(تَأَخُّرُ
عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ فِي الْهِجْرَةِ):
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ
فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ إلَّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ، إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنهما،
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي
الْهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَعْجَلْ لَعَلَّ اللَّهَ
يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ.
(اجْتِمَاعُ
الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَتَشَاوُرُهُمْ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا
رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ
مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا
مِنْهُمْ مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا
أَنَّهُمْ قَدْ أَجَمَعَ لِحَرْبِهِمْ. فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ-
وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا
إلَّا فِيهَا- يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ
ﷺ، حَيْنَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَيْرٍ [٢] أَبِي الْحَجَّاجِ، وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا
أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا
أَجَمَعُوا لِذَلِكَ، وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ
لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، غَدَوْا فِي الْيَوْمِ
الَّذِي اتَّعَدُوا لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ،
فَاعْتَرَضَهُمْ إبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، [٣]
[١] فِي الْأُصُول: «العزاب» . والتصويب عَن
شرح السِّيرَة لأبى ذَر.
[٢]
كَذَا فِي أ، وَشرح السِّيرَة لأبى ذَر. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «حبر»، وَهُوَ
تَحْرِيف.
[٣]
جليل، أَي حسن، يُقَال: جلّ الرجل، وجلت الْمَرْأَة: إِذا أَسِنَت. قَالَ
الشَّاعِر:
«وَمَا حظها إِن قيل عزت وجلت
»
عَلَيْهِ بَتْلَةٌ [١]، فَوَقَفَ
عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنْ
الشَّيْخُ؟
قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ
[٢] سَمِعَ بِاَلَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا
تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا، قَالُوا:
أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ، وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ
قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ ابْن
رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ: طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ
عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ. وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ: النَّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ. وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: أَبُو
الْبَخْتَرِيِّ ابْن هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ،
وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ:
أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. وَمِنْ
بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ:
أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ كَانَ
مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنَّ
هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَإِنَّا
وَاَللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتَّبَعَهُ
مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا. قَالَ: فَتَشَاوَرُوا ثُمَّ قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا،
ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ
كَانُوا قَبْلَهُ، زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا
الْمَوْتِ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ [٣]، فَقَالَ الشَّيْخُ
النَّجْدِيُّ: لَا وَاَللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ. وَاَللَّهِ لَئِنْ
حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ
الَّذِي أَغْلَقْتُمْ
[١] فِي أ «بت» . والبتلة والبت: الكساء
الغليظ.
[٢]
قَالَ السهيليّ ... وَإِنَّمَا قَالَ لَهُم: إِنِّي من أهل نجد، فِيمَا ذكر بعض
أهل السِّيرَة، لأَنهم قَالُوا:
لَا يدخلن مَعكُمْ فِي الْمُشَاورَة
أحد من أهل تهَامَة، لِأَن هواهم مَعَ مُحَمَّد، فَلذَلِك تمثل لَهُم فِي صُورَة
شيخ نجدى.
وَقد ذكر فِي خبر بُنيان الْكَعْبَة
أَنه تمثل فِي صُورَة شيخ نجدى أَيْضا، حِين حكمُوا لرَسُول الله ﷺ فِي أَمر
الرُّكْن من يرفعهُ، فصاح الشَّيْخ النجدي: يَا معشر قُرَيْش، أقد رَضِيتُمْ أَن
يَلِيهِ هَذَا الْغُلَام دون أشرافكم وذوى أسنانكم؟ فان صَحَّ هَذَا الْخَبَر
فلمعنى آخر تمثل نجديا، وَذَلِكَ أَن نجدا مِنْهَا يطلع قرن الشَّيْطَان كَمَا
قَالَ رَسُول الله ﷺ حِين قيل لَهُ: وَفِي نجدنا يَا رَسُول الله قَالَ:
هُنَاكَ الزلازل والفتن، وَمِنْهَا
يطلع قرن الشَّيْطَان. فَلم يُبَارك عَلَيْهَا كَمَا بَارك على الْيمن وَالشَّام
وَغَيرهَا.
وَحَدِيثه الآخر: أَنه نظر إِلَى
الْمشرق، فَقَالَ: إِن الْفِتْنَة هَاهُنَا، من حَيْثُ يطلع قرن الشَّيْطَان.
وَفِي حَدِيث ابْن عمر: أَنه حِين قَالَ هَذَا الْكَلَام وقف عِنْد بَاب عَائِشَة
وَنظر إِلَى الْمشرق فقاله. وَفِي وُقُوفه عِنْد بَاب عَائِشَة نَاظرا إِلَى
الْمشرق يحذر من الْفِتَن وفكر فِي خُرُوجهَا إِلَى الْمشرق عِنْد وُقُوع
الْفِتْنَة نفهم من الْإِشَارَة، واضمم إِلَى هَذَا قَوْله عليه الصلاة والسلام حِين
ذكر نزُول الْفِتَن: «أيقظوا صَوَاحِب الْحجر» .
[٣]
كَانَ صَاحب هَذَا الرأى والمشير بِهِ أَبَا البخْترِي بن هِشَام.
٣١-
سيرة ابْن هِشَام- ١
دُونَهُ إلَى أَصْحَابِهِ،
فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ، فَيَنْزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ
يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ، حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ
بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ، فَتَشَاوَرُوا.
ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ:
نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أخرج
عنّا فو الله مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ، إذَا غَابَ عَنَّا
وَفَرَغْنَا مِنْهُ، فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأَلْفَتْنَا كَمَا كَانَتْ [١] .
فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاَللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ،
أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى
قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ، وَاَللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا
أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ
بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ
بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ، فَيَأْخُذَ
أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلَ بِكَمْ مَا أَرَادَ، دَبِّرُوا [٢]
فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ:
وَاَللَّهِ إنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ،
قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ
قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا [٣] فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي
كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ
بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ. فَإِنَّهُمْ
إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ
يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنَّا
بِالْعَقْلِ، فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ:
الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي لَا رَأْيَ غَيْرُهُ،
فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ.
(خُرُوجُ
النَّبِيِّ ﷺ وَاسْتِخْلَافُهُ عَلِيًّا عَلَى فِرَاشِهِ):
فَأَتَى جِبْرِيلُ عليه السلام رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي
كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللَّيْلِ
اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَانَهُمْ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجَّ [٤] بِبُرْدِي هَذَا
[١] صَاحب هَذَا الرأى أَبُو الْأسود ربيعَة
بن عَامر، أحد بنى عَامر بن لؤيّ.
[٢]
فِي أ: «أديروا» .
[٣]
الْوَسِيط: الشريف فِي قومه.
[٤]
تسجى بِالثَّوْبِ: غطى بِهِ جسده وَوَجهه.
الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، فَنَمْ
فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ:
لَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ، وَفِيهِمْ
أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إنَّ مُحَمَّدًا
يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ
الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ
جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنِّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ
ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ
تُحْرَقُونَ فِيهَا.
قَالَ: وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ أَنَا أَقُولُ
ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ. وَأَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ
عَنْهُ، فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ
وَهُوَ يَتْلُو هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ يس:
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
٣٦: ١- ٥ ... إلَى قَوْلِهِ: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ٣٦: ٩
حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ
إلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ
مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا، قَالَ:
خَيَّبَكُمْ اللَّهُ! قَدْ وَاَللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا
تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا،
وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا
يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَقُولُونَ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا،
عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا [١] فَقَامَ
عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ
صَدَقَنَا الَّذِي حَدَّثَنَا.
[١] قَالَ السهيليّ: «وَذكر بعض أهل
التَّفْسِير السَّبَب الْمَانِع لَهُم من التقحم عَلَيْهِ فِي الدَّار مَعَ قصر
الْجِدَار وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لقَتله، فَذكر فِي الْخَبَر أَنهم هموا
بالولوج عَلَيْهِ، فصاحت امْرَأَة من الدَّار، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله
إِنَّهَا للسبة فِي الْعَرَب أَن يتحدث عَنَّا أَنا تسورنا الْحِيطَان على بَنَات
الْعم، وهتكنا ستر حرمتنا، فَهَذَا هُوَ الّذي أقامهم بِالْبَابِ. أَصْبحُوا
ينتظرون خُرُوجه، ثمَّ طمست أَبْصَارهم على من خرج» .
(مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي
تَرَبُّصِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ
مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا
كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ
أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَالله
خَيْرُ الْماكِرِينَ ٨: ٣٠، وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُتَرَبِّصِينَ ٥٢: ٣٠- ٣١.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَنُونُ:
الْمَوْتُ. وَرَيْبُ الْمَنُونِ: مَا يَرِيبُ وَيَعْرِصُ مِنْهَا.
قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الهُذَليُّ:
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا
تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَذِنَ
اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ.
(طَمَعُ
أَبِي بَكْرٍ فِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ فِي الْهِجْرَةِ، وَمَا أَعَدَّ
لِذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو
بَكْرٍ رضي الله عنه رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكَانَ حَيْنَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَعْجَلْ،
لَعَلَّ اللَّهَ يَجِدُ لَكَ صَاحِبًا، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، إنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ، حَيْنَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَابْتَاعَ
رَاحِلَتَيْنِ، فَاحْتَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ، يَعْلِفُهُمَا إعْدَادًا لِذَلِكَ.
(حَدِيثُ
هِجْرَتِهِ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ
يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ، إمَّا بُكْرَةً،
وَإِمَّا عَشِيَّةً، حَتَّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أُذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ
اللَّهِ ﷺ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ
قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا
يَأْتِي فِيهَا.
قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو
بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ السَّاعَةَ إلَّا لِأَمْرٍ
حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ، تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ،
فَجَلَسَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي
بَكْرٍ إلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّمَا
هُمَا ابْنَتَايَ [١]، وَمَا ذَاكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَقَالَ: إنَّ
اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الصُّحْبَة.
قَالَت: فو الله مَا شَعُرْتُ قَطُّ
قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ
أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّ
هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَرْقَطِ- رَجُلًا مِنْ بَنِي الدُّئَلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ
أُمُّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا-
يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا
عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.
(مَنْ
كَانَ يَعْلَمُ بِهِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ
يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي، بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَحَدٌ، حَيْنَ خَرَجَ،
إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي
بَكْرٍ. أَمَا عَلِيٌّ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا بَلَغَنِي- أَخْبَرَهُ
بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ، حَتَّى يُؤَدِّيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْوَدَائِعَ، الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُخْشَى
عَلَيْهِ إلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يُعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ ﷺ.
(قِصَّةُ
الرَّسُولِ ﷺ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا
أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْخُرُوجَ، أَتَى أَبَا بَكْرِ ابْن أَبِي قُحَافَةَ،
فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثُمَّ عَمَدَ إلَى
غَارٍ بِثَوْرٍ- جَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ- فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ
ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ
النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ
أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ يُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا، يَأْتِيهِمَا
إذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. وَكَانَتْ أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا
مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا.
[١] فِي جَامع البُخَارِيّ: «إِنَّمَا هم
أهلك» . وَقد كَانَ أَبُو بكر أنكح عَائِشَة من رَسُول الله ﷺ قبل ذَلِك.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ
قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا،
فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَسَ الْغَارَ،
لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ، يَقِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِنَفْسِهِ.
(ابْنَا
أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ فهَيْرَة يقومُونَ بشئون الرَّسُولِ وَصَاحِبِهِ وَهُمَا فِي
الْغَارِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَتْ
قُرَيْشٌ فِيهِ حِين فقدوه مائَة نَاقَةٍ، لِمَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ،
يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، يَرْعَى فِي
رَعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي
بَكْرٍ، فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَدَا
مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى مَكَّةَ، اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ
بِالْغَنَمِ حَتَّى يُعَفِّي عَلَيْهِ، حَتَّى إذَا مَضَتْ الثَّلَاثُ، وَسَكَنَ
عَنْهُمَا النَّاسُ أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ
بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ
رضى الله عَنْهُمَا بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا
فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا
عِصَامٌ، [١] فَتَحِلُّ نِطَاقَهَا فَتَجْعَلُهُ عِصَامًا، ثُمَّ عَلَّقَتْهَا
بِهِ.
(سَبَبُ
تَسْمِيَةِ أَسْمَاءَ بِذَاتِ النِّطَاقِ):
فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ: ذَاتُ النِّطَاقِ، لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَمِعْتُ
غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ.
وَتَفْسِيرُهُ: أَنَّهَا لَمَّا
أَرَادَتْ أَنْ تُعَلِّقَ السُّفْرَةَ شَقَّتْ نِطَاقَهَا بِاثْنَيْنِ،
فَعَلَّقَتْ السُّفْرَةَ بِوَاحِدٍ، وَانْتَطَقَتْ بِالْآخَرِ.
(أَبُو
بَكْرٍ يُقَدِّمُ رَاحِلَةً لِلرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا
قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ، رضي الله عنه، الرَّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
قَدَّمَ لَهُ أَفَضْلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي،
[١] العصام: الْحَبل أَو شبهه يشد على فَم
المزادة وَنَحْوهَا ليحفظ بَاقِيهَا أَو تعلق مِنْهَا فِي وتد وَنَحْوه.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنِّي
لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي، قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتهَا
بِهِ؟ قَالَ:
كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ
أَخَذْتهَا بِهِ، قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ [١] . فَرَكِبَا
وَانْطَلَقَا وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه عَامِرَ بْنَ
فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ.
(ضَرْبُ
أَبِي جَهْلٍ لِأَسْمَاءِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ
أَبُو جَهْلِ ابْن هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ
إلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ:
لَا أَدْرِي وَاَللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ،
وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي.
(خَبَرُ
الْهَاتِفِ مِنْ الْجِنِّ عَنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ ﷺ فِي هِجْرَتِهِ):
قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا.
فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَمَا نَدْرِي أَيْنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، يَتَغَنَّى
بِأَبْيَاتٍ مِنْ شَعَرِ غِنَاءِ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ
صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعَلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ
جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبَرِّ ثُمَّ
تَرَوَّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدٍ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ
فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنَيْنِ بِمَرْصَدِ [٢]
(نَسَبُ
أُمِّ مَعْبَدٍ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ مَعْبَدٍ
[٣] بِنْتُ كَعْبٍ، امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ، مِنْ خُزَاعَةَ.
[١] إِنَّمَا لم يقبل رَسُول الله ﷺ
الرَّاحِلَة مِنْهُ إِلَّا بِثمنِهَا رَغْبَة مِنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي
استكمال فضل الْهِجْرَة، وَأَن تكون الْهِجْرَة وَالْجهَاد على أتم أحوالهما.
[٢]
ويروى أَن حسان بن ثَابت لما بلغه شعر الجنى وَمَا هتف بِهِ فِي مَكَّة قَالَ
أبياتا، مطْلعهَا:
لقد خَابَ قوم غَابَ عَنْهُم
نَبِيّهم ... وَقد سر من يسرى إِلَيْهِم ويغتدى
[٣]
وَاسم أم معبد: عَاتِكَة بنت خَالِد. ويحكى أَن رَسُول الله ﷺ مر على خيمتها هُوَ
وَأَبُو بكر وَمولى أَبى بكر عَامر بن فهَيْرَة وَدَلِيلهمَا، وَكَانَت أم معبد
بَرزَة جلدَة تختبئ بِفنَاء الْقبَّة، ثمَّ
وَقَوْلُهُ «حلا خَيْمَتي»، و«هما
نَزَلَا بِالْبَرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ،
عَرَفْنَا حَيْثُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ
وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله
عنه، وَعَامِرُ ابْن فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَرْقَطَ دَلِيلُهُمَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ.
(أَبُو
قُحَافَةَ وَأَسْمَاءُ بَعْدَ هِجْرَةِ أَبِي بَكْرٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ
عَبَّادًا حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ:
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو
بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافٍ،
فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ،
وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ
بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْتُ:
كَلَّا يَا أَبَتِ! إنَّهُ قَدْ
تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي
كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ
عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَكَ
عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
لَا بَأْسَ، إذَا كَانَ تَرَكَ
لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاَللَّهِ مَا
تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
[()] تسقى وَتطعم، فَسَأَلُوهَا لَحْمًا
وَتَمْرًا يشترونه مِنْهَا، فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا شَيْئا، وَكَانَ الْقَوْم
مُرْمِلِينَ مُسنَّتَيْنِ، فَنظر رَسُول الله ﷺ إِلَى شَاة بِكَسْر الْخَيْمَة،
فَقَالَ: مَا هَذِه الشَّاة يَا أم معبد؟ قَالَت: شَاة خلفهَا الْجهد عَن الْغنم،
فَقَالَ: هَل بهَا من لبن؟ قَالَت: هِيَ أجهد من ذَلِك، قَالَ: أَتَأْذَنِينَ لي
أَن أَحْلَبَهَا؟
قَالَت: بِأبي أَنْت وأمى! إِن
رَأَيْت بهَا حَلبًا فاحلبها. فَدَعَا بهَا رَسُول الله ﷺ فَمسح بِيَدِهِ ضرْعهَا،
فَسمى الله تَعَالَى، ودعا لَهَا فِي شَأْنهَا، فتفاجت عَلَيْهِ، وَدرت واجترت،
ودعا بِإِنَاء يريض الرَّهْط، فَحلبَ فِيهِ ثَجًّا، حَتَّى علاهُ لَبنهَا، ثمَّ
سَقَاهَا حَتَّى رويت، وَسَقَى أَصْحَابه حَتَّى رووا، وَشرب آخِرهم، ثمَّ أراضوا،
ثمَّ صب فِيهِ ثَانِيًا بعد بَدْء حَتَّى مَلأ الْإِنَاء، ثمَّ غَادَرَهُ
عِنْدهَا، ثمَّ بَايَعَهَا على الْإِسْلَام، ثمَّ ارتحلوا عَنْهَا. فَمَا لَبِثت
حَتَّى جَاءَ زَوجهَا أَبُو معبد يَسُوق أَعْنُزًا عِجَافًا، فَلَمَّا رأى أَبُو
معبد اللَّبن عجب وَقَالَ: من أَيْن لَك هَذَا يَا أم معبد؟ وَالشَّاة عَازِب
حِيَال، وَلَا حَلُوب فِي الْبَيْت؟ قَالَت: لَا وَالله، إِلَّا أَنه مر بِنَا رجل
مبارك، من حَاله كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صَفيه يَا أم معبد، فوصفته لَهُ فِي كَلَام
طَوِيل، كُله الْحق، قَالَ أَبُو معبد: هَذَا وَالله صَاحب قُرَيْش، الّذي ذكر لنا
من أمره مَا ذكر بِمَكَّة، لقد هَمَمْت أَن أَصْحَبهُ، وَلَأَفْعَلَن إِن وجدت
إِلَى ذَلِك سَبِيلا.
(سُرَاقَةُ وَرُكُوبُهُ فِي أَثَرِ
الرَّسُولِ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدَّثَهُ.
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ
سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ [١]، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَتْ قُرَيْش فِيهِ مائَة
نَاقَةٍ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي نَادِي
قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَّا، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:
وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبَهُ ثَلَاثَةً مَرُّوا عَلَيَّ آنِفًا، إنِّي
لَأَرَاهُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ: فَأَوْمَأْتُ إلَيْهِ بِعَيْنِي:
أَنْ اُسْكُتْ، ثُمَّ قُلْتُ: إنَّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ، يَبْتَغُونَ ضَالَّةً
لَهُمْ، قَالَ: لَعَلَّهُ، ثُمَّ سَكَتَ. قَالَ: ثُمَّ مَكَثْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ
قُمْتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي، ثُمَّ أَمَرْتُ بِفَرَسِي، فَقُيِّدَ لِي إلَى بَطْنِ
الْوَادِي، وَأَمَرْتُ بِسِلَاحِي، فَأُخْرِجَ لِي مِنْ دُبُرِ حُجْرَتِي، ثُمَّ
أَخَذْتُ قِدَاحِي الَّتِي أَسَتَقْسِمُ بِهَا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ، فَلَبِسْتُ
لَأْمَتِي [٢]، ثُمَّ أَخَرَجْتُ قِدَاحِي، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا، فَخَرَجَ
السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرُّهُ» [٣] .
قَالَ: وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ
أَرُدَّهُ عَلَى قُرَيْش، فآخذ الْمِائَة النَّاقَةِ. قَالَ: فَرَكِبْتُ عَلَى
أَثَرِهِ، فَبَيْنَمَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي عَثَرَ بِي، فَسَقَطْتُ عَنْهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ:
ثُمَّ أَخَرَجْتُ قِدَاحِي
فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا، فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرُّهُ» .
قَالَ:
فَأَبَيْتُ إلَّا أَنْ أَتَّبِعَهُ.
قَالَ: فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ، فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدُّ بِي، عَثَرَ بِي،
فَسَقَطْتُ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟، قَالَ: ثُمَّ أَخَرَجْتُ
قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ «لَا
يَضُرُّهُ»، قَالَ: فَأَبَيْتُ إلَّا أَنْ أَتَّبِعَهُ، فَرَكِبْتُ فِي أَثَرِهِ.
فَلَمَّا بَدَا لِي الْقَوْمُ
وَرَأَيْتهمْ، عَثَرَ بِي فَرَسِي، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَقَطْتُ
عَنْهُ، ثُمَّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ
كَالْإِعْصَارِ [٤] . قَالَ: فَعَرَفْتُ حَيْنَ رَأَيْتُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ
مِنِّي، وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ. قَالَ: فَنَادَيْتُ الْقَوْمَ: فَقُلْتُ: أَنَا
سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: انظرونى أكلمكم، فو الله لَا أَرَيْبُكُمْ، وَلَا
يَأْتِيكُمْ مِنِّي شَيْءٌ
[١] وينتهى نسب سراقَة إِلَى بنى مُدْلِج،
وهم بَنو مُدْلِج بن مرّة بن تيم بن عبد منَاف بن كنَانَة. (رَاجع المقتضب،
والمعارف، والاستيعاب، وَالرَّوْض) .
[٢]
اللأمة: الدرْع وَالسِّلَاح.
[٣]
لَا يضرّهُ: أَي السهْم الْمَكْتُوب فِيهِ هَذِه الْكَلِمَة.
[٤]
الإعصار: ريح مَعهَا غُبَار.
تَكْرَهُونَهُ. قَالَ: فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ: وَمَا تَبْتَغِي مِنَّا؟ قَالَ:
فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً
بَيْنِي وَبَيْنَكَ. قَالَ: اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ.
(إسْلَامُ
سُرَاقَةَ):
(قَالَ)
[١]: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ، أَوْ فِي رُقْعَةٍ، أَوْ فِي خَزَفَةٍ،
ثُمَّ أَلْقَاهُ إلَيَّ، فَأَخَذَتْهُ، فَجَعَلْتُهُ فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ
رَجَعْتُ [٢]، فَسَكَتُّ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ حَتَّى إذَا كَانَ
فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ،
خَرَجْتُ وَمَعِي الْكِتَابَ لَأَلْقَاهُ، فَلَقِيتُهُ بِالْجِعْرَانَةِ [٣] .
قَالَ: فَدَخَلْتُ فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَجَعَلُوا
يَقْرَعُونَنِي بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إلَيْكَ (إلَيْكَ) [١]، مَاذَا
تُرِيدُ؟ قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ،
وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ [٤] كَأَنَّهَا
جُمَّارَةٌ. قَالَ: فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَذَا كِتَابُكَ (لِي) [١]، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ، قَالَ:
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ. قَالَ:
فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَأَسْلَمْتُ.
ثُمَّ تَذَكَّرْتُ شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ فَمَا أَذْكُرُهُ،
إلَّا أَنِّي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى
حِيَاضِي، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ
أَسْقِيَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ. قَالَ: ثُمَّ
رَجَعْتُ إلَى قَوْمِي، فَسُقْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَدَقَتِي.
[١] زِيَادَة عَن أ.
[٢]
ويحكى أَن أَبَا جهل لَام سراقَة حِين رَجَعَ بِلَا شَيْء، فَقَالَ سراقَة:
أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا ...
لأمر جوادي إِذْ تَسُوخ قوائمه
علمت وَلم تشكك بِأَن مُحَمَّدًا ...
رَسُول ببرهان فَمن ذَا يقاومه
عَلَيْك بكف الْقَوْم عَنهُ فاننى
... أرى أمره يَوْمًا ستبدو معالمه
بِأَمْر يود النَّاس فِيهِ بأسرهم
... بِأَن جَمِيع النَّاس طرا يسالمه
(رَاجع الرَّوْض الْأنف)
.
[٣]
الْجِعِرَّانَة (بِكَسْر أَوله، وَقيل: بِكَسْر عينه، وَتَشْديد رائه): مَاء بَين
الطَّائِف وَمَكَّة، وَهِي إِلَى مَكَّة أقرب. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ)
.
[٤]
الغرز للرحل: بِمَنْزِلَة الركاب للسرج.
(تَصْوِيبُ نَسَبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجُعْشُمِيِّ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ.
(طَرِيقُهُ
ﷺ فِي هِجْرَتِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا
خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَطَ، سَلَكَ بِهِمَا
أَسْفَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ، حَتَّى عَارَضَ
الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ،
ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا، حَتَّى عَارَضَ بِهِمَا الطَّرِيقَ، بَعْدَ أَنْ
أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَسَلَكَ
بِهِمَا الْخَرَّارَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَّةِ، ثُمَّ سَلَكَ
بِهِمَا لِقْفا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ،
لَفْتَا. قَالَ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيُّ:
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ
لَفْتٍ ... لِحَيٍّ بَيْنَ أَثْلَةَ وَالنِّحَامِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَجَازَ
بِهِمَا مَدْلَجَةَ لِقْفٍ ثُمَّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ مَحَاجَّ-
وَيُقَالُ: مِجَاجٍ [١]، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا
مَرْجِحَ مَحَاجَّ، ثُمَّ تَبَطَّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضْوَيْنِ-
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الْعُضْوَيْنِ- ثُمَّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ [٢]،
ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجَدَاجِدِ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ، ثُمَّ سَلَكَ
بِهِمَا ذَا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلِجَةٍ تِعْهِنِ [٣]، ثُمَّ عَلَى
الْعَبَابِيدِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَيُقَالُ: الْعَبَابِيبُ،
وَيُقَالُ: الْعِثْيَانَةَ. يُرِيدُ: الْعَبَابِيبَ-.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَجَازَ
بِهِمَا الْفَاجَّةَ، وَيُقَالُ: الْقَاحَّةُ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ هَبَطَ
بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمَا بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ
رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ، عَلَى
جَمَلٍ لَهُ- يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ- إلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ
غُلَامًا لَهُ، يُقَالُ لَهُ:
[١] قَالَ ياقوت، وَقد ذكر هَاتين
الرِّوَايَتَيْنِ: «وَالصَّحِيح عندنَا فِيهِ غير مَا روياه، جَاءَ فِي شعر ذكره
الزبير بن بكار، وَهُوَ مجاح، بِفَتْح الْمِيم ثمَّ جِيم وَآخره حاء. وَالشعر هُوَ:
لعن الله بطن لقف مسيلا ... ومجاحا
وَمَا أحب مجاحا
لقِيت نَاقَتي بِهِ وبلقف ... بَلَدا
مجدبا وأرضا شحاحا
[٢]
فِي الْأُصُول: «كشد»، وَهُوَ تَحْرِيف. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ)
.
[٣]
تعهن: اسْم عين مَاء على ثَلَاثَة أَمْيَال من السقيا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة.
مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ، ثُمَّ
خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنْ الْعَرَجِ، فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ
الْعَائِرِ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةٍ- وَيُقَالُ. ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ، فِيمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِئْمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا
قُبَاءٍ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ
مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ،
وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.
(قُدُومُهُ
ﷺ قُبَاءَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ
مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالُوا: لَمَّا سَمِعْنَا
بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ، وَتَوَكَّفْنَا [١] قُدُومَهُ، كُنَّا
نَخْرُجُ إذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، إلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا نَنْتَظِرُ رَسُول
الله ﷺ، فو اللَّهِ مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغْلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ
فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلًّا دَخَلْنَا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ. حَتَّى
إذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، جَلَسْنَا كَمَا
كُنَّا نَجْلِسُ، حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ ظِلٌّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيْنَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَآهُ
رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنَّا نَصْنَعُ، وَأَنَّا نَنْتَظِرُ
قُدُومَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَيْنَا، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي
قَيْلَةَ [٢]، هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ. قَالَ:
فَخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
وَهُوَ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِي مِثْلِ
سِنِّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَرَكِبَهُ النَّاسُ [٣] وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى زَالَ
الظِّلُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ،
فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ [٤] .
[١] توكفنا قدومه: استشعرناه وانتظرناه.
[٢]
بَنو قيلة، هم الْأَنْصَار، وقيلة: اسْم جدة كَانَت لَهُم.
[٣]
رَكبه النَّاس: أَي ازدحموا عَلَيْهِ.
[٤]
كَانَ قدوم رَسُول الله ﷺ الْمَدِينَة يَوْم الِاثْنَيْنِ لاثنى عشرَة من ربيع
الأول، وَقيل:
قدمهَا لثمان خلون من ربيع الأول.
كَمَا قيل: إِن خُرُوجه عليه الصلاة والسلام من الْغَار كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ
أول يَوْم من ربيع الأول.
(مَنَازِلُهُ ﷺ بقُباءٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَنَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا يَذْكُرُونَ- عَلَى كُلْثُومِ [١] بْنِ هِدْمٍ، أَخِي
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ: وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ
عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ. وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى
كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ: إنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا خَرَجَ مِنْ
مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ
خَيْثمةَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ مَنْزِلُ
الْأَعْزَابِ [٢] مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَمِنْ
هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ
سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ: بَيْتُ الْأَعْزَابِ. فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ،
كُلًّا قَدْ سَمِعْنَا.
(مَنْزِلُ
أَبِي بَكْرٍ بقُباءٍ):
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي
الله عنه عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ الْخَزْرَجَ
بِالسُّنْحِ. وَيَقُولُ قَائِلٌ: كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ
بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
(مَنْزِلُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بقُباءٍ):
وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ عليه السلام بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، حَتَّى إذَا
فَرَغَ مِنْهَا، لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ
بْنِ هِدْمٍ.
(ابْنُ
حُنَيْفٍ وَتَكْسِيرُهُ الْأَصْنَامَ):
فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ إقَامَتُهُ بقُباءٍ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ يَقُولُ:
كَانَتْ بقُباءٍ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، مُسْلِمَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْتُ
إنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا،
فَتَخْرَجُ إلَيْهِ فَيُعْطِيَهَا شَيْئًا مَعَهُ فَتَأْخُذَهُ. قَالَ:
فَاسْتَرَبْتُ
[١] هُوَ كُلْثُوم بن الْهدم بن امْرِئ
الْقَيْس بن الْحَارِث بن زيد بن مَالك بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن
الْأَوْس، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا، مَاتَ بعد قدوم رَسُول الله ﷺ الْمَدِينَة
بِيَسِير، وَهُوَ أول من مَاتَ من الْأَنْصَار بعد قدوم النَّبِي ﷺ، ثمَّ مَاتَ
بعده أسعد بن زُرَارَة بأيام. وَكَانَ كُلْثُوم يكنى أَبَا قيس. (رَاجع
الِاسْتِيعَاب: وَالرَّوْض) .
[٢]
فِي الْأُصُول: «العزاب»، وَهُوَ تَحْرِيف.
بِشَأْنِهِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا
أَمَةَ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَضْرِبُ عَلَيْكَ بَابَكَ كُلَّ
لَيْلَةٍ، فَتَخْرُجِينَ إلَيْهِ فَيُعْطِيَكَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ،
وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَكَ؟
قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ
بْنِ وَاهِبٍ، قَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى
عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسَّرَهَا، ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا، فَقَالَ:
احْتَطِبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يَأْثُرُ [١] ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
هَذَا، مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، هِنْدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ
حُنَيْفٍ، رضي الله عنه.
(بِنَاءُ
مَسْجِدِ قُبَاءٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بقُباءٍ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ
مَسْجِدَهُ [٢]
(خُرُوجُهُ
ﷺ مِنْ قُبَاءٍ وَسَفَرُهُ إلَى الْمَدِينَةِ):
ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ
بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُزْعِمُونَ
أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ
كَانَ. فَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ
عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَادِي
رَانُونَاءَ [٣]، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ.
(اعْتِرَاضُ
الْقَبَائِلِ لَهُ ﷺ تَبْغِي نُزُولَهُ عِنْدَهَا):
فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ،
وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَالِمِ ابْن
عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ
وَالْعِدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، قَالَ:
خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا
مَأْمُورَةٌ، لِنَاقَتِهِ: فَخَلُّوا سَبِيلهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إذَا
وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَّاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ
بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَّاضَةَ
[١] يأثر ذَلِك: يحدث بِهِ.
[٢]
ذكر أَن رَسُول الله ﷺ كَانَ أول من وضع حجرا فِي قبلته، ثمَّ جَاءَ أَبُو بكر
بِحجر فَوَضعه إِلَى حجر رَسُول الله ﷺ، ثمَّ أَخذ النَّاس فِي الْبُنيان. وَكَانَ
مَسْجِد قبَاء أول مَسْجِد بنى فِي الْإِسْلَام.
[٣]
فِي غير سيرة ابْن إِسْحَاق: أَن رَسُول الله ﷺ صلى بهم فِي بطن الْوَادي فِي بنى
سَالم.
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ عِنْد
الْكَلَام على رَانُونَاء) .
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ:
هَلُمَّ إلَيْنَا، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، قَالَ: خَلُّوا
سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى
إذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ،
وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، هَلُمَّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَنَعَةِ،
قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا،
فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ،
اعْتَرَضَهُ سَعْدُ ابْن الرَّبِيعِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ ابْن الْخَزْرَجِ فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَنَعَةِ
قَالَ:
خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا
مَأْمُورَةٌ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إذَا مَرَّتْ بِدَارِ
بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ دِنْيَا- أُمُّ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو، إحْدَى نِسَائِهِمْ- اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ
بْنُ قَيْسٍ، وَأَبُو سَلِيطٍ، أُسَيْرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ
بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلُمَّ إلَى
أَخْوَالِكَ، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، قَالَ: خَلُّوا
سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ.
(مَبْرَكَ
نَاقَتهُ ﷺ بِدَارِ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ):
حَتَّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي
مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ ﷺ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ
مِرْبَدٌ [١] لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي
مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، سَهْلٍ
وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو. فَلَمَّا بَرَكَتْ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهَا
لَمْ يَنْزِلْ، وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بِعِيدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاضِعٌ
لَهَا زِمَامَهَا لَا يَثْنِيهَا بِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا،
فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، ثُمَّ
تَحَلْحَلَتْ وَزَمَّتْ [٢] وَوَضَعَتْ
[١] المربد: الْموضع الّذي يجفف فِيهِ
التَّمْر.
[٢]
قَالَ السهيليّ عِنْد الْكَلَام على معنى (تحلحلت): وَفَسرهُ ابْن قُتَيْبَة على
«تلحلح»: أَي لزم مَكَانَهُ وَلم يبرح، وَأنْشد:
أنَاس إِذا قيل انفروا قد أتيتم ...
أَقَامُوا على أثقالهم وتلحلحوا
قَالَ: وَأما تحلحل (بِتَقْدِيم
الْحَاء على اللَّام) فَمَعْنَاه: زَالَ عَن مَوْضِعه. وَهَذَا الّذي قَالَه قوى
من جِهَة الِاشْتِقَاق، فَإِن (التلحلح) يشبه أَن يكون من: لححت عينه: إِذا
التصقت، وَهُوَ ابْن عمى لحا. وَأما (التحلحل) فاشتقاقه من الْحل، والانحلال بَين،
لِأَنَّهُ انفكاك شَيْء من شَيْء. وَلَكِن الرِّوَايَة فِي سيرة ابْن
جِرَانَهَا [١]، فَنَزَلَ عَنْهَا
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [٢]، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ ابْن زَيْدٍ رَحْلَهُ،
فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَسَأَلَ عَنْ
الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ مَعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو [٣]، وَهُمَا يَتِيمَانِ لِي،
وَسَأُرْضِيهِمَا مِنْهُ، فَاِتَّخِذْهُ مَسْجِدًا.
(بِنَاءُ
مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسَاكِنِهِ ﷺ:
قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَبِي
أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ
ﷺ لِيُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ، وَدَأَبُوا فِيهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ
يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ
وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ
يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ:
لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ
... اللَّهمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا كَلَامٌ
وَلَيْسَ بِرَجَزٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَيَقُولُ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشَ الْآخِرَةِ، اللَّهمّ ارْحَمْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
(إخْبَارُ
الرَّسُولِ لِعَمَّارٍ بِقَتْلِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ لَهُ):
قَالَ: فَدَخَلَ عَمَّارُ بْنُ
يَاسِرٍ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ بِاللَّبِنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
[()] إِسْحَاق (تحلحلت) بِتَقْدِيم
الْحَاء على اللَّام، وَهُوَ خلاف الْمَعْنى، إِلَّا أَن يكون مقلوبا من (تلحلحت)
فَيكون مَعْنَاهُ: لصقت بموضعها وأقامت، على الْمَعْنى الّذي فسره بِهِ ابْن
قُتَيْبَة فِي (تلحلحت) . وَقَالَ أَبُو ذَر: «تحلحلت: مَعْنَاهُ: تحركت وانزجرت»
. يُقَال: رزمت النَّاقة رزوما، وَذَلِكَ إِذا أَقَامَت من الكلال.
[١]
الجران: مَا يُصِيب الأَرْض من صدر النَّاقة وباطن حلقها.
[٢]
وَيُقَال: إِن النَّاقة لما أَلْقَت بِجِرَانِهَا فِي دَار بنى النجار جعل رجل من
بنى سَلمَة، وَهُوَ جَبَّار بن صَخْر، ينخسها رَجَاء أَن تقوم فتبرك فِي دَار بنى
سَلمَة، فَلم تفعل.
[٣]
سهل وَسُهيْل، هما ابْنا رَافع بن عَمْرو بن أَبى عَمْرو بن عبيد بن ثَعْلَبَة بن
غنم بن مَالك بن النجار.
وَقد شهد سُهَيْل بَدْرًا والمشاهد
كلهَا، وَمَات فِي خلَافَة عمر، وَلم يشْهد سهل بَدْرًا وَشهد غَيرهَا، وَمَات قبل
أَخِيه سُهَيْل.
قَتَلُونِي، يَحْمِلُونَ عَلَيَّ مَا
لَا يَحْمِلُونَ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ:
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَكَانَ رَجُلًا جَعْدًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْحَ
ابْنَ سُمَيَّةَ، لَيْسُوا بِاَلَّذِينَ يَقْتُلُونَكَ، إنَّمَا تَقْتُلُكَ
الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
(ارْتِجَازُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ):
وَارْتَجَزَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رضي الله عنه يَوْمئِذٍ:
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ
الْمَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ
حَائِدًا [١]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَأَلْتُ
غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ، عَنْ هَذَا الرَّجَزِ،
فَقَالُوا:
بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ ارْتَجَزَ بِهِ، فَلَا يُدْرَى: أَهُوَ قَائِلُهُ أَمْ غَيْرُهُ.
(مَا
كَانَ بَيْنَ عَمَّارٍ وَأَحَدِ الصَّحَابَةِ مِنْ مُشَادَّةٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَخَذَهَا
عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ بِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا
أَكْثَرَ، ظَنَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ إنَّمَا
يُعَرِّضُ بِهِ، فِيمَا حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِي،
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَقَدْ سَمَّى ابْنُ إسْحَاقَ الرَّجُلَ [٢]
.
(وَصَاةُ
الرَّسُولِ ﷺ بِعَمَّارٍ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: قَدْ
سَمِعْتُ مَا تَقُولُ مُنْذُ الْيَوْمِ يَا بن سُمَيَّةَ، وَاَللَّهِ إنِّي
لَأُرَانِي سَأَعْرِضُ هَذِهِ الْعَصَا لِأَنْفِكَ. قَالَ: وَفِي يَدِهِ عَصًا.
قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ وَلِعَمَّارٍ،
يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى النَّارِ، إنَّ عَمَّارًا
جِلْدَةٌ مَا بَيْنَ عَيْنِيَّ وَأَنْفِي، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْ الرَّجُلِ
فَلَمْ يُسْتَبْقَ فَاجْتَنِبُوهُ.
[١] حائدا: مائلا.
[٢]
قَالَ السهيليّ: «وَقد سمى ابْن إِسْحَاق الرجل، وَكره ابْن هِشَام أَن يُسَمِّيه
كي لَا يذكر أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ بمكروه، فَلَا يَنْبَغِي أبدا
الْبَحْث عَن اسْمه» .
وَقَالَ أَبُو ذَر: «وَقد سمى ابْن
إِسْحَاق الرجل فَقَالَ: إِن هَذَا الرجل هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان رضى الله
عَنهُ» وَفِي الْمَوَاهِب اللدنية: أَنه عُثْمَان بن مَظْعُون.
٣٢-
سيرة ابْن هِشَام- ١
(مَنْ بَنَى أَوَّلَ مَسْجِدٍ):
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ
سُفْيَانُ بْنُ عُييْنَةَ عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: إنَّ
أَوَّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ [١] .
(مَنْزِلُهُ
ﷺ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ، وَشَيْءٌ مِنْ أَدَبِهِ فِي ذَلِكَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُهُ
وَمَسَاكِنُهُ [٢]، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَسَاكِنِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ
[٣]، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليَزَنيِّ، عَنْ
أَبِي رُهْمٍ السَّمَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: لَمَّا
نَزَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِي، نَزَلَ فِي السُّفْلِ، وَأَنَا
وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَقُلْتُ لَهُ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي، إنِّي لَأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَكَ، وَتَكُونَ تَحْتِي،
فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ، وَنَنْزِلَ نَحْنُ فَنَكُونَ فِي
السُّفْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، إنَّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ
يَغْشَانَا، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
فِي سُفْلِهِ، وَكُنَّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ،
[١] يعْنى بِهَذَا الحَدِيث مَسْجِد قبَاء،
لِأَن عمارا هُوَ الّذي أَشَارَ على النَّبِي ﷺ ببنيانه، وَهُوَ جمع الْحِجَارَة
لَهُ، فَلَمَّا أسسه رَسُول الله ﷺ استتم بُنْيَانه عمار. (انْظُر الرَّوْض)
.
[٢]
كَانَت بيوته عليه الصلاة والسلام تِسْعَة، بَعْضهَا من جريد مطين بالطين وسقفها
جريد، وَبَعضهَا من حِجَارَة مرصوصة بَعْضهَا فَوق بعض مسقفة بِالْجَرِيدِ أَيْضا.
وَقَالَ الْحسن بن أَبى الْحسن: كنت
أَدخل بيُوت النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَأَنا غُلَام مراهق، فأنال السّقف
بيَدي.
وَكَانَت حجره عليه الصلاة والسلام أكسية
من شعر مربوطة فِي خشب عرعر. وَفِي تَارِيخ البُخَارِيّ:
أَن بَابه عليه الصلاة والسلام كَانَ
يقرع بالأظافر: أَي لَا حلق لَهُ.
وَلما توفيت أَزوَاجه عليه الصلاة
والسلام خلطت الْبيُوت وَالْحجر بِالْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي زمن عبد الْملك،
فَلَمَّا ورد كِتَابه بذلك ضج أهل الْمَدِينَة بالبكاء كَيَوْم وَفَاته عليه
الصلاة والسلام.
وَكَانَ سَرِيره خشبات مشدودة بالليف
بِيعَتْ زمن بنى أُميَّة، فاشتراها رجل بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم.
[٣]
وَقد صَار منزل أَبى أَيُّوب هَذَا بعده إِلَى أَفْلح، مولى أَبى أَيُّوب،
فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، بعد مَا خرب وتثلمت حيطانه، الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن
الْحَارِث بن هِشَام بِأَلف دِينَار، ثمَّ أصلحه الْمُغيرَة، وَتصدق بِهِ على أهل
بَيت من فُقَرَاء الْمَدِينَة.
فَلَقَدْ انْكَسَرَ حُبٌّ [١] لَنَا
فِيهِ مَاءٌ فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا، مَا لَنَا
لِحَافٌ غَيْرَهَا، نُنَشِّفُ بِهَا الْمَاءَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ.
قَالَ: وَكُنَّا نَصْنَعُ لَهُ
الْعَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ
تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ
نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ
جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ أَرَ
لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، رَدَدْتَ عَشَاءَكَ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ
مَوْضِعَ يَدِكَ، وَكُنْتَ إذَا رَدَدْتُهُ عَلَيْنَا، تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ
أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِكَ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، قَالَ: إنِّي وَجَدْتُ
فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي، فَأَمَّا أَنْتُمْ
فَكُلُوهُ. قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ، وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ [٢]
بَعْدُ.
(تَلَاحُقُ
الْمُهَاجِرِينَ إلَى الرَّسُولِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَلَاحَقَ
الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ
أَحَدٌ، إلَّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ، وَلَمْ يُوعَبْ أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ
مَكَّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللَّهِ تبارك وتعالى وَإِلَى رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ إلَّا أَهْلُ دُورٍ مُسَمَّوْنَ: بَنُو مَظْعُونٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ،
وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْبُكَيْرِ،
مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنَّ
دُورَهُمْ غُلِّقَتْ بِمَكَّةَ هِجْرَةً، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ.
(عُدْوَانُ
أَبِي سُفْيَانَ عَلَى دَارِ بَنِي جَحْشٍ، وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ):
وَلَمَّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ
رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ، عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَبَاعَهَا
مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا بَلَغَ
بَنِي جَحْشٍ مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا
تَرْضَى يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا
فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ لَكَ. فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ
اللَّهِ
[١] الْحبّ: الجرة، أَو الضخمة مِنْهَا.
[٢]
وَفِي هَذَا يرْوى: إِن الْمَلَائِكَة تتأذى بِمَا يتَأَذَّى بِهِ الْإِنْس.
ﷺ مَكَّةَ، كَلَّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ
[١] فِي دَارِهِمْ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ النَّاسُ
لِأَبِي أَحْمَدَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَكْرَهُ أَنْ
تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللَّهِ عز وجل،
فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ:
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ...
أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارَ ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا ...
تَقْضِي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ باللَّه ... رَبِّ
النَّاسِ مُجْتَهَدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا، اذْهَبْ بِهَا ...
طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ [٢]
(انْتِشَارُ
الْإِسْلَامَ وَمَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ إذْ قَدِمَهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، إلَى
صَفَرٍ مِنْ السَّنَةِ الدَّاخِلَةِ، حَتَّى بُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدُهُ
وَمَسَاكِنُهُ، وَاسْتَجْمَعَ لَهُ إسْلَامُ هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ،
فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلَّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا، إلَّا مَا
كَانَ مِنْ خَطْمَةَ، وَوَاقِفٍ، وَوَائِلٍ، وَأُمَيَّةَ، وَتِلْكَ أَوْسُ
اللَّهِ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ الْأَوْسِ، فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.
(أَوَّلُ
خُطَبِهِ عليه الصلاة والسلام:
وَكَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ
خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ- نَعُوذُ باللَّه أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا لَمْ
يَقُلْ أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ. تَعَلَّمُنَّ وَاَللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ
لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ،
وَلَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِكَ
رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا وَأَفْضَلْتُ [٣] عَلَيْكَ؟ فَمَا
قَدَّمْتَ
[١] اسْم أَبى أَحْمد هَذَا: عبد، وَقيل:
ثُمَامَة، وَالْأول أصح. وَكَانَت عِنْده الفارعة بنت أَبى سُفْيَان، وَبِهَذَا
السَّبَب تطرق أَبُو سُفْيَان إِلَى بيع دَار بنى جحش، إِذْ كَانَت بنته فيهم.
وَقد مَاتَ أَبُو أَحْمد بعد أُخْته زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ فِي خلَافَة عمر.
[٢]
جعله كطوق الْحَمَامَة: لِأَن طوقها لَا يفارقها، وَلَا تلقيه عَن نَفسهَا أبدا.
[٣]
ويروى: ألم أوتك مَالا، وجعلتك تربع وتدسع: أَي تَأْخُذ المرباع، وتعطى من تشَاء.
لِنَفْسِكَ؟ فَلَيَنْظُرَنَّ
يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَهُ فَلَا
يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ. فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنْ النَّارِ
وَلَوْ بِشِقٍّ مِنْ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ
طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، إلَى سَبْعِ
ماِئَةِ ضَعْفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
(خُطْبَتُهُ
الثَّانِيَةُ ﷺ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَطَبَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إنَّ الْحَمْدَ للَّه،
أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ باللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا،
وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ. إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تبارك وتعالى، قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ
بَعْدَ الْكُفْرِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ،
إنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَا أَحَبَّ اللَّهُ،
أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللَّهِ
وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ
اللَّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ خِيرَتَهُ مِنْ
الْأَعْمَالِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنْ الْحَدِيثِ،
وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ [١] الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَاعْبُدُوا
اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا
اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ
بَيْنَكُمْ، إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسِّلَامُ
عَلَيْكُمْ.
(كِتَابُهُ
ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمُوَادَعَةُ يَهُودَ):
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ
يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ
لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ ﷺ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ،
وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ
مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ [٢] يَتَعَاقَلُونَ،
[١] فِي م، ر: «من الْحَلَال»
.
[٢]
الربعة: الْحَال الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَام وهم عَلَيْهَا.
بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ
عَانِيَهُمْ [١] بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو
عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ [٢] الْأُولَى، كُلُّ
طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا [١] بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى،
وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ
مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ
وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ
يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلِهِمْ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي
عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو
النَّجَّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلُّ
طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ
مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ
وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ
يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا
بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى
رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا [٣] بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ
فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُفْرَحُ:
الْمُثْقَلُ بِالدَّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا أَنْتَ لم تَبْرَح تؤدّى
أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْكَ الْوَدَائِعُ [٤]
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ
مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى
مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ [٥] ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ
فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ
كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا
يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ
عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ
[١] العاني: الْأَسير.
[٢]
المعاقل: الدِّيات، الْوَاحِدَة: معقلة.
[٣]
ويروى: «مفرجا» وَهُوَ بِمَعْنى المفرح بِالْحَاء الْمُهْملَة.
[٤]
هَذَا الْبَيْت من شعر لبيهس العذري.
[٥]
الدسيعة: الْعَظِيمَة، وَهِي فِي الأَصْل: مَا يخرج من حلق الْبَعِير إِذا رغا.
وَأَرَادَ بهَا هَاهُنَا: مَا ينَال عَنْهُم من ظلم.
مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ،
وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ،
غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ سِلْمَ
الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ كُلَّ
غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يُعْقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِن الْمُؤمنِينَ يبيء
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ، وَإِنَّهُ لَا
يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لقريش وَلَا نفسا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ،
وَإِنَّهُ مَنْ اعْتَبَطَ [١] مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ
بِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ
كَافَّةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ
لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَآمَنَ باللَّه وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلَا يُؤْوِيهِ، وَأَنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ
آوَاهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا
يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عز وجل، وَإِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ،
وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ،
وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ
دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلَّا
مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ [٢] إلَّا نَفْسَهُ، وَأَهْلَ
بَيْتِهِ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي
عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ،
وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ
لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ
بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي
ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ،
فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ جَفْنَةَ بَطْنٌ
مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ لِبَنِي الشَّطِيبَةِ مِثْلَ مَا
لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّ مَوَالِيَ
ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّ بِطَانَةَ [٣] يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ،
وَإِنَّهُ لَا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِنَّهُ
لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ جُرْحٌ، وَإِنَّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ،
وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إلَّا مِنْ ظَلَمَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَبَرِّ هَذَا [٤]،
وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ
[١] اعتبطه: أَي قَتله بِلَا جِنَايَة مِنْهُ
توجب قَتله.
[٢]
يوتغ: يهْلك.
[٣]
بطانة الرجل: خاصته وَأهل بَيته.
[٤]
على أبر هَذَا: أَي على الرِّضَا بِهِ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ
نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ
الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ،
وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ،
وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ
الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٌ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ
حُرْمَةٌ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ
إلَى اللَّهِ عز وجل، وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ [١]، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ
قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ
يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ،
فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ،
عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الَّذِي قِبَلَهُمْ، وَإِنَّ
يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ
هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. مَعَ الْبِرِّ الْمَحْضِ؟ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مَعَ الْبِرِّ الْمُحْسِنُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ. [٢] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، لَا
يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي
هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، وَإِنَّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ
ظَالِمٍ وَآثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ
بِالْمَدِينَةِ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنَّ اللَّهَ جَارٌ لِمَنْ
بَرَّ وَاتَّقَى، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [٣] .