بِتِهَامَةَ وَاسْتَأْجَرَتْ مَعَهُ رَجُلًا آخَرَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنهَا: «مَا رَأَيتُ مِن صَاحِبَةِ أَجِيرٍ
خَيرًا مِنْ خَدِيجَةَ، مَا كُنا نَرجِعُ أَنَا وَصَاحِبِي إِلَّا وَجَدْنَا
عِنْدَهَا تُحفَةً مِن طَعَامٍ تُخَبِّئه لَنَا»، قَالَ: «فَلَمَّا رَجَعْنَا مِن
سُوقِ حُبَاشَةَ»، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قُلْتُ لِصَاحِبِي: انْطَلِق بِنَا
نُحْدِثُ عِندَ خَدِيجَةَ»، قَالَ: «فَجِئْنَاهَا فَبَينَا نَحْنُ عِندَهَا إِذ
دَخَلَتْ عَلَينَا مُنتَشِيَةٌ مِنْ موَلَّدَاتِ قُرَيشٍ»، وَالْمُنْتَشِيَةُ:
النَّاهِدُ الَّتِي تَشْتَهِي الرَّجُلَ، «قَالَت: أَمُحَمَدٌ هَذَا؟ وَالَّذِي
يُخلَفُ بِهِ إِن جَاءَ لَخَاطِبا، فَقُلت: كَلَّا، فَلَمَّا خَرَجنَا أَنَا
وَصَاحِبِي، قَالَ: أَمِن خِطبَةِ خَدِيجَةَ تَستَحيِي؟ فَوَاللَّهِ مَا مِن
قُرَشِيةٍ إِلَّا تَرَاكَ لَهَا كُفُؤًا»، قَالَ: «فَرَجَعتُ إِلَيهَا مَرَّةً
أخرَى، فَدَخَلَت عَلَينَا تِلكَ المُتتَشِيَةُ، فَقَالَت: أَمُحَمَّدٌ هَذَا؟
وَالَّذِي يُخلَفُ بِهِ إِن جَاءَ لَخَاطِبا»، قَالَ: «قُلْتُ عَلَى حَيَاءٍ:
أَجَل»، قَالَ: «فَلَم تَعْصِنَا خَدِيجَةُ وَلَا أُخْتهَا»، فَانْطَلَقَتْ إِلَى
أَبِيهَا خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ وَهُوَ ثَمِلٌ مِنَ الشَّرَابِ، فَقَالَتْ: هَذَا
ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللهِ يَخْطُبُ خَدِيجَةَ، وَقَدْ رَضِيَتْ
خَدِيجَةُ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ فَأَنْكَحَهُ،
قَالَ: فَخَلَّقَتْ خَدِيجَةَ، وَحَلَّتْ عَلَيْهِ حُلَّةً، فَدَخَلَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَحَا الشَّيْخُ مِنْ سُكْرِهِ، فَقَالَ: مَا
هَذَا الْخَلُوقُ (٣)؟ وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ (٤)؟ قَالَت أُخْتُ خَدِيجَةَ:
هَذِهِ حُلَّةٌ كَسَاكَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنْكَحْتَهُ
خَدِيجَةَ، وَقَدْ بَنَى بِهَا، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ، ثُمَّ سَلَّمَ إِلَى أَنْ
صارَ ذَلِكَ، وَاسْتَحْيَا
(١) تصحف في الأصل إلى: «عن»، وصوبناه
استظهارا للمعنى.
(٢)
الجزور: البعير (الجمل) ذكرًا كان أو أنثى، والجمع: جُزر وجزائر. (انظر: النهاية،
مادة: جزر).
(٣)
الخلوق: طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره، تغلب عليه الحمرة والصفرة. (انظر:
النهاية، مادة: خلق).
(٤)
الحلة: إزار ورداء برد أو غيره، ويقال لكل واحد منهما على انفراد: حلة، وقيل: رداء
وقميص وتمامها العمامة، والجمع: حُلَل وحِلَال. (انظر: معجم الملابس) (ص ١٣٦).
وَطَفِقَتْ رُجَّازٌ مِن رُجَّازِ
قُرَيشٍ، تَقُول:
لَا تَزهَدِي خَدِيجُ فِي مُحَمَّدِ
… جَلدٌ يُضِيء كَضِيَاءِ الفَرْقَدِ
فَلَبِثَ رَسُول اللهِ ﷺ مَعَ
خَدِيجَةَ حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ بَعْضَ بَنَاتِهِ، وَكَانَ لَهَا وَلَهُ
الْقَاسِم، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا وَلَدَت لَهُ غُلَامًا
آخَرَ يُسَمَّى الطَّاهِرَ، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا نَعْلَمُهَا وَلَدَتْ لَهُ
إِلَّا الْقَاسِمَ، وَوَلَدَتْ لَهُ بَنَاتَهُ الْأَرْبَعَ: زَينَبَ، وَفَاطِمَةَ،
وَرُقَيَّةَ، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدَمَا وَلَدَت لَهُ
بَعْضَ بَنَاتِهِ يَتَحَنَّث وَحُبِّبَ إِلَيهِ الخَلَاءُ (١).
° [١٠٥٥٤]
عبد الرزاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزّهْرِيّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بدِئَ بِهِ رَسُولُ
اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصادِقَةُ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤيَا إِلَّا
جَاءَتْ مِثلَ فَلَقِ الصُّبْحِ (٢)، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ
يَأْتِي حِرَاءَ (٣)، فيَتَحَنَّثُ فيهِ، - وَهُوَ التَعَبُّدُ اللَّيَالِيَ
ذَوَاتِ العَدَدِ - وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ
فَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ
لِمِثْلِهَا، فَحِينَ مَا جَاءَهُ الْحَقُ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ
المَلَكُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ *: اقْرَأْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قُلتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي
حَتَّى بَلَغَ مِنَي الجَهْدَ (٤)، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقلتُ:
مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِني
(١) سبق عند المصنف برقم (٩٤٣٧).
° [١٠٥٥٤]
[الإتحاف: حب كم حم عه ٢٢١٥٢].
(٢)
فلق الصبح: ضوءه وإنارته. (انظر: النهاية، مادة: فلق).
(٣)
حراء: جبل يقع في الشمال الشرقي من مكة المكرمة، وهو الغار الذي كان يتعبد فيه ﷺ،
ويسمى جبل النور. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٩٧).
* [٣/
٦٦ ب].
(٤)
الجهد: هو بالفتح: المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم: الوسع والطاقة، وقيل:
هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير. (انظر:
النهاية، مادة: جهد).
الْجَهدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي،
فَقَالَ: ﴿اقرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿مَا لَم يَعلَمْ﴾»
[العلق: ١ - ٥]، فَرَجَعَ بِهَا تَرجُفُ بَوَادِرهُ (١)،
حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: «زَمِّلونِي (٢)، زَمِّلُونِي»،
فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع (٣)، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «مَا لِي»
وَأَخبَرَهَا الخَبَرَ، فَقَالَ: «قَد خَشِيتُ عَلَيَّ»؟ فَقَالَتْ: كَلَّا،
وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدَق
الحَدِيثَ، وَتَقرِي (٤) الضيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ (٥) الْحَقِّ، ثمَّ
انطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ رَاشدِ
بنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخو أَبِيهَا،
وَكَانَ تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ،
فَكَتَبَ بِالعَرَبِيَّةِ مِنَ الإنْجِيلِ مَا شَاءَ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ
شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّي، اسْمَعْ
مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي، مَا تَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوس (٦) الَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى مُوسَى عليه السلام، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (٧)، حِينَ يخْرِجُكَ
قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُم»؟ فَقَالَ وَرَقَةُ:
نَعَم لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا أَتَيْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَأُوذِيَ، وإِنْ
يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنصُرْكَ نَصرًا مُؤَزَّرًا (٨)، ثُمَّ لَمْ يَنشَب (٩)
وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفترَ (١٠)
(١) البوادر: جمع بادرة، وهي لحمة بين المنكب
والعنق. (انظر: النهاية، مادة: بدر).
(٢)
التزمل: التغطي به لثوب، والالتفاف فيه. (انظر: النهاية، مادة: زمل).
(٣)
الروع: الخوف والفزع والفجأة. (انظر: النهاية، مادة: روع).
(٤)
القرى: ما تصنع للضيف من مأكول أو مشروب. (انظر: مجمع البحار، مادة: قرا).
(٥)
النوائب: جمع نائبة، وهي: ما ينوب الإنسان، أي: ينزل به من المهمات والحوادث.
(انظر: النهاية، مادة: نوب).
(٦)
الناموس: صاحب سر الملك، وقيل: الناموس: صاحب سر الخير، وأراد به جبريل عليه
السلام. (انظر:
النهاية، مادة: نمس).
(٧)
الجذع: الشاب، (انظر: النهاية، مادة: جذع).
(٨)
المؤزر: البالغ الشديد. من الأزْر، وهو: القوة والشدة. (انظر: النهاية، مادة: أزر).
(٩)
نشب: لبث. (انظر: النهاية، مادة: نشب).
(١٠)
الفتور: الضعف، والمراد هنا: الانقطاع. (انظر: ذيل النهاية، مادة: فتر).
الْوَحْى فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا بَدَا مِنْهُ أَشَدَّ حُزْنًا، غَدَا
مِنْهُ مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى (١) مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ (٢) الْجِبَالِ،
فَلَمَّا ارْتَقَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ
جَأْشُهُ (٣) وَتَقِرُّ (٤) نَفْسُهُ، فَرَجَعَ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ
فَتْرَةُ الْوَحْيِ عَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا رَقَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ
تَبَدَّى لَهُ جِبرِيلُ ﷺ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
° [١٠٥٥٥]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
وهُوَ يُحَدِّثُ، عَنْ فَترَةِ الْوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «بَينَا أَنَا
أَمشِي سَمِعتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعتُ رَأْسِي، فَإِذَا الَّذِي
جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرسِيٍّ بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ،
فَجَئِثتُ (٥) مِنهُ رُعبًا، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي،
وَدَثِّرُونِي» (٦)، فَأَنرلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾
إِلَى ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: ١ - ٥] قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَهِيَ
الْأَوْثَانُ.
° [١٠٥٥٦]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُرِيتُ فِي الجَنَّةِ بَيتًا لِخَدِيجَةَ مِن قَصَبٍ
(٧) لَا صَخَبَ (٨) فِيهِ وَلَا نَصَبَ»، وَهُوَ قَصَبُ اللُّؤْلُؤِ. قَالَ:
وَسَئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ كَمَا بَلَغَنَا،
فَقَالَ: «رَأَيتُهُ فِي المَنَامِ عَلَيهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ، وَقَد أَظُنُّ أَن
لَو كَانَ مِن أَهلِ النَّارِ لَم أَرَ عَلَيْهِ البَيَاضَ»، قَالَ: ثُمَّ دَعَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْإِسْلَامِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَتَرْكِ الْأَوْثَانِ.
(١) التردي: السقوط. (انظر: النهاية، مادة:
ردا).
(٢)
الشواهق: العوالي. (انظر: النهاية، مادة: شهق).
(٣)
الجأش: القَلْب والنَفْس والجَنَان. (انظر: النهاية، مادة: جأش).
(٤)
قرار العين والنفس: السرور والفرح. (انظر: النهاية، مادة: قرر).
° [١٠٥٥٥]
[الإتحاف: حم ٣٨٥٥].
(٥)
الجأث: الذعر والخوف. (انظر: النهاية، مادة: جأث).
(٦)
الدثار: الثوب الذي يكون فوق الشعار، والمعنى: غطوني بما أدفأ به. (انظر: النهاية،
مادة: دثر).
(٧)
القصب: لؤلؤ مجوف واسع. (انظر: النهاية، مادة: قصب).
(٨)
الصخب: الضجة، واضطراب الأصوات للخصام. (انظر: النهاية، مادة: صخب).
• [١٠٥٥٧] قال مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنَا
قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ
عَشْرَةَ.
• [١٠٥٥٨]
قال: وَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: عَلِيٌّ أَوَّلُ مِنْ أَسْلَمَ، قَالَ: فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ، فَقَالَ:
مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
(*).
• [١٠٥٥٩]
قال مَعْمَرٌ: فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: فَاسْتَجَابَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللهُ
مِنْ أَحْدَاثِ الرِّجَالِ، وَضعَفَاءٍ النَّاسِ، حَتَّى كَثُرَ مَنْ آمَنَ بِهِ،
وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ مُنْكِرُونَ لِمَا يَقُولُ، يَقُولُونَ: إِذَا مَرَّ
عَلَيْهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ فَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ: إِنَّ غُلَامَ بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ هَذَا لَيُكَلَّمُ زَعَمُوا مِنَ السَّمَاءِ.
° [١٠٥٦٠]
قال مَعْمَو: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ
غَيْرُ رَجُلَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رحمهما الله، وَكَانَ عُمَرُ شَدِيدًا
عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اللَّهُمَّ
أَيِّدْ دِينَكَ بِابْنِ الْخَطَّابِ»، فَكَانَ أَوَّلُ إِسْلَامِ عُمَرَ
بَعْدَمَا أَسَلَمَ قَبْلَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، أَنْ حُدِّثَ أَنَّ أُخْتَهُ أُمَّ
جَمِيلٍ ابْنَةَ الْخَطَّابِ أَسْلمَتْ، وإِنْ عِنْدَهَا كَتِفًا اكْتَتَبَتْهَا
مِنَ الْقُرْآنِ، تَقْرَؤُهُ سِرًّا، وَحُدِّثَ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مِنَ
الْمَيْتَةِ الَّتِي يَأْكُلُ مِنْهَا عُمَرُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: مَا
الْكَتِفُ الَّتِي ذُكِرَ لِي عِنْدَكَ، تَقْرَئِينَ فِيهَا مَا يَقُولُ ابْنُ
أَبِي كَبْشَةَ؟ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي كَتِفٌ فَصَكَّهَا
أَوْ، قَالَ: فَضَرَبَهَا عُمَرُ، ثُمَّ قَامَ فَالْتَمَسَ الْكَتِفَ فِي
الْبَيْتِ، حَتَّى وَجَدَهَا، فَقَالَ حِينَ وَجَدَهَا: أَمَا إِنِّي قَدْ
حُدِّثْتُ أَنَّكِ لَا تَأْكُلِينَ طَعَامِي الَّذِي آكُلُ مِنْهُ، ثُمَّ
ضَرَبَهَا بِالْكَتِفِ فَشَجَّهَا شَجَّتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ بِالْكَتِفِ حَتَّى
دَعَا قَارِئًا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ لَا يَكْتُبُ، فَلَمَّا
قُرِئَتْ عَلَيْهِ، تَحَرَّكَ قَلْبُهُ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ، وَوَقَعَ فِي
نَفْسِهِ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا أَمْسَى انْطَلَقَ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ
اللهِ ﷺ وَهُوَ يُصلِّي وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
يقْرَأُ: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ﴾ حتى بلغ ﴿الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨ - ٤٩] وَسَمِعَهُ
(*) [٣/ ٦٧ أ].
يَقْرَؤُهَا: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٤٣]، قَالَ: فَانْتَظَرَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ ﷺ
حَتَّى سَلَّمَ مِن صَلَاتِهِ، ثُمَّ ائظَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى أَهْلِهِ،
فَأَسْرَعَ عُمَرَ الْمَشْيَ فِي أَثَرهِ حِينَ رَآهُ، فَقَالَ: انْظُرْنِي يَا
مُحَمَّدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَعُوذُ (١) بِاللهِ مِنْكَ»، فَقَالَ عُمَرُ:
انْظُرْنِي يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: فَانْتَظَرَهُ رَسُولُ اللهِ
ﷺ، فَآمَنَ بِهِ عُمَرَ وَصَدَّقَهُ، فَلَمَّا أَسلَمَ عُمَرُ رضي الله عنه انْطَلَقَ
حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَالِهِ (٢) الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: أَيْ
خَالِي! اشْهَدْ أَنِّي أُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ محَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، فَأَخْبِرْ بِذَلِكَ
قَوْمَكَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: ابْنَ أُخْتِي تَثَبَّتْ فِي أَمْرِكَ، فَأَنْتَ
عَلَى حَالٍ تُعْرَفُ بِالنَّاسِ يُصبِحُ الْمَرْءُ فِيهَا عَلَى حَالٍ، وَيُمْسِي
عَلَى حَالٍ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ قَدْ تَبَيَّنَ لِي الْأَمْرُ، فَأَخْبِرْ
قَوْمَكَ بِإِسْلَامِي، فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ ذَكَرَ
ذَلِكَ عَنْكَ، فَدَخَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْنَى (٣)، فَلَمَّا عَلِمَ عُمَرَ أَنَّ
الْوَلِيدَ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ شَأْنِهِ، دَخَلَ عَلَى جَمِيلِ بْنِ
مَعْمَرٍ الْجُمَحِي، فَقَالَ: أَخْبِرْ أَنِّي أَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، وَأَنَ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَقَامَ جَمِيلُ بْنُ
مَعْمَرٍ يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنَ الْعَجَلَةِ جَرًّا، حَتَّى تَتَبَّعَ مَجَالِسَ
قُرَيْشٍ، يَقُولُ: صبَأَ (٤) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ تُرْجِعْ إِلَيهِ
قُرَيْشٌ شَيْئًا، وَكَانَ عُمَرُ سَيدَ قَوْمِهِ، فَهَابُوا الْإِنْكَارَ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ (*) مَشَى، حَتَّى
أَتَى مَجَالِسَهُمْ أَكْمَلَ مَا كَانَتْ، فَدَخَلَ الْحِجْرَ (٥)، فَأَسْنَدَ
ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَتَعْلَمُونَ
أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، فَثَارُوا فَقَاتَلَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ قِتَالًا
(١) التعوذ والاستعاذة: اللجوء والملاذ
والاعتصام. (انظر: النهاية، مادة: عوذ).
(٢)
في الأصل: «خالد بن»، والصواب ما أثبتناه.
(٣)
غير واضح في الأصل، وما أثبتناه أقرب للسياق.
(٤)
الصابئ: الخارج من دينه إلى دين غيره، والجمع: صُباة. (انظر: النهاية، مادة: صبأ).
(*) [٣/
٦٧ ب].
(٥)
الحجر: فناء من الكعبة في شقها الشامي، محوط بجدار، ولا زاد يعرف بحجر إسماعيل.
(انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٩٧).
شَدِيدًا، وَضرَبَهُمْ عَامَّةَ
يَوْمِهِ حَتَّى تَرَكُوهُ، وَاسْتَعْلَنَ بِإِسْلَامِهِ وَجَعَلَ يَغْدُو
عَلَيْهِمْ وَيَرُوحُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ محَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَتَرَكُوهُ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ بَعْدَ ثَوْرَتِهِمُ الْأُولَى،
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى كُفَّارِ قرَيْشٍ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ أَسْلَمَ
فَعَذَّبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَفَرًا.
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَذَكَرَ هِلَالٌ آبَاءَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا كُفَّارًا فَشَقُّوا رَسُولَ اللهِ
ﷺ وَعَادُوهُ فَلَمَّا أُسْرِيَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى أَصبَحَ
النَّاسُ يُخْبِرُ أَنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بِهِ فَارْتَدَّ أُنَاسٌ مِمَّن كَانَ
قَدْ صدَّقَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَفُتِنُوا وَكَذَّبُوهُ بِهِ، وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكَ يَزعُمُ أَنَّهُ
قَدْ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ
لَيْلَتِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَشْهَدُ إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ،
فَقَالُوا: أَتُصَدِّقُهُ بِأَنَّهُ جَاءَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَرَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُصبِحَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ إِنِّي أُصَدِّقُهُ
بِأَبْعَدِ مِنْ ذَلِكَ أُصَدَقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا
فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ بِالصِّدِّيقِ.
• [١٠٥٦١]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ خَمْسِينَ،
ثُمَّ نُقِصَتْ إِلَى خَمْسٍ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُحَمَّدُ، ﴿مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩] وإِنَّ لَكَ بِالْخَمْسِ خَمْسِينَ.
° [١٠٥٦٢]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَن جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «قُمْتُ فِي الْحِجْرِ حِينَ
كَذَّبَنِي قَوْمِي فَرُفِعَ لِي بَيتُ الْمَقدِسِ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْعَتُ
لَهُمْ».
° [١٠٥٦٣]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: حِينَ أُسْرِيَ بِهِ «لَقِيتُ
مُوسَى»، قَالَ: فَنَعَتَهُ، «فَإِذَا رَجُلٌ» حَسِبْتُهُ، قَالَ:
• [١٠٥٦١] [الإتحاف: عه حم ١٧٩٧].
° [١٠٥٦٢]
[الإتحاف: عه حب حم ٣٨٤٩].
° [١٠٥٦٣]
[الإتحاف: حم ١٨٧٤٥].
«مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ
كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ (١)»، قَالَ: «وَلَقِيتُ عِيسَى عليه السلام»
فَنَعَتَهُ، فَقَالَ: «رَبْعَةٌ (٢)
أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ (٣)»، قَالَ: «وَرَأَيتُ إِبْرَاهِيمَ
وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ»، قَالَ: «وَأَتَى بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا
لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، فَقَالَ: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ
اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ لِلْفِطْرَةِ (٤) أَوْ أَصَبْتَ
الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذتَ الْخَمْرَ غَوَتْ (٥) أُمَّتُكَ».
٢
- غَزْوَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ (٦)
° [١٠٥٦٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ صَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ (٧) قَلَّدَ (٨) رَسُولُ اللهِ ﷺ
الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ (٩)، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ
(١) شنوءة: قبيلة عربية تنسب إلى الأزد بن
الغوث، كان موطنها اليمن، فلما تصدع سدّ مأرب تفرقت بين أنحاء الجزيرة. (انظر:
أطلس الحديث النبوي) (ص ٣٥).
(٢)
رجل ربعة أو مربوع: بين الطويل والقصير. (انظر: النهاية، مادة: ربع).
(٣)
الديماس: الحَمَّام، والمراد وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه، كأنه
خرج من حمام. (انظر: المرقاة) (٩/ ٧٠٢).
(٤)
الفطرة: الدين الذي فطر الله عليه الخلق. (انظر: المشارق) (٢/ ١٥٦).
(٥)
الغواية: الضلال. (انظر: النهاية، مادة: غوا).
(٦)
الحديبية: تقع على مسافة اثنين وعشرين كيلو مترا غرب مكة على طريق جدة، ولا تزال
تعرف بهذا الاسم. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٩٧).
° [١٠٥٦٤]
[شيبة: ٣٧٢٣١، ٣٨٠٠٥].
(٧)
ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة، تبعد عن المدينة على طريق مكة تسعة كيلو مترات
جنوبًا، فيها مسجده ﷺ، وتعرف اليوم عند العامة ببئار علي. (انظر: المعالم
الجغرافية) (ص ١٠٣).
(٨)
تقليد الهدي: أن يجعل في رقبة الهدي شيئا كالقلادة من لحاء شجرة أو غيره ليُعلم
أنها هدي. (انظر: مجمع البحار، مادة: قلد).
(٩)
الإشعار: أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك لها علامة تعرف
بها أنها هَدْيٌ. (انظر: النهاية، مادة: شعر).
عَيْنًا (١) لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ (٢)
يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَسَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِغَدِير
(٣) الأَشْطَاطِ (٤) قَريبًا مِنْ عُسْفَانَ (٥) أَتَاهُ عَيْنُهُ الْخُزَاعِيُّ،
فَقَالَ: إنِّي قَدْ تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ (*) بْنَ لُؤَيٍّ
قَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ (٦)، وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَهُمْ
مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَتَرَوْنَ لِي (٧) أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ (٨) هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورينَ (٩)
مَحْرُوبِينَ (١٠)، وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللهُ، أَمْ
تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا قَاتَلْنَاهُ»، فَقَالُوا:
رَسُولُ اللهِ أَعْلَمُ، يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ،
وَلَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ
قَاتَلْنَاهُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَرُوحُوا إِذَنْ».
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ
مَشُورَةَ لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
(١) العين: الجاسوس. (انظر: النهاية، مادة:
عين).
(٢)
خزاعة: قبيلة من الأزد من القحطانية، كانوا بأنحاء مكة في مر الظهران وما يليه.
(انظر: العالم الأثيرة) (ص ١٠٨).
(٣)
الغدير: مستنقع ماء المطر صغيرا كان أو كبيرا. (انظر: اللسان، مادة: غدر).
(٤)
الأشطاط: موضع قرب عُسفان على مرحلتين (المرحلة= ٤٠ كم تقريبا) من مكة على طريق
المدينة.
(انظر:
المعالم الأثيرة) (ص ٢٨).
(٥)
عسفان: بلد على مسافة ثمانين كيلو مترًا من مكة شمالا على طريق المدينة. (انظر:
المعالم الأثيرة) (ص ١٩١).
(*) [٣/
٦٨ أ].
(٦)
الأحابيش: أحياء من القارة، انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشًا. (انظر:
النهاية، مادة: حبش).
(٧)
قوله: «أترون لي» ليس في الأصل، واستدركناه من «المعجم الكبير» للطبراني (٢٠/ ٩)
من طريق الدبري، عن عبد الرزاق، به.
(٨)
الذراري: جمع ذرية، وهي: اسم يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى. (انظر: النهاية،
مادة: ذرر).
(٩)
الموتورون: جمع الموتور، وهو: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. (انظر: اللسان،
مادة: وتر).
(١٠)
في الأصل: «موروثين»، والتصويب من المصدر السابق.
المحروبون: جمع: محروب، وهو المسلوب
والمنهوب. (انظر: النهاية، مادة: حرب).
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِ
مِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ: فَرَاحُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ
الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَليدِ بِالْغَمِيمِ فِي
خَيلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ»، فَوَاللهِ مَا شَعَرَ
بِهِمْ خَالِدٌ إِذَا هُوَ بِقَتَرَةِ (١) الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ، فَإِذَا هُوَ
يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانُوا
بِالثَّنِيَّةِ (٢) الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ
رَاحِلَتُهُ (٣)، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، فَقَالُوا: خَلأَتِ (٤)
الْقَصْوَاءُ (٥)، خَلأَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ
وَمَا ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ، وَلَكِنَّهَا حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»، ثُمَّ
قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّة (٦) يُعَظِّمُونَ
فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ، إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا
فَوَثَبَتْ بِهِ، قَالَ: فَعَدَلَ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى
ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ إِنَّمَا يَتَبَرَّضُهُ (٧) النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ
يُلَبِّثْهُ النَّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ، فَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَانْتَزَعَ
سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، قَالَ:
فَوَاللهِ مَا زَالَ يَجِيشُ (٨) لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا (٩) عَنْهُ،
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي
نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ (١٠) نُصْحِ رَسُولِ
اللهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ (١١)،
(١) القترة: الغبار الأسود. (انظر: مجمع
البحار، مادة: قتر).
(٢)
الثنية: الطريق العالي في الجبل، والجمع: الثنايا. (انظر: النهاية، مادة: ثنا).
(٣)
الراحلة: البعير القوي على الأسفار والأحمال، ويقع على الذكر والأنثى. (انظر:
النهاية، مادة: رحل).
(٤)
خلأت الناقة: إذا حَرَنَتْ، والحِران: أن يقف (أي الدابة) فلا يتحرك وإن ضُرِب.
(انظر: غريب الحديث للحربي) (٢/ ٤٤٦).
(٥)
القصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها، ولم تكن ناقة النبي ﷺ كذلك، وإنما كان هذا
لقبًا لها. (انظر: النهاية، مادة: قصا).
(٦)
الخطة: الحال والأمر والخطب. (انظر: النهاية، مادة: خطط).
(٧)
التبرض: أخذ الشيء قليلًا قليلًا، وهو أيضًا التبلُّغ بالشيء القليل. (انظر: جامع
الأصول) (٨/ ٣٠٢).
(٨)
يجيش: يَتَدَفَّق ويجري بالماء. (انظر: النهاية، مادة: جيش).
(٩)
الصدر والصدور: الرجوع والانصراف. (انظر: اللسان، مادة: صدر).
(١٠)
العيبة: خاصة الرجل وموضع سره. (انظر: النهاية، مادة: عيب).
(١١)
تهامة: الأرض المنكفئة إلى البحر الأحمر، من الشرق من العقبة في الأردن إلى المخا
في اليمن.
(انظر:
المعالم الأثيرة) (ص ٧٣).
فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ
بْنَ لُؤَيٍّ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ
الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ (١)، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصادُّوكَ، عَنِ الْبَيْتِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا
مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ
بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ
النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ، فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ
النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا (٢)، وَإِنْ أَبَوْا فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ
سَالِفَتِي (٣) أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ»، فَقَالَ بُدَيْلٌ:
سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ:
إِنَّا جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ، يَقُولُ قَوْلًا،
فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ:
لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُحَدِّثَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ:
هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا،
فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ
الثَّقَفِيُّ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِي! أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى،
قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ (٤)؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟
قَالُوا: لَا (*)، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَني اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ
عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، وَمَنْ
أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خَصلَةَ
رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، وَدَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: فَأْتِهِ، فَأَتَاهُ، قَالَ:
فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نَحْوَا مِنْ قَوْلِهِ
لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ! أَرَأَيْتَ إِنِ
(١) العوذ المطافيل: جمع عائذ وهي الناقة إذا
وضعت، وبعدما تضع أياما حتى يقوى ولدها، يريد النساء والصبيان. (انظر: النهاية،
مادة: عوذ).
(٢)
جم الشخص: استراح فعادت إليه قوته. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: جمم).
(٣)
تنفرد سالفتي: السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، وكنى بانفرادها عن
الموت، وقيل: أراد حتى يفرق بين رأسي وجسدي. (انظر: النهاية، مادة: سلف).
(٤)
قوله: «ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد» وقع في الأصل: «ألستم
بالولد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد» ولا يستقيم به السياق، ووقع في «صحيح ابن
حبان» (٤٩٠١) من طريق المصنف: «ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالوالد؟»،
والمثبت من «مسند أحمد» (١٩٢٣١)، «صحيح البخاري» (٢٧٤٩)، «السنن الكبرى» للبيهقي
(١٨٨٤٠)، وغيرهم، جميعهم من طريق المصنف، به.
(*) [٣/
٦٨ ب].
اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، هَلْ
سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصلَهُ قَبْلَكَ؟ وإِنْ تَكُنِ
الْأُخْرَى فَإِنِّي لأَرَى وُجُوهًا، وَأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا
أَنْ يَفِرُّوا عَنْكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: امْصصْ
بَظْرَ اللَّاتِ، نَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالَ:
«أَبُو بَكْرٍ»، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا يَدٌ لَكَ
عِنْدِي لَمْ أَخزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ
فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ
عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ ﷺ ومَعَهُ السَّيْفُ، وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا
أَهْوَى عُرْوَةُ يَدَهُ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ
السَّيْفِ، وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسولِ اللهِ ﷺ، فَرَفَعَ
عُرْوَةُ رَأسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،
فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَوَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ
بْنُ شُعْبَةَ صَحِبَ قَوْمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمَّا
الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَيْءٍ»، ثُمَّ
إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ صحَابَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ:
فَوَاللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي يَدِ
رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإِذَا أَمَرَهُمُ
ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضوئِهِ،
وإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ
تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ
قَوْمِ! وَاللهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ
وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ
أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ
تَنَخَّمَ نُخَامَةَ إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا
وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإِذَا تَوَضَّأَ
كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ،
وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْ كِنَانَةَ (١): دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى
النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ
قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»، فَبَعَثُوهَا لَهُ،
وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ
اللهِ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: فَلَمَّا
رَجَعَ إِلَلى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ
وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ
(١) في الأصل: «كندة»، والتصويب من «صحيح
البخاري» (٢٧٤٩) من طريق المصنف، به.
الْبَيْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ: دَعُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا
أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ
فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ
جَاءَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي
أَيُّوبُ، عَنْ (*) عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ، قَالَ النَّبِيُّ
ﷺ: «إِنَّهُ قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ».
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ
فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ الْكَاتِبَ (١)، فَقَالَ النَّبِيُّ
ﷺ: «اكتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا
الرَّحْمَنُ، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ
اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لَا
يَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«اكتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ
اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ
اللهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ».
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ
لِقَوْلِهِ: «لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرْمَةَ اللهِ إِلَّا
أَعْطَيتُهُمْ إِيَّاهَا»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَينَنَا
وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَا تَتَحَدَّثُ
الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضغْطَةً، وَلَكِنْ لَكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ،
فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ
كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
سُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ
(*) [٣/ ٦٩ أ].
(١)
قوله: «فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا النبي ﷺ الكاتب» ليس في الأصل،
ولعله بسبب انتقال نظر الناسخ، وأثبتناه من «مسند أحمد»، «صحيح البخاري»، «صحيح
ابن حبان»، «سنن البيهقي».
جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ (١) بْنُ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ (٢) فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خرَجَ مِنْ أَسْفَلِ
مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ
سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مِنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ
(٣)، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَأَجِزْهُ لِي»، فَقَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ
لَكَ، فَقَالَ: «بَلَى، فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ:
بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، فَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا
تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللهِ،
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللهِ مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا
يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ
حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ؟ وَعَدُوُّنَا
عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي
دِينِنَا؟ فَقَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»،
قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ
بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ» قُلْتُ: لَا،
قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ:
فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى،
قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى،
قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: أَيهَا الرَّجُلُ
إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ،
فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْرهِ حَتَّى تَمُوتَ، فَوَاللهِ إِنَّا لَعَلَى الْحَقِّ،
قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟
قَالَ: فَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِ الْعَامَ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ
آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ:
فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ
الْكِتَابِ،
(١) قوله: «أبو جندل» وقع في الأصل «جندب»،
والتصويب من «المعجم الكبير» للطبراني (٢٠/ ٩) من حديث الدبري، عن عبد الرزاق، به.
(٢)
قوله: «يرسف» تصحف في الأصل إلى: «بن يوسف»، والتصويب من المصدر السابق.
(٣)
بعده في «المعجم الكبير»: «إلي، فقال النبي ﷺ:»إنا لم نقض الكتاب بعد«، قال:
فوالله إذن لم أصالحك على شيء أبدا».
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَصحَابِهِ:
«قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ
رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ
مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟
اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ
بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَقَامَ، فَخَرَجَ، فَلَمْ
يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا
حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ (*) قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا غَمًّا،
ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة:
١٠]،
فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ،
فَتَزَوَّجَ أَحَدَهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى
صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ،
فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي
طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ
إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا حَتَّى إِذَا بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ،
فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ
الرَّجُلَيْنِ: وَاللهِ إِنِّي لأَرَى سَيْفَكَ هَذَأ يَا فُلَانُ جَيِّدًا،
فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ
جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الْآخَرُ
حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
ﷺ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا»، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ
ﷺ قَالَ: قُتِلَ وَاللهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ،
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، قَدْ وَاللهِ أَوْفَى اللهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ
رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«وَيْلَ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ»، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ
عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَيْفَ الْبَحْرِ،
قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي
بَصيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا يَسْمَعُونَ
بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهُمْ
فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ
(*) [٣/ ٦٩ ب].
ﷺ تُنَاشِدُهُ اللهَ وَالرَّحِمَ
إِلَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ
إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ حَتَّى إِذَا بَلَغَ ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [الفتح: ٢٤ - ٢٦]، وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ
يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
• [١٠٥٦٥]
عبد الرزاق، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو زُمَيْلٍ
سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَاتِبُ الْكِتَابِ
يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
• [١٠٥٦٦]
عبد الرزاق، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهُ الزُّهْرِيَّ
فَضَحِكَ، وَقَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلَوْ سَأَلْتَ عَنْهُ
هَؤُلَاءِ، قَالُوا: عُثْمَانَ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ.
• [١٠٥٦٧]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً
يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَأَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ مَجْلِسِهِ
هَيْئَتَهُ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ
اللَّيْلَةَ، فَرَأَيْتُ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، قَالُوا: فَلَا يَشُقُّ
ذَلِكَ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا يَخْتَتِنُ الْيَهُودُ، فَابْعَثْ إِلَى مَدَائِنِكَ
فَاقْتُلْ كُلَّ (١) يَهُودِيٍّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَتَبَ إِلَى نَظِيرٍ لَهُ
حَزَّاءٍ أَيْضًا، يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ،
قَالَ: وَرَفَعَ إِلَيْهِ مَلِكُ بُصْرَى رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ يُخْبِرُهُ، عَنِ
النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: انْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ؟ قَالُوا: فَنَظَرُوا،
فَإِذَا هُوَ مُخْتَتِنٌ، فَقَالُوا: هَذَا مَلِكُ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ.
° [١٠٥٦٨]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ
بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي (٢)، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي
الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ (*) قَالَ:
فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى
هِرَقْلَ، قَالَ: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى
(١) قوله: «فاقتل كل» تصحف في الأصل إلى:
«فأقبل على».
(٢)
في الأصل: «فيَّ»، والتصويب من «المعجم الكبير» للطبراني (٨/ ١٤) من طريق الدبري،
عن عبد الرزاق، به.
(*) [٣/
٧٠ أ].
عَظِيمِ بُصْرَى (١)، فَدَفَعَهُ
عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: أَهَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ
هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:
فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ، فَجَلَسْنَا
إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ،
فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ
اللهِ (٢) لَوْلَا أَنْ يُؤْثَرَ (٣) عَلَيَّ الْكَذِبُ لكَذَبْتُ، ثُمَّ قَالَ
لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو
حَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ:
فَهَلْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا،
قَالَ: فَمَنِ اتَّبَعَهُ؟ أَشْرَافُكُمْ أَمْ ضُعَفَاؤُكُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ
ضُعَفَاؤُنَا، قَالَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا بَلْ
يَزِيدُونَ، قَالَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ
فِيهِ سَخْطَةً (٤) لَهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونَ قِتَالكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَكُونَ
الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالًا (٥) يُصِيبُ مِنَّا، وَنُصِيبُ مِنْهُ،
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِتهُ فِي هُدْنَةٍ (٦) لَا
نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا، قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ
أُدْخِلُ فِيهَا غَيْرَ هَذِهِ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ
قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكُمْ
عَنْ حَسَبِهِ، فَقُلْتَ: إِنَّهُ
(١) بصرى: مدينة في منتصف المسافة بين عمان
ودمشق، وهي اليوم آثار قرب مدينة «دَرعة»، وهما داخل حدود سورية. (انظر: المعالم
الجغرافية) (ص ٤٣).
(٢)
ايم الله: من ألفاظ القسم، كقولك: لَعمر الله وعهد الله، وهمزتها وصل، وقد تقطع،
وقيل: إنها جمع يمين، وقيل: هي اسم موضوع للقسم. (انظر: النهاية، مادة: أيم).
(٣)
أثر الحدبُ: نقله، ورواه عن غيره. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: أثر).
(٤)
السخط: الكراهية للشيء، وعدم الرضا به. (انظر: النهاية، مادة: سخط).
(٥)
سجال: مرة لنا ومرة علينا. (انظر: النهاية، مادة: سجل).
(٦)
الهدنة: الصلح الذي ينعقد بين الكفار والمسلمين. وقد يكون بين كل طائفتين اقتتلتا
إذا تركتا القتال عن صلح. (انظر: جامع الأصول) (١٠/ ٢٦).
فِينَا ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ
الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ (١) قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي
آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ
(٢)، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ
أَضعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشِدَّاؤُهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتَ: بَلْ ضعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ
أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ
قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى
اللهِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ
يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا
خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟
فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَزَالُ إِلَى أَنْ
يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ (٣)
قَاتَلْتُمُوهُ، فَيَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالًا، يَنَالُ
مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ
لَهُمُ الْعَاقِبَةُ (٤)، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا
يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ (٥) لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ
هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا
الْقَوْلُ قَالَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ
قَبْلَهُ، قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ،
وَالزَّكَاةِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ، قَالَ: إِنْ يَكُ مَا تَقُولُهُ حَقًّا
فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وإِنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَخَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ
أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ،
لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ،
وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ
رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ،
سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ
(١) الأحساب: جمع الحسب، وهو في الأصل: الشرف
بالآباء وما يعده الناس من مفاخرهم. (انظر: النهاية، مادة: حسب).
(٢)
قوله:»فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك«ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر
السابق.
(٣)
في الأصل:»أنك«، والتصويب من المصدر السابق.
(٤)
العاقبة: الجزاء بالخير، وآخر كل شيء أو خاتمته. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: عقب).
(٥)
قوله:»تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك
الرسل" ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي
أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ (*) الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ
اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَينِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ
الأَرِيسِيِّينَ (١) وَ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ:
﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤] "،
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ
وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي
حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ (٢) أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، حَتَّى أَدْخَلَ
اللهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَدَعَا
هِرَقْلُ عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
الرُّومِ، هَلْ لكُمْ إِلَى الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ آخِرَ الْأَبَدِ؟ وَأَنْ
يَثْبُتَ لكُمْ مُلْكُكُمْ؟ قَالُوا: فَحَاصُوا (٣) حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ
إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ:
إِنِّي اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الَّذِي
أَحْبَبْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضوا عَنْهُ.
٣
- وَقْعَةُ
بَدْرٍ
• [١٠٥٦٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ [الأنفال: ١٩]،
قَالَ: اسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَيُّنَا
كَانَ أَفْجَرَ لَكَ وَأَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، فَأَحِنْهُ الْيَوْمَ يَعْنِي
مُحَمَّدًا وَنَفْسَهُ، فَقَتَلَهُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا إِلَى النَّارِ.
° [١٠٥٧٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدُ بِالْقِتَالِ فِي آيٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَدْرًا، وَكَانَ
رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ،
فَالْتَقَوْا بِبَدْرٍ يَوْمَ
(*) [٣/ ٧٠ ب].
(١)
الأريسيون: الضعفاء والأتباع. (انظهـ: غريب الخطابي) (١/ ٤٩٩).
(٢)
أمر: كثر وارتفع شأنه، يعني النبي ﷺ. (انظر: النهاية، مادة: أمر).
(٣)
حاصوا: نفروا وكروا راجعين، وقيل: جالوا. (انظر: المشارق) (١/ ٢١٧).
• [١٠٥٦٩]
[شيبة: ٣٧٨٣٦].
الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ أَوْ سِتَّ
عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضانَ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْألفِ
وَالتِّسْعِمِائَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ، وَهَزَمَ اللهُ
يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى سَبْعِينَ مُهَجٍ،
وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا إِلَّا قُرَشيٌّ، أَوْ أَنْصارِيٌّ، أَوْ حَلِيفٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ.
° [١٠٥٧١]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ
أَبَا سُفْيَانَ، أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ (١) لِقُرَيْشٍ، وَخَرَجَ
الْمُشْرِكُونَ مُغْوِثِينَ لِعِيرِهِمْ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يُرِيدُ أَبَا
سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ
عَيْنًا طَلِيعَةً، يَنْظُرَانِ بِأَيِّ مَاءٍ هُوَ، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا
عَلِمَا عِلْمَهُ، وَأُخْبِرَا خَبَرَهُ، جَاءَا سَرِيعَيْنِ، فَأَخْبَرَا
النَّبِيَّ ﷺ، وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي
كَانَ بِهِ الرَّجُلَانِ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَاءِ: هَلْ أَحْسَسْتُمْ أَحَدًا
مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ؟ قَالَ: فَهَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: مَا رَأَيْنَا
إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَأَيْنَ
كَانَ مُنَاخُهُمَا؟ فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى بَعْرًا
لَهُمَا فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَنَّى لِبَنِي فُلَانٍ
هَذَا النَّوَى؟ هَذِي نَوَاضِحُ (٢) أَهْلِ يَثْرِبَ، فَتَرَكَ الطَّرِيقَ،
وَأَخَذَ سَيْفَ الْبَحْرِ، وَجَاءَ الرَّجُلَانِ، فَأَخْبَرَا النَّبِيَّ ﷺ
خبَرَهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ أَخَذَ هَذِهِ الطَّرِيقَ؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه
الله: أَنَا،
هُوَ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، وَنَحْنُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَيَرْتَحِلُ
فَيَنْزِلُ بِمَاءَ كَذَا وَكَذَا، وَنَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ
يَنْزِلُ بِمَاءَ كَذَا وَكَذَا، وَنَنْزِلُ بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ
نَلْتَقِي بِمَاءِ كَذَا وَكَذَا، كَأَنَّا فَرَسَا رِهَانٍ، فَسَارَ النَّبِيُّ ﷺ
(*) حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا فَوَجَدَ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ بَعْضَ رَقِيقِ قُرَيْشٍ
مِمَّنْ خَرَجَ يُغِيثُ أَبَا سُفْيَانَ، فَأَخَذَهُمْ أَصحَابُهُ، فَجَعَلُوا
يَسْأَلُونَهُمْ، فَإِذَا صَدَقُوهُمْ
(١) العير: الإبل بأحمالها، وقيل: قافلة
الحمير، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة. (انظر: النهاية، مادة: عير).
(٢)
النواضح: جمع ناضح، وهي الإبل التي يُستقى عليها الماء. (انظر: النهاية، مادة:
نضح).
(*) [٣/
٧١ أ].
ضَرَبُوهُمْ، وإِذَا كَذَبُوهُمْ
تَرَكُوهُمْ، فَمَرَّ بِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «إِنْ صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ، وَإِذَا كذَبُوكُمْ
تَرَكْتُمُوهُمْ»، ثُمَّ دَعَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ: «مَنْ يُطْعِمُ الْقَوْمَ»؟
قَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدَّ رِجَالًا يُطْعِمُهُمْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
يَوْمًا، قَالَ: «فَكَمْ يَنْحَرُ (١) لهُمْ»؟ قال: عَشْرًا مِنَ الجَزُورِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الجَزُورُ بِمِائَةٍ، وَهُمْ بَيْنَ الْأَلْفِ
وَالتِّسْعِمِائَةِ»، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ الْمُشْرِكُونَ وَصافُّوهُمْ، وَكَانَ
النَّبِيُّ ﷺ قَدِ اسْتَشَارَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ، فَقَامَ أَبُو
بَكْرٍ يُشِيرُ عَلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ اسْتَشَارَ، فَقَامَ
عُمَرُ يُشِيرُ عَلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ،
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَكَأَنَّكَ
تُعَرِّضُ بِنَا الْيَوْمَ لِتَعْلَمَ مَا فِي نُفُوسِنَا، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا (٢) حَتَّى بَرْكِ الْغِمَادِ (٣) مِنْ ذِي
يَمَنٍ لكنَّا مَعَكَ، فَوَطَّنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَصْحَابَهُ عَلَى الصَّبْرِ
وَالْقِتَالِ، وَسُرَّ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا سَارَ فِي قُرَيْشٍ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِي أَطِيعُونِي وَلَا تُقَاتِلُوا
مُحَمَّدًا ﷺ وَأَصْحَابَهُ فَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ لَمْ يَزَلْ
بَيْنَكُمْ إِحْنَةٌ مَا بَقِيتُمْ، وَفَسَادٌ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ
يَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ أَخِيهِ، وَإِلَى قَاتِلِ ابْنِ عَمِّهِ، فَإِنْ يَكُنْ
مُلْكًا أَكَلْتُمْ فِي مُلْكِ أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُ نَبِيًّا فَأَنْتُمْ
أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا كَفَتْكُمُوهُ ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ،
فَأَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا مَقَالَتَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوهُ، فَقَالَ:
أَنْشُدُكُمُ الله (٤) فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي كَأَنَّهَا الْمَصَابِيحُ
أَنْ تَجْعَلُوهَا أَنْدَادًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، الَّتِي كَأَنَّهَا عُيُونُ
الْحَيَّاتِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَقَدْ مَلأْتَ سَحْرَكَ رُعْبًا، ثُمَّ سَارَ
فِي قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ إِنَّمَا يُشِيرُ
عَلَيْكُمْ بِهَذَا لِأَنَّ ابْنَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ ابْنُ
عَمِّهِ، فَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ ابْنُهُ وَابْنُ عَمِّهِ، فَغَضبَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أَيْ مُصَفِّرَ اسْتِهِ! سَتَعْلَمُ أَيُّنَا
أَجْبَنُ وَأَلْأَمُ، وَأَفْشَلُ لِقَوْمِهِ الْيَوْمَ،
(١) النحر: الطعن في أسفل العنق عند المصدر.
(انظر: معجم لغة الفقهاء) (ص ٤٧٦).
(٢)
ضربت أكبادها: كناية عن السفر إلى مسافات بعيدة. (انظر: اللسان، مادة: كبد).
(٣)
برك الغماد: قيل: إنه موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن.
ويبدو أنها أمكنة متعددة توصف بالوعورة، أو البعد والوعورة. (انظر: المعالم
الأثيرة) (ص ٤٧).
(٤)
النشدة والنشدان والمناشدة: السؤال بالله والقسم على المخاطب. (انظر: النهاية،
مادة: نشد).
ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلَ مَعَهُ
أَخُوهُ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ (١)،
فَقَالُوا: أَبْرِزْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا، فَثَارَ نَاسٌ مِنْ بَنِي
الْخَزْرَجِ، فَأَجْلَسَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَامَ عَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ،
وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،
فَاخْتَلَفَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَقَرِينُهُ ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ صاحِبَهُ، وَأَعَانَ حَمْزَةُ عَلِيًّا عَلَى صَاحِبِهِ
فَقَتَلَهُ، وَقُطِعَتْ رِجْلُ عُبَيْدَةَ فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلُ
قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ، ثُمَّ أَنْزَلَ
اللهُ نَصْرَهُ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُ، وَقُتِلَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ،
فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: «أَفَعَلْتُمْ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا نَبِيَّ
اللهِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: «إِنَّ عَهْدِي بِهِ فِي رُكْبتَيْهِ حَوَرٌ،
فَاذْهَبُوا، فَانْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ ذَلِكَ»؟ قَالَ: فَنَظَرُوا، فَرَأَوْهُ
قَالَ: وَأُسِرَ يَوْمَئِذٍ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ
بِالْقَتْلَى، فَجُرُّوا حَتَّى أُلْقُوا فِي قَلِيبٍ، ثُمَّ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ
رَسُولُ اللهِ ﷺ (*)، فَقَالَ: «أَيْ عُتبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ! أَيْ أُمَيَّةُ بْنُ
خَلَفٍ»، فَجَعَلَ يُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، «هَل وَجَدْتُمْ
مَا وَعَدَ رَبُكُمْ حَقًّا؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَيَسْمَعُونَ مَا
تَقُولُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا أَنْتُمْ بِأَعْلَمَ بِمَا أَقُولُ
مِنْهُمْ»، أَيْ إِنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا أَعْمَالَهُمْ.
قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ هِشَامَ
بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ يَوْمَئِذٍ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ بَشِيرًا يُبَشِّرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ نَاسٌ لَا
يُصَدِّقُونَهُ، وَيَقُولُونَ (٢): وَاللهِ مَا رَجَعَ هَذَا إِلَّا فَارًّا، وَجَعَلَ
يُخْبِرُهُمْ بِالْأُسَارَى، وَيُخْبِرُهُمْ بِمَنْ قُتِلَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ
حَتَّى جِيءَ بِالْأُسَارَى، مُقَرَّنِينَ فِي قَيْدٍ، ثُمَّ فَادَاهُمُ
النَّبِيُّ ﷺ.
٤
- مَنْ
أسَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ
° [١٠٥٧٢]
أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ
وَعُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ قَالَا: فَادَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أُسَارَى بَدْرٍ،
وَكَانَ فِدَاءُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَقُتِلَ عُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ قَبْلَ الْفِدَاءِ، وَقَامَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
فَقَتَلَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: «النَّارُ».
(١) في الأصل: «المغيرة»، وهو خطأ.
(*) [٣/
٧١ ب].
(٢)
ليس في الأصل، واستدركناه من «التفسير» للمصنف (٢/ ٢٥٤).
° [١٠٥٧٣] عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: لَمَّا أُسِرَ
الْعَبَّاسُ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ سَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنِينَهُ
وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ، جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ لا يَنَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَا
يَأْخُذُهُ نَوْمٌ، فَفَطِنَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّكَ لَتُؤَرَّقُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَقَالَ: «الْعَبَّاسُ أَوْجَعَهُ
الْوَثَاقُ، فَذَلِكَ أَرَّقَنِي»، قَالَ: أَفَلَا أَذْهَبُ فَأُرْخِي عَنْهُ
شَيْئًا؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ»، فَانْطَلَقَ
الْأَنْصَارِيُّ فَأَرْخَى عَنْ وَثَاقِهِ (١)، فَسَكَنَ وَهَدَأَ، فَنَامَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ.
٥
- وَقْعَةُ
هُذَيْلٍ بِالرَّجِيعِ، وَالرَّجِيعُ مَوْضِعٌ
° [١٠٥٧٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ سَرِيَّةَ (٢)
عَيْنًا لَهُ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ
بْنِ عُمَرَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَيْنَ
عُسْفَانَ وَمَكَّةَ نُزُولًا، فَذُكِرُوا لُحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ
بَنُو لِحْيَانَ (٣)، فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ حَتَّى
رَأَوْا آثَارَهُمْ، حَتَّى نَزَلُوا مَنْزِلًا يَرَوْنَهُ، فَوَجَدُوا فِيهِ
نَوَى تَمْرٍ يَرَوْنَهُ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ تَمْرِ
يَثْرِبَ، فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّهُمْ
عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ (٤)، وَجَاءَ
الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ (٥)،
إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا لَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ
ثَابِتٍ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ (٦) كَافِرٍ، اللَّهُمَّ
أَخْبِرْ عَنَّا رَسُولَكَ، قَالَ: فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا
(١) الوثاق: القيد. والجمع: الوثائق. (انظر:
النهاية، مادة: وثق).
° [١٠٥٧٤]
[الإتحاف: حب حم ١٩٦٥٥].
(٢)
السرية: الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعث إلى العدو، وجمعها: سرايا.
(انظر: النهاية، مادة: سرى).
(٣)
بنو لحيان: قبيلة عدنانية، وبسببهم كانت غزوة الرجيع، أو بني لحيان، وهم من هذيل،
وما زالوا سكان ضواحي مكة الكرمة، بينها وبين مر الظهران. (انظر: أطلس الحديث
النبوي) (ص ٣٢٣).
(٤)
الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. (انظر: النهاية، مادة: فدفد).
(٥)
الميثاق: العهد. (انظر: التاج، مادة: وثق).
(٦)
الذمة: العهد والأمان والضمان، والحرمة والحق، والجمع: الذمم. (انظر: النهاية،
مادة: ذمم).
فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ وَبَقِيَ
خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ
الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ إِنْ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ،
فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ (١) قِسِيِّهِمْ (٢) فَرَبَطُوهُمْ
بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي كَانَ مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ
الْغَدْرِ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَجَرُّوهُ فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُمْ،
وَقَالَ: لِي فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، وَانْطَلَقُوا
بِخُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ دَثِنَةَ، حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ،
فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ (*)
قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا
أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ اسْتَعَارَ (٣) مُوسَى (٤) مِنْ إِحْدَى بَنَاتِ
الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صبِيٍّ
لِي فَدَرَجَ (٥) إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ، قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى
فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزَعًا عَرَفَهُ فِيَّ وَالْمُوسَى
بِيَدِهِ، قَالَ: أَتَخْشِينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ إِنْ
شَاءَ اللهُ، قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا خَيْرًا مِنْ
خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ (٦) عِنَبٍ، وَمَا بِمَكَّةَ
يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا
رِزْقًا رَزَقَهُ اللهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ
لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ،
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ أَحْصهِمْ عَدَدًا، ثُمَّ (٧) قَالَ:
(١) الأوتار: جمع وتر، وهو الخيط الذي يُشد
به القوس. (انظر: اللسان، مادة: وتر).
(٢)
القسي: جمع القوس، وهو: عود منحنٍ يصل بين طرفيه وتر تُرمى به السهام. (انظر:
المعجم العربي الأساسي، مادة: قوس).
(*) [٣/
٧٢ أ].
(٣)
الاستعارة: طلب الشيء من شخص على أن يعيده إليه. (انظر: المعجم العربي الأساسي،
مادة: عور).
(٤)
الموسى: أداة حديدية لحلق الشعر. (انظر: المصباح المنير، مادة: موس).
(٥)
الدرج: المشي. (انظر: النهاية، مادة: درج).
(٦)
القطف: العنقود. وهو اسم لكل ما يُقطف. (انظر: النهاية، مادة: قطف).
(٧)
ليس في الأصل، واستدركناه من «المعجم الكبير» للطبراني (٤/ ٢٢١) من طريق الدبري،
عن عبد الرزاق، به.
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ
مُسْلِمًا … عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ للهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ
يَشَأْ … يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ (١) مُمَزَّع (٢)
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ
الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، قَالَ: وَبَعَثَ قُرَيْش إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا
بِشَيءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ
عُظَمَائِهِمْ، فَبَعَثَ اللهُ مِثْلَ الظُّلَّةِ (٣) مِنَ الدَّبْرِ (٤)،
فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ.
° [١٠٥٧٥]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ بِبَعْضِهِ، قالَ:
إِنَّ ابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ الْتَقَيَا،
فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ: وَكَانَا
خَلِيلَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَتَى النَّبِيَّ
ﷺ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عُقْبَةُ، قَالَ: لَا
أَرْضى عَنْكَ حَتَّى تَأْتيَ مُحَمَّدًا فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ، وَتَشْتِمَهُ
وَتُكَذِّبَهُ، قَالَ: فَلَمْ يُسَلِّطْهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فِي الْأُسَارَى، فَأَمَرَ
النَّبِيُّ ﷺ علِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَالَ عُقْبَةُ: يَا
مُحَمَّدُ، مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ أُقْتَلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ:
«بِكُفْرِكَ وَفُجُورِكَ، وَعُتُوِّكَ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ».
قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ مِقْسَمٌ:
فَبَلَغَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ، قَالَ: فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ:
«النَّارُ»، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَ
عُنُقَهُ، وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا،
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ
اللهُ»، قَالَ: فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إلَى
أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ مَا قُلْتَ؟
قَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ»، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ:
أَنْشُدُكَ
(١) الشلو: العضو من اللحم، والجمع: الأشلاء.
(انظر: النهاية، مادة: شلا).
(٢)
الممزع: القطع. (انظر: النهاية، مادة: مزع).
(٣)
الظلة: السحابة. (انظر: المشارق) (١/ ٣٢٨).
(٤)
الدبر: النحل، وقيل: الزنابير. (انظر: النهاية، مادة: دبر).
بِاللهِ أَسَمِعْتَهُ يَقُولُ
ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا
رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ قَوْلًا إِلَّا كَانَ حَقًّا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
أُحُدٍ خَرَجَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ غَفَلَةَ
النَّبِيِّ ﷺ لِيَحْمِلَ عَلَيهِ، فَيَحُولُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَينَهُ
وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ فلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ لِأَصحَابِهِ:
«خَلُّوا عَنْهُ»، فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ فَجَزَلهُ بِهَا، يَقُول: رَمَاهُ بِهَا،
فَيَقَعُ فِي تَرْقُوَتِهِ (١) تحت تسْبِغةِ (٢) البَيْضَةِ (٣)، وَفَوْقَ
الدِّرْعِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ كَبِيرُ دَمٍ، وَاحْتَقَنَ (٦) الدَّمُ فِي
جَوْفِهِ، فَجَعَلَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ
حَتَّى احْتَمَلُوهُ وَهُوَ يَخُورُ، وَقَالُوا: مَا هَذَا فَوَاللهِ مَا بِكَ
إِلَّا خَدْشٌ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ لَمْ يُصبْنِي إِلَّا بِرِيقِهِ
لَقَتَلَنِي، أَلَيْسَ، قَدْ قَالَ: «أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ»، وَاللهِ
لَوْ كَانَ الَّذِي بِي بِأَهْلِ الْحِجَازِ (٤) لَقَتَلَهُمْ، قَالَ: فَمَا لَبِثَ
إِلَّا يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ إِلَى النَّارِ، فَأَنْزَلَ اللهُ
فِيهِ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ
﴿الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: ٢٧ - ٢٩].
٦
- وَقْعَةُ
بَنِي النَّضِيرِ (٥)
° [١٠٥٧٦]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ عُرْوَةَ ثُمَّ
كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى
رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ
وَنَخْلُهُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ
حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ وَعَلَى
(١) الترقوة: عَظمَة مشرفة بَين ثغرة
النَّحْر والعاتق وهما ترقوتان، والجمع: تراق. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: ترق).
(٢)
التسبغة: شئ من حلق الدروع والزرد يعلق بالخوذة دائرا معها ليستر الرقبة وجيب
الدرع. (انظر: النهاية، مادة: سبغ).
(٣)
البيضة: الخوذة. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: بيض).
(*) [٣/
٧٢ ب].
(٤)
تصحف في الأصل إلى: «المجاز»، والتصويب من «التفسير» للمصنف (٣/ ٦٨).
(٥)
بنمو النضير: اسم قبيلة يهودية كانت تسكن بالمدينة ممن وفدوا إلى المدينة في العصر
الجاهلي.
(انظر:
المعالم الأثيرة) (ص ٢٨٨).
أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ (١)
الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ إِلَّا الْحَلْقَةَ (٢) يَعْنِي
السِّلَاحَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾
[الحشر: ١
- ٢]،
فَقَاتَلَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى صَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ فَأَجْلَاهُمْ
إِلَى الشَّامِ، فَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ (٣) لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا خَلَا،
وَكَانَ اللهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ
فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ﴾ [الحشر: ٢]
فَكَانَ جَلَاؤُهُمْ ذَلِكَ أَوَّلَ
حَشْرٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ.
° [١٠٥٧٧]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ (٤)، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
ﷺ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ
السَّلُولِ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ،
وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ،
يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وإنَّكُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ عَدَدًا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللهِ لَتَقْتُلُنَّهُ، أَوْ
لَتُخْرِجُنَّهُ، أَوْ لَنَسْتَعْدِيَنَّ (٥) عَلَيْكُمُ الْعَرَبَ، ثُمَّ
لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ،
وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ
مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ تَرَاسَلُوا، فَاجْتَمَعُوا، وَأَرْسَلُوا،
وَأَجْمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِيَّ ﷺ، فَلَقِيَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ، فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ
قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ لِتَكِيدَكُمْ
(١) الإقلال: رفع الشيء، وحمله. (انظر:
النهاية، مادة: قلل).
(٢)
في الأصل:»الحليقة«، والتصويب من»فتح الباري«لابن حجر (٧/ ٣٣٠) معزوا للمصنف.
(٣)
سبط: ولد الابن والابنة، والسبط من الْيَهُود كالقبيلة من الْعَرَب، والجمع:
أسباط. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: سبط).
(٤)
وقع في الأصل:»عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك«وهو خطأ، وصوابه ما أثبتناه
كما في»التاريخ الكبير«للبخاري (٥/ ٣١٣)،»سنن أبي داود«(٢٩٩١) من طريق المصنف، به،
وينظر أيضا:»الدر المنثور«للسيوطي (١٤/ ٣٤٠).
(٥)
في الأصل:»لنستعن«، والتصويب من»الدر المنثور".
بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ
تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، فَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُرِيدُونَ أَنْ تَقْتُلُوا
أَبْنَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ»، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ
تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ،
فَكَتَبَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ
أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وإنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا، أَوْ
لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ
نِسَائِكُمْ شَيْءٌ (١)، وَهُوَ الْخَلَاخِلُ، فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ
الْيَهُودَ أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ عَلَى الْغَدْرِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى
النَّبِيِّ ﷺ اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ،
وَلْنَخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ حَبْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ فِي مَكَانِ كَذَا نِصْفٌ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ،
آمَنَّا كُلُّنَا، فَخَرَجَ (*) النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ حَبْرًا مِنْ يَهُودَ، حَتَّى إِذَا بَرَزُوا فِي
بَرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ: كَيْفَ تَخْلُصُونَ
إِلَيهِ وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَصحَابِهِ كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ
يَمُوتَ قَبْلَهُ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ كَيْفَ تَفْهَمُ وَنَفْهَمُ وَنَحْنُ
سِتُّونَ رَجُلًا؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ
ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَلْيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ آمَنُوا بِكَ آمَنَّا
كُلُّنَا، وَصَدَّقْنَاكَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، وَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ بِرَسُولِ
اللهِ ﷺ، فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ نَاصحَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى بَنِي
أَخِيهَا، وَهُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ مَا
أَرَادَتْ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَقْبَلَ
أَخُوهَا سَرِيعًا، حَتَّى أَدْرَكَ النَّبِيَّ ﷺ فسَارَّهُ (٢) بِخَبَرِهِمْ،
قَبْلَ أَنْ يَصِلَ النَّبِيُّ ﷺ إلَيْهِمْ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا
كَانَ مِنَ الْغَدِ، غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْكَتَائِبِ
فَحَاصَرَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ لَا تَأْمَنُونَ عِنْدِي إِلَّا
بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ»، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا،
فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ غَدَا الْغَدُ
عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْخَيْلِ وَالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ
وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ، فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَغَدَا
إِلَى بَنِي
(١) ليس في الأصل، واستدركناه من «سنن أبي
داود» من حديث المصنف، به.
(*) [٣/
٧٣ أ].
(٢)
الإسرار والمساررة: خفض الصوت عند التحدث. (انظر: النهاية، مادة: سرر).
النَّضيرِ بِالْكَتَائِبِ،
فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا
أَقَلَّتِ الْإِبِلُ إِلَّا الْحَلْقَةَ، وَالْحَلْقَةُ: السِّلَاحُ، فَجَاءَتْ
بَنُو النَّضِيرِ وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ إِبِلٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ
بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا، فَكَانُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ، فَيَهْدِمُونَهَا
فَيَحْمِلُونَ مَا وَافَقَهُمْ مِنْ خَشَبِهَا، وَكَانَ جَلَاؤُهُمْ ذَلِكَ
أَوَّلَ حَشْرِ النَّاسِ إِلَى الشَّامِ وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ سِبْطٍ
مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ مُنْذُ كَتَبَ اللهُ
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْجَلَاءَ، فَلِذَلِكَ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ،
فَلَوْلَا مَا كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَلَاءِ لَعَذَّبَهُمْ فِي
الدُّنْيَا كَمَا عُذِّبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ حَتَّى
بَلَغَ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ١ - ٦]، وَكَانَتْ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ
لِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَاصَّةً، فَأَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا وَخَصَّهُ بِهَا،
فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ [الحشر: ٦]،
يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ، قَالَ: فَأَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ أَكْثَرَهَا
لِلْمُهَاجِرِينَ، وَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَمَ مِنْهَا (١) لِرَجُلَيْنِ
مِنَ الْأَنْصارِ كَانَا ذَوَيْ حَاجَةٍ، لَمْ يَقْسِمْ لِرَجُلٍ مِنَ
الْأَنْصَارِ غَيْرَهُمَا، وَبَقِيَ مِنْهَا صدَقَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي يَدِ
بَنِي فَاطِمَةَ.
° [١٠٥٧٨]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخَبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ:
مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعٌ أَوْ
خَمْسٌ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ سِرًّا، وَهُوَ خَائِفٌ حَتَّى بَعَثَ اللهُ
عَلَى الرِّجَالِ الَّذِينَ أَنْزَلَ فِيهِمْ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٣]،
﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١] وَالْعِضِينَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ:
السِّحْرُ، يُقَالُ لِلسَّاحِرَةِ: عَاضِهَةٌ (٢)، فَأَمَرَ بِعَدَاوَتِهِمْ (*)،
فَقَالَ: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤]، ثُمَّ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَقَدِمَ فِي ثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ (٣)
(١) قوله: «وقسم منها» ليس في الأصل،
واستدركناه من «سنن أبي داود»، «الدر المنثور».
(٢)
في الأصل: «عاضية».
(*) [٣/
٧٣ ب].
(٣)
الخلو: المضي والذهاب. (انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: خلو).
مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٧] وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ﴾ [القمر: ٤٥]، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿حَتَّى إِذَا
أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ﴾ [المؤمنون: ٦٤]، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [آل عمران: ١٢٧]،
وَفِيهِمْ نَزَلَتْ ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨] أَرَادَ اللهُ الْقَوْمَ، وَأَرَادَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ الْعِيرَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ [إبراهيم: ٢٨] الْآيَة، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] الْآيَةُ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ﴿قَدْ كَانَ
لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ [آل عمران: ١٣] فِي شَأْنِ الْعِيرِ ﴿وَالرَّكْبُ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٢] أَخَذُوا أَسْفَلَ الْوَادِي، هَذَا كُلُّهُ فِي
أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ سَرِيَّة يَوْمَ قُتِلَ
الْحَضْرَمِيُّ، ثُمَّ كَانَتْ أُحُدٌ، ثُمَّ يَوْمُ الْأَحْزَابِ بَعْدَ أُحُدٍ
بِسَنَتَيْنِ، ثُمَّ كَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ، وَهُوَ يَوْمُ الشَّجَرَةِ،
فَصالَحَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ فِي عَامٍ قَابِلٍ (١) فِي هَذَا
الشَّهْرِ، فَفِيهَا أُنْزِلَتْ: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٩٤]، فَشَهْرُ عَامِ الْأَوَّلِ بِشَهْرِ
الْعَامِ الثَّانِي (٢)، فَكَانَتْ ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (٣)﴾ [البقرة: ١٩٤]، ثَمَّ كَانَ الْفَتْحُ بَعْدَ الْعُمْرَةِ،
فَفِيهَا نَزَلَتْ: ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ
شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٧]، وَذَلِكَ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ غَزَاهُمْ،
وَلَمْ يَكُونُوا أَعَدُّوا لَهُ أُهْبَةَ (٤) الْقِتَالِ، وَلَقَدْ قُتِلَ مِنْ
قُرَيْشٍ أَرْبَعَةُ رَهْطٍ (٥)، وَمَنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ
خَمْسُونَ أَوْ زِيَادَةٌ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ لَمَّا دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ:
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ [المؤمنون: ٧٨]، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ بَعْدَ
عِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِلَى الطَّائِفِ (٦)، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى
(١) العام القابل: المقبل. (انظر: اللسان،
مادة: قبل).
(٢)
ليس في الأصل، ويقتضيه السياق.
(٣)
القصاص: الأخذ من الجاني مثل ما جنى. (انظر: التبيان في تفسير غريب القرآن) (ص
١٠٢).
(٤)
الأهبة: العُدَّةُ. (انظر: اللسان، مادة: أهب).
(٥)
الرهط: ما دون العشرة من الرجال. وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة، ولا واحد
له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط. (انظهـ: النهاية، مادة: رهط).
(٦)
الطائف: مدينة تقع شرق مكة مع مَيْل قليل إلى الجنوب، على مسافة تسعة وتسعين كيلو
مترا، وترتفع عن سطح البحر ١٦٣٠ مترا. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ١٧٠).
الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللهِ
ﷺ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، ثُمَّ وَدَّعَ النَّاسَ، ثُمَّ رَجَعَ فَتُوُفِّيَ فِي
لَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ، وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ
الْحَجِّ غَزَا رَسُولُ اللهِ ﷺ تَبُوكًا.
٧
- وَقْعَةُ
أُحُدٍ
° [١٠٥٧٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ: كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ
وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ فِي قَوْلِهِ:
﴿وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ١٥٢] إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ يَوْمَ
أُحُدٍ حِينَ غَزَا أَبُو سُفْيَانَ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ: «إِنِّي رَأَيْتُ
كَأَنِّي لَبِسْتُ دِرْعًا (١) حَصِينَةً، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ،
فَاجْلِسُوا فِي ضَيْعَتِكُمْ، وَقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهَا»، وَكَانَتِ
الْمَدِينَةُ قَدْ شُبِّكَتْ بِالْبُنْيَانِ فَهِيَ كَالْحِصْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ
مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا: يَا رَسُولَ اللهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ
فَلْنُقَاتِلْهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: نَعَمْ
وَاللهِ يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا رَأَيْتُ، إِنَّا وَاللهِ مَا نَزَلَ بِنَا
عَدُوُّ قَطُّ فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ، فَأَصَابَ فِينَا، وَلَا ثَبَتْنَا فِي
الْمَدِينَةِ، وَقَاتَلْنَا مِنْ وَرَائِهَا إِلَّا هَزَمْنَا عَدُوُّنَا،
فَكَلَّمَهُ أُنَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،
اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ، فَدَعَا بِلأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا
أَظُنُّ الصَّرْعَى إِلَّا سَتَكْثُرُ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، إِنِّي أَرَى فِي
النَّوْمِ مَنْحُورَةً، فَأَقُولُ: بَقَرٌ، وَاللهِ بِخَيْرٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَاجْلِسْ بِنَا، فَقَالَ: «إِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ (٢) أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى
يَلْقَى النَّاسَ، فَهَلْ مِنْ رَجُلٍ يَدُلُّنَا الطَّرِيقَ (*) فَيُخْرِجُنَا
(٣) عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ (٤)»؟ فَانْطَلَقَتْ بِهِ الْأَدِلَّاءُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْوَاسِطِ مِنَ
(١) الدرع: نسيج من حلق حديد يتصل بعضها
ببعض، يُلبس في الحرب ليقي المحارب ضربات السيوف والرماح، والجمع: دروع. (انظر:
معجم السلاح) (ص ٩٦).
(٢)
قوله: «إذا لبس لأمته» في الأصل: «إذا لابس أمته»، وهو خطأ من الناسخ.
اللأمة: الدرع، وقيل: السلاح، ولأمة
الحرب: أداته. (انظر: النهاية، مادة: لأم).
(*) [٣/
٧٤ أ].
(٣)
في تعقيبة الأصل: «فخرجنا»، والمثبت من عند المصنف في «التفسير» (١/ ١٣٥).
(٤)
في الأصل: «كثيب»، والصواب المثبت، كما عند المصنف في «التفسير» (١/ ١٣٥).
الكثب: القرب. (انظر: النهاية، مادة:
كثب).
الْجَبَّانَةِ (١)، انْخَزَلَ عَبْدُ
اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ الْجَيْشِ،
فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى لَقُوهُمْ بِأُحُدٍ، وَصَافُّوهُمْ، وَقَدْ كَانَ
النَّبِيُّ ﷺ عَهِدَ إِلَى أَصْحَابِهِ إِنْ هُمْ هَزَمُوهُمْ أَلَّا يَدْخُلُوا
لَهُمْ عَسْكَرًا، وَلَا يَتْبَعُوهُمْ، فَلَمَّا الْتَقَوْا هَزَمُوا، وَعَصَوْا
النَّبِيَّ ﷺ، وَتَنَازَعُوا وَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنْهُمْ
لِيَبْتَلِيَهُمْ، كَمَا قَالَ اللهُ، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ وَعَلَى
خَيْلِهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَتَلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ شَدِيدَةٌ، وَكُسِرَتْ
رَبَاعِيَةُ (٢) رَسُولِ اللهِ ﷺ ودَمِيَ وَجْهُهُ، حَتَّى صَاحَ الشَّيْطَانُ
بِأَعْلَى صَوْتِهِ قُتِلَ مُحَمَّد، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَكُنْتُ أَوَّلَ
مَنْ عَرَفَ النَّبِيَّ ﷺ، عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْمِغْفَرِ (٣)،
فَنَادَيْتُ بِصوْتيَ الْأَعْلَى: هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ
اسْكُتْ، وَكَفُّ اللهُ الْمُشْرِكِينَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ وُقُوفٌ،
فَنَادَى أَبُو سُفْيَانَ بَعْدَمَا مُثِّلَ بِبَعْضِ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ،
وَجُدِعُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ بُقِرَ بَطْنُهُ، فَقَالَ أَبُو سفْيَانَ: إِنَّكُمْ
سَتَجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ بَعْضَ الْمَثْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ
ذَوِي رَأْيِنَا وَلَا سَادَتِنَا، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ
(٤)، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، فَقَالَ:
أَنْعَمْتَ عَيْنًا، قَتْلَى بِقَتْلَى بَدْرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا يَسْتَوِي
الْقَتْلَى، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَقَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، وَنَدَبَ
(٥) النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا قَرِيبًا
مِنْ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ (٦)، وَكَانَ فِيمَنْ طَلَبَهُمْ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ
اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ حِينَ
(١) الجبانة: الصحراء، وتسمى بها المقابر، لأنها
تكون في الصحراء، تسمية للشيء بموضعه. (انظر: النهاية، مادة: جبن).
(٢)
الرباعية: إحدى الأسنان الأربع التي تلي الثنايا بين الثنية والناب تكون للإنسان
وغيره، والجمع: رباعيات. (انظر: اللسان، مادة: ربع).
(٣)
المغفر: اللثام أو طرف العمامة يشده على فمه. (انظر: اللسان، مادة: غفر).
(٤)
هبل: صنم معروف كان يُعبَد. (انظر: النهاية، مادة: هبل).
(٥)
الندب: الحث على الشيء والترغيب فيه. (انظر: المشارق) (٢/ ٧).
(٦)
حمراء الأسد: على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة.
(انظر: الروض المعطار) (ص ٢٠٠).
قَالَ اللهُ: ﴿الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
° [١٠٥٨٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا دَخَلَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَسْجِدَ، دَعَا الْمُسْلِمِينَ لِطَلَبِ الْكُفَّارِ،
فَاسْتَجَابُوا فَطَلَبُوهُمْ عَامَّةَ يَوْمِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ
اللهِ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ
بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ (١) [آل عمران: ١٧٢] الْآيَةَ.
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَنَّ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ضُرِبَ يَوْمَئِذٍ بِالسَّيْفِ
سَبْعِينَ ضَرْبَةً، وَقَاهُ اللهُ شَرَّهَا كُلَّهَا.
٨
- وَقْعَةُ
الْأحْزَابِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ (٢)
° [١٠٥٨١]
عبد الرزاق (٣)، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَحْزَابِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ
بِسَنَتَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ جانِبَ
الْمَدِينَةِ، وَرَأْسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَبُو سُفْيَانَ، فَحَاصَرَ
رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، حَتَّى خَلُصَ إِلَى
كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمُ الْكَرْبُ، وَحَتَّى قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، كَمَا
أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ
وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ ألَّا تُعْبَدَ»، فَبَيْنَا هُمْ
عَلَى ذَلِكَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ
الْفَزَارِيِّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ رَأْسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَطَفَانَ، وَهُوَ
مَعَ أَبِي سُفْيَانَ: «أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ لَكَ ثُلُثَ ثَمَرِ الْأَنْصَارِ
أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَكَ * مِنْ غَطَفَانَ؟ وَتُخَذِّلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ»؟
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ: إِنْ جَعَلْتَ لِيَ الشَّطْرَ (٤) فَعَلْتُ،
فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ
(١) القرح: الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من
خارج. (انظر: المفردات للأصفهاني) (ص ٦٦٥).
(٢)
بنو قريظة: قبيلة يهودية سكنت المدينة المنورة في جنوبها الشرقي. (انظر: أطلس
الحديث النبوي) (ص ٣٠٧).
(٣)
يعني: بسنده عن الزهري، به. كما في «التفسير» للمصنف (١/ ٨٣).
(*) [٣/
٧٤ ب].
(٤)
الشطر: النصف، والجمع: أشطر وشطور. (انظر: النهاية، مادة: شطر).
مُعَاذٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوْسِ،
وَإِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ لَهُمَا:
«إِنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَدْ سَأَلَنِي نِصْفَ ثَمَرِكُمَا عَلَى أَنْ
يَنْصَرِفَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ غَطَفَانَ، وَيُخَذِّلَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ،
وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ الثُّلُثَ، فَأَبَى إِلَّا الشَّطْرَ، فَمَاذَا
تَرَيَانِ»؟ قَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَامْضِ
لِأَمْرِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ كُنْتُ أُمِرْتُ بِشَيْءٍ لَمْ
أَسْتَأْمِرْكُمَا، وَلَكِنْ هَذَا رَأيِي أَعْرِضُهُ عَلَيْكُمَا»، قَالَا:
فَإِنَّا لَا نَرَى أَنْ نُعْطِيَهُ إِلَّا السَّيْفَ، قَالَ: «فَنِعْمَ إِذَنْ».
قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخبَرَنِي ابْنُ
أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ كَانَ،
أَفَالْآنَ حِينَ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ؟ قَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «فَنِعْمَ إِذَنْ».
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ،
عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ
مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَكَانَ يَأْمَنُهُ الْفَرِيقَانِ، كَانَ مُوَادِعًا
لَهُمَا، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ عُيَيْنَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ إِذْ
جَاءَهُمْ رَسُولُ بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنِ اثْبُتُوا، فَإِنَّا سَنُخَالِفُ
الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيْضَتِهِمْ (١)، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَلَعَلَّنَا
أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ»، وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ،
فَقَامَ بِكَلِمَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مِنَ اللهِ فَأَمْضِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا مِنْكَ
فَإِنَّ شَأْنَ قُرَيْشٍ وَبَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ
عَلَيْكَ فِيهِ مَقَالٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الرَّجُلَ: «رُدُّوهُ»،
فَرَدُّوهُ، فَقَالَ: «انْظُرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَ، فَلَا تَذْكُرهُ
لِأَحَدٍ»، فَإِنَّمَا أَغْرَاهُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى عُيَيْنَةَ وَأَبَا
سُفْيَانَ، فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ يَقُولُ قَوْلًا إِلَّا كَانَ
حَقًّا؟ قَالَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُ شَأْنَ قُرَيْظَةَ،
قَالَ: «فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ»، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: سَنَعْلَمُ
ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَكْرًا، فَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّكُمْ قَدْ
أَمَرْتُمُونَا أَنْ نَثْبُتَ، وَأَنَّكُمْ سَتُخَالِفُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى
بَيْضَتِهِمْ، فَأَعْطُونَا بِذَلِكَ رَهِينَةً، فَقَالُوا: إِنَّهَا قَدْ
دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّا لَا نَقْضي فِي السَّبْتِ شَيْئًا، فَقَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّكُمْ فِي مَكْرٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ،
(١) بيضة القوم: مجتمعهم وموضع سلطانهم،
ومستقر دعوتهم. وبيضة الدار: وسطها ومعظمها، أراد عدوا يستأصلهم ويهلكهم جميعهم.
(انظر: النهاية، مادة: بيض).
فَارْتَحِلُوا، وَأَرْسَلَ اللهُ
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَأَطْفَأَتْ
نِيرَانَهُمْ، وَقَطَعَتْ أَرْسَانَ خُيُولِهِمْ، وَانْطَلَقُوا مُنْهَزِمِينَ
مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: ٢٥]، قَالَ: فَنَدَبَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ
(١) فِي طَلَبِهِمْ، فَطَلَبُوهُمْ حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، قَالَ:
فَرَجَعُوا، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ لأْمَتَهُ، وَاغْتَسَلَ، وَاسْتَجْمَرَ،
فَنَادَى النَّبِيِّ ﷺ جِبْرِيلُ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلَا أَرَاكَ قَدْ
وَضَعْتَ اللَّأْمَةَ؟ وَلَمْ نَضَعْهَا نَحْنُ بَعْدُ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ
فَزِعًا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «عَزَمْتُ (٢) عَلَيْكُمْ ألا تُصَلُّوا
الْعَصْرَ، حَتَّى تَأْتُوا بَنِي قُرَيظَةَ»، فَغَرَبَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ
يَأْتُوهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِن النَّبِيَّ ﷺ لَمْ
يُرِدْ أَنْ تَدَعُوا الصَّلَاةَ، فَصَلُّوا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّا لَفِي
عَزِيمَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا عَلَيْنَا مِنْ بَأْسٍ، فَصَلَّتْ طَائِفَةٌ
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَتَرَكَتْ طَائِفَةٌ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا (٣) قَالَ:
فَلَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ ﷺ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ
ﷺ فَمَرَّ بِمَجَالِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: «هَلْ مَرَّ
بِكُمْ مِنْ أَحَدٍ»؟ فَقَالُوا: نَعَمْ (*)، مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ
الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ (٤) تَحْتَهُ قَطِيفَةُ (٥) دِيبَاجٍ،
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ جِبْرِيلُ، أُرْسِلَ إِلَى
بَنِي قُرَيْظَةَ، لِيُزَلْزِلَ حُصُونَهُمْ، وَيَقذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ»، فَحَاصَرَهُمْ أَصحَابُ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمَّا انْتَهَى أَصْحَابُ
النَّبِيِّ ﷺ أَمَرَهُمْ (٦) أَنْ يَسْتُرُوهُ بِجُحَفِهِمْ لِيَقُوهُ
الْحِجَارَةَ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ، فَفَعَلُوا فَنَادَاهُمْ: «يَا
إِخوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ»، فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا كنْتَ
فَاحِشًا، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَأَبَوْا
أَنْ
(١) في الأصل: «أصحابهم».
(٢)
العزم: القسم. وعزمت عليك: أي: أمرتك أمرا جدا. (انظر: اللسان، مادة: عزم).
(٣)
قوله: «وتركت طائفة إيمانا واحتسابا» ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
(*) [٣/
٧٥ أ].
(٤)
الشهباء: التي يغلب بياضُها سوادَها. (انظر: النهاية، مادة: شهب).
(٥)
القطيفة: نسيجٌ من الحرير أو القطن ذو أهداب (زوائد) تُتَّخَذ منه ثياب وفُرُش.
(انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: قطف).
(٦)
ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
يُجِيبُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ،
فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى
نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَأَبَوْا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى
حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَزَلُوا عَلَى دَاءٍ فَأَقْبَلُوا بِهِمْ، وَسَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ أَسِيرًا عَلَى أَتَانٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ،
فَأَخَذَتْ قُرَيظَةُ تُذَكِّرُهُ بِحِلْفِهِمْ، وَطَفِقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
يَنْفَلِتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مسْتَأْمِرًا، يَنْتَظِرُهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ
يَحْكُمَ بِهِ، فَيُجِيبُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: أَتُقِرُّ
بِمَا أَنَا حَاكِمٌ، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: بِقَوْلِ «نَعَمْ»، قَالَ
سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ بِأَنْ يُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُقْسَمَ
أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَصَابَ
الْحُكْمَ»، قَالَ: وَكَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ اسْتَجَاشَ الْمُشْرِكِينَ
عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَلَاكَ (١) لِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَاسْتَفْتَحَ
عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَقَالَ سَيِّدُهُمْ: إِنَّ هَذَا رَجُلٌ مَشْئُومٌ، فَلَا
يَشْأَمَنَّكُمْ حُيَيٌّ، فَنَادَاهُمْ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، أَلَا
تَسْتَجِيبُوا؟ أَلَا تَلْحِقُونِي؟ أَلَا تُضَيِّفُونِي؟ فَإِنِّي جَائِعٌ
مَقْرُورٌ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: وَاللهِ لَنَفْتَحَنَّ لَهُ، فَلَمْ
يَزَالُوا حَتَّى فَتَحُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ أُطُمَهُمْ، قَالَ:
يَا بَنِي قُرَيْظَةَ جِئْتُكُمْ فِي عَزِّ الدَّهْرِ، جِئْتُكُمْ فِي عَارِضِ
بَرْدٍ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُمْ: أَتَعِدُنَا
عَارِضًا بَرْدًا يَنْكَشِفُ عَنَّا، وَتَدَعُنَا عِنْدَ بَحْرٍ دَائِمٍ لَا يُفَارِقُنَا،
إِنَّمَا تَعِدُنَا الْغُرُورَ، قَالَ: فَوَاثَقَهُمْ وَعَاهَدَهُمْ لَئِنِ
انْفَضَّتْ جُمُوعُ الْأَحْزَابِ أَنْ يَجِيءَ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُمْ
أُطُمَهُمْ، فَأَطَاعُوهُ حِينَئِذٍ بِالْغَدْرِ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ،
فَلَمَّا فَضَّ اللهُ جُمُوعَ الْأَحْزَابِ، انْطَلَقَ حَتَّى إِذَا كَانَ
بِالرَّوْحَاءِ (٢)، ذَكَرَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ الَّذِي أَعْطَاهُمْ،
فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ أُتِيَ
بِهِ مَكْتُوفًا بِقِدٍّ، فَقَالَ حُيَيٌّ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَمَا وَاللهِ مَا
لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللهَ يُخْذَلُ
فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
(١) كذا في الأصل.
(٢)
الروحاء: موضع على الطريق بين المدينة وبدر، على مسافة أربعة وسبعين كيلو مترًا من
المدينة، نزلها رسول الله ﷺ في طريقه إلى مكة. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ١٣١).
٩ - وَقْعَةُ خَيْبَرَ
° [١٠٥٨٢]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ حتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَغَزَا خَيْبَرَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ،
فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ إِلَى: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح:
٢٠]،
فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ جَعَلَهَا لِمَنْ غَزَا مَعَهُ الْحُدَيْبِيَةَ،
وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ مِمَّنْ كَانَ غَائِبًا وَشَاهِدًا مِنْ أَجْلِ
أَنَّ اللهَ كَانَ وَعَدَهُمْ إِيَّاهَا، وَخَمَّسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَيْبَرَ،
ثُمَّ قَسَّمَ سَائِرَهَا مَغَانِمَ بَيْنَ مَنْ (*) شَهِدَهَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ
لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَا لِأَصْحَابِهِ عُمَّالٌ يَعْمَلُونَ خَيْبَرَ وَلَا
يَزْرَعُونَهَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعَا يَهُودَ خَيْبَرَ،
وَكَانُوا خَرَجُوا عَلَى أَنْ يَسِيرُوا مِنْهَا، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ خَيْبَرَ
عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا عَلَى النِّصْفِ، فَيُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ
وَإِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ
مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ»، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ
اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيَّ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ
يَطِيبُ أَوَّلُ شَيءٍ مِنْ تَمْرِهَا، قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ شَيءٌ، ثُمَّ
يُخْبِرُ الْيَهُودَ: أَيَأْخُذُونَهَا بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَمْ يَدْفَعُونَهَا
بِذَلِكَ الْخَرْصِ (١)؟
قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ اعْتَمَرَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَخَلَّوْهَا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَخَلَّفُوا حُوَيْطِبَ بْنَ
عَبْدِ الْعُزَّى الْقُرَشِيَّ ثُمَّ الْعَدَوِيَّ (٢)، وَأَمَرُوا إِذَا طَافَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلَاثًا، أَنْ يَأْتِيَهُ فَيَأْمُرَهُ أَنْ يَرْتَحِلَ، وَكَانَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ صالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْكُثَ ثَلَاثًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ،
فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ
(*) [٣/ ٧٥ ب].
(١)
الخرص: حزر (تقدير) ما على النخلة والكرمة من الرطب تمرا ومن العنب زبيبا. (انظر:
النهاية، مادة: خرص).
(٢)
في الأصل: «العلوي»، وهو خطأ، والصواب المثبت.
حُوَيْطِبُ بَعْدَ ثَلَاثٍ،
فَكَلَّمَهُ فِي الرَّحِيلِ، فَارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قافِلًا (١) إِلَى
الْمَدِينَةِ، ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَعَهُ عَشَرَةُ
آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصفٍ مِنْ
مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى
مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ (٢)، وَهُوَ: مَا بَيْنَ
عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ (٣)، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَلَمْ
يَصومُوا مِنْ بَقِيَّةِ رَمَضَانَ شَيْئًا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَ
الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
الْآخِرُ فَالْآخِرُ، قَالَ: فَفَتَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَكَّةَ لَيْلَةَ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ.
١٠
- غَزْوَةُ
الْفَتْحِ
° [١٠٥٨٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ
مَعْمَرٌ: وَكَانَ يُقَالُ لِعُثْمَانَ الْجَزَريِّ الْمُشَاهِدَ، عَنْ مِقْسَمٍ
مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ
رَسُولِ اللهِ ﷺ وبَيْنَ قُرَيْشٍ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَتْ سِنِينَ
ذَكَرَ أَنَّهَا كَانَتْ حَرْبٌ بَينَ بَنِي بَكْرٍ وَهُمْ حُلَفَاءُ قُرَيْشٍ،
وَبَيْنَ خُزَاعَةَ وَهُمْ حُلَفَاءُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ
حُلَفَاءَهَا عَلَى خُزَاعَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَمْنَعَنَّهُمْ مِمَّا أَمْنَعُ مِنْهُ نَفْسِي
وَأَهْلَ بَيْتِي»، وَأَخَذَ فِي الْجِهَازِ إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
قُرَيْشًا، فَقَالُوا لِأَبِي سُفْيَانَ: مَا تَصْنَعُ وَهَذِهِ الْجُيُوشُ تُجَهَّزُ
إِلَيْنَا؟ انْطَلِقْ فَجَدِّدْ
(١) القفول والمقفل والإققال: الرجوع. (انظر:
النهاية، مادة: قفل).
(٢)
الكديد: يعرف اليوم باسم «الحَمْض»: أرض بين عُسفان وخُليص، على مسافة «٩٠» كيلو
مترًا من مكة على طريق المدينة. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٢٣١).
(٣)
قديد: وادٍ من أودية الحجاز، يقطعه الطريق من مكة إلى المدينة، على نحو (١٢٠ كيلو
مترًا).
(انظر:
المعالم الأثيرة) (ص ٢٢٢).
° [١٠٥٨٣]
[شيبة: ٣٨٠٧٨].
بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ
كِتَابًا، وَذَلِكَ مَقْدَمُهُ مِنَ الشَّامِ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى
قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: هَلُمَّ (١)
فَلْنُجدِّدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كِتَابَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَنَحْنُ عَلَى
أَمْرِنَا الَّذِي كَانَ (*)، وَهَلْ أَحْدَثْتُمْ مِنْ حَدَثٍ؟» فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: لَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَنَحْنُ عَلَى أَمْرِنَا الَّذِي كَانَ
بَيْنَنَا»، فَجَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ عَلَى أَنْ
تَسُودَ الْعَرَبَ، وَتَمُنَّ عَلَى قَوْمِكَ فَتُجِيرَهُمْ، وَتُجَدِّدَ لَهُمْ
كِتَابًا؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْتَاتَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِأَمْرٍ، ثُمَّ
دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ: هَلْ لَكِ أَنْ تَكُونِي خَيْرَ سَخْلَةٍ فِي
الْعَرَبِ؟ أَنْ تُجِيرِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَدْ أَجَارَتْ أُخْتُكِ عَلَى
رَسُولِ اللهِ ﷺ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَلَمْ يُغَيِّرْ
ذَلِكَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: مَا كُنْتُ لِأَفْتَاتَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ
بِأَمْرٍ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: أَجِيرَا بَيْنَ النَّاسِ،
قُولَا: نَعَمْ، فَلَمْ يَقُولَا شَيْئًا، وَنَظَرَا إِلَى أُمِّهِمَا، وَقَالَا:
نَقُولُ مَا قَالَتْ أُمُّنَا، فَلَمْ يَنْجَحْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا طَلَبَ،
فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَاذَا جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ:
جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَاللهِ مَا
تَرَكْتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، وَلَا أُنْثَى، وَلَا ذَكَرًا، إِلَّا
كَلَّمْتُهُ، فَلَمْ أَنْجَحْ مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا
ارْجِعْ، فَرَجَعَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُرِيدُ قُرَيْشًا، حَتَّى إِذَا
كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصارِ:
«انْظُرُوا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَهُ»، فَنَظَرُوهُ فَوَجَدُوهُ،
فَلَمَّا دَخَلَ الْعَسْكَرَ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَجَئُونَهُ، وَيُسْرِعُونَ
إِلَيْهِ، فَنَادَى: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَأُمِرَ بِي إِلَى
الْعَبَّاسٍ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ لَهُ خِدْنًا وَصدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ إلَى الْعَبَّاسٍ، فَبَاتَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا كَانَ
عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، تَحَرَّكَ النَّاسُ، فَظَنَّ
أَنَّهُمْ يُرِيدُونَهُ قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالَ:
تَحَرَّكُوا لِلْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ، قَالَ: فَكُلُّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا
تَحَرَّكُوا لِمُنَادِي مُحَمَّدٍ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَامَ الْعَبَّاسُ
لِلصَّلَاةِ وَقَامَ مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا، قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا
يَصْنَعُ مُحَمَّدٌ شَيْئًا إِلَّا
(١) هلم: أقبِل وتعال، أو: هات وقرب. (انظر:
مجمع البحار، مادة: هلم).
(*) [٣/
٧٦ أ].
صَنَعُوا مِثْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَلَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى يَمُوتُوا
جُوعًا لَفَعَلُوا، وإِنِّي لأَرَاهُمْ سَيُهْلِكُونَ قَوْمَكَ غَدًا، قَالَ: يَا
عَبَّاسُ، فَادْخُلْ بِنَا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ فِي
قُبَّةٍ (١) مِنْ أَدَمٍ (٢)، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَلْفَ الْقُبَّةِ،
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْعُزَّى؟ فَقَالَ عُمَرُ مِنْ خَلْفِ القُبَّةِ: تَخْرَأُ
عَلَيْهَا، فَقَالَ: وَأَبِيكَ إِنَّكَ لَفَاحِشٌ، إِنِّي لَمْ آتِكَ يَا ابْنَ
الْخَطَّابِ، إِنَّمَا جِئْتُ لاِبْنِ عَمِّي، وإيَّاهُ أكلِّمُ، قَالَ: فَقَالَ
الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ
قَوْمِنَا، وَذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَهُ شَيْئًا
يُعْرَفُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ
فَهُوَ آمِنٌ»، قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَدَارِي؟ أَدَارِي؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «نَعَمْ، وَمَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغلَقَ
عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ»، فَانْطَلَقَ مَعَ الْعَبَّاسِ حَتَّى إِذَا كَانَ
بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، فَخَافَ مِنْهُ الْعَبَّاسُ بَعْضَ الْغَدْرِ فَجَلَّسَهُ
عَلَى أَكَمَةٍ حَتَّى مَرَّتْ بِهِ الْجُنُودُ، قَالَ: فَمَرَّتْ بِهِ كَبْكَبَةٌ
(٣)، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ؟ فَقَالَ: هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ
الْعَوَّامِ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُمْنَى، قَالَ: ثُمَّ مَرَّتْ كَبْكَبَةٌ
أُخْرَى، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا (*) عَبَّاسُ؟ قَالَ: هُمْ قُضَاعَةُ
وَعَلَيهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ
كَبْكَبَةٌ أُخْرَى، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ؟ قَالَ: هَذَا خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُسْرَى، قَالَ: ثُمَّ مَرَّتْ بِهِ
قَوْثم يَمْشُونَ فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ؟ الَّتِي
كَأَنَّهَا حَرَّةٌ سَوْدَاءُ، قَالَ: هَذِهِ الْأَنْصَارُ عِنْدَهَا الْمَوْتُ
الْأَحْمَرُ، فِيهِمْ (٤) رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْأَنْصَارُ حَوْلَهُ، فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ: سِرْ يَا عَبَّاسُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ صَبَاحَ قَوْمٍ فِي
دِيَارِهِمْ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ نَادَى،
وَكَانَ شِعَارُ قُرَيْشٍ يَا آلَ
(١) القبة: البيت الصغير المستدير، وهو من
بيوت العرب، والجمع: القباب. (انظر: النهاية، مادة: قبب).
(٢)
الأدم والأديم: الجلد. (انظر: النهاية، مادة: أدم).
(٣)
الكبكبة: الجماعة. (انظر: اللسان، مادة: كبب).
(*) [٣/
٧٦ ب].
(٤)
في الأصل: «فمنهم».
غَالِبٍ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا،
فَلَقِيَتْهُ امْرَأَتُهُ هِنْدٌ فَأَخَذَتْ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَتْ: يَا آلَ
غَالِبٍ، اقْتُلُوا الشَّيْخَ الْأَحْمَقَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَبَأَ، فَقَالَ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْلِمِنَّ، أَوْ لَيُضرَبَنَّ عُنُقُكِ، قَالَ:
فَلَمَّا أَشْرَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَكَّةَ كَفَّ النَّاسَ أَنْ يَدْخُلُوهَا
حَتَّى يَأْتِيَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسٍ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ
ﷺ: «لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ بِعَبَّاسٍ مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ
مَسْعُودٍ، فَوَاللهِ إِذَنْ لَا أَسْتَبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا»، قَالَ: ثُمَّ
جَاءَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
بِالْكَفِّ، فَقَالَ: «كُفُّوا السِّلَاحَ إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَكرٍ سَاعَةً»،
ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَكَفُّوا، فَأَمَّنَ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَّا (١) ابْنَ أَبِي
سَرْحٍ، وَابْنَ خَطَلٍ وَمَقِيسَ الْكِنَانِيَّ، وَامْرَأَةً أُخْرَى، ثُمَّ
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي لَمْ أُحَرِّمْ مَكَّةَ وَلَكِنْ حَرَّمَهَا اللهُ،
وَاِنَّهَا لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاِنَّمَا أَحَلَّهَا اللهُ لِي فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ»،
قَالَ: ثُمَّ جَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِابْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَقَالَ:
بَايِعْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةٍ
أُخْرَى فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَهُ أَيْضًا، فَقَالَ: بَايِعْهُ يَا
رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقَدْ أَعْرَضْتُ عَنْهُ، وَإِنِّي
لأَظُنُّ بَعْضَكُمْ سَيَقْتُلُهُ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَهَلَّا
أَوْمَضْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُومِضُ»،
وَكَأَنَّهُ رَآهُ غَدْرًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَ بِمَنْ مَعَهُ صُفُوفَ قُرَيْشٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ
حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَرُفِعَ عَنْهُمْ،
فَدَخَلُوا فِي الدِّينِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ﴾ حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ رَجَعَ
رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَهِيَ كِنَانَةُ وَمَنْ أَسْلَمَ
يَوْمَ الْفَتْحِ قَبْلَ حُنَيْنٍ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ فِي قُبُلِ الطَّائِفِ ذُو
مِيَاهٍ، وَبِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ عَجُزُ هَوَازِنَ وَمَعَهُمْ
ثَقِيفٌ، وَرَأْسُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ،
فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ، فَنَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ والْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ
يَوْمًا شَدِيدًا عَلَى النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ [التوبة: ٢٥] الْآيَةَ.
(١) ليس في الأصل، واستدركناه من «تخريج
أحاديث الكشاف» للزيلعي (٣/ ١١٣) معزوا لعبد الرزاق، به.
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَأَلَّفُهُمْ فَلِذَلِكَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ يَوْمَئِذٍ.
° [١٠٥٨٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ
دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ.
١١
- وَقْعَةُ
حُنَيْنٍ
° [١٠٥٨٥]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ قَالَ: شَهِدْتُ
مَعَ رَسُولِ اللهِ (*) يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ
وَمَا مَعَهُ إِلَّا أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، فَلَزِمْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَهُوَ عَلَى
بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ
فَرْوَةُ بْنُ نَعَامَةَ الْجُذَامِيُّ، قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ
وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدبِرِينَ، وَطفِقَ (١) رَسُول اللهِ ﷺ
يُرْكِضُ بَغْلتَهُ نَحْوَ الكُفَّارِ، قَالَ العَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ
بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَكُفُّهَا (٢)، وَهُوَ لَا يَأْلُو (٣) مَا أَسْرَعَ
نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِغَرْزِ (٤)
رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ (٥)»،
قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا صَيِّتًا (٦) فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ
أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟
(*) [٣/ ٧٧ أ].
(١)
طفق: أخذ في الفعل، وهي من أفعال المقاربة. (انظر: النهاية، مادة: طفق).
(٢)
في الأصل: «أكففها»، والتصويب من «المستخرج» لأبي عوانة (٦٧٤٩) من حديث الدبري عن
عبد الرزاق، به.
(٣)
الألو: التقصير. (انظر: النهاية، مادة: ألى).
(٤)
الغرز: ركاب كور (رحل) الجمل إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: هو الكور مطلقا، مثل
الركاب للسرج. (انظر: النهاية، مادة: غرز).
(٥)
السمرة: من شجر الطلح (الموز)، والجمع: سَمُر، وسمرات، وهي الشجرة التي كانت عندها
بيعة الرضوان عام الحديبية. (انظر: النهاية، مادة: سمر).
(٦)
الصيت: شديد الصوت عاليه. (انظر: النهاية، مادة: صيت).
قَالَ: فَوَاللهِ لكَأَنَّ
عَطْفَتَهُمْ (١) حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا،
يَقُولُونَ: يَا لَبَّيْكَ (٢)، يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، وَأَقْبَلَ
الْمُسْلِمُونَ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، فَنَادَتِ الْأَنْصَارُ، يَقُولُونَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَصرَتِ الدَّاعُونَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَادَوْا يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، قَالَ:
فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا
إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ
(٣)»، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ
الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: «انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»، قَالَ: فَذَهَبْتُ
أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا
هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِحَصيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى
حَدَّهُمْ كَلِيلًا (٤)، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا (٥)، حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ،
قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَةٍ
لَهُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ يُحَدِّثُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ يَوْمَئِذٍ كَانَ عَلَى الْخَيْلِ، خَيْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ
ابْنُ أَزْهَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعْدَمَا هَزَمَ اللهُ
الْكُفَّارَ، وَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى رِحَالِهِمْ (٦)، يَمْشِي فِي
الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُ: «مَن يَدُلُّنِي عَلَى رَحْلِ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ»؟ فَمَشَيْتُ، أَوْ قَالَ: فَسَعَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنَا غُلَامٌ
مُحْتَلِمٌ أَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى رَحْلِ خَالِدٍ؟ حَتَّى دُلِلْنَا
عَلَيْهِ، فَإِذَا خَالِدٌ مُسْتَنِدٌ إِلَى مُؤَخِّرَةِ رَحْلِهِ (٧)، فَأَتَاهُ
رَسُولُ اللهِ ﷺ فَنَظَرَ إِلَى جُرْحِهِ.
(١) العطف: الميل. (انظر: التاج، مادة: عطف).
(٢)
لبيك: من التلبية، وهي: إجابة المنادي، أي: إجابتي لك، أي: إجابة بعد إجابة، وقيل:
اتجاهي وقصدي إليك، وقيل غير ذلك. (انظر: النهاية، مادة: لبب).
(٣)
حمي الوطيس: كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب. (انظر: النهاية، مادة: حما).
(٤)
الكليل: السيف إذا لم يقطع. (انظر: النهاية، مادة: كلل).
(٥)
أمرهم مدبرا: حالهم ذلِيلا. (انظر: المرقاة) (١٠/ ٢١١).
(٦)
الرحال: جمع رحل، وهو: السكن والنزل. (انظر: النهاية، مادة: رحل).
(٧)
آخرة ومؤخرة الرحل: الخشبة التي يستند إليها الراكب على البعير. (انظر: النهاية،
مادة: أخر).
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَبَى يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلَافِ
سَبْيٍ مِنِ امْرَأَةٍ وَغُلَامٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ هَوَازِنُ (١) إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ
قَالُوا: أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُهُمْ، وَقَدْ سُبِيَ مَوَالِينَا،
وَنِسَاؤُنَا، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنِّي كُنْتُ
اسْتَأْنَيتُ (٢) بِكُمْ وَمَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْقَوْلِ إِلَيَّ
أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْمَالُ، وَإِمَّا
السَّبْيُ (٣)» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا إِذَا خَيَّرْتَنَا بَيْنَ
الْمَالِ وَبَيْنَ الْحَسَبِ، فَإِنَّا نَخْتَارُ الْحَسَبَ، أَوْ قَالَ: مَا
كُنَّا نَعْدِلُ بِالْحَسَبِ شَيْئًا، فَاخْتَارُوا نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ،
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَخَطَبَ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا
(٤) هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ
قَدْ جَاءُوا مُسْلِمِينَ أَوْ مُسْتَسْلِمِينَ، وَإِنَّا قَدْ خَيَّرْنَاهُمْ
بَيْنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَمْوَالِ (*) فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَحْسَابِ،
وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ تَرُدُّوا لَهُمْ أَبنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَمَنْ
أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَكْتُبَ عَلَينَا حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نُعْطِيَهُ مِنْ بَعْضِ مَا
يُفِيئُهُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ»، قَالَ: فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ
طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي
ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَأْمُرُوا عُرَفَاءَكُمْ فَلْيَرْفَعُوا ذَلِكَ
إِلَيْنَا»، فَلَمَّا رُفِعَتِ الْعُرَفَاءُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّ النَّاسَ
قَدْ سَلَّمُوا ذَلِكَ، وَأَذِنُوا فِيهِ رَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى هَوَازِنَ
نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَخَيَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نِسَاءً كَانَ
أَعْطَاهُنَّ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ بَيْنَ أَنْ يَلْبَثْنَ عِنْدَ مَنْ عِنْدَهُ
وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعْنَ إِلَى أَهْلِهِنَّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي
(١) هوازن: قبيلة عدنانية، كانت تقطن في نجد
مما يلي اليمن. ومن أوديتهم: حنين؛ غزاه رسول الله بعد فتح مكة. (انظر: المعالم
الأثيرة) (ص ٢٩٤).
(٢)
استأنى: انتظر وتربص. (انظر: النهاية، مادة: أنا).
(٣)
السَّبْي والسِّباء: الأسْر، والمراد ما وقع فيه من عبيد وإماء وغير ذلك. (انظر:
اللسان، مادة: سبي).
(٤)
في الأصل: «ما».
(*) [٣/
٧٧ ب].
أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ كَانَتْ
تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَخُيِّرَتْ، فَاخْتَارَت أَنْ تَرْجِعَ
إِلَى أَهْلِهَا وَتَرَكَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا،
وَأُخْرَى عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَاخْتَارَتْ أَهْلَهَا، قَالَ
الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ مَا قَسَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ
(١) بَعْدَمَا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى تِلْكَ الْحَجَّةِ.
° [١٠٥٨٦]
قال مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: جَاءَ مُلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِهَدِيَّةٍ، فَعَرَضَ
عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَبَلى أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: ﷺ: «إِنِّي
لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشرِكٍ»، قَالَ: فَابْعَثْ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ (٢) مَنْ
شِئْتَ فَأَنَا لَهُمْ جَارٌ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَفَرًا الْمُنْذِرَ بْنَ
عَمْرٍو وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ، وَفِيهِمْ عَامِرُ
بْنُ فُهَيْرَةَ فَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِمْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ بَنِي عَامِرٍ
فَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوهُ وَأَبَوْا أَنْ يُخْفِرُوا مُلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ
قَالَ: فَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِمْ بَنِي سُلَيْمٍ فَأَطَاعُوهُ فَاتَّبَعُوهُمْ
بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ فَأَدْرَكُوهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ
فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فَأَرْسَلُوهُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لَهُ
النَّبِيُّ ﷺ: «أَمِنْ بَيْنِهِمْ»؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ
لَمَّا دَفَنُوا الْتَمَسُوا جَسَدَ عَامِرِ بْنِ فُهَيرَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ دَفَنَتْهُ.
• [١٠٥٨٧]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَر، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ وَهُوَ خَالُ
أَنَسٍ طُعِنَ يَوْمَئِذٍ فَتَلَقَّى دَمَهُ بِكَفِّهِ، ثُمَّ نَضَحَهُ عَلَى
رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَقَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
(١) الجعرانة: مكان بين مكة والطائف يقع شمال
شرقي مكة في صدر وادي سرف، ولا زال الاسم معروفا. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٩٠).
(٢)
نجد: إقليم يقع في قلب الجزيرة العربية، تتوسطه مدينة الرياض، ويشمل القصيم وسدير
والأفلاج واليمامة وحائل والوشم وغيرها. (انظر: المعالم الجغرافية) (ص ٣١٢).
° [١٠٥٨٨] قال مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي عَاصِمٌ
أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ (١): مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ عَلَى
شَيْءٍ قَطُّ مَا وَجَدَ عَلَى أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ (٢)، أَصْحَابِ
سَرِيَّةِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو، فَمَكَثَ شَهْرَا يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ
أَصَابُوهُمْ فِي قُنُوتِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ (٣)، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ،
وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ وَلِحْيَانَ وَهُمْ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ.
١٢
- مَنْ
هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ
° [١٠٥٨٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ: فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ، وَظَهَرَ الْإِيمَانُ، فَتَحَدَّثَ بِهِ
الْمُشْرِكُونَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِمَنْ آمَنَ مِنْ قَبَائِلِهِمْ
يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَسْتَحْيُونَهُمْ، وَأَرَادُوا فِتْنَتَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ،
قَالَ: فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ (*) لِلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ:
«تَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ»، قَالُوا: فَأَيْنَ نَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «هَاهُنَا»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَتْ
أَحَبَّ الْأَرْضِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يُهَاجَرُ قِبَلَهَا، فَهَاجَرَ نَاسٌ
ذَوُو عَدَدٍ مِنْهُمْ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَاجَرَ
بِنَفْسِهِ حَتَّى قَدِمُوا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَخَرَجَ فِي
الْهِجْرَةِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِامْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ
الْخَثْعَمِيَّةِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رحمه الله بِامْرَأَتِهِ رُقَيَّةَ
ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَخَرَجَ فِيهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
بِامْرَأَتِهِ أُمَيْمَةَ ابْنَةِ خَلَفٍ (٤)، وَخَرَجَ فِيهَا أَبُو سَلَمَةَ
بِامْرَأَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَرَجُلٌ
مِنْ
(١) في الأصل: «أن»، والصواب المثبت.
(٢)
بئر معونة: مكان في ديار نجد، وقيل: بالقرب من جبل أبلى. (انظر: المعالم الأثيرة)
(ص ٤٣).
(٣)
صلاة الغداة: صلاة الصبح. (انظر: التاج، مادة: غدو).
(*) [٣/
٧٨ أ].
(٤)
قوله: «وعثمان بن عفان رحمه الله بامرأته رقية ابنة رسول الله ﷺ، وخرج فيها خالد
بن سعيد بن العاص بامرأته أميمة ابنة خلف» قلب في الأصل إلى: «وعثمان بن عفان رحمه
الله بامرأته أميمة ابنة خلف، وخرج فيها خالد بن سعيد بن العاص بامرأته رقية ابنة
رسول الله ﷺ» وهو خطأ، والصواب المثبت كما في «الدرر في اختصار المغازي والسير»
لابن عبد البر (ص ٤٨) من حديث الدبري عن عبد الرزاق، به.
قُرَيْشٍ خَرَجُوا بِنِسَائِهِمْ،
فَوُلِدَ بِهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَوُلِدَتْ بِهَا أَمَةُ ابْنَةُ
خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ أُمُّ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ، وَخَالِدِ بْنِ الزبَيْرِ،
وَوُلِدَ بِهَا الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبِ فِي نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ وُلِدُوا بِهَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ
قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ
إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً
(١)، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مُهَاجِرًا
قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ
الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ (٢)، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: أَيْنَ
تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ
أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ:
مِثْلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ
الْمَعْدُومَ (٣)، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ (٤)، وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ
فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَرَجَعَ مَعَ أَبِي
بَكْرٍ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا
بَكْرٍ خَرَجَ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ،
وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى
نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ،
وَأَمَّنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ
فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلْيُصَلِّ فِيهَا مَا شَاءَ، وَلَا
يُؤْذِينَا، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ،
فَفَعَلَ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَبَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ،
فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ فَيَتَقَصَّفُ (٥) عَليْهِ نِسَاءُ
المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُون مِنْهُ وَيَنْظرُونَ إِليْهِ، وَكَانَ
أبُو بَكْرٍ
(١) العشي والعشية: آخر النهار، ما بين زوال
الشمس إلى وقت غروبها، وقيل: من زوال الشمس إلى الصباح. (انظر: اللسان، مادة: عشا).
(٢)
القارة: قبيلة من بني الهون بن خزيمة، سُموا قارة؛ لاجتماعهم والتفافهم، ويوصفون
بالرمي. (انظر: النهاية، مادة: قور).
(٣)
المعدوم والمعدم والعديم: الفقير شديد الحاجة الذي لا شيء عنده. (انظر: النهاية،
مادة: عدم).
(٤)
الكل: الثقل من كل ما يتكلف. وقيل: العيال. (انظر: النهاية، مادة: كلل).
(٥)
تقصف عليه القوم: يعني: ازدحموا عليه. (انظر: النهاية، مادة: قصف).
رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ
دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ،
فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا
أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ اللهَ فِي دَارِهِ، وإِنَّهُ قَدْ
جَاوَزَ ذَلِكَ وَبَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءَ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ
وَالْقِرَاءَةَ، وإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا
فَأْتِهِ، فَأْمُرْهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ اللهَ
فِي دَارِهِ فَعَلَ، وإن أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ أَنْ
يَرُدَّ عَلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا خَفَرَكَ وَلَسْنَا (١)
مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ بِالاِسْتِعْلَانِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ
الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي
عَقَدْتُ لَكَ إِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ
إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي
أُخْفِرْتُ فِي عَهْدِ رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي
أَرُدُّ إِلَيْكَ (*) جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَرَسُولُ
اللهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ: «إِنِّي
قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، إِنِّي أُرِيتُ دَارًا سَبْخَةً (٢) ذاتَ نَخْلٍ
بَيْنَ لَابَتَيْن، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ (٣)»، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ
الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَلِكَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ
بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مُهَاجِرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«عَلَى رِسْلِكَ (٤) فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
أَتَرْجُو ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ
نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لِصُحْبَتِهِ وَعَلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَاحِلَتَيْنِ
كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ (٥) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:
قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسًا
(١) «لسنا»: ليس في الأصل، واستدركناه من
«المسند» لابن راهويه (٨٤٦) من حديث عبد الرزاق، به.
(*) [٣/
٧٨ ب].
(٢)
السبخة: الأرض التي تعلوها المُلوحة ولا تكاد تُنبت إلا بعض الشجر، والجمع: سباخ.
(انظر: النهاية، مادة: سبخ).
(٣)
الحرتان: مثنى حرة، وهي: أرض ذات حجارة سود، وهما حرتان، الشرقية شرق المدينة
وتسمى واقم، والغربية في غرب المدينة وتسمى حرة الويرة. (انظر: المعالم الأثيرة)
(ص ٩٨).
(٤)
الرِّسْل: الهِينة والتأنّي. (انظر: النهاية، مادة: رسل).
(٥)
السمر: جمع سَمُرة، وهو نوع من شجر الطلح (الموز)، ويجمع أيضًا على أسمر، وسمرات.
(انظر: النهاية، مادة: سمر).
فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ (١)، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُقْبِلًا
مُتَقَنِّعًا رَأْسَهُ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: فِدًى لَهُ أَبِي وَأُمِّي إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا
أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَاستَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ
… فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ»،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَالصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «نَعَمْ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ
اللهِ وَأُمِّي إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«بِالثَّمَنِ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجَهَازِ
فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً (٢) فِي جِرَابٍ (٣)، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ
أَبِي بَكْرٍ مِنْ نِطَاقِهَا (٤) فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ
تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ
فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ (٥)، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
° [١٠٥٩٠]
قال مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٦) فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠]، قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ بِمَكَّةَ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ يُرِيدُونَ
النَّبِيَّ
(١) نحر الظهيرة: حين تبلغ الشمسُ مُنتهاها
من الارتفاع، كأنها وصَلَت إلى النحر، وهو أعلى الصَّدْر. (انظر: النهاية، مادة:
نحر).
(٢)
السفرة: طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى
الجلد وسمي به. (انظر: النهاية، مادة: سفر).
(٣)
الجراب: وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه، والجمع: جرب وأجربة. (انظر: المعجم الوسيط،
مادة: جرب).
(٤)
النطاق والمنطق والمنطقة: ما يشد به أوساط الناس، وما تشد المرأة به وسطها لترفع
وسط ثوبها عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها. (انظر: النهاية، مادة: نطق).
(٥)
ثور: جبل ضخم يقع جنوب مكة، يُرى من عمرة التنعيم، فيه من الشمال غار ثور المشهور.
(انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٨٤).
(٦)
قوله: «عن ابن عباس» سقط من الأصل، وأثبتناه من «مسند أحمد» (٣٣١٣)، «تفسير
الطبري» (١٣/ ٤٩٧)، «شرح مشكل الآثار» (٥٨٠٦)، «المعجم الكبير» للطبراني (١١/
٤٠٧)، وغيرهم من طريق المصنف، به.
ﷺ، وَقَالَ بَعْضهُمْ: بَلِ
اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ
عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى (١) فِرَاشِ النَّبِيِّ ﷺ تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
وَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ حتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ
عَلِيًّا يَحْسَبُونَ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا
إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ
صاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا (٢) أَثَرَهُ، فَلَمَّا
بَلَغُوا الْجَبَلَ، اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ،
فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا:
لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ بِنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ،
فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا.
° [١٠٥٩١]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: دَخَلُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ يَأْتَمِرُونَ
بِالنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: لَا يَدْخُلْ مَعَكُمْ أَحَدٌ لَيْسَ مِنْكُمْ،
فَدَخَلَ مَعَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا عَيْنٌ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
نَجْدٍ، قَالَ: فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَرَى أَنْ تُرْكِبُوهُ
بَعِيرًا، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: بِئْسَ مَا رَأَى هَذَا، هُوَ
هَذَا قَدْ كَانَ يُفْسِدُ مَا بَيْنَكُمْ وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَكَيْفَ
إِذَا أَخْرَجْتُمُوهُ فَأَفْسَدَ النَّاسَ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ عَلَيْكُمْ
يُقَاتِلُوكُمْ، فَقَالُوا: نِعْمَ مَا رَأَى هَذَا الشَّيْخُ، فَقَالَ قَائِلٌ
آخَرُ: فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلُوهُ (*) فِي بَيْتٍ وَتُطَينُوا عَلَيْهِ بَابَهُ
وَتَدَعُوهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: بِئْسَ مَا رَأَى هَذَا،
أَفَتَرَى قَوْمَهُ يَتْرُكُونَهُ فِيهِ أَبَدًا لَا بُدَّ أَنْ يَغْضبُوا لَهُ
فَيُخْرِجُوهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَرَى أَنْ تُخْرِجُوا مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ
رَجُلًا، ثُمَّ يَأْخُذُوا أَسْيَافَهُمْ فَيضْرِبُونَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً،
فَلَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ فَتَدُونَهُ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: نِعْمَ مَا رَأَى
هَذَا، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ
إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، وَنَامَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ
النَّبِيِّ ﷺ وَبَاتُوا يَحْرُسُونَهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا
أَصْبَحُوا قَامَ عَلِيٌّ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ بَادَرُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا هُمْ
بِعَلِيٍّ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ:
(١) ليس في الأصل، واستدركناه من «مسند أحمد»
من حديث عبد الرزاق، به.
(٢)
الاقتصاص: التتبع. (انظر: النهاية، مادة: قصص).
(*) [٣/
٧٩ أ].
لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ
حَتَّى بَلَغُوا الْغَارَ، ثُمَّ رَجَعُوا، فَمَكَثَ فِيهِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ
ثَلَاثَ لَيَالٍ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ
عُرْوَةَ: فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ (١) ثَقِفٌ (٢)، فَيَخْرُجُ مِنْ
عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيصْبحُ عِنْدَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا
يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ (٣) حَتَّى يَأْتِيَهُمَا
بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، فَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً (٤) مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا
عَلَيهِمَا حِينَ يَدْهَبُ سَاعَةً مِنَ اللَّيلِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهَا (٥)
حَتَّى يَنْعِقَ (٦) بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ (٧)، يَفْعَلُ ذَلِكَ
كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ كُلِّ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ مِنْ بَنِي (٨) عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ
هَادِيًا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ يَمِينَ
حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ،
فَأَمَّنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ
بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَأَتَى غَارَهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ
ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلى
أَبِي بَكْرٍ وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ أَذَاخِرَ وَهُوَ
طَرِيقُ السَّاحِلِ.
° [١٠٥٩٢]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ (٩) الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ
أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ يَقُولُ: جَاءَتْنَا
(١) لقن: لقنه الكلام ألقاه إليه ليعيده (على
سبيل التعليم). (انظر: المعجم الوسيط، مادة: لقن).
(٢)
الثقف: ذو الفطنة والذكاء. (انظر: النهاية، مادة: ثقف).
(٣)
تصحف في الأصل إلى: «دعاه».
(٤)
المنحة والمنيحة: العطية والهبة، والجمع: المنائح. (انظر: النهاية، مادة: منح).
(٥)
الرسل: اللبَن. (انظر: النهاية، مادة: رسل).
(٦)
النعق: نعق الراعي بالغنم إذا دعاها لتعود إليه. (انظر: النهاية، مادة: نعق).
(٧)
الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. (انظر: النهاية، مادة: غلس).
(٨)
تصحف في الأصل إلى: «أبي».
(٩)
قوله: «عبد الرحمن بن كعب بن مالك»، الصواب «عبد الرحمن بن مالك بن مالك»، كما في
مصادر ترجمته.
رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ
يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ (١) كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِمَنْ قَتَلَهُمَا، أَوْ أَسَرَهُمَا، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي
مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي مِنْ بَنِي فدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا (٢)
أَسْوِدَةً (٣) بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ:
فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ
رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بُغَاةً (٤)، قَالَ: ثُمَّ مَا لَبِثْتُ
فِي الْمَجْلِسِ إِلَّا سَاعَةً (٥) حَتَّى قُمْتُ، فَدَخَلْتُ بَيْتِي فَأَمَرْتُ
جَارِيَتِي أَنْ تُخْرِجَ لِي فَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ (٦)
تَحْبِسُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ،
فَخَطَطْتُ بِزُجِّيَ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَةَ (٧) الرُّمْحِ، حَتَّى
أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى رَأَيْتُ
أَسْوِدَتَهُمْ، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، عَثَرَتْ
بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدَيَّ إِلَى
كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا أَيِ (٨) الْأَزْلَامُ (٩)
(١) الدية: المال الواجب في إتلاف نفوس
الآدميين، والجمع ديات. (انظر: معجم لغة الفقهاء) (ص ١٨٨).
(٢)
الآنِف: الماضي القريب، يقال: فعله آنفا قريبا، أو أول هذه الساعة، أو أول وقت كنا
فيه. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: أنف).
(٣)
الأسودة: جمع قلة لسواد، وهو: الشخص؛ لأنه يرى من بعيد أسود. (انظر: النهاية،
مادة: سود).
(٤)
كذا في الأصل، وهو الموافق لما في «المعجم الكبير» للطبراني (٧/ ١٣٢) عن إسحاق
الدبري، عن المصنف، به، ووقع في «الأوسط» لابن المنذر (٦/ ٣٤٣) عن الدبري، به:
«بغاة مال»، ويؤيده أنه ورد في «سير أعلام النبلاء» (١/ ٢٧١) من طريق الزهري بلفظ:
«باغين»، ولكنه ورد في كثير من مصادر الحديث من طريق الزهري بلفظ: «بأعيننا»،
وينظر على سبيل المثال: «صحيح البخاري» (٣٨٩٨)، «دلائل النبوة» للبيهقي (٢/ ٤٨٥)،
«شرح السنة» للبغوي (١٣/ ٣٥٩).
(٥)
الساعة: تطلق بمعنيين: أحدهما: جزء من مجموع اليوم والليلة. والثاني: أن تكون
عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل. (انظر: النهاية، مادة: سوع).
(٦)
الأكمة: الرابية (المرتفع عن الأرض)، والجمع: آكام. (انظر: النهاية، مادة: أكم).
(٧)
في الأصل: «عليه»، والتصويب من «المعجم الكبير» من حديث الدبري، به.
(٨)
في الأصل: «إلي».
(٩)
الأزلام: جمع: الزلم، وهي القداح (خشب السهام) التي كانوا يضربون بها على الميسر.
(انظر: التبيان في تفسير غريب القرآن) (ص ١٤٨).
فَاسْتَقْسَمْتُ (١) بِهَا
أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا أَضُرُّهُمْ فَرَكِبْتُ
فَرَسي، وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي أَيْضًا (*) حَتَّى
إِذَا دَنَوْتُ سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو
بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفَاتَ سَاخَتْ (٢) يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى
بَلَغَتِ الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَزَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ
تَكَدْ تَخْرُجُ يَدَاهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذْ لِأَثَرِ يَدَيْهَا
عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِنَ الدُّخَانِ.
قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِأَبِي
عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: مَا الْعُثَانُ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: هُوَ
الدُّخَانُ مِنْ غَيْرِ نَارٍ.
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ
فِي حَدِيثِهِ: فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ لَا
أَضُرُّهُمْ، فَنَادَيْتُهُمَا بِالْأَمَانِ فَوَقَفَا وَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى
جِئْتُهُمْ وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مِنْهُمْ مَا لَقِيتُ مِنَ
الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنَّهُ سَيظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّ قَوْمَكَ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ مِنْ أَخْبَارِ
سَفَرِهِمْ (٣) وَمَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ (٤)
وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَءُونِي (٥) شَيْئًا، وَلَمْ يَسْأَلُونِي إِلَّا أَنْ
أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ مُوَادَعَةٍ آمَنُ بِهِ،
فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَهُ لِي فِي (٦) رُقْعَةٍ (٧) مِنْ
أَدَمٍ، ثُمَّ مَضى.
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَقِيَ الزُّبَيْرَ وَرَكْبًا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارَ الْمَدِينَةِ بِالشَّامِ قَافِلِينَ إِلَى
مَكَّةَ، فَعَرَضوا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ
(١) الاستقسام: نوع من الاقتراع. (انظر:
النهاية، مادة: قسم).
(*) [٣/
٧٩ ب].
(٢)
ساخ: غاص. (انظر: النهاية، مادة: سوخ).
(٣)
في الأصل: «سفرك»، والتصويب من المصدر السابق.
(٤)
الزاد والتزود: طعام السفر أو الحضر، والجمع: أزواد. (انظر: اللسان، مادة: زود).
(٥)
في الأصل: «يزوروني».
(٦)
ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
(٧)
الرقعة: القطعة من الورق أو الجلد يُكتب عليها، والجمع: رقع ورقاع. (انظر: المعجم
الوسيط، مادة: رقع).
ثِيَابَ بَيَاضٍ، يُقَالُ كَسَوْهُمْ
أَعْطَوْهُمْ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ
ﷺ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ (١) إِلَى الْحَرَّةِ (٢) فَيَنْتَظِرُونَهُ
حَتَّى يُؤْذِيَهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَمَا
أَطَالُوا انْتِظَارَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ
مِنْ يَهُودَ أُطُمًا مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصرَ
بِرَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ، يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ
يَتَنَاهَى الْيَهُودِيُّ أَنْ نَادَى بِأَعْلَى صوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ،
هَذَا جَدُّكُمُ (٣) الَّذِي تَنْتَظِرُونَهُ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى
السِّلَاحِ، فَلَقُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ حتَّى أَتَوْهُ بِظَاهِرِ الْحَرَّةِ،
فَعَدَلَ بِهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ فِي بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ فَقَامَ (٤) وَأَبُو بَكْرٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ، وَجَلَسَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ صامِتًا، وَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصارِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ رَأَى
رَسُولَ اللهِ ﷺ يَحْسَبُهُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ
الشَّمْسُ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ،
فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَابْتَنَى الْمَسْجِدَ
الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ وَمَشَى النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ عَنْدَ مَسْجِدِ
الرَّسُولِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا (٥) لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ غُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ أَخَوَيْنِ فِي حِجْرِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ مِنْ
بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ:
«هَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ»، ثُمَّ دَعَا (*) رَسُولُ اللهِ ﷺ
الْغُلَامَيْنِ
(١) الغداة: ما بين الفجر وطلوع الشمس،
والجمع: غدوات. (انظر: النهاية، مادة: غدا).
(٢)
الحرة: أرض ذات حجارة سود، والجمع: حرات وحرار، والمراد: حرة بني بياضة، وهي من
الحرة الغربية بالمدينة الشريفة. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٩٨).
(٣)
جدكم: صاحب جدكم وسلطانكم، وقد يحتمل أن يريد: سعدكم ودولتكم. (انظر: المشارق) (١/
١٤١).
(٤)
بعده في الأصل: «رسول الله ﷺ»، والمثبت الصواب، ينظر: «صحيح البخاري».
(٥)
المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، أو يوضع فيه التمر لينشف. (انظر:
النهاية، مادة: ربد).
(*) [٣/
٨٠ أ].
فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ
لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَأَبَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقْبَلَهُ هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا
وَبَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي
ثِيَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ
رَبَّنَا وَأَطْهَرْ»، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ
فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ» يَتَمَثَّلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشِعْرِ
رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي، وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي
الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَمَثَّلَ بِبَيْتٍ قَطُّ مِنْ شِعْرٍ
تَامٍّ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَبْيَاتِ، وَلكنْ كَانَ يُرْجِزُهُمْ لِبِنَاءِ
الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُفَّارَ قُرَيْشٍ حَالَتِ
الْحَرْبُ بَيْنَ مُهَاجِرَةِ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَبَيْنَ الْقُدُومِ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى لَقَوْهُ بِالْمَدِينَةِ زَمَنَ الْخَنْدَقِ، فَكَانَتْ
أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ تُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ
يُعَيِّرُهُمْ بِالْمُكْثِ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ زَعَمَتْ
أَسْمَاءُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَسْتُمْ كَذَلِكَ»،
وَكَانَ أَوَّل آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي الْقِتَالِ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩].
١٣
- حَدِيثُ
الثَّلَاثَةِ (١) الَّذِينَ خُلِّفُوا
° [١٠٥٩٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ (٢) كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ (٣)
إِلَّا بَدْرًا، وَلَمْ يُعَاتِبِ النَّبِيُّ ﷺ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ
إِنَّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغَوِّثينَ لِعِيرِهِمْ،
فَالْتَقَوْا عَنْ غَيْرِ مَوْعِدٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ، وَلَعَمْرِي
(١) في الأصل: «البلاد» خطأ.
° [١٠٥٩٣]
[التحفة: خ م دس ١١١٣١، دس ١١١٣٥، س ١١١٤١، س ١١١٤٢، خ س ١١١٤٣، س ١١١٤٥، خ دس
١١١٤٧، ت ١١١٥٣، ق ١١١٥٥، م ١١١٥٧، س ١١١٥٨، س ١١١٥٩، س ١١١٦٠] [الإتحاف: عه حب حم
١٦٤١٢] [شيبة:
٣٤٣٥١، ٣٨١٦٠]،
وسيأتي: (١٧٦٠١).
(٢)
قوله: «عبد الرحمن بن» ليس في الأصل، واستدركناه من «مسند أحمد» (٢٧٨١٩) من حديث
عبد الرزاق، به.
(٣)
تبوك: مدينة من مدن الحجاز الرئيسية اليوم، وهي تبعد عن المدينة شمالًا (٧٧٨) كم.
(انظر: المعالم الجغرافية) (ص ٥٩).
إِنَّ أَشْرَفَ مَشَاهِدِ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ فِي النَّاسِ لَبَدْرٌ وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُ مَكَانَ
بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ (١) حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ،
ثُمَّ لَمْ أَتَخَلَّفْ بَعْدُ عَنِ النبِيِّ ﷺ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا حَتَّى
كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَآذَنَ النَّبِيُّ ﷺ
النَّاسَ بِالرَّحِيلِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ وَذَلِكَ
حِينَ طَابَ الظِّلَالُ، وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَكَانَ قَلَّمَا أَرَادَ غَزْوَةً
إِلَّا وَرَّى خَبَرَهَا (٢)، وَكَانَ يَقُولُ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ»، فَأَرَادَ
النَّبِيُّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ النَّاسُ أُهْبَةً، وَأَنَا
أَيْسَرُ مَا كُنْتُ قَدْ جَمَعْتُ رَاحِلَتِي وَأَنَا أَقْدَرُ شَيءٍ فِي نَفْسِي
عَلَى الْجِهَادِ وَخِفَّةِ الْحَاذِ (٣)، وَأَنَا فِي ذَلِكَ أَصْغُو (٤) إِلَى
الظِّلَالِ، وَطِيبِ الثِّمَارِ، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ
ﷺ غَادِيًا بِغَدَاةٍ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ (٥)، فَأَصْبَحَ غَادِيًا
فَقُلْتُ أَنْطَلِقُ غَدًا إِلَى السُّوقِ فَأَشْتَرِي جَهَازِي (٦)، ثُمَّ
أَلْحَقُهُمْ فَانْطَلَقْتُ * إِلَى السُّوقِ مِنَ الْغَدِ فَعَسُرَ عَلَيَّ
بَعْضُ شَأْنِي أَيْضًا، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ
أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى الْتَبَسَ (٧) بِيَ الذَّنْبُ، وَتَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ
فَيَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَخْلُفُ أَحَدًا إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا (٨)
عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، وَكَانَ لَيْسَ أَحَدٌ تَخَلَّفَ، إِلَّا رَأَى أَن
ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ وَكَانَ النَّاسُ كَثِيرًا لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ (٩)
وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ (١٠) النَّبِيِّ ﷺ
(١) العقبة: بين منى ومكة المكرمة، بينها
وبين مكة المكرمة نحو ميلين، ومنها ترمى جمرة العقبة، والجمرة هي الحصا. (انظر:
أطلس الحديث النبوي) (ص ٢٧١).
(٢)
كذا في الأصل، وفي «المسند» من حديث عبد الرزاق: «بغيرها».
(٣)
الخفيف الحاذ: القليل المال والعيال. (انظر: النهاية، مادة: حوذ).
(٤)
أصغو: أميل. (انظر: النهاية، مادة: صغو).
(٥)
بعده في «المسند» من حديث عبد الرزاق: «وكان يحب أن يخرج يوم الخميس».
(٦)
جهازي: ما يجتاج
إليه في غَزْوِهِ. (انظر: النهاية، مادة: جهز).
* [٣/
٨٠ ب].
(٧)
في الأصل: «التمس» خطأ.
(٨)
المغموص: الطعون في دينه المتهم بالنفاق. (انظر: النهاية، مادة: غمص).
(٩)
الديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. (انظر: النهاية، مادة:
ديوان).
(١٠)
في الأصل: «على» خطأ.
بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا،
وَلَمْ يَذْكُرْنِي النَّبِي ﷺ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكًا (١)، فَلَمَّا بَلَغَ
تَبُوكًا، قَالَ: «مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» قَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي:
خَلَّفَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بُرْدَاهُ (٢) وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ
مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا
نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا هُمْ بِرَجُلٍ
يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كُنْ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ»،
فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ، قَالَ: فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ غزْوَةَ
تَبُوكَ، وَقَفَلَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلْتُ أَنْظُرُ بِمَاذَا أَخْرُجُ
مِنْ سَخَطِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ
أَهْلِي، حَتَّى إِذَا قِيلَ النَّبِيُّ ﷺ هوَ مُصَبِّحُكُمْ غَدًا بِالْغَدَاةِ
زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَلَّا أَنْجُوَ إِلَّا بِالصِّدْقِ،
فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ ضُحًى، فَصلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ
إِذَا جَاءَ مِنْ سَفَرٍ فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ جَلَسَ فَجَعَلَ يَأْتِيهِ مَنْ تَخَلَّفَ فَيَحْلِفُونَ لَهُ،
وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ،
وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ (٣) إِلَى اللَّهِ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ
جَالِسٌ، فَلَمَّا رَآنِي تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ (٤)؟» فَقُلْتُ:
بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: «فَمَا خَلَّفَكَ؟» فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ
بَيْنَ يَدَي (٥) أَحَدٍ غَيْرِكَ مِنَ النَّاسِ جَلَسْتُ لَخَرَجْتُ مِنْ
سَخَطِهِ عَلَيَّ بِعُذْرٍ، لَقَدْ أُوتِيتُ جَدَلًا، وَلَقَدْ عَلِمْتُ يَا
نَبِيَّ اللهِ، أَنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكَ الْيَوْمَ بِقَوْلٍ تَجِدُ (٦) عَلَيَّ
فِيهِ، وَهُوَ حَقٌّ، فَإِنِّي أَرْجُو عُقْبَى اللَّهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكَ
الْيَوْمَ حَدِيثًا تَرْضَى عَنِّي فِيهِ وَهُوَ كَذِبٌ أُوشِكُ أَنْ يُطْلِعَكَ
اللَّهُ
(١) كذا بالنصب، كأنه صرفها لإرادة الموضع
دون البقعة.
(٢)
البردان: مثنى برد، وهو: قطعة من الصوف تتخذ عباءة بالنهار وغطاء بالليل. (انظر:
معجم اللابس) (ص ٥٢).
(٣)
السرائر: جمع سريرة، وهي: كل ما يُكتم. (انظر: اللسان، مادة: سرر).
(٤)
الظهر: الدابة التي تستعمل للركوب أو حمل الأثقال. (انظر: المعجم العربى الأساسي،
مادة: ظهر).
(٥)
ليس في الأصل، واستدركناه من «المسند».
(٦)
الوجد والموجدة: الغضب. (انظر: النهاية، مادة: وجد).
عَلَيْهِ، وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَيْسَرَ وَلَا أَخَفَّ حَاذًا مِنِّي حِينَ (١)
تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمُ الْحَدِيثَ، قُمْ
حَتى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ»، فَقُمْتُ فَثَارَ (٢) عَلَى أَثَرِي أُنَاسٌ مِنْ
قَوْمِي يُؤَنِّبُونِي، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا
قَطُّ قَبْلَ هَذَا فَهَلَّا اعْتَذَرْتَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ بِعُذْرٍ رَضِيَ
عَنْكَ فِيهِ، وَكَانَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَيَأْتي مِنْ وَرَاءِ
ذَلِكَ، وَلِمَ تَقِفْ مَوْقِفًا لَا تَدْرِي مَا يُقْضَى لَكَ فِيهِ، فَلَمْ
يَزَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي،
فَقُلْتُ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَهُ
هِلَالُ بْنُ أمَيُّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَذَكَرُوا رَجُلَيْنِ
صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ
لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا أَبَدًا، وَلَا أكُذِّبُ نَفْسِي، قَالَ: وَنَهَى
النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ، قَالَ: فَجَعَلْتُ
أَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ
حَتَّى مَا هُمْ بِالَّذِينَ نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى
مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي تُعْرَفُ لَنَا، وَتَنَكَّرَتْ * لَنَا الْأَرْضُ
حَتَّى مَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَكُنْتُ أَقْوَى النَّاسِ
فَكُنْتُ أَخْرُجُ فِي السُّوقِ، فَآتِي الْمَسْجِدَ فَأَدْخُلُ، وَآتِي
النَّبِيَّ ﷺ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ
بِالسَّلَامِ؟ فَإِذَا قُمْتُ أُصلِّي إِلَى سَارِيَةٍ (٣)، فَأَقْبَلْتُ قِبَلَ
صَلَاتي نَظَرَ إِلَيَّ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ، وإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ
أَعْرَضَ عَنِّي، قَالَ: وَاسْتَكَانَ صَاحِبَايَ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لَا يُطْلِعَانِ رُءُوسَهُمَا، فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ فِي السُّوقِ
إِذَا رَجُلٌ نَصرَانِيٌّ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ، يَقُولُ: مَنْ
يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ
إِلَيَّ فَأَتَانِي، وَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهَا:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ،
وَلَسْتَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ وَلَا هَوَانٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، قَالَ:
فَقُلْتُ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالشَّرِّ، فَسَجَرْتُ بِهَا
(١) في الأصل: «حيث»، والتصويب من «المسند».
(٢)
في الأصل: «فنادى»، والمثبت من «المسند»، وهو أليق بالسياق.
الثوران: النهوض. (انظر: المشارق)
(١/ ١٣٥).
* [٣/
٨١ أ].
(٣)
السارية: الأسطوانة، وهي: العمود، والجمع: سوارٍ. (انظر: المعجم الوسيط، مادة:
سري).
التَّنُّورَ (١)، فَأَحْرَقْتُهَا
فِيهِ فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ
أَتَانِي، فَقَالَ: اعْتَزِلِ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا؟ قَالَ: لَا
وَلكِنْ لَا تَقْرَبْهَا، قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ،
فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ
ضعِيفٌ، فَهَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكِنْ لَا
يَقْرَبْكِ»، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ
لِشَيءٍ مَا زَالَ مُكِبَّا يَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، مُنْذُ كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ اقْتَحَمْتُ
عَلَى أَبِي قَتَادَةَ حَائِطَهُ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ (٢)،
أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ قُلْتُ:
أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ قُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَتَعْلَمُ
أَنِّي أُحِبُّ اللّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ الْحَائِطَ خَارِجًا
حَتَّى إِذَا مَضتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ
كَلَامِنَا، صَلَّيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ، ثُمَّ
جَلَسْتُ وَأَنَا فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي، قَالَ اللَّهُ: وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ إِذْ سَمِعْتُ
نِدَاءً مِنْ ذِرْوَةِ سَلْعٍ (٣) أَنْ أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ،
فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنَّ اللهَ قَدْ جَاءَنَا بِالْفَرَجِ، ثُمَّ
جَاءَ رَجُلٌ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسٍ، يُبَشِّرُنِي فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ
مِنْ فَرَسِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيَّ بِشَارَةً وَلَبِسْتُ ثَوْبَيْنِ
آخَرَيْنِ، قَالَ: وَكَانَتْ تَوْبَتُنَا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ ثُلُثَ
اللَّيْلِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا نُبَشِّرُ
كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ؟ قَالَ: «إِذَنْ يَحْطِمَنَّكمُ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمُ
النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ»، قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي
شَأْنِي تَحْزَنُ بِأَمْرِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَإِذَا هُوَ
جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِيرُ
كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ
(١) التنور: الذي يُخبز فيه. (انظر: النهاية،
مادة: تنر).
(٢)
قوله: «حائطه، وهو ابن عمي فسلمت عليه فلم يرد علي، فقلت: أنشدك الله يا أبا
قتادة» ليس في الأصل، وهو انتقال نظر من الناسخ، واستدركناه من «المسند» فيما تقدم
من حديث عبد الرزاق، به.
(٣)
سلع: جبل بالمدينة، يعدّ اليوم في وسط عمران المدينة. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص
١٤٢).
بِالْأَمْرِ اسْتَنَارَ، فَجِئْتُ
فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْشِرْ يَا كعْبُ بْنَ مَالِكٍ بِخَيْرِ
يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّك»، قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، أَمْرٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِكَ؟ قَالَ: «بَلْ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ»، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوية: ١١٧، ١١٨]، قَالَ: وَفِينَا
أُنْزِلَتْ أَيْضًا: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوية: ١١٩]، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ
مِنْ تَوْبَتِي إِذَنْ أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ
مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللهِ وإلَى رَسُولِهِ؟ فَقَالَ: «أَمْسِكْ
عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيرٌ لَكَ»، فَقُلْتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ
الَّذِي بِخَيْبَرَ، قَالَ: فَمَا في * أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ نِعْمَةً بَعْدَ
الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ
صَدَقْتُهُ، أَنَا وَصاحِبَيَّ إِلَّا أَنْ نَكُونَ كَذَبْنَاهُ فَهَلَكْنَا كَمَا
هَلَكُوا، وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لَا (١) يَكُونَ اللهُ عز وجل ابْتَلَى أَحَدًا
فِي الصِّدْقِ مِثْلَ الَّذِي ابْتَلَانِي، مَا تَعَمَّدْتُ لِكَذْبَةٍ بَعْدُ
وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا
انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
١٤
- مَنْ
تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
° [١٠٥٩٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ
بْنِ جُدْعَانَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، يَقُولَ:
حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا خَرَجَ
إِلَى تَبُوكَ اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تَخْرُجَ وَجْهًا
إِلَّا وَأَنَا مَعَكَ، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».
° [١٠٥٩٥]
قال مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ أَبُو لُبَابَةَ مِمَّنْ
تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَبَطَ نَفْسَهُ
بِسَارِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ نَفْسِي مِنْهَا، وَلَا أَذُوقُ
* [٣/ ٨١ ب].
(١)
ليس في الأصل، واستدركناه من «المسند».
° [١٠٥٩٥]
[التحفة: خ م س ق ٣٨٤٠، م ت ٣٨٧٢، م ٣٨٨٢، خ م س ٣٩٣١] [شيبة: ٣٢٧٣٧].
طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى
أَمُوتَ، أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ
فِيهَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، حَتَّى كَانَ يَخِرُّ مَغْشِيًّا (١) عَلَيْهِ،
قَالَ: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ يَا أَبَا
لُبَابَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا (٢) أَحُلُّ نَفْسِي حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ يَحُلُّنِي بِيَدِهِ، قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فحَلَّهُ بِيَدِهِ،
ثُمَّ قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ
أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ (٣)
مِنْ مَالِي كُلِّهِ صدَقَةً إِلى اللَّهِ وإلَى رَسُولِهِ، قَالَ: «يُجْزِيكَ
الثُّلُثُ يَا أَبَا لُبَابَةَ».
° [١٠٥٩٦]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ (٤) قَالَ: أَوَّلُ أَمْرٍ عُتِبَ عَلَى أَبِي
لُبَابَةَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَتِيمٍ عِذْقٌ (٥)، فَاخْتَصَمَا
إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَضَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي لُبَابَةَ، فَبَكَى
الْيَتِيمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «دَعْهُ لَهُ»، فَأَبَى، قَالَ: «فَأَعْطِهِ
إِيَّاهُ وَلَكَ مِثْلُهُ فِي الْجَنَّةِ»، فَأَبَى فَانْطَلَقَ ابْنُ
الدَّحْدَاحَةِ، فَقَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ: بِعْنِي هَذَا الْعِذْقَ
بِحَدِيقَتَيْنِ، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُ هَذَا الْيَتِيمَ هَذَا
الْعِذْقَ أَلِي مِثْلُهُ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ،
قَالَ: فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُذَلَّلٍ لاِبْنِ
الدَّحْدَاحَةِ فِي الْجَنَّةِ».
قَالَ: وَأَشَارَ إِلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ
الذَّبْحَ وَتَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ تَابَ
اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
(١) الغشيان: الإغماء. (انظر: النهاية، مادة:
غشا).
(٢)
ليس في الأصل، واستدركناه من «تخريج الكشاف» للزيلعي (٢/ ٢٤) معزوا لعبد الرزاق،
به.
(٣)
انخلع من الشيء: خرج منه. (انظر: النهاية، مادة: خلع).
(٤)
قوله: «أخبرني ابن كعب بن مالك» وقع
في الأصل: «أخبرني كعب بن مالك»، والصواب ما أثبتناه كما في «الآحاد والمثاني»
لابن أبي عاصم (٣/ ٤٥٠).
(٥)
العذق: العرجون (الغصن) بما فيه من الشماريخ، والجمع: عِذاق. (انظر: النهاية،
مادة: عذق).
١٥ - حَدِيثُ الْأوْسِ وَالْغَزْرَجِ
° [١٠٥٩٧]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ مِمَّا صنَعَ اللهُ لِنَبِيِّهِ أَنَّ هَذَيْنِ
الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَا يَتَصَاوَلَانِ
فِي الْإِسْلَامِ كَتَصَاوُلِ الْفَحْلَيْنِ لَا يَصْنَعُ الْأَوْسُ شَيْئًا
إِلَّا قَالَتِ الْخَزْرَجُ: وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهِ أَبَدًا فَضْلًا
عَلَيْنَا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا صَنَعَتِ الْخَزْرَجُ شَيْئًا، قَالَتِ
الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصَابَتِ الْأَوْسُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ
*، قَالَتِ الْخَزْرَجُ: وَاللَّهِ لَا نَنْتَهِي حَتَّى نُجْزِئَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ مثْلَ الَّذِي أَجْزَءُوا عَنْهُ فَتَذَاكَرُوا أَوْزَنَ رَجُلٍ مِنَ
الْيَهُودِ، فَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ ﷺ فِي قَتْلِهِ، وَهُوَ سَلَّامُ بْنُ
أَبِي الْحُقَيْقِ الْأَعْوَرُ أَبُو رَافِعٍ بِخَيْبَرَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي
قَتْلِهِ، وَقَال: «لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا امْرَأَةً»، فَخَرَجَ إِلَيهِمْ
رَهْطٌ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَكَانَ أَمِيرُ الْقَوْمِ أَحَدَ
بَنِي سَلِمَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أنَيْسٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَأَبُو
قَتَادَةَ، وَخُزَاعِيُّ بْنُ أَسْوَدَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ حَلِيفٌ لَهُمْ،
وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ سَلَمَةَ، فَخَرَجُوا حَتَّى جَاءُوا
خَيْبَرَ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْبَلَدَ عَمَدُوا إِلَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا،
فَغَلَّقُوهُ مِنْ خَارِجِهِ عَلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ أَسْنَدُوا إِلَيْهِ فِي
مَشْرَبَةٍ لَهُ فِي عَجَلَةٍ مِنْ نَخْلٍ، فَأَسْنَدُوا فِيهَا حَتَّى ضَرَبُوا
عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟
فَقَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْعَرَبِ أَرَدْنَا الْمِيرَةَ قَالَتْ: هَذَا الرَّجُلُ
فَادْخُلُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ (١)
الْبَابَ، ثُمَّ ابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ: وَاللَّهِ مَا
دَلَّنِي عَلَيْهِ إِلَّا بَيَاضُهُ عَلَى الْفِرَاشِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ
كَأَنَّهُ قُبْطِيَّةٌ (٢) مُلْقَاةٌ قَالَ: وَصَاحَتْ بِنَا امْرَأَتُهُ قَالَ:
فَيَرْفَعُ الرَّجُلُ مِنَّا السَّيْفَ لِيضْرِبَهَا بِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُ نَهْيَ
النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَلَوْلَا ذَلِكَ فَرَغْنَا مِنْهَا بِلَيْلٍ، قَالَ:
وَتَحَامَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى
أَنْفَذَهُ، وَكَانَ (٣) سَيِّئَ
* [٣/ ٨٢ أ].
(١)
في الأصل: «عليهما وعليهما»، ولعل الصواب ما أثبت.
(٢)
القبطية: ثياب من الكتان بيض، تصنع في مصر، منسوبة إلى القبط. (انظر: معجم
الملابس) (ص ٣٧٤).
(٣)
ليس في الأصل، واستدركناه من «تاريخ الطبري» (٢/ ٤٩٦).
الْبَصرِ فَوَقَعَ مِنْ فَوْقِ
الْعَجَلَةِ، فَوُثِئَتْ رِجْلُهُ وَثْئًا مُنْكَرًا قَالَ: فَنَزَلْنَا
فَاحْتَمَلْنَاهُ فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَنْهَرِ
عَيْنٍ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ فَمَكَثْنَا فِيهِ، قَالَ: وَأَوْقَدُوا النيرَانَ،
وَأَشْعَلُوهَا فِي السَّعَفِ، وَجَعَلُوا يَلْتَمِسُونَ وَيَشْتَدُّونَ،
وَأَخْفَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَانَنَا، قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا، قَالَ: فَقَالَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَذْهَبُ فَلَا نَدْرِي أَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ أَمْ لَا؟
قَالَ: فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَّا حَتَّى حُشِرَ فِي النَّاسِ فَدَخَلَ مَعَهُمْ،
فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ مُكِبَّةً وَفِي يَدِهَا الْمِصْبَاحُ وَحَوْلَهُ رِجَالٌ
يَهُودُ، فَقَالَ قَائِل مِنْهُمْ: أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ ابْنِ
عَتِيكٍ ثُمَّ أَكْذَبْتُ نَفْسِي، فَقُلْتُ: وَأَنَّى ابْنُ عَتِيكٍ بِهَذِهِ
الْبِلَادِ، فَقَالَتْ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَتْ: فَاظَ
وإلَهِ يَهُودَ تَقُولُ: مَاتَ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُ كَلِمَةً كَانَتْ أَلَذَّ
مِنْهَا إِلَى نَفْسِي، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ، فَأَخْبَرْتُ أَصْحَابِي أَنَّهُ
قَدْ مَاتَ فَاحْتَمَلْنَا صاحِبَنَا فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ، قَالَ: وَجَاءُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ ﷺ
يوْمَئِذٍ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، فَلَمَّا رَآهُمْ، قَالَ: «أَفْلَحَتِ
الْوُجُوهُ».
١٦
- حَدِيثُ
الْإِفْكِ (١)
° [١٠٥٩٨]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ (٢) بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ، قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا
قَالُوا، قَالَ: فَبَرَّأَهَا اللَّهُ وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ
حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى (٣) لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتَ
اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي
حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكَرُوا أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ *
(١) الإفك: أصله الكذب، وأراد به هاهنا ما
كُذب على السيدة عائشة رضي الله عنها مما رُميت به.
(انظر: النهاية، مادة: أفك).
° [١٠٥٩٨]
[الإتحاف: مي عه طح حب حم ٢٢١٦٣] [شيبة: ١٢٣٨٥٠].
(٢)
تصحف في الأصل إلى: «وعميرة».
(٣)
الوعي: الحفظ والفهم. (انظر: النهاية، مادة: وعا).
* [٣/
٨٢ ب].
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا
أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا،
فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَذَلِكَ بَعْدَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحِجَابَ، وَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي (١)، وَأَنْزِلُ
فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ غَزْوِهِ قَفَلَ،
وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ
آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ (٢) الْجَيْشَ، فَلَمَّا
قَضَيْتُ شَأْنِي، أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ (٣)، فَلَمَسْتُ نَحْرِي (٤)،
فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ (٥) أَظْفَارٍ (٦) قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ
فَالْتَمَسْتُ (٧) عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ
الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ فَرَحَلُوهُ عَلَى
بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَ:
وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا فَلَمْ يُهَبَّلْنَ (٨)، وَلَمْ
يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ (٩)، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ (١٠) مِنَ
الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ
وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ
وَسَارُوا بِهِ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي
(١) الهودج: محمل له قبة تركب فيها النساء
على ظهر الجمل والجمع: هوادج. (انظر: المعجم العربي الأساسي، مادة: هدج).
(٢)
جاز وجاوز: تعدى وعبر. (انظر: النهاية، مادة: جوز).
(٣)
الرحل: سرج يوضع على ظهر الدواب للحمل أو الركوب. (انظر: المعجم العربى الأساسي،
مادة: رحل).
(٤)
النحر: أعلى الصدر. (انظر: النهاية، مادة: نحر).
(٥)
الجزع: الخرز اليماني، الواحدة جزعة. (انظر: النهاية، مادة: جزع).
(٦)
أظفار: أريد به العطر، كأنه يؤخذ ويثقب ويجعل في العقد والقلادة. (انظر: النهاية،
مادة: ظفر).
(٧)
قوله: «الرحل، فلمست نحري، فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست» ليس
في الأصل، واستدركناه من «المعجم الكبير» (٢٣/ ٥٠) من حديث الدبري عن عبد الرزاق،
به.
الالتماس: طلب الشيء وتحريه. (انظر:
اللسان، مادة: لمس).
(٨)
لم يهبلن: أي لم يكثر عليهن. يقال: هبّله اللحم، إذا كثُر عليه وركِب بعضُه بعضًا.
(انظر: النهاية، مادة: هبل).
(٩)
يغشهن اللحم: يباشرهن ويكثر بهن. (انظر: المشارق) (٢/ ١٣٩).
(١٠)
العلقة: قدر ما يمسك الرمق، تريد: القليل. (انظر: مجمع البحار، مادة: علق).
بِهِمَا بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ
الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ،
فَتَيَمَّمْتُ (١) مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ
سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي
عَيْنَايَ، فَنِمْتُ حَتَّى أَصبَحْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ
السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ (٢) مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ،
فَأَدْلَجَ (٣) فَأَصبَحَ عِنْدِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي
فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ (٤) عَلَيَّ
الْحِجَابُ، فَمَا اسْتَيقَظْتُ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِهِ (٥) حِينَ عَرَفَنِى،
فَخَمَّرْتُ (٦) وَجْهِى بِجِلْبَابِى، وَوَاللهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً غَيرَ
اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ (٧) رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا
فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ
بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ (٨) فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ
فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ (٩) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ
ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَتَشَكَّيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا
شَهْرًا، وَالنَّاسُ يَخُوضونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ
بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي (١٠) فِي وَجَعِي، أَنِّي لَا أَعْرِفُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي،
إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَيُسَلِّمُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ
(١١)»؟ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا
(١) التيمم: القصد والتعمد. (انظر: النهاية،
مادة: يمم).
(٢)
التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. (انظر: النهاية، مادة:
عرس).
(٣)
الإدلاج والدلجة: إذا سار من أول الليل، ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كله. (انظر:
النهاية، مادة: دلج).
(٤)
الضرب: الفرض. (انظر: ذيل النهاية، مادة: ضرب).
(٥)
الاسترجاع: قول: إنا لله وإنا إليه راجعون. (انظر: النهاية، مادة: رجع).
(٦)
التخمير: التغطية. (انظر: النهاية، مادة: خمر).
(٧)
الإناخة: إبراك البعير وإنزاله على الأرض. (انظر: اللسان، مادة: نوخ).
(٨)
الوغرة: وقت الهاجرة، وقت توسط الشمس السماء. يقال: أوغر الرجل: دخل في ذلك الوقت،
كما يقال: أظهر، إذا دخل في وقت الظهر. (انظر: النهاية، مادة: وغر).
(٩)
الكبر: الْمُعْظَم. وقيل: الإثم، وهو من الكَبِيرة، كـ: الخِطْء من الخَطيئة.
(انظر: النهاية، مادة: كبر).
(١٠)
الريب والريبة: الشك. (انظر: النهاية، مادة: ريب).
(١١)
تيكم: إشارة بالتنبيه للمؤنث. (انظر: المشارق) (١/ ١٢٥).
نَقِهْتُ (١)، وَخَرَجَتْ مَعِي
أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ (٢) وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا (٣)، وَلَا
نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ
(٤) قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ
ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا
بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ (٥) خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا (٦)
مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ
فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا (٧)،
فَقَالَتْ: تَعِسَ (٨) مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ
رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ (٩)! أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا
قَالَ: قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ
أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى
بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ
تِيكُمْ»؟ قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا
حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ (١٠) أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ *
(١) نقه المريض: إذا برأ أو أفاق وكان قريب
العهد بالمرض، لم يرجع إليه كمال صحته وقوته. (انظر: النهاية، مادة: نقه).
(٢)
المناصع: المواضع التي تتخلّى فيها النساء لبول ولحاجة، والواحد: منصع، ويؤخذ مما
ذكره المؤرخون أنه كان شامي بقيع الغرقد. (انظر: المعالم الأثيرة) (ص ٢٧٩).
(٣)
المتبرز: موضع التبرز. (انظر: النهاية، مادة: برز).
(٤)
الكنف: جمع كنيف، وهو: الخلاء وموضع قضاء الحاجة. (انظر: التاج) (٢٤/ ٣٣٦).
(٥)
قوله: «وأمها بنت صخر بن عامر» وقع في الأصل: «وأمها أم صخر ابنة عامر» وهو تصحيف،
والتصويب من «المعجم الكبير» فيما تقدم، وينظر ترجمة أم مسطح في «الطبقات الكبرى»
(٨/ ٢٢٨)، «أسد الغابة» (٧/ ٣٨٣).
(٦)
في الأصل: «وأمها» خطأ.
(٧)
المرط: كل ثوب غير مخيط يشتمل به كالملحفة، ويكون من خزّ أو صوف أو كتان. والجمع:
المروط. (انظر: معجم الملابس) (ص ٤٦٤).
(٨)
تعس: إذا عثر وانكب لوجهه، وهو: دعاء عليه بالهلاك. (انظر: النهاية، مادة: تعس).
(٩)
هنتاه: يا هذه، فتختص بالنداء، وقيل: بلهاء، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد
الناس وشرورهم. (انظر: النهاية، مادة: هنا).
(١٠)
ليس في الأصل، والتصويب من المصدر السابق.
* [٣/
٨٣ أ].
فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ
لِأُمِّي: يَا أُمَّهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ
هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً (١)
عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ (٢) إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا،
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ:
نَعَمْ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَا يَرْقَأُ (٣) لِي دَمْعٌ،
وَلَا أكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ
يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي
يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسولَ اللَّهِ، هُمْ
أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ، فَقَالَ: لَمْ
يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سوَاهَا كَثِيرٌ، وإِنْ تَسْأَلِ
الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَرِيرَةُ، فَقَالَ:
«أَيْ بَرِيرَةُ! هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيءٍ يَرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ»؟
فَقَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا
أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ
السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتي الدَّاجِنُ (٤) فَتَأْكُلُهُ،
قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَاسْتَعْذَرَ (٥) مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ
بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِ
بَيْتِي إِلَّا خَيرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا
خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي»، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ
كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ
الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا (٦) فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ
(١) الوضاءة: الحسن والبهجة. (انظر: النهاية،
مادة: وضأ).
(٢)
الضرائر: جمع الضرة، وهي: الزوجة الأخرى للرجل. (انظر: اللسان، مادة: ضرر).
(٣)
الرقوء: السكون والانقطاع. (انظر: النهاية، مادة: رقأ).
(٤)
الداجن والداجنة: الشاة يعلفها الناس في منازلهم، وقد يقع على غير الشاء من كل ما
يألف البيوت من الطير وغيرها. (انظر: النهاية، مادة: دجن).
(٥)
استعذر من فلان: قال: من عذيري منه، وطلب من الناس العذر إن هو عاقبه، والعذير:
النصير. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: عذر).
(٦)
في الأصل: «أمرنا»، والمثبت من المصدر السابق.
الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا
صَالِحًا، وَلكنَّهُ حَمَلَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ:
لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ
أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ
بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ
تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ
عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ
النَّبِيُّ ﷺ قَالَتْ: وَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا
أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي،
قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ
عَلَيَّ امْرَأَةٌ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَمَا
نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ:
وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ،
قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا
بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ
كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ
فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ
بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَتَهُ قَلَصَ (١) دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ
قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ * ﷺ فِيمَا قَالَ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ
لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا
أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا
أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا، إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ
قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ
وَصدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
بَرَاءَتِي لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِذَنْبٍ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِي، وإِنِّي وَاللَّهِ مَا
أَجِدُ لِي وَلكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: ﴿فصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨]، قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ
عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا
(١) القلوص والتقلص: الاجتماع، والانضمام،
والانقباض، والارتفاع، والذهاب. (انظر: النهاية، مادة: قلص).
* [٣/
٨٣ ب].
وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي
بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ
أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى،
وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا
يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ (١) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ
عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ (٢) عِنْدَ
الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ (٣) مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ (٤) فِي
الْيَوْمِ الشَّاتِ (٥) مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ،
قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ (٦) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَكَانَ
أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَا
وَاللَّهِ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ»، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ،
فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتي، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى:
﴿إِنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: ١١] عَشْرَ آيَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَاتِ فِي بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ
يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ
عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿أَلَا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢]، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي
لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَّعَ إِلَى مِسْطَح النَّفَقَةَ الَّتِي
كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا أَبَدًا، قَالَتْ
عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ سَأَلَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ زَوْجَ
النَّبِيِّ ﷺ عَنْ أَمْرِي مَا عَلِمْتِ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي (٧) سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا
خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِىَ الَّتِى كَانَتْ
(١) الريم: الزوال من المكان. (انظر:
النهاية، مادة: ريم).
(٢)
البرحاء: شدّة الكرب من ثِقَل الوحي. (انظر: النهاية، مادة: برح).
(٣)
التحدر: النزول والتقاطر. (انظر: النهاية، مادة: حدر).
(٤)
الجمان: جمع: جمانة، وهو: اللؤلؤ الصغار، أو حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ.
(انظر: النهاية، مادة: بهن).
(٥)
كذا في الأصل، والقياس: «الشاتي».
(٦)
التسرية: الكشف والإزالة. (انظر: النهاية، مادة: سرى).
(٧)
الحماية: المنع. (انظر: النهاية، مادة: حما).
تُسَامِينِي (١) مِنْ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ ﷺ، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ، وَطفِقَتْ أخْتُهَا حَمْنَةُ ابْنَةُ
جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا
مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ.
° [١٠٥٩٩]
عبد الرزاق، عَنِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،
عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا
حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ الَّذِينَ قَالُوا فِيهَا مَا قَالُوا.
° [١٠٦٠٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَدَّهُمْ.
١٧
- حَدِيثُ
أَصْحَابِ الْأُخدُودِ
° [١٠٦٠١]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ *، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ هَمَسَ، وَالْهَمْسُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ يُحَرِّكُ
شَفَتَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِشَيءٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
إِنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ هَمَسْتَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ نَبِيًّا مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أُعْجِبَ بِأُمَّتِهِ، فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ؟
فَأُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، أَوْ
أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ، فَاخْتَارُوا النِّقمَةَ فَسَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا».
قَالَ: وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ
بِهَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَ بِهَذَا الْاخَرِ، قَالَ: «وَكَانَ مَلِكٌ مِنَ
الْمُلُوكِ وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ يَتَكَهَّنُ لَهُ، فَقَالَ ذَلِكَ
الْكَاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَطِنًا، أَوْ قَالَ: لَقِنًا أُعَلِّمْهُ
عِلْمِي هَذَا، فَإِنَي أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَنْقَطِعَ مِتكُمْ هَذَا (٢)
العِلْمُ، وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ، قَالَ: فَنَظَرُوا لَهُ
غُلَامًا عَلَى مَا وَصَفَ، فَأَمَرُوهُ أَنْ
(١) تساميني: تعاليني وتفاخرني، وهو مفاعلة
من السمو، أي: تطاولني في الحظوة عنده. (انظر: النهاية، مادة: سما).
° [١٠٥٩٩]
[شيبة:١٣٩٨٩].
* [٣/
٨٤ أ].
(٢)
ليس في الأصل، والمثبت من»المعجم الكبير" للطبراني (٨/ ٤١) من حديث الدبري عن
عبد الرزاق، به.
يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنَ، وَأَنْ
يَختَلِفَ (١) إِلَيهِ»، قَالَ: «وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي
صَوْمَعَةٍ (٢)».
قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَحْسَبُ أَنَّ
أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُسْلِمِينَ، قَالَ: «فَجَعَلَ
الْغُلَامُ يَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّاهِبَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى
أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ، وَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ
عِنْدَ الرَّاهِبِ وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ»، قَالَ: «فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ
إِلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ
الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِذَا قَالَ الْكَاهِنُ أَيْنَ
كُنْتَ؟ فَقُلْ: كُنْتُ عِنْدَ أَهْلِي، وَإِذَا قَالَ لَكَ أَهْلُكَ: أَيْنَ
كُنْتَ؟ فَقُلْ: كُنْتُ عِنْدَ الْكَاهِنِ، قَالَ: فَبَيْنَا الْغُلَامُ عَلَى
ذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَبِيرَةٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ
دَابَّةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تِلْكَ الدَّابَّةَ يَعْنِي الْأَسَدَ،
وَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ
الرَّاهِبُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ أَنْ أَقْتُلَ هَذِهِ الدَّابَّةَ، وَإِنْ كَانَ
مَا يَقُولُ الْكَاهِنُ حَقًّا فَأَسْأَلُكَ ألَّا أَقْتُلَهَا، قَالَ: ثُمَّ
رَمَاهَا فَقَتَلَ الدَّابَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ قَتَلَهَا؟ فَقَالُوا:
الْغُلَامُ، فَفَزعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: قَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ
عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ، فَسَمِعَ بِهِ أَعْمَى فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ:
إِنْ أَنْتَ رَدَدْتَ عَلَيَّ بَصَرِي فَلَكَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ
الْغُلَامُ: لَا أرِيدُ مِنْكَ هَذَا، وَلَكِنْ إِنْ رُدَّ إِلَيْكَ بَصَرُكَ
أَتُؤْمِنُ بِالَّذِي رَدَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا اللهَ
فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَآمَنَ الْأَعْمَى، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ
أَمْرُهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَالَ: لأَقْتُلَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا أَقْتُلُهَا صَاحِبُهَا، قَالَ: فَأَمَرَ
بِالرَّاهِبِ وَبِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ أَعْمَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى
مَفْرِقِ (٣) أَحَدِهِمَا فَقُتِلَ، وَقُتِلَ الآخَرُ بِقِتْلَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ
أَمَرَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا،
فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأسِهِ، فَلَمَّا انْطَلَقُوا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ
الَّذِي أَرَادُوا جَعَلُوا يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ،
وَيَتَرَدَّوْنَ مِنْهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْغُلَامُ فَرَجَعَ، فَأَمَرَ
بِهِ الْمَلِكُ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا (٤) بِهِ إِلَى الْبَحْرِ فَأَلْقُوهُ
فِيهِ، فَانْطُلِقَ بِهِ إِلَى الْبَحْرِ، فَغَرَّقَ اللَّهُ
(١) الاختلاف: التردد. (انظر: التاج، مادة:
خلف).
(٢)
الصومعة: منارة الراهب ومتعبده، والجمع: صوامع. (انظر: ذيل النهاية، مادة: صمع).
(٣)
المفرق: المكان الذي يفرق فيه الشعر، وهو وسط الرأس. (انظر: اللسان، مادة: فرق).
(٤)
في الأصل:»انطلق"، والتصويب من المصدر السابق.
مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَأَنْجَاهُ
اللَّهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: إِنَّكَ لَنْ تَقْتُلَنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي
وَتَرْمِيَنِي، وَتَقُولَ: إِذَا رَمَيْتَنِي بِاسْمِ رَبِّ الْغُلَامِ، أَوْ
قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ، ثُمَّ رَمَاهُ،
وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، قَالَ: فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ
عَلَى صُدْغِهِ ثُمَّ مَاتَ *، فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ
عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ، فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ:
فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَجَزِعْتَ أَنْ خَالَفَكَ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا الْعَالَمُ (١)
كُلُّهُمْ قَدْ خَالَفُوكَ، قَالَ: فَخَدَّ الْأُخْدُودَ، ثُمَّ أَلْقَى فِيهَا
الْحَطَبَ وَالنَّارَ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: مَنْ رَجَعَ إِلَى دِينِهِ
تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ فِي النَّارِ، فَجَعَلَ
يُلْقِيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُودِ»، قَالَ: «فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: ﴿قُتِلَ
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ﴾» [البروج:
٤ - ٨]،
قَالَ: فَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ دُفِنَ، قَالَ: فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ
فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رحمه الله وإصْبَعُهُ عَلَى صُدْغِهِ كَمَا
كَانَ وَضَعَهَا.
قال عبد الرزاق: وَالْأُخْدُودُ
بنَجْرَانَ.
١٨
- حَدِيثُ
أَصْحَابِ الْكَهْفِ
• [١٠٦٠٢]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرُوسٍ، عَنْ
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَوَارِيِّ (٢) عِيسَى بْنِ
مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا،
فَقِيلَ إِنَّ عَلَى بَابِهَا صنَمًا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ،
فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَأَتَى حَمَّامًا، فَكَانَ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ يُوَاجِرُ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ
الْحَمَّامِ، وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ فِي حَمَّامِهِ الْبَرَكَةَ
وَالرِّفْقَ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ، وَعَلِقَهُ
فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، وَخَبَرِ الْآخِرَةِ حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا
عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فِي حُسْنِ
* [٣/ ٨٤ ب].
(١)
في الأصل: «العلم»، والمثبت موافق لما في «التفسير» للمصنف (٣/ ٣٦٢)، وفي «المعجم
الكبير»: «الناس».
(٢)
الحواري: الناصر والخاصة من الأصحاب. (انظر: النهاية، مادة: حور).
الْهَيْئَةِ، وَكَانَ يَشْتَرِطُ
عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي، وَلَا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ
الصَّلَاةِ إِذَا حَضَرَتْ، حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ يَدْخُلُ
بِهَا الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلِكِ،
وَتَدْخُلُ مَعَكَ هَذِهِ الْكَذَا وَكَذَا، فَاسْتَحْيَا فَذَهَبَ فَرَجَعَ
مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ (١)، فَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ (٢)،
وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ فَبَاتَا فِي
الْحَمَّامِ فَمَاتَا فِيهِ فَأَتَى الْمَلِكُ فَقِيلَ قَتَلَ ابْنَكَ صَاحِبُ
الْحَمَّامِ (٣) فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَهَرَبَ فَقَالَ (٤) مَنْ
كَانَ يَصْحَبُهُ، فَسَمَّوُا الْفِتْيَةَ فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ،
فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ،
فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُمُ الْتُمِسُوا فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ وَمَعَهُ كَلْبٌ
حَتَّى أَوَاهُمُ اللَّيْلُ إِلَى كَهْفٍ، فَدَخَلُوا فِيهِ، فَقَالُوا: نَبِيتُ
هَاهُنَا اللَّيْلَةَ، ثُمَّ نُصْبحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَرَوْنَ رَأْيَكُمْ،
قَالَ: فَضُرِبَ عَلَى آذَانِهِمْ (٥)، فَخَرَجَ الْمَلِكُ بِأَصْحَابِهِ
يَتْبَعُونَهُمْ حَتَّى وَجَدُوهُمْ، فَدَخَلُوا الْكَهْفَ، فَكُلَّمَا أَرَادَ
الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ،
فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَلَسْتَ قُلْتَ: لَوْ كُنْتُ قَدَرْتُ عَلَيْهِمْ
قَتَلْتُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ،
وَدَعْهُمْ يَمُوتُوا عِطَاشًا وَجُوعًا، فَفَعَلَ، ثُمَّ غَبَرُوا زَمَانًا،
ثُمَّ إِنَّ رَاعِي غَنَمٍ أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: لَوْ
فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ وَأَدْخَلْتُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ، فَلَمْ يَزَلْ
يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتَحَ لِغَنَمِهِ، فَأَدْخَلَهَا فِيهِ وَرَدَّ اللَّهُ
أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْغَدِ، حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا
أَحَدَهُمْ بِوَرَقٍ (٦) لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَى بَابَ
مَدِينَتِهِمْ جَعَلَ لَا يُرِي أَحَدًا مِنْ وَرِقِهِ شَيْئًا
(١) قوله: «فقال له مثل قوله» ليس في الأصل،
واستدركناه من «التفسير» للمصنف (٢/ ٣٩٧) بإسناده، به.
(٢)
النهر والانتهار: الزجر. (انظر: اللسان، مادة: نهر).
(٣)
قوله: «فأتى الملك، فقيل: قتل ابنك صاحب الحمام» ليس في الأصل، واستدركناه من
المصدر السابق.
(٤)
ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
(٥)
ضرب على الأذن: كناية عن النوم، ومعناه: حجب الصوت والحس حتى لا ينتبهوا؛ فكأنه قد
ضرب عليها حجاب. (انظر: النهاية، مادة: ضرب).
(٦)
الورق: الفضة. (انظر: النهاية، مادة: ورق).
إِلَّا اسْتَنْكَرَهَا حَتَّى جَاءَ
رَجُلًا، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ
هَذِهِ الدَّرَاهِمُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ فَأَوَانَا
اللَّيْلُ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا فَأَرْسَلُونِي، فَقَالَ: هَذِهِ الدَّرَاهِمُ
كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مُلْكِ فُلَانٍ، فَأَنَّى (١) لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ؟
فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ
هَذِهِ الْوَرقُ *؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ (٢) لِي أَمْسِ حَتَّى
أَدْرَكَنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرَنِي أَصْحَابِي أَنْ
أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، قَالَ: وَأَيْنَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: فِي الْكَهْفِ،
فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى
أَدْخُلَ عَلَى أَصْحَابِي (٣) قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَدَنَا مِنْهُمْ،
ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ،
فَجَعَلَ كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ رُعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا
عَلَيْهِمْ، فَبَنَوْا كَنِيسَةً، وَبَنَوْا مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ.
١٩
- بُنْيَانُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ
• [١٠٦٠٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: ٣٤]،
قَالَ: كَانَ عَلَى كُرْسِيِّهِ شَيْطَانٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى رَدَّ
اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَى نِسَائِهِ،
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ، قَالَ لِلشَّيَاطِينِ:
إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَبْنِيَ مَسْجِدًا يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَا أَسْمَعُ
فِيهِ صوْتَ مِقْفَارٍ وَلَا مِنْشَارٍ، قَالَتِ الشَّيَاطِينُ: إِنَّ فِي
الْبَحْرِ شَيْطَانًا فَلَعَلَّكَ إِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ يُخْبِرُكَ بِذَلِكَ،
وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ يَرِدُ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ عَيْنًا يَشْرَبُ
مِنْهَا، فَعَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى تِلْكَ الْعَيْنِ فَنَزَحَتْهَا، ثُمَّ
مَلأَتْهَا خَمْرًا، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ، قَالَ: إِنَّكِ لَطَيِّبَةُ الرِّيحِ،
وَلكنَّكِ تُسَفِّهِينَ الْحَلِيمَ، وَتَزِيدِينَ السَّفِيهَ سَفَهًا، ثُمَّ ذَهَبَ
فَلَمْ يَشْرَبْ، فَأَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، فَرَجَعَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ كَرَعَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، فَأَخَذُوهُ فَجَاءُوا
(١) أنى: كيف. (انظر: التاج، مادة: أنى).
* [٨٥/
٣ أ].
(٢)
في الأصل: «وصاحب»، والتصويب من «التفسير» للمصنف (٢/ ٣٢٥).
(٣)
في الأصل: «صاحبي»، والتصويب من المصدر السابق.
بِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَأَرَاهُ
سُلَيْمَانُ خَاتَمَهُ، فَلَمَّا رَآهُ ذَلِكَ وَكَانَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ فِي
خَاتَمِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَبْنِيَ
مَسْجِدًا (١) لَا أَسْمَعُ فِيهِ صَوْتَ مِنْقَارٍ وَلَا مِنْشَارٍ، فَأَمَرَ
الشَّيْطَانُ بِزُجَاجَةٍ فَصُنِعَتْ، ثُمَّ وُضِعَتْ عَلَى بَيْضِ الْهُدْهُدِ
فَجَاءَ الْهُدْهُدُ لِلرَّبْضِ عَلَى بَيْضهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ،
فَذَهَبَ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: انْظُرُوا مَا يَأْتِي بِهِ الْهُدْهُدُ
فَخُذُوهُ، فَجَاءَ بِالْمَاسِ فَوَضَعَهُ عَلَى الزُّجَاجَةِ فَفَلَقَهَا
فَأَخَذُوا الْمَاسَ، فَجَعَلُوا يَقُطُّونَ بِهِ الْحِجَارَةَ قَطًّا حَتَّى
بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ: وَانْطَلَقَ سُلَيْمَانُ يَوْمًا إِلَى
الْحَمَّامِ وَقَدْ كَانَ فَارَقَ بَعْضَ نِسَائِهِ فِي بَعْضِ الْمَأْثَمِ،
فَدَخَلَ الْحَمَامَ وَمَعَهُ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، فَلَمَّا دَخَلَ ذَلِكَ أَخَذَ
الشَّيطَانُ خَاتَمَهُ فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَلْقَى عَلَى كُرْسِيِّهِ -
السَّرِيرِ - جَسَدًا شِبْهَ سُلَيْمَانَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَقَدْ ذَهَبَ
مُلْكُهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ عَلَى سَرِيرِ سُلَيْمَانَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً،
فَاسْتَنْكَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: لَقَدْ فُتِنَ سُلَيْمَانُ مِنْ
تَهَاوُنِهِ بِالصَّلَاةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَيْطَانُ يَتَهَاوَنُ بِالصَّلَاةِ،
وَبِأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ
رَجُلٌ يُشَبَّهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ، فَقَالَ:
إِنِّي سَائِلُهُ لَكُمْ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا تَقُول فِي
أَحَدِنَا يُصِيبُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي اللَّيلَةِ الْبَارِدَةِ، ثُمَّ يَنَامُ
حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ لَا يَغْتَسِلُ وَلَا يُصلِّي هَلْ تَرَى عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ بَأْسًا؟ قَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصحَابِهِ، فَقَالَ:
لَقَدِ افْتُتِنَ سُلَيْمَانُ، قَالَ: فَبَيْنَا سُلَيمَانُ ذَاهِبٌ فِي الْأَرْضِ
إِذْ أَوَى إِلَى امْرَأَةٍ فَصنَعَتْ لَهُ حُوتًا، أَوْ قَالَ: فَجَاءَتْهُ
بِحُوتٍ فَشَقَّتْ بَطْنَهُ، فَرَأَى سُلَيْمَانُ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ،
فَرَفَعَهُ، فَأَخَذَهُ، فَلَبِسَهُ، فَسَجَدَ لَهُ كُلُّ شَيءٍ لَقِيَهُ مِنْ
دَابَّةٍ، أَوْ طَيْرٍ، أَوْ شَيءٍ وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، فَقَالَ
عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: ٣٥]، قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ لَا
تَسْلُبَنَّهُ مَرَّةَ أُخْرَى *. قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
فَحِينَئِذٍ سُخِّرَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ مَعًا وَالطَّيْرُ.
(١) أقحم بعده في الأصل: «أن».
* [٣/
٨٥ أ].
٢٠ - بَدْءُ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -
° [١٠٦٠٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ
عُمَيْسٍ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في بَيْتِ مَيْمُونَةَ،
فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَتَشَاوَرَ نِسَاؤُهُ فِي
لَدِّهِ (١) فَلَدُّوهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: هَذَا فِعْلُ نِسَاءٍ جِئْنَ
مِنْ هَاهُنَا (٢) وَأَشَارَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ
ابْنَةُ عُمَيْسٍ فِيهِنَّ، قَالُوا: كُنَّا نَتَّهِمُ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ (٣)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَقْذِفَنِي بِهِ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْبَيتِ أَحَدٌ إِلَّا الْتَدَّ، إِلَّا
عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» يَعْنِي عَبَّاسًا، قَالَ: فَلَقَدِ الْتَدَّتْ
مَيْمُونَةُ يَوْمَئِذٍ وإنَّهَا لَصائِمَةٌ لِعَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
° [١٠٦٠٥]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ في بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي
بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ، قَالَتْ: فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ
عَبَّاسٍ، وَيَدٌ أُخْرَى عَلَى يَدِ رَجُلٍ آخَرَ، وَهُوَ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ
فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ،
فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ هُوَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلكنَّ عَائِشَةَ لَا تَطِيبُ لَهَا نَفْسًا بِخَيْرٍ.
° [١٠٦٠٤] [الإتحاف: حب كم حم ٢١٣٢١].
(١)
اللدود: من الأدوية ما يُسقاه المريض في أحد شِقَّي الفَم. ولَدِيدَا الفم:
جانباه. (انظر: النهاية، مادة: لدد).
(٢)
في الأصل: «هؤلاء»، والتصويب من «المستدرك على الصحيحين» لأبي عبد الله الحاكم
(٧٦٥١) من حديث الدبري، عن عبد الرزاق، به.
(٣)
ذات الجنب: الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل،
وقلما يسلم صاحبها. (انظر: النهاية، مادة: جنب).
° [١٠٦٠٥]
[التحفة: خ م س ق ١٥٩٤٥، خ ١٦٠٧٦، خ ١٦٢٣٢، خ ١٦٢٦٢، خ م س ق ١٦٣٠٩، خ م س ١٦٣١٧،
خ ١٦٣٤١] [الإتحاف: ٨٠٠٦، مي خز جا طح حب كم حم عه ٢١٩٢٦].
° [١٠٦٠٦] قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي
عُرْوَةُ، أَوْ عَمْرَةُ (١)، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ (٢) لَمْ
تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ (٣) لَعَلَي أَسْتَرِيحُ، فَأَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ»،
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ (٤) لِحَفْصةَ مِنْ نُحَاسٍ
وَسَكَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ، حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ
فَعَلْتُن، ثُمَّ خَرَجَ.
° [١٠٦٠٧]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ الثلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ النَّبِي ﷺ قَامَ يَوْمَئِذٍ خَطِيبًا فَحَمِدَ
اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا
يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، إِنَّكُمْ تَزِيدُونَ
وَالْأَنْصَارُ لَا يَزِيدُونَ، الْأَنْصَارُ عَيْبتِي الَّتِي أَوَيْتُ
إِلَيْهَا، فَأَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ».
° [١٠٦٠٨]
قال الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ
عَبْدًا خَيَّرَهُ رَبُّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ
رَبِّهِ»، فَفَطِنَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ ﷺ:«عَلَى رِسْلِكَ»، ثُمَّ قَالَ: «سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ
الشَّوَارعَ (٥) فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ» رحمه الله، «فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ رَجُلًا
أَحْسَنَ يَدًا عِنْدِي مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ».
° [١٠٦٠٩]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ
° [١٠٦٠٦] [التحفة: س ١٦٦٧٦] [الإتحاف: خز حب
كم حم ٢٢٠٩٤]، وتقدم: «انظر: ٥٤٣٠٥٤٤».
(١)
قوله: «أو عمرة» وقع في الأصل مصحفا: «عن غيره»، والتصويب من «مسند أحمد» (٢٦٥٥٥)
من حديث عبد الرزاق، به.
(٢)
القرب: جمع قربة، وهي: وعاء من جلد يستعمل لحفظ الماء، أو اللبن، أو الزيت. (انظر:
المعجم العربي الأساسي، مادة: قرب).
(٣)
الأوكية: جمع وكاء، وهو: الخيط الذي يشد به الوعاء. (انظر: النهاية، مادة: وكا).
(٤)
المخضب: شبه المركن (الإناء) يغسل فيه الثياب. (انظر: النهاية، مادة: خضب).
° [١٠٦٠٧]
[الإتحاف: حم ٢١٠٢٨].
(٥)
الشوارع: المفتوحة. (انظر: النهاية، مادة: شرع).
° [١٠٦٠٩]
[التحفة: س ١٦١٢٣، خ م س ١٦٣١٠] [الإتحاف: مي جا عه حب حم ٨٠٠٥، حب حم ٢١٩٢٨] [شيبة: ٧٦٢٩، ١١٩٤٢]، وتقدم: (١٦٤٧) وسيأتي:
(١٧٠٧٨).
وَابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ حِينَ نَزَلَ بِهِ جَعَلَ يُلْقِي خَمِيصَةً (١) لَهُ عَلَى
وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَعْنَةُ
(٢) اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ».
قَالَ: تَقُولُ عَائِشَةُ: يُحَذِّرُ
مِثْلَ الَّذِي فَعَلُوا.
° [١٠٦١٠]
قال مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَالَ النَّبِيُّ * ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
زَمْعَةَ (٣): «مُرِ النَّاسَ فَليُصَلُّوا»، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
زَمْعَةَ، فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: صَلِّ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى
عُمَرُ بِالنَّاسِ فَجَهَرَ بِصَوْتِهِ وَكَانَ جَهِيرَ (٤) الصَّوْتِ، فَسَمِعَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ هَذَا صَوْتَ عُمَرَ»؟ قَالُوا: بَلَى يَا
رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ، لِيُصَلِّ
بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ»، فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ: بِئْسَ
مَا صَنَعْتَ كُنْتُ أَرَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنِي،
قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَحَدًا.
° [١٠٦١١]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ (٥) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مُرُوا أَبَا
بَكرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ (٦) إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ،
فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ
(١) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان، وفيه
خطوط، والجمع: خمائص. (انظر: معجم الملابس) (ص ١٦٠).
(٢)
اللعن: الطرد والإبعاد من رحمة الله، ومن الخَلْق: السّبّ والدعاء. (انظر:
النهاية، مادة: لعن).
* [٣/
٨٦ أ].
(٣)
في الأصل: «عباس»، والتصويب من «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ١٩٥).
(٤)
جهير: أي عال. (انظر: النهاية، مادة: جهر).
° [١٠٦١١]
[التحفة: خ م س ق ١٥٩٤٥، م س ١٦٠٦١، س ١٦٣١٩، خ ١٦٣٤١، خ م ق ١٦٩٧٩، خ ت س ١٧١٥٣].
(٥)
قوله: «حمزة بن» ليس في الأصل، والصواب إثباته كما في «مستخرج أبي عوانة» (١٦٣٨)،
«المستخرج على مسلم» لأبي نعيم (٩٣٢) من طريق المصنف، به، وقد أخرجه على الصواب
كذلك إسحاق بن راهويه في «مسنده» (١٧٧٤) عن عبد الرزاق، به.
(٦)
الرقيق: الضعيف الهين اللين. (انظر: النهاية، مادة: رقق).
أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَاللَّهِ
مَا بِي إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَشَاءَمَ (١) النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ
فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ
ثَلَاثًا، فَقَالَ: «لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ
يُوسُفَ (٢)».
° [١٠٦١٢]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْإِثْنَيْنِ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سِتْرَ الْحُجْرَةِ، فَرَأَى أَبَا بَكْرٍ
وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ وَرَقَةُ
مُصْحَفٍ (٣) وَهُوَ يَبْتَسِمُ، قَالَ: وَكِدْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ فِي صَلَاتِنَا
فَرَحًا بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ دَارَ يَنْكُصُ (٤)،
فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ: أَنْ كَمَا أَنْتَ، ثُمَّ أَرْخَى السِّتْرَ،
فَقُبِضَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ رَبَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً عَنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ
يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِي رِجَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
وَأَلْسِنَتَهُمْ يَزْعُمُونَ، أَوْ قَالَ يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
قَدْ مَاتَ.
° [١٠٦١٣]
قال مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ لأَعْلَمَنَّ مَا بَقَاءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فِينَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ شَيْئًا تَجْلِسُ
عَلَيْهِ يَدْفَعُ عَنْكَ الْغُبَارَ وَيَرُدُّ عَنْكَ الْخَصْمَ، فَقَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: "لأَدَعَنَّهُمْ يُنَازِعُونِي رِدَائِي، وَيَطَئُونَ عَقِبِي
(٥)، وَيَغْشَانِي غُبَارُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُرِيحُنِي
(١) الشؤم والتشاؤم: كراهية الأمر وخوف
عاقبته. (انظر: اللسان، مادة: شأم).
(٢)
الصواحبات والصواحب: جمع الصاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحبات يوسف في إظهار خلاف
ما في الباطن، وهو: أن عائشة أرادت
أن لا يتشاءم الناس به، وأظهرت كونه لا يسمع المأمومين.
(انظر: مجمع البحار، مادة: صحب).
° [١٠٦١٢]
[التحفة: خ م ١٠٣٨، س ١٤٨٠، خ ١٤٩٦، م هـ ١٥١، خ ١٥١٨، م ١٥٢٦، م ١٥٤٣] [الإتحاف:
خز حب عه حم ١٧٥٩].
(٣)
ورقة مصحف: تشبيه في الحسن والوضاءة. (انظر: المشارق) (٢/ ٢٨٤).
(٤)
النكوص: الرجوع إلى الوراء، وهو القهقرى. (انظر: النهاية، مادة: نكص).
° [١٠٦١٣]
[شيبة: ٣٥٥٦٧].
(٥)
العقب: الأثر، والمراد: المتابعة والموالاة. (انظر: المصباح المنير، مادة: عقب).
مِنْهُمْ»، فَعَلِمْتُ أَنَّ
بَقَاءَهُ فِينَا قَلِيلٌ، قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قامَ
عُمَرُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَمُتْ، وَلكِنْ صَعِقَ كَمَا صَعِقَ
مُوسَى، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى
يَقْطَعَ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَلْسِنَتَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، يَقُولُونَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قدْ مَاتَ، فَقَامَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ عَهْدٌ،
أَوْ عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَمُتْ حَتَّى وَصَلَ الْحِبَالَ، ثُمَّ حَارَبَ وَوَاصَلَ
وَسَالَمَ، وَنَكَحَ النِّسَاءَ وَطَلَّقَ، وَتَرَكَكُمْ عَنْ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ،
وَطَرِيقٍ نَاهِجَةٍ (١)، فَإِنْ يَكُ مَا يَقُولُ ابْنُ الْخَطَّابِ حَقًّا،
فَإِنَّهُ لَنْ يُعْجِزَ اللهَ أَنْ يَحْثُوَ عَنْهُ فَيُخْرِجَهُ إِلَيْنَا،
وإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِنَا، فَإِنَّهُ يَأْسَنُ (٢) كَمَا
يَأْسَنُ النَّاسُ *.
• [١٠٦١٤]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: خَرَجَ الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ مِنْ عَنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في مَرَضِهِ
فَلَقِيَهُمَا رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يا أَبَا
حَسَنٍ؟ فَقَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بارِئًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنْتَ بَعْدَ ثَلَاثٍ لَعَبْدُ الْعَصَا ثُمَّ
حَلَّ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ إِنَّهُ لأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وإِنِّي خَائِفٌ أَلَّا يَقُومَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَنَسْأَلُهُ، فَإِنْ
يَكُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَيْنَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وإِلَّا يَكُ إِلَيْنَا
أَمَرْنَاهُ أَنْ يَسْتَوْصِيَ بِنَا خَيْرًا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتَ
إِذَا جِئْنَاهُ فَلَمْ يُعْطِنَاهَا، أَتَرَى النَّاسَ أَنْ يُعْطُوهَا،
وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُ إِيَّاهَا أَبَدًا.
° [١٠٦١٥]
قال الزُّهْرِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
قَالَ: «فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى»، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُبِضَ.
(١) الناهجة: الواضحة البينة. (انظر: المعجم
الوسيط، مادة: نهج).
(٢)
يأسن: يتغير. (انظر: النهاية، مادة: أسن).
* [٣/
٨٦ ب].
° [١٠٦١٥]
[التحفة: خ م ت سي ١٦١٧٧، خ م س ق ١٦٣٣٨].
° [١٠٦١٦] قال مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ
يَقُولُ: آخِرُ شَيءٍ تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي
النِّسَاءِ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (١)».
• [١٠٦١٧]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَمَضَى
حَتَّى الْبَيْتِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِ
عَائِشَةَ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ بُرْدَ (٢) حِبَرَةٍ (٣) كَانَ مُسَجَّى
عَلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ أكَبَّ عَلَيْهِ
فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ،
لَقَدْ مِتَّ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا تَمُوتُ بَعْدَهَا أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ
أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو
بَكْرٍ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، فَكَلَّمَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثَلَاثًا فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَتَشَهَّدَ، فَأَقْبَلَ
النَّاسُ عَلَى أَبِي بَكْرِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَلَمَّا قَضَى أَبُو بَكْرٍ
تَشَهُّدَهُ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللهَ
حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: ١٤٤] الْآيَةَ كُلَّهَا، فَلَمَّا تَلَاهَا أَبُو
بَكْرٍ رحمه الله، أَيْقَنَ النَّاسُ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتَلَقَّوْهَا
مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ، حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ
تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا قَائِمٌ خَرَرْتُ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَيْقَنْتُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ مَاتَ.
• [١٠٦١٨]
أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ رحمه
الله الْآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَذَلِكَ الْغَدَ
(١) ملك اليمين: ما تملكه الأيدي من العبيد
والإماء والأموال. (انظر: النهاية، مادة: ملك).
(٢)
في الأصل: «بردة»، والتصويب مما تقدم عند المصنف برقم (٦٩٨٤)، «المستدرك على
الصحيحين» للحاكم (٣٢٠٣) من حديث الدبري، عن عبد الرزاق، به.
(٣)
الحبرة: ثياب فيها خطوط ورقوم مختلفة، تصنع باليمن، وتتكون من نسيجين من الحرير
الأسود اللامع. (انظر: معجم الملابس) (ص ١٢٣).
مِنْ يَوْمِ تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ قَالَ: فَتَشَهَّدَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّم،
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَمَّا بَعْد، فَإِنِّي قُلْتُ مَقَالَةً، وإنَّهَا لَمْ
تَكُنْ كَمَا قُلْت، وإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ الْمَقَالَةَ الَّتِي قُلْتُ
فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حتَّى يَدْبُرَنَا
يُرِيدُ بِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ قَدْ مَاتَ،
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ * بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ:
هَذَا كِتَابُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا بِهِ تَهْتَدُونَ لِمَا هَدَى اللّهُ بِهِ
مُحَمَّدًا ﷺ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رحمه الله صاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ رحمه
الله وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمُوركُمْ، فَقُومُوا
فَبَايِعُوهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي
سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي
أَنَسٌ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ يُزْعِجُ أَبَا بَكْرٍ إِلَى الْمِنْبَرِ
إِزْعَاجًا.
° [١٠٦١٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه،
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَل أَكتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ»؟
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَع،
وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآن، حَسْبُنَا (١) كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ
الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لكُمْ
رَسُولُ اللهِ ﷺ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا
قَالَ عُمَر، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ (٢) وَالاِخْتِلَافَ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قُومُوا»، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: إِنَّ الرِّزِيَّةَ (٣) كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ
اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ (٤).
* [٣/ ٨٧ أ].
° [١٠٦١٩]
[التحفة: م س ٥٥٢٤] [الإتحاف: حب حم ٨٠٢٥]، وسيأتي: (٢٠٤٢١).
(١)
الحسب: الكفاية. (انظر: النهاية، مادة: حسب).
(٢)
اللغو: الهزل من القول وما لا يعني. (انظر: النهاية، مادة: لغا).
(٣)
الرزية والرزء: المصيبة. (انظر: النهاية، مادة: رزأ).
(٤)
اللغط: الصوت والضجة لا يفهم معناها. (انظر: النهاية، مادة: لغط).
٢١ - بَيْعَةُ أبِي بَكْرٍ رضي اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ
° [١٠٦٢٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ
حَجَّهَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِمِنًى أَتَانِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي
مَنْزِلِي عَشِيًّا، فَقَالَ: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ!
فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي سَمِعْتُ
فُلَانًا، يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَايَعْتُ
فُلَانًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَقَائِمٌ عَشِيَّةً فِي النَّاسِ
فَنُحَذِّرُهُمْ (١) هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْتَصِبُوا
الْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ
الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ (٢) النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ (٣)، وَإِنَّهُمُ
الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، وإِنِّي أَخْشَى إِنْ قُلْتَ فِيهِمُ
الْيَوْمَ مَقَالَةً أَنْ يَطِيرُوا بِهَا كُلَّ مَطِيرٍ وَلَا يَعُوهَا، وَلَا
يَضعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، وَلَكِنْ أَمْهِلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ السُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ،
وَتَخْلُصَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا
فَيَعُوا مَقَالَتَكَ وَيَضعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ:
أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شاءَ اللَّهُ لأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ
أَقُومُهُ فِي الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَاءَ
الْجُمُعَةُ هَجَّرْتُ لَمَّا حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ،
فَوَجَدْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ (٤) جَالِسًا إِلَى
جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَه،
قَالَ: فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ (٥) خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ رحمه الله، قَالَ:
فَقُلْتُ وَهُوَ مُقْبِلٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَيقُولَنَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْ قَبْلَه، قَالَ: فَغَضِبَ سَعِيدُ
بْنُ زَيْدٍ وَقَالَ: وَأَيُّ مَقَالَةٍ يَقُولُ لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟ قَالَ:
فَلَمَّا ارْتَقَى عُمَرُ الْمِنْبَرَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِهِ،
فَلَمَّا
° [١٠٦٢٠] [التحفة: ع ١٠٥٠٨، س ١٠٥٨٧]
[شيبة:٣٨١٩٧].
(١)
في الأصل: «فحذرهم»، والتصويب من «مسند أحمد» (٣٩٨)، «شرح أصول الاعتقاد» للالكائي
(٢٤٣٦) من حديث عبد الرزاق، به.
(٢)
الرعاع: الغوغاء والسقَّاط والأخلاط، واحدهم: رعاعة. (انظر: النهاية، مادة: رعع).
(٣)
الغوغاء: سفلة الناس المتسرعون إلى الشر. (انظر: النهاية، مادة: غوغ).
(٤)
التهجير: التبكير إلى كل شيء، والمبادرة إليه. (انظر: النهاية، مادة: هجر).
(٥)
زوال الشمس: تحرك الشمس عن كبد (وسط) السماء من بعد الظهيرة إلى جهة المغرب،
فيقال: زالت ومالت. (انظر: غريب الحديث لابن قتيبة) (١/ ١٧٧).
فَرَغَ * مِنْ أَذَانِهِ قَامَ
عُمَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْد، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ
أَقُولَهَا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ
مُحَمَّدًا ﷺ بالْحَقِّ وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنَا
بَعْدَه، وإِنِّي خَائِفٌ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، فَيَقُولَ قَائِلٌ:
وَاللهِ مَا الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَيضِلَّ أَوْ يَتْرُكَ فَرِيضَةً
أَنْزَلَهَا اللَّه، أَلَا وإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا
أُحْصِنَ (١) وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ (٢) وَكَانَ الْحَمْلُ أَوْ الاِعْتِرَاف،
ثُمَّ قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ: وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ
بِكُمْ، أَوْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، ثُمَّ
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا تُطْرُونِي (٣) كَمَا أَطْرَتِ (٤)
النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»، ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ
فُلَانًا مِنْكُمْ، يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْ قَدْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
بَايَعْتُ فُلَانًا، فَلَا يَغُرَّنَّ امْرَأً، أَنْ يَقُولَ: إِنَّ بَيْعَةَ
أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً (٥) وَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ
وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ يُقْطَعُ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ
أَبِي بَكْرٍ، إِنَّهُ كَانَ مِنْ خَيْرِنَا حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،
وإِنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي بَيْتِ
فَاطِمَةَ، وَتَخَلَّفَتْ عَنَّا الْأَنْصَارُ بِأَسْرِهَا فِي سَقِيفَةِ بَنِي
سَاعِدَةَ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رحمه الله، فَقُلْتُ:
يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ، فَلَقِيَنَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْأَنْصارِ
قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟
قُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصارِ، قَالَا: فَارْجِعُوا
فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: فَاقْضُوا لَنَأْتِيَنَّهُمْ،
فَأَتَيْنَاهُمْ فَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعَدَةَ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ (٦) رَجُلٌ مُزَّمِّلٌ، قُلْتُ:
* [٣/ ٨٧ ب].
(١)
الإحصان: التزويج. (انظر: النهاية، مادة: حصن).
(٢)
البينة: الحجة الواضحة. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: بين).
(٣)
الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه. (انظر: النهاية، مادة: طرا).
(٤)
في الأصل: «لا تطيروني كما طيرت»، والتصويب من المصادر السابقة.
(٥)
الفلتة: الفجأة من غير روية، وقيل: خلسة وانتزاعًا. (انظر: النهاية، مادة: فلت).
(٦)
في الأصل: «أظهركم»، والأصوب المثبت.
مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: هُوَ وَجِعٌ، قَالَ: فَقَامَ
خَطِيبُ الْأَنْصَارِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه،
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْد، فَنَحْنُ الْأَنْصَار، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ،
وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَهْطٌ مِنَّا، وَقَدْ دَفَّتْ إِلَيْنَا
دَافَّةٌ (١) مِنْكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا (٢) مِنْ
أَصْلِنَا وَيَحْضُنُونَا مِنَ الْأَمْرِ، وَكُنْتُ قَدْ رَوَيْتُ فِي نَفْسِي،
وَكُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ
أُدَارِئُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ الْحَدِّ وَكَانَ هُوَ أَوْقَرَ مِنِّي
وَأَجَلَّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْكَلَامَ، قَالَ: عَلَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ
أَعْصِيَه، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا
هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكَ كَلِمَةً كُنْتُ رَوَّيْتُهَا
فِي نَفْسِي إِلَّا جَاءَ بِهَا أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فِي بَدِيهَتِهِ، ثُمَّ
قَالَ: أَمَّا بَعْد، فَمَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ،
فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِهَذَا
الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ فَهُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَنَسَبًا، وإِنِّي قَدْ
رَضِيتُ لكمْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، قَالَ:
فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا كَرِهْتُ مِمَّا قَالَ شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، كُنْتُ لأَنْ
أُقَدَّمَ فَيُضْرَبَ عُنُقِي لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا قَضَى
أَبُو بَكْرٍ مَقَالَتَهُ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ *: أَنَا
جُذَيْلُهَا (٣) الْمُحَكَّكُ (٤) وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ (٥)، مِنَّا أَمِيرٌ
وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وإِلَّا أَجْلَبْنَا الْحَرْبَ فِيمَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ جَذَعًا
(١) الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس
بالشديد. وقيل: قوم من الأعراب يردون المصر. (انظر: النهاية، مادة: دفف).
(٢)
يختزلونا: يقتطعونا ويذهبوا بنا منفردين. (انظر: النهاية، مادة: خزل).
* [٣/
٨٨ أ].
(٣)
الجذيل: تصغير الجذل، وهو العُود الذي يُنْصَبُ للإبل الجربى لتَحْتَكَّ به،
والمراد: أنه يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بالعود. (انظر:
النهاية، مادة: جذل).
(٤)
المحكك: المراد: العود الذي كَثُرَ الاحتكاك به، وقيل: أراد أنه شديد البأس صُلْب
المَكْسَر كالِجذْل المُحَكَّك. (انظر: النهاية، مادة: حكك).
(٥)
المرجب: المدعوم بالرُّجْبة، وهي: خشبة ذات شعبتين، وذلك إذا طال وكثر حمله.
والمراد: إني ذو رأي يستشفى بالاستضاءة به كثيرا. (انظر: الفائق) (١/ ٢٠١).
• [١٠٦٢١] قال مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَة،
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا يَصْلُحُ سَيْفَانِ فِي غِمْدٍ (١) وَاحِدٍ،
وَلكنْ مِنَّا الْأُمَرَاءُ وَمِنْكُمُ الْوُزَرَاءُ.
• [١٠٦٢٢]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ بِالْإِسْنَادِ: فَارْتَفَعَتِ
الْأَصْوَاتُ بَيْنَنَا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ حَتَّى أَشْفَقْتُ الاِخْتِلَافَ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، قَالَ: فَبَسَطَ يَدَهُ
فَبَايَعْتُه، فَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَبَايَعَهُ الْأَنْصَار، قَالَ:
وَنَزَوْنَا (٢) عَلَى سَعْدٍ حَتَّى قَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، قَالَ:
قُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا وإِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا فِيمَا حَضَرْنَا
مِنْ أَمْرِنَا أَمْرًا كَانَ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا
إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ أَنْ يُحْدِثُوا بَيْعَةً بَعْدَنَا، فَإِمَّا أَنْ
نُبَايِعَهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضى، وإِمَّا أَنْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونَ
فَسَادًا، فَلَا يَغُرَّنَّ امْرَأً أَنْ يَقُولَ إِنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ
كَانَتْ فَلْتَةً، فَقَدْ كَانَت كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا،
وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ يُقْطَعُ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ،
فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا
يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي (٣) بَايَعَهُ تَغِرَّةً (٤) أَنْ يُقْتَلَا.
• [١٠٦٢٣]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيّ، وَأَخْبَرَنِي عُرْوَة، أَنَّ الرَّجُلَيْنِ
اللَّذَيْنِ لَقِيَاهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ عُوَيْمُ (٥) بْنُ سَاعِدَةَ وَمَعْنُ
بْنُ عَدِيٍّ، وَالَّذِي قَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا (٦)
الْمُرَجَّبُ الْحُبَابُ بْنُ الْمْنْذِرِ.
• [١٠٦٢٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ وَاصِلِ الْأَحْدَبِ، عَنِ
الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى
إِمَارَةِ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَقْتُلُوهُ.
(١) الغمد: غِلاف السيف. (انظر: الصحاح،
مادة: غمد).
(٢)
النزو والانتزاء والنَّز: الوثوب. (انظر: النهاية، مادة: نزا).
(٣)
قوله: «يبايع هو ولا الذي» في الأصل: «يبايع هؤلاء الذين»، والتصويب من المصادر
السابقة.
(٤)
التغرة: من التغرير، كالتعلة من التعليل، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: خوف تغرة
أن يقتلا؛ أي: خوف وقوعهما في القتل. (انظر: جامع الأصول) (١١/ ٧٠١).
(٥)
في الأصل: «عويمر»، وهو خطأ.
(٦)
العذيق: تصغير العذق: النخلة، وهو تصغير تعظيم. (انظر: النهاية، مادة: عذق).
• [١٠٦٢٥] عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اعْقِلْ
عَنِّي ثَلَاثًا: الْإِمَارَةُ شُورَى، وَفِي فِدَاءَ الْعَرَبِ مَكَانُ كُلِّ
عَبْدٍ عَبْدٌ، وَفِي ابْنِ الْأَمَةِ عَبْدَانِ، وَكَتَمَ ابْنُ طَاوُسٍ
الثَّالِثَةَ.
• [١٠٦٢٦]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَا جَالِسَيْنِ، فَجَاءَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ فَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ عُمَرُ:
إِنَّا لَا نُحِبُّ أَنْ يُجَالِسَنَا مَنْ يَرْفَعُ حَدِيثَنَا، فَقَالَ لَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ أُجَالِسَ أُولَئِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى، فَجَالِسْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَلَا تَرْفَعْ حَدِيثًا،
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِلْأَنْصَارِيِّ: مَنْ تَرَى النَّاسَ يَقُولُونَ يَكُونُ
الْخَلِيفَةَ بَعْدِي؟ قَالَ: فَعَدَّدَ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ
يُسَمِّ عَلِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا لَهُمْ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ؟
فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأَحْرَاهُمْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمَهُمْ عَلَى
طَرِيقَةٍ مِنَ الْحَقِّ.
• [١٠٦٢٧]
قال مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ
الْأَوْدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ وَلَّى
السِّتَّةَ الْأَمْرَ، فَلَمَّا جَازُوا أَتْبَعَهُمْ بَصَرَه، ثُمَّ قَالَ:
لَئِنْ وَلَّوْهَا الْأُجَيْلِحَ لَيَرْكَبَنَّ بِهِمُ الطَّرِيقَ يُرِيدُ
عَلِيًّا.
٢٢
- قَوْلُ
عُمَرَ فِي أَهْلِ الشُّورَى
• [١٠٦٢٨]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: اجْتَمَعَ نَفَرٌ فِيهِمُ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالُوا: مَنْ تَرَوْنَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
مُسْتَخْلِفًا؟ فَقَالَ قَائِلٌ: عَلِيٌّ، وَقَالَ قَائِلٌ: عُثْمَانَ، وَقَالَ
قَائِلٌ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَإِنَّ فِيهِ خَلَفًا (١)، فَقَالَ
الْمُغِيرَةُ: أَفَلَا أَعْلَمُ لكُمْ * ذَاكَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: وَكَانَ
عُمَرُ يَرْكَبُ كُلَّ سَبْتٍ إِلَى أَرْضٍ لَه، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ
ذَكَّرَ الْمُغِيرَةَ ابْنُه، فَوَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ عَلَى
أَتَانٍ (٢) لَهُ تَحْتَهُ كِسَاءٌ قَدْ عَطَفَهُ عَلَيْهَا،
(١) الخلف: العِوَض. (انظر: النهاية، مادة:
خلف).
* [٣/
٨٨ ب].
(٢)
الأتان: أنثى الحمار. (انظر: النهاية، مادة: أتن).
فَسَلَّمَ عُمَرُ فَرَدَّ عَلَيْهِ
الْمُغِيرَة، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ
أَسِيرَ مَعَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا أَتَى عُمَرُ ضَيْعَتَهُ نَزَلَ عَنِ
الْأَتَانِ وَأَخَذَ الْكِسَاءَ فَبَسَطَهُ وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ، وَقَعَدَ
الْمُغِيرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَدَّثَه، ثُمَّ قَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا تَدْرِي مَا قَدْرُ أَجَلِكَ، فَلَمَّا
حَدَّدْتَ لِنَاسٍ حَدًّا، أَوْ عَلَّمْتَ لَهُمْ عَلَمًا يَبْهَتُونَ إِلَيْهِ،
قَالَ: فَاسْتَوَى عُمَرُ جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: هِيهِ! اجْتَمَعْتُمْ،
فَقُلْتُمْ: مَنْ تَرَوْنَ أَمِيرَ (١) الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَخْلِفًا؟ فَقَالَ
قَائِلٌ: عَلِيًّا، وَقَالَ قَائِل: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَإِنَّ فِيهِ
خَلَفًا، قَالَ: فَلَا يَأْمَنُوا يُسْأَلُ عَنْهَا رَجُلَانِ مِنْ آلِ عُمَرَ،
فَقُلْتُ: أَنَا لَا أَعْلَمُ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ، قَالَ:
مَنْ؟ قُلْتُ: عُثْمَانَ، قَالَ: أَخْشَى عَقْدَهُ وَأَثَرَتَه، قَالَ: قُلْتُ:
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، قَالَ: مُؤْمِنٌ ضَعِيفٌ، قَالَ: قُلْتُ: فَالزُّبَيْرَ،
قَالَ: ضَرِسٌ، قَالَ: قُلْتُ: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: رِضَاؤُهُ
رِضَاءُ مُؤْمِنٍ وَغَضَبُهُ غَضَبُ كَافِرٍ، أَمَا إِنِّي لَوْ وَلَّيْتُهَا
إِيَّاهُ لَجَعَلَ خَاتَمَهُ فِي يَدِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَعَلِيٌّ،
قَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَحْرَاهُمْ إِنْ كَانَ أَنْ يُقِيمَهُمْ عَلَى سُنَّةِ
نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَقَدْ كُنَّا نَعِيبُ عَلَيْهِ مُزَاحَةً كَانَتْ فِيهِ.
° [١٠٦٢٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: عَلِمْتُ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ
مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ، قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ،
قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ وَلَمْ
أُكَلِّمْه، قَالَ: وَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا، حَتَّى
رَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ الناسِ وَأَنَا أُخْبِرُه،
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْتُ (٢)
أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وإِنَّهُ لَوْ كَان
لَكَ رَاعَي إِبِلٍ وَرَاعَي غَنَمٍ، ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيْتَ أَنْ
قَدْ ضَيَّعَ؟ فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ، قَالَ: فَوَافَقَهُ قوْلِي، فَوَضَعَ
رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ
دِينَه، وإِنِّي (٣) إِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
(١) قبله في الأصل: «يا»، وعدم إثباته أولى.
(٢)
التألي: الحلف واليمين. (انظر: جامع الأصول) (٨/ ٤٠).
(٣)
ليس في الأصل، واستدركناه من «مسند أحمد» (٣٣٨) من طريق عبد الرزاق، به.
لَمْ يَسْتَخْلِفْ (١)، وإِنْ
أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ، قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا
أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
يَعْدِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ.
٢٣
- اسْتَخْلافُ
أبِي بَكرٍ عُمَرَ (٢) رَحِمَهُمَا اللهُ
• [١٠٦٣٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
عَلَى أَبِي بَكْرٍ رحمه الله وَهُوَ شَاكٍ، فَقَالَ: اسْتَخْلَفْتَ عُمَرَ؟
وَقَدْ كَانَ عَتَا (٣) عَلَيْنَا وَلَا سُلْطَانَ لَه، فَلَوْ قَدْ مَلَكَنَا
لكانَ أَعْتَى عَلَيْنَا وَأَعْتَى، فَكَيْفَ تَقُولُ لِلَّهِ إِذَا لَقِيتَهُ؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوه، فَقَالَ: هَلْ تُفَرِّقُنِي
إِلَّا بِاللَّهِ؟ فَإِنِّي أَقُولُ إِذَا لَقِيتَهُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ
خَيْرَ أَهْلِكَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: فَقُلْتُ
لِلزُّهْرِيِّ: مَا قَوْلُهُ: خَيْرَ أَهْلِكَ؟ قَالَ: خَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ.
٢٤
- بَيْعَةُ
أبِي بَكرٍ رضي الله عنه
• [١٠٦٣١]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا بُويعَ
لِأَبِي بَكْرٍ تَخَلَّفَ عَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ فَلَقِيَهُ عُمَر، فَقَالَ:
تَخَلَّفْتَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَ: إِنِّي آلَيْتُ بِيَمِينٍ حِينَ
قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَلَّا أَرْتَدِيَ بِرِدَاءٍ * إِلَّا إِلَى الصَّلَاةِ
الْمَكْتُوبَةِ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ فَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَفَلَّتَ
الْقُرْآن، ثُمَّ خَرَجَ فَبَايَعَهُ.
• [١٠٦٣٢]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عِرَارٍ
(٤)، قَالَ: سَأَلْتُ
(١) الاستخلاف: اتخاذ الخليفة. (انظر: المعجم
الوسيط، مادة: خلف).
(٢)
ليس في الأصل، وزدناه ليستقيم السياق.
(٣)
العتو: التجبر والتكبر. (انظر: النهاية، مادة: عتا).
* [٣/
٨٩ أ].
(٤)
تصحف في الأصل إلى: «عيزار»، والتصويب من «فضائل الصحابة» لأحمد بن حنبل (٢/ ٥٩٥)
عن عبد الرزاق، به. ينظر: «تهذيب الكمال» (٢٢/ ٥٢٨)، «الإكمال» لابن ماكولا (٦/
١٨٨).
ينظر الأثر الآتي برقم (٢١٤٨٠).
ابْنَ عُمَرَ، عَنْ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ فَقَالَ: أَمَّا عَلِيٌّ فَهَذَا بَيْتُه، يَعْنِي: بَيْتُهُ قَرِيبٌ
مِنْ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ في الْمَسْجِدِ مَا أُحَدِّثُكَ عَنْهُ بِغَيْرِ
عُثْمَانَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ رحمه الله، فَإِنَّهُ أَذْنَبَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ ذَنْبًا عَظِيمًا فَغَفَرَ لَه، وَأَذْنَبَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَكُمْ ذَنْبًا صغِيرًا فَقَتَلْتُمُوهُ.
• [١٠٦٣٣]
أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ مَالِكِ
بْنِ مِغْوَلٍ، عَنِ ابْنِ أَبْجَرَ قَالَ: لَمُّا بُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي
الله عنه جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: غَلَبَكُمْ عَلَى هَذَا
الْأَمْرِ أَذَلُّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي قُرَيْشٍ، أَمَا وَاللَّهِ لأَمْلأَنَّهَا
خَيْلًا وَرِجَالًا، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا زِلْتَ عَدُوًّا لِلْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ فَمَا ضَرَّ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ شَيْئًا، إِنَّا رَأَيْنَا
أَبَا بَكْرٍ لَهَا أَهْلًا.
• [١٠٦٣٤]
أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيٍّ أَخْبِرْنِي عَنْ قُرَيْشٍ قَالَ:
أَوْزَنُنَا أَخْلَاقًا إِخْوَتُنَا بَنُو أُمَيَّةَ، وَأَنْجَدُنَا عِنْدَ
اللِّقَاءِ، وَأَسْخَانَا بِمَا مَلَكْتِ الْيَمِينُ فَنَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ،
وَرَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ الَّتِي نَشُمُّ بَيْنَهَا بَنُو الْمُغِيرَةِ، إِلَيْكَ
عَنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ.
• [١٠٦٣٥]
أخبرنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ
لِعَلِيٍّ أَخْبِرْنِي عَنْ قُرَيْشٍ قَالَ: أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ
فَأَنْجَادٌ أَمْجَادٌ، أَهْدَاةٌ أَجْوَادٌ، وَأَمَّا إِخْوَانُنَا بَنُو
أُمَيَّةَ فَأَدَبَةٌ ذَادَةٌ، وَرَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ الَّتِي نَشُمُّ بَيْنَهَا
بَنُو الْمُغِيرَةِ.
٢٥
- غَزْوَةُ
ذَاتِ السَّلَاسِلِ (١) وَخبَرُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ
° [١٠٦٣٦]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
ﷺ بَعْدَمَا هَاجَرَ وَجَاءَ الَّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، بَعَثَ
بَعْثَيْنِ قِبَلَ الشَّامِ إِلَى كَلْبٍ، وَغَسَّانَ، وَكُفَّارِ الْعَرَبِ
الَّذِينَ فِي مَشَارِفِ (٢) الشَّامِ، فَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ علَى أَحَدِ
الْبَعْثَيْنِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ
(١) ذات السلاسل: هي اليوم شمال غرب الملكة
العربية السعودية، شرق ميناءي الوجه وضبا، وكانت غزوة ذات السلاسل في جمادى الآخرة
سنة ٨ هجرية. (انظر: أطلس الحديث النبوي) (ص ١٨٠).
(٢)
تصحف في الأصل إلى: «شارق»، والتصويب من «تاريخ ابن عساكر» (٢/ ٢٥) من وجه آخر عن
الزهري، به.
الْجَرَّاحِ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي
فِهْرٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الْبَعْثِ الْاخَرِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِي، فَانْتُدِبَ
فِي بَعْثِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَر، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ
الْبَعْثَيْنِ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ
وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُمَا: «لَا تَعَاصَيَا»، فَلَمَّا فَصَلَا
عَنِ الْمَدِينَةِ جَاءَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِي:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلأ نَتَعَاصَيَا، فَإِمَّا أَنْ
تُطِيعَنِي وإِمَّا أَنْ أُطِيعَكَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: بَلْ
أَطِعْنِي، فَأَطَاعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَانَ عَمْرٌو أَمِيرَ الْبَعْثَيْنِ
كِلَيْهِمَا، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجْدًا شَدِيدًا،
فَكَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَقَالَ: أَتُطِيعُ ابْنَ النَّابِغَةِ،
وَتُؤَمِّرُهُ عَلَى نَفْسِكَ وَعَلَى أَبِي بكْرٍ وَعَلَيْنَا؟! مَا هَذَا
الرَّأْيُ؟ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: ابْنَ أُمَّ،
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَهِدَ إِلَيَّ وإلَيْهِ أَلَّا نَتَعَاصَيَا، فَخَشِيتُ
إِنْ لَمْ أُطِعْه، أَنْ أَعْصِيَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَشَكَا (١) إِلَيْهِ
ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أَنَا بِمُؤَمِّرِيهَا عَلَيكُمْ إِلَّا
بَعْدَكُمْ«(٢)، يُرِيدُ الْمُهَاجِرِينَ.
وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ
تُسَمَّى ذَاتَ السَّلَاسِلِ، أُسِرَ فِيهَا نَاسٌ كَثِير مِنَ الْعَرَبِ
وَسُبُوا، ثُمَّ أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بعْدَ ذَلِكَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ
وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ *، فَانْتَدَبَ فِي بَعْثِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرَ
بْنَ الْعَوَّامِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَبْلَ أَنْ يَصلَ ذَلِكَ
الْبَعْث، فَأَنْفَذَهُ أَبُو بَكرٍ الصدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ
بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
ثَلَاثَةَ أُمَرَاءَ إِلَى الشَّامِ، وَأَمَّرَ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى
جُنْدٍ، وَأَمَّرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جُنْدٍ، وَأَمَّرَ شُرَحْبِيلَ
بْنَ حَسَنَةَ عَلَى جُنْدٍ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى جُنْدٍ
قِبَلَ الْعِرَاقِ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ يَزَلْ
يُكَلِّمُهُ حَتَّى أَمَّرَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى خَالِدِ بْنِ
سَعِيدٍ وَجُنْدِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَوْجِدَةٍ وَجَدَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
(١) قبله عند ابن عساكر في»التاريخ«:»ويدخل
بيني وبينه الناس، وإني والله لأطيعنه حتى أقفل، فلما قفلوا كلم عمر بن الخطاب
رسول الله ﷺ«، وبه يتم سياق الكلام.
(٢)
كذا في الأصل، وفي»التاريخ«لابن عساكر:»لن أؤمر عليكم بعد هذا إلا منكم".
* [٨/
٣١٨ ب].
عَلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، حِينَ
قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَقِيَ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَغُلِبْتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ
مَنَافٍ عَلَى أَمْرِكُمْ؟ فَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَحَمَلَهَا
عَلَيْهِ عُمَر، فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنَّكَ لَتَتْرُكُ إِمْرَتَهُ عَلَى
الثَّعَالِبِ، فَلَمَّا اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَكَلَّمَ
أَبَا بَكْرٍ فَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَدْرَكَهُ
يَزِيدُ أَمِيرًا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ الشَّامَ بِذِي الْمَرْوَةِ (١)، وَكَتَبَ
أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى
الشَّامِ بِجُنْدِهِ، فَفَعَلَ، فَكَانَتِ الشَّامُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ
حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ نَزَعَ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، وَأَمَّرَ مَكَانَهُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ قَدِمَ
عُمَرُ الْجَابِيَةَ (٢) فَنَزَعَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، وَأَمَرَ جُنْدَهُ
أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الْأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ
حَسَنَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعَجَزْتُ أَمْ خُنْتُ؟ قَالَ: لَمْ
تَعْجَزْ وَلَمْ تَخُنْ، قَالَ: فَفِيمَ عَزَلْتَنِي؟ قَالَ: تَحَرَّجْتُ أَنْ
أُؤَمِّرَكَ وَأَنَا أَجِدُ أَقْوَى مِنْكَ، قَالَ: فَاعْذُرْنِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: سَأَفْعَل، وَلَوْ عَلِمْتُ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ،
قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَعَذَرَه، ثُمَّ أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
بِالْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَّةُ الشَّامِ عَلَى أَمِيرَيْنِ: أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَاسْتَخْلَفَ خَالِدًا وَابْنَ عَمِّهِ
عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ، فَأَقَرَّهُ عُمَر، فَقِيلَ لِعُمَرَ: كَيْفَ تُقِرُّ
عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ وَهُوَ رَجُلٌ جَوَادٌ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ؟
وَقَدْ نَزَعَتْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي أَنْ كَانَ يُعْطِي دُونَكَ؟ فَقَالَ
عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ شِيمَةُ عِيَاضٍ فِي مَالِهِ حَتَّى يَخْلُصَ (٣) إِلَى
مَالِهِ، وإِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَمْ أَكُنْ لِأُغَيرَّ أَمْرًا قَضَاهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ فَأَمَّرَ مَكَانَهُ مُعَاوِيَةَ، فَنَعَاهُ عُمَرُ إِلَى أَبِي
سُفْيَانَ، فَقَالَ: احْتَسِبْ يَزِيدَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ: يَرْحَمُهُ
الله، فَمَنْ أَمَّرْتَ مَكَانَهُ؟ قَالَ: مُعَاوِيَةَ، قَالَ:
(١) ذو المروة: قرية بوادي القرى تقع شمال
المدينة على بعد ٣٠٠ كيلو متر. (انظر: أطلس الحديث النبوي) (ص ١٨٩).
(٢)
الجابية: مدينة تقع جنوب سوريا في منطقة حوران، تظهر للناظر من بلدة الصنمين وبلدة
نوى. (انظر: أطلس الحديث النبوي) (ص ١١٠).
(٣)
الخلوص: الوصول والبلوغ. (انظر: النهاية، مادة: خلص).
وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، قَالَ: ثُمَّ
تُوُفِّيَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، فَأَمَّرَ مَكَانَهُ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ
الْأَنْصارِيَّ، فَكَانَتِ الشَّامُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعُمَيْرٍ، حَتَّى قُتِلَ
عُمَر، فَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَعَزَلَ عُمَيْرًا، وَتَرَكَ
الشَّامَ لِمُعَاوِيَةَ، وَنَزَعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ،
وَأَمَّرَ مَكَانَهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَنَزَعَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
عَنْ مِصْرَ، وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ،
وَنَزَعَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، ثُمَّ نَزَعَ (١) سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ
الْكُوفَةِ، وَأَمَّرَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، ثُمَّ شَهِدَ عَلَى الْوَلِيدِ
فَجَلَدَهُ وَنَزَعَه، وَأَمَّرَ سَعِيدَ * بْنَ الْعَاصِ مَكَانَه، ثُمَّ قَالَ
النَّاس، وَنَشَبُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَحَجَّ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، ثُمَّ
قَفَلَ مِنْ حَجِّهِ فَلَقِيَهُ خَيْلُ الْعِرَاقِ، فَرَجَعُوهُ مِنَ الْعُذَيْبِ،
وَأَخْرَجَ أَهْلُ مِصْرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأَقَرَّ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ
أَوَّلُ الْفِتْنَةِ، حَتَّى إِذَا قُتِلَ عُثْمَانُ رحمه الله، بَايَعَ النَّاسُ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: إِنْ
شِئْتُمَا فَبَايِعَانِي، وإِنْ شِئْتُمَا بَايَعْتُ أَحَدَكُمَا، قَالَا: بَلْ
نُبَايِعُكَ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى مَكَّةَ، وَبِمَكَّةَ عَائِشَةُ زَوْجُ
النَّبِيِّ ﷺ بِمَا يَتَكَلَّمَانِ بِهِ (٢)، فَأَعَانَتْهُمَا عَلَى رَأْيِهِمَا،
فَأَطَاعَهُمْ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَخَرَجُوا قِبَلَ الْبَصْرَةِ
يَطْلُبُونَ بِدَمِ ابْنِ عَفَّانَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فِي أُنَاسِ مِنْ قُرَيْشٍ كَلَّمُوا أَهْلَ
الْبَصْرَةِ، وَحَدَّثُوهُمْ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَّهُمْ
جَاءُوا تَائِبِينَ مِمَّا كَانُوا غَلَوْا بِهِ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ،
فَأَطَاعَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاعْتَزَلَ الْأَحْنَفُ مِنْ
تَمِيمَ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْقَيْسِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِعَامَّةِ
مَنْ أَطَاعَه، وَرَكِبَتْ عَائِشَةُ جَمَلًا لَهَا يُقَالُ لَهُ عَسْكَرٌ، وَهِيَ
فِي هَوْدَجٍ قَدْ أَلْبَسَتْهُ الدُّفُوفَ يَعْنِي جُلُودَ الْبَقَرِ، فَقَالَتْ:
إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ يَحْجُزَ بَيْنَ النَّاسِ مَكَانِي، قَالَتْ: وَلَمْ
أَحْسِبْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ، وَلَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ لَمْ
أَقِفْ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ
(١) في الأصل: «أمر»، وهو مخالف للسياق.
* [٣/
٩٠ أ].
(٢)
العبارة غير متسقة، ولكن كذا وقعت في الأصل.
أَبَدًا، قَالَتْ: فَلَمْ يَسْمَعِ
النَّاسُ كَلَامِي، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيَّ، وَكَانَ الْقِتَال، فَقُتِلَ
يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ مِنْ قُرَيْشٍ كُلُّهُمْ يَأْخُذُ بِخِطَامِ جَمَلِ
عَائِشَةَ حَتَّى لَا تُقْتَلَ، ثُمَّ احْتَمَلُوا الْهَوْدَجَ حَتَّى أَدْخَلُوهُ
مَنْزِلًا مِنْ تِلْكَ الْمَنَازِلِ، وَجُرِحَ مَرْوَانُ جِرَاحًا شَدِيدَةً،
وَقُتِلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ بَعْدَ
ذَلِكَ بِوَادِي السِّبَاعِ، وَقَفَلَتْ عَائِشَةُ وَمَرْوَانُ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ
قُرَيْشٍ، فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَانْطَلَقَتْ عَائِشَةُ فَقَدِمَتْ مَكَّةَ،
فَكَانَ مَرْوَانُ وَالْأَسْوَدُ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَلَى الْمَدِينَةِ
وَأَهْلِهَا، يَغْلِبَانِ عَلَيْهَا، وَهَاجَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ، فَكَانَتْ بُعُوثُهُمَا تَقْدُمُ الْمَدِينَةَ، وَتَقْدُمُ مَكَّةَ
لِلْحَجِّ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ فَهُوَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ أَيامَ الْحَجِّ
لِلنَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهَا أَرْسَلَتْ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى
أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا لِلأخْرَى: تَعَالَيْ نَكْتُبْ إِلَى
مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٍّ أَنْ يُعْتِقَا مِنْ هَذِهِ الْبُعُوثِ الَّتِي تَرُوعُ
النَّاسَ، حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَتْ أُمُّ
حَبِيبَةَ: كَفَيْتُكِ أَخِي مُعَاوِيَةَ، وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كَفَيْتُكِ
عَلِيًّا، فَكَتَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى صاحِبِهَا، وَبَعَثَتْ
وَفْدًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، فَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَأَطَاعَ أُمَّ
حَبِيبَةَ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَهَمَّ أَنْ يُطِيعَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَنَهَاهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ بُعُوثُهُمَا وَعُمَّالُهُمَا
يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ رحمه الله،
ثُمَّ اجْتَمَعَ النِّاسُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَرْوَانُ وَابْنُ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ يَغْلِبَانِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ،
وَكَانَتْ مِصْرُ فِي سُلْطَانِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَّرَ عَلَيْهَا
قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصارِيَّ، وَكَانَ حَامِلَ رَايَةِ
الْأَنْصَارِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ، وَكَانَ قَيْسٌ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَا غَلَبَ
عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْفِتْنَةِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
جَاهِدَيْنِ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْ مِصْرَ، وَيَغْلِبَانِ عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ
قَدِ امْتَنَعَ مِنْهُمَا بِالدَّهَاءِ وَالْمَكِيدَةِ، فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى
أَنْ يَفْتَحَا * مِصرَ حَتَّى كَادَ مُعَاوِيَةُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ قِبَلِ
عَلِيٍّ، قَالَ: فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُحَدِّثُ رَجَالًا مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ
مِنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُ: مَا ابْتَدَعْتُ مِنْ مَكِيدَةٍ قَطُّ أَعْجَبَ عِنْدِي
مِنْ مَكِيدَةٍ كَايَدْتُ بِهَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ قِبَلِ
* [٣/ ٩٠ ب].
عَلِيٍّ وَهُوَ بِالْعِرَاقِ حِينَ
امْتَنَعَ مِنِّي قَيْسٌ، فَقُلْتُ لِأَهْلِ الشَّامِ: لَا تَسُبُّوا قَيْسًا،
وَلَا تَدْعُونِي إِلَى غَزْوِهِ، فَإِنَّ قَيْسًا لَنَا شِيعَةٌ، تَأْتِينَا
كُتُبُهُ وَنَصِيحَتُه، أَلَا تَرَوْنَ مَا يَفْعَلُ بِإِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ
عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ خَرِبْتَا، يُجْرِي عَلَيْهِمْ أُعْطِيَتَهُمْ
وَأَرْزَاقَهُمْ، وَيُؤَمِّنُ سِرْبَهُمْ، وَيُحْسِنُ إِلَى كُلِّ رَاغِبٍ قَدِمَ
عَلَيْهِ، فَلَا نَسْتَنْكِرُهُ فِي نَصِيحَتِهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَطَفِقْتُ
أَكْتُبُ بِذَلِكَ إِلَى شِيعَتِي مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مِنْ
جَوَاسِيسِ عَلِيٍّ الَّذِينَ هَدَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ عَلِيًّا وَنَمَاهُ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، اتَّهَمَ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَكَتَبَ إِلَيْهِ
بِأَمْرِهِ بِقِتَالِ أَهْلِ خَرِبْتَا - وَأَهْلُ خَرِبْتَا يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ
آلَافٍ، فَأَبَى قَيْسٌ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ أَنَّهُمْ
وُجُوهُ أَهْلِ مِصْرَ وَأَشْرَافُهُمْ وَذَوُو الْحِفَاظِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَضوا
مِنِّي بِأَنْ أُؤَمِّنَ سِرْبَهُمْ، وَأُجْرِي عَلَيْهِمْ أُعْطِيَاتِهِمْ
وَأَرْزَاقَهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَوَاهُمْ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَسْتُ
مُكَايِدَهُمْ بِأَمْرٍ أَهْوَنَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ مِنْ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ
بِهِمُ الْيَوْمَ، وَلَوْ دَعَوْتُهُمْ إِلَى قِتَالِي كَانُوا قَرَنَّاهُمْ
أَسْوَدَانِ (١) الْعَرَبِ وَفِيهِمْ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ
مَخْلَدٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ خَدِيجٍ الْخَوْلَانِيِّ، فَذَرْنِي وَرَأْيِي
فِيهِمْ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أُدَارِي مِنْهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ عَلِيٌّ
إِلَّا قِتَالَهُمْ، فَأَبَى قَيْسٌ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَكَتَبَ قَيْسٌ إِلَى
عَلِيٍّ: إِنْ كُنْتَ تَتَّهِمُنِي فَاعْتَزِلْنِي عَنْ عَمَلِكَ، وَأَرْسِلِ
إِلَيْهِ غَيْرِي، فَأَرْسَلَ الْأَشْتَرَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، حَتَّى إِذَا
بَلَغَ الْقُلْزُمَ شَرِبَ بِالْقُلْزُمِ شَرْبَةً مِنْ عَسَلٍ، فَكَانَ فِيهَا
حَتْفُه، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ، فَلَمَّا بَلَغَتْ عَلِيًّا
وَفَاةُ الْأَشْتَرِ، بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ،
فَلَمَّا حُدِّثَ بِهِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَادِمًا أَمِيرًا عَلَيْهِ، تَلَقَّاهُ
فَخَلَا بِهِ، وَنَاجَاه، وَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ امْرِئٍ لَا
رَأْيَ لَهُ فِي الْحَرْبِ، وإِنَّهُ لَيْسَ عَزْلُكُمْ إِيَّايَ بِمَانِعِي أَنْ
أَنْصحَ لَكُمْ، وإِنِّي مِنْ أَمْرِكُمْ عَلَى بَصيرَةٍ، وإنَي أَدُلُّكَ عَلَى
الَّذِي كُنْتُ أُكَايِدُ بِهِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَأَهْلَ
خَرْبِتَا فَكَايِدْهُمْ بِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ كَايَدْتَهُمْ بِغَيْرِهِ تَهْلَكْ.
فَوَصَفَ لَهُ قَيْسٌ الْمُكَايَدَةَ الَّتِي كَايَدَهُمْ بِهَا، فَاغْتَشَّهُ
(١) قوله: «كانوا قرناهم أسودان» غير واضح
المعنى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
وَخَالَفَهُ فِي كُلِّ شَيءٍ أَمَرَهُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ مِصْرَ، خَرَجَ قَيْسٌ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَأَخَافَهُ مَرْوَانُ
وَالْأَسْوَدُ بْنُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، حَتَّى إِذَا خَافَ أَنْ يُؤْخَذَ
وَيُقْتَلَ رَكِبَ رَاحِلَتَه، فَظَهَرَ إِلَى عَلِيٍّ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ
إِلَى مَرْوَانَ وَالْأَسْوَدِ بْنِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ يَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمَا
وَيَقُولُ: أَمْدَدْتُمَا عَلِيًّا بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَبِرَأْيِهِ
وَمُكَايَدَتِهِ فَوَاللَّهِ لَوْ أَمْدَدْتُمَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ
مَا كَانَ ذَلِكَ بِأَغْيظَ لِي مِنْ إِخْرَاجِكُمَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ إِلَى
عَلِيٍّ، فَقَدِمَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عَلِيٍّ، فَلَمَّا بَانَهُ الْحَدِيث،
وَجَاءَهُمْ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَرَفَ عَلِيٌّ أَنَّ قَيْسَ بْنَ
سَعْدٍ كَانَ يُدَارِي مِنْهُمْ أُمُورًا عِظَامًا مِنَ الْمُكَايَدَةِ الَّتِي
قَصُرَ عَنْهَا رَأْيُ عَلِيٍّ وَرَأْيُ مَنْ كَانَ يُؤَازِرُهُ عَلَى عَزَلِ
قَيْسٍ، فَأَطَاعَ عَلِيٌّ قَيْسًا فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَجَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَةِ
أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ كَانَ بِأَذْرَبِيجَانَ (١) وَأَرْضِهَا، وَعَلَى
شُرْطَةِ الْخَمْسِينَ الَّذِينَ * انْتُدِبُوا لِلْمَوْتِ، وَبَايَعَ أَرْبَعُونَ
أَلْفًا كَانُوا بَايَعُوا عَلِيًّا عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَزَلْ قَيْسُ بْنُ
سَعْدٍ يَسُدُّ ذَلِكَ الثَّغْرَ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، وَاسْتَخْلَفَ أَهْلُ
الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى الْخِلَافَةِ، وَكَانَ الْحَسَنُ لَا
يُرِيدُ الْقِتَالَ، وَلكنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مَا
اسْتَطَاعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ وَيُبَايِع،
فَعَرَفَ الْحَسَنُ أَنَّ قَيسَ بْنَ سَعْدٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ،
فَنَزَعَه، وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسٍ، فَلَمَّا
عَرَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الَّذِي يُرِيدُ الْحَسَنُ أَنْ
يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ، كَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ
الْأَمَانَ، وَيَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي أَصَابَ،
فَشَرَطَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ عَامِرٍ فِي خَيْلٍ
عَظِيمَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عُبَيْدُ اللَّهِ لَيْلًا، حَتَّى لَحِقَ بِهِمْ،
وَتَرَكَ جُنْدَهُ الَّذِينَ هُوَ عَلَيْهِمْ لَا أَمِيرَ لَهُمْ، وَمَعَهُمْ
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، فَأَمَّرَتْ شُرْطَةُ الْخَمْسِينَ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ،
وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى قِتَالِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
حَتَّى يَشْتَرِطَ لِشِيعَةِ عَلِيٍّ وَلِمَنْ كَانَ اتَّبَعَهُ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَمَا أَصَابُوا مِنَ الْفِتْنَةِ،
(١) أذربيجان: بلد شمال غرب إيران شرقي
أرمينية، مطلة على بحر قزوين شرقًا. (انظر: أطلس الحديث النبوي) (ص ٢٨).
* [٣/
٩١ أ].
فَخَلَصَ مُعَاوِيَةُ حِينَ فَرَغَ
مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ إِلَى مُكَايَدَةِ رَجُلٍ هُوَ أَهَمُّ
النَّاسِ عِنْدَهُ مَكِيدَة، وَعِنْدَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، فَنَزَلَ بِهِمْ
مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو وَأَهْلُ الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَيُرْسِلُ مُعَاوِيَةُ
إِلَى قَيْسٍ، وَيُذَكِّرُهُ اللَّهَ، وَيَقُولُ: عَلَى طَاعَةِ مَنْ
تُقَاتِلُنِي؟ وَيَقُولُ: قَدْ بَايَعَنِي الَّذِي تُقَاتِلُ عَلَى طَاعَتِهِ،
فَأَبَى قَيْسٌ أَنْ يَلِينَ لَهُ حَتَّى أَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ بِسِجِلٍّ قَدْ
خَتَمَ لَهُ فِي أَسْفَلِهِ، فَقَالَ: اكْتُبْ فِي هَذَا السِّجِلِّ، فَمَا
كَتَبْتَ فَهُوَ لَكَ، فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: لَا تُعْطِهِ هَذَا
وَقَاتِلْه، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ -: عَلَى
رِسْلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّا لَنْ نَخْلُصَ إِلَى قَتْلِ
هَؤُلَاءِ حَتَّى يُقْتَلَ عَدَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَمَا خَيْرُ
الْحَيَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُهُ حَتَّى لَا أَجِدَ
مِنْ ذَلِكَ بُدًّا، فَلَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ السِّجِلَّ
اشْتَرَطَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ لِنَفْسِهِ وَلِشِيعَةِ عَلِيٍّ الْأَمَانَ عَلَى
مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَسْأَلْ مُعَاوِيَةَ فِي
ذَلِكَ مَالًا، فَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَةُ مَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ قَيْسٌ
وَمَنْ مَعَهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَكَانَ يُعَدُّ فِي الْعَرَبِ حَتَّى ثَارَتِ
الْفِتْنَةُ الْأُولَى خَمْسَةٌ يُقَالُ لَهُمْ: ذَوُو رَأْيِ الْعَرَبِ
وَمَكِيدَتُهُمْ، يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو، وَيُعَدُّ مِنَ
الْأَنْصَارِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَيُعَدُّ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَيُعَدُّ مِنْ ثَقِيفَ الْمُغِيرَةُ
بْنُ شُعْبَةَ، فَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ مِنْهُمْ رَجُلَانِ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ مُعْتَزِلًا بِالطَّائِفِ
وَأَرْضِهَا، فَلَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ فَاجْتَمَعَا بِأَذْرُحَ، وَافَاهُمَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَأَرْسَلَ الْحَكَمَانِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، وإلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَوَافَى رِجَالٌ (١) كَثِيرٌ
مِنْ قُرَيْشٍ وَوَافَى مُعَاوِيَةُ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَوَافَى أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَهُمَا الْحَكَمَانِ، وَأَبَى عَلِيٌّ
وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ يُوَافُوا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
لِرِجَالٍ مِنْ ذَوِي رَأْيِ أَهْلِ قُرَيْشٍ: هَلْ تَرَوْنَ أَحَدًا يَقْدِرُ
عَلَى أَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَعْلَمَ: أَيَجْتَمِعُ هَذَانِ الْحَكَمَانِ أَمْ
لَا؟ فَقَالُوا لَهُ: لَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ، قَالَ: فَوَاللهِ
إِنِّي لأَظُنُّنِي سَأَعْلَمُهُ مِنْهُمَا حِينَ أَخْلُو بِهِمَا
فَأُرَاجِعُهُمَا، فَدَخَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَبَدَأَ بِهِ، فَقَالَ:
(١) في الأصل: «رجالا»، وهو خلاف الجادة.
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ،
أَخْبِرْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ: كَيْفَ تَرَانَا مَعْشَرَ الْمُعْتَزِلَةِ؟
فَإِنَّا قَدْ شَكَكْنَا * فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ تَبَيَّنَ لكُمْ فِي
هَذَا الْقِتَالِ، وَرَأَيْنَا نَسْتَأْنِي وَنَتَثَبَّتُ حَتَّى تَجْتَمِعَ
الْأُمَّةُ عَلَى رَجُلٍ، فَنَدْخُلَ فِي صَالِحِ مَا دَخَلَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ؟
فَقَالَ عَمْرٌو: أَرَاكُمْ مَعْشَرَ الْمُعْتَزِلَةِ خَلْفَ الْأَبْرَارِ،
وَمَعْشَرَ الْفُجَّارِ، فَانْصَرَفَ الْمُغِيرَة، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ غَيْرِ
ذَلِكَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَخَلَا بِهِ، فَقَالَ
لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِعَمْرٍو، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَرَاكُمْ أَثْبَتَ
النَّاسِ رَأْيًا، وَأَرَى فِيكُمْ بَقِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ، فَانْصَرَفَ فَلَمْ
يَسْأَلْهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَقِيَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قَالَ
لَهُمْ مَا قَالَ مِنْ ذَوِي رَأْيِ قُرَيْشٍ، قَالَ: أُقْسِمُ لكُمْ لَا
يَجْتَمِعُ هَذَانِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَيَدْعُوَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إِلَى رَأْيِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْحَكَمَانِ، وَتَكَلَّمَا خَالِيَيْنِ،
فَقَالَ عَمروٌ: يَا أَبَا مُوسَى، أَرَأَيْتَ أَوَّلَ مَا نَقْضِي بِهِ فِي
الْحَقِّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْضِيَ لِأَهْلِ الْوَفَاءِ بِالْوَفَاءِ، وَلِأَهْلِ
الْغَدْرِ بِالْغَدْرِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَلَسْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلَ الشَّامِ قَدْ وَافَوْا لِلْمَوْعِدِ الَّذِي
وَعَدْنَاهُمْ إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: فَاكْتُبْهَا، فَكَتَبَهَا أَبُو مُوسَى،
فَقَالَ عَمْرٌو: قَدْ أُخْلِصْتُ أَنَا وَأَنْتَ أَنْ نُسَمِّيَ رَجُلًا يَلِي
أَمْرَ هَذِهِ، فَسَمِّ يَا أَبَا مُوسَى، فَإِنِّي أَقْدِرُ عَلَى أَنْ
أُبَايِعَكَ عَلَى أَنْ تُبَايِعَنِي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أُسَمِّي عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنِ
اعْتَزَلَ، فَقَالَ عَمْروٌ: فَأَنَا أُسَمِّي لَكَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي
سُفْيَانَ، فَلَمْ يَبْرَحَا مِنْ مَجْلِسِهِمَا ذَلِكَ حَتَّى اخْتَلَفَا
وَاسْتَبَّا، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى: يَا
أَيُّهَا النَّاس، إِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَثَلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَثَلَ
الَّذِي قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ حَتَّى
بَلَغَ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٥، ١٧٦]،
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَيُّهَا النَّاس، إِنِّي وَجَدْتُ مَثَلَ
أَبِي مُوسَى مَثَلَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ حَتَّى بَلَغَ
﴿الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة:
٥]،
ثُمَّ كَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَ لِصَاحِبِهِ
إِلَى الْأَمْصَارِ.
* [٣/ ٩١ ب].
• [١٠٦٣٧] قال الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَالِمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ
بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَقَامَ مُعَاوِيَةُ عَشِيَّةً فَأَثْنَى
عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْد، فَمَنْ كَانَ
مُتَكَلِّمًا فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَلْيُطْلِعْ لِي قَرْنَه،، فَوَاللَّهِ لَا
يَطْلُعُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ، قَالَ:
يُعَرِّضُ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:
فَأَطْلَقْتُ حَبْوَتِي (١) فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُومَ إِلَيْهِ فَأَقُولَ:
يَتَكَلَّمُ فِيهِ رِجَالٌ قَاتِلُوكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ
خَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَتُسْفَكُ فِيهِ
الدِّمَاء، وَأُحْمَلُ فِيهِ عَلَى غَيْرِ رَأْيٍ، فَكَانَ مَا وَعَدَ اللَّهُ تبارك
وتعالى فِي الْجِنَانِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَلَمَّا انْطَلَقْتُ
إِلَى مَنْزِلِي أَتَانِي حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: مَا الَّذِي مَنَعَكَ
أَنْ تَتَكَلَّمَ حِينَ سَمِعْتَ الرَّجُلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ:
لَقَدْ أَرَدْتُ ذَلِكَ ثُمَّ خَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ
الْجَمْعِ، وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاء، وَأُحْمَلُ فِيهَا عَلَى غَيْرِ رَأْيٍ،
فَكَانَ مَا وَعَدَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي الْجِنَانِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنَّكَ عُصِمْتَ، وَحُفِظْتَ مِمَّا خِفْتَ عُرَّتَهُ.
٢٦
- حَدِيثُ
الْحَجَّاجِ بن عِلَاطٍ
° [١٠٦٣٨]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ، قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ
عِلَاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا، وإِنَّ لِي بِهَا
أَهْلًا، وإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ *، فَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ
مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ ﷺ عَلَى أَنْ يَقُولَ مَا
شَاءَ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ، فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ
عِنْدَكِ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ ﷺ
وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ
(١) الاحتباء والحبوة: ضمّ الإنسان رجليه إلى
بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب.
(انظر: النهاية، مادة: حبا).
° [١٠٦٣٨]
[الإتحاف: حم حب ٧٥٩، حب ٤١٣٨].
* [٣/
٩٢ أ].
اسْتُبِيحُوا، وَأُصِيبَتْ
أَمْوَالُهُمْ، وَفَشَا ذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَانْقَمَعَ (١) الْمُسْلِمُونَ،
وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا، قَالَ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ
الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَعَدَ وَجَعَلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَقُومَ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مِقْسَمٍ،
قَالَ: فَأَخَذَ ابْنًا لَهُ يُشْبِهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَالُ لَهُ: قُثَم،
فَاسْتَلْقَى فَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: حِبِّي (٢) قُثَمْ،
شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ (٣)، نَبِيِّ رَبِّ ذِي النِّعَمْ، بِرَغْمِ
أَنْفِ مَنْ رَغِمْ.
قَالَ ثَابِتٌ: قَالَ أَنَسٌ: ثُمَّ
أَرْسَلَ غُلَامًا لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ: مَاذَا جِئْتَ بِهِ؟ وَمَاذَا تَقُومُ؟
فَمَا وَعَدَ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا جِئْتَ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ الْحَجَّاجُ
بْنُ عِلَاطٍ: اقْرَأْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ:
فَلْيُخَلِّ لِي بَعْضَ بُيُوتِهِ لِآتِيَه، فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا
يَسُرُّه، قَالَ: فَجَاءَهُ غُلَامُهُ فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ، قَالَ:
أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ، قَالَ: فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا حَتَّى
قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا، قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَه،
قَالَ: ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاج، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِ
افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ تبارك
وتعالى فِي أَمْوَالِهِمْ، وَاصطَفَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَفِيَّةَ ابْنَةَ حُيَيٍّ
فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَه،
أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَه،
وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَا كَانَ لِي هَاهُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ
بِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْت،
وَأَخْفِ عَنِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَجَمَعَتِ
امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِيٍّ وَمَتَاعٍ، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ
ثُمَّ انْشَمَرَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ
الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنْ قَدْ ذَهَبَ
يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ
شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ، قَالَ: أَجَلْ فَلَا يُخْزِينِي اللَّه، وَلَمْ
يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا، فَتَحَ اللهُ تبارك وتعالى خَيْبَرَ
عَلَى
(١) انقمع: انزجر. (انظر: المعجم العربي
الأساسي، مادة: قمع).
(٢)
الحِب: المحبوب. (انظر: النهاية، مادة: حبب).
(٣)
الشمم: ارتفاع قصبة الأنف واستواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا. وهو كناية عن
الرفعة والعلو وشرف النفس. (انظر: النهاية، مادة: شمم).
رَسُولِهِ ﷺ، وَجَرَتْ سِهَامُ
اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ،
فَإِنْ كَانَ لَكِ حَاجَةٌ فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ قَالَتْ: أَظُنُّكَ
وَاللَّهِ صَادِقًا، قَالَ: فَإِنِّي وَاللَّهِ صَادِقٌ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا
أَخْبَرْتُكِ، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ
يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لَا يُصيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ،
قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، قَدْ أَخْبَرَنِي
الْحَجاجُ بْنُ عِلَاطٍ أَنَّ: خَيْبَرَ فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ،
وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصطَفَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صفِيَّةَ
لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ عَنْهُ ثَلَاثًا، وإِنَّمَا جَاءَ
لِيَأْخُذَ مَالَه، وَمَا لَهُ مِنْ شَيءٍ هَاهُنَا، ثُمَّ يَذْهَبَ، قَالَ:
فَرَدَّ اللَّهُ تبارك وتعالى الْكَابَةَ (١) الَّتِي كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ
مُكْتَئِبًا حَتَّى أَتَوُا الْعَبَّاسَ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، وَسُرَّ
الْمُسْلِمُونَ، وَرَدَّ اللَّهُ تبارك وتعالى مَا كَانَ * مِنْ كَآبَةٍ أَوْ
غَيْظٍ أَوْ حُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
٢٧
- خُصُومَةُ
عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ
° [١٠٦٣٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَنَّهُ قَدْ حَضرَ الْمَدِينَةَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَإِنَّا قَدْ
أَمَرْنَا لَهُمْ بِرَضْحٍ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مُرْ بِذَلِكَ غَيْرِي، قَالَ: اقْبِضْهُ أَيُّهَا الْمَرْء،
قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ جَاءَهُ مَوْلَاه، فَقَالَ: هَذَا عُثْمَان،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالزُّبَيْرُ
بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ طَلْحَةَ أَمْ لَا؟
يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْكَ، قَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً،
ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: هَذَا الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ يَسْتَأْذِنَانِ عَلَيْكَ،
قَالَ: ائْذَنْ لَهُمَا، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ
الْعَبَّاس، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا
وَهُمَا يَوْمَئِذٍ
(١) الكآبة: تغير النفس بالانكسار من شدة
الهم والحزن. (انظر: النهاية، مادة: كأب).
* [٣/
٩٢ ب].
° [١٠٦٣٩]
[التحفة: خ م دس ٣٩١٥، خ م د ت س ٦٦١١، خ م د ت س ١٠٦٣١، خ م د ت س ١٠٦٣٣، خ (م)
١٠٦٣٤، د ١٠٦٣٥، د ١٠٦٣٦، د ١٠٦٣٨].
يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ (١)
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ الْقَوْمُ:
اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَرِحْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِنْ صَاحِبِهِ، فَقَدْ طَالَتْ خُصومَتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْشُدُكُمُ
اللَّهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْض، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا نُورَث، مَا تَرَكنَا صَدَقَةٌ»؟ قَالُوا: قَدْ،
قَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَا: نَعَمْ، قَالَ
لَهُمْ: فَإِنِّي سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ هَذَا الْفَيْءَ: إِنَّ اللَّهَ تبارك
وتعالى، خَصَّ نَبِيَّهُ ﷺ مِنْهُ بِشَيءٍ لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَه، فَقَالَ ﴿وَمَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ (٢) عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ (٣) وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ﴾ [الحشر: ٦]، فَكَانَتْ هَذِهِ
لِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَاصَّةً، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا (٤) دُونَكُمْ،
وَلَا اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ قَسَّمَ وَاللَّهِ بَيْنَكُمْ،
وَبَثَّهَا (٥) فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَال، فَكَانَ يُنْفِقُ
عَلَى أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً، قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ: وَيَحْبِسُ قُوتَ (٦)
أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَجْعَلَ مَالِ
اللَّهِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ
(٧) رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بعْدَه، أَعْمَلُ فِيهِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ فِيهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسٍ، فَقَالَ:
وَأَنْتُمَا تَزْعُمَانِ أَنِّي فِيهَا ظَالِمٌ فَاجِرٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَنِّي فِيهَا صادِقٌ بَارٌّ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ وُلِّيتُهَا بَعْدَ أَبِي
بَكْرٍ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، فَعَمِلْتُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَنْتُمَا تَزْعُمَانِ أَنِّي فِيهَا ظَالِمٌ
فَاجِرٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ تَابِعٌ لِلْحَقِّ (٨)،
ثُمَّ جِئْتُمَانِي، جَاءَنِي هَذَا يَعْنِي الْعَبَّاسَ يَسْأَلُنِي مِيرَاثَهُ
مِنِ ابْنِ أَخِيهِ،
(١) الفيء: ما حصل للمسلمين من أموال الكفار
من غير حرب ولا جهاد. (انظر: النهاية، مادة: فيأ).
(٢)
أوجفتم: السير السريع. (انظر: غريب السجستاني) (ص ٨٣).
(٣)
ركاب: هي الإبل خاصة. (انظر: التبيان في تفسير غريب القرآن) (ص ٣١٥).
(٤)
الحوز: الجمع والقبض. (انظر: النهاية، مادة: حوز).
(٥)
البث: التفريق. (انطر: المشارق) (١/ ٧٨).
(٦)
القوت: ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام. (انظر: الصحاح، مادة: قوت).
(٧)
الولي: التابع المحب. (انظر: النهاية، مادة: ولا).
(٨)
ليس في الأصل، وأثبتناه من «مستخرج أبي عوانة» (٦٦٦٨)، «صحيح ابن حبان» (٦٦٤٩)،
«السنن الكبرى» للبيهقي (١٢٨٥٥)، جميعهم من طريق المصنف، به.
وَجَاءَنِي هَذَا يَعْنِي عَلِيًّا
يَسْأَلُنِي مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لكمَا: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ قالَ: «لَا نُورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ
أَدْفَعَهَا إِلَيْكُمَا، فَأَخَذْتُ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ
وَأَنَا مَا وُلِّيتُهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا عَلَى ذَلِكَ،
أَتُرِيدَانِ مِنَّا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ
السَّمَاءُ وَالْأَرْض، لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِقَضَاءٍ غَيْرِ هَذَا، إِنْ
كُنْتُمَا عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، قَالَ: فَغَلَبَهُ عَلِيٌّ
عَلَيْهَا، فَكَانَتْ بِيَدِ عَلِيٍّ، ثُمَّ بِيَدِ حَسَنٍ، ثُمَّ بِيَدِ
حُسَيْنٍ، ثُمّ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، ثُمَّ بِيَدِ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ،
ثُمَّ بِيَدِ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ، قَالَ مَعْمَرٌ: ثُمَّ بِيَدِ * عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ.
° [١٠٦٤٠]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ، قَالَا:
إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ أَرْسَلْنَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَ
مِيرَاثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ عَائِشَةُ: أَلَا
تَتَّقِينَ اللَّهَ؟ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا نُورَث، مَا تَرَكنَا
صَدَقَةٌ»؟ قَالَ: فَرَضينَ بِقَوْلِهَا، وَتَرَكْنَ ذَلِكَ.
° [١٠٦٤١]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكَ (١)،
وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا نُورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ
مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ هَذَا الْمَالِ»، وَإنِّي وَاللَّهِ لَا أَدعُ أَمْرًا رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْنَعُهُ إِلَّا صَنَعْتُه، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَة،
فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَدَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلًا،
وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ
النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ حُبْوَةٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ انْصرَفَتْ
وُجُوهُ النَّاسِ عَنْه، فَمَكَثَتْ فَاطِمَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ.
* [٣/ ٩٣ أ].
° [١٠٦٤٠]
[التحفة: د تم ١٦٤٠٧، خ م دس ١٦٥٩٢].
(١)
فدك: قرية من شرقي خيبر، تعرف اليوم بالحائط. (انظر: المعالم الجغرافية) (ص ٢٣٥).
° [١٠٦٤٢] قال مَعْمَرٌ: فَقَالَ رَجُلٌ
لِلزُّهْرِيِّ: فَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِيٌّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَا
أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى بَايَعَهُ عَلِيٌّ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ
انْصِرَافَ وُجُوهِ النَّاسِ عَنْه، أَسْرَعَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي بَكْرٍ
فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا وَلَا تَأْتِنَا مَعَكَ بِأَحَدٍ
وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُ عُمَرُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ شِدَّتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ:
لَا تَأْتِهِمْ وَحْدَكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ
وَحْدِي، وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِي؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ
فَدَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَقَدْ جَمَعَ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَه، فَقَامَ عَلِيٌّ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْد، يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نُبَايِعَكَ إِنْكَارٌ
لِفَضِيلَتِكَ، وَلَا نَفَاسَةٌ (١) عَلَيْكَ بِخَيْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ،
وَلَكِنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ حَقًّا، فَاسْتَبْدَدْتُمْ بِهِ
عَلَيْنَا، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ قَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحَقَّهُمْ،
فَلَمْ يَزَلْ يَذْكُرُ ذَلِكَ حَتَّى بَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا صَمَتَ
عَلِيٌّ تَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْد، فَوَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
أَحْرَى (٢) إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَاللَّهِ مَا أَلَوْتُ فِي
هَذِهِ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عَنِ الْخَيْرِ،
وَلكنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا نُورَث، مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي هَذَا الْمَالِ»، وإِنِّي
وَاللَّهِ لَا أَذْكُرُ أَمْرًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ، إِلَّا
صَنَعْتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةُ
لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ،
ثُمَّ عَذَرَ عَلِيًّا بِبَعْضِ مَا اعْتَذَرَ بِهِ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ
فَعَظَّمَ مِنْ حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَفَضِيلَتِهِ، وَسَابِقِيتِهِ، ثُمَّ مَضَى
إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَه، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالُوا:
أَصبْتَ وَأَحْسَنْتَ، قَالَتْ: فَكَانُوا قَرِيبًا إِلَى عَلِى حِينَ قَارَبَ
الْأَمْرَ، وَالْمَعْرُوفَ.
٢٨
- حَدِيثُ
أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ رضي الله عنه
• [١٠٦٤٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطابِ لَا يَتْرُكُ
(١) النفاسة: البخل بالشيء على غيرك، وأن لا
تراه له أهلا. (انظر: النهاية، مادة: نفس).
(٢)
أحرى: أولى وأجدر. (انظر: جامع الأصول) (١١/ ٤٣٩).
• [١٠٦٤٣]
[شيبة: ٨٤٧٤].
أَحَدًا * مِنَ الْعَجَمِ يَدْخُلُ
الْمَدِينَةَ، فَكَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى عُمَرَ أَنَّ عِنْدِي
غُلَامًا نَجَّارًا نَقَّاشًا حَدَّادًا، فِيهِ مَنَافِعُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ،
فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُرْسِلَ بِهِ فَعَلْت، فَأَذِنَ لَه،
وَكَانَ قَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، وَكَانَ يُدْعَى أَبَا
لُؤْلُوَّةَ، وَكَانَ مَجُوسِيًّا فِي أَصْلِهِ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ
إِنَّهُ أَتَى عُمَرَ يَشْكُو إِلَيْهِ كَثْرَةَ خَرَاجِهِ (١)، فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: مَا تُحْسِنُ مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَجَّارٌ نَقَّاشٌ حَدَّادٌ،
فَقَالَ عُمَرُ: مَا خَرَاجُكَ بِكَبِيرِ فِي كُنْهِ مَا تُحْسِنُ مِنَ
الْأَعْمَالِ، قَالَ: فَمَضَى وَهُوَ يَتَذَمَّر، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ
قَاعِدٌ، فَقَالَ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَقُولُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَصنَعَ
رَحًى تَطْحَنُ بِالرِّيحِ فَعَلْتُ؟ فَقَالَ أَبُو لُؤْلُوَّةَ: لأَصْنَعَنَّ
رَحًى يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاس، قَالَ: وَمَضَى أَبُو لُؤْلُوَّةَ، فَقَالَ
عُمَرُ: أَمَا الْعَبْد، فَقَدْ أَوْعَدَنِي آنِفًا، فَلَمَّا أَزْمَعَ بِالَّذِي
أَزْمَعَ بِهِ، أَخَذَ خِنْجَرًا فَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَعَدَ لِعُمَرَ فِي
زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عُمَرُ يَخْرُجُ بِالسَّحَرِ
فَيُوقِظُ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ، فَمَرَّ بِهِ فَثَارَ إِلَيْهِ فَطَعَنَهُ
ثَلَاثَ طَعَنَاتٍ: إِحْدَاهُنَّ تَحْتَ سُرَّتِهِ، وَهِيَ الَّتِي قَتَلَتْه،
وَطَعَنَ اثْنَي عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ
سِتَّةٌ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، ثُمَّ نَحَرَ نَفْسَهُ بِخِنْجَرِهِ فَمَاتَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ غَيْرَ
الزُّهْرِيِّ، يَقُولُ: أَلْقَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَيْهِ
بُرْنُسًا، فَلَمَّا أَنِ اغْتَمَّ فِيهِ نَحَرَ نَفْسَهُ.
قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ:
فَلَمَّا خَشِيَ عُمَرُ الْنَّزْفَ، قَالَ: لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ، قَالَ: فَاحْتَمَلْنَا عُمَرَ أَنَا وَنَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى
أَدْخَلْنَاهُ مَنْزِلَه، فَلَمْ يَزَلْ فِي غَشْيَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى أَسْفَرَ،
فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّكُمْ لَنْ تُفْزِعُوهُ بِشَيءٍ إِلَّا بِالصَّلَاةِ، قَالَ:
فَقُلْنَا: الصَّلَاةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَصَلَّى الناسُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ: قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَا حَظَّ
* [٣/ ٩٣ ب].
(١)
الخراج: ما يخرج ويحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة أو ملكًا. (انظر:
التاج، مادة: خرج).
فِي الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ تَرَكَ
الصَّلَاةَ، قَالَ: وَرُبَّمَا، قَالَ مَعْمَرٌ: أَضَاعَ الصَّلَاةَ ثُمَّ صَلَّى
وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ قَالَ لِي عُمَرُ:
اخْرُجْ فَاسْأَلِ النَّاسَ مَنْ طَعَنَنِي؟ فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا النَّاسُ
مُجْتَمِعُونَ، فَقُلْتُ: مَنْ طَعَنَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالُوا:
طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ عَدُوُّ اللَّهِ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،
فَرَجَعْتُ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ يَسْتَأْنِي أَنْ آتِيَهُ بِالْخَبَرِ، فَقُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، طَعَنَكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو لُؤْلُؤَةَ، فَقَالَ
عُمَرُ: اللَّهُ أكبَر، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ قَاتِلِي
يُخَاصِمُنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سَجْدَةٍ سَجَدَهَا لِلَّهِ، قَدْ كُنْتُ
أَظُنُّ أَنَّ الْعَرَبَ لَنْ تَقْتُلَنِي، ثُمَّ أَتَاهُ طَبِيبٌ فَسَقَاهُ
نَبِيذًا فَخَرَجَ مِنْه، فَقَالَ النَّاسُ: هَذِهِ حُمْرَةُ الدَّمِ، ثُمَّ
جَاءَهُ آخَر، فَسَقَاهُ لَبَنَا فَخَرَجَ اللَّبَنُ يَصْلِد، فَقَالَ لَهُ
الَّذِي سَقَاهُ اللَّبَنَ: اعْهَدْ عَهْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ
عُمَرُ: صَدَقَنِي أَخُو بَنِي مُعَاوِيَةَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَالِمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ثُمَّ دَعَا النَّفَرَ السِّتَّةَ: عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ،
وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَالزبَيْرَ، وَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ طَلْحَةَ
أَمْ لَا، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فِي النَّاسِ فَلَمْ أَرَ فِيهِمْ شِقَاقًا،
فَإِنْ يَكُنْ شِقَاقٌ فَهُوَ فِيكُمْ، قُومُوا فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ أَمِّرُوا
أَحَدَكُم.
• [١٠٦٤٤]
قال مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ *، قَالَ: أَتَانِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ مِنْ أَيَّامِ الشُّورَى بَعْدَمَا
ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ الله، فَوَجَدَنِي نَائِمَا، فَقَالَ:
أَيْقِظُوه، فَأَيْقَظُونِي، فَقَالَ: أَلَا أَرَاكَ (١) نَائِمًا، وَاللَّهِ مَا
اكْتَحَلْتُ بِكَثِيرِ نَوْمٍ مُنْذُ هَذِهِ الثَّلَاثِ، اذْهَبْ فَادع لِي
فُلَانًا وَفُلَانًا نَاسًا مِنْ أَهْلِ السَّابِقَةِ مِنَ الْأَنْصارِ
فَدَعَوْتُهُمْ فَخَلَا بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامُوا، ثُمَّ
قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا فَدَعَوْتُهُمْ،
فَنَاجَاهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي
عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ
قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَجَعَلَ يُنَاجِيهِ، فَمَا فَرَّقَ
بَيْنَهُمَا إِلَّا أَذَانُ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى صُهَيْبٌ
• [١٠٦٤٤] [التحفة: خ ٩٧٢٦].
* [٣/
٩٤ أ].
(١)
بعده في الأصل: «الله».
بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ
اجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْد، فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي النَّاسِ، فَلَمْ
أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلَا تَجْعَلْ يَا عَلِيُّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا،
ثُمَّ قَالَ: عَلَيْكَ يَا عُثْمَان، عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ ﷺ أنْ تَعْمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ،
وَبِمَا عَمِلَ بِهِ الْخَلِيفَتَانِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ: نَعَمْ، فَمَسَحَ
عَلَى يَدِهِ فَبَايَعَه، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاس، ثُمَّ بَايَعَهُ عَلِيّ ثُمَّ
خَرَجَ، فَلَقِيَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: خُدِعْتَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَوَخَدِيعَةٌ هِيَ؟ قَالَ: فَعَمِلَ بِعَمَلِ صَاحِبَيْهِ سِتًّا لَا يَخْرِمُ
(١) شَيْئًا إِلَى سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ رَقَّ وَضعُفَ فَغُلِبَ
عَلَى أَمْرِهِ.
• [١٠٦٤٥]
قال الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كِذْبَةَ قَطُّ، قَالَ:
حِينَ قُتِلَ عُمَرُ: انْتَهَيْتُ إِلَى الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ وَأَبِي
لُؤْلُؤَةَ وَهُمْ نَجِيٌّ (٢)، فبَغَتُّهُمْ فَثَارُوا وَسَقَطَ مِنْ بَيْنِهِمْ
خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ، نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
فَانْظُرُوا بِمَا قُتِلَ عُمَرُ؟ فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ خِنْجَرًا عَلَى
النَّعْتِ (٣) الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَخَرَجَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُشْتَمِلًا عَلَى السَّيْفِ حَتَّى أَتَى الْهُزمُزَانَ،
فَقَالَ: اصْحَبْنِي حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى فَرَسٍ لِي وَكَانَ الْهُرْمُزَانُ
بَصيرًا بِالْخَيْلِ، فَخَرَجَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَلَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ
بِالسَّيْفِ فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّ السَّيْفِ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه،
فَقَتَلَه، ثُمَّ أَتَى جُفَيْنَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَدَعَاهُ فَلَمَّا
أَشْرَفَ لَهُ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَصُلِبَ بَيْنَ (٤) عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أَتَى
ابْنَةَ أبِي لُؤْلُؤَةَ - جَارِيَةً صَغِيرَة تَدَّعِي الْإِسْلَامَ -
فَقَتَلَهَا، فَأَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَهْلِهَا، ثُمَّ
أَقْبَلَ بِالسَّيْفِ صَلْتًا (٥) فِي يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا
أَتْرُكُ فِي الْمَدِينَةِ سَبْيًا إِلَّا قَتَلْتُهُ وَغَيْرَهُمْ وَكَأَنَّهُ
يُعَرِّضُ بِنَاسٍ مِنَ
(١) الخرم: الترك والنقص، وأصله: العدول عن
الطريق. (انظر: المشارق) (١/ ٢٣٢).
(٢)
النجي: المخاطب والمحدث. (انظر: النهاية، مادة: نجا).
(٣)
النعت: وصف الشيء بما فيه. (انظر: النهاية، مادة: نعت).
(٤)
ليس في الأصل، واستدركناه من «غريب الحديث» للخطابي (٢/ ١٦٣) من حديث الدبري، عن
عبد الرزاق، به.
(٥)
الصلت: السيف مُجردا عن غمده. (انظر: النهاية، مادة: صلت).
الْمُهَاجِرِينَ فَجَعَلُوا
يَقُولُونَ لَهُ: أَلْقِ السَّيْفَ، وَيَأْبَى، وَيَهَابُونَهُ أَنْ يَقْرَبُوا
مِنْه، حَتَّى أَتَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ: أَعْطِنِي السَّيْفَ يَا
ابْنَ أَخِي، فَأَعْطَاهُ إِيَّاه، ثُمَّ ثَارَ إِلَيْهِ عُثْمَان، فَأَخَذَ
بِرَأْسِهِ فَتَنَاصيَا حَتَّى حَجَزَ النَّاسُ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا وَلِيَ
عُثْمَان، قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي فَتَقَ فِي
الْإِسْلَامِ مَا فَتَقَ يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَأَشَارَ عَلَيهِ
الْمُهَاجِرُونَ أَنْ يَقْتُلَه، وَقَالَ جَمَاعَة مِنَ النَّاسِ: أَقُتِلَ عُمَر
أَمْسِ وَتُرِيدُونَ أَنْ تُتْبِعُوهُ ابْنَهُ الْيَوْمَ؟ أَبْعَدَ اللَّهُ *
الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ قَالَ: فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا
الْأَمْرُ وَلَكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ
وَلَا سُلْطَانَ لَكَ، فَاصْفَحْ عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ:
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَلَى خُطْبَةِ عَمْرٍو، وَوَدَى عُثْمَانُ الرَّجُلَيْنِ
وَالْجَارِيَةَ.
• [١٠٦٤٦]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ
أَبَاهُ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ حَفْصَةَ إِنْ كَانَتْ لَمَنْ شَجَّعَ عُبَيْدَ
اللَّهِ عَلَى قَتْلِ الْهُزمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ.
• [١٠٦٤٧]
قال الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَوْ قَالَ:
ابْنُ خَلِيفَةَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ الْهُزمُزَانَ رَفَعَ يَدَهُ
يُصَلِّي خَلْفَ عُمَرَ.
• [١٠٦٤٨]
قال مَعْمَرٌ: وَقَالَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ: فَقَالَ عُثْمَانُ: أَنَا وَلِيُّ
الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ وَالْجَارِيَةِ، وإنِّي قَدْ جَعَلْتُهُمْ دِيَةً.
٢٩
- حَدِيثُ
الشُّورَى
• [١٠٦٤٩]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: دَعَا عُمَرُ - حِينَ طُعِنَ - عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ، قَالَ: وَأَحْسِبُه، قَالَ: وَسَعْدَ بْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ
عَنْدَهُمْ شِقَاقًا، فَإِنْ يَكُ شِقَاقٌ فَهُوَ فِيكُمْ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَكُمْ
إِنَّمَا يُؤَمِّرُونَ أَحَدَكُمْ أَيُّهَا الثَّلَاثَة، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى
شَيءٍ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَا عَلِيُّ فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْمِلْ بَنِي
هَاشِمٍ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ.
* [٣/ ٩٤ ب].
قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ غَيْرُ
الزُّهْرِيِّ: لَا تَحْمِلْ بَنِي أَبِي رُكَانَةَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ.
• [١٠٦٥٠]
قال مَعْمَرٌ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: وإِنْ كُنْتَ يَا عُثْمَانُ عَلَى شَيءٍ فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا
تَحْمِلْ بَنِي أَبِي مُعَيْط عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وإِنْ كُنْتَ عَلَى شَيءٍ
مِنْ أُمُورِ النَّاسِ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَاتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَحْمِلْ
أَقَارِبَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ أَمِّرُوا أَحَدَكُمْ،
قَالَ: فَقَامُوا لِيَتَشَاوَرُوا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَدَعَانِي
عُثْمَانُ فَتَشَاوَرَنِي وَلَمْ يُدْخِلْنِي عُمَرُ فِي الشُّورَى، فَلَمَّا
أكثَرَ أَنْ يَدْعُوَنِي، قُلْتُ: أَلَا تَتَّقُونَ اللهَ؟ أَتُوَّمِّرُونَ
وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَيّ بَعْدُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أَيْقَظْتُ عُمَرَ
فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: أَمْهِلُوا، لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، ثُمَّ
تَشَاوَرُوا، ثُمَّ أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فِي الثَّلَاثِ، وَاجْمَعُوا أُمَرَاءَ
الْأَجْنَادِ، فَمَنْ تَأَمَّرَكُمْ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَاقْتُلُوه، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ مَعَهُمْ،
لِأَنِّي قَلَّ مَا رَأَيْتُ عُمَرَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِلَّا كَانَ بَعْضَ
الَّذِي يَقُول، قَالَ الزهْرِيُّ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ اجْتَمَعُوا، فَقَالَ
لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لكُمْ مِنْكُمْ،
فَوَلَّوْهُ ذَلِكَ، قَالَ الْمِسْوَرُ: فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَاللهِ مَا تَرَكَ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَلَا ذَوِي غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ إِلَّا اسْتَشَارَهُمْ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ.
٣٠
- غَزْوَةُ
الْقَادِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا
° [١٠٦٥١]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَالزُّبَيْر، فَقُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ، قَبْلَ أَنْ يَمْضيَ ذَلِكَ الْجَيْش،
فَقَالَ أُسَامَةُ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ بُويعَ لَهُ وَلَمْ يَبْرَحْ (١)
أُسَامَةُ حَتَّى بُويعَ لِأَبِي بَكْرٍ (٢)، فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ
وَجَّهَنِي لِمَا وَجَّهَنِي لَه، وإِنِّي * أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ الْعَرَب،
فَإِنْ شِئْتَ كُنْتُ قَرِيبًا مِنْكَ حَتَّى تَنْظُرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا
كُنْتُ لِأَرُدَّ أَمْرًا أَمَرَ بِهِ
(١) البراح: مصدر قولك: برح مكانه، أي: زال
عنه وفارقه. (انظر: اللسان، مادة: برح).
(٢)
بعده في الأصل: «قام»، ونظنها مقحمة.
* [٣/
٩٥ أ].
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلكنْ إِنْ
شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِعُمَرَ فَافْعَلْ، فَأَذِنَ لَه، وَانْطَلَقَ أُسَامَةُ
بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أَتَى الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ:
فَأَخَذَتْهُمُ الضَّبَابَة، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَا يَكَادُ
يُبْصرُ صاحِبَه، قَالَ: فَوَجَدُوا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ،
قَالَ: فَأَخَذُوهُ يَدُلُّهُمُ الطرِيقَ حَيْثُ أَرَادُوا، وَأَغَارُوا عَلَى
الْمَكَانِ الَّذِي أُمِرُوا، قَالَ: فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّاسُ فَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: تَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدِ اخْتَلَفَتْ،
وَخَيْلُهُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا؟! قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ تبارك وتعالى بِذَلِكَ
عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ يُدْعَى بِالْإِمَارَةِ حَتَّى مَاتَ، يَقُولُونَ:
بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَنْزِعْهُ حَتَّى مَاتَ.
• [١٠٦٥٢]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ
نَزَعَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَأَمَّرَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِعَهْدِهِ وَهُوَ بِالشَّامِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَمَكَثَ
الْعَهْدُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ شَهْرَيْنِ لَا يُعَرِّفُهُ إِلَى خَالِدٍ
حَيَاءً مِنْه، فَقَالَ خَالِدٌ: أَخْرِجْ أَيُّهَا الرَّجُلُ عَهْدَكَ نَسْمَعُ
لَكَ وَنُطِيع، فَلَعَمْرِي لَقَدْ مَاتَ أَحَبُّ (١) الناسِ إِلَيْنَا وَوَلِيَ
أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيْنَا، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الْخَيْلِ.
• [١٠٦٥٣]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ
طَاوُسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
حَفْصَةَ وَنَوْسَاتُهَا (٢) تَنْطِفُ (٣)، فَقُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ
النَّاسِ مَا تَرَيْنَ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنَ الْأَمْرِ شَيء، قَالَتْ:
فَالْحَقْ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، وَالَّذِي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ
فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَة، فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى يَذْهَبَ، فَلَمَّا
تَفَرَّقَ الْحَكَمَانِ خَطَبَ مُعَاوِيَة، فَقَالَ: مَنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا
فَلْيُطْلِعْ قَرْنَهُ.
• [١٠٦٥٤]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
هِلَالٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ كَانَ عَلَى الْخَيْلِ قَيْسُ
بْنُ مَكْشُوحٍ الْعَبْسِيُّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ
(١) ليس في الأصل، وأثبتناه بدلالة السياق.
(٢)
النوسات: الذوائب. (انظر: النهاية، مادة: نوس).
(٣)
النطف: القطر. (انظر: النهاية، مادة: نطف).
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
الثَّقَفِى، وَعَلَى النَّاسِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ قَيْسٌ: قَدْ
شَهِدْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَيَوْمَ أَجْنَادِينَ، وَيَوْمَ عَبْسٍ، وَيَوْمَ
فَحْلٍ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ عَدِيدًا، وَلَا حَدِيدًا، وَلَا صَنْعَةَ
لِقِتَالِ، وَاللَّهِ مَا يُرَى طَرْفَاهُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ:
إِنَّ هَذَا زَبَدٌ (١) مِنْ زَبَدِ الشَّيْطَانِ، وإِنَّا لَوْ قَدْ حَمَلْنَا
عَلَيْهِمْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا أُلْفِيَنَّكَ (٢)
إِذَا حَمَلْتُ عَلَيْهِمْ بِرَجَّالَتِي أَنْ تَحْمِلَ عَلَمهِمْ بِخَيْلِكَ فِي
أَقْفِيَتِهِمْ، وَلكِنْ تَكُفُّ عَنَّا خَيْلَكَ وَاحْمِلْ عَلَى مَنْ يَلِيكَ،
قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَر، إِني لأَرَى الْأَرْضَ مِنْ
وَرَائِهِمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اجْلِسْ فَإِنَّ الْقِيَامَ وَالْكَلامَ
عِنْدَ الْقِتَالِ فَشَل، وإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيصَلِّ
فِي مَرْكَزِ رُمْحِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي هَازٌ دَابَّتِي ثَلَاثا، فَإِذَا
هَزَزْتُهَا الْمَرَّةَ الْأُولَى فَتَهَيَّئُوا، ثُمَّ إِذَا هَزَزْتُهَا
الثَّالِثَةَ فَتَهَيَّئُوا لِلْحَمْلَةِ، أَوْ قَالَ: احْمِلُوا فَإِنِّي
حَامِلٌ، قَالَ: فَهَزَّها الثالِثَةَ، ثُمَّ حَمَلَ وإِنَّ عَلَيْهِ
لَدِرْعَيْنِ، قَالَ: فَمَا وَصَّلْنَا لِنَفْسِهِ حَتَّى صَافَيَهُمْ
بِطَعْنَتَيْنِ وَفَلَّتْ عَيْنُه، وَكَانَ الْفَتْح، قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَكُونُوا رُكَامًا، فَمَا نَشَاءُ أَنْ نَأْخُذَ
بِرَجُلَيْنِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَنَقْتُلُهُ إِلَّا فَعَلْتُ.
٣١
- تَزْوِيج
فَاطِمَةَ رَحْمَةُ * اللَّهِ عَلَيْهَا
° [١٠٦٥٥]
عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي يَزِيدَ
الْمَدِينِيِّ، أَوْ أَحَدِهِمَا، شَكَّ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّ أَسْمَاءَ ابْنَةَ
عُمَيْسِ قَالَتْ: لَمَّا أُهْدِيَتْ فَاطِمَةُ إِلَى عَلِيٍّ لَمْ نَجِدْ فِي
بَيْتِهِ إِلَّا رَمْلَا مَبْسُوطًا، وَوِسَادَةً حَشْوُهَا لِيفٌ، وَجَرَّةً (٣)
وَكُوزًا، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عَلِيٍّ: «لَا تُحْدِثَن حَدَثًا»، أَوْ
قَالَ: «لَا تَقْرَبَنَّ أَهْلَكَ حَتَّى آتِيَكَ»، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ:
«أَثَمَّ أَخِي»؟ فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ وَهِيَ أُمُّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،
وَكَانَتْ حَبَشِيَّةً، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هُوَ
أَخُوكَ وَزَوَّجْتَهُ ابْنَتَكَ؟! وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ آخَى بَيْنَ
(١) الزبد: الرفد والعطاء. (انظر: النهاية،
مادة: زبد).
(٢)
ألفى الشيء: وجده وصادفه ولقيه. (انظر: النهاية، مادة: لفا).
* [٣/
٩٠ ب].
(٣)
الجرة: إناء من الفَخَّار، والجمع: جَرٌّ وجرار. (انظر: النهاية، مادة: جرر).
أَصْحَابِهِ وَآخَى بَيْنَ عَلِيٍّ
وَنَفْسِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَا أُمِّ أَيْمَنَ»، قَالَ: فَدَعَا
النَّبِيُّ ﷺ بإنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، فَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ،
ثُمَّ نَضَحَ صَدْرَ عَلِيٍّ وَوَجْهَه، ثُمَّ دَعَا فَاطِمَةَ، فَقَامَتْ
إِلَيْهِ تَعَثُرُ فِي مِرْطِهَا مِنَ الْحَيَاءِ، فَنَضَحَ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ
الْمَاءِ، وَقَالَ لَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا:
«أَمَا إِنِّي لَمْ آلُكِ، أَنْكَحْتُكِ أَحَبَّ أَهْلِي إِلَيَّ»، ثُمَّ رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَوَادًا (١) مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ (٢) أَوْ مِنْ وَرَاءِ
الْبَابِ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا»؟ قَالَتْ: أَسْمَاء، قَالَ: «أَسْمَاءُ (٣)
ابْنَةُ عُمَيْسٍ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَجِئْتِ
كَرَامَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مَعَ ابْنَتِهِ»؟ قَالَتْ: نَعَمْ، إِنَّ الْفَتَاةَ
لَيْلَةَ يُبْنَى بِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنِ امْرَأَةٍ تَكُونُ قَرِيبًا مِنْهَا
(٤)، إِنْ عَرَضتْ حَاجَة أَفْضَتْ بِذَلِكَ إِلَيْهَا، قَالَتْ: فَدَعَا لِي
دُعَاء إِنَّهُ لأَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: «دُونَكَ
أَهْلَكَ»، ثُمَّ خَرَجَ فَوَلَّى، قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَدْعُو لَهُمَا حَتَّى
تَوَارَى (٥) فِي حُجَرِهِ.
° [١٠٦٥٦]
عبد الرزاق، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ الْبَجَلِي، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ
خَالِدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ تُذْكَر لِرَسُولِ اللَّهِ
ﷺ فلَا يَذْكُرهَا أَحَل إِلَّا صَدَّ عَنْهُ حَتَّى يَئِسُوا مِنْهَا، فَلَقِيَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلِيًّا، فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَرَى رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ يحْبِسُهَا إِلَّا عَلَيْكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لِمَ تَرَى
ذَلِكَ؟ قَالَ: فَوَ اللهِ مَا أَنَا بِوَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ: مَا أَنَا
بِصَاحِبِ دُنْيَا يُلْتَمَسُ مَا عِنْدِي، وَقَدْ عَلِمَ مَا لِي صَفْرَاءُ وَلَا
بَيْضَاء، وَلَا أَنَا بِالْكَافِرِ الَّذِي يَتَرَفَّقُ بِهَا عَنْ دِينِهِ
يَعْنِي يَتَأَلَّفُهُ بِهَا، إِنِّي لأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ سَعْد:
فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ
(١) السواد: الشخص، لأنه يُرى من بعيد أسود.
(انظر: النهاية، مادة: سود).
(٢)
الستر: الستار، وهو: ما يستر به، وما أسدل على نوافذ البيت وأبوابه حجبًا للنظر،
والجمع: أَسْتَار وستور وستر. (انظر: المعجم الوسيط، مادة: ستر).
(٣)
قوله:«قال: أسماء» ليس في الأصل، واستدركناه من «المعجم الكبير» للطبراني (٢٤/
١٣٧) من حديث الدبري، عن عبد الرزاق، به.
(٤)
ليس في الأصل، واستدركناه من المصدر السابق.
(٥)
الموارة: الستر. (انظر: اللسان، مادة: وري).
لَتُفَرِّجَنَّهَا عَنِّي، فَإِنَّ
فِي ذَلِكَ فَرَجًا، قَالَ: فَأَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: تَقُولُ: جِئْتُ خَاطِبًا
إِلَى اللَّهِ وإلَى رَسُولِهِ ﷺ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ﷺ قالَ: فَانْطَلَقَ
عَلِي فَعَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ ثَقِيلٌ حَصِرٌ (١)، فَقَالَ النَّبِيُّ
ﷺ: «كَأَن لَكَ حَاجَةً يَا عَلِيُّ؟» قَالَ: أَجَلْ، جِئْتُ خَاطِبَا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ ما، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
ﷺ: «مَرْحَبًا» كَلِمَةً ضَعِيفَةً ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: فَعَلْتُ الَّذِي أَمَرْتَنِي بِهِ،
فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ رَحَّبَ بِي كَلِمَةً ضَعِيفَةً، فَقَالَ سَعْدٌ:
أَنْكَحَكَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، إِنَّهُ لَا خُلْفَ الْآنَ وَلَا
كَذِبَ عِنْدَه، عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَأْتِيَنَّهُ غَدًا فَتَقُولَنَّ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ، مَتَى تُبْنِينِي؟ قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ أَشَدُّ مِنَ
الْأُولَى، أَوَلًا أَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَاجَتِي (٢)؟ قَالَ: قُلْ كَمَا
أَمَرْتُكَ، فَانْطَلَقَ عَليٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَتَى تُبْنِينِى؟ قَالَ:
«الثالثَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ دَعَا بِلَالًا، فَقَالَ «يَا بِلَالُ *
إِنِّي زَوَّجْتُ ابْنَتِي ابْنَ عَمِّي، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنةِ
أُمَّي، إِطْعَامُ الطعَامِ عِنْدَ النِّكَاحِ، فَأْتِ الْغَنَمَ فَخُذْ شَاة
وَأَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ أَوْ خَمْسَةً، فَاجْعَلْ لِي قَصْعَةً لَعَلِّي أَجْمَعُ
عَلَيْهَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهَا فَآذِنِّي
بِهَا»، فَانْطَلَقَ فَفَعَلَ مَا أَمَرَه، ثُمَّ أَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فَوَضَعَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ، قَالَ:
«أَدْخِلْ عَلَيَّ النَّاسَ زُفَّةً زُفَّةً، وَلَا تُغَادِرَنَّ زُفَّةٌ إِلَى
غَيْرِهَا» يَعْنِي إِذَا فَرَغَتْ زُفَّةٌ لَمْ تَعُدْ ثَانِيَةً فَجَعَلَ
النَّاسُ يَرِدُونَ، كُلَّمَا فَرَغَتْ زُفَّةٌ وَرَدَتْ أُخْرَى، حَتَّى فَرَغَ
النَّاس، ثُمَّ عَمَدَ النَّبِي ﷺ إِلَى مَا فَضَلَ مِنْهَا، فَتَفَلَ فِيهِ
وَبَارَكَ، وَقَالَ: «يَا بِلَالُ احْمِلْهَا إِلَى أُمَّهَاتِكَ، وَقُلْ لَهُن:
كُلْنَ وَأَطْعِمْنَ مَنْ غَشِيَكُنَّ»، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ حَتَّى
دَخَلَ عَلَى النسَاءِ فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ زَوَّجْتُ ابْنَتِيَ ابْنَ عَمَي،
وَقَدْ عَلِمْتُنَّ مَنْزِلَتَهَا مِنِّي، وإِنِّي دَافِعُهَا إِلَيْهِ الْآنَ
إِنْ شَاءَ الله، فَدُونَكُنَّ ابْنَتَكُنَّ»، فَقَامَ النسَاءُ
(١) قوله: «وهو ثقيل حصر» غير واضح في الأصل،
وأثبتناه من «المعجم الكبير» للطبراني (٢٢/ ٤١٠) من حديث الدبري، عن عبد الرزاق،
به.
(٢)
قوله: «يا رسول الله حاجتي» وقع في الأصل: «إلى رسول حاجتي»، والتصويب من المصدر
السابق.
* [٣/
٩٦ أ].
فَغَلَفْنَهَا مِنْ طِيبِهِنَّ
وَحُلِيِّهِنَّ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِي ﷺ دخَلَ، فَلَمَّا رَآهُ النِّسَاءُ
ذَهَبْنَ وَبَيْنَهُنَّ وَبَينَ النَّبِيِّ ﷺ سُتْرةٌ، وَتَخَلَّفَتْ أَسْمَاءُ
ابْنَةُ عُمَيسٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: «كَمَا أَنْتِ (١)، عَلَى رِسْلِكِ،
مَنْ أَنْتِ؟» قَالَتْ: أَنَا الَّتِي أَحْرُسُ ابْنَتَكَ، فَإِنَّ الْفَتَاةَ
لَيْلَةَ يُبْنَى بِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنِ امْرَأَةٍ تَكُونُ قَرِيبًا مِنْهَا،
إِنْ عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ، وإِنْ أَرَادَتْ شَيْئًا أَفْضَتْ بِذَلِكَ
إِلَيْهَا، قَالَ: «فإِنِّي أَسْأَلُ إِلَهِي أَنْ يَحْرُسَكِ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْكِ، وَمِنْ خَلْفِكِ، وَعَنْ يَمِينِكِ، وَعَنْ شِمَالِكِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ»، ثُمَّ صَرَخَ بِفَاطِمَةَ فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ عَلِيًّا
جَالِسًا إِلَى جَنْبِ النَّبِى ﷺ خَفَرَتْ وَبَكَتْ، فَأَشْفَقَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ
يَكُونَ بُكَاؤُهَا لِأَنَّ عَلِيًّا لَا مَالَ لَه، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا
يُبْكِيكِ؟ فَمَا ألَوْتُكِ فِي نَفْسِي، وَقَدْ طَلَبْتُ لَكِ خَيْرَ أَهْلِي،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ زَوَّجْتُكِهِ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ
فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» فَلَانَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«ائْتينِي بِالْمِخْضَبِ فَأمْلَئِيهِ مَاء» فَأَتَتْ أَسْمَاءُ بِالْمِخْضَبِ،
فَمَلأَتْهُ مَاءً، ثُمَّ مَجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ وَغَسَلَ فِيهِ قَدَمَيْهِ
وَوَجْهَه، ثُمَّ دَعَا فَاطِمَةَ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَضَرَبَ بِهِ عَلَى
رَأْسِهَا، وَكَفًّا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا، ثُمَّ رَشَّ جِلْدَهُ وَجِلْدَهَا، ثُمَّ
الْتَزَمَهُمَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمَا،
اللَّهُمَّ كَمَا أَذْهَبْتَ عَنِّي الرِّجْسَ (٢) وَطَهَّرْتَنِي
فَطَهَّرْهُمَا»، ثُمَّ دَعَا بِمِخْضَبٍ آخَرَ، ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَصَنَعَ
بِهِ كَمَا صَنَع بِهَا، وَدَعَا لَهُ كَمَا دَعَا لَهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَنْ
قُومًا إِلَى بَيْتِكُمَا، جَمَعَ اللهُ بَيْنَكُمَا، وَبَارَكَ فِي سِرِّكُمَا وَأَصْلَحَ
بَالَكُمَا»، ثُمَّ قَامَ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِمَا بَابَهُ بِيَدِهِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّهَا رَمَقَتْ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُو لَهُمَا خَاصَّةً لَا يَشْرَكُهُمَا فِي
دُعَائِهِ أَحَدٌ حَتَّى تَوَارَى فِي حُجَرِهِ.
° [١٠٦٥٧]
عبد الرزاق، عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ، قَالَتْ لِلنَّبِي
ﷺ: زَوَّجْتَنِيهِ أُعَيْمِشَ، عَظِيمَ الْبَطْنِ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ
زَوَّجْتُكِهِ وإِنَّهُ لأَوَّلُ أَصْحَابِي سِلْمًا، وَأكثَرُهُمْ عِلْمًا،
وَأَعْظَمُهُمْ حِلْمًا».
(١) قوله: «كما أنت» في الأصل: «كانت»،
والتصويب من المصدر السابق (٢٤/ ١٣٢).
(٢)
الرجس: القذَر، وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح. (انظر: النهاية، مادة: رجس).
° [١٠٦٥٨] عبد الرزاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ
أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَكِبَ حِمَارًا عَلَى إِكَافٍ * تَحْتَهُ
قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأَرْدَفَ (١) وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ
يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَذَلِكَ
قَبْلَ (٢) وَقْعَةِ بَدْرٍ حَتَّى مَرَّ بِمَخْلَط فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ،
فَلَمَّا غَشِيَتِ (٣) الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ (٤) الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا (٥)
عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ
إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ: أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ
حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجْلِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ (٦)، فَمَنْ
جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا (٧) فِي
مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ،
وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا (٨)، فَلَمْ
يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ (٩)، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى
دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ: «أَيْ سَعْد، ألَمْ تَسْمَعْ مَا
يَقُولُ أَبُو حُبَابٍ»؟ يُرِيدُ
° [١٠٦٥٨] [التحفة: خ م س ١٠٥، ت ١٠٩].
* [٣/
٩٦ ب].
الإكاف: البرذعة ونحوها لذوات
الحافر، والجمع: أكف. (انظر: المشارق) (١/ ٣٠).
(١)
الارداف: أن يركب أحدا خلفه، ويحتمل أن يكونا على بعير واحد، أو يكونا على بعيرين
لكن أحدهما يتلو الآخر. (انظر: مجمع البحار، مادة: ردف).
(٢)
في الأصل: «في»، والتصويب من «مسند أحمد» (٢٢١٨١) من حديث عبد الرزاق، به.
(٣)
الغشيان: تغطية الشيء والعلو عليه. (انظر: النهاية، مادة: غشا).
(٤)
العجاجة: الغبار. (انظر: المشارق) (٢/ ٦٧).
(٥)
التغبير: إثارة الغُبار. (انظر: اللسان، مادة: غبر).
(٦)
الرحل: المسكن والمنزل، والجمع: الرحال. (انظر: النهاية، مادة: رحل).
(٧)
الغشيان: الإتيان. (انظر: النهاية، مادة: غشا).
(٨)
التوائب: النهوض للقتال. (انظر: المشارق) (٢/ ٢٧٩).
(٩)
الخفض والتخفيض: الدعة والسكون، أي: يُسكِّنهم ويهوِّن الأمر عليهم. (انظر:
النهاية، مادة: خفض).
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، «قَالَ
كَذَا وَكَذَا»، قَالَ سَعْدٌ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ،
فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ
أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ يَعْنِي يُمَلِّكُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ
(١) بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ تبارك وتعالى ذَلِكَ بِالْحَقِّ
الَّذِي أَعْطَاكَهُ شَرِقَ (٢) بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ فَعَلَ بِكَ مَا رَأَيْتَ،
فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
آخِرُ كِتَابِ الْمَغَازِي
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَه وَصلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ.
* * *
(١) التعصيب: أن يسودوه ويملكوه، وكانوا
يسمون السيد المطاع: مُعَصَّبًا؛ لأنه يعصب بالتاج، أو تعصب به أمور الناس؛ أي:
ترد إليه وتدار به. (انظر: النهاية، مادة: عصب).
(٢)
الشرق: ضيق الصدر حسدًا. (انظر: المشارق) (٢/ ٢٤٩).