(قُدُومُهُ
مَكَّةَ وَتَعْرُّفُ الْقَوْمِ عَلَيْهِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّا لَمْ
يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ بُعُوثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسَرَايَاهُ [١]
بَعْثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فِيمَا
حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَعْدَ مَقْتَلِ خُبَيْبِ
بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَبَا
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ
فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ، وَحَبَسَا جَمَلَيْهِمَا بِشِعْبٍ [٢] مِنْ
شِعَابِ يَأْجَجَ [٣]، ثُمَّ دَخَلَا مَكَّةَ لَيْلًا، فَقَالَ جَبَّارٌ
لِعَمْرِو: لَوْ أَنَّا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَ
عَمْرٌو: إنَّ الْقَوْمَ إذَا تَعَشَّوْا جَلَسُوا بِأَفْنِيَتِهِمْ، فَقَالَ:
كَلَّا، إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ،
وَصَلَّيْنَا، ثُمَّ خَرَجْنَا نُرِيدُ أَبَا سُفْيَان، فو الله إنَّا لَنَمْشِي
بِمَكَّةَ إذْ نَظَرَ إلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَعَرَفَنِي، فَقَالَ
عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: وَاَللَّهِ إنْ قَدِمَهَا إلَّا لِشَرٍّ، فَقُلْتُ
لِصَاحِبِي: النَّجَاءُ، فَخَرَجْنَا نَشْتَدُّ، حَتَّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ،
وَخَرَجُوا فِي طَلَبِنَا، حَتَّى إذَا عَلَوْنَا الْجَبَلَ يَئِسُوا مِنَّا،
فَرَجَعْنَا، فَدَخَلْنَا كَهْفًا فِي الْجَبَلِ، فَبِتْنَا فِيهِ، وَقَدْ
أَخَذْنَا حِجَارَةً فَرَضَمْنَاهَا [٤] دُونَنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدًا
رَجُلٌ مِنْ
[١] ذكر السهيليّ هُنَا حَدِيثا يُخطئ فِيهِ
ابْن هِشَام فِيمَا ادَّعَاهُ على ابْن إِسْحَاق من إغفاله بعض الْبعُوث، قَالَ:
«هُوَ غلط مِنْهُ، قد ذكره ابْن إِسْحَاق، عَن جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة بن
عَمْرو بن أُميَّة فِيمَا حدث أَسد عَن يحيى بن زَكَرِيَّا، عَن ابْن إِسْحَاق»
(انْظُر الرَّوْض الْأنف ج ٢ ص ٢٦٣) .
[٢]
الشّعب (بتَشْديد الشين الْمَكْسُورَة): الطَّرِيق الخفى بَين جبلين.
[٣]
يأجج: اسْم مَوضِع بِمَكَّة، ذكره الْقَامُوس فِي أجج ويجج. وَضَبطه كيسمع وينصر
وَيضْرب.
[٤]
رضمناها دُوننَا: جعلنَا بعض الْحِجَارَة فَوق بعض، لتَكون حاجزا بَيْننَا وَبَين
من يطلبنا.
قُرَيْشٍ يَقُودُ فَرَسًا لَهُ، وَيَخْلِي عَلَيْهَا [١]، فَغَشِيَنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: إنْ رَآنَا صَاحَ بِنَا، فَأُخِذْنَا فَقُتِلْنَا.
(قَتْلُهُ أَبَا سُفْيَانَ وَهَرَبُهُ):
قَالَ: وَمَعِي خِنْجَرٌ قَدْ أَعْدَدْتُهُ لِأَبِي سُفْيَانَ، فَأَخْرُجُ إلَيْهِ، فَأَضْرِبُهُ عَلَى ثَدْيِهِ ضَرْبَةً، وَصَاحَ صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَأَرْجِعُ فَأَدْخُلُ مَكَانِي، وَجَاءَهُ النَّاسُ يَشْتَدُّونَ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَالُوا: مَنْ ضَرَبَكَ؟ فَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَغَلَبَهُ الْمَوْتُ، فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَدْلُلْ عَلَى مَكَانِنَا، فَاحْتَمَلُوهُ. فَقُلْتُ لِصَاحِبِي، لَمَّا أَمْسَيْنَا: النَّجَاءُ، فَخَرَجْنَا لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، فَمَرَرْنَا بِالْحَرَسِ وَهُمْ يَحْرَسُونَ جِيفَةَ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: وَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ أَشَبَهَ بِمِشْيَةِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، لَوْلَا أَنَّهُ بِالْمَدِينَةِ لَقُلْتُ هُوَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ: فَلَمَّا حَاذَى الْخَشَبَةَ شَدَّ عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا فَاحْتَمَلَهَا، وَخَرَجَا شَدًّا، وَخَرَجُوا وَرَاءَهُ، حَتَّى أَتَى جُرْفًا بِمَهْبِطِ مَسِيلِ يَأْجَجَ، فَرَمَى بِالْخَشَبَةِ فِي الْجُرْفِ، فَغَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، قَالَ: وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: النَّجَاءَ النَّجَاءَ، حَتَّى تَأْتِيَ بَعِيرَكَ فَتَقْعُدَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي سَأَشْغَلُ [٢] عَنْكَ الْقَوْمَ، وَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ لَا رُجْلَةَ لَهُ [٣] .
(قَتْلُهُ بَكْرِيًّا فِي غَارٍ):
قَالَ: وَمَضَيْتُ حَتَّى أَخْرُجَ عَلَى ضَجْنَانَ [٤]، ثُمَّ أَوَيْتُ إلَى جَبَلِ، فَأَدْخُلُ كَهْفًا، فَبَيْنَا أَنَا فِيهِ، إذْ دَخَلَ عَلَيَّ شَيْخٌ مِنْ بَنِي الدِّيلِ أَعْوَرُ، فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ:
مَرْحَبًا، فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ، فَقَالَ:
وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا ... وَلَا دَانٍ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَا
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: سَتَعْلَمُ، فَأَمْهَلْتُهُ، حَتَّى إذَا نَامَ أَخَذْتُ قَوْسِي، فَجَعَلْتُ سِيَتَهَا [٥]
[١] يخلى عَلَيْهَا: يجمع لَهَا الخلي،
وَهُوَ الرّبيع، وَيُسمى خلى، لِأَنَّهُ يخْتَلى، أَي يقطع.
[٢]
فِي أ: «شاغل» .
[٣]
لَا رجلة لَهُ: لَيْسَ لَهُ قُوَّة بِالْمَشْيِ على رجلَيْهِ، يُقَال. فلَان ذُو
رجلة، إِذا كَانَ يقوى على الْمَشْي.
[٤]
ضجنَان (كسكران): اسْم جبل قرب مَكَّة.
[٥]
سية الْقوس: طرفها.
فِي عَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ
تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ النَّجَاءَ،
حَتَّى جِئْتُ الْعَرْجَ [١]، ثُمَّ سَلَكْتُ رَكُوبَةً [٢]، حَتَّى إذَا هَبَطْتُ
النَّقِيعَ [٣] إذَا رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَانَتْ
قُرَيْشٌ بَعَثَتْهُمَا عَيْنًا إلَى الْمَدِينَةِ يَنْظُرَانِ وَيَتَحَسَّسَانِ،
فَقُلْتُ اسْتَأْسِرَا، فَأَبَيَا، فَأَرْمِي أَحَدَهُمَا بِسَهْمِ فَأَقْتُلُهُ،
وَاسْتَأْسَرَ الْآخَرُ، فَأُوَثِّقُهُ رِبَاطًا، وَقَدِمْتُ بِهِ الْمَدِينَةَ.
سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
إلَى مَدْيَنَ
(بَعْثُهُ
هُوَ وَضُمَيْرَةُ وَقِصَّةُ السَّبْيِ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [٤]: وَسَرِيَّةُ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى مَدْيَنَ. ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَسَنِ ابْن [٥] حَسَنٍ، عَنْ أمه فَاطِمَة بنت الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
عَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ نَحْوَ مَدْيَنَ، وَمَعَهُ ضُمَيْرةَ مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَخٌ لَهُ. قَالَتْ: فَأَصَابَ سَبْيًا مِنْ أَهْلِ
مِينَاءَ، وَهِيَ السَّوَاحِلُ، وَفِيهَا جُمَّاعٌ [٦] مِنْ النَّاسِ، فَبِيعُوا،
فَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالَ: مَا
لَهُمْ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: لَا تَبِيعُوهُمْ إلَّا جَمِيعًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَرَادَ
الْأُمَّهَاتَ وَالْأَوْلَادَ.